الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام12%

الحقائق في تاريخ الاسلام مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 495

الحقائق في تاريخ الاسلام
  • البداية
  • السابق
  • 495 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193420 / تحميل: 7471
الحجم الحجم الحجم
الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

رأي أبي موسى في عبد الله بن عمر، فقال له: عبد الله بن عمر، فقال: إنه لك ما ذكرت، ولكن كيف لي بالوثيقة منك؟ فقال له: يا أبا موسى( أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) ، خذ من العهود والمواثيق حتى ترضى، ثم لم يُبق عمرو بن العاص عهداً ولا موثقاً ولا يميناً مؤكدة حتى حلف بها، حتى بقي الشيخ مبهوتاً، وقال له: قد أجبتُ. فنودي في الناس بالاجتماع إليهما، فاجتمعوا. فقال له عمرو: قم فاخطب الناس يا أبا موسى. فقال: قم أنت أخطبهم. فقال: سبحان الله! أنا أتقدّمك وأنت شيخ أصحاب رسول الله (ص)! والله لا فعلت أبداً، قال: أو عسى في نفسك أمر؟ فزاده أيماناً وتوكيداً، حتى قام الشيخ فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس إني قد اجتمعت أنا وصاحبي إلخ.(١)

تاريخ الطبري: والتقى الحكمان، فقال عمرو بن العاص: يا أبا موسى ألست تعلم أن عثمان قتل مظلوماً؟ قال: أشهد. قال ألست تعلم أن معاوية وآل معاوية أولياؤه؟ قال: بلى. قال: فإن الله عَزَّ وجَلَّ قال:( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ) فما يمنعك من معاوية وليّ عثمان يا أبا موسى وبيته في قريش كما قد علمت، فإن تخوّفت أن يقول الناس وُلّي معاوية وليست له سابقة: فإن لك بذلك التدبير، وهو أخو أم حبيبة زوجة النبي (ص) وقد صحبه فهو أحد الصحابة، ثم عرض له بالسلطان، فقال: أن ولي أكرمك كرامة لم يُكرمها خليفة. فقال أبو موسى: يا عمرو، اتَّقِ الله عَزَّ وجَلَّ فأمَّا ما ذكرت من شرف معاوية: فإن هذا ليس على الشرف يُولاه أهله، ولو كان على الشرف لكان هذا الأمر لآل أبرهة بن الصبّاح، إنما هو لأهل الدين والفضل مع أني لو كنت مُعطيه أفضل قريش شرفاً أعطيته عليّ بن أبي طالب. وأما قولك أن معاوية وليّ دم عثمان فولّه هذا الأمر: فإني لم أكن لأولّيه معاوية وأدَع المهاجرين الأولين. وأما تعريضك لي بالسلطان.

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٤٧.

٣٦١

فوالله لو خرج لي من سلطانه كله ما وليته، وما كنت لأرتشي في حكم الله عَزَّ وجَلَّ، ولكنك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطاب.(١)

أقول: طلب الثأر دعوى خصوصيّ لا ارتباط له بالخلافة والبيعة ووحدة الكلمة، ثم إن معاوية من أين جُعِل ولياً لعثمان؟، مع أنه خذله وترك نصرته في حياته.

ويروي أيضاً: عن أبي جناب الكلبي أن عمراً وأبا موسى حيث التقيا بدومة الجندل، أخذ عمرو يُقدّم أبا موسى في الكلام يقول: إنك صاحب رسول الله (ص) وأنت أسنّ مني، فتكلم وأتكلّم، فكان عمرو قد عوّد أبا موسى أن يقدمه في كل شيء ؛ اغتزى بذلك كله أن يقدّمه فيبدأ بخلع عليّ، قال: فنظر في أمرهما وما اجتمعا عليه، فأراده عمرو على معاوية فأبى وأراده على ابنه فأبى، وأراد أبو موسى عمراً على عبد الله بن عُمر فأبى عليه. فقال له عمرو: خبّرني ما رأيك؟ قال: رأيي أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى بين المسلمين فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبّوا، فقال له عمرو: فإن الرأي ما رأيت فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فقال: يا أبا موسى، أعلِمهم بأن رأينا قد اجتمع واتفق. فتكلم أبو موسى فقال: إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجوا أن يصلح الله عَزَّ وجَلَّ به أمر هذه الأمة. فقال عمرو: صدق وبرّ، يا أبا موسى تقدّم، فتقدّم أبو موسى ليتكلم، فقال له ابن عباس: ويحك! والله إني لأظنه قد خدعك إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدّمه فليتكلم بذلك الأمر قبلك، ثم تكلم أنت بعده فإن عمراً رجل غادر ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه فإذا قمت في الناس خالفك! وكان أبو موسى مغفّلاً، فقال: إنا قد اتفقنا، فتقدم أبو موسى فحمد الله عَزَّ وجَلَّ وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألمّ لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع علياً ومعاوية وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر، فيولوا منهم من أحبوا عليهم،

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٦، ص ٣٨.

