الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام12%

الحقائق في تاريخ الاسلام مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 495

الحقائق في تاريخ الاسلام
  • البداية
  • السابق
  • 495 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193495 / تحميل: 7473
الحجم الحجم الحجم
الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

هذا.. ولسوف نرى أن أحمد أمين المصري يأخذ برأي ابن القفطي هذا. لكنه ينظر فيه إلى خصوص أئمة أهل البيتعليه‌السلام ، كما سيأتي بيانه، وبيان مدى خلطه وفساده في الفصل التالي.

وفيه دلالة على أن الفضل كان مخدوعاً، وعلى أن المأمون لم يكن مخلصاً فيما أقدم عليه..

د ـ : إنه لا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن أكثر ثورات العلويين، التي قامت ضد المأمون ـ قبل البيعة للرضاعليه‌السلام طبعاً ـ كانت من بني الحسن، وبالتحديد من أولئك الذين يتخذون نحلة الزيدية، فأراد المأمون أن يقف في وجههم، ويقضي عليهم، وعلى نحلتهم تلك نهائياً، وإلى الأبد، فأقدم على ما أقدم عليه من البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد.

هذا.. وقد كانت نحلة الزيدية هذه ـ شائعة في تلك الفترة، وكانت تزداد قوة يوماً عن يوم، وكان للقائمين بها نفوذ واسع، وكلمة مسموعة، حتى إن المهدي قد استوزر يعقوب بن داوود، وهو زيدي، وآخاه، وفوضه جمع أمور الخلافة(١) .

وعلى حد تعبير الشبراوي: (.. فولاه الوزارة، وصارت الأوامر كلها بيديه، واستقل يعقوب حتى حسده جميع أقرانه..)(٢) .

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٤٧، وغيره من كتب التاريخ، فراجع فصل: مصدر الخطر على العباسيين.

(٢) الإتحاف بحب الأشراف ص ١١٢.

٢٠١

بل كان: (لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل، فيجوز، حتى يكتب يعقوب إلى أمينه وثقته بإنفاذه.)(١) .

وقد بلغ من نفوذ يعقوب هذا.. أن قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة، التي قدمناها، والتي يقول فيها: (إن الخليفة يعقوب ابن داوود).

وقد سعي بيعقوب هذا إلى المهدي: وقيل له: (.. إن الشرق والغرب في يد يعقوب، وأصحابه، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم ؛ فيثوروا، في يوم واحد، فيأخذوا الدنيا)(٢) .

وذلك لأنه قد: (أرسل يعقوب هذا إلى الزيدية، وأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل، وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه..)(٣) .

وإذا ما عرفنا أن معاوني يعقوب إنما كانوا هم: متفقهة الكوفة، والبصرة، وأهل الشام(٤) .. فإننا نعرف أن الاتجاه الزيدي سوف يؤثر كثيراً، وكثيراً جداً على الثقافة العامة، والاتجاهات الفكرية في ذلك العصر ـ كما حدث ذلك فعلاً.. حتى لقد صرح ابن النديم بأن:

(أكثر علماء المحدثين إلا قليلاً منهم، وكذلك قوم من الفقهاء، مثل: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة كانوا من الشيعة الزيدية.)(٥) وقد صرح المؤرخون أيضاً: بأن أصحاب الحديث جميعهم، قد

____________

(١) الطبري ج ١٠ / ٤٨٦، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٠، ومرآة الجنان ج ١ / ٤١٨.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦، ٦٧.

(٣) الطبري ج ١٠ / ٥٠٨، طبع ليدن، والوزراء والكتاب للجهشياري ص ١٥٨، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦.

(٤) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ / ٤٨٦.

(٥) الفهرست لابن النديم ص ٢٥٣.

٢٠٢

خرجوا مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، أو أفتوا بالخروج معه(١) .

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا بيانه هنا: هو أن المأمون كان يريد

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٣٧٧، وغيرها من الصفحات، وغيرها من الكتب. ويرى بعض أهل التحقيق: أن المقصود هو جميع أصحاب الحديث في الكوفة. ولكن الظاهر أن المراد: الجميع مطلقاً، كما يظهر من مراجعة مقاتل الطالبيين وغيره.

والأمر الذي تجدر الإشارة إليه هنا: هو أن فرقة من الزيدية، وفرقة من أصحاب الحديث، قد قالوا بالإمامة على النحو الذي يقول به الشيعة الإمامية، عندما جعل المأمون (الرضا)عليه‌السلام ولياً لعهده. لكنهم بعد وفاة الرضاعليه‌السلام رجعوا عن ذلك: قال النوبختي في فرق الشيعة ص ٨٦:

(.. وفرقة منهم تسمى (المحدثة) كانوا من أهل الإرجاء، وأصحاب الحديث، فدخلوا في القول بإمامة موسى بن جعفر، وبعده بإمامة علي بن موسى، وصاروا شيعة، رغبة في الدنيا وتصنعاً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى ما كانوا عليه.

وفرقة كانت من الزيدية الأقوياء، والبصراء، فدخلوا في إمامة علي بن موسىعليه‌السلام ، عندما أظهر المأمون فضله، وعقد بيعته، تصنعاً للدنيا، واستكانوا الناس بذلك دهراً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى قومهم من الزيدية.) وقد تقدم قول الشيبي: إنه قد التف حول الرضاعليه‌السلام (المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته..) وغير ذلك. والذي نريد أن نقوله هنا هو: أن (الإرجاء دين الملوك) على حد تعبير المأمون (على ما نقله عنه في ضحى الإسلام ج ٣ / ٣٢٦)، نقلاً عن طيفور في تاريخ بغداد.

وفي البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٧٦: أن المأمون قال للنضر بن شميل: ما الإرجاء؟. قال: (دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون به من دينهم) قال: صدقت الخ. وليراجع كتاب بغداد ص ٥١، وعمدة القول بالإرجاء (القديم) هو: المغالاة في الشيخين، والتوقف في الصهرين، فالإرجاء والتشيع، وخصوصاً القول بإمامة موسى بن جعفر، وولده علي الرضا على طرفي نقيض ومن هنا كانت المساجلة الشعرية بين المأمون المظهر لحب علي وولده، وابن شكلة المرجي، يقول المأمون معرضا بابن شكلة:

إذا المرجي سرك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فـجدد عـنده ذكرى علي

وصل على النبي وآل بيته

أما ابن شكلة فيقول معرضاً بالمأمون:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرك أن يبوح بذات نفسه

فصل على النبي وصاحبيه

وزيـريه وجاريه برمسه

٢٠٣

= راجع: مروج الذهب ج ٣ / ٤١٧، والكنى والألقاب ج ١ / ٣٣١، وبعد هذا. فإنه لمن غرائب الأمور حقاً، الانتقال دفعة واحدة من القول بالإرجاء إلى التشيع، بل إلى الرفض (وهو الغلو في التشيع حسب مصطلحهم، والذي يتمثل بالقول بإمامة الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام ) وأغرب من ذلك العودة إلى الإرجاء بعد موت علي الرضاعليه‌السلام .

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى تأثير السياسة والمال في هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم ـ بادعائهم ـ مسؤولية الحفاظ على الدين والذود عن العقيدة، فإنهم كانوا في غاية الانحطاط الديني، يتلونون ـ طمعاً بالمال والشهرة ـ ألواناً، حتى إن ذلك يحملهم على القول بعقيدة، ثم القول بضدها، ثم الرجوع إلى المقالة الأولى، إذا رأوا أن الحاكم يرغب في ذلك، ويميل إليه، ولهذا أسموا بـ‍ (الحشوية) يعني: أتباع وحشو الملوك، وأذناب كل من غلب، ويقال لهم أيضاً (وهم في الحقيقة أهل الحديث): (الحشوية، والنابتة، والغثاء، والغثر) على ما في كتاب: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ٨٠.

وراجع أيضاً فرق الشيعة، ورسالة الجاحظ في بني أمية، وغير ذلك.

بل لقد أطلق عليهم المأمون نفسه لفظ (الحشوية) في مناقشته المشهورة للفقهاء والعلماء المذكور في العقد الفريد والبحار، وعيون أخبار الرضا وغير ذلك. وقال عنهم الزمخشري في مقام استعراضه للمذاهب والنحل، ومعتنقيها:

وإن قلت من أهل الحديث وحزبه

يـقولون تيس ليس يدري ويفهم

ويقابل كلمة (الحشوية) كلمة (الرافضة) التي شاع إطلاقها على الشيعة الإمامية.

ومعناها في الأصل: جند تركوا قائدهم. فحيث إن الشيعة لم يكونوا قائلين بإمامة أولئك المتغلبين، سموهم ب‍ـ (الرافضة) ولذا جاء في تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٦١: أن معاوية كتب إلى عمرو بن العاص:

 (أما بعد. فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة الخ..). ومثل ذلك ما في وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٤، فالمراد بكلمة رافضة هنا هو ذلك المعنى اللغوي الذي أشرنا إليه، فسمي الشيعة بالرافضة، لأنهم ـ كما قلنا ـ رفضوا الانقياد لأولئك الحكام المتغلبين.

٢٠٤

= يقول السيد الحميري على ما جاء في ديوانه وغيره ـ يهجو البعض:

أبـوك ابن سارق عنز النبي

وأمـك بـنت أبـي جحدر

ونحن على رغمك الرافضون

لأهـل الـضلالة والـمنكر

ولكن قد جاء في الطبري، مطبعة الاستقامة ج ٦ ص ٤٩٨، والبداية والنهاية ج ٩ ص ٣٣٠، ومقدمة ابن خلدون ص ١٩٨، ومقالات الإسلاميين ج ١ ص ١٣٠، وغاية الاختصار ص ١٣٤: أن سبب تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) هو أنهم عندما تركوا نصرة زيد بن علي في سنة ١٢٢ ه‍. قال لهم زيد: رفضتموني، رفضكم الله، وهذا كذب راج على بعض الشيعة أيضاً حيث ذكروا وذكر الطبري في نفس الصفحة المشار إليها آنفاً: أن التسمية كانت من المغيرة بن سعيد، لما رفضته الشيعة.. وكانت قضيته سنة ١١٩ ه‍.

ولكن الحقيقة هي أن التسمية بالرافضة كانت قبل سنتي ١٢٢ ه‍ و ١١٩ ه‍. فقد جاء في المحاسن للبرقي ص ١١٩ طبع النجف، باب الرافضة: أن الشيعة كانوا يشكون إلى الباقر المتوفى سنة ١١٤ أن الولاة قد استحلوا دماءهم وأموالهم باسم: (الرافضة) الخ.

وجاء في ميزان الاعتدال طبع سنة ١٩٦٣ م. ج ٢ ص ٥٨٤ بعد ذكره لإسناد طويل أن الشعبي المتوفى سنة ١٠٤ ه‍. قال لأحدهم: (ائتني بشيعي صغير، أخرج لك منه رافضياً كبيراً).

