الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام12%

الحقائق في تاريخ الاسلام مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 495

الحقائق في تاريخ الاسلام
  • البداية
  • السابق
  • 495 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193041 / تحميل: 7451
الحجم الحجم الحجم
الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

عن مظاهر معاوية الزائفة، ليبرز حينئذٍ هو وسائر أبطال (الأمويّة) كما هُم جاهليّين، لم تخفق صدورهم بروح الإسلام لحظة، ثأريّين لم تُنسِهم مواهب الإسلام ومراحمه شيئاً من أحقادِ بدرٍ وأُحد والأحزاب.

وبالجملة فإنّ هذه الخطّة ثورةٌ عاصفة في سلمٍ لم يكن منه بُد، أملاه ظرفُ الحسن، إذ التبس فيه الحقّ بالباطل، وتسنّى للطغيان فيه سيطرةٌ مسلّحةٌ ضارية.

وما كان الحسن ببادئ هذه الخطّة ولا بخاتمها، بل أخذها فيما أخذه من إرثه، وتركها مع ما تركه من ميراثه، فهو كغيره من أئمّة هذا البيت، يسترشد الرسالة في إقدامه وفي إحجامه، امتُحن بهذهِ الخطّة فرضَخ لها صابراً محتسباً وخرجَ منها ظافراً طاهراً، لم تُنجّسه الجاهليّة بأنجاسها، ولم تُلبسه من مُدلهمّات ثيابها.

أخذ هذه الخطّة من صلح (الحديبيّة) فيما أثَر من سياسة جدّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وله فيه أسوةٌ حسنة، إذ أنكر عليه بعضُ الخاصّة مِن أصحابه كما أنكر على الحسن صُلح (ساباط) بعض الخاصّة من أوليائه، فلم يهن بذلك عزمه، ولا ضاق به ذرعه.

تهيّأ للحسن بهذا الصلح أنْ يَغرس في طريق معاوية كميناً من نفسه، يثور عليه من حيث لا يشعر فيُرديه، وتسنّى له به أْن يلغم نصر الأمويّة ببارود الأمويّة نفسها، فيجعل نصرها جفاء، وريحا هباء.

لم يطل الوقت حتّى انفجرت أُولى القنابل المغروسة في شروط الصلح، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره، إذ انضم جيش العراق إلى لوائه في النخيلة، فقال - وقد قام خطيباً فيهم -:( يا أهل العراق، إنّي والله لم أُقاتلكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتزكّوا، ولا لتحجّوا، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وانتم كارهون.

ألا وأنّ كلّ شيء أعطيته للحسن بن عليّ جعلته تحتَ قدمَيَّ هاتين!) .

فلمّا تمّت له البيعة خطب فذكر عليّاً فنال منه، ونال من الحسن، فقام الحسين

١٦١

ليردّ عليه، فقال له الحسن:(على رسلك يا أخي) .

ثمّ قال (عليه السلام) فقال:(أيها الذاكر عليّاً! أنا الحسنُ وأبي عليّ، وأنتَ معاوية وأبوك صخر، وأُمّي فاطمة وأُمّك هند، وجدّي رسولُ الله وجدّك عتبة، وجدّتي خديجة وجدّتك فتيلة، فلعنَ الله أخملنا ذكراً وألأَمَنا حسباً، وشرّنا قديماً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً!).

فقالت طوائف من أهل المسجد: (آمين).

ثمً تتابعت سياسة معاوية، تتفجّر بكلّ ما يُخالف الكتاب والسنة مِن كلّ منكرٍ في الإسلام، قتلاً للأبرار، وهتكاً للأعراض، وسلباً للأموال، وسجناً للأحرار، وتشريداً للمصلحين، وتأييداً للمفسدين الذين جعلهم وزراء دولته، كابن العاص، وابن شعبة، وابن سعيد، وابن ارطاة، وابن جندب، وابن السمط، وابن الحكَم، وابن مرجانة، وابن عقبة، وابن سميّة الذي نفاه عن أبيه الشرعي عبيد، وألحقه بالمسافح أبيه أبي سفيان ليجعله بذلك أخاه، يسلّطه على الشيعة في العراق، يسومهم سوء العذاب، يذبّح أبناءهم، ويستَحيي نساءهم، ويفرّقهم عباديد، تحت كلّ كوكب، ويحرق بيوتهم، ويصطفي أموالهم، لا يألو جهداً في ظلمهم بكلّ طريق.

ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعه المهتوك على رقاب المسلمين، يعيث في دينهم ودنياهم، فكان من خليعه ما كان يوم الطف، ويوم الحرّة، ويوم مكّة إذ نصب عليها العرادات والمجانيق!.

هذه خاتمة أعمال معاوية، وإنّها لتلائم كلّ الملاءمة فاتحة أعماله القاتمة.

ومهما يكن من أمر، فالمهم أنّ الحوادث جاءت تفسيرَ خطّة الحسن وتجلوها، وكان أهمّ ما يرمي إليه سلام الله عليه، أنْ يرفع اللثام عن هؤلاء الطغاة، ليحوّل بينهم وبين ما يبيتون لرسالة جدّه من الكيد.

وقد تمّ له كلّ ما أراد، حتّى برح الخفاء، وآذن أمر الأمويّة بالجلاء.

١٦٢

وبهذا استتب لصنوه سيّد الشهداء أنْ يثور ثورته التي أوضح الله بها الكتاب، وجعله فيها عبرة لأولي الألباب.

وقد كانا (عليهما السلام) وجهين لرسالة واحدة، كلّ وجه منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها، يكافئ الآخر في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها.

فالحسن لم يبخل بنفسه، ولم يكن الحسين أسخى منه بها في سبيل الله، وإنّما صان نفسه، ويجنّدها في جهادٍ صامت، فلمّا حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادة حسنيّة، قبل أنْ تكون حسينيّة.

وكانا (عليهما السلام) كأنّهما متّفقان على تصميم الخطّة: أنْ يكون للحسن منها دورَ الصابر الحكيم، وللحسين دور الثائر الكريم، لتتألّف من الدورين خطّة كاملة ذاتَ غرضٍ واحد.

وقد وقف الناس - بعد حادثتَي ساباط والطف - يمعنون في الأحداث فيَرَون في هؤلاء الأمويّين عصبةً جاهليّةً منكرة، بحيث لو مثّلت العصبيّات الجلفة النذلة الظلُوم لم تكن غيرهم، بل تكون دونهم في الخطر على الإسلام وأهله.

نعم أدرك الرأي العام بفضل الحسن والحسين وحكمة تدبيرهما، كلّ خافيةٍ من أمر (الأمويّة) وأُمور مسدّدي سهمها على نحوٍ واضح.

أدرك - فيما يتّصل بالأمويّين - أنّ العلاقة بينهم وبين الإسلام إنّما هي علاقة عِداءٍ مُستحكَم، ضرورة أنّه إذا كان المُلك هو ما تَهدِف إليه الأمويّة، فقد بلغه معاوية، وأتاحه له الحسن، فما بالها تلاحقه بالسمّ وأنواع الظلم والهضم، وتتقصّى الأحرار الأبرار من أوليائه لتستأصل شأفتهم وتقتلع بذرتهم؟!..

وإذا كان المُلك وحده هو ما تهدف إليه الأمويّة، فقد أُزيح الحسين من الطريق، وتمّ ليزيد ما يُريد، فما بالها لا تكفّ ولا ترعوي، وإنّما تُسرف أقسى ما

١٦٣

يكون الإسراف والإجحاف في حركةٍ من حركات الإفناء على نمطٍ من الاستهتار، لا يُعهد في تاريخ الجزّارين والبرابرة!!..)(١) .

ثانياً: ردّ سيرة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومعطياتها إلى أُصول نصرانيّة أو يهوديّة: فقد كتب المُستشرق(درمنغهام) في ذلك قائلاً: (إنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في إحدى الرحلات إلى الشام، التقى بالراهب بُحيرى في جوار مدينة بُصرى، وإنّ الراهب رأى فيه علامات النبوّة على ما تدلّه عليه أنباء الكُتب الدينيّة. وفي الشام عرفَ محمّد أخبار الروم ونصرانيّتهم وكتابهم، ومناوأة الفرس من عبّاد النار لهم وانتظار الوقيعة بهم).

ويستطرد درمنغهام في محاولته لإثبات تأثير النصرانيّة على سيرة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيقول: (... لم تكن المضاربات الجدليّة لتصرفه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن التأثر بغير الحوادث ودروسها، وحوادثٌ أليمةٌ - كَوفاة أبنائه - جديرةٌ بأنْ تستوقف تفكيرهُ، وأنْ تصرفه كلّ واحدةٍ منها إلى ما كانت خديجة تتقرّب به إلى أصنام الكعبة، وتنحر لهُبَل واللات والعزّى ومناة الثالثة الأُخرى، تريد أنْ تفتدي نفسها من ألم الثكل، فلا يفيد القربان ولا تجدي النحور...

لا ريب إنْ كانت عبادة الأصنام قد بدأت تتزعزع في النفوس، تحت ضغط النصرانيّة الآتية من الشام مُنحدرةً إليها من الروم، ومن اليمن، متخطّية إليها من خليج العرب (البحر الاحمر من بلاد الحبشة). ويستمرّ درمنغهام في نظريّته لتنصير سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قومه فيقول: (... فلمّا كانت سنة ٦١٠م أو نحوها كانت الحالة النفسيّة التي يُعانيها محمّد على أشدّها، فقد أبهظت عاتقهُ العقيدة بأنّ أمراً جوهريّاً ينقصهُ وينقص قومه، وأنّ الناس نَسوا هذا الأمر الجوهري، وتشبّث كلٌ بصنم قومهِ وقبيلته، وخشيَ الناس الجنّ

____________________

(١) لمزيد من التفصيل في أسرار صلح الإمام الحسن (عليه السلام) راجع: آل ياسين، الإمام الشيخ راضي - صلح الحسن (عليه السلام).

١٦٤

والأشباح والبوارح، وأهملوا الحقيقة العليا، ولعلّهم لم ينكروها، ولكنّهم نسوها نسياناً هو موت الروح... ولقد عرف أنّ المسيحيّين في الشام ومكّة لهم دين أُوحيَ به (!) وأنّ أقواماً غيرهم نزلت عليهم كلمة الله، وأنّهم عرفوا الحقّ ووَعَوه أنْ جاءهم علم من أنبيّاء أُوحي إليهم به، وكلّما ضلّ الناس بعثت السماء إليهم نبيّاً يهديهم إلى الصراط المستقيم، ويذكرهم بالحقيقة الخالدة.

وهذا الدين الذي جاء بهِ الأنبياء في كلّ الأزمان دين واحد، فكلّما أفسده الناس جاءهم رسول من السماء يقوّم عوجهم، وقد كان الشعب العربي يومئذٍ في أشدّ تيهاء الضلال، أما آن لرحمة الله أنْ تظهر فيهم مرّة أُخرى وأنْ تهديهم إلى الحق؟)(١) .

