الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام12%

الحقائق في تاريخ الاسلام مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 495

الحقائق في تاريخ الاسلام
  • البداية
  • السابق
  • 495 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193404 / تحميل: 7471
الحجم الحجم الحجم
الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩

كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فإنه أستر عليك..)(١) .

ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمامعليه‌السلام ، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالأهواز إلخ.. ما سيأتي: ولا نستبعد أيضاً أن يكون عزل الإمام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين(٢) . وللسبب نفسه أيضاً فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الإمام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

الهدف الرابع:

إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجناً يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضاً، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام.

أي أنه كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جداً ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة.. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد أمن خطراً عظيماً، كان يتهدده من قبلها، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر.

____________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٤٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٥٥.

(٢) هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤٦، ٢٤٧، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص ٨٥، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٥، ومعادن الحكمة ص، ١٨٠، ١٨١، ونور الأبصار ص ١٤٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، وإعلام الورى ص ٣٢٢، ٣٢٣، وروضة الواعظين ج ١ / ٢٧١، ٢٧٢، وأصول الكافي ج ١ / ٤٨٩، ٤٩٠، والبحار ج ٤٩ / ١٣٥، ١٣٦، ١٧١، ١٧٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك.

ولسوف يأتي فصل: خطة الإمام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

١٩٠

إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلاً يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق:

يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضاعليه‌السلام : (إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه..)(١) .

ويقول:. (.. وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.)(٢) .

وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ: (.. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا:

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٣، ٢٢٤.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله.

(٢) المصدر السابق ص ٢١٤.

١٩١

أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، وإتباعه، والالتفاف حوله.)(١) .

وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه.

ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيراً إلى ذلك، في معرض حديثه عن الإمام الرضاعليه‌السلام : (.. نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته.)(٢) .

وتقدم أنهعليه‌السلام كان ـ باعتراف المأمون ـ (الأرضى في الخاصة والعامة) وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله) إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا (غيضاً من فيض منه).

كما وتقدم أيضاً قول المأمون في رسالته للعباسيين: (.. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ـ يعني للعلويين ـ، فإني في تدبيركم، والنظر لكم. ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..)، وأيضاً عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد، فلا نعيد.

وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالاً، ويقروا عيناً، فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم.

____________

(١) المصدر السابق ص ٢٥٦.

(٢) مطالب السؤول ص ٨٤، ٨٥. وقريب منه ما في: الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٨.

١٩٢

إشارة هامة لا بد منها:

هذا.. ويحسن بنا أن نشير هنا: إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. وإلقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه.. فهو يقول:

لـقد قـال الروافض في علي

مـقالاً جـامعاً كـفراً وموقا

زنـادقة أرادت كـسب مـال

مـن الـجهال فـاتخذته سوقا

وأشـهـد أنـه مـنهم بـريّ

وكـان بـأن يـقتلهم خـليقا

كـما كـذبوا عـليه وهو حي

فـأطعم نـاره مـنهم فـريقا

وكـانوا بالرضا شغفوا زماناً

وقـد نفخوا به في الناس بوقا

وقـالـوا: إنـه رب قـديرا

فكم لصق السواد به لصوقا(١)

وهذه الأبيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز، وخيبة أمله في الروافض، الذين ضايقه جداً امتداد دعوتهم في طول البلاد الإسلامية، وعرضها. وخصوصاً في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئاً يستطيع أن ينتقص به إمامهم الرضاعليه‌السلام سوى أنه كان أسود اللون، وأن الروافض قالوا: إنه رب قدير.. وسر حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في عليعليه‌السلام ـ التي كان يراها خطراً حقيقياً على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنهعليه‌السلام : يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين وصفي الكفر والزندقة، واتهامه لهم، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضاعليه‌السلام ، فقالوا: إنه الإمام الثابت إمامته بالنص، وشهروا بذلك، حتى علم به عامة الناس، ونفخوا به في الناس بوقاً.. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث، والزيدية. بل والمرجئة، وأهل السنة، على حد تعبير الشيبي، وقالوا: بإمامة أبيه، ثم بإمامته.

____________

(١) ديوان ابن المعتز ص ٣٠٠، ٣٠١، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٦.

١٩٣

وبديهي.. أن لا يرتاح ابن المعتز، الذي كان في صميم الأسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع، ولمقالة الروافض، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة الذين هم بين الرضا، وعلي أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص.

ولقد بلغ من حنقه عليهم، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصاً في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه، وبين عقيدة الغلاة، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة أخرى، هي: القول بإلوهية عليعليه‌السلام .

وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض، وعقيدة الغلاة، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز، بل على من هو أقل منه بمراتب، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك: أن يقصد بهذا الخلط المتعمد: التشنيع على الروافض، وتهجين عقيدتهم، إذ أنه يقصد ب‍ـ (الروافض)، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا، وإمامة علي أمير المؤمنين، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم: أنه ليس فيهم من يقول بإلوهية أحدهما، أو إلوهيتهما، أو إلوهية غيرهما من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وأخيراً.. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا، واتساع نفوذهم، وعلى أن شخصية الرضاعليه‌السلام ، كانت قد استقطبت قطاعاً واسعاً، إن لم نقل: أنه القطاع الأكبر من الأمة الإسلامية، في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة من الزمن، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك، فلا نعيد.

الهدف الخامس:

هذا.. ونستطيع أن نقول أيضاً: إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم، ولقد كان الحكم بأمس الحاجة إلى شخصية من هذا القبيل. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي، طلبا للشهرة، وطمعا بالمال، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم.. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الأخرى، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم، عندما رأوا ضعف الدولة، وتمزقها، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب.

نعم.. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الأكفاء، والأحرار في تفكيرهم، وفي نظرتهم الواعية للإنسان والحياة، ولم يعد بحاجة إلى المتزلفين، والجامدين، والانهزاميين، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له، يشدون من أزرها، ويقيمون أودها..

١٩٤

ويقرب المعتزلة: كبشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية، التي لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الأرض علماً وزهدا، وورعاً وفضلاً الخ. كانت منحصرة في الإمام الرضاعليه‌السلام ، باعتراف من نفس المأمون، كما قدمنا، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية أخرى، مهما بلغت.

الهدف السادس:

ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات، قد أتى الأمة بمفاجئة مثيرة، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري، وما يحدث، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والأمة منها، وما أكثرها.

وقد عبر إبراهيم بن المهدي، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة. حتى لقد ذهل ـ على حد قوله ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فمه الصبي!

وبعد هذا. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء، لإدراك مدى دهشة غيرهم: ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لاحظنا: أنهم كانوا سياسياً أقل وعيا وتجربة من مثل إبراهيم بن المهدي، الذي عاش في أحضان الخلافة. وكان بمرأى ومسمع من ألاعيب السياسة، ومكر الرجال.