وفي كتاب: روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار ص ٤٠، أن الشعبي قال: (أحبب آل محمد ولا تكن رافضياً، وأثبت وعيد الله، ولا تكن مرجئياً.). بل لدينا ما يدل على أن تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) كان قبل سنة المئة، فقد جاء في المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٢١٢، طبع دار صادر وأمالي السيد المرتضى ج ١ ص ٦٨ هامش: أن لما أنشد الفرزدق أبياته المشهورة في الإمام زين العابدين، المتوفى سنة ٩٥ ه‍ قال عبد الملك بن مروان المتوفى سنة ٨٦ ه‍ للفرزدق: (أرافضي أنت يا فرزدق؟!). وعلى كل حال: فإن ذلك كله قد كان قبل قضيتي زيد والمغيرة ابن سعيد بزمان بعيد.

٢٠٥

أن يقضي على الزيدية، ويكسر شوكتهم بالبيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، ولهذا نرى أنه قد طبق اللقب، الذي طالما دعا إليه الزيدية، واعترف به العباسيون، بل ودعوا إليه في بدء دعوتهم ودولتهم، ألا وهو لقب: (الرضا من آل محمد)، طبقه على علي ابن موسىعليه‌السلام ، فسماه: (الرضا من آل محمد)(١) . فأصبحت بذلك حجته قوية على الزيدية، بل لم يعد لهم حجة أصلاً. وأصبح يستطيع أن ينام قرير العين، إذ قد أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً، فالدعوة إلى غيره ستكون لا معنى لها البتة. ولسوف تكون مرفوضة من الناس جملة وتفصيلا. وكان ذلك بطبيعة الحال السبب الرئيسي في إضعاف الزيدية، وكسر شوكتهم، وشل حركتهم.

والذي ساهم إلى حد كبير في إضعافهم، وشل حركتهم، هو اختياره الإمامعليه‌السلام بالذات، حيث إنه الرجل الذي لا يمكن لأحد كائناً من كان أن ينكر فضله، وعلمه، وتقواه، وسائر صفاته ومزاياه، التي لم تكن لأحد في زمانه على الإطلاق، فليس لهم بعد طريق للاعتراض عليه: بأن الذي اختاره لولاية عهده، والخلافة من بعده، ليس أهلاً لما أهله له. ولو أنهم ادعوا ذلك لما صدقهم أحد، ولكانت الدائرة حينئذ في ذلك عليهم، والخسران لهم دون غيرهم.

____________

(١) راجع: الفخري في الآداب السلطانية، ص ٢١٧، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٧، والطبري، وابن الأثير، والقلقشندي وأبو الفرج. والمفيد وكل من تعرض من المؤرخين لولاية العهد. بل لقد صرح نفس المأمون بذلك في وثيقة ولاية العهد، وهذا يكفي في المقام.. ولقد قال دعبل:

أيا عجباً منهم يسمونك الرضا

ويـلقاك منهم كلحة وغضون

وهناك نصوص أخرى مفادها: أنه سمي الرضا، لرضا أعدائه، وأوليائه به، وعزى الشيبي في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٣٨: عزا رضا أعدائه به إلى قوة شخصيتهعليه‌السلام .. أما نحن فنقول: إنه ليس من اليسير أبداً، أن تنال شخصية رضا كل أحد، حتى أعدائها. اللهم إلا إذا كان هناك سر إلهي، اختصت به تلك الشخصية، دون غيرها من سائر بني الإنسان..

٢٠٦

فذلكة لا بد منها:

هذا.. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أن المأمون، لم يخترع أسلوباً جديداً للتصدي للزيدية، والحد من نفوذهم، وكسر شوكتهم، ببيعته للرضاعليه‌السلام ، إذ أنه كان قد استوحى هذه الفكرة من سلفة المهدي، الذي كان قد استوزر يعقوب بن داوود الزيدي، ليحد من نشاط الزيدية، ويكسر شوكتهم. وكان قد نجح في ذلك إلى حد ما: إذ لا يحدثنا التاريخ عن تحركات زيدية خطيرة ضد المهدي، بعد استيزاره ليعقوب، وتقريبه للزيدية، كتلك الأحداث التي حدثت ضد المنصور، وخصوصاً ثورة محمد وإبراهيم ابني عبد الله. كما يلاحظ أن تقريب العباسيين للزيدية في عصر المهدي، وتسليطهم على شؤون الدولة وإداراتها، لم يؤثر في الوضع العام أثراً يخشاه العباسيون، وذلك بلا شك مما يشجع المأمون على الإقدام على ما كان قد عقد العزم عليه، بجنان ثابت وإرادة راسخة.

يضاف إلى ذلك: أن سهولة إبعاد العباسيين لهم عن مراكز القوة، ومناصب الحكم على يد المهدي نفسه، الذي نكب يعقوب بن داوود، الوزير الزيدي، حيث لم تصاحبه ردة فعل، ولا نتج عنه أية حادثة تذكر ضد العباسيين، لا حقيرة، ولا خطيرة.. هو الذي شجع المأمون على أن يستوحي نفس الفكرة، ويلعب نفس اللعبة، ويتبع نفس طريقة المهدي. في مواجهتهم، وكسر شوكتهم، بالبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده. وعلى كل حال، فإن هذا أسلوب قديم اتبعه العباسيون في دعوتهم الأولى أيضاً، حيث بايعوا للعلويين، وأظهروا أن الدعوة لهم وباسمهم..

ثم كانت النتيجة هي ما يعلمه كل أحد، حيث انقلبوا عليهم يوسعونهم قتلاً وعسفاً، وتشريداً عندما خافوهم. فلم يعودوا بحاجة إليهم.

ه‍ ـ : أضف إلى ذلك ما تقدم أن المأمون كان يعلم قبل أي شخص آخر بطبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين الأئمةعليهم‌السلام ، وبين الزيدية، حيث إنها كانت على درجة من السوء والتدهور. وكان عدم التفاهم، والانسجام فيما بينهم واضحاً للعيان..

٢٠٧

حتى لقد شكى الأئمةعليهم‌السلام منهم، وصرحوا: بأن الناس قد نصبوا العداوة لشيعتهم، أما الزيدية فقد نصبوا العداوة لهم أنفسهم(١) ، وفي الكافي رواية مفادها: إنه عليه‌السلام قال إنهم قبل أن يصلوا إلى الحكم كانوا لا يطيعونهم فكيف تكون حالهم معهم لو أنهم وصلوا إلى الحكم وتبوءوا كرسي الرئاسة.

وقد رأينا: أن عبد الله بن الحسن، عندما جاء يعرض على الإمام الصادقعليه‌السلام كتاب أبي سلمة، الذي يدعوه فيه للقدوم إلى الكوفة، لتكون الدعوة له، وباسمه، فنهاه الإمامعليه‌السلام عن ذلك ـ رأيناه ـ ينازع الإمام الصادق الكلام، حتى قال له:

____________

(١) راجع: الوافي للفيض ج ١ ص ١٤٣، باب: الناصب ومجالسته.

هذا. ولا يمنع ذلك ما ورد عنهم عليهم‌السلام من أن خروج الزيدية وغيرهم على الحكام يدرؤا به عنهم، وعن شيعتهم: فقد جاء في السرائر قسم المستطرفات ص ٤٧٦ أنه: (ذكر بين يدي أبي عبد الله من خرج من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عليه‌السلام : ((لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد ..)) إلخ وذلك لأن اصطدامهم مع الحكام كان يصرف أنظار الحكام إليهم، ويفسح المجال أمام أهل البيت وشيعتهم إلى حد ما. ولم يكن هناك مجال لاتهام الأئمة وشيعتهم بالتواطؤ معهم، مع ما كان يراه الحكام من عدم الانسجام الظاهر بين الأئمة وبين الزيدية، وغيرهم من الثائرين وسلبية كل فريق منهما تجاه الآخر..

وأخيراً.. فلا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن ثورات العلويين، سواء على الحكم الأموي، أو الحكم العباسي، قد ساهمت في أن يبقى حق العلويين في الحكم متحفظاً بقوته وحيويته في ضمير الأمة، ووجدانها. ولم تؤثر عليه حملات القمع والتضليل، التي كان الحكم القائم آنذاك يمارسها ضدهم، وضد هذا الحق الثابت لأهل البيتعليهم‌السلام بالنص.

٢٠٨

(والله، ما يمنعك من ذلك إلا الحسد) إلخ وقد انصرف عبد الله آخر الأمر مغضباً(١) .

ورأينا أيضاً أنه في موقف آخر له مع الإمام الصادقعليه‌السلام يتهمه بنفس هذه التهمة، ويصمه بعين هذه الوصمة، وذلك عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وأبدى الإمامعليه‌السلام رأيه في ذلك. ذلك الرأي الذي كشفت الأيام عن صحته وسداده(٢) .

بل لقد كان عيسى بن زيد يقول لمحمد بن عبد الله: (.. من خالفك من آل أبي طالب، فأمكني أضرب عنقه.)(٣) وقد تجرأ عيسى هذا أيضاً على الإمام الصادق بكلام لا نحب ذكره.

وأما موقف محمد بن عبد الله نفسه مع الإمام الصادقعليه‌السلام ، فأشهر من أن يذكر، حيث إنه سجن الإمامعليه‌السلام ، واستصفى أمواله، وأسمعه كلاماً قاسياً، لا يليق بمقام الإمام وسنه(٤) .

إلى آخر ما هنالك مما يدل على كرههم، وحقدهم على الأئمةعليهم‌السلام . أو بالأحرى حسدهم لهم..

____________

(١) راجع: مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٤، ٣٥٥، وغيره من المصادر.

(٢) الصواعق المحرقة ص ١٢١، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٣٢، ٣٦١، ومقاتل الطالبيين ص ٢٥٥، ٢٥٦، ٢٧٠، وغير ذلك.. وفي هذا الأخير: أن عبد الله ابن الحسن لم يرض باستدعاء الإمام، ولا وافق عليه، عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وبعد أن أقنعوه، وحضر الإمام، جرى بينهما ما جرى.

(٣) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠.

(٤) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠، و ج ٨ ص ٢٤٢، ٢٤٣ والبحار ج ٤٧ ص ٢٨٤، ٢٥٨.

٢٠٩

والمأمون.. كان يعلم بذلك كله، ويدركه كل الإدراك، ولهذا فإننا لا نستبعد أنه ـ وهو الداهية الدهياء ـ قد أراد أيضاً في جملة ما أراد: أن يوقع الفتنة بين آل علي أنفسهم. أي: بين الأئمة، والمتشيعين لهم، وبين الزيدية، ويقف هو في موقف المتفرج المتربص حتى إذا أضعف كل واحد من الفريقين الفريق الآخر، ولم يعد فيهما بقية.. انقض هو عليهما، وقضى عليهما بأهون سبيل.

بل إن بعض الباحثين يرى: أنه أراد من لعبته هذه: (.. ضرباً للثائرين العلويين من إخوة علي بن موسى بأخيهم.)(١) .

ولو أننا استبعدنا كل ذلك، فلا أقل ـ كما قلنا ـ من أن حجته أصبحت قوية على الزيدية، وعلى كل من يدعو إلى (الرضا من آل محمد)، ولم يعد يخشى أحداً منهم، بعد أن أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً.