ويتحدّث عن هذا التزوير للحقائق التاريخيّة الأُستاذ جواد عليّ قائلاً:( إنّ معظم المستشرقين النصارى هُم مِن طبقة رجال الدين، أو ممّن تخرّج من كليّات اللاهوت، وهُم عندما يتطرّقون إلى الموضوعات الحسّاسة من الإسلام يُحاولون جهد إمكانهم ردّها إلى أصل نصراني. وطائفة المستشرقين من اليهود يُجهدون أنفسهم لردّ كل ما هو إسلامي وعربي لأصلٍ يهودي، وكلتا الطائفتين في هذا الباب تبع لسلطان العواطف والأهواء)(٢) .

وفي كتابٍ آخر عمل مستشرق وهو قسّيس انجليكاني على عقد عدّة مقارنات ليظهر إن الإسلام كان حقّاً صورة غير محكمة أو مشوهة للنصرانيّة(٣) .

ثالثاً: اعتماد منهج كيفي مناقض للمنهج العلمي في تناول السيرة الشريفة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام): وإلى ذلك أشار الدكتور جواد عليّ من أنْ (كيناني)

____________________

(١) درمنغهام، أميل - (حياة محمّد) عن رشيد رضا، محمّد (الوحي المحمّدي) ص١٠٠ - ص١٠٨.

(٢) علي، جواد - (تاريخ العرب في الإسلام) - الجزء الأوّل (السيرة النبويّة) ص٩ - ١١.

(٣) د. خليل، عماد الدين - (المستشرقون والسيرة النبويّة) - مجلّة منار الإسلام العدد ٧.

١٦٥

وهو من كِبار المستشرقين الأوائل الذين كتبوا عن حياة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كان يعتمد منهجاً معكوساً في البحث يذكّرنا بكثير من المختصّين الجُدد في حقل التاريخ الإسلامي، والذين يعملون وفْق منهج خاطئ من أساسه، إذ أنّهم يتبنّون فكرة مُسبقة ثمّ يجيئون إلى وقائع التاريخ لكي يستلّوا منها ما يؤيّد فكرتهم ويستبعدوا ما دون ذلك، فلقد كان (كيناني) ذا رأيٍ وفكرة، وضع رأيه وكونه في السيرة قبل الشروع في تدوينها.

فلمّا شرع فيها استعان بكلّ خبر من الأخبار ظفر به، ضعيفها وقويّها، وتمسّك بها كلّها ولا سيما ما يُلائم رأيه. لم يُبال بالخبر الضعيف، بل قوّاه وسنده وعدّه حجّة وبنى حكمه عليه، ومَن يدري فلعلّه كان يعلم بسلاسل الكذِب المشهورة والمعروفة عند العلماء، ولكنّه عفا عنها وغضَّ نظره عن أقوال أولئك العلماء فيها؛ لأنّه صاحب فكرة يريد إثباتها بأيّة طريقةٍ كانت، وكيف يتمكّن من إثباتها وإظهارها وتدوينها، إذا ترك تلك الروايات وعالجها معالجةَ نقدٍ وجرحٍ وتعديل على أساليب البحث الحديث؟)(١) .

وأشار أيضاً(ايتين القيم) إلى بعض الآراء حول هذا المنهج قائلاً: (لقد أصاب الدكتور سنوك هرمزونية بقوله:

(إنّ سيرة محمّد الحديثة تدلّ على أنّ البحوث التاريخيّة مقضيٌّ عليها بالعقم، إذا سُخّرت لأيّه نظريّةٍ أو رأيٍ سابق). هذه حقيقة يَجمل بمستشرقيّ العصر جميعاً أنْ يضعوها نصب أعينِهم، فإنّها تشفيهم من داء الأحكام السابقة، التي تكلّفهم من الجهود ما يُجاوز حدّ الطاقة فيصلون إلى نتائج لا شكّ خاطئة، فقد يحتاجون في تأييد رأيٍ من الآراء إلى هدم بعض الأخبار وليس هذا بالأمر الهيّن، ثمّ إلى بناء أخبار تقوم مقام ما هدموا، وهذا أمرٌ لا ريب مستحيل.

إنّ العالم في القرن العشرين يحتاج إلى معرفة كثير من العوامل

____________________

(١) علي، جواد - (تاريخ العرب في الإسلام) - الجزء الأوّل (السيرة النبويّة) ص٩٥.

١٦٦

الجوهريّة، كالزمن والبيئة والإقليم والعادات والحاجات والمطامع والميول إلى آخره، لا سيّما إدراك تلك القُوى الباطنة، التي لا تقع تحت مقاييس المعقول والتي يعمل بتأثيرها الأفراد والجماعات)(١) .

وهناك المئات من مفردات المنهج الكيفي والتفسير على ضوء المسبقات والخلفيّات الخاصّة للنصوص التاريخيّة، في العديد من مؤلّفات وكتابات المستشرقين خصوصاً الأوائل منهم، فمثلاً (بروكلمان)(٢) ، لا يشير إلى دور اليهود في تأليب الأحزاب على المدينة ولا إلى نقض بني قريظة عهدها مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، في أشدّ ساعات محنته، لكنّه يقول: (ثمّ هاجم المسلمون بني قريظة الذين كان سلوكهم غامضاً على كلّ حال)(٣) ... أمّا (إسرائيل ولفنسون) فيتغاضى عن حادثة نعيم بن مسعود في معركة الخندق، كسببٍ في انعدام الثقة بين المشركين واليهود.

رابعاً: تصوير مواقف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من اليهود وقبائل العرب الجاهليّة، على أنّها ظلمٌ وتعسّف. ومن أمثلة ذلك ما أشار إليه المستشرق (اسرائيل ولفنسون) بصدد مهاجمة يهود بني النضير، حيث إنّه لا يقرّ بما قاله مؤرّخو الإسلام، من أنّ سبب إعلان الحرب على يهود بني النضير هو محاولتهم اغتيال الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيقول: (... لكنّ المستشرقين ينكرون صحّة هذه الرواية ويستدلّون على كذِبها بعدم وجود ذكر لها في سورة الحشر التي نزلت بعد إجلاء بني النضير. والذي يظهر

____________________

(١) القيم، ايتين - (الشرق كما يراه الغرب) - المقدّمة ص٤٣ - ٤٤.

(٢) بروكلمان، كارل ( pockelmann ١٨٦٨ - ١٩٥٦م): مستشرق ألماني يُعتبر أحد أبرز المستشرقين في العصر الحديث. أشهر آثاره: (تاريخ الأدب العربي) في خمسة مجلّدات (١٨٩٨ - ١٩٤٢م)، و(تاريخ الشعوب والدول الإسلاميّة)(عام ١٩٣٩م)، وقد نقلهُ إلى العربيّة نبيّه أمين فارس ومنير البعلبكّي / عن البعلبكّي، منير - موسوعة المورد - المجلّد الثاني ص١٢٠.

(٣) بروكلمان، كارل - (تاريخ الشعوب الإسلامية) ص٥٣ - ٥٤.

١٦٧

لكلّ ذي عينين أنّ بني النضير لم يكونوا ينوون الغدر بالنبيّ واغتياله على مثل هذه الصورة؛ لأنّهم كانوا يخشون عاقبة فعلهم من أنصاره، ولو أنّهم كانوا ينوون اغتياله غدراً لما كانت هناك ضرورة لإلقاء الصخرة عليه من فوق الحائط، كان في استطاعتهم أنْ يفاجئوه وهو يُحادثهم إذ لم يكن معه غير قليلٍ من أصحابه)(١) .

أمّا المستشرق(فلهاوزن) فيقول:( لم يبقَ الإسلام على تسامحه بعد بدر، بل شرَع في الأخذ بسياسة الإرهاب في داخل المدينة، وكانت إثارة مشكلة المنافقين علامة على ذلك التحوّل... أمّا اليهود فقد حاول أنْ يُظهرهم بمظهر المعتدين الناكثين للعهد، وفي غضون سنوات قليلة أخرج كلّ الجماعات اليهوديّة أو قضى عليها في الواحات المحيطة بالمدينة، حيث كانوا يكوّنون جماعات متماسكة كالقبائل العربيّة، وقد التمس لذلك أسباباً واهية...) (٢) .

ويتعاطف المستشرق(مرجليوث) مع اليهود، ويرى أنّ اقتحام خيبر محضَ ظلمٍ نزل باليهود لا مبرّر له على الإطلاق(٣) .. ويُؤاخذ المستشرق(نولدكه) القبائل العربيّة، على عدم تحالفهم الدقيق في مواجهة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويتمنّى (لو أنّ القبائل العربيّة استطاعت أنْ تعقد بينها محالفات عربيّة دقيقة ضدّ محمّد؛ للدفاع عن طقوسهم وشعائرهم الدينيّة، والذود عن استقلالهم، إذن لأصبح جهادَ محمّد جندهَم غير مجدٍ، إلاّ أنّ عجم العربي عن أنْ يجمع شتات القبائل المتفرّقة قد سمح له أنْ يخضعهم لدينه، القبيلة تلو الأُخرى، وأنْ ينتصر عليهم بكلّ وسيلة، فتارةً بالقوّة وتارةً بالمحالفات الوديّة والوسائل السلميّة)(٤) .

____________________

(١) ولفنسون، إسرائيل - (تاريخ اليهود في بلاد العرب) - ص١٣٠ - ١٣٧.

(٢) فلهاوزن، يوليوس - (الدولة العربيّة وسقوطها) - ص١٥ - ١٦.

(٣) الدكتور خليل، عماد الدين - (المستشرقون والسيرة النبويّة) مجلّة منار الإسلام - العدد ٧.

(٤) نولدكه، ثيودور - (تاريخ العالم للمؤرّخين) الجزء ٨ - ص١١.

١٦٨

خامساً: تصوير سيرة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أنّها نتاج بيئته: يقول المستشرق(جب):

( إنّ محمّداً ككلّ شخصيّة مُبدعة، قد تأثّرت بضرورات الظروف الخارجيّة عنه المحيطة به، من جهة أُخرى قد شقّ طريقاً جديداً بين الأفكار والعقائد السائدة في زمانه، والدائرة في المكان الذي نشأ فيه... وقليل ما هو معروف - على سبيل التأكيد - عن حياته وظروفه المبكّرة... ولكن الشيء الذي يصحّ أنْ يُبحث ماضيه الاجتماعي....

لقد كان أحد سكان (مدينة) غير رئيسيّة، وليس هناك ما يصحّ أنْ يصوّره بأكثر من أنّه (بدوي)، شارك في الفكرة والنظرة في الحياة التي كانت للبدو الرُحّل من الناس، و(مكّة) في ذات الوقت لم تكن خلاءً بعيداً عن صخب العالم، وعن حركته في التعامل، بل كانت مدينة ذات ثروة اقتصاديّة، ولها حركة دائبة كمركز للتوزيع التجاري بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسّط.

و(سكّانها) مع احتفاظهم بطابع البساطة العربيّة الأوليّة في سلوكهم ومنشآتهم، اكتسبوا معارفَ واسعةً بالإنسان والمدن، عن طريق تبادلهم الاقتصادي والسياسي مع العرب الرحل، ومع الرسميّين من رجال الإمبراطوريّة الرومانيّة، وهذه التجارب قد كوّنت في زعماء مكّة ملَكات عقليّة، وضروباً من الفطنة وضبط النفس لم تكن موجودةً عند كثير من العرب.