الهدف السابع:

طبيعي بعد هذا: أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ: أن جميع تصرفاته، وأعماله، لم يكن يهدف من ورائها، إلا الخير للأمة، ومصلحة المسلمين، وحتى قتله أخاه، لم يكن من أجل الحكم، والرياسة، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين، والمصلحة العامة، يدل على ذلك: أنه عندما رأى أن خير الأمة، إنما هو في إخراج الخلافة من بني العباس كلية، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عندما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا بإخراجها إلى ألد أعدائهم، سارع إلى ذلك، بكل رضى نفس، وطيبة خاطر.. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به، ألا وهي: قتله أخاه الأمين، العزيز على العباسيين والعرب. وليكون بذلك، قد ربط الأمة بالخلافة، وكسب ثقتها فيها، وشد قلوب الناس، وأنظارهم إليها، حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل، وترفع الظلم، وأن تكون معهم، وفي خدمتهم، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير، وما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص، ويبغون لها الغوائل.

١٩٥

ويدل على ذلك ـ عدا عما ورد في وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي، عامله على المدينة: أن اخطب الناس، وادعهم إلى بيعة الرضا، فقام خطيبا، فقال:

(يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب:

ســتـة آبــاؤهـم مــا هــم

من أفضل من يشرب صوب الغمام(١)

وقد أكد ذلك بحسن اختياره، إذ قد اختار هذه الشخصية، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الأمة، ورجاءها، في حاضرها، ومستقبلها، وتكون النتيجة ـ بعد ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل، وكل عمل يقوم به.. مهما كان غريباً، ومهما كان غير معقول، فإن على الأمة أن تعتبره صحيحاً وسليماً، لا بد منه، ولا غنى عنه، وإن لم تعرف ظروفه، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها، فإن عليها أن تؤول ما يقبل التأويل، وإلا. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب، وتتناسى ما تعلم. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة، وأن ما أدركته ـ ولو كان حقاً ـ لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ويدل على ذلك بشكل واضح أبيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥/٣٠٦ يقول ابن المعتز:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـتي قـد حرصتموا

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غـير مكثر

كـما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

____________

(١) العقد الفريد ج ٣ / ٣٩٢، طبع مصطفى محمد بمصر سنة ١٩٣٥ و (ما) في البيت زائدة.. ولا يخفى ما في البيت، وقد أثبتناه، كما وجدناه.

١٩٦

وعلى كل حال، فإنه يتفرع على ما ذكرناه:

أولاً: إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه، بسبب معاملة أبيه، أو أخيه، وسائر أسلافه لهم، فإن المرء بما كسب هو، لا بما كسب أهله، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد، وهو قد أرجع الخلافة إليهم، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا: أنه لا يريد لهم، ولغيرهم، إلا الصلاح والخير..

وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم، ولا قتله أخاه، ولا أن يزعجهم، ويخيفهم تقريبه للإيرانيين، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك.. ما دام أن الخلافة قد عادت إليهم، على حسب ما يشتهون، وعلى وفق ما يريدون.

ومن هنا.. فلا يجب أن نعجب كثيراً، حين نراهم: قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة، وقلوب رضية. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير، فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري، وابن مسكويه ـ على أن بعضهم وافق، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني العباس ـ رفض. وهذا يدل دلالة واضحة: على أن بغداد، معقل العباسيين الأول، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة..

١٩٧

بل ونص المؤرخون، على أن: إبراهيم بن المهدي، المعروف بابن شكلة، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد: لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد، والكوفة والسواد(١) ، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهراً عديدة بين أنصار المأمون، وعليهم الخضرة، وأنصار العباسيين وعليهم السواد(٢) .

وثانياً: وأما الإيرانيون عامة، والخراسانيون خاصة، والمعروفون بتشيعهم للعلويين، فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له، وثقتهم به، بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم. وأغلى أحلامهم، وأثبت لهم عملاً، حبه لمن يحبون، ووده لمن يودون.. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره، ولا لعربي على غيره، وأن الذي يسعى إليه، هو ـ فقط خير الأمة، ومصلحتها، بجميع فئاتها، ومختلف طبقاتها، وأجناسها.

ملاحظة هامة:

إن من الجدير بالملاحظة هنا: أن الرضاعليه‌السلام كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة ١٩٣ ه‍. أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد، فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه: ضيافة الإخوان: أن علياً الرضاعليه‌السلام كان مستخفياً في قزوين في دار داوود بن سليمان الغازي أبي عبد الله، ولداوود نسخة يرويها عن الرضاعليه‌السلام ، وأهل قزوين يروونها عن داوود، كإسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه(٣) .

وقال الرافعي في التدوين: (وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال: إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي، روى عنه النسخة المعروفة، وروى عنه إسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه، وغيرهما.

____________

(١) راجع البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ١٠٥ ـ زاد على ذلك: المدائن أيضاً.

(٢) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٥ / ١٩٠، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغير ذلك.

(٣) راجع كتاب: ضيافة الإخوان مخطوط في مكتبة المدرسة الفيضية في قم، في ترجمة أبي عبد الله القزويني، وعلي بن مهرويه القزويني.

١٩٨

قال الخليل: وابنه المدفون في مقبرة قزوين، يقال: إنه كان ابن سنتين، أو أصغر)(١) انتهى كلام الرافعي.

والمراد بالخليل في كلامه، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي، القزويني، وهو الحافظ المشهور، مصنف كتاب الإرشاد، وكتاب تاريخ قزوين، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه‍.

الهدف الثامن:

لقد كان من نتائج اختياره الإمام، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ: أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأمصار.

ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبد الرحمان بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط: ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه.

بل لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك:

أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم. بل لقد حصل على ثقة الكثيرين منهم، ومن والاهم، وشايعهم. والخراسانيون منهم، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى، حيث يقول:

(.. ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا) والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين.

ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جداً، بل لقد بايعه أكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه.

وهذه دون شك هي إحدى أمنيات المأمون، بل هي أجل أمنياته وأغلاها.

ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت:

(.. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار..

____________

(١) التدوين قسم ٢ ورقة ٢٣٥ مخطوط في مكتبة دار التبليغ الإسلامي في قم، ترجمة علي الرضا..

١٩٩

وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالأنبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي.

فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.

ثم فكر: أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به، فنظر نظراً دقيقاً، وقال: لو ظهروا للناس، ورأوا فسق الفاسق منهم، وظلم الظالم، لسقطوا من أعينهم، ولانقلب شكرهم لهم ذماً.

ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءاً، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماماً، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الأمر إلى حالته الأولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماماً من آل أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه).

وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ)(١) .

ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ..

وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضاعليه‌السلام من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية العلويين في ذلك.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالاً ـ على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس، وأنهم كانوا أكثر تديناً والتزاماً من أي فئة أخرى على الإطلاق..

____________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢١، ٢٢٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

فقال: إنّ ابن عبّاس وابن الزبير اختلفا في المتعتين فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله (ص) ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعُد لهما.(١)

سنن النسائي: حجّ عليّ وعثمان فلمّا كنا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتع، فقال عليّ: إذا رأيتموه ارتحل فارتحلوا، فلبّى عليّ وأصحابه بالعمرة فلم ينههم عثمان، فقال عليّ: ألم أخبر أنّك تنهي عن التمتع؟ قال: بلى، قال له عليّ: ألم تسمع رسول الله (ص) تمتع؟ قال: بلى.(٢)

مسند أحمد: يروي قريبا منها.(٣)

ويروي أيضاً: أن سعد بن أبي وقّاص والضحّاك بن قيس، عام حجّ معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحجّ، فقال الضحّاك: لا يصنع ذلك إلاّ من جهلَ أمر الله تعالى، فقال سعد: بئسما قلت يا ابن أخي، قال الضحّاك: فإنّ عمر بن الخطّاب نهى عن ذلك، قال سعد: قد صنعها رسول الله (ص) وصنعناها معه.

مسند أحمد: يروي نظيرها.(٤)

ويروي أيضاً: عن ابن عبّاس قال سمعت عمر يقول: والله إنّي لأنهاكم عن المتعة وإنّها لفي كتاب الله، ولقد فعلها رسول الله (ص)، يعني العمرة في الحجّ.(٥)

ويروي أيضاً: قال معاوية لابن عبّاس: أعلمتَ أنّي قصّرت من رأس رسول الله (ص) عند المروة؟ قال: لا، يقول ابن عبّاس: هذا معاوية ينهى الناس عن المتعة وقد تمتّع النبيّ (ص).

ويروي أيضاً: قال سراقة: تمتّع رسول الله (ص) وتمتّعنا معه فقلنا: ألنا خاصة أم لأبد؟ قال: بل لأبد.(٦)

____________________

١ - نفس المصدر السابق، ص ٥٩.

٢ - النسائي، ج ٥، ص ١١٨.

٣ - مسند أحمد، ج ١، ص ٦٠.

٤ - نفس المصدر، ج ١، ص ١٧٤.

٥ - سنن النسائي، ج ٥، ص ١١٩.

٦ - نفس المصدر، ص ١٤٠.

٢٤١

أقول: قال الله تعالى وتبارك:( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) . عقيدة الإمامية: إنّ أفضل أقسام الحجّ التمتّع، وهو حجّة الإسلام والفريضة لكلّ من نأى عن مكّة، ويتركّب من عمرة واجبة وحجّ واجب، يُحلّ بعد التقصير من العمرة لله، فمن تمتع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي. وقال مالك: الإفراد أفضل، وقال أبو حنيفة: القِران أفضل، وقالا: إنّ العمرة مستحبّة. ومنشأ هذه الأقوال نهي عمر عن المتعة وعن عمرة التمتّع، وقد صرّح بقوله: متعتانِ كانتا في عهد رسول الله (ص) وأنا أحرّمهما وأعاقب عليهما.

مسند أحمد: عن أبي موسى ؛ أنّ عمر قال: هي سنّة رسول الله (ص) - يعني المتعة - ولكنّي أخشى أن يُعرسوا بهنّ تحت الأراك ثمّ يروحوا بهنّ حُجاجاً.(١)

ويروي: عن عبد الله بن الزبير قال: أنا والله لمع عثمان بن عفّان بالجُحفة ومعه رهط من أهل الشام، فيهم حبيب بن مسلمة الفهري، إذ قال عثمان وذُكر له التمتّع بالعمرة إلى الحج: إنّ أتمّ الحجّ والعمرة أن لا يكونا في أشهُر الحجّ، فلو أخّرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل ؛ فإنّ الله قد وسّع في الخير، وعليّ بن أبي طالب في بطن الوادي يَعلف بعيراً له، قال، فبلغه الذي قال عثمان، فأقبل حتى وقف على عثمان، فقال: لقد عمدت إلى سنّة سنّها رسول الله (ص) ورخصة رخّص بها الله تعالى للعباد في كتابه تَضيق عليهم فيها وتنهي عنها، وقد كانت لذي الحاجة ولنائي الدار، ثمّ أهلّ بحجّة وعمرة معاً. فأقبل عثمان على الناس فقال: وهل نهيت عنها، إنّي لم أنه عنها، إنّما كان رأياً أشرت به، فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه.(٢)

ويروي: عن ابن عبّاس قال: تمتّع النبي (ص). فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. فقال ابن عبّاس: ما يقول عُرّية؟! قال: يقول نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. فقال ابن عبّاس: أراهم سيهلكون.

أقول: قال

____________________

١ - مسند أحمد، ج ١، ص ٤٩.

٢ - نفس المصدر، ص ٩٢.

٢٤٢

النبيّ (ص)، ويقول: نهى أبو بكر وعمر!(١)

ويروي عن سالم: كان عبد الله بن عمر يُفتي بالذي أنزل الله - عزّ وجلّ - من الرخصة بالتمتّع وسَنّ رسول الله (ص) فيه، فيقول ناس: كيف تُخالف أباك وقد نهى عن ذلك؟! فقال: ويلكم أفرسول الله أحقّ أن تتبعوا سنّته أم سنّة عمر.(٢)

سنن أبي داود: عن جابر: حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة وبالصفا والمروة، فأمّرنا رسول الله (ص): أن يُحلّ منّا مَن لم يكن معه هَدي. قال: فقلنا حلّ ماذا؟ قال: الحلّ كلّه، فواقعنا النساء وتطيّبنا بالطيب ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلاّ أربع ليال، ثمّ أهللنا يوم التروية.(٣)

ويروي عنه أيضاً: ثمّ أمَرنا رسول الله (ص) أن نُحلّ، وقال: لولا هديي لحللت، ثمّ قام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله أرأيت متعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال رسول الله (ص): بل هي للأبد.(٤)

مسند أحمد: يروي مثلهما.(٥)

الموطّأ: أنّ سعد بن أبي وقاص والضحّاك بن قيس عام حجّ معاوية بن أبي سفيان يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحجّ، فقال الضحّاك: لا يصنع ذلك إلاّ من جهل أمر الله، فقال سعد: بئسَ ما قلت يا ابن أخي؟ فقال الضحّاك: فإنّ عمر بن الخطّاب قد نهى عن ذلك، فقال سعد: صنعها رسول الله (ص) وصنعناها معه.(٦)

سنن البيهقي: يروي نظيرها وروايات أخر.(٧)

____________________

١ - مسند أحمد، ج ١، ص ٣٣٧.

٢ - نفس المصدر، ج ٢، ص ٩٥.

