الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام8%

الحقائق في تاريخ الاسلام مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 495

الحقائق في تاريخ الاسلام
  • البداية
  • السابق
  • 495 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193375 / تحميل: 7471
الحجم الحجم الحجم
الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

جملي هذا. قال: ومم ذلك؟ قلت: ما طلبت عليه أحد قط إلا أدركته ولا طلبني وأنا عليه أحد قط إلا فُتّه. قال: لو تعلم لمن نُريده لأحسنت بيعنا فرجعت فأعطوني ناقة لها مهرية وزادوني أربعمئة أو ستمئة درهم، فقال لي: يا أخا عُرينه هل لك دلالة بالطريق؟ قال قلت: نعم ؛ أنا من أدرك الناس، قال: فسِر معنا، فسِرت معهم فلا أمرّ على واد ولا ماء إلا سألوني عنه، حتى طرقنا ماء الحوأب فنبحتنا كلابها، قالوا: أيّ ماء هذا؟ قلت: ماء الحوأب، قال: فصرخت عائشة بأعلى صوتها ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته ثم قالت: أنا والله صاحبة كلاب الحوأب طُروقاً! رُدوني! تقول ذك ثلاثاً، فأناخت وأناخوا حولها، وهم على ذلك وهي تأبى، حتى كانت الساعة التي أناخوا فيها من الغد، قال: فجاءها ابن الزبير فقال: النجاء النجاء فقد أدرككم والله علي بن أبي طالب، قال: فارتحلوا وشتموني فانصرفت فما سِرت إلا قليلاً وإذا أنا بعليّ وركب معه نحو من ثلاثمئة، فقال لي عليّ: يا أيها الراكب فأتيته، فقال: أين أتيت الظعينة؟ قلت: في مكان كذا وكذا، وهذه ناقتها وبِعتُهم جملي.(١)

أقول: في هذه الكلمات موارد للنظر:

١ - قوله: (أن لا تكوني أنت هي، فقد كان رسول الله (ص) نهاني، كيف بإحداكن إذا نبحتها كلاب الحوأب، أنا والله صاحبة كلاب الحوأب طروقاً، ردوني) تدل هذه الجملات على نهيه الشديد عن هذا المسير وهذه الفتنة.

٢ - قوله: (تطلبين أمراً أنت عنه بمعزل) تدل على مباشرتها أمراً يخرج عن وظيفتها ولا يصلح لها.

٣ - (حتى جمع خمسين شيخاً قسامة فشهدوا أنه ليس بالماء الذي نُهيت عنه) إذا كان من شأن القوم أن لا يُبالوا من خلاف الرسول ومن الاستشهاد فِرية في إنفاذ ما استهووا فكيف يتوقع منهم التولي والاتباع لأمير المؤمنين (ع). ويقول فيالإمامة والسياسة : وأتاها ببينة زور من الأعراب فشهدوا بذلك فزعموا أنها أول

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٧٠.

٣٢١

شهادة زور في الإسلام.(١)

٤ - (ما أشبهه بأخيه.. (قالت رسول الله (ص)) اعترفت بأنه أخو رسول الله (ص).

مسيرها وخروجها

قال الله تعالى:( يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذي في‏ قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ في‏ بُيُوتِكُن‏ ... ) الآية.(٢)

الطبقات: وكان عبد الرحمن بن الحارث قد شهد الجمل مع عائشة وكانت عائشة تقول: لأن أكون قعدت في منزلي عن مسيري إلى البصرة أحب إليّ من أن يكون لي من رسول الله عشرة من الولد كلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث.(٣)

ويروي أيضاً: حدثني من سمع عائشة، إذا قرأت هذه الآية( وَقَرْنَ في‏ بُيُوتِكُن ) بكت حتى تبل خمارها.(٤)

أنساب الأشراف: عن أبي يزيد المدني: أن عماراً قال لعائشة يوم الجمل بعد ما فرغ الناس من القتال: سبحان الله يا أم المؤمنين! ما أبعد هذا الأمر من الأمر الذي عهد رسول الله (ص) إليك، فيه أمرك أن تقرّي في بيتك! فقالت: من هذا أبو اليقظان؟ قال: نعم. قالت: والله، إنك ما علمت تقول الحق، فقال: الحمد لله الذي قضى لي على لسانك.(٥)

وفيتاريخ الطبري: ما يقرب منها.(٦)

المحاسن للبيهقي: عن الحسن البصري، أن الأحنف بن قيس قال لعائشة يوم الجمل: يا أم المؤمنين، هل عهد عليك رسول الله (ص) هذا المسير؟ قالت: اللَّهُم

____________________

١ - الإمامة والسياسة، ص ٥٦.

٢ - الأحزاب: ٣٢.

٣ - الطبقات، ج ٥، ص ٦.

٤ - الطبقات، ج ٨، ص ٨١.

٥ - أنساب الأشراف، ج ١، ص ٨١.

٦ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ٢٢٥.

٣٢٢

لا. قال: فهل وجدته في شيء من كتاب الله جَلَّ ذكره؟ قالت: ما نقرأ إلا ما تقرءون، قال: فهل رأيت رسول الله (ص) استعان بشيء من نسائه إذا كان في قلة والمشركون في كثرة؟ قالت: اللهم لا. قال الأحنف: فإذاً ما هو ذنبنا؟!(١)

ويروي أيضاً: عن عائشة أنها دخلت على أم سلمة بعد رجوعها من وقعة الجمل وقد كانت أم سلمة حلفت أن لا تُكلمها أبداً من أجل مسيرها إلى محاربة عليّ بن أبي طالب، فقالت عائشة: السلام عليك يا أم المؤمنين! فقالت: يا حائط! ألم أنهكِ؟ ألم أقل لكِ؟ قالت عائشة: فإني استغفر الله وأتوب إليه، كلّميني يا أم المؤمنين! قالت: يا حائط! ألم أقل لك؟ ألم أنهك؟ فلم تكلمها حتى ماتت. وقامت عائشة وهي تبكي وتقول: وا أسفاه على ما فرط منّي.(٢)

ويروي أيضاً عن جميع: قلت لعائشة حدثنينا عن عليّ رضي الله عنه، قالت: تسألني عن رجل سالت نفسُ رسول الله (ص) في يده ووليّ غسله وتغميضه وإدخاله قبره. قلت: فما حملكِ على ما كان منك؟ فأرسلت خمارها على وجهها وبكت وقالت: أمر كان قُضي عليَّ.(٣)

تاريخ الطبري: وأقبل جارية بن قدامة السعدي فقال: يا أم المؤمنين، والله لقتل عثمان بن عفّان أهونُ من خروجكِ من بيتك على هذا الجمل الملعون عُرضة للسلاح، إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكتِ سترك وأبحتِ حرمتك، إنه من رأى قتالك فإنه يرى قتلك، إن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك وإن كنتِ أتيتنا مستكرهة فاستعيني بالناس. قال: فخرج غلام شاب من بني سعد إلى طلحة والزبير فقال: أما أنت يا زبير فحواري رسول الله (ص)، وأما أنت يا طلحة فوقيت رسول الله (ص) بيدك، وأرى أمكما معكما، فهل جئتما بنسائكما؟ قالا: لا، قال: فما أنا منكما في شيء واعتزل. وقال السعدي في ذلك:

____________________

١ - المحاسن للبيهقي، ص ٤٩.

٢ - نفس المصدر، ص ٢٩٧.

٣ - نفس المصدر، ص ٢٩٨.

٣٢٣

صُنتم حلائلكم وقُدتم أمكم

هذا لمعمرك قلةُ الإنصاف

أمرت بجر ذيولها في بيتها

فهوت تشقّ البيد بالإيجاف(١)

ويروي أيضاً: قال زيد بن صوحان: رحم الله أم المؤمنين أمرت أن تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل، فتركت ما أمرت به وأمرتنا به، وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه.(٢)

أقول: في هذه الروايات موارد للنظر والتحقيق:

١ - اعترفت عائشة بأن رسول الله (ص) ما استعان بشيء من نسائه، ولا عهد عليها رسول الله هذا المسير، ولا وجدته في شيء من كتاب الله تعالى.

٢ - يدل قولها: (لأن أكون قعدت في منزلي، بكت حتى تبلّ خمارها، وا أسفاه على ما فرط مني) على شدة ندامتها ونهاية تأثرها.

٣ - يستكشف أن رسول الله (ص) عهد عليها أن تقرّ في بيتها، وقد صرّحت الآية الكريمة( وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ ) بلزوم قرارها في البيت وعدم جواز الخروج منها.

٤ - أنها هتكت حرمة رسول الله (ص) بخروجها.

٥ - أنها استغفرت وتابت ومع هذا فلم تكلمها أم سلمة.

ثم أنها تولّت وكانت خطيبة القوم وهم لها تبع، مع أن رسول الله (ص) قد نهى عن تولي النساء واستخلافهن.

الاستيعاب: عن ابن عباس، قال رسول الله (ص): أيتكنّ صاحبة الجمل الأدبب، يقتل حولها قتلى كثير وتنجو بعد ما كادت. وهذا الحديث من أعلام نبوته.(٣)

مستدرك الحاكم: قال علقمة: لما خرج طلحة والزبير وعائشة تطلب دم عثمان، كانت عائشة خطيبة القوم بها وهم لها تبع.(٤)

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٧٦.

٢ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٨٤.

٣ - الاستيعاب، ج ٤، ص ١٨٨٥.

٤ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١١٨.

٣٢٤

ويروي عن أبي بكرة قال: عصمني الله بشيء من سمعته من رسول الله (ص) لما هلك كسرى، قال: من استخلفوا؟ قالوا: ابنته، قال: فقال: لن يُفلح قوم ولوا امرأة، قال، فلما قدمت عائشة ذكرت قول رسول الله (ص)، فعصمني الله به.

ويروي عن عائشة قالت: وددت أني كنت ثكلت عشرة مثل الحارث بن هشام، وإني لم أسرِ مسيري مع ابن الزبير.(١)

سنن الترمذي: عن أبي بكرة.. كما في المستدرك.(٢)

أقول: في هذه الرواية نهي شديد ومنع أكيد عن تولية النساء، وقد صرّح رسول الله (ص): بأن قوماً ولوا امرأة لن يُفلحوا، ففيها دلالة على خلاف طلحة والزبير وعدم انتهائهم بهذا النهي الصادر من رسول الله (ص)، حيث جعلوا خطيبة القوم وداعية إلى الخلاف، والقوم لها تبع.

الاستيعاب: قالت عائشة: إذا مر ابن عمر فأرونيه! فلما مر ابن عمر قالوا: هذا ابن عمر! قالت: يا أبا عبد الرحمن، ما منعك أن تنهاني عن مسيري؟ قال: رأيت رجلاً قد غلب عليك وظننت أنك لا تخالفينه، يعني ابن الزبير. قالت: أما أنك لو نهيتني ما خرجت.(٣)

أقول: ابن الزبير هو عبد الله بن الزبير، وأمه أسماء بنت أبي بكر، فعائشة تكون خالة ابن الزبير، قال علي (ع): ما زال الزبير يُعدّ منا أهل البيت حتى نشأ عبد الله.(٤)

العقد الفريد: دخل المغيرة بن شعبة على عائشة فقالت: يا أبا عبد الله لو رأيتني يوم الجمل وقد نفذت النصال هودجي حتى وصل بعضها إلى جلدي. قال المغيرة: وددت والله أن بعضها كان قتلك. قالت: يرحمك الله ولم تقول هذا؟

____________________

١ - نفس المصدر، ص ١١٩.