الهدف التاسع:

كما أنه ببيعته للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وقبول الإمامعليه‌السلام بذلك.. يكون قد حصل على اعتراف من العلويين، على أعلى مستوى بشرعية الخلافة العباسية، ولقد صرح المأمون بأن ذلك، كان من جملة أهدافه، حيث قال: (.. فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا..) وسنتكلم حول تصريحات المأمون هذه بنوع من التفصيل في فصل: مع بعض خطط المأمون، وغيره إن شاء الله تعالى.

نعود إلى القول: إن تصريح المأمون هذا يعطينا: أن قبول الإمام بأن يكون ولي عهد المأمون، إنما يعني بالنسبة للمأمون: أن الإمام يكون قد أقر بأن الخلافة ليست له دون غيره، ولا في العلويين دون غيرهم، وأنه كما يمكن أن يكون هو جديراً بها، وأهلا لها، وكذلك غيره يمكن أن يكون كذلك. وليتمكن المأمون بذلك من محاربة العلويين بنفس السلاح الذي بأيديهم، وليصير ـ من ثم ـ من الصعب استجابة الناس لهم، إذا دعوا لأية ثورة ضد حكم اعترفوا هم بشرعيته، وأيدوه، وتعاونوا معه من قبل، وعلى أعلى مستوى ومن أعظم شخصية فيهم.

____________

(١) هو الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه: الصلاة بين التصوف والتشيع ص ٢١٩.

٢١٠

بل لقد كان يريد أن يحصل من العلويين على اعتراف بأن الحكم حق للعباسيين فقط. أما هم، فليس لهم فيه أدنى نصيب، وما فعله المأمون من إسناد ولاية العهد لواحد منهم، ما كان إلا تفضلاً وكرماً، ومن أجل أن يجمع شمل البيتين العلوي والعباسي، وتصفو القلوب ويمحو ما كان من أمر الرشيد وغيره من أسلافه مع العلويين.

ولقد حاول المأمون أن ينتزع من الإمام اعترافا بأن الخلافة حق للعباسيين، شفاهاً أيضاً فكانت النتيجة عكس ما أراد المأمون، وذلك عندما عرض بالمن على الإمام بأن جعله ولي عهده، فأجابه الإمامعليه‌السلام : بأن هذا الأمر لم يزده في النعمة شيئاً، وأنه وهو في المدينة كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب.

كما أن المأمون قد قال لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين: (.. وليعتقد فيه المفتونون به، بأنه ليس مما ادعى في قليل، ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.) ولسوف يأتي الكلام عن هذه التصريحات إن شاء الله كما قلنا.

وبعد.. فإنه لا يكون من المبالغة في شيء لو قلنا: إن حصول المأمون على اعتراف من العلويين، ومن الإمام الرضاعليه‌السلام خاصة، بشرعية خلافته، وخلافة، بني أبيه أخطر على العلويين من الأسلوب الذي انتهجه أسلافه من أمويين وعباسيين ضدهم،: من قتلهم، وتشريدهم، وسلب أموالهم، إلى غير ذلك مما هو معروف ومشهور.

الهدف العاشر:

يضاف إلى ذلك، أنه يكون قد حصل على اعتراف ضمني من الإمام بشرعية تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وليعطي الناس ـ من ثم ـ الصورة التي يريدها عن الحكم والحاكم، وليؤكد للملأ أجمع: أن الحاكم هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته: من كان، ومهما كان، وإذن فليس لهم بعد حق في أن يتطلعوا إلى حكومة أحد على أن بها شيئاً جديداً، ولا أن ينظروا إلى جهة على أنها يمكن أن يكون بها المنقذ لهم، والمخرج من الظلمات إلى النور، حتى ولو كانت تلك الجهة هي آل بيت نبيهم، فإنه من الطبيعي أن يتبع السياسيون أساليب، ويتكلموا بأشياء كثيرة، ينسبونها بمجرد وصولهم إلى الحكم، وتسلمهم لازمة السلطة، فإن تلك لا تعدو كونها تكتيكات، ووعودا انتخابية، يحتاجون إليها في ظروف معينة، ثم يستغنون عنها.. كما كانت الحال في وعود المأمون، التي أشرنا إليها فيما تقدم.

٢١١

وهكذا.. فيكون سكوت الإمام في فترة ولاية العهد، عن تصرفات الهيئة الحاكمة، دالا على رضاه بها، ويعتبر إمضاء لها.. وبعد هذا.

فلا يجب أن يكون من العسير على الناس أن يتصوروا طبيعة وماهية حكم الإمام، وكل من يقدر له أن يصل الحكم والسلطان، سواء من العلويين، أو من غيرهم.

وإذا كانت الصورة واحدة، والجوهر واحد، والاختلاف إنما هو فقط في الاسم والعنوان، فليس لهم بعد حق، أو على الأقل ما الداعي لهم، لأن يطلبوا حكماً أفضل، أو حكاماً أعدل، فإنه طلب لغير موجود، وسعي وراء مفقود.

الهدف الحادي عشر:

هذا.. وبعد أن يكون المأمون قد حصل على كل ما قدمناه، وحقن دماء العباسيين، واستوثقت له الممالك، ولم يعد هناك ما يعكر صفو حياته(١) ، وقوي مركزه، وارتفع بالخلافة من الحضيض المهين، الذي أوصلها إليه أسلافه إلى أوج العظمة، والتمكن والمجد. وأعطاها من القوة والمنعة، ووهبها من الحياة في ضمير الأمة ووجدانها ما هي بأمس الحاجة إليه.. ولتتمكن من ثم من الصمود في وجه أية عاصفة، وإخماد أية ثورة، ومقاومة كل الأنواء، وذلك هو حلمه الكبير، الذي طالما جهد في تحقيقه إنه بعد أن يكون قد حصل على كل ذلك وسواه مما قدمناه:

____________

(١) لقد صرح الذهبي في الجزء الأول من كتابه (العبر) بأنه في سنة ٢٠٠ ه‍. استوثقت الممالك للمأمون. وهذه هي نفس السنة التي أتي فيها بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو.. ولكن اليافعي في مرآة الجنان ج ٢ ص ٨: قد جعل ذلك في سنة ٢٠٣: أي في السنة التي تخلص فيها المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام بواسطة السم الذي دسه إليه.. وفي اليعقوبي ج ٢ ص ٤٥٢ طبع صادر: أنه في السنة التي غادر فيها المأمون خراسان: (لم تبق ناحية من نواحي خراسان يخاف خلافها).

٢١٢

يكون قد أفسح لنظام حكمه المجال ـ تلقائيا ـ لتصفية حساباته مع خصومه، أياً كانوا. وبأي وسيلة كانت، وبهدوء، وراحة فكر واطمئنان إن اقتضى الأمر ذلك.

كما أنه يكون قد مهد الطريق لتنفيذ الجزء الثاني ـ ولعله الأهم ـ من خطته الجهنمية، بعيداً عن الشبهات، ودون أن يتعرض لتهمة أحد، أو شك من أحد..

ألا وهو: القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم. وليكون بذلك قد قضى نهائياً، وإلى الأبد، على أكبر مصدر للخطر، يمكن أن يتهدده، ويتهدد خلافته ومركزه.

إنه يريد زعزعة ثقة الناس بهم، واستئصال تعاطفهم معهم، وليحوله ـ إن استطاع ـ إلى كره ومقت، بالطرق التي لا تمس العواطف والمشاعر، ولا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

يظهر ذلك في محاولاته إسقاط الإمام إجتماعياً، والوضع منه قليلاً قليلاً، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، وليدبر فيه في نهاية الأمر بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما صرح لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين، وسنتكلم بنوع من التفصيل عن محاولات المأمون هذه، التي باءت كلها بالفشل الذريع، وعادت عليه بالخسران، لأن الإمامعليه‌السلام كان قد أحبطها عليه، بل لقد كان لها من النتائج العكسية بالنسبة إليه ما جعله يتعجل بتصفية الإمام جسديا، بعد أن أشرف هو منهعليه‌السلام على الهلاك.. بالطريقة التي حسب أنها سوف لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

ملاحظة لا بد منها:

ومن الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: أن المأمون كان يقدر أن مجرد جعل ولاية العهد للإمام، سوف يكون كافيا لتحطيمه إجتماعياً، وإسقاطه نهائياً من أعين الناس، حيث يظهر لهم بالعمل ـ لا بالقول: أن الإمام رجل دنيا فقط، وأن تظاهره بالزهد والتقوى ما هو إلا طلاء زائف، لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ولسوف تكون النتيجة هي تشويه سمعة الإمامعليه‌السلام ، وزعزعة ثقة الناس به، وذلك بسبب الفارق الكبير بالسن، بين الخليفة الفعلي، وبين ولي عهده، إذ إن ولي العهد لا يكبر الخليفة الفعلي بسنتين، أو ثلاثة، أو خمسة، لا.. بل أكثر من ذلك بكثير، إنه يكبره بـ‍(٢٢) سنة،

٢١٣

وإنه لمن الأمور غير الطبيعية أبداً: أن يقبل ولاية العهد، وهو يكبر الخليفة الفعلي بهذا المقدار الكبير من السنين، ولسوف يكون قبوله لها ـ مع هذا الفارق بينهما ـ موجبا لجعله عرضة لشكوك الناس، وظنونهم، ولسوف يتسبب بوضع علامات استفهام كبيرة حوله.. كما كان الحال، بالنسبة لسؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان المتقدم.. ولسوف يفسر(١) ذلك من أولئك الذين لا يدركون حقيقة ما يجري، وما يحدث، ـ وما أكثرهم ـ بتفسيرات تنسجم مع رغائب المأمون، وأهدافه. لأنهم سوف يرون أن زهدهعليه‌السلام بالدنيا، ليس إلا ستاراً تختفي وراءه مطامعه فيها، وحبه المستميت لها، حتى إنه ليطمع أن يعيش إلى ما بعد الخليفة الفعلي، الذي هو أصغر من ولده، ويصل إلى الحكم.. وباختصار نقول:

إنه يريد أن: (.. يعتقد فيه المفتونون به بأنه: ليس ما ادعى في قليل ولا كثير.) حسبما صرح به هو نفسه.. وعلى حد قول الإمام نفسه، الذي كان يدرك خطة المأمون هذه: (.. أن يقول الناس: إن علي بن موسى، لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا بالخلافة؟!.). كما سيأتي.

____________

(١) ولكنا، مع ذلك نجد: أن قسما من أصحاب الرضاعليه‌السلام ، ممن كانوا يراقبون الأحداث بوعي ودراية، كانوا يدركون نوايا المأمون وأهدافه هذه ففي البحار ج ٤٩ ص ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩: أنه قد سئل أبو الصلت: (كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه ومحبته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟! فقال: إن المأمون كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده، ليري الناس أنه راغب في الدنيا، فلما لم يظهر منه إلا ما ازداد به فضلاً عندهم، ومحلاً في نفوسهم، جلب عليه إلخ.).

٢١٤

وعن الريان قال: دخلت على الرضا، فقلت: يا ابن رسول الله، إن الناس يقولون: إنك قبلت ولاية العهد، مع إظهارك الزهد في الدنيا؟!، فقالعليه‌السلام :((قد علم الله كراهتي..)) (١) وقد أشرنا إلى سؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان فيما تقدم.