٣٦٢

وإني قد خلعت علياً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلاً، ثم تنحّى. وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن هذا قد قال ما سمعتم وخلّع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية فإنه وليّ عثمان بن عفان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه. فقال أبو موسى: ما لك لا وفّقك الله غدرت وفجرت، إنما مثلك( كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ) ، قال عمرو فقنذعه بالسوط فكان أبو موسى يقول: حذّرني ابن عباس غدرة الفاسق ولكني اطمأننت إليه وظننت أنه لن يؤثر شيئاً على نصيحة الأمة.(١)

أقول: التحكيم كان باطلاً من أصله، حيث إن خلافة عليّ (ع) كانت بالحق وللحق وعلى الحق، وكانت واقعة ومحقَّقة بالنص والإجماع، والعجب من جمود فكر أبي موسى وقصور عقله حيث ساوى بين عليّ (ع) وبين رجال آخرين، ثم انخدع بخدعة عمرو ولم يتنبّه ولم يحتط في مثل هذه المسألة مع تحذير ابن عباس وتنبيه.

ونِعم ما قال ابن عباس كما في(البدء والتاريخ) فقال ابن عباس لأبي موسى: إنك قد رُميت بحجر الأرض وداهية العرب، فمهما نسيت فلا تنس أن علياً بايعه الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، وليست فيه خلصلة واحدة تباعده من الخلافة، وليس في معاوية خصلة واحدة تُدانيه من الخلافة.(٢)

هذا مضافاً إلى أن نصب عليّ (ع) للخلافة كان من جانب الله ومن جانب الرسول (ص)، فهو خليفة إلهيّ وإمام منصوب ووليّ الله في خلقه وحجته على عباده وأفضل الأمة وأعلمها وأتقاها وأحبّ الناس إلى الله وإلى رسوله. كما قال رسول الله (ص): أنت مني بمنزلة هارون من موسى، ومن والاك فقد والاني ومن عاداك فقد عاداني. وإنه أحب الخلق إلى الله والى رسوله

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٦، ص ٣٩.

٢ - البدء والتاريخ، ج ٥، ص ٢٢٧.

٣٦٣

فكيف يجوز أن يقول فيه كل ضعيف محجوب ما يقول، هذا مثل ما قالوا في رسول الله بعقولهم الضعيفة، وكما قالوا في القرآن الكريم، وداؤهم جهلهم وضعف تفطّنهم وقلة معرفتهم. فانظر إلى هذه الروايات في حق أبي موسى:

العقد الفريد: فكتب أبو موسى إلى معاوية في جواب كتابه: سلام عليك، أما بعد: فإني لم يكن مني في عليّ إلا ما كان من عمرو فيك، غير أني أردت بما صنعت ما عند الله، وأراد به عمرو ما عندك. وقد كان بيني وبينه شروط وشورى عن تراضٍ، فلمّا رجع عمرو رجعت. أما قولك إن الحكمين إذا حكما على رجل لم يكن له الخيار عليهما ؛ فإنما ذلك في الشاة والبعير والدينار والدرهم، فأما أمر هذه الأمة فليس لأحد فيما يكره حكم، ولن يُذهب الحق عجز عاجز ولا خدعة فاجر.(١)

ويروي: فبلغ علياً كتاب معاوية إلى أبي موسى الأشعري فكتب إليه: سلام عليك، أما بعد، فإنك امرؤ ظلمك الهوى واستدرجك الغرور، حقق بك حسن الظن لزومك بيت الله الحرام غير حاجّ ولا قاطن، فاستقل الله يُقلك، فإن الله يغفر ولا يغفل، وأحب عباده إليه التوابون.(٢)

ويروي: فبينما عليّ يوماً على المنبر إذ التفت إلى الحسن ابنه فقال: قم يا حسن فقل في هذين الرجلين (عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص). فقام الحسن فقال: أيها الناس أنكم قد أكثرتم في هذين الرجلين، وإنما بُعثا ليحكما بالكتاب على الهوى، فحكما بالهوى على الكتاب، ومن كان هذا لم يُسمّ حكماً ولكنه محكوم عليه، وقد أخطأ عبد الله بن قيس إذ جعلها لعبد الله بن عمر، فأخطأ في ثلاث خصال: واحدة أنه خالف أباه إذ لم يرضه له ولم يجعله من أهل الشورى، وأخرى أنه لم يستأمره في نفسه، وثالثة أنه لم يجتمع عليه المهاجرون والأنصار الذين يقعدون الإمارة ويحكمون بها على النفس.(٣)

____________________

١ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٤٨.