٢ - سنن الترمذي، ص ٣٣٠.

٣ - الاستيعاب ج ٣، ص ٩١٠.

٤ - نفس المصدر، ص ٩٠٦.

٣٢٥

قال: لعلها تكون كفارة في سعيك على عثمان. قالت: أما والله لئن قلت ذلك لما علم الله أني أردت قتله، ولكن علم الله أني أردت أن يُقاتل فقوتلت، وأردت أن يُرمى فرُميت، وأردت أن يُعصى فعُصيت، ولو علم أني أردت قتله لقُتلت.(١)

الإمامة والسياسة: وأتى محمد بن أبي بكر فدخل على أخته عائشة قال لها: أما سمعت رسول الله (ص) يقول: عليّ مع الحق والحق مع علي؟ ثم خرجتِ تُقاتلينه بدم عثمان، ثم دخل عليهما عليّ فسلم، وقال: يا صاحبة الهودج قد أمركِ الله أن تقعدي في بيتك ثم خرجتِ تُقاتلين، أترتحلي؟ قالت: أرتحل. فبعث معها علي (رض) أربعين امرأة.(٢)

العقد الفريد: لما كان يوم الجمل ما كان وظفر عليّ بن أبي طالب، دنا من هودج عائشة، فكلمها بكلام. فأجابته: ملكت فأسجع. فجهّزها عليّ بأحسن الجهاز وبعث معها أربعين امرأة، وقال بعضهم سبعين امرأة - حتى قدمت المدينة.(٣)

أقول: يستفاد من هذه الأحاديث أمور:

١ - أنها أرادت أن يُقاتَل عثمان وأن يُعصى وأن يُرمى.

٢ - أنها سمعت من رسول الله (ص): عليّ مع الحق والحقّ مع عليّ.

٣ - قد أمرها الله أن تقعد في بيتها:( وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ ) .

٤ - أنها خرجت تقاتل علياً، وقال رسول الله (ص): اللَّهُم عادِ من عاداه.

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٢٩٦.

٢ - الإمامة والسياسة، ج ١، ص ٦٨.

٣ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٢٨.

٣٢٦

فتنة:

الجمل في زمان أمير المؤمنين (ع)

الملل والنحل: الخلاف العاشر في زمان أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له، فأول خروج، خروج طلحة والزبير إلى مكة ثم حمل عائشة إلى البصرة، ثم نصب القتال معه، ويعرف ذلك بحرب الجمل، والحق أنهما رجعا وتابا إذ ذكرهما أمرا فتذكرا، فأما الزبير فقتله ابن جرموز وقت الانصراف وهو في النار، لقول النبي (ص):بشِّر قاتل ابن صفية بالنار . وأما طلحة فرماه مروان بن الحكم بسهم وقت الإعراض فخرّ ميتاً. وأما عائشة وكانت محمولة على ما فعلت ثم تابت بعد ذلك ورجعت.(١)

تاريخ الطبري: ولما رجع ابن عباس إلى عليّ بالخبر دعا الحسن بن عليّ فأرسله، فأرسل معه عمار بن ياسر، فقال له: انطلق فأصلح ما أفسدت، فأقبلا حتى دخلا المسجد (في الكوفة) فكان فخرج أبو موسى فلقي الحسن فضمه إليه، وأقبل على عمار فقال: يا أبا اليقظان، أعدوت فيمن عدا على أمير المؤمنين فأحللت نفسك مع الفجار، فقال: لم أفعل ولم تسؤني، وقطع عليهما الحسن فأقبل على أبي موسى فقال: يا أبا موسى، لِمَ تُثبّط الناس عنّا فوالله ما أردنا إلا الإصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يُخاف على شي، فقال: صدقت بأبي أنت وأمي ولكن المستشار مؤتمن، سمعت رسول الله (ص) يقول:أنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الراكب .(٢)

أقول: قلنا إن هذه الرواية ناظرة إلى مورد الاشتباه والفتنة، وأما في هذا المقام فالتكليف فيها واضحة متعين ؛ حيث إن الدعوة صادرة من أمير المؤمنين

____________________

١ - الملل والنحل، ج ١، ص ٢١.

٢ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٨٧.

٣٢٧

عليّ (ع) وهو خليفة رسول الله (ص) ظاهراً وباطناً والحق معه حيث ما دار، وكما قال الحسن سيد شباب أهل الجنة: ما أردنا إلا الإصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يُخاف على شيء.

ويروي أيضاً: وأقبل زيد على حمار حتى وقف بباب المسجد ومعه الكتابان من عائشة إليه وإلى أهل الكوفة، وقد كان طلب كتاب العامة فضمّة إلى كتابه فأقبل بهما ومعه كتاب الخاصة وكتاب العامة: أما بعد، فثبّطوا أيها الناس واجلسوا في بيوتكم إلا عن قتلة عثمان بن عفان. فلما فرغ من الكتاب قال: أمرتْ بأمر وأمرنا بأمر، أمرت أن تقر في بيتها فأمرنا أن نُقاتل حتى لا تكون فتنة. فأمرتنا بما أُمرت به وركبتْ ما أُمرنا به! فقام إليه شبث بن ربعي فقام القعقاع بن عمرو فقال: إني لكم ناصح وعليكم شفيق أحبّ أن ترشدوا ولأقولن لكم قولاً هو الحق، أما ما قال الأمير ( يريد أبا موسى ) فهو الأمر لو أن إليه سبيلاً، وأما ما قال زيد، فزيد في هذا الأمر فلا تستنصحوه فإنه لا ينتزع أحد من الفتنة طعن فيها وجرى إليها، والقول الذي هو القول إنه لابد من إمارة تنظم الناس وتزع الظالم وتُغزّ الظالم وتُعزّ المظلوم وهذا عليّ يلي بما ولى وقد أنصف في الدعاء وإنما يدعو إلى الإصلاح فانفروا وكونوا من هذا الأمر بمَرأى ومَسمع، وقال سيحان: أيها الناس، إنه لابد لهذا الأمر وهؤلاء الناس من وال يدفع الظالم ويُعز المظلوم، ويجمع الناس، وهذا واليكم يدعوكم لينظر فيما بينه وبين صاحبيه، وهو المأمون على الأمة الفقيه في الدين فمن نهض إليه فإنا سائرون معه وقام الحسن بن علي فقال: يا أيها الناس، أجيبوا دعوة أميركم وسيروا إلى إخوانكم فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لأن يليه أولوا النهي أمثل في العاجلة وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم. فسامح الناس وأجابوا ورضوا به.(١)

ويروي أيضاً: عن كُليب الجرمي قال: فانتهينا إلى عليّ فسلمنا عليه ثم

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٨٨.

٣٢٨

سألناه عن هذا الأمر، فقال: عدا الناس على هذا الرجل وأنا معتزل فقتلوه، ثم ولوني وأنا كاره، ولولا خشيتي على الدين لم أجبهم، ثم طفق هذان في النكث فأخذتُ عليهما وأخذت عهودهما عند ذلك وأذنت لهما في العمرة، فقدما على أمهما حليلة رسول الله (ص) فرضيا لها ما رغبا لنسائهما عنه، وعرضاها لما لا يحل لهما ولا يصلح، فاتبعتُهما لكيلا يفتقوا في الإسلام فتقاً ولا يخرقوا جماعة، ثم قال أصحابه: والله لا نريد قتالهم إلا أن يقاتلوا، وما خرجنا إلا لإصلاح.(١)

ويروي أيضاً: قال الأحنف: فلقيت طلحة والزبير فقلت: من تأمراني به وترضيانه لي فإني لا أرى هذا الرجل إلا مقتولاً؟ قالا: علي. قلت أتأمراني به وترضيانه لي؟ قالا: نعم. فانطلقت حتى قدمت مكة فبينا نحن بها إذا أتانا قتل عثمان، وبها عائشة أم المؤمنين، فلقيتها فقلت: من تأمرين أن أبايع؟ قالت: علي. قلت: تأمريني به وترضينه لي؟ قالت: نعم. فمررت على عليّ بالمدينة فبايعته ثم رجعت إلى أهلي بالبصرة، ولا أرى الأمر إلا قد استقام، قال: فبينا إنا كذلك إذ أتاني آت فقال: هذه عائشة وطلحة والزبير قد نزلوا جانب الخُريبة، فقلت: ما جاء بهم؟ قالوا: أرسلوا إليك يدعونك يستنصرون بك على دم عثمان، فأتاني أفظع أمر لم يأتني قط، فقلت: إنّ خذلاني هؤلاء ومعهم أم المؤمنين وحواري رسول الله (ص) لشديد، وإن قتالي رجلاً ابن عم رسول الله (ص) قد أمروني ببيعته: يا أم المؤمنين، أنشدك بالله أقلت لك من تأمريني به؟ فقلتِ: علي. فقلت: أتأمريني به؟ وترضينه لي. قتل: نعم؟ قالت: نعم ولكنه بدلّ.

فقلت: يا زبير، يا حواري رسول الله، يا طلحة، أنشدكم الله أقلت لكما: من تأمراني؟ فقلتما: علي. فقلت: أتأمراني به وترضيانه لي؟ فقلتما: نعم؟ قالا: نعم ولكنه بدلّ. فقلت والله لا أقاتلكم ومعكم أم المؤمنين وحواري رسول الله (ص)، ولا أقاتل رجلاً ابن عم رسول الله (ص) أمرتموني ببيعته.(٢)

____________________

١ - نفس المصدر السابق، ص ١٩٣.

٢ - نفس المصدر، ص ١٩٧.

٣٢٩

العقد الفريد: نظيره.(١)

أقول: في هذه الكلمات موارد للنظر والتدبر:

١ - قوله: (والحق أنهما رجعا وتابا، ثم تابت بعد ورجعت) خلافهم وعصيانهم وإفسادهم في الأرض محقق واقع، وأما توبتهم ورجوعهم وقبول توبتهم أمر محتمل الصدق والكذب، ولابد من إقامة الدليل واثبات المدعى. نعم ؛ يدل على توبة الزبير حديث: (بشر قاتل ابن صفية بالنار) إن صح الحديث. وكذا حديث(أبى الله أن يدخل طلحة الجنة إلا وبيعتي في عنقه) .

٢ - واجلسوا في بيوتكم إلا عن قَتَلة عثمان: هذا القول من عائشة في نهاية الضعف، فإن القعود عن الدفاع ومخالفة الإمام لا يوافق كتاباً ولا سنة. وأما محاربة قتلة عثمان، فإن كان المراد القتلة حقيقة: فهم لا يتجاوزون عن ثلاثة أفراد عادة. وإن أرادت منهم من أعد واستعد لقتاله: فهي والزبير وطلحة على رأسهم.

٣ - ولكنه بدلّ: هذه الكلمة من عائشة والزبير وطلحة بعد اعترافهم على مقام الخلافة والإمامة لعلي (ع) أنما وقعت في زمان خلافهم وتمرّدهم وعصيانهم ولم يأتوا بما يوجب طعناً في ولاية أمير المؤمنين (ع)، وسبق أنهم تابوا ورجعوا إلى عقيدتهم. ثم إن أهلية الإمامة ومقام الخلافة ثابتة له، وأما تبديله: فلم يثبت ويحتاج إلى الإثبات، مع أن رسول الله (ص) قال: علي مع الحق والحق مع عليّ يدور حيث ما دار، وقال: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي.