وعلى أي شيء يبكي المأمون، ومن أجل أي شيء يشقى ويتعب، ويسهر الليالي، ويتحمل المشاق.. إلا على هذا.. إن هذا هو أجل أمنياته وأغلاها.

سؤال وجوابه:

قد يدور بخلد القارئ أن ما ذكرناه هنا: فيما يتعلق بالفارق الكبير بالسن، ينافي ما تقدم من أن المأمون كان يريد الحصول على قاعدة شعبية، والارتفاع بالخلافة من الحضيض الخ.

ولكن الحقيقة هي:

أنه لا منافاة هناك.. ويمكن للمأمون أن يقصد كل ذلك من البيعة، لأن مقدار التفاوت بالسن بين الإمامعليه‌السلام والمأمون، لم يكن مما يعرفه الكثيرون، ولا مما يلتفت إليه عوام الناس في بادئ الأمر، لأنهم يأخذون الأمور على ظواهرها، ولا يتنبهون إلى مثل ذلك، إلا بعد تنبيه وتذكير، فللوهلة الأولى تجوز عليهم الخدعة، ويقدرون خطوة المأمون هذه، وتنتعش الآمال في نفوسهم بالحياة الهنيئة السعيدة، تحت ظلم حكم بدا أنه يتخذ العدل ديدنا، والإنصاف طريقة..

____________

(١) علل الشرايع ص ٢٣٨، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٠، وأمالي الصدوق ص ٤٤، ٤٥.

٢١٥

ثم.. وبعد أن يجند المأمون أجهزة إعلامه، من أجل تسميم الأفكار، يجد أن نفوس الناس مهيأة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها. ويكون لديه ـ باعتقاده ـ من الحجج ما يكفي لإسقاط الإمام، وزعزعة ثقة الناس به. ولا يؤثر ذلك بعد ذلك على الحكم، فإن الحكم يكون قد استنفذ أغراضه من البيعة. وحصل على ما يريد الحصول عليه منها.. هذا ولا بد لنا هنا من ملاحظة أن المأمون وأجهزة إعلامه كانوا في مقابل وصم الإمام بالرغبة بالدنيا والتفاني في سبيلها.. يشيعون بين الناس عن المأمون عكس ذلك تمام، فيطلب المأمون من وزيره أن يشيع عنه الزهد، والورع والتقوى(١) .. وأنه لا يريد مما أقدم عليه الأخير الأمة ومصلحتها، حيث قد اختار لولاية عهده أفضل رجل قدر عليه، رغم أن ذلك الرجل هو من ذلك البيت الذي لا يجهل أحد موقفه من حكم العباسيين، وموقف العباسيين منه كما يتضح ذلك من وثيقة ولاية العهد، وغيرها.

رأي الناس فيمن يتصدى للحكم:

لعل من الواضح أن كثيراً من الناس كانوا يرون ـ في تلك الفترة من الزمن ـ لقصر نظرهم، وقلة معرفتهم: أن هناك منافاة بين الزهد والورع، والتقوى، وبين المنصب، وأنهما لا يتفقان، ولا يجتمعان.

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ ص ٢٦١.

٢١٦

وقد رأينا الكثيرين يمتنعون على تولي المناصب للحكام، لما يرونه من المنافاة المشار إليها.

ولعل سر فهمهم هذا: هو أنهم كانوا قد اعتادوا من الحكام التجاوز على الحقوق، والدماء، والأموال، وعلى أحكام الدين، والنواميس الإنسانية، بشكل عام. والزهد والورع لا يتلائم مع ذلك كله، ولا ينسجم معه.

ولكن الحقيقة هي: أن لا منافاة بينهما أبداً، فإن الحكم إذا كان وسيلة لإيصال الخير إلى الآخرين، ورفع الظلم عنهم، وإشاعة العدل، إقامة شريعة الله تعالى، فيجب السعي إليه، والعمل من أجله، وفي سبيله.. بل إذا لزم من ترك السعي إليه، تضييع الحقوق، وانهيار صرح العدل، والخروج على أحكام الدين، فإن ترك السعي هذا، يكون هو المنافي للزهد والورع والتقوى..

ولقد قاد النبيعليه‌السلام الأمة، وقبله قادها سليمان بن داوود، وغيره، وبعده الإمام علي بن أبي طالب، وولده الحسن، ثم الحسين، وهكذا..

وحال هؤلاء في الزهد والورع، لا يحتاج إلى مزيد بيان، وإقامة برهان، بل لم يكن على ظهرها أزهد، ولا أتقى، ولا أفضل، ولا أورع منهم، عدوهم يعرف منهم ذلك تماماً كما يعرفه منهم صديقهم. فعدا عن الأنبياء الذين كانوا القمة في الورع والزهد والتقوى، نرى الإمام عليعليه‌السلام قمة في ذلك أيضاً، وقد رقع مدرعته حتى استحيا من راقعها، وكان راقعها هو ولده (الإمام الحسنعليه‌السلام )(١) . وكان يصلي في بيت المال ركعتين شكراً لله، بعد فراغ المال منه. وكان يقول:((إليك عني يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت؟!..)) الخ وهو الذي قال فيه عدوه معاوية: (لو كان له بيتان: بيت من تبر، وآخر من تبن، لأنفق تبره قبل تبنه.). إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه..

____________

(١) راجع: الدرة النجفية ص ٣٠٣، طبعة حجرية.

٢١٧

العلويون يدركون نوايا المأمون:

إن نوايا المأمون تجاه العلويين، ومحاولاته لإسقاطهم إجتماعياً، وابتزازهم سياسياً.. حتى إذا أخفق في ذلك راح يختلهم واحداً فواحداً، كلما واتاه الظرف، وسنحت له الفرصة.. لم يكن العلويون يجهلونها، بل كانوا يدركونها كل الإدراك، ولم تكن تخدعهم تلك الشعارات والأساليب المبهرجة. وحسبنا هنا أن نذكر في مقام التدليل على هذا: أن المأمون كتب لعبد الله بن موسى، بعد وفاة الرضا، يعده بأنه يجعله ولي عهده، ويقول له: (ما ظننت أن أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا).

فأجابه عبد الله يقول: (وصل إلي كتابك، وفهمته، تختلني فيه عن نفسي مثل القانص، وتحتال علي حيلة المغتال، القاصد لسفك دمي. وعجبت من بذلك العهد، ولايته لي بعدك، كأنك تظن: أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟ أفي الملك الذي غرتك حلاوته؟!.

إلى أن يقول: أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟!).

ويقول له أيضاً ـ والظاهر أنه نص آخر للرسالة ـ: (هبني لا ثأر لي عندك، وعند آبائك المستحلين لدمائنا الآخذين حقنا، الذين جاهروا في أمرنا، فحذرناهم. وكنت ألطف حيلة منهم، بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً،

____________

(١) ترجمة الإمام عليعليه‌السلام من تاريخ ابن عساكر بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٥٨ ـ ٦٠.

٢١٨

فواحداً منا الخ..)(١) .

ولا بد من ملاحظة: منافاة وعده هذا لعبد الله بن موسى بأن يجعل له ولاية العهد.. للرسالة التي أرسلها إلى العباسيين في بغداد، فور وفاة الرضاعليه‌السلام ، ويعدهم فيها بأن يجعل ولاية العهد فيهم، وسنشير إلى رسالته لهم في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله وعلى كل حال.. فإننا نستطيع أن نفهم من هذه الرسالة التي لعبد الله بن موسى أموراً، نشير إلى بعضها:

أولاً: إن المأمون كان قد جعل ولاية العهد وسيلة لختل الشخصيات التي كان يخشاها، والغدر بها، إذ إن من المقبول والطبيعي ـ كما يرى البعض ـ أن يكون ولي العهد هو الذي يتآمر، ويدبر للتخلص من الخليفة الفعلي، ليختصر المسافة، ويصل إلى الحكم، الذي ينتظر الوصول إليه، والحصول عليه بفارغ الصبر. وليس من الطبيعي، ولا من المقبول أن يتآمر الخليفة على ولي عهده، إلا إذا كان يريد أن يجعل الخلافة لمن هو أعز عليه منه، وهذا ما نفاه المأمون عن نفسه في أكثر من مناسبة.

وهكذا.. فإن النتيجة تكون: أن الخليفة الفعلي يكون آخر من يتهم في ولي العهد، إذا ما راح ضحية التآمر والاغتيال، وعرف الناس ذلك. وهذا بلا شك من جملة ما كان يريده المأمون، ويسعى إليه.

ثانياً: إن المأمون رغم الصعوبات التي واجهها في فترة تولية الرضاعليه‌السلام العهد.. يبدو أنه كان يعتبر نفسه منتصراً وناجحاً في لعبته تلك، ولذلك نرى أنه قد حاول تكرار نفس اللعبة مع عبد الله بن موسى. ولكن يقظة هذا الأخير، الذي كانت ظروفه تختلف عن ظروف الإمامعليه‌السلام قد فوتت عليه الفرصة، وأعادته. بخفي حنين.

____________

(١) مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص ٦٢٨، إلى ص ٦٣١، وسنورد الرسالة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

٢١٩

كما أننا لا نستبعد أن المأمون قد أراد بالإضافة إلى ذلك التستر على غدره بالرضاعليه‌السلام ، بعد أن كان قد افتضح واشتهر، رغم محاولاته الجادة للتستر والكتمان.

ثالثاً: ما تقدمت الإشارة إليه من أن إكرامه للعلويين، والرضا بهم، والتستر لمحنهم، ما كان منه إلا ضمن خطة مرسومة، وإلا سياسة منه ودهاء، من أجل أن يأمن العلويون جانبه، ويطمئنوا إليه، كما يدل عليه قوله لعبد الله بن موسى: (ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا) وقد قدمنا أنه أشار إلى ذلك أيضاً في كتابه للعباسيين، فلا نعيد..

رابعاً: أنه لم يستطع أن يخفي عن العلويين ـ كما لم يستطع أن يخفي عن غيرهم ـ غدره بالإمام الرضاعليه‌السلام ، وسمه له بالعنب، وكذلك غدره بغيره من العلويين. وسر ذلك واضح، فإن جميع الدلائل والشواهد كانت متوفرة على ذلك، كما سيأتي بيان جانب من ذلك في فصول هذا الكتاب بنوع من التفصيل.

موقف الإمام في مواجهة مؤامرات المأمون:

لقد رأينا كيف أن المأمون أراد من لعبته تلك، التغلب على المشاكل التي كان يواجهها، والاستفادة في تقوية دعائم خلافته، وخلافة العباسيين بشكل عام.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو موقف الإمامعليه‌السلام نفسه من لعبة المأمون تلك، وخططه، وأهدافه؟، وهل أفسح المجال للمأمون ليحقق كل ما يريد تحقيقه، ويصل إلى ما

كان يريد الوصول إليه؟.. وهل كانت لديه خطط من نوع معين، وأهداف معينة كان يسعى من أجل الوصول إليها، والحصول عليها؟!.

الحقيقة هي: أن الإمامعليه‌السلام قد استطاع، بما اتبعه من خطة حكيمة، وسلوك مثالي: أن يضيع على المأمون كافة الفرص، ويجعله يبوء بالخيبة والخسران، ويمنى بالفشل الذريع، حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك، وبدا الارتباك واضحاً في كل تصرفاته، وأقواله، وأفعاله..

