الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام0%

الحقائق في تاريخ الاسلام مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 495

الحقائق في تاريخ الاسلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة المصطفوي
تصنيف: الصفحات: 495
المشاهدات: 186576
تحميل: 6849

توضيحات:

الحقائق في تاريخ الاسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 495 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 186576 / تحميل: 6849
الحجم الحجم الحجم
الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

جملي هذا. قال: ومم ذلك؟ قلت: ما طلبت عليه أحد قط إلا أدركته ولا طلبني وأنا عليه أحد قط إلا فُتّه. قال: لو تعلم لمن نُريده لأحسنت بيعنا فرجعت فأعطوني ناقة لها مهرية وزادوني أربعمئة أو ستمئة درهم، فقال لي: يا أخا عُرينه هل لك دلالة بالطريق؟ قال قلت: نعم ؛ أنا من أدرك الناس، قال: فسِر معنا، فسِرت معهم فلا أمرّ على واد ولا ماء إلا سألوني عنه، حتى طرقنا ماء الحوأب فنبحتنا كلابها، قالوا: أيّ ماء هذا؟ قلت: ماء الحوأب، قال: فصرخت عائشة بأعلى صوتها ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته ثم قالت: أنا والله صاحبة كلاب الحوأب طُروقاً! رُدوني! تقول ذك ثلاثاً، فأناخت وأناخوا حولها، وهم على ذلك وهي تأبى، حتى كانت الساعة التي أناخوا فيها من الغد، قال: فجاءها ابن الزبير فقال: النجاء النجاء فقد أدرككم والله علي بن أبي طالب، قال: فارتحلوا وشتموني فانصرفت فما سِرت إلا قليلاً وإذا أنا بعليّ وركب معه نحو من ثلاثمئة، فقال لي عليّ: يا أيها الراكب فأتيته، فقال: أين أتيت الظعينة؟ قلت: في مكان كذا وكذا، وهذه ناقتها وبِعتُهم جملي.(١)

أقول: في هذه الكلمات موارد للنظر:

١ - قوله: (أن لا تكوني أنت هي، فقد كان رسول الله (ص) نهاني، كيف بإحداكن إذا نبحتها كلاب الحوأب، أنا والله صاحبة كلاب الحوأب طروقاً، ردوني) تدل هذه الجملات على نهيه الشديد عن هذا المسير وهذه الفتنة.

٢ - قوله: (تطلبين أمراً أنت عنه بمعزل) تدل على مباشرتها أمراً يخرج عن وظيفتها ولا يصلح لها.

٣ - (حتى جمع خمسين شيخاً قسامة فشهدوا أنه ليس بالماء الذي نُهيت عنه) إذا كان من شأن القوم أن لا يُبالوا من خلاف الرسول ومن الاستشهاد فِرية في إنفاذ ما استهووا فكيف يتوقع منهم التولي والاتباع لأمير المؤمنين (ع). ويقول فيالإمامة والسياسة : وأتاها ببينة زور من الأعراب فشهدوا بذلك فزعموا أنها أول

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٧٠.

٣٢١

شهادة زور في الإسلام.(١)

٤ - (ما أشبهه بأخيه.. (قالت رسول الله (ص)) اعترفت بأنه أخو رسول الله (ص).

مسيرها وخروجها

قال الله تعالى:( يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذي في‏ قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ في‏ بُيُوتِكُن‏ ... ) الآية.(٢)

الطبقات: وكان عبد الرحمن بن الحارث قد شهد الجمل مع عائشة وكانت عائشة تقول: لأن أكون قعدت في منزلي عن مسيري إلى البصرة أحب إليّ من أن يكون لي من رسول الله عشرة من الولد كلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث.(٣)

ويروي أيضاً: حدثني من سمع عائشة، إذا قرأت هذه الآية( وَقَرْنَ في‏ بُيُوتِكُن ) بكت حتى تبل خمارها.(٤)

أنساب الأشراف: عن أبي يزيد المدني: أن عماراً قال لعائشة يوم الجمل بعد ما فرغ الناس من القتال: سبحان الله يا أم المؤمنين! ما أبعد هذا الأمر من الأمر الذي عهد رسول الله (ص) إليك، فيه أمرك أن تقرّي في بيتك! فقالت: من هذا أبو اليقظان؟ قال: نعم. قالت: والله، إنك ما علمت تقول الحق، فقال: الحمد لله الذي قضى لي على لسانك.(٥)

وفيتاريخ الطبري: ما يقرب منها.(٦)

المحاسن للبيهقي: عن الحسن البصري، أن الأحنف بن قيس قال لعائشة يوم الجمل: يا أم المؤمنين، هل عهد عليك رسول الله (ص) هذا المسير؟ قالت: اللَّهُم

____________________

١ - الإمامة والسياسة، ص ٥٦.

٢ - الأحزاب: ٣٢.

٣ - الطبقات، ج ٥، ص ٦.

٤ - الطبقات، ج ٨، ص ٨١.

٥ - أنساب الأشراف، ج ١، ص ٨١.

٦ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ٢٢٥.

٣٢٢

لا. قال: فهل وجدته في شيء من كتاب الله جَلَّ ذكره؟ قالت: ما نقرأ إلا ما تقرءون، قال: فهل رأيت رسول الله (ص) استعان بشيء من نسائه إذا كان في قلة والمشركون في كثرة؟ قالت: اللهم لا. قال الأحنف: فإذاً ما هو ذنبنا؟!(١)

ويروي أيضاً: عن عائشة أنها دخلت على أم سلمة بعد رجوعها من وقعة الجمل وقد كانت أم سلمة حلفت أن لا تُكلمها أبداً من أجل مسيرها إلى محاربة عليّ بن أبي طالب، فقالت عائشة: السلام عليك يا أم المؤمنين! فقالت: يا حائط! ألم أنهكِ؟ ألم أقل لكِ؟ قالت عائشة: فإني استغفر الله وأتوب إليه، كلّميني يا أم المؤمنين! قالت: يا حائط! ألم أقل لك؟ ألم أنهك؟ فلم تكلمها حتى ماتت. وقامت عائشة وهي تبكي وتقول: وا أسفاه على ما فرط منّي.(٢)