العقد الفريد: عن ابن أبزى قال: انتهى عبد الله بن بديل ( كان سيد خزاعة وكان له قدر وجلالة ) إلى عائشة وهي في الهودج، فقال: يا أم المؤمنين، أنشدك بالله أتعلمين أني أتيتك يوم قتل عثمان فقلت لك: إن عثمان قد قتل فما تأمريني به فقلت لي: الزم علياً؟ فوالله ما غيّر وما بدل! فسكتت. ثم أعاد عليها، فسكتت ؛ ثلاث مرات. فقال: أعقروا الجمل، فعقروه.(٢)

ثم يروي عن عكرمة: لما انقضى أمر الجمل دعى عليّ بن أبي طالب ...

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٢٠.

٢ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٢٨.

٣٣٠

أين ابن عباس؟ قال ابن عباس فدُعيت له من كل ناحية، فأقبلت إليه، فقال: ائتِ هذه المرأة فلترجع إلى بيتها الذي أمرها الله أن تقرّ فيه. قال: فجئت فاستأذنت عليها فلم تأذن لي، فدخلت بلا إذن ومددت يدي إلى وسادة في البيت فجلست عليها، فقالت: تالله يا ابن عباس ما رأيت مثلك تدخل بيتنا بلا إذننا وتجلس على وسادتنا بغير أمرنا. فقلت: والله ما هو بيتك، ولا بيتك إلا الذي أمرك الله أن تقرّي فيه فلم تفعلي، إن أمير المؤمنين يأمرك أن ترجعي إلى بلدك الذي خرجتِ منه.

الاستيعاب: لما خرج طلحة والزبير كتبت أم الفضل بنت الحارث إلى عليّ بخروجهم، فقال عليّ: العجب لطلحة والزبير إن الله عَزَّ وجَلَّ لما قبض رسوله (ص) قلنا: نحن أهله وأولياؤه لا ينازعنا سلطانه أحد، فأبى علينا قومنا فولوا غيرنا! وايم الله لولا مخافة الفرقة وأن يعود الكفر ويبوء الدين لغيرنا، فصبرنا على بعض الألم، ثم لم نر بحمد الله إلا خيراً، ثم وثب الناس على عثمان فقتلوه، ثم بايعوني ولم أستكره أحداً، وبايعني طلحة والزبير ولم يصبرا شهراً كاملاً حتى خرجا إلى العراق ناكثين! اللَّهُم فخذهما بفتنتهما للمسلمين.(١)

الاستيعاب: أن عثمان بن حُنيف لما كتب الكتاب بالصلح بينه وبين الزبير وطلحة وعائشة: أن يكفّوا عن الحرب ويبقى هو في دار الإمارة خليفة لعليّ على حاله حتى يقدم عليّ (رض) فيرون رأيهم. قال عثمان بن حنيف لأصحابه: ارجعوا وضعوا سلاحكم. فلما كان بعد أيام. جاء عبد الله بن الزبير في ليلة ذات ريح وظلمة وبرج شديد، ومعه جماعة من عسكرهم، فطرقوا عثمان بن حُنيف في دار الإمارة فأخذوه ثم انتهوا به إلى بيت المال فوجدوا أناساً من الزُطّ يحرسونه، فقتلوا منهم أربعين رجلاً وأرسلوا بما فعلوه من أخذ عثمان وأخذ ما في بيت المال إلى عائشة يستشيرونها في عثمان، وكان الرسول إليها أبان بن عثمان، فقالت: اقتلوا عثمان بن حُنيف! فقالت لها امرأة: ناشتدك

____________________

١ - الاستيعاب، ج ٢، ص ٤٩٧.

٣٣١

الله يا أم المؤمنين في عثمان بن حُينف وصحبته لرسول الله (ص)؟ فقالت: رُدوا أباناً، فردوه. فقالت: أحبسوه ولا تقتلوه. فقال أبان: لو أعلم أنك رددتني لهذا لم أرجع، وجاء فأخبرهم. فقال لهم مجاشع بن مسعود: اضربوه وانتفوا شعر لحيته ؛ فضربوه أربعين سوطاً ونتفوا شعر لحيته وحاجبه وأشفار عينه.(١)

أقول: انظروا في جنايات هذه الطائفة المضلة، الذين ادعوا بأنهم إنما خرجوا لإصلاح الأمة الإسلامية!

وليعلم: بأن هذه الفتن الثلاثة (خروج طلحة والزبير، خروج عائشة، حرب الجمل) مستندة إلى طلحة والزبير، وقد اتضح من روايات هذه الفتن أن خلافهما ونقض بيعتهما قد أثار هذه الفتن، بل وفتنة حكومة معاوية وحرب صفين أيضاً.

ولا يبعد أن نقول: إن مبدأ الفتن كلها ومنشأ الخلاف في المسلمين إنما تحقق في نقطتين، وهاتان النقطتان:أولاهما المنع عن وصية رسول الله (ص)،وثانيتهما نقض بيعة طلحة والزبير.

وقد قال ابن عباس في الأولى: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (ص) وبين وصيته، ويوم الخميس وما يوم الخميس. ونحن نقول في الثانية: وتمام الرزية وكمالها في يوم نقض طلحة والزبير بيعة أمير المؤمنين علي (ع). نعم، هاتان النقطتان منعتا عن بسط الحق والعدل، وأثارتا الفتن والأحداث وأشاعتا الجور والعدوان، وغيّرتا سبيل الهدى، وفي أثر هذا التغيير والتحريف ظهرت الحكومات الأموية والعباسية، فبدلوا وحرفوا وظلموا وضلوا وأضلوا.

وعلى هذا يقول عليّ (ع): إن فعلوا هذا فقد انقطع نظام المسلمين. ويقول: إنها فتنة كالنار كلما سُعّرت ازدادت. ويقول: أتُريد أن أكون مثل الضبع التي يحاط بها! وقد قال رسول الله (ص): إنه يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله! فمن منع عن الوصية فقد منع عن إجراء التنزيل، ومن نقض البيعة لعليّ (ع) فقد منع عن إجراء التأويل.

____________________

١ - الاستيعاب، ج ١، ص ٣٦٨.

٣٣٢

فتنة:

حكومة معاوية

أول حكومة أسّست للدنيا خالصة في الإسلام

العقد الفريد: أخبرني الحسن قال: علم معاوية والله إن لم يُبايعه عمرو لم يتمّ له أمر، فقال له: يا عمرو اتبعني. قال: لماذا؟ للآخرة فوالله ما معك آخرة، أم للدنيا. فوالله لا كان حتى أكون شريكك فيها. قال: فأنت شريكي فيها! قال: فاكتب لي مصر وكورها! فكتب له مصر وكورها.

وقالوا لما قدم عمرو بن العاص على معاوية وقام معه في شأن علي، بعد أن جعل له مصر طعمة، قال له: إن بأرضك رجلاً له شرف واسم، والله إن قام معك استهويتَ به قلوب الرجال، وهو عبادة بن الصامت. فأرسل إليه معاوية. فلما أتاه وسّع بينه وبين عمرو بن العاص، فجلس بينهما. فحمد الله معاوية وأثنى عليه وذكر فضل عبادة وسابقته، وذكر فضل عثمان وما ناله، وحضه على القيام معه. فقال عبادة: قد سمعت ما قلت، أتدريان لِمَ جلست بينكما كذلك، وما كنت لأجلس بينكما في مكانكما، ولكن بينما نحن نسير مع رسول الله (ص) في غزاة تبوك، إذ نظر إليكما تسيران وأنتما تتحدثان، فالتفت إلينا فقال: إذا رأيتموهما اجتمعا ففرقوا بينهما إنهما لا يجتمعان على خير أبداً، وأنا أنهاكما عن اجتماعكما.(١)

تاريخ الطبري: عن ابن عباس قدمت المدينة وقد بويع لعليّ فأتيته في داره، فوجدت المغيرة بن شعبة مستخلياً به، فحبسني حتى خرج من عنده، فقلت:

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٤٥.

٣٣٣

ماذا قال لك هذا؟ فقال: قال لي قبل مرّته هذه: أرسل إلى عبد الله بن عامر وإلى معاوية وإلى عمّال عثمان بعهودهم تقرهم على أعمالهم ويبايعون لك الناس فإنهم يهدّئون البلاد ويسكنون الناس! فأبيت ذلك عليه يومئذٍ وقلت: والله، لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي ولا ولّيت هؤلاء ولا مثلهم يولّى قال ابن عباس: فقلت لعليّ أما المرة الأولى فقد نصحك، وأما المرة الآخرة فقد غشك، قال له عليّ: ولِمَ نصحني؟ قال ابن عباس: لأنك تعلم أن معاوية وأصحابه أهل دنيا فمتى تُثبتهم لا يبالوا بمن ولى هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولوا: أخذ هذا الأمر بغير شورى وهو قتل صاحبنا ويُؤلّبون عليك أهل الشام وأهل العراق، مع أني لا آمن طلحة والزبير أن يكرّا عليك. فقال عليّ: أما ما ذكرت من إقرارهم، فوالله ما أشك أن ذلك خير في عاجل الدنيا لإصلاحها. وأما الذي يلزمني من الحق والمعرفة بعمّال عثمان! فوالله لا أولّي منهم أحداً أبداً، فإن أقبلوا فذلك خير لهم وإن أدبروا بذلت لهم السيف.(١)

أقول: الحكومة إما لغرض دنيوي من تحصيل المال والعنوان والرئاسة والملك والاختيار التام، وإما لغرض إلهي من جهة إحقاق الحق وإبطال الباطل وترويج الحقيقة وإجراء الأحكام الإلهية: ففي القسم الأول لابد من التشبّث والتوسل بأي وسيلة ممكنة، والسلوك بأيّ طريق موصلة إلى المقصد الدنيويّ المنظور، من تزوير وظلم وجور وإبطال حق ومخالفة صدق وسياسة غير صحيحة وتدبيرات فاسدة وإرعاب الناس وقتلهم وصلبهم وحبسهم بعناوين مختلفة.

وأما القسم الثاني: فليس المقصود الأعلى فيه إلا إحياء الحق وإحقاقه وكسر الباطل وإبطاله، ولو تعارض الحكومة وإحقاق حق: فيختار الحاكم الحقيقة والحق ولا يبالي زوال الملك والحكومة.

ويروي: عن ابن عباس قال: فإن كنت قد أبيت عليّ، فانزع من شئت واترك معاوية، فإن لمعاوية جرأة وهو في أهل الشام يُسمع منه، ولك حجة في

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٥٩.

٣٣٤

إثباته، كان عمر بن الخطاب قد ولاه الشام كلها! فقلت: لا والله لا استعمل معاوية يومين أبداً.(١)

أقول: الهدف المنحصر لعلي (ع) من الخلافة ليس إلا إحقاق الحق، فلا يرفع قدماً فيها إلا بالحق وللحق ومع الحق، بل كما قال رسول الله (ص): إن الحق مع عليّ يدور معه حيث ما دار، فكيف يمكن له أن يُثبت باطلاً ويُساعده ويُمضيه.