وسيأتي في الفصول الآتية في القسمين: الثالث، والرابع بيان بعض ما يتعلق بذلك إن شاء الله.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

لا تُلازم الإمامة والولاية المطلقة العامة، فاستدلال بعضهم بصلاة أبي بكر على خلافته ضعيف ناقص.

٤ - قول عمر: وأحرى بعليٍّ أن يحملهم على طريق الحقّ. هذه الصفة والخصيصة تدلّ على أنّ الدعابة وعدم كونه ليّنا، واقعتان في طريق الحقّ والصدق، فكيف يجوز الإعراض وصرف النظر عنه مع الاعتراف بهذا الاتصاف.

٥ - قول عمر: ( وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف )، ( فاضرب رؤسهما )، ( واقتلوا الباقين ). هذا الحكم المنجز المقطوع من جانبه إن كان له حقيقة فكيف لم يُجرّ في زمان أبي بكر وزمان عليّ، بل وكيف يقولون: إنّ خلاف أهل الجمل وصفّين مستند إلى اجتهادهم. وأيضاً إنّ الإباء المطلق إذا كان عن فكرٍ صائب ورأي خالصٍ كيف يوجب ضرب الرأس والقتل ولا سيّما إذا خلا عن التحريك والتّشتيت.

٦ - قوله أيضاً: فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن. حقيقة هذا الحكم وسرّه ما أشار إليه عليّ (ع) في آخر الكلام من الطبري. وكما قال العبّاس: فإنّهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر.

العقد الفريد وتاريخ الطبري: فتنافس القوم في الأمر وكثر بينهم الكلام فقال عبد الرحمن: أيكم يُخرج منها نفسه ويتقلّدها على أن يُوليَها أفضلكم، فلم يُجبه أحد، فقال: أنا أنخلع منها، فقال عثمان: أنا أوّل من رضي فإنّي سمعت رسول الله (ص) يقول: أمين في الأرض أمين في السماء، قال القوم: قد رضينا، وعليّ ساكت، فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أعطني موثقا لتُؤثرن الحقّ ولا تتّبع الهوى ولا تخصّ ذا رحم ولا تألو الأمّة! فقال: أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدلّ وغيّر وأن ترضوا من اخترت لكم، على ميثاق الله أن لا أخصّ ذا رحم لرحمه ولا آلو المسلمين، فأخذ منهم ميثاقاً وأعطاهم مثله. فقال لعليّ: إنّك تقول: إنّي أحقّ من حضر بالأمر ؛ لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين، ولم تُبعد، ولكن أرأيت لو صُرف هذا الأمر عنك فلم تحضر، من

٢٦١

كنت ترى من هؤلاء الرهط أحقّ بالأمر؟ قال: عثمان. وخلا بعثمان فقال:

تقول: شيخ من بني عبد مناف، وصهر رسول الله (ص) وابن عمّه، لي سابقة وفضل، فلم تُبعد، فلمَ تُصرف هذا الأمر عنّي، ولكن لو لم تحضر فأيّ هؤلاء الرهط تراه أحقّ به؟ قال عليّ. ثمّ خلا بالزبير فكلّمه بمثل ما كلّم به علياً وعثمان فقال: عثمان. ثمّ خلا بسعد فكلّمه، فقال: عثمان. فلقى عليّ سعداً فقال:( اتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) ، أسألك برحم ابني هذا من رسول الله (ص)، وبرحم عمّي حمزة منك، أن لا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيراً عليّ، فإنّي أدلي بما لا يُدلي به عثمان.

ودار عبد الرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله (ص) ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس يُشاورهم ولا يخلو برجل إلا أمره بعثمان، حتى إذا كانت الليلة التي يستكمل في صبيحتها الأجل أتى منزل المسور بن مخرمة بعد ابهيرار من الليل فأيقظه، فقال: ألا أراك نائماً ولم أذق في هذه الليلة كثير غُمض، انطلق فادع الزبير وسعداً فدعاهما، فبدأ بالزبير في مؤخّر المسجد في الصفة التي تلى دار مروان، فقال له: خلّ ابني عبد مناف وهذا الأمر، قال: نصيبي لعليّ. وقال لسعد: أنا وأنت كلالة ( وفي العقد: كالآلة ) فاجعل نصيبك لي فأختار؟ قال: إن اخترت نفسك، فنعم! وان اخترت عثمان فعليّ أحبّ إليّ، أيّها الرجل بايع لنفسك وأرحنا وارفع رؤوسنا! قال: يا أبا إسحاق: إنّي قد خلعت نفسي منها على أن أختار، ولو لم أفعل وجُعل الخيار إليّ لم أردّها قال، قال سعد: فإنّي أخاف أن يكون الضعف قد أدركك فامض لرأيك فقد عرفت عهد عمر! وانصرف الزبير وسعد، وأرسل المسور بن مخرمة إلى عليّ فناجاه طويلاً وهو لا يشكّ أنّه صاحب الأمر، ثمّ نهض، وأرسل المسور إلى عثمان فكان في نجيّهما حتى فرّق بينهما أذان الصبح فلما صلّوا الصبح جمع الرهط فقال عمّار: إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع علياً، فقال المقداد بن الأسود: صدق عمّار ؛ إن بايعت علياً قلنا: سمعنا وأطعنا. قال ابن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان، فقال عبد الله بن أبي ربيعة: صدق، إن بايعت عثمان قلنا: سمعنا وأطعنا. فشتم

٢٦٢

عمّار ابن أبي سرح وقال: متى كنت تنصح المسلمين؟! فتكلّم بنو هاشم وبنو أميّة، فقال عمّار: أيّها الناس إنّ الله - عزّ وجلّ - أكرمنا بنبيّه وأعزّنا بدينه فأنّى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم! فقال رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يا ابن سُمية، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها، فقال سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحمن افرغ قبل أن يفتتن الناس!.

فقال عبد الرحمن: إنّي قد نظرت وشاورت، فلا تجعلنّ أيّها الرهط على أنفسكم سبيلاً، ودعا علياً، فقال: عليك عهد الله وميثاقه، لتعملنّ بكتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده! قال: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي.

ودعا عثمان، فقال له مثل ما قال لعليّ، قال: نعم. فبايعه.

فقال عليّ: حبوته حبو دهر، ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما ولّيت عثمان إلاّ ليردّ الأمر إليك، والله كلّ يومٍ هو في شأن. فقال عبد الرحمن: يا عليّ لا تجعل على نفسك سبيلاً، فإنّي قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان، فخرج عليّ وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله، فقال المقداد: يا عبد الرحمن، أمَا والله لقد تركته من الذين يقضون بالحقّ وبه يعدلون، فقال: يا مقداد، والله لقد اجتهدتُ للمسلمين! قال: إن كنت أردت بذلك الله، فأثابك الله ثواب المحسنين، فقال المقداد: ما رأيت مثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم إنّي لأعجب من قريش أنّهم تركوا رجلاً ما أقول أنّ أحدا أعلم ولا أقضى منه بالعدل، أما والله لو أجد عليه أعواناً.(١)

أقول في هذا الكلام موارد للاعتبار:

١ - فتنافس القوم: هذا كما تنافسوا في السقيفة ثمّ وقعت أخذ الآراء بالتزوير الذي لا يخفى على المحقّق المنصف.

٢ - أيّكم يُخرج نفسه: بعد أن رأى عبد الرحمن أن لا نصيب له في هذا الأمر، استمسك بهذا التزوير الدقيق، لحفظ مقامه ولإعمال غرضه في أمر

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص٢٧٧. وتاريخ الطبري، ج ٥، ص ٣٦.

٢٦٣

الخلافة لعثمان.

٣ - أنا أوّل من رضي: هذا القول يدلّ على أنّ الاختيار التام المفوّض لعبد الرحمن إنّما يتمّ لتأييد عثمان، ويدلّ عليه سكوت عليّ (ع).

٤ - أعطني موثقاً: يكشف عن أنّ علياً (ع) ما صحّ عنده الحديث المرويّ ( أمين في الأرض أمين في السماء )، مضافاً إلى أنّ في متن الحديث ضعفاً، حيث أنّ كونه أمينا في السماء لا معنى له، وإن أريد كونه أميناً عند أهل الأرض وأهل السماء ينقضه أنّ من خير أهل الأرض عليّ (ع) وهو يطلب منه موثقاً.

٥ - ولا تتبع الهوى ولا تخصّ ذا رحم: شرط هذه القيود يثبت إتّباع الهوى والعمل بغرض.

٦ - إنّي أحقّ من حضر بالأمر: هذه الدعوى من عليّ (ع) مستمرة من يوم ارتحل النبيّ (ص) إلى آخر عمره الشريف، وقد ثبت أنّه صادق ومع الحقّ ويحبّه الله ورسوله.

٧ - بمبلغ علمي وطاقتي: هذا هو الحقّ الصريح، فإنّ علياً (ع) لا أقل أنّه مجتهد، ولا يجوز له لمجتهد آخر، مع أنّه أعلم الأمّة وأقضاها وأفضلها وأتقاها، بل نعتقد بأنّه خليفة الله ووليّه والمنصوب منه والمعلَّم من لدنه.

٨ - ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم: فليعتبر من هذا الكلام كلّ معتبر.

ويروي الطبري: بعد نقل كلمات الأربعة من أهل الشورى وخطبتهم، ثمّ تكلّم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: الحمد لله الذي بعث محمّداً منّا نبيّاً، وبعثه إلينا رسولاً، فنحن بيت النبوّة ومعدن الحكمة، وأمان أهل الأرض ونجاة لمن طلب، لنا حقّ إن نُعطه نأخذه، وإن نُمنعه نركب أعجاز الأبل ولو طال السُرى، لو عهد إلينا رسول الله (ص) لأنفذنا عهده، ولو قال لنا قولاً، لجادلنا عليه حتى نموت إلخ.(١)

أقول: في هذه الكلمات العالية من عليّ (ع) إثبات لمقامه وعلوّ منزلته

____________________

١ - الطبري، ج ٥، ص ٣٩.

٢٦٤

وحقيقة ولايته وخلافته من رسول الله (ص)، حيث إنّه أظهر في مجلس الشورى بكونه من بيت النبوّة وأنّه معدن الحكمة، وأمان أهل الأرض، ونجاة لمن طلب، ولم ينكر هذه المقامات له أحدٌ من الحاضرين، مع أنّه لا يمكن دعوى هذه المراتب من أحد من سائر الناس.

يروي في العقد الفريد: في كلام لعمر: أمَا والله لولا دُعابة فيه ما شككتُ في ولايته، وإن نزلت على رغم أنف قريش.(١)

الفائق: عليّ رضي الله عنه قال يوم الشورى: لنا حقّ إن نُعطه نأخذه، وإن نُمنَعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السُرى.(٢)

قال الزمخشري: هذا مَثَل لركوبه الذلّ والمَشقّة وصبره عليه وان تطاول ذلك، وأراد بركوب أعجاز الإبل كونه ردفاً وتابعاً.