٢ - نفس المصدر، ص ٣٤٩.

٣ - العقد الفريد، ج ٤، ص ٣٥٠.

٣٦٤

أقول: يستفاد من روايات هذه الفتنة أمور راجعة إلى أمير المؤمنين عليّ، وإلى معاوية، وإلى عمرو بن العاص، وإلى أبي موسى:

أمَّا ما يرجع إلى عليّ (ع) ، فنذكرها بالترتيب:

١ - قول أهل اليمن له (ع): لا نرد ما دعاك القوم إليه قد أنصفك القوم والله لئن لم تقبل هذا منهم لا وفاء.

٢ - فهمّ عليّ أن يُقدّم أبا الأسود الدؤلي فأبى الناس عليه.

٣ - إن علياً قال: عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم قتال عدوكم.

٤ - قول الخوارج له: يا عليّ، أجِب إلى كتاب الله إذ دُعيت إليه وإلا ندفعك برمّتك إلى القوم أو نفعل كما فعلنا بابن عفان.

٥ - قول عليّ إلى الأشتر: ويحك يا يزيد قل له أقبِل إليَّ فإن الفتنة قد وقعت.

٦ - قال عليّ: فإنكم قد عصيتموني في أول الأمر فلا عصوني الآن.

٧ - قال عليّ: قد فعلتم فعلة ضعضعتْ قوة، وأسقطت مُنّة، وأوهنتْ وأورثتْ وهناً وذلة.

٨ - قال رسول الله (ص) لعليّ: أما أن لك مثلها وستأتيها وأنت مضطرّ.

٩ - قال ابن عباس لأبي موسى: فلا تنس أن علياً بايعه الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان.

١٠ - كتب أبو موسى إلى معاوية: لم يكن منّي في عليّ إلا ما كان من عمرو فيك.

وأما ما يرجع إلى معاوية:

١ - حتى انتهوا إلى سرادق معاوية فدعا بالفرس وهمّ بالهزيمة.

٢ - قول أبي الأسود: المهاجرون أولى بهذا الأمر أما الطلقاء؟

٣ - قول عليّ (ع): فإن معاوية وعمراً وابن أبي معيط وحبيباً وابن أبي سرح والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن.

٣٦٥

٤ - قال علي: ويحكم إنهم ما رفعوها لكم إلا خديعة ودهناً إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم هذا الكتاب.

٥ - قال أبو موسى: أما ما ذكرت من شرف معاوية فإن هذا ليس على الشرف يولاه أهله مع أني لو كنت معطيه أفضل قريش شرفاً أعطيته عليّ بن أبي طالب فإني لم أكن لأولّيه معاوية وأدع المهاجرين الأولين.

٦ - كتب أبو موسى إليه: ولن يُذهب الحق عجز عاجز ولا خدعة فاجر.

وأما ما يرجع إلى عمرو بن العاص:

١ - قال معاوية: وأما نحن فصاحبنا عمرو بن العاص.

٢ - قال عمرو: تأمر بالمصاحف فتُرفع في أطراف الرماح.

٣ - إن معاوية وعمراً ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن.

٤ - قال عليّ: يا ابن النابغة! ومتى لم تكن للفاسقين ولياً وللمسلمين عدواً وهل تشبه إلا أمّك.

٥ - قال أبو موسى: ما أصنع؟ جامَعَني على أمر ثم نزع عنه ثم قال: إنما مثلك( كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث‏ ) .

٦ - ثم أقبل عليه بأنواع من الطعام يُشهّيّه بها ثم لم يُبق عهداً ولا موثقاً ولا يميناً مؤكدة حتى حلف بها.

٧ - فكان عمرو قد عوّد أبا موسى أن يقدّمه في كل شيء.

٨ - يقول أبو موسى: حذّرني ابن عباس غدرة الفاسق.

٩ - كتب أبو موسى: لن يُذهب الحق خدعة فاجر.

١٠ - قال الإمام الحسن (ع): فحكما بالهوى على الكتاب.