ويروي أيضاً عن جميع: قلت لعائشة حدثنينا عن عليّ رضي الله عنه، قالت: تسألني عن رجل سالت نفسُ رسول الله (ص) في يده ووليّ غسله وتغميضه وإدخاله قبره. قلت: فما حملكِ على ما كان منك؟ فأرسلت خمارها على وجهها وبكت وقالت: أمر كان قُضي عليَّ.(٣)

تاريخ الطبري: وأقبل جارية بن قدامة السعدي فقال: يا أم المؤمنين، والله لقتل عثمان بن عفّان أهونُ من خروجكِ من بيتك على هذا الجمل الملعون عُرضة للسلاح، إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكتِ سترك وأبحتِ حرمتك، إنه من رأى قتالك فإنه يرى قتلك، إن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك وإن كنتِ أتيتنا مستكرهة فاستعيني بالناس. قال: فخرج غلام شاب من بني سعد إلى طلحة والزبير فقال: أما أنت يا زبير فحواري رسول الله (ص)، وأما أنت يا طلحة فوقيت رسول الله (ص) بيدك، وأرى أمكما معكما، فهل جئتما بنسائكما؟ قالا: لا، قال: فما أنا منكما في شيء واعتزل. وقال السعدي في ذلك:

____________________

١ - المحاسن للبيهقي، ص ٤٩.

٢ - نفس المصدر، ص ٢٩٧.

٣ - نفس المصدر، ص ٢٩٨.

٣٢٣

صُنتم حلائلكم وقُدتم أمكم

هذا لمعمرك قلةُ الإنصاف

أمرت بجر ذيولها في بيتها

فهوت تشقّ البيد بالإيجاف(١)

ويروي أيضاً: قال زيد بن صوحان: رحم الله أم المؤمنين أمرت أن تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل، فتركت ما أمرت به وأمرتنا به، وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه.(٢)

أقول: في هذه الروايات موارد للنظر والتحقيق:

١ - اعترفت عائشة بأن رسول الله (ص) ما استعان بشيء من نسائه، ولا عهد عليها رسول الله هذا المسير، ولا وجدته في شيء من كتاب الله تعالى.

٢ - يدل قولها: (لأن أكون قعدت في منزلي، بكت حتى تبلّ خمارها، وا أسفاه على ما فرط مني) على شدة ندامتها ونهاية تأثرها.

٣ - يستكشف أن رسول الله (ص) عهد عليها أن تقرّ في بيتها، وقد صرّحت الآية الكريمة( وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ ) بلزوم قرارها في البيت وعدم جواز الخروج منها.

٤ - أنها هتكت حرمة رسول الله (ص) بخروجها.

٥ - أنها استغفرت وتابت ومع هذا فلم تكلمها أم سلمة.

ثم أنها تولّت وكانت خطيبة القوم وهم لها تبع، مع أن رسول الله (ص) قد نهى عن تولي النساء واستخلافهن.

الاستيعاب: عن ابن عباس، قال رسول الله (ص): أيتكنّ صاحبة الجمل الأدبب، يقتل حولها قتلى كثير وتنجو بعد ما كادت. وهذا الحديث من أعلام نبوته.(٣)

مستدرك الحاكم: قال علقمة: لما خرج طلحة والزبير وعائشة تطلب دم عثمان، كانت عائشة خطيبة القوم بها وهم لها تبع.(٤)

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٧٦.

٢ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٨٤.

٣ - الاستيعاب، ج ٤، ص ١٨٨٥.

٤ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١١٨.

٣٢٤

ويروي عن أبي بكرة قال: عصمني الله بشيء من سمعته من رسول الله (ص) لما هلك كسرى، قال: من استخلفوا؟ قالوا: ابنته، قال: فقال: لن يُفلح قوم ولوا امرأة، قال، فلما قدمت عائشة ذكرت قول رسول الله (ص)، فعصمني الله به.

ويروي عن عائشة قالت: وددت أني كنت ثكلت عشرة مثل الحارث بن هشام، وإني لم أسرِ مسيري مع ابن الزبير.(١)

سنن الترمذي: عن أبي بكرة.. كما في المستدرك.(٢)

أقول: في هذه الرواية نهي شديد ومنع أكيد عن تولية النساء، وقد صرّح رسول الله (ص): بأن قوماً ولوا امرأة لن يُفلحوا، ففيها دلالة على خلاف طلحة والزبير وعدم انتهائهم بهذا النهي الصادر من رسول الله (ص)، حيث جعلوا خطيبة القوم وداعية إلى الخلاف، والقوم لها تبع.

الاستيعاب: قالت عائشة: إذا مر ابن عمر فأرونيه! فلما مر ابن عمر قالوا: هذا ابن عمر! قالت: يا أبا عبد الرحمن، ما منعك أن تنهاني عن مسيري؟ قال: رأيت رجلاً قد غلب عليك وظننت أنك لا تخالفينه، يعني ابن الزبير. قالت: أما أنك لو نهيتني ما خرجت.(٣)

أقول: ابن الزبير هو عبد الله بن الزبير، وأمه أسماء بنت أبي بكر، فعائشة تكون خالة ابن الزبير، قال علي (ع): ما زال الزبير يُعدّ منا أهل البيت حتى نشأ عبد الله.(٤)

العقد الفريد: دخل المغيرة بن شعبة على عائشة فقالت: يا أبا عبد الله لو رأيتني يوم الجمل وقد نفذت النصال هودجي حتى وصل بعضها إلى جلدي. قال المغيرة: وددت والله أن بعضها كان قتلك. قالت: يرحمك الله ولم تقول هذا؟

____________________

١ - نفس المصدر، ص ١١٩.

٢ - سنن الترمذي، ص ٣٣٠.