ثمّ إنّ (السيادة الروحيّة) التي اكتسبها المكّيون من قديم الزمان على العرب الرحّل، زادت قوّةً ونموّاً بفضل الإشراف على عدد من (المقدّسات الدينيّة) التي وجِدت داخل مكّة وبالقرب منها، وانطباع هذا الماضي الممتاز لـ (مكّة)، يمكن أنْ نقف على أثره واضحاً في كلّ ادوار حياة محمّد...

وبتعبيرٍ إنساني: إنّ محمّداً نجح لأنّه كان واحداً من المكّيّين!... ولكن بجانب هذا الازدهار في(مكة)، كانت هناك ناحية أُخرى مظلمة خلّفتها تلك الشرور المعروفة لجماعة اقتصاديّة ثريّة، فيها فجوات واسعة من الغنى والفقر! هذه الناحية، هي ناحية الإجرام الإنساني الذي تمثّل في الأرقّاء

١٦٩

والخدَم وفي الحواجز الاجتماعيّة... وواضح من دعوة محمّد الصارخة إلى مكافحة الظلم الاجتماعي، أنّ هذه الناحية كانت سبباً من الأسباب العميقة لثورته الداخليّة (النفسيّة)) !(١)

ويستطرد (جب) في محاولته لإثبات أنّ الاتّجاه الديني للرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وسعْيه لإنشاء حكومة دينيّة وجماعة دينيّة، إنّما كان بتأثير الطابع القدسي الديني لمكّة وزعامتها الدينيّة لباقبي المدن العربيّة الأُخرى، وارتباط وضعها الاقتصادي بهذه الزعامة الدينيّة، الذي أدّى إلى وقوع الصراع بينهم وبين الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أجل ذلك، فيقول (جب): (ولكن نواة هذه الثورة النفسيّة لم تظهر في صورة (إصلاح اجتماعي)، بل بدلاً من ذلك دفعته إلى (اتجاه ديني) أعلنه في اعتقادٍ ثابت لا يتأرجح: بأنّه رسولٌ من الله، لينذر أتباعه بإنذار الرسُل الساميّين القديم: توبوا، فجزاء الله حق!!. وكل ما وُجِد بعد ذلك كان نتيجةً منتظرة للتصادم بين هذا الاعتقاد (بأنّه رسول) وبين الكفر به، ومعارضته من فريقٍ بعد فريق....

وهناك حقيقة واحدة مؤكّدة (في تاريخه) وهي: أنّ الدافع له كان (دينيّاً) على الإطلاق، فمن بدء حياته كداعٍ كانت نظرته إلى الأشخاص والأحداث وحكمه عليها نظرة تأثر فيها، بما عنده من صورة عن الحكومة الدينيّة وأغراضها في عالم الإنسان!!.. ومحمّد في البداية، لم يكن نفسه على علمٍ بأنّه صاحب دعوةٍ إلى دين جديد! بل كانت معارضة المكّيّين له، وخصومتهم له من مرحلةٍ إلى أُخرى، هي التي قادته أخيراً وهو بالمدينة - بعد أنّ هاجر إليها - إلى إعلان الإسلام كجماعة دينيّة جديدة، بإيمانها الخاص، وبمنشآتها الخاصّة.

ويبدو أنّ معارضة المكّيّين له لم تكن محافظتهم وتمسّكهم بالقديم، أو

____________________

(١) جب، (المذهب المحمّدي) ص٤٧.

١٧٠

بسبب عدم رغبتهم في الإيمان، بل ترجع أكثر ما ترجع إلى أسباب سياسيّة واقتصاديّة، لقد تملّكهم الخوف من آثار دعوته، التي تؤثّر على ازدهارهم الاقتصادي وبالأخص تلك الآثار التي يجوز أنْ تلحق ضرراً بالقيمة الاقتصاديّة لمقدّساتهم... وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ المكيّين قد تصوّروا - أسرع ممّا تصوّر محمّدٌ نفسه - أنّ قبولهم لتعاليمه ربّما يُمهّد لنوعٍ معقّد من السلطة السياسيّة داخل جماعتهم، التي كانت تحكمها فئة قليلة حتّى ذلك الوقت)(١) .

سادساًَ: يقول الدكتور(رشدي فكار): إنّ محاولة المستشرقين تحقيق مخطّطاتهم بالنفاذ من باب السيرة النبويّة، والتعامل معها كتراث بشري دنيوي، لا كمعتبِر لوحي السماء. وقد قام المستشرق (جولد صيهر) بدور رئيس في التشكيك بصدق السنة النبويّة، حيث ادّعى هو وغيره أنّها جُمِعت بعد وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بوقتٍ طويل، وهذا يفقدها الكثير من مصداقيّتها، بل راح إلى أبعد من ذلك، فادّعى أنّ الحديث النبوي هو نتيجة لتطوّر المسلمين.

أمّا المستشرق(الفريد غيوم) في كتابه (الحديث في الإسلام) والمستشرق(تريثون) في كتابه (الإسلام عقيدة وعمل)، فقد حاول كل منهما الطعن في طرق جمع السنة المطهرة، زاعمين أنّ السنة النبويّة الصحيحة لم يُكتب لها البقاء؛ لأنّها لم تدوّن، بل كانت تُتناقل شفاهةً بين الأفراد لمدّة قرنين من الزمان(٢) .

ويشير المستشرق(درمنغهام) إلى هذه الادّعاءات، ويذكر لنا نمطاً آخر منها فيقول: (من المؤسف حقّاً أنْ غالى بعض هؤلاء المتخصّصين - من أمثال (موبر) و(مرجليوث) و(نولدكه) و(سبرنجر) و(دوزي) و(كيتاني) و(مارسين) و(غريم) و(جولد صيهر) و(غود فروا) وغيرهم - في النقد أحيانا، فلم تزل كتبهم عاملَ هدمٍ على الخصوص، ومن المُحزن

____________________

(١) جب، (المذهب المحمّدي) - ص٢٧ - ٢٩.

(٢) الجندي، أنور - (أبرز أهداف المستشرقين) - مجلّة منار الإسلام - العدد ٨ السنة ١٤.

١٧١

ألاّ تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبيّةً ناقصة...

ومن دواعي الأسف أنْ كان الأب(لامانس)، الذي هو من أشهر المستشرقين المعاصرين من أشدّهم تعصّباً، وأنّه شوّه كتبه الرائعة الدقيقة وأفسدها بكرهه للإسلام ونبيّ الإسلام، فعند هذا العالِم اليسوعي أنّ الحديث إذا وافق القرآن كان منقولاً عن القرآن، فلا أدري كيف يُمكن تأليف التاريخ، إذا اقتضى تطابق الدليلين تهادمهما بحكم الضرورة، بدلاً من أنْ يؤيّد أحدهما الأخر؟)(١) .

والأكثر غرابة هو موقف بعض المستشرقين من القرآن كمصدر أساسي من مصادر السيرة النبويّة، فهم ينفون الكثير من وقائع السيرة إذا لم تكن واردة في القرآن الكريم، وهم بعبارةٍ أُخرى، يريدون أنْ يُوهموا بهذه الحجّة أنّ عمليّة انتقائهم المغرضة لبعض وقائع السيرة، وترك البعض الأخر - بهدف هدم هذه السيرة ونفيها - لم يكن جزافاً، بل كان على أساس الاتّكاء على المصدر الفيصل لدى المسلمين، في بيان حقائق دينهم ونبيّهم.

ومن الأمثلة على ذلك ما يدّعيه المستشرق(شبنغلر) (٢) من أنّ اسم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ورد في أربع سوِر من القرآن هي آل عمران والأحزاب ومحمّد والفتح، وكلّها سوِر مدنيّة، ومِن ثمّ فإنّ لفظة(محمّد) لم تكن اسم علَم للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل الهجرة، وإنّما اتّخذه بتأثير قراءته للإنجيل واتّصاله بالنصارى(٣) ، ومن الأمثلة أيضاً ما أشار إليه المستشرق(إسرائيل

____________________

(١) درمنغهام، إميل - (حياة محمّد) - المقدّمة ص٨، ١٠ - ١١.

(٢) شبنغلر، (أوزوولد Spengler Oswald ١٨٨٠ - ١٩٣٦م): فيلسوف ألماني قال بأنّ الحضارات تولد وتنضج ثمّ تموت كالكائنات الحيّة سَواء بسواء، وأنّ الحضارة الغربيّة المعاصرة هي في طريقها إلى الموت، وبأنّ حضارة أُخرى جديدة من آسيا سوف تحلّ محلّها، أهمّ آثاره: (انحطاط الغرب) وهو يقع في مجلّدين.

عن البعلبكّي، منير - موسوعة المورد م٩ ص١٠١.

(٣) علي، جواد. (تاريخ العرب في الإسلام) الجزء الأول ص٧٨ وهوامشها، ويمكننا أنْ ننقض على (شبنغلر) هذا فنسأله: إذا كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد التقط اسم محمّد من خلال قراءته لنبوءات الإنجيل، = فأين إذن (محمّد) الحقيقي الذي بُشر به في كتب النصارى؟

١٧٢

ولفنسون) - الذي مرّ ذكره - بصدد مهاجمة يهود بني النضير، من أنّ مؤرّخي المسلمين يذكرون سبباً آخر لإعلان الحرب على هذه الطائفة اليهوديّة، ذلك هو محاولتهم اغتيال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ويدّعي(ولفنسون) أنّ المستشرقين يقولون بغير ذلك فيقول: (لكنّ المستشرقين ينكرون صحّة هذه الرواية ويستدلّون على كذبها بعدم وجودِ ذكرٍ لها في سورة الحشر، التي نزلت بعد إجلاء بني النضير)(١) .

ويُعتبر ما ذكره(مونتغمري وات) - بصدد تثبيت الشبهات وتكريس الشكوك حول معطيات السيرة النبويّة، ومصداقيّتها القدسيّة، على أساس الدليل والحجّة القاطعة - قناعاً يقنع به ذلك المنهج الاعتباطي المُغرض؛ لأنّه هو نفسه لم يلتزم بما قاله، وكشف من خلال كتاباته زيف ادّعائه وحقيقة منهجه الكيفي، ممّا يجعلنا نتحفّظ من قوله: (إذا أردنا أنْ نصحّح الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدد (محمّد)، فيجب علينا في كلّ حالة من الحالات لا يقوم الدليل القاطع على ضدّها أنْ نتمسّك بصلابة بصدقه، ويجب أنْ لا ننسى أيضاً أنّ الدليل القاطع يتطلّب لقبوله أكثر من كونه ممكناً، وأنّه في مثل هذا الموضوع يصعب الحصول عليه)(٢) .

سابعاً: الانطلاق من المنطق الوضعي العلماني، وطريقة التفكير الأوربيّة في تناول السيرة الشريفة للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام): حاول المستشرقون أنْ يخترقوا السيرة النبويّة، ويُخضعوا حياة نبيّ الإسلام (محمّد) (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) لعلوم الغربيّين في التربية والسيكولوجيا(٣) .