ويروي: كان رسول أمير المؤمنين إلى معاوية سبرة الجهنيّ فقدم عليه، فلم يكتب معاوية بشيء ولم يُجبه، ورد رسوله، وجعل كلما تنجّز جوابه لم يزد على قوله:

أدم إدامة حصن أو جداً

حرباً ضروساً تشبّ الجزل والضرما

حتى إذا كان الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر: دعا معاوية برجل من بني عبس، ثم أحد بني رواحة يدعى قبيصة، فدفع إليه طوماراً مختوماً عنوانه من معاوية إلى علي: فقال إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار، ثم أوصاه بما يقول وسرّح رسول عليّ، وخرجا فقدما المدينة في ربيع الأول لغرّته، فلما دخلا المدينة رفع العبسي الطومار كما أمره، وخرج الناس ينظرون إليه، فتفرقوا إلى منازلهم وقد علموا أن معاوية معترض، ومضى حتى يدخل على عليّ فدفع إليه الطومار ففضّ خاتمه فلم يجد في جوفه كتابة، فقال للرسول: ما وراءك؟ قال: آمن أنا؟ قال: نعم، إن الرسل آمنة لا تقتل. قال: ورائي أني تركت قوماً لا يرضون إلا بالقود. قال: ممن؟ قال: من خيط نفسك. وتركتُ ستين ألف شيخ يبكي تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم قد ألبسوه منبر دمشق. فقال: مني يطلبون دم عثمان؟! ألست موتوراً كتِرة عثمان؟ اللَّّهُم إني أبرأ إليك من دم عثمان.(٢)

أقول: ينبغي أن يُتوجه إلى أمور:

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٦٠.

٢ - نفس المصدر، ص ١٦٢.

٣٣٥

١ - بيعة علي (ع) أقوى وأتم من بيعة أبي بكر.

الأول : أنها وقعت من دون أعمال زور وتزوير وتهيئة مقدمة والتشبّث بوسائل ومخاطبات واحتجاجات.

الثاني : أنها وقعت في المرتبة الأولى باتفاق من المهاجرين والأنصار في المسجد، من دون خلاف من أحد من أصحاب رسول الله (ص).

الثالث : أنها وقعت فيمن وردت الروايات المتواترة والأحاديث الكثيرة في فضائله وأنه أحب الناس إلى الله وإلى رسوله وأنه أعلم الأمة وأقضاها وأتقاها وأشجعها.. فكيف يجوز لمثل معاوية وأتباعه أن يخالفه ويعانده ويقاتله.

٢ - قلنا: إن علياً كان ممن نصر عثمان ورد مخالفيه كراراً، وهو الذي أرسل ابنيه الحسنين (ع) إلى بيته ليذبّا عنه ويدفعا سوء قصد المخالفين. وأما معاوية فهو الذي لم يُجب استغاثته واستنصاره، وكفَّ عن تأييده بجنوده.

٣ - ولا يخفى أن معاوية هو أول من عمل بالكيد والمكر والسياسة الباطلة والتزوير، ولم يكن له هدف إلا الحكومة والسلطنة، وكان متوسلاً بأي عمل منكر وظلم قبيح الموصول إلى مقصده الدنيويّ. ونعم، ما كتب إليه قيس بن سعد بن عبادة أمير مصر: أما بعد، فإن العجب من اغترارك بي وطمعك فيّ واستسقاطك رأيي، أتسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمرة، وأقولهم للحق وأهداهم سبيلاً وأقربهم من رسول الله (ص) وسيلة، وتأمرني بالدخول في طاعتك! طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم للزور وأظلهم سبيلاً وأبعدهم من الله عزَّ وجلَّ ورسوله (ص) وسيلة وله ضالين مُضلين طاغوت من طواغيت إبليس.(١)

ويقول عمار: كما في الطبري أيضاً: وأخذ عمار يقول: يا أهل العراق، أتريدون أن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله وجاهدهما وبغى على المسلمين وظاهر المشركين فلما رأى الله عَزَّ وجَلَّ يُعز دينه ويُظهر رسوله أتى النبي (ص) فأسلم

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص٢٢٩.

٣٣٦

وهو فيما يرى راهب غير راغب، ثم قبض الله عَزَّ وجَلَّ رسوله (ص) فوالله إن زال بعده معروفاً بعداوة المسلم وهوادة المجرم، فاثبتوا له وقاتلوه فإنه يطفئ نور الله ويُظاهر أعداء الله عَزَّ وجَلَّ.(١)

العقد الفريد: قال معاوية لأبي الطفيل: كيف وجدك على عليّ؟ قال: وجد ثمانين مُثكِلاً. قال: فكيف حبك له؟ قال: حب أم موسى، وإلى الله أشكو التقصير. وقال له مرة أخرى: أبا الطفيل! قال: نعم، قال: أنت من قتلة عثمان؟ قال: لا ولكني ممن حضره ولم ينصره. قال: وما منعك من نصره؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار فلم أنصره. قال: لقد كان حقه واجباً وكان عليهم أن ينصروه. قال: فما منعك من نصرته يا أمير المؤمنين وأنت ابن عمه؟ قال: أو ما طلبي بدمه نصرة له؟ فضحك أبو الطفيل، وقال: مثلك ومثل عثمان كما قال الشاعر:

لأعرفنّك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زوّدتني زادا

ويروي أيضاً: وكتب عليّ إلى معاوية بعد وقعة الجمل: سلام عليك، أما بعد، فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار وللغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضاً، وإن خرج عن أمرهم خارج ردوه إلى ما خرج عنه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً، ما أعذرت إليهما حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإن أحب الأمور إليّ قبولك العافية، وقد كثرت في قتلة عثمان، فإن أنت رجعت عن رأيك وخلافك ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكمت القوم إليّ حملتك وإياهم على كتاب الله. وأما تلك التي تريدها فهي

____________________

١ - نفس المصدر السابق، ج ٦، ص ٧.

٢ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٢٩.

٣٣٧

خدعة الصبي عن البن، ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّي أبرأ قريش من دم عثمان، واعلم أنك من الطُلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا يدخلون الشورى.(١)

ويروي: كتابا آخر منه (عليه السلام) إلى معاوية، فيه: وأما قولك: إن أهل الشام هم حكام أهل الحجاز، فهات رجلاً من أهل الشام يُقبل في الشورى أو تحل له الخلافة، فان سمَّيتَ كذّبك المهاجرون والأنصار، ونحن نأتيك به من أهل الحجاز. وأما قولك ادفع إلي قتلة عثمان فما أنت وذاك، وهاهنا بنو عثمان وهم أولى بذلك منك، فإن زعمت أنك أقوى على طلب دم عثمان منهم فارجع إلى البيعة التي لزمتك وحاكم القوم إلي.(٢)

أقول: في هذه الكلمات موارد للتحقيق:

١ - قول معاوية: (أو ما طلبي بدمه نصرة له) قد اعترف في ضمن هذا الكلام بأنه لم ينصر عثمان ولم يُجب استنصاره، بل هيّج العداوة وبُغضَ الناس عليه بأعماله المخالفة.

٢ - (فإن بيعتي بالمدينة لزمتك) البيعة للخلافة الظاهرية والحكومة الدنيوية نافذة إذا وقعت باتفاق المهاجرين والأنصار، وهم في الطبقة الأولى من المسلمين، فإذا اجتمعوا على أمر مختارين غير مكرهين وفيه صلاح المسلمين كان ذلك لله رضاً، ولا يجوز لأحد من الحاضرين والغائبين أن يخالفهم.

٣ - (إنك من الطلقاء) وهم الذين أسلموا بعد أن فتح رسول الله (ص) مكة، وقال لأهل مكة: اذهبوا فأنتم الطُلقاء.

أخبار إصبهان : عن جرير عن النبي (ص) قال: المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض.(٣)

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٣٢.

٢ - نفس المصدر، ص ٣٣٤.

٣ - أخبار أصبهان، ج ١، ص ١٤٦.

٣٣٨

ويروي في العقد أيضاً: في جواب سعد بن أبي وقاص عن ما كتب إليه معاوية: أما بعد، فإن عمر لم يُدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة، فلم يكن أحد أولى بها من صاحبه إلا باجتماعنا عليه، غير أن علياً كان فيه ما فينا ولم يكن فينا ما فيه، ولو لم يطلبها ولزم بيته لطلبته العرب ولو بأقصى اليمن، وهذا الأمر قد كرهنا أوله وكرهنا آخره. وأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما لكان خيراً لهما، والله يغفر لأم المؤمنين ما أتت.(١)

الاستيعاب: عبد الرحمن بن غنم الأشعري، وهو الذي عاتب أبا هريرة وأبا الدرداء بحمص إذ انصرفا من عند عليّ (رض) رسولين لمعاوية، وكان مما قال لهما: عجباً منكما كيف جاز عليكما ما جئتما به، تدعوان علياً أن يجعلها شورى، وقد علمتما أنه قد بايعه المهاجرون والأنصار وأهل الحجاز والعراق، وأن من رضيه خير ممن كرهه، ومن بايعه خير ممن لم يُبايعه. وأيّ مدخل لمعاوية في الشورى وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة، وهو وابوه من رؤوس الأحزاب. فقدما على مسيرهما وتابا منه بين يديه.(٢)

الاستيعاب: لما قتل عثمان وبايع الناس علياً، دخل عليه المغيرة بن شعبة، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لك عندي نصيحة. قال: وما هي؟ قال: إن أردت أن يستقيم لك الأمر فاستعمل طلحة بن عبيد الله على الكوفة، والزبير بن العوام على البصرة، وابعث معاوية بعهده على الشام حتى تلزمه طاعتك، فإذا استقرت لك الخلافة فأدرها كيف شئت برأيك! قال علي: أما طلحة والزبير فسأرى رأيي فيهما، وأما معاوية فلا والله لا أراني الله مستعملاً له ولا مستعيناً به ما دام على حاله، ولكني أدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون، فإن أبى حاكمته إلى الله. وانصرف عنه المغيرة مغضباً ثم خرج عنه، فلقيه الحسن وهو خارج، فقال لأبيه: ما قال لك هذا الأعور؟ قال: أتاني أمس بكذا وأتاني اليوم بكذا قال له علي: إن أقررتُ معاوية على ما في يده كنت متخذاً المضلين

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٣٨.

٢ - الاستيعاب، ج ٢، ص ٨٥٠.

٣٣٩

عضداً.(١)

البدء والتاريخ: ولما بلغ الخبر معاوية قال: إن خليفتكم قد قُتل مظلوماً، وإن الناس بايعوا علياً، ولست أنكر أنه أفضل مني وأولى بهذا الأمر، ولكن أنا وليّ هذا الأمر ووليّ عثمان وابن عمه والطالب بدمه، وقتلة عثمان معه فليدفعهم إليَّ اقتلهم بعثمان ثم أبايعه! فرأى أهل الشام أنه قد طلب حقاً، وهم قوم فيهم غفلة وقلة فطنة، إما أعرابي جاف، وأما مدنيّ مُغفل.(٢)

أقول: في هذا الكلام موارد للنظر:

١ - قوله: خليفتكم قد قُتل مظلوماً! وقد ادعى أكثر المهاجرين والأنصار أنه ظلم نفسه: بتولية من ليس له أهلية، وتقسيم المال إلى أقاربه، وطرد بعض من كبار الصحابة كأبي ذرّ وعمار وابن مسعود وغيرهم.