٣ - سنن أبي داود، ج ١، ص ٢٤٨.

٤ - نفس المصدر، ص ٢٤٩.

٥ - مسند أحمد، ج ٣، ص ٢٩٢.

٦ - الموطأ، ص ٣٥٤.

٧ - سنن البيهقي، ج ٥، ص ١٦.

٢٤٣

أقول: قال الزرقاني في شرح الموطّأ ما خلاصته: وكان من رأي عمر عدم الترفّه للحاجّ بكلّ طريق، وقول سعد: ( صنعها رسول الله (ص) ) إشارة إلى عمرة التمتّع والحجّة وهي مقدّمة على الاجتهاد والرأي، والآية:( وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ) دلّت على إتمامهما وذلك صادق بأنواع الإحرام الثلاثة، أي وأتمّوا كما أمركم الله. وقال النووي: الظاهر أنّه كان ترغيباً إلى الإفراد ثمّ انعقد الإجماع على جواز التمتّع بلا كراهة، وبقي الخلاف في الأفضل.(١)

تاريخ الطبري: عن عمران بن سوادة قال صلّيت الصبح مع عمر قلت عابت أمّتك منك أربعاً، قال: فوضع رأس درته في ذقنه ووضع أسفلها على فخذه، ثمّ قال: هات! قلت: ذكروا أنّك حرّمت العمرة في أشهُر الحجّ ولم يفعل ذلك رسول الله (ص) ولا أبو بكر وهي حلال، قال: هي حلال لو أنّهم أعقروا في أشهُر الحجّ رأوها مُجزية من حجّهم فكانت قائبة قوب عامها، فقرع حجهم وهو بهاء من بهاء الله.(٢)

أقول: قد صرّح المعترض بأنّه حرّم العمرة في أشهر الحجّ مع أنّها كانت جائزة في عهد رسول الله (ص).

ولا تدّعي: بأنّ عمر بن الخطاب [ ما ] أراد أن يبدّل أحكام الدين ويغيّر ما جاء به رسول الله (ص) بسوء القصد وفساد النية، بل ما كان مقصده إلاّ الإصلاح، وإجراء ما كان فيه صلاح الأمة، وإنما الإشكال في أنّ أحكام الله وما جاء به رسول الله (ص) توقيفيّة لا يتصرّف فيها وتعبّدية لا يجوز التغيير فيها، ولو بقصد الإصلاح، فإن نظر الإنسان قصر وفكره محدود وعقله ضعيف، ( وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) .

____________________

١ - شرح الموطأ، ج ٢، ص ١٧٨.

٢ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ٣٢.

٢٤٤

( كلماته في آخر عمره )

أنّه كان نادماً على أمور صدرت منه، وكان متحسّراً عليها، ويظهر الأسف الشديد على تلك الأمور، ويقول في آخر أيام من عمره ما يبعد عن ظاهر مقامه.

مستدرك الحاكم، والطبقات: فقال عمر: والله لو أنّ لي ما على الأرض من شيء لافتديت به من هول المطلع.(١)

ويروي في الطبقات أيضاً، ومسند أحمد: أمّا تبشيرك لي بالجنّة: فوالله الذي لا إله إلاّ هو لو أنّ لي الدنيا وما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم الخبر، وأمّا ما ذكرت في إمرة المؤمنين: فوالله لوددت أنّ ذلك كفاف لا لي ولا عليّ.(٢)

ويروي أيضاً: قال: ثمّ صحبت أبا بكر فسمعت وأطعت، فتُوفّي أبو بكر وأنا سامع مطيع، وما أصبحتُ أخاف على نفسي إلاّ إمارتكم هذه.(٣)

ويروي أيضاً: قال: إنّ مَن غرّه عمره لمغرور، والله لوددت أنّي أخرج منها كما دخلت فيها، والله لو كان لي ما طلعت الخ.

تاريخ الطبري: قال عمر: لا أرب لنا في أموركم، ما حمدتها فأرغب فيها لأحدٍ من أهل بيتي، إن كان خيراً فقد أصبنا منه، وإن كان شراً فشرّ عنّا إلى عمر، بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجلٌ واحد ويُسأل عن أمر أمّة محمّد، أمَا لقد جهدتُ نفسي وحرمتُ أهلي، وإن نجوت كفافاً لا وزر ولا أجر إنّي لسعيد.(٤)

أقول: يستفاد من هذه الروايات أمور:

____________________

١ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ٩٢ والطبقات، ج ٣، ص ٣٥٢.

٢ - الطبقات، ص ٣٥٣ ومسند أحمد، ج ١، ص ٤٦.

٣ - الطبقات، ص ٣٥٥.

٤ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ٣٤.

٢٤٥

١ - اضطرابه الشديد من هول الموت وما بعده.

٢ - خوفه من عوارض الإمارة وآثارها وأوزارها.

٣ - انه يودّ أن له كفافاً لا وزر له ولا أجر.

فدلّت هذه الكلمات على أنّ تولّيه الإمارة لم يكن من باب العمل بالوظيفة الإلهية، ولم يكن مستندا إلى أمر ربّاني وحقيقة روحانية مسلّمة، حتى لا يبقى اضطراب وتزلزل وتردّد في باطنه.

الطبقات: آخر كلمة قالها عمر حتى قضى: ويَلي وويل أمّي إن لم يغفر الله لي، ويل وويل أمّي إن لم يغفر الله لي، ويلي وويل أمّي إن لم يغفر الله لي.(١)

ويروي بإسناد آخر: ما يقرب منها.

ويروي أيضاً: رأيت عمر بن الخطاب أخذ تِبنة من الأرض فقال: ليتني كنت هذه التِبنة، ليتني لم أخلق، ليت أمّي لم تَلدني، ليتني لم أكُ شيئا، ليتني كنت نسياً منسياً.

ويروي بأسناد آخر: ما يقرب منها.

أقول: هذه الكلمات تدلّ على غاية الاضطراب ونهاية التحسّر على ما فرّط في جنب الله، ولا يمكن ظهورها والتكلّم بها إلاّ ممّن لم يرتبط قلبه بالملكوت واللاهوت، ولم ترسخ مقامات العبودية والأنوار الإلهية في باطنه، ولو أنّ لكلّ نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به. ويكفي في اضطراب النفس ما وقع بينه وبين أهل بيت الرسول (ص)، من إحراق بيت فاطمة (ع)، والتهيؤ لمقاتلتهم، وإخراج عليّ (ع) للبيعة، وأخذ حقوقهم. وقد سبق أنّ فاطمة (ع) ماتت وهي غَضبى عليه، وأوصت أن لا يحضر في جنازتها.

الطبقات: سمعت رجلاً من الأنصار يقول: دعوت الله أن يُريني عمر في النوم فرأيته بعد عشر سنين وهو يمسح العرق عن جبينه، فقلت يا أمير المؤمنين ما فعلت؟ فقال: الآن فرغتُ ولولا رحمة ربّي لهلكت.(٢)

____________________

١ - الطبقات ج ٣، ص ٣٦٠.