إنّ المنطق الوضعي العلماني والرؤية الأوربيّة في منهج البحث التاريخي أدّى

____________________

(١) ولفنسون، إسرائيل - (تاريخ اليهود في بلاد العرب) - ص١٣٥ - ١٣٧.

(٢) وات، مونتغمري - (محمّد في مكّة) - ص٩٤.

(٣) الجندي، أنور - (أبرز أهداف المستشرقين) - مجلّة منار الإسلام العدد ٨ - السنة ١٤.

١٧٣

إلى أنْ تقع مجموعة من المستشرقين في تزوير وتحريف الحقائق التاريخيّة، منها قولهم: (إنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن يخطو خطوةً واحدة، وهو يعلم مسبقاً ما الذي يليها...)، أي إنّه كان يتحرّك وفق ما تمليه عليه الظروف الراهنة من متطلّبات ولوازم، دونما أيّ تخطيط شمولي وأُفقٍ عالمي، كما هو وارد في القرآن الكريم ومتواتر فيما نُقل من السيرة النبويّة.

ومن أبرز من تبنّى هذه المقولة هو المستشرق(فلهاوزن) ومجموعته الاستشراقيّة، إذ قالوا بإقليميّة دعوة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للإسلام في عصرها المكّي، وإنّه لم ينتقل إلى المرحلة العالميّة - في العصر المدني - إلاّ بعد أنْ أتاحت له الظروف ذلك، ولم يكن ليفكّر بذلك من قبل.

وقد أشار المستشرق(سير توماس أرنولد) إلى هذه الرؤية الخاطئة لدى زملائهِ بقوله: (من الغريب أنْ ينكر بعض المؤرّخين أنّ الإسلام قد قُصد به مؤسّسه في بادئ الأمر، أنْ يكون ديناً عالميّاً برغم هذه الآيات البيّنات)(١) .

وقد سبقَت الإشارة إلى أنّ المستشرق الفرنسي(دينيه)، الذي أعلن إسلامه قال في هذا الصدد أيضاً: (إنّه من المتعذّر إنْ لم يكن من المستحيل، أنْ يتجرّد المُستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم نزعاتهم المختلفة، وإنّهم لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبيّ والصحابة مَبلغاً يُخشى على صورتها الحقيقيّة من شدّة التحريف فيها، ورغم ما يزعمون من أتباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجاد، فإنّا نلمس من خلال كتاباتهم محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتحدّث بلهجةٍ ألمانيّة إذا كان المؤلّف ألمانيّاً، وبلهجةٍ إيطاليّة إذا كان الكاتب إيطاليّاً.

وهكذا تتغيّر صورة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتغيّر جنسيّة الكاتب، وإذا بحثنا في هذهِ السيرة عن الصورة الصحيحة فأنا لا نكاد نجد لها من أثر.

إنّ المستشرقين يقدّمون لنا صوراً خياليّة

____________________

(١) أرنولد، سير توماس - (الدعوة إلى الإسلام) - ص٤٨.

١٧٤

هي أبعد ما تكون عن الحقيقة، إنّها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التأريخيّة التي يؤلّفها أمثال (وولتر سكوت) و(الكسندر دوماس).

وذلك أنّ هؤلاء يصوّرون أشخاصا من أبناء قومهم، فليس عليهم إلاّ أنْ يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة، أمّا المُستشرقون فلم يمكنهم أنْ يلبسوا الصورة الحقيقيّة لأشخاص السيرة فصوّروهم حسب منطقهم الغربي وخيالهم العصري...).

ولتقريب الفكرة يضرب(دينيه) مثلاً عكسيّاً: (ما رأي الأوربيّين في عالم مِن أقصى الصين يتناول المتناقضات، التي تكثر عن مؤرّخي الفرنسيّين ويمحصّها بمنطقه الشرقي البعيد، ثمّ يهدم قصّة(الكاردينال ريشيليو) (١) كما نعرفها ليعيد إلينا ريشيليو آخر له عقليّة كاهن من كهنة بكّين وسماته وطباعه؟

إنّ مستشرقي العصر الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة، فيما يتعلّق برسمهم الحديث لسيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويُخيّل الينا أنّنا نسمع محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتحدّث في مؤلّفاتهم إمّا باللهجة الألمانيّة أو الانجليزيّة أو الفرنسيّة، ولا نتمثّلهُ قط بهذه العقليّة والطباع التي ألصقت به، يحدّثُ عُرباً باللغة العربيّة)، ويختم هذا المستشرق المسلم كلامه بالقول: (إنّ صورة نبيّنا الجليلة التي خلّفها المنقولٍ الإسلامي، تبدو أجمل وأسمى إذا قيست بهذه الصورة المصطنعة الضئيلة، التي صيغت في ظلال المكاتب بجهدٍ جهيد)(٢) ، وأخيرا فإنّ هذا النمط من أنماط النماذج المختارة في العقليّات

____________________

(١) (ريشيليو)، آرمان جان دوبليسي (١٥٨٥ - ١٦٤٢م) كاردينال وسياسي فرنسي، كبير وزراء لويس الثالث عشر والحاكم الفعلي لفرنسا (١٦٢٨ - ١٦٤٢م) قضى على نفوذ نبلاء الإقطاع ونفوذ البروتستانت السياسي. سعى إلى إذلال آل هابسبورغ في حرب الأعوام الثلاثين. أجرى إصلاحات ماليّة وعسكريّة وتشريعيّة، وشجّع التجارة، ورعى الفنون، وأنشأ الأكاديميّة الفرنسيّة. عن البعلبكّي، منير - (المورد) - الجزء الثامن - ص١٥٠.

(٢) دينيه، إيتين - (محمّد رسول الله) - ترجمة عبد الحليم محمود - المقدّمة ص٢٧ - ٢٨، ٤٣ - ٤٤.

١٧٥

الاستشراقيّة والمصبّات الموضوعيّة، التي وقع الجهد الاستشراقي عليها، يكشف لنا بوضوح مدى التعصّب والمنهجيّة المغرضة، والدوافع التبشيريّة والاستعماريّة في وقائع الحركة الاستشراقيّة وأعمال المستشرقين، فكانت النتائج التي تمخضّت والمعطيات التي أُفرِزت ذات ثلاثة أبعاد أساسيّة:

الأوّل: كان بمثابة مسح ميداني للشرق الإسلامي فكريّاً وحضاريّاً.

الثاني: التشويه الموضوعي للفكر الإسلامي والحضارة القائمة عليه، بهدف منع تأثّر المجتمع الأوربّي به، إضافةً إلى تكوين ارتكاز ذهني عن تخلّف المسلمين وجهلهم المركّب ليكون مبرّراً لاستعمارهم.

الثالث: النيل من العقائد الإسلاميّة (في القرآن وفي الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)... إلخ)، وتشويه حقائقها بهدف نفي قدسيّتها من نفوس المسلمين، وبذلك يمكن فكّ الارتباط بينهم وبين معتقداتهم، ليتم الجانب السلبي من عمليّة التغيير للمجتمعات الإسلاميّة.

وبهذه الأبعاد أو قل المقدّمات الثلاث تتهيّأ الأرضية المناسبة لقيام أوربّا بالغزو التبشيري والاستعماري للشرق الإسلامي فكريّاً وسياسيّاً وعسكريّاً، فيبرز الجانب الايجابي من عمليّة التغيير للمجتمعات الإسلامية إلى الواقع.

١٧٦

الفصل الخامس

نماذج من كبار المستشرقين في منهج

تناولهم للشّرق الإسلامي

* ارندجان فنسنك Arandjan Wensink

* صموئيل زويمر Samual Zwemer

* لويس ماسنيون Louis Massignon

١٧٧

١٧٨

طيلة قرون وحتّى فترة متأخّرة من القرن العشرين، لم تتعرّف الشعوب الغربيّة على الشرق الإسلامي، من خلال مصادره الخاصّة وتراثه المباشر، وإنّما عرفوه من خلال رجال متخصّصين، وعلى رأسهم المستشرقون الذين جالوا بلدان الشرق الإسلامي، وسجّلوا مشاهداتهم الحسيّة من الواقع، ونقلوا إلى جامعاتهم ومعاهدهم الآلاف من الكتب والمصادر والوثائق، وأخضعوها للدرس والتحليل.

وعلى أساس من خلفيّاتهم الغربيّة ومنطقهم العلماني وشعورهم الاستعدائي لكلّ ما ينتمي للإسلام فكراً ومجتمعاً، واستهدافهم المتناغم مع التطلّعات الاستعماريّة لدول الغرب، صوّروا الإسلام ومجتمعه للغربيّين، بل طرحوه لأُمم العالم وشعوبه بثوبٍ جديد نسجته عقولُهم على ضوء نظريّتهم وخلفيّاتهم تلك، فخرج مشوّهاً في حقيقته، مزيّناً بأثوابِ التحديث وبريق التقدّم الزائف، حتّى أصبحت كتبهم ومؤلّفاتهم عن الشرق الإسلامي هي المصادر الأساسيّة، ومراجع التعريف والدراسة الوحيدة تقريباً للشرق الإسلامي في جميع معاهد وجامعات الغرب، بل وأغلب الجامعات التي أُنشئت على المنهج الغربي في أنحاء العالم.

وفي سبيل تسليط الضوء على هذه الحقيقة، رأينا أنْ ندرس منهج تفكير وطريقة تناول نماذج من رجال الغرب، تُعتبر من أكبر مَن تصدّى لدراسة الشرق الإسلامي وتعريفه، والعمل على أرضه وفي وسط مجتمعاته، ولا يمكننا أنْ نخرج عن دائرة المستشرقين في هذه النماذج؛ لأنّهم هُم وحدهم الذين تتوفّر فيهم خصائص الشموليّة والتخصّص في مثل هذه الدراسات، خصوصاً وأنّ كبارهم هم أصحاب

١٧٩

مدارس متميّزة ورائدة في مجال دراسة الشرق الإسلامي إيديولوجيّاً واجتماعيّاً.

إنّ انتقاءنا لنماذج من كبار رجال الاستشراق، سيكون منسجماً مع هدفنا في تشخيص وتقويم منهج دراسة الغربيّين للشرق الإسلامي وتعريفه، كما أنّ الأساس الذي اعتمدناه في هذا الانتقاء هو الدور الخطير فكريّاً وميدانيّاً لهؤلاء الرجال، والذي سيكشف لنا عن الأثر السلبي الكبير الذي تركوه على الذهنيّة الغربيّة في فهم الإسلام ومجتمعاته من جهة، وعن التخريب الفكري والاجتماعي الذي أحدثوه في المجتمعات الإسلاميّة، عن طريق صياغة إيديولوجيّات وبرامج تغيير لحرف توجّهات هذه المجتمعات عن مسارها الإسلامي، ومحق هويّتها الدينيّة من جهة أُخرى.