وأما ما يرجع إلى أبي موسى:

١ - قال معاوية: إن الناس قد ملوا ولم يرضوا إلا رجلاً له تقيّة.

٢ - ثم اجتمع أصحاب البرانس على أن يُقدِّموا أبا موسى.

٣٦٦

٣ - قال معاوية لعمرو: إنك قد رُميت برجل طويل اللسان قصير الرأي.

٤ - فقال الأشعث وأولئك القوم الذين صاروا خوارج بعد: فإنا قد رضينا بأبي موسى، قال عليّ: فإنكم قد عصيتموني.

٥ - قال عليّ: فإنه ليس لي بثقة قد فارقني وخذلني.

٦ - قال ابن عباس: أنت في خدعة. ألم أقل لك لا تبدأه.

٧ - قال سعد: ويحك يا أبا موسى ما أضعفك عن عمرو.

٨ - قال عمرو له: مثلك مثل الحمار يحمل أسفاراً.

٩ - قال عبد الرحمن: لو مات الأشعري قبل هذا لكان خيراً له.

١٠ - وكان أبو موسى مغفّلاً، فقال: إنا قد اتفقنا.

١١ - فحمل شريح عليه فقنّعه بالسوط.

١٢ - قال أبو موسى: وكان بيني وبين عمرو شروط فلما رجع رجعت.

ويناسب أن نروي روايات فيه:

سير الأعلام: عن شقيق، كنا مع حذيفة جلوساً، فدخل عبد الله وأبو موسى المسجد، فقال: أحدهما منافق، ثم قال: إن أشبه الناس هدياً ودلاً وسمتاً برسول الله (ص) عبد الله ( وهو ابن مسعود ).(١)

ويروي: وكان النبي (ص) قد أسرّ إلى حذيفة أسماء المنافقين.(٢)

وفيالاستيعاب : كان عمر بن الخطاب يسأله عن المنافقين، وهو معروف في الصحابة بصاحب سر رسول الله.(٣)

ويروي الذهبي أيضاً: فجاء ابن عباس إلى عليّ، فقال: علام تُحكّم أبا موسى؟ لقد عرفت رأيه فينا فوالله ما نصرنا، وهو يرجو ما نحن فيه، فتُدخله الآن في معاقد أمرنا مع أنه ليس بصاحب ذلك، فإذا أبيت أن تجعلني مع عمرو فاجعل الأحنف بن قيس فإنه مجرّب من العرب وهو قِرن لعمرو. فقال: نعم.

____________________

١ - سير الأعلام، ج ٢، ص ٢٨٢.

٢ - نفس المصدر، ص ٢٦٢.

٣ - الاستيعاب، ج ١، ص ٣٣٥.

٣٦٧

فأبت اليمانية أيضاً. فلمَّا غُلب جعل أبا موسى.(١)

أقول: قد مرّ في الروايات السابقة جريان تحكيم أبي موسى، وأن علياً أمير المؤمنين (ع) حكّمه إجباراً من الخوارج، فإنهم لم يرضوا إلا به.

____________________

١ - سير الأعلام، ج ٢، ص ٢٨٣.

٣٦٨

(بعض ما ورد في معاوية)

نذكر هنا روايات من مساوئ أعمال معاوية بن أبي سفيان، ولما كانت مرتبطة بالمقام أفردناها بالذكر من بين سائر ما ورد في مظالمه ومطاعنه.

ولا يخفى أن معاوية هو ابن أبي سفيان بن حرب، كان أبوه في رأس المحاربين من مشركي قريش في غزوات رسول الله (ص)، وأمه هند بنت عتبة التي أخرجت كبد حمزة عم رسول الله وجعلت تلوك كبده ثم لفظته وجدعت أنفه وقطعت أذنيه. فبكى رسول الله (ص) وشهق.

(ادعاء زياد)

الفائق: عائشة: قدم معاوية المدينة فدخل عليها، فذكرت له شيئاً، فقال: إن ذلك لا يصلح، فقالت: الذي لا يصلح ادعاؤك زياداً، فقال: شهدت الشهود، فقالت: ما شهدت الشهود ولكن ركبت الصليعاء.(١)

قال الزمخشري: أي السوءة أو الفجرة البارزة، تعني ردّه بذلك الحديث المرفوع الذي أطبقت الأمة على قبوله: الولد للفراش وللعاهر الحجر. وسُمّية لم تكن لأبي سفيان فراشاً.