٢ - نفس المصدر، ص ٣٧٦.

٢٤٦

ويروي أيضاً: عن ابن عبّاس: دعوت الله أن يُريني عمر في النوم فرأيته بعد سنة وهو يسلت العرق عن وجهه وهو يقول: الآن خرجت من الحِناذ أو مثل الحناذ.

ويروي روايات آخر قريبة منها.

أقول: هذه الروايات تدل على ابتلائه الشديد في هذه المدّة، وقد رفعت الشدّة بدرجة. وما هذه الشدّة إلاّ بمخالفته أهل البيت، وانحرافه عن وصيه رسول الله (ص).

العقد الفريد: قال عمر: المغرور والله من غررتموه، أمَا والله لو أنّ لي ما بين المشرق والمغرب لافتديت به من هول المطلع.(١)

ويروي عن قتادة: لما ثقل عمر، قال لولده عبد الله: ضع خدّي على الأرض فكره أن يفعل ذلك. فوضع عمر خده على الأرض وقال: ويل لعمر ولامّ عمر إن لم يعفُ الله عنه.

أقول: قلنا إنّ مبدأ اضطرابه ما وقع بينه وبين أهل بيت رسول الله (ص)، وقد أشار إليه إجمالا في آخر كلماته، حيث قال: لئن سألت رسول الله (ص) عن الخلافة، أحبّ إليّ من حُمر النعم.

مستدرك الحاكم: عن عمر بن الخطاب قال: لأنّ أكون سألت رسول الله (ص) عن ثلاث أحبّ إليّ من حُمر النعم: من الخليفة بعده، وعن قوم قالوا نُقرّ بالزكاة في أموالنا ولا نُؤديها إليك أيحلّ قِتالهم، وعن الكلالة.(٢)

وعن ابن عبّاس قال: كنت آخر الناس عهدا بعمر فسمعته يقول: القول ما قلتُ. قلتُ: وما قلت؟ قال: قلت: الكلالة من لا ولد له.

ويروي عن عمر بن الخطاب قال: ثلاث لأن يكون النبيّ (ص) بيّنهنّ لنا أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها، الخلافة، والكلالة، والرِّبا.(٣)

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٢٧٤.

٢ - مستدرك الحاكم، ج ٢، ص ٣٠٣.

٣ - نفس المصدر، ص ٣٠٤.

٢٤٧

سنن البيهقي: ما يقرب منها.(١)

أقول: تدلّ هذه الروايات على أنّه كان في ريب في هذه الموضوعات، وقد اشتدّ اضطرابه من هذه الجهة في الأيام الأخيرة من حياته. وقد كان أبو بكر أيضاً يُظهر الأسف والندامة في موضوع الخلافة، وكان يقول: وددت أنّي سألت رسول الله (ص) لمن هذا الأمر، ووددت أنّي يوم السقيفة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين. وقد قال الله تعالى:( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) .

سنن البيهقي: عن الشعبي قال: قال عمر: الكلالة ما عدا الولد. قال أبو بكر: ما عدا الولد والوالد. فلما طُعن عمر قال: إنّي لأستحيي أن أخالف أبا بكر، الكلالة ما عدا الولد والوالد.(٢)

أقول: قال الله تعالى في آخر سورة النساء:( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ ) الآية. وعلى أيّ حال فأحد القولين مخالف للكتاب. راجع كتاب التحقيق.

( عمر والعُلوج )

الطبقات: في كلام لعمر وأوصيكم بالأعراب ؛ فإنّهم أصلكم ومادّتكم.(٣)

ويروي أيضاً: عنه ثمّ قال لابن عبّاس: لقد كنت أنت وأبوك تُحبان أن تكثر العُلوج بالمدينة، فقال ابن عبّاس: إنّ شئت فعلنا، فقال: أبعدَ ما تكلموا بكلامكم، وصلّوا بصلاتكم، ونسكوا نُسككم؟!.(٤)

ويروي أيضاً: وأوصيه بالأعراب ؛ فإنّهم أصل العرب ومادّة الإسلام وأن يؤخذ

____________________

١ - سنن البيهقي، ج ٦، ص ٢٢٥.

٢ - نفس المصدر، ج ٦، ص ٢٤٤.

٣ - الطبقات، ج ٣، ص ٣٣٧.

٤ - نفس المصدر، ص ٣٣٨.

٢٤٨

من حواشي أموالهم فيردّ على فقرائهم.(١)

أقول: قال الله تعالى:( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) ، أي: لا كرامة لأحدٍ ولا فضلَ إلاّ بالتقوى، وليس لعربٍ على عجمٍ فضلٌ، ولا لأهل بلدٍ على أهل بلدٍ آخر كرامة، وليس في الإسلام تعصّب جاهلية، وأنّ أصل الإسلام ومادته هو القرآن المنزّل من الله تعالى، فمن كان ذا نصيب وافر من حقائق الإسلام فهو الكريم:( مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ) ، وأمّا قوله: أبعد ما تكلّموا بكلامكم وصلّوا بصلاتكم. يدلّ على تعصّبه الشديد مع الاعتراف بإسلامهم وتسليمهم.

____________________

١ - الطبقات، ج ٣، ص ٣٣٩.

٢٤٩

فتنة:

( وصية عمر بن الخطاب )

تاريخ الطبري: قال عمر بن الخطّاب: وأنظر فإنّ استخلفتُ فقد استخلفُ من هو خير منّي، وإن أترك فقد تركَ مَن هو خير منّي، ولن يُضيّع الله دينه. فخرجوا ثمّ راحوا فقالوا يا أمير المؤمنين، لو عهدت عهدا؟! فقال قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأُوليّ رجلا أمركم هو أحراكم أن يَحملكم على الحقّ، وأشار إلى عليّ، ورهفتني غشية فرأيت رجلاً دخل جنّة قد غرسها فجعل يَقطف كلّ غضّة ويانعة فَيضّمه إليه ويُصيّره تحته، فعلمت أنّ الله غالب أمره ومُتوفٍّ عمر، فما أريد أن أتحمّلها حياً و ميّتاً، عليكم الرهط الذين قال رسول الله أنهم من أهل الجنّة: سعيد بن زيد، وعمرو بن نفيل، منهم ولستُ مدخله، ولكن الستّة.(١)

أقول: المتّبع هو سنّة الرسول (ص)، فكيف يعارض عمل فرد من الرعية وهو أبو بكر سنّته وعمله، حتى يتخيّر فرد آخر في اختيار أيّهما شاء، فعلى تقدير صحّة القول بترك استخلاف الرسول (ص)، فكيف يجوز مخالفته وترك اتّباعه. ثمّ أنّه إذا كان عليّ (ع) أحرى الأمّة والحامل على الحقّ: فكيف يجوز التعدّي عنه والميل إلى غير الأحرى والأفضل؟! وأمّا رؤية رجل يَقطف كلّ غضّة ويانعة ممّا غرسه: فلعلّها إشارة إلى ما نواه من استخلافه غير عليّ (ع)، فإنّه مرادف لقطف ما عمله من خير وصلاح وخدمة، ولا يمكن أن تكون إشارة إلى نظره في تولية علي (ع)، فإنّ كونه أحرى الأمّة والحامل على الحق يُضاد أن يقطف كلّ غضّة

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ٣٤.