٢ - قوله: أنا وليّ هذا الأمر ووليّ عثمان وابن عمه والطالب بدمه. ولايته بالشام كان من جانب الخليفة عثمان لا بالاستقلال، وتنقضي بموته، ولا بد في بقائها ودوامها أن يُجزيها ويُوليه الخليفة اللاحق، وقد صرّح وأكدّ بعزله، فهو غاصب ومن المخالفين الظالمين. وأما كونه ولياً لعثمان: فليس له هذه الولاية، ولعثمان أولاد وأقارب وأرحام قريبة، ولهم أن يتحاكموا عند وليّ الأمر والقاضي المنصوب، كما صرّح به أمير المؤمنين (ع).

٣ - قوله: فليدفعهم إليَّ. هذا الكلام في غاية الوهن، فإن القاتل - على فرض معروفيّته - لا يجوز أن يُدفع إلى من ليس بوليّ الأمر ولا وليّ عثمان. نعم، يقبل هذه الأقوال من له غفلة وقلة فطنة.

ثم إنه يستفاد من روايات هذه الفصل أمور نشير إليها بالترتيب:

١ - قول عمرو بن العاص خطاباً لمعاوية: فوالله ما معك آخرة. وعمرو كان من أعرف الناس به.

٢ - قول معاوية لعمرو: فأنت شريكي فيها، فكتب له مصر وكورها.

____________________

١ - نفس المصدر السابق، ج ٤، ص ١٤٤٧.

٢ - البدء والتاريخ، ج ٥، ص ٢١٠.

٣٤٠

فاعترف عملاً بقول عمرو وصدّقه ولم يكذّبه.

٣ - حديث عبادة عن رسول الله (ص) فإنهما لا يجتمعان على خير أبداً. فأخبر رسول الله (ص) عن حالهما وعن اتفاقهما على الشر.

٤ - قول ابن عباس: إن معاوية وأصحابه أهل دنيا. وقد سبق مختصر من أحوال أصحابه وعمّاله، وسيجيء إجمال أحوالهم.

٥ - قول علي (ع): لا والله لا أستعمل معاوية يومين أبداً. يدل على أن علياً (ع) لم يطمئن بحكومته وعمله ولو في يومين.

٦ - قول قيس: وأبعدهم من الله ورسوله وله ضالين مضلين طاغوت من طواغيت إبليس. يدل عليه خلاف معاوية علياً (ع) وهو أحب الناس إلى الله ورسوله، وهو الحق ويهدي إلى الحق.

٧ - قول عمار: إن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله وجاهدهما وبغى على المسلمين وظاهر المشركين. يدل عليه خلافه رسول الله (ص) أولاً وعلياً ثانياً وهو ابن عمه وخليفته.

٨ - قول أبو الطفيل: وفي حياة عثمان ما زوّدته زاداً. وقد سبق ما يدل عليه في فصول عثمان.

٩ - قول علي (ع): إنك من الطُلقاء ولا تحل لهم الخلافة.

١٠ - قول سعد: فإن عمر لم يُدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة.

١١ - قول عبد الرحمن بن غنم: إنه وأباه من رءوس الأحزاب.

١٢ - قول علي (ع): إنْ أقررتُ معاوية كنتُ متخذاً المضلين عضداً.

٣٤١

فتنة:

(حرب صفين)

الملل والنحل: والخلاف بينه وبين معاوية وحرب صفين، ومخالفة الخوارج وحمله على التحكيم ومغادرة عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري.(١)

تاريخ الطبري: فدخل عمرو على معاوية فقال: والله لعجب لك أني أرفدك بما أرفدك وأنت مُعرض عني! أما والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن في النفس من ذلك ما فيها، حيث نقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنا إنما أردنا هذه الدنيا، فصالحه معاوية وعطف عليه.(٢)

ويروي: عن جندب الأزدي أن علياً كان يأمرنا في كل موطن لقينا فيه معه عدواً فيقول: لا تقاتلوا القوم حتى يبدؤوكم ؛ فأنتم بحمد الله عَزَّ وجَلَّ على حجة، وترككم إياهم حتى يبدؤوكم حجة أخرى لكم. فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم، فلا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جرح، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثِّلوا بقتيل. فإذا وصلتم إلى رجال القوم، فلا تهتكوا سراً ولا تدخلوا داراً إلا بإذن، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهن ضعاف القوى والأنفس.(٣)

أقول: المتحصل من هذا الكلام أن اللازم في هذه الفتنة هو الدفاع والصد عن قتالهم وإشاعة أمرهم وحكمهم وتوسعة حكومتهم ونفوذ قدرتهم المادية الدنيوية.

ويروي أيضاً: عن زيد بن وهب الجهني: أن عمار بن ياسر (رحمه الله) قال

____________________

١ - الملل والنحل، ج ١، ص ٢٢.

٢ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ٢٣٤.

٣ - نفس المصدر، ج ٦، ص ٦.

٣٤٢

يومئذٍ: أين من يبتغي رضوان الله عليه ولا يؤوب إلى مال ولا ولد. فأتته عصابة من الناس، فقال: أيها الناس، اقصدوا بنا نحو هؤلاء الذين يبغون دم ابن عفان ويزعمون أنه قتل مظلوماً، والله ما طلبتهم بدمه ولكنَّ القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها واستمرؤوها، وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرّغون فيه من دنياهم، ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم، فخدعوا أتباعهم أن قالوا: إمامنا قتل مظلوماً! ليكونوا بذلك جبابرة ملوكاً، وتلك مكيدة بلغوا بها ما ترون، ولولا هي ما تبعهم من الناس رجلان. اللَّهُم إن تنصرنا فطالما نصرت، ولا تجعل لهم الأمر، فادّخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم.(١)

ويروي أيضاً: أن علياً مرَّ على جماعة من أهل الشام فيها الوليد بن عقبة وهم يشتمونه فخبّر بذلك، فوقف فيمن يليهم من أصحابه فقال: انهدُّوا إليهم، عليكم السكينة والوقار وقار الإسلام وسيما الصالحين، فوالله لأقرب قوم من الجهل قائدهم ومؤذنهم معاوية وابن النابغة وأبو الأعور السلمي وابن أبي معيط شارب الخمر المجلود حداً في الإسلام!! وهم أولى من يقومون فينقصونني ويجذبونني، وقبل اليوم قاتلوني، وأنا إذ ذاك أدعوهم إلى الإسلام وهم يدعونني إلى عبادة الأصنام. الحمد لله، قديماً عاداني الفاسقون فعبد هم الله، ألم يُفتَحوا إن هذا لهو الخطب الجليل أن فسَّاقاً كانوا غير مرضيين وعلى الإسلام وأهله متخوِّفين، خدعوا شطر هذه الأمة، وأشربوا قلوبهم حب الفتنة واستمالوا أهواءهم بالآفات والبهتان، قد نصبوا لنا الحرب في إطفاء نور الله عَزَّ وجَلَّ، اللَّهُم فافضض خدمتهم وشتت كلمتهم وأبسلهم بخطاياهم.(٢)

أقول: أبو الأعور هو عمرو بن سفيان السلمي، عليه مدار حروب معاوية في صفين، أدرك الجاهلية وليست له صحبة. ومن العجب ما يروي مرسلاً عن النبي (ص) كما فيالاستيعاب : إنما أخاف على أمتي شحاً مطاعاً وهوى متبعاً،

____________________

١ - نفس المصدر، ج ٦، ص ٢١.

٢ - تاريخ الطبري، ج ٦، ص ٢٥.

٣٤٣

إماماً ضالاً. وهذا الحديث حجة تامة عليه، وقد ختم الله على قلبه وعلى بصره غشاوة.(١)

العقد الفريد: اجتمعت قريش ( الشام والحجاز ) عند معاوية وفيهم عبد الله بن عباس، وكان جريئاً على معاوية حقَّاراً له، فبلغه عنه بعض ما غمّه، فقال معاوية وذنوبكم إلينا أكثر من ذنوبنا إليكم: خذلتم عثمان بالمدينة، وقتلتم أنصاره يوم الجمل، وحاربتموني بصفين، ولعمري لبنو تيم وعديّ أعظم ذنوباً منا إليكم، إذ صرفوا عنكم هذا الأمر وسنّوا فيكم هذه السنة فتكلّم ابن عباس وأما استعمال عليّ إيانا فلنفسه دون هواه، وقد استعملت أنت رجالاً لهواك لا لنفسك، منهم ابن الحضرمي على البصرة فقتل، وابن بشر أرطاة على اليمن فخان، وحبيب بن مُرة على الحجاز فرُدّ، والضحاك بن قيس الفهري على الكوفة فحُصب، ولو طلبت ما عندنا وقينا أعراضنا. وليس الذي يبلغك عنا بأعظم من الذي يبلغنا عنك، ولو وضع أصغر ذنوبكم إلينا على مئة حسنة لمحقها، ولو وضع أدنى عذرنا إليكم على مئة سيئة لحسنها. وأما خَذْلُنا عثمان: فلو لزمنا نصره لنصرناه، وأما قتلنا انصراه يوم الجمل: فعلى خروجهم مما دخلوا فيه، وأما حربنا إيّاك بصفين: فعلى تركك الحق وادعائك الباطل، وأما إغراؤك إيَّانا بتيم وعديّ: فلو أدرناها ما غلبونا عليها.(٢)

الإمامة والسياسة: لما انتهى كتاب عمرو إلى ابن عباس، أتى به إلى عليّ فأقرأه إيَّاه، فقال عليّ: قاتل الله ابن العاص! أجبه! فكتب إليه: أما بعد، فإنني لا أعلم رجلاً أقلُّ حياءً منك في العرب، إنك مَالَ بك الهوى إلى معاوية، وبعته دينك بالثمن الأوكس، ثم خطبت الناس في عشواء طمعاً في هذا الملك، فلمّا تراميناه أعظمت الحرب والرماء إعظام أهل الدين، وأظهرت فيها كراهية أهل الورع، لا تريد بذلك إلا تمهيد الحرب وكسر أهل الدين. فإن كنت تريد الله فدع مصر وارجع إلى بيتك، فإن هذه حرب ليس فيها معاوية

____________________

١ - الاستيعاب، ج ٣، ص ١١٧٩.

٢ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٧.

٣٤٤

كعلي، بدأها عليّ بالحق وانتهى فيها بالعذر، وبدأها معاوية بالبغي وانتهى فيها إلى السرف، وليس أهل الشام فيها كأهل العراق: بايع أهل العراق علياً وهو خير منهم، وبايع أهل الشام معاوية وهم خير منه، ولست أنا وأنت فيها سواء، أردتُ الله وأردتَ مصر.(١)

مستدرك الحاكم: عن الحكم قال: شهد مع علي صفين ثمانون بدرياً وخمسون ومئتان ممن بايع تحت الشجرة.(٢)

الاستيعاب: قال عبد الرحمن بن أبزى: شهدنا مع عليّ (رضي الله عنه) صفين في ثمنمائة ممن بايع بيعة الرضوان، قتل منهم ثلاثة وستون، منهم عمار بن ياسر.(٣)

ويروي أيضاً: عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: شهدنا مع علي (رضي الله عنه) صفين، فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية ولا واد من أودية صفين إلا رأيت أصحاب محمد (ص) يتبعونه، كأنه علم لهم، وسمعت عماراً يقول يومئذٍ لهاشم بن عقبة: تقدم! الجنة تحت الأبارقة، اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه، والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هَجَر لعلمنا أنَّا على الحق وأنهم على الباطل.