أقول: يقول أنّ الولاية الظاهرية من آثار الولاية الحقيقية، ولمّا كانت حقيقة الولاية لأهل البيت ولأمير المؤمنين عليّ (ع): فتكون الخلافة الظاهرية والولاية والحكومة العرفية أيضاً من حقوقهم وشئونهم.

أمّا الولاية الحقيقية: فهي ثابتة لهم، ومن آثارها النورانية والمعرفة والعلم والإحاطة الملكوتية والارتباط الغيبي، ويشير إليها بقوله: فنحن بيت النبوّة، ومعدن الحكمة، وأمان أهل الأرض، ونجاة لمن طلب.

وأمّا الولاية الظاهرية: فهي متوقّفة على إقبال الرعية وخضوعها وانقيادها، فإن أطاعوا وسلّموا وخضعوا لهم، يَقبلون طاعتهم ويهدونهم إلى مصالحهم ويُرشدونهم إلى سعادتهم ويُجرون قوانين العدل فيما بينهم. ويشير إليها بقوله: إن نعطه نأخذه.

وإذا امتنعوا من الطاعة ولم يخضعوا ولم يستقرّوا تحت لواء ولايتهم فلا يُظهرون من أنفسهم الحرص والميل الشديد إلى حيازتها وتحصيلها وأخذها، بل يجعلون أنفسهم في إثر الحكومة ويعيشون مع الناس ويُفيضون ويُرشدون على

____________________

١ - العقد الفريد، ج٤، ص ٢٨٢

٢ - الفائق، ج ٢، ص ١١٩.

٢٦٥

حسب طلب الناس وإقبالهم واقتضاء أحوالهم.

(من الوقائع في زمانه)

تبعيد أبي ذرّ:

الطبقات: عن زيد بن وهب، قال مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذرّ، فقلت: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ ) ، وقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب. فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب يشكوني إلى عثمان، فكتب إليّ عثمان أن أقدِم المدينة، فقدمت المدينة وكثر الناس عليّ كأنّهم لم يروني قبل ذلك، فذكر ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحّيت فكنت قريباً، فذاك أنزلني هذا المنزل.(١)

البدء والتاريخ: ومنها قوله (ص) لأبي ذر الغفاري وقد تخلّف في بعض مراحل تبوك: تعيش وحدك وتموت وحدك، فكيف بك إذا أخرجت من المدينة لقولك الحقّ. فنُفي في أيام عثمان إلى الربذة ومات بها وحده.(٢)

أقول: نفى أبي ذر من الشام لقوله الحقّ، وعملاً بشكاية معاوية عنه، ونُفي ثانياً من المدينة لصدق لهجته وصراحة بيانه، وقد قال رسول الله (ص) في حقّه:(*)

الاستيعاب: سئل عليّ (رض) عن أبي ذر، فقال: ذلك رجل وعى علماً عجز عنه الناس.

وقال رسول الله (ص): أبو ذرّ في أمّتي شبيه عيسى بن مريم في زهده. وبعضهم يرويه: من سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذرّ.(٣)

ابن ماجة: عن عبد الله بن عمر، قال رسول الله (ص): ما أقلّت الغبراء

____________________

١ - الطبقات، ج ٤، ص ٢٢٦.

٢ - البدء والتاريخ، ج ٥، ص ٤٠.

* هكذا في النسخة المطبوعة.

٣ - الاستيعاب، ج ١، ص ٢٥٥.

٢٦٦

ولا أظلت الخَضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر.(١)

الكنى للبخاري: يروي بعدة إسناد، نظيرها.(٢)

سنن الترمذي: مثلها.(٣)

ويروي أيضاً: قال رسول الله (ص): ما أظلت الخضراءُ ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذرّ شبه عيسى بن مريم، فقال عمر بن الخطّاب - كالحاسد - يا رسول الله أفتُعرِّف ذلك له؟ قال: نعم، فاعرفوه. وقد روى بعضهم هذا الحديث فقال:أبو ذر يمشي في الأرض بزهد عيسى بن مريم.

الطبقات: سئل عليّ رضي الله عنه عن أبي ذرّ، فقال: وعى علما عجز فيه وكان شحيحا حريصاً، شحيحاً على دينه، حريصاً على العلم.(٤)

ويروي أيضاً روايات: كما في ابن ماجة والترمذي.(٥)

الكنى للدولابي: كما في ابن ماجة.(٦)

أقول: انظر إلى ما ورد في حقّ هذا الرجل وهو من خواصّ أصحاب رسول الله (ص)، وهو يُنفى من المدينة إلى وادي الرّبذة، ويموت فيها وحده.

(ومن الوقائع في زمانه)

تبرئة عُبيد الله بن عمر بعد ثبوت أنّه قتل نفساً محرمة.

الطبقات: رأيت عبيد الله يومئذٍ وإنّه ليناصي عثمان، وأنّ عثمان ليقول: قاتلك الله! قتلت رجلاً يصلّي وصبية صغيرة وآخر من ذمّة رسول الله (ص)، ما في الحقّ تركُك. قال: فعجبت لعثمان حين وُلّي، كيف تركه؟!(٧)

____________________

١ - ابن ماجة، ج ١، ص ٦٨.

٢ - الكنى للبخاري، ص ٢٣.

٣ - سنن الترمذي، ص ٥٤٣.

٤ - الطبقات، ج ٢، ص ٣٥٤.

٥ - نفس المصدر، ج ٤، ص ٢٢٨.

٦ - الكنى للدولابي، ج ١، ص ١٤٦.

٧ - الطبقات، ج ٥، ص ١٦.

٢٦٧

ويروي أيضاً: قال عليّ لعبيد الله بن عمر: ما ذنبُ بنت أبي لؤلؤة حين قتلتها فكان رأي عليّ حين استشاره عثمان ورأيُ الأكابر من أصحاب رسول الله على قتله، لكن عمرو بن العاص كلّم عثمان حتى تركه.

ويروي عن ابن جريح: أنّ عثمان استشار المسلمين فأجمعوا على ديتهما ولا يُقتل بهما عبيد الله بن عمر، وكانا قد أسلما وفرض لهما عمر، وكان عليّ بن أبي طالب لما بويع له أراد قتل عبيد الله بن عمر، فهرب منه إلى معاوية، فلم يزل معه فقتل بصفين.(١)

الاستيعاب: إنّ عبيد الله قتل الهُرمزان بعد أن أسلم، وعفا عنه عثمان، فلمّا وليّ عليّ خشي على نفسه فهرب إلى معاوية فقتل بصفين.(٢)

أقول: قال الله تعالى:( أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) ، ولا يجوز لحاكم أن يعفو عن قصاص وأن يترك قاتلاً، مع أنّ علياً (ع) حكم بقتله وهو مع الحقّ أين ما دار، وهو أقضى الأمّة.

(ومن الوقائع في زمانه)

صلته لأقربائه وتوانيه في أمورهم وبذل الأموال لهم:

الطبقات: عن الزهري: فلما وليهم عثمان لان لهم ووصلهم، ثمّ توانى في أمرهم واستعمل أقرباءه وأهل بيته في السّت الأواخر، وكتب لمروان بخُمس مصر، وأعطى أقرباءه المال، وتأوّل في ذلك الصلة التي أمر بها، واتّخذ الأموال واستسلف من بيت المال، وقال: إنّ أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما، وإنّي أخذته فقسّمته في أقربائي، فأنكر الناس عليه ذلك.(٣)

ويروي أيضاً عن المسور: سمعت عثمان يقول: أيّها الناس إنّ أبا بكر وعمر كانا يتأوّلان في هذا المال ظلف أنفسهما وذوي أرحامهما، وإنّي تأولّت فيه صلة رحمي.

____________________

١ - الطبقات، ج ٥، ص ١٧.

٢ - الاستيعاب، ج ٣، ص ١٠١٢.

٣ - الطبقات ج ٣، ص ٦٤.

٢٦٨

أقول: الأموال التي تدّخر في بيت المال يجب أن تصرف في الله وفي فقراء المسلمين وفي حفظ نظامهم، وليس للحاكم أن يصرفها كيف يشاء وفيما يشاء!

مسند أحمد: عن سالم قال: دعا عثمان ناسا من أصحاب رسول الله (ص) فيهم عمّار بن ياسر، فقال: إنّي سائلكم وإنّي أحبّ أن تصدقوني، نشدتكم الله أتعلمون أنّ رسول الله (ص) كان يُؤثر قريشاً على سائر الناس، ويُؤثر بني هاشم على سائر قريش؟ فسكت القوم. فقال عثمان: لو أن بيدي مفاتيح الجنّة لأعطيتها بني أميّة حتى يدخلوا من عند آخرهم.(١)

أقول: إنّ لأقرباء الرسول وذريته أحكام وحقوق خاصة في القرآن ليست لغيرهم، ولا يقاس بهم أحد.

(ومن الوقائع في زمانه)

انصراف المهاجرين والأنصار عنه وطعنهم فيه:

الاستيعاب: كان اجتماع بني مخزوم إلى عثمان حين نال من عمّار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب، حتى انفتق له فتق في بطنه، ورغموا وكسروا ضلعاً من أضلاعه، فاجتمعت بنو مخزوم وقالوا: والله لئن مات، لا قتلنا به أحداً غير عثمان.(٢)

البدء والتاريخ: فحنق بنو مخزوم لضربه عمّار، وحنق بنو زهرة لحال عبد الله بن مسعود، وحنق بنو غفّار لمكان أبي ذر الغفاري، وكان أشدّ الناس طلحة والزبير ومحمّد بن أبي بكر وعائشة، وخذلته المهاجرون والأنصار، وتكلّمت عائشة في أمره وأطلعت شعرة من شعر رسول الله (ص) ونعله وثيابه وقالت: ما أسرع ما تركتم سنّة نبيّكم؟ فقال عثمان في آل أبي قحافة ما قال، وغضب حتى ما كاد يدري ما يقول، فقال عمرو بن العاص: سبحان الله! وهو يريد أن يحقّق طعن الناس على عثمان، فقال الناس: سبحان الله!(٣)

____________________

١ - مسند أحمد، ج ١، ص ٦٢.

٢ - الاستيعاب، ج ٣ ص١١٣٦.

٣ - البدء والتاريخ، ج ٥، ص ٢٠٥.

٢٦٩

أقول: ومن العجب قيام طرحة والزبير وعائشة في البصرة، قيام عمرو بن العاص في الشام، يريدون ثار لعثمان من أمير المؤمنين علي (ع). انظر عدّة روايات في قول عمرو بن العاص فيه:

الاستيعاب: فلما ولّى عثمان عبد الله بن سعد مصر وعزل عنها عمرو بن العاص، جعل عمرو يطعن على عثمان أيضاً ويُؤلّب عليه ويسعى في إفساد أمره، فلمّا بلغه قتل عثمان وكان معتزلاً بفلسطين قال: إنّي إذا نكأتُ قرحة أدميتُها.(١)

الطبقات: عن علقمة قال عمرو بن العاص لعثمان وهو على المنبر: يا عثمان! إنّك قد ركبت بهذه الأمّة نهابير من الأمر فتُب وليتوبوا معك، قال فحوّل وجهه إلى القبلة، فرفع يديه فقال: اللّهمّ إنّي أستغفرك وأتوب إليك، ورفع الناس أيديهم.(٢)

ويروي أيضاً عن سعد قريباً منها.