وبذلك استغنى الاستعمار الغربي عن الأُسلوب العسكري المباشر في السيطرة على الشرق الإسلامي، واكتفى بالاستعمار الفكري والمنهجي، المتمثّل بجملة من المبادئ والأُطروحات الحديثة التي أُلبست ثوب القوميّة أو الوطنيّة تارة، وثوب التمدّن والتحديث تارةً أُخرى، وثوب الدفاع عن حقّ الشعوب وحريّتها الفكريّة تارةً ثالثة.

وفيما يلي ثلاثة نماذج رائدة في هذا المجال نتناولها تِباعاً:

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فاعترف عملاً بقول عمرو وصدّقه ولم يكذّبه.

٣ - حديث عبادة عن رسول الله (ص) فإنهما لا يجتمعان على خير أبداً. فأخبر رسول الله (ص) عن حالهما وعن اتفاقهما على الشر.

٤ - قول ابن عباس: إن معاوية وأصحابه أهل دنيا. وقد سبق مختصر من أحوال أصحابه وعمّاله، وسيجيء إجمال أحوالهم.

٥ - قول علي (ع): لا والله لا أستعمل معاوية يومين أبداً. يدل على أن علياً (ع) لم يطمئن بحكومته وعمله ولو في يومين.

٦ - قول قيس: وأبعدهم من الله ورسوله وله ضالين مضلين طاغوت من طواغيت إبليس. يدل عليه خلاف معاوية علياً (ع) وهو أحب الناس إلى الله ورسوله، وهو الحق ويهدي إلى الحق.

٧ - قول عمار: إن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله وجاهدهما وبغى على المسلمين وظاهر المشركين. يدل عليه خلافه رسول الله (ص) أولاً وعلياً ثانياً وهو ابن عمه وخليفته.

٨ - قول أبو الطفيل: وفي حياة عثمان ما زوّدته زاداً. وقد سبق ما يدل عليه في فصول عثمان.

٩ - قول علي (ع): إنك من الطُلقاء ولا تحل لهم الخلافة.

١٠ - قول سعد: فإن عمر لم يُدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة.

١١ - قول عبد الرحمن بن غنم: إنه وأباه من رءوس الأحزاب.

١٢ - قول علي (ع): إنْ أقررتُ معاوية كنتُ متخذاً المضلين عضداً.

٣٤١

فتنة:

(حرب صفين)

الملل والنحل: والخلاف بينه وبين معاوية وحرب صفين، ومخالفة الخوارج وحمله على التحكيم ومغادرة عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري.(١)

تاريخ الطبري: فدخل عمرو على معاوية فقال: والله لعجب لك أني أرفدك بما أرفدك وأنت مُعرض عني! أما والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن في النفس من ذلك ما فيها، حيث نقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنا إنما أردنا هذه الدنيا، فصالحه معاوية وعطف عليه.(٢)

ويروي: عن جندب الأزدي أن علياً كان يأمرنا في كل موطن لقينا فيه معه عدواً فيقول: لا تقاتلوا القوم حتى يبدؤوكم ؛ فأنتم بحمد الله عَزَّ وجَلَّ على حجة، وترككم إياهم حتى يبدؤوكم حجة أخرى لكم. فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم، فلا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جرح، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثِّلوا بقتيل. فإذا وصلتم إلى رجال القوم، فلا تهتكوا سراً ولا تدخلوا داراً إلا بإذن، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهن ضعاف القوى والأنفس.(٣)

أقول: المتحصل من هذا الكلام أن اللازم في هذه الفتنة هو الدفاع والصد عن قتالهم وإشاعة أمرهم وحكمهم وتوسعة حكومتهم ونفوذ قدرتهم المادية الدنيوية.

ويروي أيضاً: عن زيد بن وهب الجهني: أن عمار بن ياسر (رحمه الله) قال

____________________

١ - الملل والنحل، ج ١، ص ٢٢.

٢ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ٢٣٤.

٣ - نفس المصدر، ج ٦، ص ٦.

٣٤٢

يومئذٍ: أين من يبتغي رضوان الله عليه ولا يؤوب إلى مال ولا ولد. فأتته عصابة من الناس، فقال: أيها الناس، اقصدوا بنا نحو هؤلاء الذين يبغون دم ابن عفان ويزعمون أنه قتل مظلوماً، والله ما طلبتهم بدمه ولكنَّ القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها واستمرؤوها، وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرّغون فيه من دنياهم، ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم، فخدعوا أتباعهم أن قالوا: إمامنا قتل مظلوماً! ليكونوا بذلك جبابرة ملوكاً، وتلك مكيدة بلغوا بها ما ترون، ولولا هي ما تبعهم من الناس رجلان. اللَّهُم إن تنصرنا فطالما نصرت، ولا تجعل لهم الأمر، فادّخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم.(١)

ويروي أيضاً: أن علياً مرَّ على جماعة من أهل الشام فيها الوليد بن عقبة وهم يشتمونه فخبّر بذلك، فوقف فيمن يليهم من أصحابه فقال: انهدُّوا إليهم، عليكم السكينة والوقار وقار الإسلام وسيما الصالحين، فوالله لأقرب قوم من الجهل قائدهم ومؤذنهم معاوية وابن النابغة وأبو الأعور السلمي وابن أبي معيط شارب الخمر المجلود حداً في الإسلام!! وهم أولى من يقومون فينقصونني ويجذبونني، وقبل اليوم قاتلوني، وأنا إذ ذاك أدعوهم إلى الإسلام وهم يدعونني إلى عبادة الأصنام. الحمد لله، قديماً عاداني الفاسقون فعبد هم الله، ألم يُفتَحوا إن هذا لهو الخطب الجليل أن فسَّاقاً كانوا غير مرضيين وعلى الإسلام وأهله متخوِّفين، خدعوا شطر هذه الأمة، وأشربوا قلوبهم حب الفتنة واستمالوا أهواءهم بالآفات والبهتان، قد نصبوا لنا الحرب في إطفاء نور الله عَزَّ وجَلَّ، اللَّهُم فافضض خدمتهم وشتت كلمتهم وأبسلهم بخطاياهم.(٢)

أقول: أبو الأعور هو عمرو بن سفيان السلمي، عليه مدار حروب معاوية في صفين، أدرك الجاهلية وليست له صحبة. ومن العجب ما يروي مرسلاً عن النبي (ص) كما فيالاستيعاب : إنما أخاف على أمتي شحاً مطاعاً وهوى متبعاً،

____________________

١ - نفس المصدر، ج ٦، ص ٢١.

٢ - تاريخ الطبري، ج ٦، ص ٢٥.

٣٤٣

إماماً ضالاً. وهذا الحديث حجة تامة عليه، وقد ختم الله على قلبه وعلى بصره غشاوة.(١)

العقد الفريد: اجتمعت قريش ( الشام والحجاز ) عند معاوية وفيهم عبد الله بن عباس، وكان جريئاً على معاوية حقَّاراً له، فبلغه عنه بعض ما غمّه، فقال معاوية وذنوبكم إلينا أكثر من ذنوبنا إليكم: خذلتم عثمان بالمدينة، وقتلتم أنصاره يوم الجمل، وحاربتموني بصفين، ولعمري لبنو تيم وعديّ أعظم ذنوباً منا إليكم، إذ صرفوا عنكم هذا الأمر وسنّوا فيكم هذه السنة فتكلّم ابن عباس وأما استعمال عليّ إيانا فلنفسه دون هواه، وقد استعملت أنت رجالاً لهواك لا لنفسك، منهم ابن الحضرمي على البصرة فقتل، وابن بشر أرطاة على اليمن فخان، وحبيب بن مُرة على الحجاز فرُدّ، والضحاك بن قيس الفهري على الكوفة فحُصب، ولو طلبت ما عندنا وقينا أعراضنا. وليس الذي يبلغك عنا بأعظم من الذي يبلغنا عنك، ولو وضع أصغر ذنوبكم إلينا على مئة حسنة لمحقها، ولو وضع أدنى عذرنا إليكم على مئة سيئة لحسنها. وأما خَذْلُنا عثمان: فلو لزمنا نصره لنصرناه، وأما قتلنا انصراه يوم الجمل: فعلى خروجهم مما دخلوا فيه، وأما حربنا إيّاك بصفين: فعلى تركك الحق وادعائك الباطل، وأما إغراؤك إيَّانا بتيم وعديّ: فلو أدرناها ما غلبونا عليها.(٢)

الإمامة والسياسة: لما انتهى كتاب عمرو إلى ابن عباس، أتى به إلى عليّ فأقرأه إيَّاه، فقال عليّ: قاتل الله ابن العاص! أجبه! فكتب إليه: أما بعد، فإنني لا أعلم رجلاً أقلُّ حياءً منك في العرب، إنك مَالَ بك الهوى إلى معاوية، وبعته دينك بالثمن الأوكس، ثم خطبت الناس في عشواء طمعاً في هذا الملك، فلمّا تراميناه أعظمت الحرب والرماء إعظام أهل الدين، وأظهرت فيها كراهية أهل الورع، لا تريد بذلك إلا تمهيد الحرب وكسر أهل الدين. فإن كنت تريد الله فدع مصر وارجع إلى بيتك، فإن هذه حرب ليس فيها معاوية

____________________

١ - الاستيعاب، ج ٣، ص ١١٧٩.

٢ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٧.

٣٤٤

كعلي، بدأها عليّ بالحق وانتهى فيها بالعذر، وبدأها معاوية بالبغي وانتهى فيها إلى السرف، وليس أهل الشام فيها كأهل العراق: بايع أهل العراق علياً وهو خير منهم، وبايع أهل الشام معاوية وهم خير منه، ولست أنا وأنت فيها سواء، أردتُ الله وأردتَ مصر.(١)

مستدرك الحاكم: عن الحكم قال: شهد مع علي صفين ثمانون بدرياً وخمسون ومئتان ممن بايع تحت الشجرة.(٢)

الاستيعاب: قال عبد الرحمن بن أبزى: شهدنا مع عليّ (رضي الله عنه) صفين في ثمنمائة ممن بايع بيعة الرضوان، قتل منهم ثلاثة وستون، منهم عمار بن ياسر.(٣)

ويروي أيضاً: عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: شهدنا مع علي (رضي الله عنه) صفين، فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية ولا واد من أودية صفين إلا رأيت أصحاب محمد (ص) يتبعونه، كأنه علم لهم، وسمعت عماراً يقول يومئذٍ لهاشم بن عقبة: تقدم! الجنة تحت الأبارقة، اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه، والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هَجَر لعلمنا أنَّا على الحق وأنهم على الباطل.

أقول: في مقدمةالاستيعاب يروي:( السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ) الذين بايعوا بيعة الرضوان، قال الله تعالى:( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) والشجرة في الحديبية، وعدّتهم أربع عشرة مئة، وكان عدة أهل بدر ثلاثمئة وثلاث عشرة. ويروي عن رسول الله (ص):لن يلج النار أحد شهد بدراً أو الحديبية.

الإمامة والسياسة: إن عبد الله بن أبي محجن الثقفي قدم على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، إني أتيتك من عند الغبي الجبان البخيل ابن أبي طالب! فقال معاوية: لله أنت! تدري ما قلت، أما قولك الغبيّ: فوالله لو أن ألسُن الناسِ

____________________

١ - الإمامة والسياسة، ج ١، ص ٩٥.