٣ - الاستيعاب ج ٣، ص ٩١٠.

٤ - نفس المصدر، ص ٩٠٦.

٣٢٥

قال: لعلها تكون كفارة في سعيك على عثمان. قالت: أما والله لئن قلت ذلك لما علم الله أني أردت قتله، ولكن علم الله أني أردت أن يُقاتل فقوتلت، وأردت أن يُرمى فرُميت، وأردت أن يُعصى فعُصيت، ولو علم أني أردت قتله لقُتلت.(١)

الإمامة والسياسة: وأتى محمد بن أبي بكر فدخل على أخته عائشة قال لها: أما سمعت رسول الله (ص) يقول: عليّ مع الحق والحق مع علي؟ ثم خرجتِ تُقاتلينه بدم عثمان، ثم دخل عليهما عليّ فسلم، وقال: يا صاحبة الهودج قد أمركِ الله أن تقعدي في بيتك ثم خرجتِ تُقاتلين، أترتحلي؟ قالت: أرتحل. فبعث معها علي (رض) أربعين امرأة.(٢)

العقد الفريد: لما كان يوم الجمل ما كان وظفر عليّ بن أبي طالب، دنا من هودج عائشة، فكلمها بكلام. فأجابته: ملكت فأسجع. فجهّزها عليّ بأحسن الجهاز وبعث معها أربعين امرأة، وقال بعضهم سبعين امرأة - حتى قدمت المدينة.(٣)

أقول: يستفاد من هذه الأحاديث أمور:

١ - أنها أرادت أن يُقاتَل عثمان وأن يُعصى وأن يُرمى.

٢ - أنها سمعت من رسول الله (ص): عليّ مع الحق والحقّ مع عليّ.

٣ - قد أمرها الله أن تقعد في بيتها:( وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ ) .

٤ - أنها خرجت تقاتل علياً، وقال رسول الله (ص): اللَّهُم عادِ من عاداه.

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٢٩٦.

٢ - الإمامة والسياسة، ج ١، ص ٦٨.

٣ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٢٨.

٣٢٦

فتنة:

الجمل في زمان أمير المؤمنين (ع)

الملل والنحل: الخلاف العاشر في زمان أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له، فأول خروج، خروج طلحة والزبير إلى مكة ثم حمل عائشة إلى البصرة، ثم نصب القتال معه، ويعرف ذلك بحرب الجمل، والحق أنهما رجعا وتابا إذ ذكرهما أمرا فتذكرا، فأما الزبير فقتله ابن جرموز وقت الانصراف وهو في النار، لقول النبي (ص):بشِّر قاتل ابن صفية بالنار . وأما طلحة فرماه مروان بن الحكم بسهم وقت الإعراض فخرّ ميتاً. وأما عائشة وكانت محمولة على ما فعلت ثم تابت بعد ذلك ورجعت.(١)

تاريخ الطبري: ولما رجع ابن عباس إلى عليّ بالخبر دعا الحسن بن عليّ فأرسله، فأرسل معه عمار بن ياسر، فقال له: انطلق فأصلح ما أفسدت، فأقبلا حتى دخلا المسجد (في الكوفة) فكان فخرج أبو موسى فلقي الحسن فضمه إليه، وأقبل على عمار فقال: يا أبا اليقظان، أعدوت فيمن عدا على أمير المؤمنين فأحللت نفسك مع الفجار، فقال: لم أفعل ولم تسؤني، وقطع عليهما الحسن فأقبل على أبي موسى فقال: يا أبا موسى، لِمَ تُثبّط الناس عنّا فوالله ما أردنا إلا الإصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يُخاف على شي، فقال: صدقت بأبي أنت وأمي ولكن المستشار مؤتمن، سمعت رسول الله (ص) يقول:أنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الراكب .(٢)

أقول: قلنا إن هذه الرواية ناظرة إلى مورد الاشتباه والفتنة، وأما في هذا المقام فالتكليف فيها واضحة متعين ؛ حيث إن الدعوة صادرة من أمير المؤمنين

____________________

١ - الملل والنحل، ج ١، ص ٢١.

٢ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٨٧.

٣٢٧

عليّ (ع) وهو خليفة رسول الله (ص) ظاهراً وباطناً والحق معه حيث ما دار، وكما قال الحسن سيد شباب أهل الجنة: ما أردنا إلا الإصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يُخاف على شيء.

ويروي أيضاً: وأقبل زيد على حمار حتى وقف بباب المسجد ومعه الكتابان من عائشة إليه وإلى أهل الكوفة، وقد كان طلب كتاب العامة فضمّة إلى كتابه فأقبل بهما ومعه كتاب الخاصة وكتاب العامة: أما بعد، فثبّطوا أيها الناس واجلسوا في بيوتكم إلا عن قتلة عثمان بن عفان. فلما فرغ من الكتاب قال: أمرتْ بأمر وأمرنا بأمر، أمرت أن تقر في بيتها فأمرنا أن نُقاتل حتى لا تكون فتنة. فأمرتنا بما أُمرت به وركبتْ ما أُمرنا به! فقام إليه شبث بن ربعي فقام القعقاع بن عمرو فقال: إني لكم ناصح وعليكم شفيق أحبّ أن ترشدوا ولأقولن لكم قولاً هو الحق، أما ما قال الأمير ( يريد أبا موسى ) فهو الأمر لو أن إليه سبيلاً، وأما ما قال زيد، فزيد في هذا الأمر فلا تستنصحوه فإنه لا ينتزع أحد من الفتنة طعن فيها وجرى إليها، والقول الذي هو القول إنه لابد من إمارة تنظم الناس وتزع الظالم وتُغزّ الظالم وتُعزّ المظلوم وهذا عليّ يلي بما ولى وقد أنصف في الدعاء وإنما يدعو إلى الإصلاح فانفروا وكونوا من هذا الأمر بمَرأى ومَسمع، وقال سيحان: أيها الناس، إنه لابد لهذا الأمر وهؤلاء الناس من وال يدفع الظالم ويُعز المظلوم، ويجمع الناس، وهذا واليكم يدعوكم لينظر فيما بينه وبين صاحبيه، وهو المأمون على الأمة الفقيه في الدين فمن نهض إليه فإنا سائرون معه وقام الحسن بن علي فقال: يا أيها الناس، أجيبوا دعوة أميركم وسيروا إلى إخوانكم فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لأن يليه أولوا النهي أمثل في العاجلة وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم. فسامح الناس وأجابوا ورضوا به.(١)

ويروي أيضاً: عن كُليب الجرمي قال: فانتهينا إلى عليّ فسلمنا عليه ثم

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٨٨.