٢٥٠

ويانعة، ثمّ إنّ تعيينه علياً من عداد الستّة ينافي تأويله هذا.

مستدرك الحاكم: عن ثابت قال: بلغني أنّ عمر بن الخطاب قال: لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح لاستخلفته وما شاورت، فإن سُئلت عنه قلت: استخلفت أمين الله وأمين رسول الله (ص).(١)

أقول: هذا اشتباه من عمر، فإنّ اللازم من صفات الخليفة أن يكون عالماً بالأحكام، عارفاً بالحقائق الإلهية، مدبّرا لأمور المسلمين، وأمّا صفة الأمانة المنفردة فقط فلا تكفي في هذا المقام.

العقد الفريد وتاريخ الطبري: قال عمر: لو كان أبو عبيدة بن الجراح حياً استخلفته، فإن سألني ربي قلت سمعت نبيّك يقول: أّنّه أمين هذه الأمّة، ولو كان سالم مولى أبي حُذيفة حياً استخلفته، فإن سألني ربّي قلت: سمعت نبيّك يقول: أنّ سالماً شديد الحبّ لله.(٢)

أقول: كأنّه ما سمع الأحاديث المتواترة في فضل عليّ (ع) عن النبيّ (ص)، أو أنّه كان مخالفاً لخلافته.

وقد قال رسول الله (ص): من أطاع عليّا فقد أطاعني، ومن عصى علياً فقد عصاني.

-وقال: أنا مِن عليّ وعليّ منّي.

-وقال: أنت أخي في الدنيا والآخرة.

-وقال: مَن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه.

-وقال: أفلا ترضى يا عليّ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى.

وغيرها، وقد سبق مِن قوله في عليّ (ع): هو أحراكم أن يحملكم على الحقّ. وفي الاستيعاب: وقوله في عليّ: إن ولّوها الأجلح سلك بهم الطريق المستقيم. الأجلح: يعني علياً.(٣)

البخاري: بإسناده، قيل لعمر ألا تَستخلف؟ قال: إن أستخلف فقد استخلفَ من هو خير منّي، أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير منّي، رسول الله (ص)، فأثنوا عليه، فقال: راغب وراهب، إنّي وددتُ أنّي نجوت منه

____________________

١ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ٢٦٨

٢ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٢٧٤. وتاريخ الطبري، ج ٥، ص ٣٤.

٣ - الاستيعاب، ج ٣، ص ١١٥٤.

٢٥١

كفافاً لا ليَ ولا عليّ، لا أتحمّلها حياً وميّتاً.(١)

مسلم: عن ابن عمر قال: حضرت أبي حين أصيب، فأثنوا عليه وقالوا: جزاك الله خيراً، فقال: راغب وراهب، قالوا: استخلف! فقال: أتحمّل أمركم حيّا وميّتاً! لوددت أن حظّي منها الكفاف، لا عليَّ ولا ليَ، فإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر وأن أترككم فقد ترككم من هو خير منّي رسول الله (ص). (٢)

أقول: يستفاد من هذه الجملات أمور:

الأوّل: أنّه استبصر في آخر ساعة من حياته بأنّ تحمّله للخلافة قد وقع في غير محلّه وعلى خلاف صلاحه، وأنّ الكفاف والنجاة منها كان أصلح وأوقع له.

الثاني: أنّه مع هذا القول - بأنّ عدم التحمّل حيّاً وميّتاً أوقع له، وأنّ رسول الله (ص)، ما استخلف ويلزم اتّباع الرسول - خالف قوله، وخالف سيرة الرسول، واستخلف بطريق الشورى بين ستّة على شرايط ومقررات معلومة أنتجت خلافة عثمان.

ويروي مسلم أيضاً: عن ابن عمر: قال: دخلت على حفصة، فقالت: أعلمت أنّ أباك غير مستخلف؟ قال: قلت ما كان ليفعل، قالت: إنّه فاعل، قال: فحلفتُ إنّي أكلّمه في ذلك، فسكتّ حتى غدوتُ ولم أكلّمه، قال: فكنت كأنّما أحمل بيميني جَبلاً، حتى رجعت فدخلت عليه، فسألني عن حال الناس وأنا أخبره، قال: ثمّ قلت له: إنّي سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك: زعموا أنّك غير مستخلف وأنّه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثمّ جاك وتركها رأيت أن قد ضيّع؟ فرعاية الناس أشدّ، قال: فوافقه قولي فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إليّ، فقال: إنّ الله عزّ وجلّ يحفظ دينه، وإنّي لئن لا استخلف فإنّ رسول الله (ص) لم يستخلف، وإن استخلف فإنّ أبا بكر قد استخلف. قال: فوالله ما هو إلاّ أن ذكر رسول الله (ص) وأبا بكر، فعلمت

____________________

١ - البخاري، ج ٤، ص ١٥٢.

٢ - مسلم، ج ٦، ص ٤.

٢٥٢

أنّه لم يكن ليعدل برسول الله أحدا وأنّه غير مستخلف.(١)

أقول: قول ابن عمر ( لو كان لك راعي إبل )، كلامٌ فطريّ عقليّ وجدانيّ لا يُنكره من كان له أدنى تدبّر، وعلى هذا ترى أنّ عمر وافقه ولم ينكره، وهذا رأينا في رسول الله (ص) بأنّه قد أوصى واستخلف.

الثاني: أنّ أبا بكر على قولهم خالف عمل الرسول (ص) صريحاً، واعتذاره غير مقبول، ولا سيّما في هذا الأمر المهم.

الثالث: أنّ عمر قد استخلف أيضاً، فإنّ تعيين شخص على نحو التفصيل أو الإجمال لا فرق بينهما من جهة أصل التعيين، مضافا إلى أنّ التعيين الإجمالي يدلّ على تحقّق الضعف والعجز أمّا من ناحية العلم والمعرفة، وإمّا من جانب رعاية التقية وملاحظة الأحوال وعدم التمكّن والاستطاعة من التعيين التفصيلي.

فإذا كان النبيّ (ص) لم يستخلف على اعتقادهم، وجعل الأمة بعد، حيارى وتركهم لا يهتدون سبيلا: فكيف خالفوا هذه الطريقة وحكموا بلزوم تعيين الخليفة.