تاريخ الطبري: فخرج عمرو من عند عثمان وهو محتقد عليه يأتي علياً مرّة فيُؤلبه على عثمان، ويأتي الزبير مرّة فيُؤلبه على عثمان، ويأتي طلحة مرة فيُؤلّبه على عثمان، ويعترض الحاجّ فيُخبرهم بما أحدث عثمان، فلمّا كان حُضر عثمان ؛ الأوّل خرج من المدينة حتى انتهى إلى أرض له بفلسطين حتى مرّ به راكب آخر فناداه عمرو: ما فُعل بالرجل؟ يعني عثمان. قال: قُتل. قال: أنا أبو عبد الله، إذا حككتُ قرحة نكأتها إن كنت لأحرض عليه حتى أنّي لأحرّض الراعي في غنمه في رأس الجبل، فقال له سلامة بن روح: يا معشر قريش: إنّه كان بينكم وبين العرب باب وثيق فكسرتموه، فما حَمَلكم على ذلك؟ فقال: أردنا أن نُخرج الحقّ من حافرة الباطل، وأن يكون الناس في الحقّ شُرعاً سواء.(٣)

____________________

١ - الاستيعاب، ج ٣، ص ٩١٩.

٢ - الطبقات، ج ٣، ص ٦٩.

٣ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٠٨.

٢٧٠

البدء والتاريخ: وانتقضت الإسكندرية في أيام عثمان فافتتحها عمرو بن العاص وبعث بسبيها إلى المدينة، فردّهم عثمان إلى ذمتهم لأنّهم كانوا صلحاً، ولأنّ الذريّة لم تنقض العهد، فهذا بدو الشر بين عثمان وعمرو، فانتزعه من مصر، وأمّر عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخاه لأمّة.(١)

احتقد عليه: أمسك عداوته، يتربّص الفرصة. والتأليب: التجمع والفساد.

( وأما معونة علي (ع) في قتله )

الاستيعاب: عن أبي جعفر الأنصاري قال: دخلت المسجد فإذا رجل جالس في نحو عشرة عليه عمامة سوداء، فقال: ويحك ما وراءك؟ قلت قد والله فُرغ من الرجل ( يريد عثمان )! فقال: تبّاً لكم آخر الدهر! فنظرت فإذا هو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.(٢)

العقد الفريد: وقال عليّ لابنيه: كيف قُتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ورفع يده فلطم الحسين وضرب صدر الحسن وشتم محمّد بن طلحة، ولعن عبد الله بن الزبير، ثمّ خرج عليّ وهو غضبان يرى أنّ طلحة أعان عليه، فلقيه طلحة فقال: مالك يا أبا الحسن ضربت الحسن والحسين؟ فقال:عليك وعليهما لعنة الله، يُقتل أمير المؤمنين ورجل من أصحاب النبيّ (ص) بدريّ، ولم تُقم بيّنة ولا حجّة؟! فقال طلحة: لو دفع مروان لم يُقتل.(٣)

ويروي: قال عليّ بن أبي طالب على المنبر: واللهّ لئن لم يَدْخل الجنة إلاّ مَن قتل عثمان لا دخلتُها أبدَاً، ولئن لم يَدخل النارَ إلاّ مَن قتل عثمان لا دخلتُها أبداً.(٤)

أقول: راجع في تأييد هذا الفصل الفصول الآتية.

الطبقات: عن عمرو بن الأصم قال: كنت فيمن أرسلوا من جيش ذي

____________________

١ - البدء والتاريخ، ج ٥، ص ١٩٨.

٢ - الاستيعاب، ج ٣، ص ١٠٤٧.

٣ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٢٩١.

٤ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٠٢.

٢٧١

خُشب، قال: فقالوا لنا سلوا أصحاب رسول الله (ص) واجعلوا آخر من تسألون علياً، أنُقدم؟ قال فسألناهم فقالوا: أقدِموا، إلاّ علياً قال: لا آمركم، فإن أبيتم، فبيض فليُفرخ.(١)

ويروي أيضاً: بعث عثمان إلى عليّ يدعوه وهو محصور في الدار، فأراد أن يأتيه فتعلّقوا به ومنعوه، قال: فحلّ عمامة سوداء على رأسه وقال: هذا، أو قال: اللّهم لا أرضى قتله ولا آمر به، والله لا أرضى قتله ولا آمر به.(٢)

مستدرك الحاكم: عن قيس بن عباد قال: شهدت علياً (رض) يوم الجمل وأنكرت نفسي، وأرادوني على البيعة فقلت: والله إنّي لأستحيي من الله أن أبايع قوما قتلوا رجلاً الحديث.(٣)

قال الحاكم: قد ذكرت الأخبار المسانيد في هذا الباب في كتاب مقتل عثمان، فلم أستحسن ذكرها عن آخرها في هذا الموضع ؛ فإنّ في هذا القدر كفاية، فأمّا الذي ادعته المبتدعة من معونة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب على قتله فإنّه كذب وزور، فقد تواترت الأخبار بخلافه.

ويروي: عن ميمون بن مهران: أنّ عليّ بن أبي طالب (رض) قال: ما يسرّني أن أخذت سيفي في قتل عثمان وأنّ لي الدنيا ما فيها.(٤)

أقول: ما يستفاد من هذه الروايات ونظائرها - وهو أنّ علياً لم يكن يرضى بقتل عثمان، بل كان مخالفاً ومانعاً ومنكراً.

( مشاورة عثمان مع عماله )

تاريخ الطبري: فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان والى عبد الله بن

____________________

١ - الطبقات، ج ٣، ص ٦٥.

٢ - الطبقات، ص ٦٨.

٣ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٠٣.

٤ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٠٥.

٢٧٢

سعد بن أبي سرح وإلى سعيد بن العاص بن وائل السهمي والى عبد الله بن عامر ( ولم يزل والياً لعثمان على البصرة وكان ابن عّمته - الاستيعاب )، فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طُلب إليه وما بلغه عنهم، فلمّا اجتمعوا عنده قال لهم: إنّ لكلّ امريء وزراء ونصحاء، وإنّكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما قد رأيتم، وطلبوا إليّ أن أعزل عمّا لي، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبّون، فاجتهدوا رأيكم وأشيروا عليّ! فقال له عبد الله بن عامر: رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، وأن تجمرهم في المغازي حتى يذلّوا لك، فلا تكون همّة أحدهم إلاّ نفسه وما هو في من دبرة دابته وقمل فروه.

ثمّ أقبل عثمان على سعيد بن العاص فقال: ما رأيك؟ قال يا أمير المؤمنين إن كنت تريد رأينا فاحسم عنك الداء وأقطع عنك الذي تخاف واعمل برأيي تُصيب، قال: وما هو؟ قال: إنّ لكلّ قوم قادة متى يهلك يتفرّقوا ولا يجتمع لهم أمر، فقال عثمان: إنّ هذا الرأي لولا ما فيه.

ثمّ أقبل على معاوية فقال: ما رأيك؟ قال: أرى لك يا أمير المؤمنين أن تردّ عمّالك على الكفاية لما قِبلهم، وأنا ضامن لك قِبلي. ثمّ أقبل على عبد الله بن سعد فقال: ما رأيك؟ قال: أرى يا أمير المؤمنين أنّ الناس أهل طمع فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم.

ثمّ أقبل على عمرو بن العاص فقال له: ما رأيك؟ قال: أرى أنّك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعتدل، فإن أبيت فاعتزم أن تعتزل، فأن أبيت فاعتزم عزماً وامض قُدما. فقال عثمان: ما لك قَمُل فروك، أهذا الجد منك؟! فأسكت عنه دهراً حتى إذا تفرّق القوم، قال عمرو: لا والله يا أمير المؤمنين، لأنت أعز عليّ من ذلك، ولكن قد علمت أن سيبلغ الناس قول كلّ رجل منّا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود إليك خيراً أو أدفع عنك شراً.(١)

ويروي: قريباً من هذه الأقوال، وفيه فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم وأمرهم

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ٩٤.

٢٧٣

بالتضييق على من قِبلهم وأمرهم بتجمير الناس في البعوث وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه، ورد سعيد بن العاص أميراً على الكوفة، فخرج أهل الكوفة عليه بالسلاح فتلقّوه فردّوه، وقالوا: لا والله لا يلي علينا حكماً ما حملنا سيوفنا.(١) (التجمير = الجمع)

أقول: وفي هذه الكلمات اعتبارات لمن اعتبر.

١ - ينبغي أن يُلفت النظر إلى ولاته وعماله، بل ووزرائه ونصحائه، وأن يُحقّق في سوابقهم ولواحق حالاتهم وأعمالهم.

٢ - إرجاع البصر والنظر إلى هذه الكلمات المتخالفة والأقوال السخيفة والآراء الباطلة المخالفة للحق والبعيدة عن الحقيقة في حق الرعية المسلمين من الصحابة والتابعين.

٣ - اتباع الخليفة من آرائهم الباطلة وأمرهم بالتضييق والتجمير في البعوث وتحريم أعطياتهم حتى يطيعوه ويحتاجوا إليه، فهل ينبغي ممن يدّعي خلافة الرسول (ص) أن يعمل هكذا.

٤ - العجب من هؤلاء النصحاء ووزرائه المسلمين، حيث لم يتكلموا بكلمة تُرضي الله ورسوله، ولم ينصحوا بما هو خير وصلاح له وللمسلمين، ولم يتوجهوا إلى واجب وظيفتهم في مقام النصيحة! ونتعجّب كثيراً من عثمان حيث شاور هؤلاء الخائنين الفسّاق، وترك مشاورة أفاضل الصحابة وأتقيائهم الصالحين المؤتمنين.

الاستصحاب: عبد الله بن سعد بن أبي السرح أسلم قبل الفتح ثم ارتد مشركاً وصار إلى قريش بمكة، فقال لهم: إني كنت أصرف محمداً حيث أريد، فلما كان يوم الفتح أمر رسول الله (ص) بقتله ولو وُجد تحت أستار الكعبة، ففرّ عبد الله إلى عثمان وكان أخاه من الرضاعة، فغيّبه عثمان حتى أتى به رسول الله (ص) بعد ما اطمأنّ أهل مكة فاستأمنه له فصمت رسول الله (ص) طويلاً

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ٩٥.

٢٧٤

ثم قال: نعم. فلما انصرف عثمان قال رسول الله (ص) لمن حوله: ما صمتُّ إلاّ ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه. ثم ولاه عثمان بعد ذلك مصر وعزل عنها عمرو بن العاص. وكان ذلك بدء الشر بين عثمان وعمرو بن العاص انتهى ملخصاً.(١)

____________________

١ - الاستيعاب، ج ٣، ص ٩١٨.