٣٢٨

سألناه عن هذا الأمر، فقال: عدا الناس على هذا الرجل وأنا معتزل فقتلوه، ثم ولوني وأنا كاره، ولولا خشيتي على الدين لم أجبهم، ثم طفق هذان في النكث فأخذتُ عليهما وأخذت عهودهما عند ذلك وأذنت لهما في العمرة، فقدما على أمهما حليلة رسول الله (ص) فرضيا لها ما رغبا لنسائهما عنه، وعرضاها لما لا يحل لهما ولا يصلح، فاتبعتُهما لكيلا يفتقوا في الإسلام فتقاً ولا يخرقوا جماعة، ثم قال أصحابه: والله لا نريد قتالهم إلا أن يقاتلوا، وما خرجنا إلا لإصلاح.(١)

ويروي أيضاً: قال الأحنف: فلقيت طلحة والزبير فقلت: من تأمراني به وترضيانه لي فإني لا أرى هذا الرجل إلا مقتولاً؟ قالا: علي. قلت أتأمراني به وترضيانه لي؟ قالا: نعم. فانطلقت حتى قدمت مكة فبينا نحن بها إذا أتانا قتل عثمان، وبها عائشة أم المؤمنين، فلقيتها فقلت: من تأمرين أن أبايع؟ قالت: علي. قلت: تأمريني به وترضينه لي؟ قالت: نعم. فمررت على عليّ بالمدينة فبايعته ثم رجعت إلى أهلي بالبصرة، ولا أرى الأمر إلا قد استقام، قال: فبينا إنا كذلك إذ أتاني آت فقال: هذه عائشة وطلحة والزبير قد نزلوا جانب الخُريبة، فقلت: ما جاء بهم؟ قالوا: أرسلوا إليك يدعونك يستنصرون بك على دم عثمان، فأتاني أفظع أمر لم يأتني قط، فقلت: إنّ خذلاني هؤلاء ومعهم أم المؤمنين وحواري رسول الله (ص) لشديد، وإن قتالي رجلاً ابن عم رسول الله (ص) قد أمروني ببيعته: يا أم المؤمنين، أنشدك بالله أقلت لك من تأمريني به؟ فقلتِ: علي. فقلت: أتأمريني به؟ وترضينه لي. قتل: نعم؟ قالت: نعم ولكنه بدلّ.

فقلت: يا زبير، يا حواري رسول الله، يا طلحة، أنشدكم الله أقلت لكما: من تأمراني؟ فقلتما: علي. فقلت: أتأمراني به وترضيانه لي؟ فقلتما: نعم؟ قالا: نعم ولكنه بدلّ. فقلت والله لا أقاتلكم ومعكم أم المؤمنين وحواري رسول الله (ص)، ولا أقاتل رجلاً ابن عم رسول الله (ص) أمرتموني ببيعته.(٢)

____________________

١ - نفس المصدر السابق، ص ١٩٣.

٢ - نفس المصدر، ص ١٩٧.

٣٢٩

العقد الفريد: نظيره.(١)

أقول: في هذه الكلمات موارد للنظر والتدبر:

١ - قوله: (والحق أنهما رجعا وتابا، ثم تابت بعد ورجعت) خلافهم وعصيانهم وإفسادهم في الأرض محقق واقع، وأما توبتهم ورجوعهم وقبول توبتهم أمر محتمل الصدق والكذب، ولابد من إقامة الدليل واثبات المدعى. نعم ؛ يدل على توبة الزبير حديث: (بشر قاتل ابن صفية بالنار) إن صح الحديث. وكذا حديث(أبى الله أن يدخل طلحة الجنة إلا وبيعتي في عنقه) .

٢ - واجلسوا في بيوتكم إلا عن قَتَلة عثمان: هذا القول من عائشة في نهاية الضعف، فإن القعود عن الدفاع ومخالفة الإمام لا يوافق كتاباً ولا سنة. وأما محاربة قتلة عثمان، فإن كان المراد القتلة حقيقة: فهم لا يتجاوزون عن ثلاثة أفراد عادة. وإن أرادت منهم من أعد واستعد لقتاله: فهي والزبير وطلحة على رأسهم.

٣ - ولكنه بدلّ: هذه الكلمة من عائشة والزبير وطلحة بعد اعترافهم على مقام الخلافة والإمامة لعلي (ع) أنما وقعت في زمان خلافهم وتمرّدهم وعصيانهم ولم يأتوا بما يوجب طعناً في ولاية أمير المؤمنين (ع)، وسبق أنهم تابوا ورجعوا إلى عقيدتهم. ثم إن أهلية الإمامة ومقام الخلافة ثابتة له، وأما تبديله: فلم يثبت ويحتاج إلى الإثبات، مع أن رسول الله (ص) قال: علي مع الحق والحق مع عليّ يدور حيث ما دار، وقال: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي.

العقد الفريد: عن ابن أبزى قال: انتهى عبد الله بن بديل ( كان سيد خزاعة وكان له قدر وجلالة ) إلى عائشة وهي في الهودج، فقال: يا أم المؤمنين، أنشدك بالله أتعلمين أني أتيتك يوم قتل عثمان فقلت لك: إن عثمان قد قتل فما تأمريني به فقلت لي: الزم علياً؟ فوالله ما غيّر وما بدل! فسكتت. ثم أعاد عليها، فسكتت ؛ ثلاث مرات. فقال: أعقروا الجمل، فعقروه.(٢)

ثم يروي عن عكرمة: لما انقضى أمر الجمل دعى عليّ بن أبي طالب ...