أقول: في مقدمةالاستيعاب يروي:( السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ) الذين بايعوا بيعة الرضوان، قال الله تعالى:( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) والشجرة في الحديبية، وعدّتهم أربع عشرة مئة، وكان عدة أهل بدر ثلاثمئة وثلاث عشرة. ويروي عن رسول الله (ص):لن يلج النار أحد شهد بدراً أو الحديبية.

الإمامة والسياسة: إن عبد الله بن أبي محجن الثقفي قدم على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، إني أتيتك من عند الغبي الجبان البخيل ابن أبي طالب! فقال معاوية: لله أنت! تدري ما قلت، أما قولك الغبيّ: فوالله لو أن ألسُن الناسِ

____________________

١ - الإمامة والسياسة، ج ١، ص ٩٥.

٢ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٠٤.

٣ - الاستيعاب، ج ٣، ص ١١٣٨.

٣٤٥

جُمعت فجعلت لساناً واحداً لكفاها لسان عليّ. وأما قولك إنه جبان: فثكلتك أمك هل رأيت أحداً بارزه إلا قتله. وأما قولك إنه بخيل: فوالله لو كان بيتان أحدهما من تبر والآخرة من تبن لأنفد تبره قبل تبنه. فقال الثقفي: فعلى مَ تُقاتله إذاً؟! ثم لحق بعليّ.(١)

تاريخ الطبري: فأرسل عليّ إلى الأشتر فقال: يا مالك فإذا قدمت عليهم فأنت عليهم، وإياك أن تبدأ القوم بقتال إلا أن يَبدؤوك حتى تلقاهم فتدعوهم وتُسمع، ولا يجرمنّك شنأنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة، واجعل على ميمنتك زياداً.(٢)

ويروي: فدعا عليّ صعصعة بن صوحان فقال له: ائت معاوية وقل له: إنا سرنا مسيرنا هذا إليكم ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، وإنك قدّمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك وبدأتنا بالقتال، ونحن من رأينا الكف عنك حتى ندعوك ونحتج عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها قد حُلتم بين الناس ومبين الماء، والناس غير منتهين أو يشربوا، فابعث إلى أصحابك فليُخلوا بين الناس وبين الماء، ويكفّوا حتى ننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا وقدمتم له.(٣)

ويروي: ثم إن علياً دعا بشير بن عمرو بن محصن وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي، فقال: ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله والى الطاعة والجماعة فحمد الله، وأثنى عليه أبو عمرة بشير بن عمرو وقال: يا معاوية، إن الدنيا عنك زائلة وإنك راجع إلى الآخرة، وإن الله عَزَّ وجَلَّ مُحاسبك بعملك وجازيك بما قدّمت يداك، وإني أنشدك الله عَزَّ وجَلَّ أن تُفرّق جماعة هذه الأمة وأن تسفك دماءهم بينها! فقطع عليه الكلام وقال: هلا أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال أبو عمرة: إن صاحبي ليس مثلك! إن صاحبي أحق البرية كلها

____________________

١ - الإمامة والسياسة، ج ١، ص ١٧.

٢ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ٢٣٨.

٣ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ٢٤١.

٣٤٦

بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة من الرسول (ص)، قال: فيقول ماذا؟ قال: يأمرك بتقوى الله عَزَّ وجَلَّ وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق، فإنه أسلمُ لك في دنياك وخير لك في عاقبة أمرك، قال معاوية: ونطّل دم عثمان! لا والله لا أفعل ذلك أبداً. فذهب سعيد بن قيس يتكلم فبادره شبث بن ربعي فتكلم، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا معاوية، إني قد فهمت ما رددت على ابن محصن، إنه والله لا يخفى علينا ما تغزو وما تطلب، إنك لم تجد شيئاً تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا قولك: قُتل إمامكم مظلوماً فنحن نطلب بدمه، فاستجاب له سفهاء طغام، وقد علمنا أن قد أبطأت عنه بالنصرة وأحببت له القتل، لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب.(١)

ويروي: فبعث عليٌّ عديّ بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن حفصة إلى معاوية، فلما دخلوا حمد الله عديُّ بن حاتم ثم قال: أما بعد، فإنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله عَزَّ وجَلَّ به كلمتنا وأمتنا، ويحقن به الدماء ويأمن به السبل ويصلح به ذات البين. إن ابن عمك سيد المسلمين، أفضلها سابقة، وأحسنها في الإسلام أثراً، وقد استجمع له الناس، وقد أرشدهم الله عَزَّ وجَلَّ بالذي رأوا، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك، فانته يا معاوية لا يصبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل! فقال معاوية: كأنك إنما جئت متهدداً لم تأت مصلحاً، هيهات يا عديّ، كلا والله إني لابن حرب ما يقعقع لي بالشنان، أما والله إنك لمن المجلبين على ابن عفان وإنك لمن قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتل الله عَزَّ وجَلَّ به.(٢)

أقول: يظهر من هذه الخطابات والكلمات أمور:

١ - أن أمير المؤمنين علياً يدعو إلى الحق ولا يقصد إلا إجراء الحق والعمل بالكتاب والسنة والإصلاح بين المسلمين وجمع كلمتهم. وأما معاوية، فهو لا يريد إلا الرئاسة والحكومة والدنيا، وليس إلى طلبها سبيل إلا الحرب، وليس للحرب

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ٢٤٢.

٢ - نفس المصدر، ج ٦، ص ٢.

٣٤٧

مستمسك إلا طلب الدم. وما أحسن ما قال شبث بن ربعي: والله لا يخفى علينا ما تغزو وما تطلب، إنك لم تجد شيئاً تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا قولك قتل إمامكم مظلوماً فنحن نطلب بدمه.

٢ - إن أمير المؤمنين علياً هو أول من أسلم، وهو أحب الناس إلى الله عَزَّ وجَلَّ وإلى رسوله، وهو أعلم الأمة وأتقاهم وأحسنهم جهاداً وأثراً في سبيل الله، ومن قال له رسول الله (ص): اللَّهُم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله. وأنت مني بمنزلة هارون من موسى، وأنت أخي في الدنيا والآخرة. وغير ذلك. وأما معاوية، فهو ليس من المهاجرين والأنصار، وليست له سابقة فضل ومعرفة وجهاد في سبيل الله، وكان من المخالفين وفي صفوف الأعداء، ومن رؤساء المشركين إلى أن فُتحت مكة، فدخل هو وأبوه في الإسلام فيمن دخل، فهو في زمان رسول الله (ص) كان مخالفاً للإسلام وللمسلمين، ثم أسلم ووافق ظواهر الإسلام واستقرّ تحت لوائه، ولم يدخل نور حقيقة الإيمان وحقائق الإسلام في قلبه، ولم يخرج حبّ الدنيا والرئاسة من باطنه، فهو الآن في رأس صفوف المنافقين الذين قالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، ويحاربون المسلمين على حقائق الإسلام! فانظر إلى كلام أمير المؤمنين (ع) في حقه يرويه الطبري وتدبّر فيه حتى يظهر لك حقيقة حاله وحقيقة المقام.

يروي: أن معاوية بعث إلى عليٍّ حبيبَ بن مسلمة الفهري وشرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس، فدخلوا عليه وأنا عنده، فحمد الله حبيب وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن عثمان بن عفان كان خليفة مهدياً يعمل بكتاب الله عَزَّ وجَلَّ وينيب إلى أمر الله تعالى، فاستثقلتم حياته واستبطأتم وفاته فعدوتم عليه فقتلتموه، فادفع إلينا قتلة عثمان إن زعمت أنك لم تقتله نقتلهم به، ثم اعتزل أمر الناس فيكون أمرهم شورى بينهم يُولّى الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم. فقال له علي بن أبي طالب: وما أنت لا أم لك! والعزل وهذا الأمر، اسكت، فإنك لست هناك ولا بأهل له. فقام وقال له: والله لترينّي بحيث تكره! فقال عليّ: وما أنت ؛ ولو أجلبت بخيلك ورجلك، لا أبقى الله عليك إن

٣٤٨

أبقيت عليّ، أحُقرة وسوءاً، اذهب فصوّب وصعّد ما بدالك! وقال شرحبيل بن السمط: إن كلمّتك فلعمري ما كلامي إلا مثل كلام صاحبي قبل، فهل عندك جواب غير الذي أجبته به؟ فقال عليّ: نعم، لك ولصاحبك جواب غير الذي أجبته به، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن الله جَلَّ ثناؤه بعث محمداً (ص) بالحق فأنقذ به من الضلالة، وانتاش به من الهلكة، وجمع به من الفرقة. ثم قبضه الله إليه وقد أدّى ما عليه (صلَّى الله عليه وسلَّم)، ثم استخلف الناس أبا بكر، واستخلف أبو بكر عمر، فأحسنا السيرة وعدلا في الأمة. وقد وجدنا عليهما أن تولّيا علينا ونحن آل رسول الله (ص)، فغفرنا ذلك لهما. ووُلّي عثمان فعمل أشياء عابها الناس عليه، فساروا إليه فقتلوه. ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمورهم فقالوا لي: بايع. فأبيت عليهم، فقالوا لي: بايع فإن الأمة لا ترضى إلا بك، وإنا نخاف أن لم تفعل أن يفترق الناس. فبايعتهم. فلم يرُعني إلا شقاق رجلين قد بايعاني، وخلاف معاوية الذي لم يجعل الله عَزَّ وجَلَّ له سابقة في الدين ولا سلف صدق في الإسلام، طليق ابن طليق، حزب من هذه الأحزاب، لم يزل لله عَزَّ وجَلَّ ولرسوله (ص) وللمسلمين عدواً هو وأبوه، حتى دخلا في الإسلام كارهين، فلا غَرو إلاّ خلافكم معه وانقيادكم له، وتدعون آل نبيكم (ص) الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم ولا أن تعدلوا بهم من الناس أحداً. ألا إني أدعوكم إلى كتاب الله عَزَّ وجَلَّ وسنة نبيه (ص) وإماتة الباطل وإحياء معالم الدين، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة. فقال: أشهدْ أن عثمان قُتل مظلوماً. فقال لهما: لا أقول إنه قتل مظلوماً ولا إنه قتل ظالماً. قالوا: فمن لم يزعم أن عثمان قتل مظلوماً فنحن منه برآء. ثم قاما فانصرفا. فقال عليّ: ( إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) .(١)

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٦، ص ٤.

٣٤٩

أقول: في هذه الكلمات موارد للنظر نُشير إلى بعضها:

أولاً - قول حبيب فقلتموه فادفع إلينا قتلته: قد مرّ أن أمير المؤمنين علياً كان من الناصحين المدافعين الناصرين لعثمان. وأما معاوية، فكان ممن تسامح في نصرته والدفاع عنه وإجابة دعوته.

ثانياً - بيعة الإمام وإطاعته واجبة على كل فرد مسلم، والإمام على عقيدتهم من يتعيّن من جانب المهاجرين والأنصار في مدينة رسول الله (ص) ولا يتوقف هذا على حكم آخر، بمعنى أن المبايعة واجبة، وطلب الثأر حكم آخر فرعيّ لابد فيه من المراجعة إلى الحاكم والقاضي، حتى يحكم بعد التحقيق عن القاتل وكيفية القتل والقصد فيه وثبوت الجناية بالطريق الشرعي، بحكم خاص.