٢٧٥

فتنة:

الأحداث في عهد عثمان

الملل والنحل: أن أقاربه قد ركبوا نهابرَ فركَبَتْه وجاروا فجير عليه. ووقعت اختلافات كثيرة وأخذوا عليه أحداثاً كلها محالة على بني أمية: منها: ردة الحكم بن أمية إلى المدينة بعد أن طرده النبي (عليه السلام) وكان يسمَّى طريد رسول الله وبعد أن تشفّع إلى أبي بكر وعمر أيام خلافتهما فما أجابا إلى ذلك، ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخاً. ومنها: نفيه أبا ذرّ إلى الربذة. وتزويجه مروان بن الحكم بنته وتسليمه خُمس غنائم إفريقيَّة له وقد بلغت مئتي ألف دينار. ومنها: إيواؤه عبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد أن أهدر النبي (عليه السلام) دمه. وتوليته عبد الله بن عامر البصرة حتى أحدث فيها ما أحدث. إلى غير ذلك مما نقموا عليه. وكان أمراء جنوده معاوية بن أبي سفيان عامل الشام، وسعد بن أبي وقاص عامل الكوفة، وبعده الوليد بن عقبة، وعبد الله بن عامر عامل البصرة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح عامل مصر، وكلهم خذلوه ورفضوه حتى أتى قدره عليه.(١)

الفائق: عثمان أرسلت إليه أم سلمة: يا بُني ما لي أرى رعيتك عنك مزوّرين وعن جنابك نافرين، لا تُعفِّ سبيلاً كان رسول الله (ص) لحَبها، ولا تقدح بزند كان أكباها. توخّ حيث توخّى صاحباك، فإنهما ثكما الأمر ثكماً ولم يظلماه.(٢)

قالالزمخشري : ازورّ عنه: إذا عدل وأعرض. والتعفية: الطمس. ولحَبها: نفى

____________________

١ - الملل والنحل، ج ١، ص ١٨.

٢ - الفائق ج ١، ص ٥٤٩.

٢٧٦

عنها كل لبس وكشف كل عماية. وأكباها: عطلها من القدح بها. ثكمتُ الطريق: لزمته. ولم يظلماه: لم ينقصاه ولا زادا عليه.

ويروي أيضاً: أن سعداً وعماراً أرسلا إلى عثمان أن ائتنا فإنا نريد أن نذاكرك أشياء أحدثتها، فأرسل إليهما: ميعادكم يوم كذا حتى أتشزّن ثم اجتمعوا للميعاد، فقالوا: ننقم عليك ضربك عماراً، فقال: تناوله رسولي من غير أمري، فهذه يدي لعمار فليصطبر، وذكروا بعد ذلك أشياء نقموها، فأجابهم وانصرفوا راضين، فأصابوا كتاباً منه إلى عامله أن خذ فلاناً وفلاناً وفلاناً فضرب أعناقهم، فرجعوا فبدءوا بعلي (عليه السلام) فجاءوا به معهم فقالوا: هذا كتابك؟ فقال عثمان: والله ما كتبت ولا أمرت، قالوا: فمن تضنّ؟ قال أظن كاتبي، وأظن به يا فلان.(١)

قالالزمخشري : التشزن هو الاستعداد. فهذه يدي لعمار: يريد الانقياد. والصبر: القصاص.

تاريخ الطبري: فدخل عليّ بن أبي طالب على عثمان، فقال: الناس ورائي وقد كلموني فيك. والله، ما أدري ما أقول لك وما أعرف شيئاً تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه. إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنُخبرك عنه وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وضُل به فأمات سنة معلومة وأحيا بدعة متروكة. وإني سمعت رسول الله (ص) يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم فيدور في جهنم كما تدور الرحى ثم يرتطم في غمرة جهنم، وإني أحذّرك الله وأحذّرك سطوته ونقماته فإن عذابه شديد أليم قال علي (ع): سأخبرك أن عمر بن الخطاب كان كل من ولّى فإنما يَطأ على صماخه إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية، وأنت لا تفعل ضعفت ورفقت على أقربائك، قال عثمان: هم أقرباؤك أيضاً! فقال عليّ: لعمري أن رحمهم مني لقريبة ولكنّ الفضل في غيرهم. قال عثمان: هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها فقد وليته! فقال علي: أنشدك الله هل تعلم أنّ

____________________

١ - الفائق، ج ١، ص ٦٥٦.

٢٧٧

معاوية كان أخوف من عمر من يرفا غلام عمر منه؟ قال: نعم. قال عليّ: فإن معاوية يقتطع الأمور دونك وأنت تعلمها فيقول للناس: هذا أمر عثمان! فيبلغك ولا تُغير على معاوية!(١)

أقول: يظهر من هذه الكلمات أن أمر عثمان قد شاع بين الناس، وهم بين ناصح وشاتم ومبارز، ولا يُرى من علي (ع) إلا أنه كان من الناصحين له والمدافعين عنه والناهين عن قتاله، ومع هذا ترى جماعة من الشاتمين والمبارزين والمحركين ينسبون إليه القتل ويتّهمونه به، وأكثر المخالفين في الجمل وصفين من هؤلاء الأفراد.

ويروي الطبري: فقالت عائشة: يا بن عباس، أنشدك الله - فإنك قد أُعطيت لساناً إزعيلاً - أن تخذل عن هذا الرجل، وأن تشكك فيه الناس، فقد بانت لهم بصائرهم وأنهجت، ورفعت لهم المنار، و تحلّبوا من البلدان لأمر قد حم‏.(٢)

البدء والتاريخ: أن الناس نقموا عليه أشياء فمن ذلك كلفه بأقاربه كما قاله عمر، فآوى الحكم بن أبي العاص طريد رسول الله (ص) وكان سيّره إلى بطن وج. ولأنه كان يُفشي سرّ رسول الله ويُطلع الناس عليه. ومنها: أنه أقطع الحارث بن الحكم مهرقته موضع شرقي المدينة، وكان النبي (ص) لما قدم إلى المدينة ووصل إلى ذلك الموضع ضرب برجله وقال: هذا مُصلانا ومُستمطرنا ومخرجنا لأضحانا وفطرنا فلا تنقضوها ولا تأخذوا عليها كِرى، لعن الله من نقض من بعض سوقنا شيئاً. ومنها: أنه أقطع مروان بن الحكم فدك قرية صدقة رسول الله (ص)، وأعطاه خُمس الغنائم من إفريقيّة. ومنها: أنه أعطى عبد الله بن خالد بن أسيد أربعمئة ألف درهم وأعطى الحكم بن أبي العاص مئة ألف درهم. ومنها: أن عبيد الله بن عمر قتل الهرمزان بأبيه عمر وقتل ابنين لأبي لؤلؤة فلم يُقدِه. ومنها: أنه عزل عمال عمر وولى بني أمية وانتزع عمرو بن العاص عن مصر واستعمل عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وانتزع سعد بن أبي وقاص

____________________

١ - تاريخ الطري، ج ٥، ص ٣٣.

٢ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٤٠.

٢٧٨

عن الكوفة واستعمل الفاسق الوليد بن العقبة بن أبي معيط، وهو أخوه لأمه، فوقع في الخمر فشربها، ويصلي الصلاة لغير وقتها، فصلى بالناس يوماً الفجر أربعاً، وهو ثَمِل!! فلمَّا انصرف قال: أزيدكم فإني نشيط؟! فشغب الناس وحصبوه، فلما شكاه الناس عزله واستعمل عليهم شراً منه: سعيد بن العاص، فقدم رجل عظيم الكبر شديد العجب، وهو أول من وضع العُشور على الجُسور والقناطر. ومنها: أن ابن أبي سرح قتل سبعمئة رجل بدم رجل واحد فأمر بعزله ولم يُنكر عليه. ومنها: أنه جعل الحروف كلها حرفاً واحداً وأكره الناس على مصحفه. ومنها: أنه سيّر عامر بن عبد قيس من البصرة إلى الشام لتنزهه عن أعماله. وسيّر أبا ذر الغفاري إلى الربذة، وذلك أن معاوية شكاه أنه يطعن عليه، فدعاه واستعتبه ولم يُعتب، فسيره إلى الربذة وبها مات. ومنها: أنه تزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية فأعطاها مئة ألف من بيت المال، وأخذ سفطاً فيه حلي فأعطاه بعض نسائه، واستسلف من بيت المال خمسة آلاف درهم، وكان اشترط عليه عند البيعة أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله وبسيرة الشيخين فسار بها ستّ سنين ثم تغيّر كما ذكر فتكلم الناس في ذلك وأظهروا الطعن، فخطب عثمان وقال: هذا مال الله أعطيه من أشاء وأمنعه من أشاء فأرغم الله أنف من رغم أنفه!! فقام عمار بن ياسر فقال: أنا أول من رغم أنفه من ذلك. فقال له عثمان: لقد اجترأت عليّ يا ابن سمية فوثب بنو أمية على عمار فضربوه حتى غُشي عليه، فقال: ما هذا بأول ما أوذيت في الله. وضرب عبد الله بن مسعود في مخالفته قراءته.(١)

أقول: يكفي واحد من هذه الأحداث في انصراف الناس عنه ومخالفتهم له ونقضهم بيعته، فكيف بهذه الأعمال المختلفة والأحداث الكثيرة، التي يتبرّأ منها كل مسلم حرّ.

فإذا كان أمير المسلمين يعمل بهذه الأعمال الجائرة فإلى أين ينتهي جريان

____________________

١ - البدء والتاريخ، ج٥، ص ١٩٩.

٢٧٩

أمور الملة وكيف تكون عواقب أمورهم؟ ولا يبعد أن يقال: إن الحكومة الأموية والجنايات الواقعة في تلك الدولة، نتيجة هذه الأحداث.

(تجري الناس عليه)

فأول نتيجة أنتجت هذه الأحداث اختلاف الملة الإسلامية ونقضهم بيعة عثمان وقيامهم على خلافه.

العقد الفريد: لما أنكر الناس على عثمان ما أنكروا من تأمير الأحداث من أهل بيته على الجُلة الأكابر من أصحاب محمد (ص) قالوا لعبد الرحمن بن عوف: هذا عملك واختيارك لأمة محمد! قال: لم أظن هذا به. ودخل على عثمان فقال له: إني إنما قدّمتك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر وقد خالفتها. فقال: عمر كان يقطع قرابته في الله وأنا أصل قرابتي في الله! فقال له: لله عليّ أن لا أكلمك أبداً. فمات عبد الرحمن وهو لا يكلم عثمان.(١)

أقول : هذا أول من وافق خلافة عثمان وحكم بها، وهو يقول: إنما قدمتك لتسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر. وقد سبق في فصل (فتنة أمر الشورى) أن عبد الرحمن قال له: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده، قال عثمان: نعم. فبايعه. فالتزم عثمان وتعهد في الله أن يعمل بالكتاب والسنة وسيرة الخليفتين، وأنت ترى هذه الأحداث المخالفة التي لا تطابق قرآناً ولا سنة.

والعجب من قوله: (وأنا أصل قرابتي في الله) وهذا الكلام منه في غاية البعد، وإنه نظير من يُنفق من مال مغصوب ويدّعي أنه من المنفقين المحسنين.

العقد الفريد: ثم فك محمد الكتاب بمحضر منهم، فإذا فيه: إذا جاءك محمد وفلان وفلان فاحتل لقتلهم وأبطل كتابهم وقِرّ على عملك حتى يأتيك رأيي،

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٠٨.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495