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٢٠.

٢ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٢٨.

٣٣٠

أين ابن عباس؟ قال ابن عباس فدُعيت له من كل ناحية، فأقبلت إليه، فقال: ائتِ هذه المرأة فلترجع إلى بيتها الذي أمرها الله أن تقرّ فيه. قال: فجئت فاستأذنت عليها فلم تأذن لي، فدخلت بلا إذن ومددت يدي إلى وسادة في البيت فجلست عليها، فقالت: تالله يا ابن عباس ما رأيت مثلك تدخل بيتنا بلا إذننا وتجلس على وسادتنا بغير أمرنا. فقلت: والله ما هو بيتك، ولا بيتك إلا الذي أمرك الله أن تقرّي فيه فلم تفعلي، إن أمير المؤمنين يأمرك أن ترجعي إلى بلدك الذي خرجتِ منه.

الاستيعاب: لما خرج طلحة والزبير كتبت أم الفضل بنت الحارث إلى عليّ بخروجهم، فقال عليّ: العجب لطلحة والزبير إن الله عَزَّ وجَلَّ لما قبض رسوله (ص) قلنا: نحن أهله وأولياؤه لا ينازعنا سلطانه أحد، فأبى علينا قومنا فولوا غيرنا! وايم الله لولا مخافة الفرقة وأن يعود الكفر ويبوء الدين لغيرنا، فصبرنا على بعض الألم، ثم لم نر بحمد الله إلا خيراً، ثم وثب الناس على عثمان فقتلوه، ثم بايعوني ولم أستكره أحداً، وبايعني طلحة والزبير ولم يصبرا شهراً كاملاً حتى خرجا إلى العراق ناكثين! اللَّهُم فخذهما بفتنتهما للمسلمين.(١)

الاستيعاب: أن عثمان بن حُنيف لما كتب الكتاب بالصلح بينه وبين الزبير وطلحة وعائشة: أن يكفّوا عن الحرب ويبقى هو في دار الإمارة خليفة لعليّ على حاله حتى يقدم عليّ (رض) فيرون رأيهم. قال عثمان بن حنيف لأصحابه: ارجعوا وضعوا سلاحكم. فلما كان بعد أيام. جاء عبد الله بن الزبير في ليلة ذات ريح وظلمة وبرج شديد، ومعه جماعة من عسكرهم، فطرقوا عثمان بن حُنيف في دار الإمارة فأخذوه ثم انتهوا به إلى بيت المال فوجدوا أناساً من الزُطّ يحرسونه، فقتلوا منهم أربعين رجلاً وأرسلوا بما فعلوه من أخذ عثمان وأخذ ما في بيت المال إلى عائشة يستشيرونها في عثمان، وكان الرسول إليها أبان بن عثمان، فقالت: اقتلوا عثمان بن حُنيف! فقالت لها امرأة: ناشتدك

____________________

١ - الاستيعاب، ج ٢، ص ٤٩٧.

٣٣١

الله يا أم المؤمنين في عثمان بن حُينف وصحبته لرسول الله (ص)؟ فقالت: رُدوا أباناً، فردوه. فقالت: أحبسوه ولا تقتلوه. فقال أبان: لو أعلم أنك رددتني لهذا لم أرجع، وجاء فأخبرهم. فقال لهم مجاشع بن مسعود: اضربوه وانتفوا شعر لحيته ؛ فضربوه أربعين سوطاً ونتفوا شعر لحيته وحاجبه وأشفار عينه.(١)

أقول: انظروا في جنايات هذه الطائفة المضلة، الذين ادعوا بأنهم إنما خرجوا لإصلاح الأمة الإسلامية!

وليعلم: بأن هذه الفتن الثلاثة (خروج طلحة والزبير، خروج عائشة، حرب الجمل) مستندة إلى طلحة والزبير، وقد اتضح من روايات هذه الفتن أن خلافهما ونقض بيعتهما قد أثار هذه الفتن، بل وفتنة حكومة معاوية وحرب صفين أيضاً.

ولا يبعد أن نقول: إن مبدأ الفتن كلها ومنشأ الخلاف في المسلمين إنما تحقق في نقطتين، وهاتان النقطتان:أولاهما المنع عن وصية رسول الله (ص)،وثانيتهما نقض بيعة طلحة والزبير.

وقد قال ابن عباس في الأولى: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (ص) وبين وصيته، ويوم الخميس وما يوم الخميس. ونحن نقول في الثانية: وتمام الرزية وكمالها في يوم نقض طلحة والزبير بيعة أمير المؤمنين علي (ع). نعم، هاتان النقطتان منعتا عن بسط الحق والعدل، وأثارتا الفتن والأحداث وأشاعتا الجور والعدوان، وغيّرتا سبيل الهدى، وفي أثر هذا التغيير والتحريف ظهرت الحكومات الأموية والعباسية، فبدلوا وحرفوا وظلموا وضلوا وأضلوا.

وعلى هذا يقول عليّ (ع): إن فعلوا هذا فقد انقطع نظام المسلمين. ويقول: إنها فتنة كالنار كلما سُعّرت ازدادت. ويقول: أتُريد أن أكون مثل الضبع التي يحاط بها! وقد قال رسول الله (ص): إنه يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله! فمن منع عن الوصية فقد منع عن إجراء التنزيل، ومن نقض البيعة لعليّ (ع) فقد منع عن إجراء التأويل.

____________________

١ - الاستيعاب، ج ١، ص ٣٦٨.

٣٣٢

فتنة:

حكومة معاوية

أول حكومة أسّست للدنيا خالصة في الإسلام

العقد الفريد: أخبرني الحسن قال: علم معاوية والله إن لم يُبايعه عمرو لم يتمّ له أمر، فقال له: يا عمرو اتبعني. قال: لماذا؟ للآخرة فوالله ما معك آخرة، أم للدنيا. فوالله لا كان حتى أكون شريكك فيها. قال: فأنت شريكي فيها! قال: فاكتب لي مصر وكورها! فكتب له مصر وكورها.