٢ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٠٤.

٣ - الاستيعاب، ج ٣، ص ١١٣٨.

٣٤٥

جُمعت فجعلت لساناً واحداً لكفاها لسان عليّ. وأما قولك إنه جبان: فثكلتك أمك هل رأيت أحداً بارزه إلا قتله. وأما قولك إنه بخيل: فوالله لو كان بيتان أحدهما من تبر والآخرة من تبن لأنفد تبره قبل تبنه. فقال الثقفي: فعلى مَ تُقاتله إذاً؟! ثم لحق بعليّ.(١)

تاريخ الطبري: فأرسل عليّ إلى الأشتر فقال: يا مالك فإذا قدمت عليهم فأنت عليهم، وإياك أن تبدأ القوم بقتال إلا أن يَبدؤوك حتى تلقاهم فتدعوهم وتُسمع، ولا يجرمنّك شنأنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة، واجعل على ميمنتك زياداً.(٢)

ويروي: فدعا عليّ صعصعة بن صوحان فقال له: ائت معاوية وقل له: إنا سرنا مسيرنا هذا إليكم ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، وإنك قدّمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك وبدأتنا بالقتال، ونحن من رأينا الكف عنك حتى ندعوك ونحتج عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها قد حُلتم بين الناس ومبين الماء، والناس غير منتهين أو يشربوا، فابعث إلى أصحابك فليُخلوا بين الناس وبين الماء، ويكفّوا حتى ننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا وقدمتم له.(٣)

ويروي: ثم إن علياً دعا بشير بن عمرو بن محصن وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي، فقال: ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله والى الطاعة والجماعة فحمد الله، وأثنى عليه أبو عمرة بشير بن عمرو وقال: يا معاوية، إن الدنيا عنك زائلة وإنك راجع إلى الآخرة، وإن الله عَزَّ وجَلَّ مُحاسبك بعملك وجازيك بما قدّمت يداك، وإني أنشدك الله عَزَّ وجَلَّ أن تُفرّق جماعة هذه الأمة وأن تسفك دماءهم بينها! فقطع عليه الكلام وقال: هلا أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال أبو عمرة: إن صاحبي ليس مثلك! إن صاحبي أحق البرية كلها

____________________

١ - الإمامة والسياسة، ج ١، ص ١٧.

٢ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ٢٣٨.

٣ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ٢٤١.

٣٤٦

بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة من الرسول (ص)، قال: فيقول ماذا؟ قال: يأمرك بتقوى الله عَزَّ وجَلَّ وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق، فإنه أسلمُ لك في دنياك وخير لك في عاقبة أمرك، قال معاوية: ونطّل دم عثمان! لا والله لا أفعل ذلك أبداً. فذهب سعيد بن قيس يتكلم فبادره شبث بن ربعي فتكلم، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا معاوية، إني قد فهمت ما رددت على ابن محصن، إنه والله لا يخفى علينا ما تغزو وما تطلب، إنك لم تجد شيئاً تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا قولك: قُتل إمامكم مظلوماً فنحن نطلب بدمه، فاستجاب له سفهاء طغام، وقد علمنا أن قد أبطأت عنه بالنصرة وأحببت له القتل، لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب.(١)

ويروي: فبعث عليٌّ عديّ بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن حفصة إلى معاوية، فلما دخلوا حمد الله عديُّ بن حاتم ثم قال: أما بعد، فإنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله عَزَّ وجَلَّ به كلمتنا وأمتنا، ويحقن به الدماء ويأمن به السبل ويصلح به ذات البين. إن ابن عمك سيد المسلمين، أفضلها سابقة، وأحسنها في الإسلام أثراً، وقد استجمع له الناس، وقد أرشدهم الله عَزَّ وجَلَّ بالذي رأوا، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك، فانته يا معاوية لا يصبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل! فقال معاوية: كأنك إنما جئت متهدداً لم تأت مصلحاً، هيهات يا عديّ، كلا والله إني لابن حرب ما يقعقع لي بالشنان، أما والله إنك لمن المجلبين على ابن عفان وإنك لمن قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتل الله عَزَّ وجَلَّ به.(٢)

أقول: يظهر من هذه الخطابات والكلمات أمور:

١ - أن أمير المؤمنين علياً يدعو إلى الحق ولا يقصد إلا إجراء الحق والعمل بالكتاب والسنة والإصلاح بين المسلمين وجمع كلمتهم. وأما معاوية، فهو لا يريد إلا الرئاسة والحكومة والدنيا، وليس إلى طلبها سبيل إلا الحرب، وليس للحرب

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ٢٤٢.

٢ - نفس المصدر، ج ٦، ص ٢.

٣٤٧

مستمسك إلا طلب الدم. وما أحسن ما قال شبث بن ربعي: والله لا يخفى علينا ما تغزو وما تطلب، إنك لم تجد شيئاً تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا قولك قتل إمامكم مظلوماً فنحن نطلب بدمه.

٢ - إن أمير المؤمنين علياً هو أول من أسلم، وهو أحب الناس إلى الله عَزَّ وجَلَّ وإلى رسوله، وهو أعلم الأمة وأتقاهم وأحسنهم جهاداً وأثراً في سبيل الله، ومن قال له رسول الله (ص): اللَّهُم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله. وأنت مني بمنزلة هارون من موسى، وأنت أخي في الدنيا والآخرة. وغير ذلك. وأما معاوية، فهو ليس من المهاجرين والأنصار، وليست له سابقة فضل ومعرفة وجهاد في سبيل الله، وكان من المخالفين وفي صفوف الأعداء، ومن رؤساء المشركين إلى أن فُتحت مكة، فدخل هو وأبوه في الإسلام فيمن دخل، فهو في زمان رسول الله (ص) كان مخالفاً للإسلام وللمسلمين، ثم أسلم ووافق ظواهر الإسلام واستقرّ تحت لوائه، ولم يدخل نور حقيقة الإيمان وحقائق الإسلام في قلبه، ولم يخرج حبّ الدنيا والرئاسة من باطنه، فهو الآن في رأس صفوف المنافقين الذين قالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، ويحاربون المسلمين على حقائق الإسلام! فانظر إلى كلام أمير المؤمنين (ع) في حقه يرويه الطبري وتدبّر فيه حتى يظهر لك حقيقة حاله وحقيقة المقام.

يروي: أن معاوية بعث إلى عليٍّ حبيبَ بن مسلمة الفهري وشرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس، فدخلوا عليه وأنا عنده، فحمد الله حبيب وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن عثمان بن عفان كان خليفة مهدياً يعمل بكتاب الله عَزَّ وجَلَّ وينيب إلى أمر الله تعالى، فاستثقلتم حياته واستبطأتم وفاته فعدوتم عليه فقتلتموه، فادفع إلينا قتلة عثمان إن زعمت أنك لم تقتله نقتلهم به، ثم اعتزل أمر الناس فيكون أمرهم شورى بينهم يُولّى الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم. فقال له علي بن أبي طالب: وما أنت لا أم لك! والعزل وهذا الأمر، اسكت، فإنك لست هناك ولا بأهل له. فقام وقال له: والله لترينّي بحيث تكره! فقال عليّ: وما أنت ؛ ولو أجلبت بخيلك ورجلك، لا أبقى الله عليك إن

٣٤٨

أبقيت عليّ، أحُقرة وسوءاً، اذهب فصوّب وصعّد ما بدالك! وقال شرحبيل بن السمط: إن كلمّتك فلعمري ما كلامي إلا مثل كلام صاحبي قبل، فهل عندك جواب غير الذي أجبته به؟ فقال عليّ: نعم، لك ولصاحبك جواب غير الذي أجبته به، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن الله جَلَّ ثناؤه بعث محمداً (ص) بالحق فأنقذ به من الضلالة، وانتاش به من الهلكة، وجمع به من الفرقة. ثم قبضه الله إليه وقد أدّى ما عليه (صلَّى الله عليه وسلَّم)، ثم استخلف الناس أبا بكر، واستخلف أبو بكر عمر، فأحسنا السيرة وعدلا في الأمة. وقد وجدنا عليهما أن تولّيا علينا ونحن آل رسول الله (ص)، فغفرنا ذلك لهما. ووُلّي عثمان فعمل أشياء عابها الناس عليه، فساروا إليه فقتلوه. ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمورهم فقالوا لي: بايع. فأبيت عليهم، فقالوا لي: بايع فإن الأمة لا ترضى إلا بك، وإنا نخاف أن لم تفعل أن يفترق الناس. فبايعتهم. فلم يرُعني إلا شقاق رجلين قد بايعاني، وخلاف معاوية الذي لم يجعل الله عَزَّ وجَلَّ له سابقة في الدين ولا سلف صدق في الإسلام، طليق ابن طليق، حزب من هذه الأحزاب، لم يزل لله عَزَّ وجَلَّ ولرسوله (ص) وللمسلمين عدواً هو وأبوه، حتى دخلا في الإسلام كارهين، فلا غَرو إلاّ خلافكم معه وانقيادكم له، وتدعون آل نبيكم (ص) الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم ولا أن تعدلوا بهم من الناس أحداً. ألا إني أدعوكم إلى كتاب الله عَزَّ وجَلَّ وسنة نبيه (ص) وإماتة الباطل وإحياء معالم الدين، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة. فقال: أشهدْ أن عثمان قُتل مظلوماً. فقال لهما: لا أقول إنه قتل مظلوماً ولا إنه قتل ظالماً. قالوا: فمن لم يزعم أن عثمان قتل مظلوماً فنحن منه برآء. ثم قاما فانصرفا. فقال عليّ: ( إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) .(١)

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٦، ص ٤.

٣٤٩

أقول: في هذه الكلمات موارد للنظر نُشير إلى بعضها:

أولاً - قول حبيب فقلتموه فادفع إلينا قتلته: قد مرّ أن أمير المؤمنين علياً كان من الناصحين المدافعين الناصرين لعثمان. وأما معاوية، فكان ممن تسامح في نصرته والدفاع عنه وإجابة دعوته.

ثانياً - بيعة الإمام وإطاعته واجبة على كل فرد مسلم، والإمام على عقيدتهم من يتعيّن من جانب المهاجرين والأنصار في مدينة رسول الله (ص) ولا يتوقف هذا على حكم آخر، بمعنى أن المبايعة واجبة، وطلب الثأر حكم آخر فرعيّ لابد فيه من المراجعة إلى الحاكم والقاضي، حتى يحكم بعد التحقيق عن القاتل وكيفية القتل والقصد فيه وثبوت الجناية بالطريق الشرعي، بحكم خاص.

ثالثاً - أن معاوية فرد من أفراد المسلمين، وليس بولي عثمان ولا بولي المسلمين، حتى يدّعي أنه يطلب ثأر عثمان أو يطلب قتلته من خليفة المسلمين، وأعجب منه قوله: واعتزل أمر الناس حتى يكون شورى، فراجع ثم راجع كلام علي (ع) في جوابه حتى تعلم حقيقة الأمر.