هل كان رسول الله (ص) لا يدري ما وظيفته؟ أو لم يعمل بما علم وسامح في العمل برسالته؟ أو أن الله تعالى قد أهمل عباده وأظلّهم بعد أن أرسل إليهم رسولا؟

ثمّ إذا كان هذا الإهمال وترك الأمة صلاحاً فكيف لم يعمل به آخرون، ولم يتمكّنوا من اتّباع هذه المصلحة وسلوك هذه الطريقة، حتى أنّ عمر التزم أن يستخلف بهذه الكيفية المخصوصة.

وما هذا إلا لأنّ الاستخلاف أمر طبيعي يحكم به العقل والوجدان، وقد استخلف رسول الله (ص)، وصرّح باستخلافه في موارد كثيرة، وأعلن وصيّتها بألفاظ مختلفة، ويكفي لنا قوله: إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا أبدا.

____________________

١ - مسلم، ج ٦، ص ٥.

٢٥٣

فنحن نتمسّك بالقرآن الحكيم وأهل البيت الطاهرين، ونتّبع الثقلين الذين أوصى بهما رسول الله (ص)، وعلم أنّه ما ينطق عن الهوى( إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) . وهذه حجّتنا فيما بيننا وبين الله تعالى. فأتوا بكتاب من عنده إن كنتم صادقين.

٢٥٤

فتنة:

( أمر الشورى واختلاف الآراء )

الملل والنحل: الخلاف التاسع في أمر الشورى واختلاف الآراء فيها، حتى اتّفقوا كلّهم على بيعة عثمان وانتظم الملك.(١)

البدء والتاريخ: وكان قال لعبد الله بن عبّاس: اذكر لي مَن أعهد إليه؟ فقال: عثمان! فقال: ذاك كلِفٌ بأقاربه، يَحمل بني ابن أبي معيط على رقاب الناس. قال: فعبد الرحمن بن عوف! قال: مسلمٌ ضعيف، وأميرته امرأته! قال: فسعد! قال: ذاك فارس يكون في مقنب من مقانبكم. قال: فالزبير! قال: مؤمن الرضا كافر الغضب. قال: فطلحة! قال: فيه باء وعجب. قال فعليّ! قال: فيه دعابة وأنّه لأخلقهم أن يحملهم على المحجّة. ثمّ جعل الأمر في هؤلاء الستّة باختيارهم، وقال: إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرّها، فمن عاد إلى مثلها من غير مشورة فاقتلوه.(٢)

أقول: إذن اعترف بأنّ علياً (ع) لأخلقهم أن يحملهم على المحجّة، فكيف عدل عنه وجعله في عدادهم، مع إقراره بضعف إسلام عبد الرحمن ومقهريته، وبأنّ عثمان كلِف بأقاربه يحملهم على رقاب الناس، وهكذا الآخرون.

ثمّ أنّ بيعة أبي بكر على ما وقعت، إن كانت صحيحة ومشروعة شرعاً وعقلاً: فكيف يحكم بقتل من عاد إلى مثلها. وإن كانت باطلة: فكيف أعان عليها وحكم بقتل من خالفها، وحضر لإحراق باب أهل البيت، ألم يمكن لهم أن يتذكّروا ويذكروا ما وصى لهم رسول الله (ص) في عليّ بن أبي طالب (ع)

____________________

١ - الملل والنحل، ج ١، ص ١٨.

٢ - البدء والتاريخ، ج ٥، ص ١٩٠.

٢٥٥

البخاري: فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين استخلف! قال ( عمر بن الخطاب ): ما أجد أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين تُوفى رسول الله (ص) وهو عنهم راض، فسمّى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء كثيئة التعزية، فإن أصابت الإمرة سعداً فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإنّي لم أعزله عن عجز ولا خيانة ...

فلما فُرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم! فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى عليّ، فقال طلحة قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن أيكما تبرّأ من هذا الأمر فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرنَّ أفضلهم في نفسه! فأُسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إليّ، والله عليّ أن لا آلوا عن أفضلكم! قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما فقال لك قرابة من رسول الله (ص) والقِدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمّرتُك لتعدلنّ، ولئن أمّرت عثمان لتسمعنّ ولتُطيعنّ! ثمّ خلا بالآخر ( عثمان ) فقال له مثل ذلك، فلمّا أخذ الميثاق، قال: أرفع يدك يا عثمان فبايعه.(١)

أقول: يستفاد من صريح هذا الكلام أمور:

١ - أنّ عمر بن الخطاب ما قدر أن يَعرف أفضلهم وأولاهم.

٢ - أنّه جعل مَدار الإمرة كون النبيّ (ص) راضياً عنه، ولم يُراع شرائط أخرى، ولم يتوجّه إلى أحوالهم وأعمالهم بعد الإمرة.

٣ - فإذا كان عمر بن الخطاب لم يتكلّم بالوحي وعن الله وبتعيين الله، ولم يقد أن يُميّز الأفضل والأولى: فكيف يوصي بهذه الوصية المخصوصة.

٤ - فإذا ادّعى عبد الرحمن: أن لا يألو عن أفضلهم، فهل كان عثمان أفضل من عليّ علماً وعملاً وسابقةً ومقاماً؟.

ويقول البخاري: إنّ المِسور بن مَخرمة أخبره أنّ الرهط الذين ولاّهم عمر

____________________

١ - البخاري، ج ٢، ص ١٨٤.

٢٥٦

اجتمعوا فتشاوروا، قال لهم عبد الرحمن: لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم! فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن، فلما ولُّوا عبد الرحمن أمرهم، فمال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي، حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان.

قال المِسور: طَرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت، فقال: أراك نائماً! فوالله ما اكتحلتُ هذه الليلة بكبير نوم، انطلق فادعُ الزبير وسعداً! فدعوتهما له فشاورهما، ثمّ دعاني فقال: ادع ليّ علياً! فدعوته فناجاه حتى إبهار الليل، ثمّ قام عليّ من عنده وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمن يخشى من عليّ شيئاً، ثمّ قال: ادع لي عثمان فدعوته، فناجاه حتى فرّق بينهما المؤذّن بالصبح، فلمّا صلّى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجّة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهّد عبد الرحمن ثمّ قال: أمّا بعد: يا علي إنّي قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً، فقال: أبايعك على سنّة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس، المهاجرون الأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون.(١)

أقول: هذا الكلام ( قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان ) في وجه ترجيح عثمان وانتخابه: يخالف كلامه السابق وعهده بأنّ لا يألو عن أفضلهم، فهل يكون تمايل الناس موجبا للأفضلية؟! مع أنّ أكثر الناس لا يعقلون.

نعم، تشكيل الحكومة الظاهرية يعتبر فيها أكثرية الآراء والأفكار، وهذا غير مقام الحقيقة والخلافة المعنوية والمرجعية للأمور الدنيوية والدينية والوصاية عن رسول الله (ص)

____________________

١ - البخاري، ج ٤، ص ١٥١.