وقالوا لما قدم عمرو بن العاص على معاوية وقام معه في شأن علي، بعد أن جعل له مصر طعمة، قال له: إن بأرضك رجلاً له شرف واسم، والله إن قام معك استهويتَ به قلوب الرجال، وهو عبادة بن الصامت. فأرسل إليه معاوية. فلما أتاه وسّع بينه وبين عمرو بن العاص، فجلس بينهما. فحمد الله معاوية وأثنى عليه وذكر فضل عبادة وسابقته، وذكر فضل عثمان وما ناله، وحضه على القيام معه. فقال عبادة: قد سمعت ما قلت، أتدريان لِمَ جلست بينكما كذلك، وما كنت لأجلس بينكما في مكانكما، ولكن بينما نحن نسير مع رسول الله (ص) في غزاة تبوك، إذ نظر إليكما تسيران وأنتما تتحدثان، فالتفت إلينا فقال: إذا رأيتموهما اجتمعا ففرقوا بينهما إنهما لا يجتمعان على خير أبداً، وأنا أنهاكما عن اجتماعكما.(١)

تاريخ الطبري: عن ابن عباس قدمت المدينة وقد بويع لعليّ فأتيته في داره، فوجدت المغيرة بن شعبة مستخلياً به، فحبسني حتى خرج من عنده، فقلت:

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٤٥.

٣٣٣

ماذا قال لك هذا؟ فقال: قال لي قبل مرّته هذه: أرسل إلى عبد الله بن عامر وإلى معاوية وإلى عمّال عثمان بعهودهم تقرهم على أعمالهم ويبايعون لك الناس فإنهم يهدّئون البلاد ويسكنون الناس! فأبيت ذلك عليه يومئذٍ وقلت: والله، لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي ولا ولّيت هؤلاء ولا مثلهم يولّى قال ابن عباس: فقلت لعليّ أما المرة الأولى فقد نصحك، وأما المرة الآخرة فقد غشك، قال له عليّ: ولِمَ نصحني؟ قال ابن عباس: لأنك تعلم أن معاوية وأصحابه أهل دنيا فمتى تُثبتهم لا يبالوا بمن ولى هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولوا: أخذ هذا الأمر بغير شورى وهو قتل صاحبنا ويُؤلّبون عليك أهل الشام وأهل العراق، مع أني لا آمن طلحة والزبير أن يكرّا عليك. فقال عليّ: أما ما ذكرت من إقرارهم، فوالله ما أشك أن ذلك خير في عاجل الدنيا لإصلاحها. وأما الذي يلزمني من الحق والمعرفة بعمّال عثمان! فوالله لا أولّي منهم أحداً أبداً، فإن أقبلوا فذلك خير لهم وإن أدبروا بذلت لهم السيف.(١)

أقول: الحكومة إما لغرض دنيوي من تحصيل المال والعنوان والرئاسة والملك والاختيار التام، وإما لغرض إلهي من جهة إحقاق الحق وإبطال الباطل وترويج الحقيقة وإجراء الأحكام الإلهية: ففي القسم الأول لابد من التشبّث والتوسل بأي وسيلة ممكنة، والسلوك بأيّ طريق موصلة إلى المقصد الدنيويّ المنظور، من تزوير وظلم وجور وإبطال حق ومخالفة صدق وسياسة غير صحيحة وتدبيرات فاسدة وإرعاب الناس وقتلهم وصلبهم وحبسهم بعناوين مختلفة.

وأما القسم الثاني: فليس المقصود الأعلى فيه إلا إحياء الحق وإحقاقه وكسر الباطل وإبطاله، ولو تعارض الحكومة وإحقاق حق: فيختار الحاكم الحقيقة والحق ولا يبالي زوال الملك والحكومة.

ويروي: عن ابن عباس قال: فإن كنت قد أبيت عليّ، فانزع من شئت واترك معاوية، فإن لمعاوية جرأة وهو في أهل الشام يُسمع منه، ولك حجة في

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٥٩.

٣٣٤

إثباته، كان عمر بن الخطاب قد ولاه الشام كلها! فقلت: لا والله لا استعمل معاوية يومين أبداً.(١)

أقول: الهدف المنحصر لعلي (ع) من الخلافة ليس إلا إحقاق الحق، فلا يرفع قدماً فيها إلا بالحق وللحق ومع الحق، بل كما قال رسول الله (ص): إن الحق مع عليّ يدور معه حيث ما دار، فكيف يمكن له أن يُثبت باطلاً ويُساعده ويُمضيه.

ويروي: كان رسول أمير المؤمنين إلى معاوية سبرة الجهنيّ فقدم عليه، فلم يكتب معاوية بشيء ولم يُجبه، ورد رسوله، وجعل كلما تنجّز جوابه لم يزد على قوله:

أدم إدامة حصن أو جداً

حرباً ضروساً تشبّ الجزل والضرما

حتى إذا كان الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر: دعا معاوية برجل من بني عبس، ثم أحد بني رواحة يدعى قبيصة، فدفع إليه طوماراً مختوماً عنوانه من معاوية إلى علي: فقال إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار، ثم أوصاه بما يقول وسرّح رسول عليّ، وخرجا فقدما المدينة في ربيع الأول لغرّته، فلما دخلا المدينة رفع العبسي الطومار كما أمره، وخرج الناس ينظرون إليه، فتفرقوا إلى منازلهم وقد علموا أن معاوية معترض، ومضى حتى يدخل على عليّ فدفع إليه الطومار ففضّ خاتمه فلم يجد في جوفه كتابة، فقال للرسول: ما وراءك؟ قال: آمن أنا؟ قال: نعم، إن الرسل آمنة لا تقتل. قال: ورائي أني تركت قوماً لا يرضون إلا بالقود. قال: ممن؟ قال: من خيط نفسك. وتركتُ ستين ألف شيخ يبكي تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم قد ألبسوه منبر دمشق. فقال: مني يطلبون دم عثمان؟! ألست موتوراً كتِرة عثمان؟ اللَّّهُم إني أبرأ إليك من دم عثمان.(٢)

أقول: ينبغي أن يُتوجه إلى أمور:

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٦٠.