ويروي أيضاً: أن عمار بن ياسر خرج إلى الناس فقال: اللَّهُم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته، اللَّهُم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبّة سيفي في صدري ثم انحني عليها حتى تخرج من ظهري لفعلت، وإني لا أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم أن عملاً من الأعمال هو أرضى لك منه لفعلته.(١)

أقول: هذا ما يعتقد به عمار بن ياسر وهو من خواصّ أصحاب رسول الله (ص)، وقد قال (ص) في حقه: تقتله الفئة الباغية. وقلنا إن معاوية قد حارب المسلمين في زمن رسول الله (ص) خلافاً لله ولرسوله وللإسلام، وفي هذا اليوم يُحارب المسلمين أيضاً طلباً للرئاسة والدنيا وخلافاً لحقائق الإسلام. ونِعم ما قال عمار بن ياسر وهو يقول لعمرو بن العاص بصفِّين: لقد قاتلتُ

____________________

١ - نفس المصدر السابق، ص ٢١.

٣٥٠

صاحب هذه الراية ثلاثة مع رسول الله (ص) وهذه الرابعة ما هي بأبرّ ولا أتقى.(١)

وليس ببعيد أن نقول: إن خلاف معاوية اليوم أشد ضرراً للإسلام وللمسلمين وأكثر تأثيراً في قلوب المؤمنين من محاربته رسول الله (ص) زمان كفره. ومن هنا ترى علياً (ع) إذا صلَّى الغداة يقنت ويقول: اللَّهُم العن معاوية وعمراً وأبا لأعور السلمي وحبيباً وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد كما في الطبري(٢) فراجعه.

وقال عبد الله بن عمر وصحّ عنه من وجوه الاستيعاب: ما آسى على شيء كما آسى أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي (ع).(٣)

ويروي روايات بإسناده قريبة منها.(٤)

ويروي: أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يقول: ما لي ولقتال المسلمين ولصفين، لوددت أني متّ قبله بعشر سنين. أما والله ما ضربت فيها بسيف ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم، ولوددتُ أني لم أحضر شيئاً منها، واستغفر الله من ذلك وأتوب إليه.(٥)

أقول: يستفاد من روايات هذا الفصل أمور:

١ - قول عمرو: حيث نقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنَّا إنما أردنا هذه الدنيا، فصالحه معاوية.

٢ - قول عليّ (ع): فأنتم على حجة وتركُكم إياهم حتى يبدءوكم حجة أخرى لكم فلا تقتلوا مدبراً ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم.

٣ - قول عمار: والله ما طلبتم بدمه ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها واستمرءوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم.

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٦، ص ٢٢.

٢ - نفس المصدر، ص ٤٠.

٣ - الاستيعاب، ج ١، ص ٧٧.

٤ - نفس المصدر، ج ٣، ص ٩٥٣.

٥ - نفس المصدر، ج ٣، ص ٩٥٨.

٣٥١

٤ - قول علي (ع): فوالله لأقرب قوم من الجهل قائدهم ومؤذنهم معاوية وابن النابغة وأبو الأعور السلمي وابن أبي معيط شارب الخمر المجلود في الإسلام وهم أولى من يقومون فينقصونني!!

٥ - قول ابن عباس: وأمَّا قتلنا أنصاره يوم الجمل فعلى خروجهم مما دخلوا فيه، وأما حربنا إيَّاك بصفين فعلى تركك الحق وادعائك الباطل.

٦ - قول ابن عباس وكتابه إلى عمرو: فإني لا أعلم رجلاً أقل حياءً منك في العرب ؛ إنك مال بك الهوى إلى معاوية وبعته دينك بالثمن الأوكس، ثم خطبت الناس في عشواء!.

٧ - قول الحكم: شهد مع علي في صفين ثمانون بدرياً وخمسون ومئتان ممن بايع تحت الشجرة منهم عمار بن ياسر.

٨ - قول عمار: تقدَّم الجنة تحت الأبارقة، والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنَّا على الحق وأنهم على الباطل.

٩ - قول معاوية: فوالله لو كان لعليّ بيتان أحدهما من تِبر والآخر من تِبن لأنفذ تِبره قبل تبنه.

١٠ - قول علي (ع) لمالك: ولا يجرمنك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة.

١١ - قول علي (ع) لمعاوية: إنك قدّمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نُقاتلك وبدأتنا بالقتال، ونحن من رأينا الكف عنك حتى ندعوك ونحتج عليك.

١٢ - قول أبو عمرة بشير بن عمرو لمعاوية: أن علياً يأمرك بتقوى الله عَزَّ وجَلَّ، وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في عاقبة أمرك.

١٣ - قول عديّ بن حاتم: إنا أتيناك ندعوك إلى أمر يَجمع الله عَزَّ وجَلَّ به كلمتنا وأمتنا ويَحقن به الدماء، ويأمن به السُبل ويُصلح به ذات البين، إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقة.

٣٥٢

١٤ - قول عليّ (ع) في جواب حبيب بن مسلمة: ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمورهم، فقالوا لي: بايع فلم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعاني وخلاف معاوية الذي لم يجعل الله عَزَّ وجَلَّ له سابقة في الدين ولا سلف صدق في الإسلام، طليق ابن طليق.

١٥ - قول عمار: اللَّهُم إني لا أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين.

١٦ - قول عبد الله بن عمرو بن العاص: مالي ولقتال المسلمين وصفين، لوددت أني متُّ قبله بعشر سنين.

١٧ - قول عبد الله بن عمر بن الخطاب: ما آسى على شيء كما آسى أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي.

١٨ - قول عمار: لقد قاتلت معاوية ثلاثاً مع رسول الله (ص) وهذه الرابعة ما هي بأبرّ ولا أتقى.

٣٥٣

فتنة:

(التحكيم)

الإمامة والسياسة: فأقبل الأشعث بن قيس في أناس كثير من أهل اليمن فقالوا لعلي: لا نرد ما دعاك القوم إليه ؛ قد أنصفك القوم، والله لئن لم تقبل هذا منهم لا وفاء معك ولا نرمي معك بسهم ولا حجر ولا نقف معك موقفاً.(١)

ويروي: أن معاوية قال لأصحابه حين استقامت المدة ولم يُسم الحكمين: من ترون علياً يختار؟ فأما نحن فصاحبنا عمرو بن العاص. قال عتبة بن أبي سفيان: أنت أعلم بعلي منا. فقال معاوية: أن لعليّ خمسة رجال من ثقاته منهم عدي بن حاتم وعبد الله بن عباس وسعد بن قيس وشريح بن هاني والأحنف بن قيس ومع هذا أن الناس قد ملوا هذه الحرب ولم يرضوا إلا رجلاً له تقية، وكل هؤلاء له تقية لهم، ولكن انظروا أين أنتم من رجل من أصحاب رسول الله (ص) تأمنه أهل الشام وترضى به أهل العراق؟ فقال عتبة: ذلك أبو موسى الأشعري.(٢)

العقد الفريد: لما كان يوم الهرير - وهو أعظم يوم بصفين - زحف أهل العراق على أهل الشام فأزالوهم عن مراكزهم حتى انتهوا إلى سرادق معاوية، فدعا بالفرس وهمّ بالهزيمة، ثم التفت إلى عمرو بن العاص وقال له: ما عندك؟ قال: تأمر بالمصاحف فتُرفع في أطراف الرماح ثم اجمع رأيهم على التحكيم، فهم علي على أن يُقدم أبا الأسود الدّؤلي، فأبى الناس عليه ثم اجتمع أصحاب البرانس وهم وجوه أصحاب عليّ، على أن يُقدموا ابا موسى الأشعري وكان مبرنساً، وقالوا: لا نرضى بغيره. فقدّمه عليّ، وقدّم معاوية عمرو بن العاص. فقال

____________________

١ - الإمامة والسياسة، ج ١، ص ١٠٨.

٢ - نفس المصدر، ص ١٠٩.

٣٥٤

معاوية لعمرو: إنك قد رُميت برجل طويل اللسان قصير الرأي فلا ترمه بعقلك كله.(١)

ويروي: لما قدم أبو الأسود الدؤلي على معاوية عام الجماعة، قال له معاوية: بلغني ياأبا الأسود أن علي بن أبي طالب أراد أن يجعلك أحد الحكمين، فما كنت تحكم به؟ قال: لو جعلني أحدهما لجمعت ألفاً من المهاجرين وأبناء المهاجرين وألفاً من الأنصار وأبناء الأنصار ثم ناشدتهم الله: المهاجرون وأبناء المهاجرين أولى بهذا الأمر أما الطلقاء؟ قال له معاوية: لله أبوك أيّ حكم كنت تكون لو حُكّمت.(٢)

تاريخ الطبري: فلما رأى عمرو بن العاص أن أمر أهل العراق قد اشتد وخاف في ذلك الهلاك، قال لمعاوية: هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعاً ولا يزيدهم إلا فرقة؟ قال: نعم. قال: نرفع المصاحف ثم نقول ما فيها حكمٌ بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يتقبّلها وجدت فيهم من يقول: بلى ينبغي أن نقبل، فتكون فرقة تقع بينهم، وأن قالوا: بلى نقبل ما فيها، رفعنا هذا القتال عنا، وهذه الحرب إلى أجل أو إلى حين، فرفعوا المصاحف بالرماح إن علياً قال: عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم: قتال عدوكم! فإن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح والضحاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم: قد صحبتهم أطفالاً وصحبتهم رجالاً فكانوا شر أطفال وشر رجال، ويحكم إنهم ما رفعوها ثم لا يرفعونها ولا يعلمون بما فيها وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهنا ومكيدة. فقالوا له: ما يسعنا أن نُدعى إلى كتاب الله عَزَّ وجَلَّ فنأبى أن نقبله. فقال لهم: فإني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم هذا الكتاب، فإنهم قد عصوا الله عَزَّ وجَلَّ فيما أمرهم ونسوا عهده ونبذوا كتابه. فقال له مسعر بن فدّكي التميميّ وزيد بن حصين الطائي ثم السنبسي في عصابة معهما من القراء الذين صاروا

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٤٦.

٢ - نفس المصدر، ص ٣٤٩.

٣٥٥

خوارج بعد ذلك: يا عليّ، أجب إلى كتاب الله عَزَّ وجَلَّ إذا دُعيت إليه وإلا ندفعك برمّتك إلى القوم أو نفعل كما فعلنا بابن عفان. إنه غلبنا أن يعمل بكتاب الله فقتلناه‏. والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك؟ قال: فاحفظوا عني نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم فيّ، أما أنا فإن تطيعوني تقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم. قالوا له: فأبعث إلى الأشتر فليأتك فقال الأشتر: ليس هذه الساعة التي ينبغي لك أن تُزيلني عن موقفي ؛ إني قد رجوت أن يُفتح لي فلا تُعجلني. فرجع يزيد بن هاني إلى عليّ فأخبره فما هو إلا أن انتهى إلينا، فارتفع الرهج وعلت الأصوات من قبل الأشتر، فقال له القوم: والله ما نراك إلا أمرته أن يُقاتل، قال: من أين ينبغي أن تُروا ذلك! رأيتموني ساررته؟! أليس إنما كلّمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعوني، قالوا: فابعث إليه فليأتك وإلا والله اعتزلناك. قال له: ويحك يا يزيد! قل له أقبل إليَّ فإن الفتنة قد وقعت.(١)

أقول: بايع المهاجرون والأنصار علياً (ع) على أن يعمل بالكتاب وسنة رسول الله (ص)، وهو أعلم الأمة وأتقاها وأقضاها، وأحب الناس إلى الله وإلى رسوله، وهو مع الحق والحق يدور معه كيفما دار، وهو وليّ كل مؤمن ومؤمنة وأخو رسول الله (ص) وابن عمه وزوج البتول، وأول من أسلم وجاهد في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ.