٢٥٧

مسلم: بإسناده فإن عجل بي أمر، فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين تُوفي رسول الله (ص) وهو عنهم راضٍ، وإنّي قد علمت أنّ أقواما يطعنون في هذا الأمر، أنا ضربتُهم بيدي هذه على الإسلام، فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضُّلال.(١)

أقول: يستفاد من هذا الكلام أمور:

١ - يستفاد من هذا الكلام أنّ جمعاً ممّن أسلموا بعد غلبة الإسلام وفتح مكّة من الذين حملوا السلاح على رسول الله، كانوا يطعنون في الخلافة ويجهدون أن تكون الإمرة فيهم، وقد عبّر عنهم بقوله: فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضلاّل. وهذا الكلام يشمل معاوية بل وينطبق عليه، ولا سيّما بعد خلافة عليّ (ع) ؛ إذ هو من هؤلاء الستة وقد أجمع المهاجرون والأنصار عليه، وقد طعن معاوية في خلافته وحمل السلاح عليه.

٢ - المناط في الإمرة إن كان رضا الرسول (ص) عنه! فأغلب أصحاب الرسول (ص) كانوا بهذه الصفة، وإن كان لهؤلاء الستّة امتياز وخصوصية، فهل كانوا متساوين من جميع الجهات حتى يكون الناس مختارين في اختيار أيّهم شاءوا، أو أنّ لبعض منهم فضيلة وتفوّقا على بعض آخر؟ وعلى كلّ فرض يبقى محذور وإشكال لا يخفى على من له أدنى تدبّر.

الطبقات: عن أبي جعفر قال عمر بن الخطاب لأصحاب الشورى: تشاوروا في أمركم فإن كان اثنان واثنان، فارجعوا في الشورى، وإن كان أربعة واثنان، فخذوا صنف الأكثر.(٢)

ويروي أيضاً: عن ابن عمر قال عمر: وان اجتمع رأي ثلاثة وثلاثة فاتّبعوا صنف عبد الرحمن بن عوف واسمعوا وأطيعوا.

ويروي أيضاً: عن سعيد قال عمر. ليُصل لكم صهيب ثلاثاً وتشاوروا في أمركم، والأمر إلى هؤلاء الستّة، فمن بَعل أمركم فاضربوا عنقه، يعني من خالفكم.

____________________

١ - مسلم، ج ٢، ص ٨١.

٢ - الطبقات، ج ٣، ص ٦١.

٢٥٨

ويروي أيضاً: عن أنس قال: أرسل عمر بن الخطاب إلى أبي طلحة قبل أن يموت بساعة، فقال: يا أبا طلحة كن في خمسين من قومك من الأنصار مع هؤلاء النفر أصحاب الشورى، فلا تتركهم يَمضي اليوم الثالث حتى يُؤمّروا أحدهم.

ويروي أيضاً: عن سماك أنّ عمر بن الخطاب لما حُضر قال: ان أستخلف فسنةٌ وإلاّ أستخلف فسنةٌ، تُوفي رسول الله (ص) ولم يستخلف وتوفي أبو بكر فاستخلف وقال للأنصار أدخلوهم بيتاً ثلاثة أيام فإن استقاموا وإلاّ فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم.(١)

العقد الفريد وتاريخ الطبري: فقال العبّاس لعلي: لا تدخل معهم! قال: أكره الخلاف، قال: إذا ترى ما تكره. فلمّا أصبح عمر دعا عليّاً وعثمان وسعداً وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن عوام، فقال: إنّي نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلاّ فيكم، وقد قُبِض رسول الله (ص) وهو عنكم راضٍ، إنّي لا أخاف الناس عليكم أن استقمتم، ولكنّي أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم فيختلف الناس، فانهضوا إلى حجرة عائشة - بإذن منها - فتشاوروا واختاروا رجلاً منكم، ثمّ قال: لا تدخلوا حجرة عائشة ولكن كونوا قريباً، ووضع رأسه وقد نزفه الدم، فدخلوا فتناجوا ثمّ ارتفعت أصواتهم، فقال عبد الله بن عمر: سبحان الله إنّ أمير المؤمنين لم يمت بعد، فأسمعه، فانتبه فقال: ألاَ أعرضوا عن هذا أجمعون ؛ فإذا متُّ فتشاوروا ثلاثة أيام وليُصل بالناس صُهيب، ولا يأتينّ اليوم الرابع إلاّ وعليكم أمير عنكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيراً ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم، ومن لي بطلحة! فقال عمر: أرجوا أن لا يخالف إن شاء الله، وما أظن أن يلي إلاّ أحدٌ هذين الرجلين عليّ أو عثمان، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي عليّ ففيه دعابة وأحرى به أن يحملهم على طريق الحقّ فإن اجتمع خمسة

____________________

١ - نفس المصدر السابق، ص ٣٤٢.

٢٥٩

ورضوا رجلاً وأبى واحد، فاشدخ رأسه، أو اضرب رأسه بالسيف، وإن اتّفق أربعة فرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما، فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منه فحكّموا عبد الله بن عمر فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس وتلقّاه العبّاس فقال: عدلت عنا، فقال: وما علّمك؟ قال: قرن بي عثمان وقال: كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلا، ورجلان رجلاً فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون، فيولّيها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فول كان الآخران معي لم ينفعاني! بله إنّي لا أرجوا إلاّ أحدهما فقال العبّاس: احفظ عنّي واحدة كلمّا عرض عليك القوم فقل لا، إلاّ أن يُولّوك، واحذر هؤلاء الرهط فإنّهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا وأيم الله لا يناله إلاّ بشرّ لا ينفع معه خير، فقال علي: أما لئن بقي عثمان لأذكرنّه ما أتى، ولئن مات ليتداولنّها بينهم ولئن فعلوا ليجدنّي حيث يكرهون.(١)

أقول: في هذا الكلام مواقع للاعتبار:

١ - قال علي (ع) أكره الخلاف: إشارة إلى أهمّية الاتفاق والاتّحاد بين المسلمين والحذر من الخلاف في أيّ مورد كان، وأمّا مقام الولاية والإمامة الحقيقية الثابتة الإلهية فهي غير متوقفة إلى أمر آخر ولا تلازم بينها وبين الحكومة الظاهرية.

٢ - قال عمر: فتشاوروا واختاروا رجلاً. يدلّ على أنّ هذا الأمر مقامٌ اجتماعي ظاهري عرفي متحصّل باختيار الناس، ولا ربط له بالأحكام الإلهية والأصول والفروع الدينية المنزّلة.

٣ - قال عمر: وليُصلّ بالناس صُهيب. يدلّ على أنّ الإمامة في الصلاة

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٢٧٧ وتاريخ الطبري، ج ٥، ص ٣.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495