ثالثاً - أن معاوية فرد من أفراد المسلمين، وليس بولي عثمان ولا بولي المسلمين، حتى يدّعي أنه يطلب ثأر عثمان أو يطلب قتلته من خليفة المسلمين، وأعجب منه قوله: واعتزل أمر الناس حتى يكون شورى، فراجع ثم راجع كلام علي (ع) في جوابه حتى تعلم حقيقة الأمر.

ويروي أيضاً: أن عمار بن ياسر خرج إلى الناس فقال: اللَّهُم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته، اللَّهُم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبّة سيفي في صدري ثم انحني عليها حتى تخرج من ظهري لفعلت، وإني لا أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم أن عملاً من الأعمال هو أرضى لك منه لفعلته.(١)

أقول: هذا ما يعتقد به عمار بن ياسر وهو من خواصّ أصحاب رسول الله (ص)، وقد قال (ص) في حقه: تقتله الفئة الباغية. وقلنا إن معاوية قد حارب المسلمين في زمن رسول الله (ص) خلافاً لله ولرسوله وللإسلام، وفي هذا اليوم يُحارب المسلمين أيضاً طلباً للرئاسة والدنيا وخلافاً لحقائق الإسلام. ونِعم ما قال عمار بن ياسر وهو يقول لعمرو بن العاص بصفِّين: لقد قاتلتُ

____________________

١ - نفس المصدر السابق، ص ٢١.

٣٥٠

صاحب هذه الراية ثلاثة مع رسول الله (ص) وهذه الرابعة ما هي بأبرّ ولا أتقى.(١)

وليس ببعيد أن نقول: إن خلاف معاوية اليوم أشد ضرراً للإسلام وللمسلمين وأكثر تأثيراً في قلوب المؤمنين من محاربته رسول الله (ص) زمان كفره. ومن هنا ترى علياً (ع) إذا صلَّى الغداة يقنت ويقول: اللَّهُم العن معاوية وعمراً وأبا لأعور السلمي وحبيباً وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد كما في الطبري(٢) فراجعه.

وقال عبد الله بن عمر وصحّ عنه من وجوه الاستيعاب: ما آسى على شيء كما آسى أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي (ع).(٣)

ويروي روايات بإسناده قريبة منها.(٤)

ويروي: أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يقول: ما لي ولقتال المسلمين ولصفين، لوددت أني متّ قبله بعشر سنين. أما والله ما ضربت فيها بسيف ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم، ولوددتُ أني لم أحضر شيئاً منها، واستغفر الله من ذلك وأتوب إليه.(٥)

أقول: يستفاد من روايات هذا الفصل أمور:

١ - قول عمرو: حيث نقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنَّا إنما أردنا هذه الدنيا، فصالحه معاوية.

٢ - قول عليّ (ع): فأنتم على حجة وتركُكم إياهم حتى يبدءوكم حجة أخرى لكم فلا تقتلوا مدبراً ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم.

٣ - قول عمار: والله ما طلبتم بدمه ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها واستمرءوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم.

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٦، ص ٢٢.

٢ - نفس المصدر، ص ٤٠.

٣ - الاستيعاب، ج ١، ص ٧٧.

٤ - نفس المصدر، ج ٣، ص ٩٥٣.

٥ - نفس المصدر، ج ٣، ص ٩٥٨.

٣٥١

٤ - قول علي (ع): فوالله لأقرب قوم من الجهل قائدهم ومؤذنهم معاوية وابن النابغة وأبو الأعور السلمي وابن أبي معيط شارب الخمر المجلود في الإسلام وهم أولى من يقومون فينقصونني!!

٥ - قول ابن عباس: وأمَّا قتلنا أنصاره يوم الجمل فعلى خروجهم مما دخلوا فيه، وأما حربنا إيَّاك بصفين فعلى تركك الحق وادعائك الباطل.

٦ - قول ابن عباس وكتابه إلى عمرو: فإني لا أعلم رجلاً أقل حياءً منك في العرب ؛ إنك مال بك الهوى إلى معاوية وبعته دينك بالثمن الأوكس، ثم خطبت الناس في عشواء!.

٧ - قول الحكم: شهد مع علي في صفين ثمانون بدرياً وخمسون ومئتان ممن بايع تحت الشجرة منهم عمار بن ياسر.

٨ - قول عمار: تقدَّم الجنة تحت الأبارقة، والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنَّا على الحق وأنهم على الباطل.

٩ - قول معاوية: فوالله لو كان لعليّ بيتان أحدهما من تِبر والآخر من تِبن لأنفذ تِبره قبل تبنه.

١٠ - قول علي (ع) لمالك: ولا يجرمنك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة.

١١ - قول علي (ع) لمعاوية: إنك قدّمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نُقاتلك وبدأتنا بالقتال، ونحن من رأينا الكف عنك حتى ندعوك ونحتج عليك.

١٢ - قول أبو عمرة بشير بن عمرو لمعاوية: أن علياً يأمرك بتقوى الله عَزَّ وجَلَّ، وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في عاقبة أمرك.

١٣ - قول عديّ بن حاتم: إنا أتيناك ندعوك إلى أمر يَجمع الله عَزَّ وجَلَّ به كلمتنا وأمتنا ويَحقن به الدماء، ويأمن به السُبل ويُصلح به ذات البين، إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقة.

٣٥٢

١٤ - قول عليّ (ع) في جواب حبيب بن مسلمة: ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمورهم، فقالوا لي: بايع فلم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعاني وخلاف معاوية الذي لم يجعل الله عَزَّ وجَلَّ له سابقة في الدين ولا سلف صدق في الإسلام، طليق ابن طليق.

١٥ - قول عمار: اللَّهُم إني لا أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين.

١٦ - قول عبد الله بن عمرو بن العاص: مالي ولقتال المسلمين وصفين، لوددت أني متُّ قبله بعشر سنين.

١٧ - قول عبد الله بن عمر بن الخطاب: ما آسى على شيء كما آسى أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي.

١٨ - قول عمار: لقد قاتلت معاوية ثلاثاً مع رسول الله (ص) وهذه الرابعة ما هي بأبرّ ولا أتقى.

٣٥٣

فتنة:

(التحكيم)

الإمامة والسياسة: فأقبل الأشعث بن قيس في أناس كثير من أهل اليمن فقالوا لعلي: لا نرد ما دعاك القوم إليه ؛ قد أنصفك القوم، والله لئن لم تقبل هذا منهم لا وفاء معك ولا نرمي معك بسهم ولا حجر ولا نقف معك موقفاً.(١)

ويروي: أن معاوية قال لأصحابه حين استقامت المدة ولم يُسم الحكمين: من ترون علياً يختار؟ فأما نحن فصاحبنا عمرو بن العاص. قال عتبة بن أبي سفيان: أنت أعلم بعلي منا. فقال معاوية: أن لعليّ خمسة رجال من ثقاته منهم عدي بن حاتم وعبد الله بن عباس وسعد بن قيس وشريح بن هاني والأحنف بن قيس ومع هذا أن الناس قد ملوا هذه الحرب ولم يرضوا إلا رجلاً له تقية، وكل هؤلاء له تقية لهم، ولكن انظروا أين أنتم من رجل من أصحاب رسول الله (ص) تأمنه أهل الشام وترضى به أهل العراق؟ فقال عتبة: ذلك أبو موسى الأشعري.(٢)

العقد الفريد: لما كان يوم الهرير - وهو أعظم يوم بصفين - زحف أهل العراق على أهل الشام فأزالوهم عن مراكزهم حتى انتهوا إلى سرادق معاوية، فدعا بالفرس وهمّ بالهزيمة، ثم التفت إلى عمرو بن العاص وقال له: ما عندك؟ قال: تأمر بالمصاحف فتُرفع في أطراف الرماح ثم اجمع رأيهم على التحكيم، فهم علي على أن يُقدم أبا الأسود الدّؤلي، فأبى الناس عليه ثم اجتمع أصحاب البرانس وهم وجوه أصحاب عليّ، على أن يُقدموا ابا موسى الأشعري وكان مبرنساً، وقالوا: لا نرضى بغيره. فقدّمه عليّ، وقدّم معاوية عمرو بن العاص. فقال

____________________

١ - الإمامة والسياسة، ج ١، ص ١٠٨.

٢ - نفس المصدر، ص ١٠٩.

٣٥٤

معاوية لعمرو: إنك قد رُميت برجل طويل اللسان قصير الرأي فلا ترمه بعقلك كله.(١)

ويروي: لما قدم أبو الأسود الدؤلي على معاوية عام الجماعة، قال له معاوية: بلغني ياأبا الأسود أن علي بن أبي طالب أراد أن يجعلك أحد الحكمين، فما كنت تحكم به؟ قال: لو جعلني أحدهما لجمعت ألفاً من المهاجرين وأبناء المهاجرين وألفاً من الأنصار وأبناء الأنصار ثم ناشدتهم الله: المهاجرون وأبناء المهاجرين أولى بهذا الأمر أما الطلقاء؟ قال له معاوية: لله أبوك أيّ حكم كنت تكون لو حُكّمت.(٢)

تاريخ الطبري: فلما رأى عمرو بن العاص أن أمر أهل العراق قد اشتد وخاف في ذلك الهلاك، قال لمعاوية: هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعاً ولا يزيدهم إلا فرقة؟ قال: نعم. قال: نرفع المصاحف ثم نقول ما فيها حكمٌ بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يتقبّلها وجدت فيهم من يقول: بلى ينبغي أن نقبل، فتكون فرقة تقع بينهم، وأن قالوا: بلى نقبل ما فيها، رفعنا هذا القتال عنا، وهذه الحرب إلى أجل أو إلى حين، فرفعوا المصاحف بالرماح إن علياً قال: عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم: قتال عدوكم! فإن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح والضحاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم: قد صحبتهم أطفالاً وصحبتهم رجالاً فكانوا شر أطفال وشر رجال، ويحكم إنهم ما رفعوها ثم لا يرفعونها ولا يعلمون بما فيها وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهنا ومكيدة. فقالوا له: ما يسعنا أن نُدعى إلى كتاب الله عَزَّ وجَلَّ فنأبى أن نقبله. فقال لهم: فإني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم هذا الكتاب، فإنهم قد عصوا الله عَزَّ وجَلَّ فيما أمرهم ونسوا عهده ونبذوا كتابه. فقال له مسعر بن فدّكي التميميّ وزيد بن حصين الطائي ثم السنبسي في عصابة معهما من القراء الذين صاروا

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٤٦.

٢ - نفس المصدر، ص ٣٤٩.