٢ - نفس المصدر، ص ١٦٢.

٣٣٥

١ - بيعة علي (ع) أقوى وأتم من بيعة أبي بكر.

الأول : أنها وقعت من دون أعمال زور وتزوير وتهيئة مقدمة والتشبّث بوسائل ومخاطبات واحتجاجات.

الثاني : أنها وقعت في المرتبة الأولى باتفاق من المهاجرين والأنصار في المسجد، من دون خلاف من أحد من أصحاب رسول الله (ص).

الثالث : أنها وقعت فيمن وردت الروايات المتواترة والأحاديث الكثيرة في فضائله وأنه أحب الناس إلى الله وإلى رسوله وأنه أعلم الأمة وأقضاها وأتقاها وأشجعها.. فكيف يجوز لمثل معاوية وأتباعه أن يخالفه ويعانده ويقاتله.

٢ - قلنا: إن علياً كان ممن نصر عثمان ورد مخالفيه كراراً، وهو الذي أرسل ابنيه الحسنين (ع) إلى بيته ليذبّا عنه ويدفعا سوء قصد المخالفين. وأما معاوية فهو الذي لم يُجب استغاثته واستنصاره، وكفَّ عن تأييده بجنوده.

٣ - ولا يخفى أن معاوية هو أول من عمل بالكيد والمكر والسياسة الباطلة والتزوير، ولم يكن له هدف إلا الحكومة والسلطنة، وكان متوسلاً بأي عمل منكر وظلم قبيح الموصول إلى مقصده الدنيويّ. ونعم، ما كتب إليه قيس بن سعد بن عبادة أمير مصر: أما بعد، فإن العجب من اغترارك بي وطمعك فيّ واستسقاطك رأيي، أتسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمرة، وأقولهم للحق وأهداهم سبيلاً وأقربهم من رسول الله (ص) وسيلة، وتأمرني بالدخول في طاعتك! طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم للزور وأظلهم سبيلاً وأبعدهم من الله عزَّ وجلَّ ورسوله (ص) وسيلة وله ضالين مُضلين طاغوت من طواغيت إبليس.(١)

ويقول عمار: كما في الطبري أيضاً: وأخذ عمار يقول: يا أهل العراق، أتريدون أن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله وجاهدهما وبغى على المسلمين وظاهر المشركين فلما رأى الله عَزَّ وجَلَّ يُعز دينه ويُظهر رسوله أتى النبي (ص) فأسلم

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص٢٢٩.

٣٣٦

وهو فيما يرى راهب غير راغب، ثم قبض الله عَزَّ وجَلَّ رسوله (ص) فوالله إن زال بعده معروفاً بعداوة المسلم وهوادة المجرم، فاثبتوا له وقاتلوه فإنه يطفئ نور الله ويُظاهر أعداء الله عَزَّ وجَلَّ.(١)

العقد الفريد: قال معاوية لأبي الطفيل: كيف وجدك على عليّ؟ قال: وجد ثمانين مُثكِلاً. قال: فكيف حبك له؟ قال: حب أم موسى، وإلى الله أشكو التقصير. وقال له مرة أخرى: أبا الطفيل! قال: نعم، قال: أنت من قتلة عثمان؟ قال: لا ولكني ممن حضره ولم ينصره. قال: وما منعك من نصره؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار فلم أنصره. قال: لقد كان حقه واجباً وكان عليهم أن ينصروه. قال: فما منعك من نصرته يا أمير المؤمنين وأنت ابن عمه؟ قال: أو ما طلبي بدمه نصرة له؟ فضحك أبو الطفيل، وقال: مثلك ومثل عثمان كما قال الشاعر:

لأعرفنّك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زوّدتني زادا

ويروي أيضاً: وكتب عليّ إلى معاوية بعد وقعة الجمل: سلام عليك، أما بعد، فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار وللغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضاً، وإن خرج عن أمرهم خارج ردوه إلى ما خرج عنه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً، ما أعذرت إليهما حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإن أحب الأمور إليّ قبولك العافية، وقد كثرت في قتلة عثمان، فإن أنت رجعت عن رأيك وخلافك ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكمت القوم إليّ حملتك وإياهم على كتاب الله. وأما تلك التي تريدها فهي

____________________

١ - نفس المصدر السابق، ج ٦، ص ٧.

٢ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٢٩.

٣٣٧

خدعة الصبي عن البن، ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّي أبرأ قريش من دم عثمان، واعلم أنك من الطُلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا يدخلون الشورى.(١)

ويروي: كتابا آخر منه (عليه السلام) إلى معاوية، فيه: وأما قولك: إن أهل الشام هم حكام أهل الحجاز، فهات رجلاً من أهل الشام يُقبل في الشورى أو تحل له الخلافة، فان سمَّيتَ كذّبك المهاجرون والأنصار، ونحن نأتيك به من أهل الحجاز. وأما قولك ادفع إلي قتلة عثمان فما أنت وذاك، وهاهنا بنو عثمان وهم أولى بذلك منك، فإن زعمت أنك أقوى على طلب دم عثمان منهم فارجع إلى البيعة التي لزمتك وحاكم القوم إلي.(٢)

أقول: في هذه الكلمات موارد للتحقيق:

١ - قول معاوية: (أو ما طلبي بدمه نصرة له) قد اعترف في ضمن هذا الكلام بأنه لم ينصر عثمان ولم يُجب استنصاره، بل هيّج العداوة وبُغضَ الناس عليه بأعماله المخالفة.