فمن أراد أن يعمل بالكتاب والسنة فلا بد أن يبايع علياً (ع) ويستقر تحت رايته ويهتدي بهداه ويتبع سبيله. ومن خالفه فهو مخالف للكتاب والسنة، والدعوة إلى علي (ع) هي الدعوة إلى كتاب الله، والتابع له على يقين من أمره ودينه، فلا معنى في دعوة معاوية وعمرو العاص له إلى العمل بالكتاب وأن يكون الكتاب حكماً بينهما، وهذا نهاية تنزيل مقام أمير المؤمنين (ع)، ويدل على نهاية جهل أصحابه وقصور معرفتهم وضعف دينهم حيث قالوا: يا علي، أجِب إلى

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٦، ص ٢٦.

٣٥٦

كتاب الله إذا دُعيت إليه وإلا ندفعك برمّتك إلى القوم، أو نفعل كما فعلنا بابن عفان.

وليعلم أن هذه الفتنة أشد من فتنة حرب صفين: فإن نتيجة هذه الفتنة هي تنزيل مقام أمير المؤمنين والتسليم لحكم معاوية والانخداع بخدعته وترك حكومة الحق والخلاف لعلي (ع)، ومن هذا الخلاف نشأت حرب الخوارج.

تاريخ الطبري: فقال أهل الشام: فإنا قد اخترنا عمرو بن العاص. فقال الأشعث وأولئك القوم الذين صاروا خوارج بعدُ: فإنا قد رضينا بأبي موسى الأشعري. قال عليّ: فإنكم قد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن، إني لا أرى أن أولّي أبا موسى. فقال الأشعث وزيد بن حصين الطائي ومسعر بن فدكي: لا نرى إلا به، فإنه ما كان يُحذّرنا وقعنا فيه.

قال عليّ: فإنه ليس لي بثقة ؛ قد فارقني وخذل الناس عني ثم هرب مني حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس نُوليه ذلك. قالوا: ما نُبالي أنت كنت أم ابن عباس، لا نريد إلا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء، ليس أي واحد منكما بأدنى منه إلى الآخر. فقال عليّ: فإني أجعل الأشتر. قال الأشعث: وهل سعّر الأرض غيرُ الأشتر قال علي: فقد أبيتم إلا أبا موسى؟ قالوا: نعم. قال: فاصنعوا ما أردتم. فبعثوا إليه، وقد اعتزل القتال وهو بُعرض.(١)

أقول: يظهر من جملات: ( فإنه ما كان يُحذّرنا وقعنا فيه) و(خذل الناس عني) (هو منك ومن معاوية سواء) و(هل سعّر الأرضَ) و(قد اعتزل القتال) أنهم ندموا ورجعوا عن الحرب، وقد اختاروا رجلاً معتزلاً عنه، حتى يختار الاعتزال، ويحذّرهم من الحرب وإن كان خلاف رأي عليّ (ع).

تاريخ الطبري: إن علياً قال للناس يوم صفين: لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوة وأسقطت مُنّة وأوهنت وأورثت وهناً وذلة. ولما كنتم الأعلين وخاف عدوكم الاجتياح واستحرّ بهم القتل ووجدوا ألم الجراح رفعوا المصاحف ودعوكم إلى

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٦، ص ٢٨.

٣٥٧

ما فيها ليفثؤكم عنهم ويقطعوا الحرب فيما بينكم وبينهم ويتربّصون ريب المنون خديعة ومكيدة، فأعطيتموهم ما سألوا وأبيتم إلا أن تدهنوا وتجوّزوا. وأيم الله، ما أظنكم بعدها توافقون رشداً ولا تصيبوا باب حزم.(١)

أقول: ضعضع: أي وضع. المُنّة: كالقوة لفظاً ومعناً. اجتاح: استأصل وأهلك. فثأ الحر والغضب: سكن غليانها.

جريان أمر الحكمين

خصائص النسائي: عن علقمة قال: قلت لعلي (رضي الله عنه) تجعل بينك وبين ابن آكلة الأكباد؟ قال: إني كنت كاتب رسول الله (ص) يوم الحُديبية فكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، قالوا: لو نعلم أنه رسول الله ما قاتلناه، أمحها. قلت: هو والله رسول الله (ص) وإن رغم أنفك ولا والله لا أمحوها، فقال لي رسول الله (ص): أرنيه؟ فأريته فمحاها، وقال: أما أن لك مثلها وستأتيها وأنت مضطرّ.(٢)

تاريخ الطبري: فكتبوا هذا ما تقاضى عليه عليّ أمير المؤمنين. فقال عمرو أكتب اسمه واسم أبيه، هو أميركم، وأما أميرنا فلا. وقال الأحنف: لا تمح اسم إمارة المؤمنين فإني أتخوّف إن محوتها ألا ترجع إليك أبداً، لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً. فأبى ذلك عليّ ملياً من النهار، ثم إن الأشعث بن قيس قال امحُ هذا الاسم برّحه الله فمحى. وقال عليّ: الله أكبر سنة بسنّة ومثل بمثل، والله إني لكاتب بين يدي رسول الله (ص) يوم الحديبية إذ قالوا: لست رسول الله ولا نشهد لك به ولكن أكتب اسمك واسم أبيك. فقال عمرو بن العاص: سبحان الله! ومثل هذا أن نشبّه بالكفار ونحن مؤمنون. فقال عليّ: يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين ولياً وللمسلمين عدواً، وهل تشبه إلا

____________________

١ - نفس المصدر السابق، ص ٣١.

٢ - خصائص النسائي، ص ٣٦.

٣٥٨

أمك التي وضعت بك.(١)

الطبقات: فاجتمعا على أمرهما فأداره عمرو على معاوية فأبى، وقال أبو موسى عبد الله بن عمر، فقال عمرو: أخبرني عن رأيك؟ فقال أبو موسى: أرى أن نخلع هذين الرجلين ونجعل هذا الأمر شورى بين المسلمين فيختارون لأنفسهم من أحبوا، فقال عمرو: الرأي ما رأيت! فأقبلا على الناس وهم مجتمعون، فقال له عمرو: يا أبا موسى أعلمهم بأن رأينا قد اجتمع، فتكلم أبو موسى فقال: إن رأينا قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح به أمر هذه الأمة. فقال عمرو صدق وبر ونعم الناظر للإسلام وأهله، فتكلم يا أبا موسى! فأتاه ابن عباس فخلا به فقال: أنت في خدعة ألم أقل لك لا تبدأه وتعقّبه فإني أخشى أن يكون أعطاك أمراً خالياً ثم ينزعنه على ملأ من الناس واجتماعهم. فقال الأشعري: لا تخش ذلك قد اجتمعنا واصطلحنا، فقام أبو موسى فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر شيئاً هو أصلح لأمرها ولا ألمّ لشعثها من أن تبتزّ أمورها ولا نعصبها حتى يكون ذلك عن رضى منها وتشاور، وقد اجتمعت أنا وصاحبي على أمر واحد، على خلع عليّ ومعاوية وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر فيكون شورى بينهم يولون منهم من أحبوا عليهم، وأني قد خلعت علياً ومعاوية فولوا أمركم من رأيتم! ثم تنحّى. فأقبل عمرو بن العاص فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا قد قال ما قد سمعتم وخلع صاحبه وأن أخلع صاحبه كما خلعه وأُثبت صاحبي معاوية فإنه وليّ ابن عفان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه. فقال سعد بن أبي وقاص: ويحك يا أبا موسى ما أضعفك عن عمرو ومكائده! فقال أبو موسى: فما أصنع؟ جامعني على أمر ثم نزع عنه، فقال ابن عباس: لا ذنب لك يا أبا موسى الذنب لغيرك. للذي قدّمك في هذا المقام! فقال أبو موسى رحمك الله غدرني فما أصنع؟ وقال أبو موسى لعمرو: إنما مثلك كالكلب( إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ) ، فقال له عمرو: إنما مثلك مثل( الْحِمارِ

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٦، ص ٢٩.

٣٥٩

يَحْمِلُ أَسْفاراً ) . فقال ابن عمر: إلى مَ صيرت هذه الأمة؟ إلى رجل لا يبالي ما صنع وآخر ضعيف. وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: لو مات الأشعري من قبل هذا كان خيراً له.(١)

أقول: يظهر من هذه الكلمات مقام أبي موسى علماً ومعرفة:

١ - وقال أبو موسى: (عبد الله بن عمر هذا خلاف ما رأى أبوه عمر وقال في حقه، ولم يجعله من أفراد الشورى) والعجب أن أبا موسى فضّله على أمير المؤمنين (ع) ورأى خلعه ونصب عبد الله.

٢ - (أرى أن نخلع هذين الرجلين): إن رسول الله (ص) نصب علياً علماً وهادياً وأميراً وخليفة وولياً ومولى لقاطبة المسلمين، فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه. ويريد أبو موسى أن يَخلعه كما يريد أن يخلع معاوية.

٣ - (غَدَرني فما أصنع؟) من كان نظره وعرفانه بهذه الدرجة من الضعف والانحطاط والتزلزل فهو محجوب عن الحق وواقع في معرض الغدر والحيلة.

٤ - (مثل الحمار يحمل أسفاراً): أشار عمرو إلى ضعف معرفته وتدبره وسياسته. راجع وتدبر في مكالمته عمراً في ما يرويه الطبري والعقد الفريد:

العقد الفريد: فأُخلي لهما مكان يجتمعان فيه، فأمهله عمرو بن العاص ثلاثة أيام، ثم أقبل إليه بأنواع من الطعام يُشهّيّه بها، حتى إذا استبطن أبو موسى. ناجاه عمرو فقال له: يا أبا موسى، إنك شيخ أصحاب محمد (ص)، وذو فضلها وذو سابقتها، وقد ترى ما وقعت فيه هذه الأمة من الفتنة العمياء التي لا بقاء معها، فهل لك أن تكون ميمون هذه الأمة فيحقن الله بك دماءها، فإنه يقول في نفس واحدة:( وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَميعاً ) فكيف بمن أحيا أنفس هذا الخلق كله؟ قال له: وكيف ذلك؟ قال: تخلع أنت عليّ بن أبي طالب وأخلع أنا معاوية بن أبي سفيان، ونختار لهذه الأمة رجلاً لم يحضر في شيء من الفتنة ولم يغمّس يده فيها. قال له: ومن يكون ذلك؟ وكان عمرو بن العاص قد فهم

____________________

١ - الطبقات، ج ٤، ص ٢٥٦.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495