٣٥٥

خوارج بعد ذلك: يا عليّ، أجب إلى كتاب الله عَزَّ وجَلَّ إذا دُعيت إليه وإلا ندفعك برمّتك إلى القوم أو نفعل كما فعلنا بابن عفان. إنه غلبنا أن يعمل بكتاب الله فقتلناه‏. والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك؟ قال: فاحفظوا عني نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم فيّ، أما أنا فإن تطيعوني تقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم. قالوا له: فأبعث إلى الأشتر فليأتك فقال الأشتر: ليس هذه الساعة التي ينبغي لك أن تُزيلني عن موقفي ؛ إني قد رجوت أن يُفتح لي فلا تُعجلني. فرجع يزيد بن هاني إلى عليّ فأخبره فما هو إلا أن انتهى إلينا، فارتفع الرهج وعلت الأصوات من قبل الأشتر، فقال له القوم: والله ما نراك إلا أمرته أن يُقاتل، قال: من أين ينبغي أن تُروا ذلك! رأيتموني ساررته؟! أليس إنما كلّمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعوني، قالوا: فابعث إليه فليأتك وإلا والله اعتزلناك. قال له: ويحك يا يزيد! قل له أقبل إليَّ فإن الفتنة قد وقعت.(١)

أقول: بايع المهاجرون والأنصار علياً (ع) على أن يعمل بالكتاب وسنة رسول الله (ص)، وهو أعلم الأمة وأتقاها وأقضاها، وأحب الناس إلى الله وإلى رسوله، وهو مع الحق والحق يدور معه كيفما دار، وهو وليّ كل مؤمن ومؤمنة وأخو رسول الله (ص) وابن عمه وزوج البتول، وأول من أسلم وجاهد في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ.

فمن أراد أن يعمل بالكتاب والسنة فلا بد أن يبايع علياً (ع) ويستقر تحت رايته ويهتدي بهداه ويتبع سبيله. ومن خالفه فهو مخالف للكتاب والسنة، والدعوة إلى علي (ع) هي الدعوة إلى كتاب الله، والتابع له على يقين من أمره ودينه، فلا معنى في دعوة معاوية وعمرو العاص له إلى العمل بالكتاب وأن يكون الكتاب حكماً بينهما، وهذا نهاية تنزيل مقام أمير المؤمنين (ع)، ويدل على نهاية جهل أصحابه وقصور معرفتهم وضعف دينهم حيث قالوا: يا علي، أجِب إلى

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٦، ص ٢٦.

٣٥٦

كتاب الله إذا دُعيت إليه وإلا ندفعك برمّتك إلى القوم، أو نفعل كما فعلنا بابن عفان.

وليعلم أن هذه الفتنة أشد من فتنة حرب صفين: فإن نتيجة هذه الفتنة هي تنزيل مقام أمير المؤمنين والتسليم لحكم معاوية والانخداع بخدعته وترك حكومة الحق والخلاف لعلي (ع)، ومن هذا الخلاف نشأت حرب الخوارج.

تاريخ الطبري: فقال أهل الشام: فإنا قد اخترنا عمرو بن العاص. فقال الأشعث وأولئك القوم الذين صاروا خوارج بعدُ: فإنا قد رضينا بأبي موسى الأشعري. قال عليّ: فإنكم قد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن، إني لا أرى أن أولّي أبا موسى. فقال الأشعث وزيد بن حصين الطائي ومسعر بن فدكي: لا نرى إلا به، فإنه ما كان يُحذّرنا وقعنا فيه.

قال عليّ: فإنه ليس لي بثقة ؛ قد فارقني وخذل الناس عني ثم هرب مني حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس نُوليه ذلك. قالوا: ما نُبالي أنت كنت أم ابن عباس، لا نريد إلا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء، ليس أي واحد منكما بأدنى منه إلى الآخر. فقال عليّ: فإني أجعل الأشتر. قال الأشعث: وهل سعّر الأرض غيرُ الأشتر قال علي: فقد أبيتم إلا أبا موسى؟ قالوا: نعم. قال: فاصنعوا ما أردتم. فبعثوا إليه، وقد اعتزل القتال وهو بُعرض.(١)

أقول: يظهر من جملات: ( فإنه ما كان يُحذّرنا وقعنا فيه) و(خذل الناس عني) (هو منك ومن معاوية سواء) و(هل سعّر الأرضَ) و(قد اعتزل القتال) أنهم ندموا ورجعوا عن الحرب، وقد اختاروا رجلاً معتزلاً عنه، حتى يختار الاعتزال، ويحذّرهم من الحرب وإن كان خلاف رأي عليّ (ع).

تاريخ الطبري: إن علياً قال للناس يوم صفين: لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوة وأسقطت مُنّة وأوهنت وأورثت وهناً وذلة. ولما كنتم الأعلين وخاف عدوكم الاجتياح واستحرّ بهم القتل ووجدوا ألم الجراح رفعوا المصاحف ودعوكم إلى

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٦، ص ٢٨.

٣٥٧

ما فيها ليفثؤكم عنهم ويقطعوا الحرب فيما بينكم وبينهم ويتربّصون ريب المنون خديعة ومكيدة، فأعطيتموهم ما سألوا وأبيتم إلا أن تدهنوا وتجوّزوا. وأيم الله، ما أظنكم بعدها توافقون رشداً ولا تصيبوا باب حزم.(١)

أقول: ضعضع: أي وضع. المُنّة: كالقوة لفظاً ومعناً. اجتاح: استأصل وأهلك. فثأ الحر والغضب: سكن غليانها.

جريان أمر الحكمين

خصائص النسائي: عن علقمة قال: قلت لعلي (رضي الله عنه) تجعل بينك وبين ابن آكلة الأكباد؟ قال: إني كنت كاتب رسول الله (ص) يوم الحُديبية فكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، قالوا: لو نعلم أنه رسول الله ما قاتلناه، أمحها. قلت: هو والله رسول الله (ص) وإن رغم أنفك ولا والله لا أمحوها، فقال لي رسول الله (ص): أرنيه؟ فأريته فمحاها، وقال: أما أن لك مثلها وستأتيها وأنت مضطرّ.(٢)

تاريخ الطبري: فكتبوا هذا ما تقاضى عليه عليّ أمير المؤمنين. فقال عمرو أكتب اسمه واسم أبيه، هو أميركم، وأما أميرنا فلا. وقال الأحنف: لا تمح اسم إمارة المؤمنين فإني أتخوّف إن محوتها ألا ترجع إليك أبداً، لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً. فأبى ذلك عليّ ملياً من النهار، ثم إن الأشعث بن قيس قال امحُ هذا الاسم برّحه الله فمحى. وقال عليّ: الله أكبر سنة بسنّة ومثل بمثل، والله إني لكاتب بين يدي رسول الله (ص) يوم الحديبية إذ قالوا: لست رسول الله ولا نشهد لك به ولكن أكتب اسمك واسم أبيك. فقال عمرو بن العاص: سبحان الله! ومثل هذا أن نشبّه بالكفار ونحن مؤمنون. فقال عليّ: يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين ولياً وللمسلمين عدواً، وهل تشبه إلا

____________________

١ - نفس المصدر السابق، ص ٣١.

٢ - خصائص النسائي، ص ٣٦.

٣٥٨

أمك التي وضعت بك.(١)

الطبقات: فاجتمعا على أمرهما فأداره عمرو على معاوية فأبى، وقال أبو موسى عبد الله بن عمر، فقال عمرو: أخبرني عن رأيك؟ فقال أبو موسى: أرى أن نخلع هذين الرجلين ونجعل هذا الأمر شورى بين المسلمين فيختارون لأنفسهم من أحبوا، فقال عمرو: الرأي ما رأيت! فأقبلا على الناس وهم مجتمعون، فقال له عمرو: يا أبا موسى أعلمهم بأن رأينا قد اجتمع، فتكلم أبو موسى فقال: إن رأينا قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح به أمر هذه الأمة. فقال عمرو صدق وبر ونعم الناظر للإسلام وأهله، فتكلم يا أبا موسى! فأتاه ابن عباس فخلا به فقال: أنت في خدعة ألم أقل لك لا تبدأه وتعقّبه فإني أخشى أن يكون أعطاك أمراً خالياً ثم ينزعنه على ملأ من الناس واجتماعهم. فقال الأشعري: لا تخش ذلك قد اجتمعنا واصطلحنا، فقام أبو موسى فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر شيئاً هو أصلح لأمرها ولا ألمّ لشعثها من أن تبتزّ أمورها ولا نعصبها حتى يكون ذلك عن رضى منها وتشاور، وقد اجتمعت أنا وصاحبي على أمر واحد، على خلع عليّ ومعاوية وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر فيكون شورى بينهم يولون منهم من أحبوا عليهم، وأني قد خلعت علياً ومعاوية فولوا أمركم من رأيتم! ثم تنحّى. فأقبل عمرو بن العاص فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا قد قال ما قد سمعتم وخلع صاحبه وأن أخلع صاحبه كما خلعه وأُثبت صاحبي معاوية فإنه وليّ ابن عفان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه. فقال سعد بن أبي وقاص: ويحك يا أبا موسى ما أضعفك عن عمرو ومكائده! فقال أبو موسى: فما أصنع؟ جامعني على أمر ثم نزع عنه، فقال ابن عباس: لا ذنب لك يا أبا موسى الذنب لغيرك. للذي قدّمك في هذا المقام! فقال أبو موسى رحمك الله غدرني فما أصنع؟ وقال أبو موسى لعمرو: إنما مثلك كالكلب( إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ) ، فقال له عمرو: إنما مثلك مثل( الْحِمارِ

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٦، ص ٢٩.

٣٥٩

يَحْمِلُ أَسْفاراً ) . فقال ابن عمر: إلى مَ صيرت هذه الأمة؟ إلى رجل لا يبالي ما صنع وآخر ضعيف. وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: لو مات الأشعري من قبل هذا كان خيراً له.(١)

أقول: يظهر من هذه الكلمات مقام أبي موسى علماً ومعرفة:

١ - وقال أبو موسى: (عبد الله بن عمر هذا خلاف ما رأى أبوه عمر وقال في حقه، ولم يجعله من أفراد الشورى) والعجب أن أبا موسى فضّله على أمير المؤمنين (ع) ورأى خلعه ونصب عبد الله.

٢ - (أرى أن نخلع هذين الرجلين): إن رسول الله (ص) نصب علياً علماً وهادياً وأميراً وخليفة وولياً ومولى لقاطبة المسلمين، فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه. ويريد أبو موسى أن يَخلعه كما يريد أن يخلع معاوية.

٣ - (غَدَرني فما أصنع؟) من كان نظره وعرفانه بهذه الدرجة من الضعف والانحطاط والتزلزل فهو محجوب عن الحق وواقع في معرض الغدر والحيلة.

٤ - (مثل الحمار يحمل أسفاراً): أشار عمرو إلى ضعف معرفته وتدبره وسياسته. راجع وتدبر في مكالمته عمراً في ما يرويه الطبري والعقد الفريد:

العقد الفريد: فأُخلي لهما مكان يجتمعان فيه، فأمهله عمرو بن العاص ثلاثة أيام، ثم أقبل إليه بأنواع من الطعام يُشهّيّه بها، حتى إذا استبطن أبو موسى. ناجاه عمرو فقال له: يا أبا موسى، إنك شيخ أصحاب محمد (ص)، وذو فضلها وذو سابقتها، وقد ترى ما وقعت فيه هذه الأمة من الفتنة العمياء التي لا بقاء معها، فهل لك أن تكون ميمون هذه الأمة فيحقن الله بك دماءها، فإنه يقول في نفس واحدة:( وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَميعاً ) فكيف بمن أحيا أنفس هذا الخلق كله؟ قال له: وكيف ذلك؟ قال: تخلع أنت عليّ بن أبي طالب وأخلع أنا معاوية بن أبي سفيان، ونختار لهذه الأمة رجلاً لم يحضر في شيء من الفتنة ولم يغمّس يده فيها. قال له: ومن يكون ذلك؟ وكان عمرو بن العاص قد فهم

____________________

١ - الطبقات، ج ٤، ص ٢٥٦.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495