٢ - (فإن بيعتي بالمدينة لزمتك) البيعة للخلافة الظاهرية والحكومة الدنيوية نافذة إذا وقعت باتفاق المهاجرين والأنصار، وهم في الطبقة الأولى من المسلمين، فإذا اجتمعوا على أمر مختارين غير مكرهين وفيه صلاح المسلمين كان ذلك لله رضاً، ولا يجوز لأحد من الحاضرين والغائبين أن يخالفهم.

٣ - (إنك من الطلقاء) وهم الذين أسلموا بعد أن فتح رسول الله (ص) مكة، وقال لأهل مكة: اذهبوا فأنتم الطُلقاء.

أخبار إصبهان : عن جرير عن النبي (ص) قال: المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض.(٣)

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٣٢.

٢ - نفس المصدر، ص ٣٣٤.

٣ - أخبار أصبهان، ج ١، ص ١٤٦.

٣٣٨

ويروي في العقد أيضاً: في جواب سعد بن أبي وقاص عن ما كتب إليه معاوية: أما بعد، فإن عمر لم يُدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة، فلم يكن أحد أولى بها من صاحبه إلا باجتماعنا عليه، غير أن علياً كان فيه ما فينا ولم يكن فينا ما فيه، ولو لم يطلبها ولزم بيته لطلبته العرب ولو بأقصى اليمن، وهذا الأمر قد كرهنا أوله وكرهنا آخره. وأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما لكان خيراً لهما، والله يغفر لأم المؤمنين ما أتت.(١)

الاستيعاب: عبد الرحمن بن غنم الأشعري، وهو الذي عاتب أبا هريرة وأبا الدرداء بحمص إذ انصرفا من عند عليّ (رض) رسولين لمعاوية، وكان مما قال لهما: عجباً منكما كيف جاز عليكما ما جئتما به، تدعوان علياً أن يجعلها شورى، وقد علمتما أنه قد بايعه المهاجرون والأنصار وأهل الحجاز والعراق، وأن من رضيه خير ممن كرهه، ومن بايعه خير ممن لم يُبايعه. وأيّ مدخل لمعاوية في الشورى وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة، وهو وابوه من رؤوس الأحزاب. فقدما على مسيرهما وتابا منه بين يديه.(٢)

الاستيعاب: لما قتل عثمان وبايع الناس علياً، دخل عليه المغيرة بن شعبة، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لك عندي نصيحة. قال: وما هي؟ قال: إن أردت أن يستقيم لك الأمر فاستعمل طلحة بن عبيد الله على الكوفة، والزبير بن العوام على البصرة، وابعث معاوية بعهده على الشام حتى تلزمه طاعتك، فإذا استقرت لك الخلافة فأدرها كيف شئت برأيك! قال علي: أما طلحة والزبير فسأرى رأيي فيهما، وأما معاوية فلا والله لا أراني الله مستعملاً له ولا مستعيناً به ما دام على حاله، ولكني أدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون، فإن أبى حاكمته إلى الله. وانصرف عنه المغيرة مغضباً ثم خرج عنه، فلقيه الحسن وهو خارج، فقال لأبيه: ما قال لك هذا الأعور؟ قال: أتاني أمس بكذا وأتاني اليوم بكذا قال له علي: إن أقررتُ معاوية على ما في يده كنت متخذاً المضلين

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٣٨.

٢ - الاستيعاب، ج ٢، ص ٨٥٠.

٣٣٩

عضداً.(١)

البدء والتاريخ: ولما بلغ الخبر معاوية قال: إن خليفتكم قد قُتل مظلوماً، وإن الناس بايعوا علياً، ولست أنكر أنه أفضل مني وأولى بهذا الأمر، ولكن أنا وليّ هذا الأمر ووليّ عثمان وابن عمه والطالب بدمه، وقتلة عثمان معه فليدفعهم إليَّ اقتلهم بعثمان ثم أبايعه! فرأى أهل الشام أنه قد طلب حقاً، وهم قوم فيهم غفلة وقلة فطنة، إما أعرابي جاف، وأما مدنيّ مُغفل.(٢)

أقول: في هذا الكلام موارد للنظر:

١ - قوله: خليفتكم قد قُتل مظلوماً! وقد ادعى أكثر المهاجرين والأنصار أنه ظلم نفسه: بتولية من ليس له أهلية، وتقسيم المال إلى أقاربه، وطرد بعض من كبار الصحابة كأبي ذرّ وعمار وابن مسعود وغيرهم.

٢ - قوله: أنا وليّ هذا الأمر ووليّ عثمان وابن عمه والطالب بدمه. ولايته بالشام كان من جانب الخليفة عثمان لا بالاستقلال، وتنقضي بموته، ولا بد في بقائها ودوامها أن يُجزيها ويُوليه الخليفة اللاحق، وقد صرّح وأكدّ بعزله، فهو غاصب ومن المخالفين الظالمين. وأما كونه ولياً لعثمان: فليس له هذه الولاية، ولعثمان أولاد وأقارب وأرحام قريبة، ولهم أن يتحاكموا عند وليّ الأمر والقاضي المنصوب، كما صرّح به أمير المؤمنين (ع).

٣ - قوله: فليدفعهم إليَّ. هذا الكلام في غاية الوهن، فإن القاتل - على فرض معروفيّته - لا يجوز أن يُدفع إلى من ليس بوليّ الأمر ولا وليّ عثمان. نعم، يقبل هذه الأقوال من له غفلة وقلة فطنة.

ثم إنه يستفاد من روايات هذه الفصل أمور نشير إليها بالترتيب:

١ - قول عمرو بن العاص خطاباً لمعاوية: فوالله ما معك آخرة. وعمرو كان من أعرف الناس به.

٢ - قول معاوية لعمرو: فأنت شريكي فيها، فكتب له مصر وكورها.

____________________

١ - نفس المصدر السابق، ج ٤، ص ١٤٤٧.

٢ - البدء والتاريخ، ج ٥، ص ٢١٠.

٣٤٠