أقول: إن أبا سفيان زنى بسمية ثم ولد زياداً، فادعى معاوية أنه أخوه، وأن أباه أبو سفيان، مع أن للعاهر الحجر والولد يلحق بالفراش. وابن زياد هو عبيد الله الملعون الذي أسرج وتهيّأ لقتال أبي عبد الله الحسين سيد شباب أهل الجنة وابن بنت رسول الله (ص)

____________________

١ - الفائق، ج ٢، ص ٣٧.

٣٦٩

الاستيعاب: فقال عمرو بن العاص: أما والله لو كان هذا الغلام قرشياً لساق العرب بعصاه، فقال أبو سفيان بن حرب: والله إني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه، فقال علي بن أبي طالب: ومن هو يا أبا سفيان؟ قال: أنا ثم ادعاه معاوية في سنة أربع وأربعين ولحق به زياداً أخاً على ما كان من أبي سفيان في ذلك وقال أبو بكرة أخو زياد لأمه: هذا زنى أمه وانتفى من أبيه. ويله ما يصنع بأم حبيبة زوج النبي (ص) أيريد أن يراها، فإن حجبته فضحته، وإن رآها فيالها مصيبة، يهتك من رسول الله (ص) حرمة عظيمة.(١)

تهذيب ابن عساكر: عن سعيد بن المسيب قال: أول قضية ردّت من قضاء رسول الله (ص) علانيّة، قضاء فلان. يعني معاوية في زياد. وقال ابن يحيى: أول حكم رُدّ من أحكام رسول الله (ص) الحُكُم في زياد. وقال ابن بعجة: أول داء دخل على العرب قتل الحسن يعني سمّه، وادعاء زياد.(٢)

قتل حُجْر

وفيالتهذيب : قال معاوية: ما قتلتُ أحداً إلا وأنا أعرف فيم قتلته، ما خلا حجراً، فإني لا أعرف بأيّ ذنب قتلته.(٣)

الاستيعاب: فبلغ ما صنع بهم زياد إلى عائشة أم المؤمنين، فبعثت إلى معاوية عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: الله الله في حُجر وأصحابه ؛ فوجده عبد الرحمن قد قُتل هو وخمسة من أصحابه، فقال لمعاوية: أين عزب عنك حلم أبي سفيان في حجر وأصحابه؟ ألا حبستهم في السجون وعرّضتهم للطاعون؟ قال: حين غاب عنّي مثلك من قومي. قال: والله لا تَعدّ لك العرب حلماً بعدها أبداً ولا رأياً، قتلت قوماً بُعث بهم إليك أسارى من المسلمين. قال: فما أصنع؟ كتب

____________________

١ - الاستيعاب، ج ١، ص ٥٢٥.

٢ - تهذيب ابن عساكر، ج ٥، ص ٤١٢.

٣ - نفس المصدر، ج ٤، ص ٨٦.

٣٧٠

إليَّ فيهم زياد يُشدّد أمرهم ويذكر أنهم سيفتقون عليّ فتقاً لا يُرقع!.(١)

البيان والتعريف: إن معاوية دخل على عائشة فقالت: ما حملك على ما صنعت من قتل أهل عذراء حُجر وأصحابه؟ قال: رأيت قتلهم صلاحاً للأمة وبقاءهم فساداً! فقالت: سمعت رسول الله (ص) يقول: سيُقتل بعذراء أناس يغضب الله لهم وأهل السماء.(٢)

مستدرك الحاكم: عن مروان بن الحكم، قال: دخلت مع معاوية على أم المؤمنين عائشة، فقالت: يا معاوية، قتلت حُجراً وأصحابه وفعلت الذي فعلت، أما تخشى أن أخبأ لك رجلاً فيقتلك! قال: لا، إني في بيت أمان.(٣)

أقول: حُجر بن عديّ وأصحابه المقتولون الشهداء من جانب معاوية بن أبي سفيان: كانوا من الأتقياء الزهاد القائمين بالليل والصائمين بالنهار ومن أهل الحديث والمعرفة ومن محبّي أهل بيت رسول الله (ص)، وهذه المحبة والمعرفة كانت عند بني أمية من الذنوب العظام التي لا تُغفر.

انظر: ما قالت غانمة لمعاوية، وما عمل عمر بسر بن أرطأة:

الاستيعاب: ما خلاصته: وجّه معاوية بسر بن أرطأة لقتل شيعة عليّ، فقتل ابني عبيد الله بن العباس، وفرّ أهل المدينة ودخلوا الحرة، وأغار على همدان وقتل وسبى نساءهم، فكُنّ أول مسلمات سُبين في الإسلام، وقتل أحياء من بني سعد، وفرّ عامل المدينة أبو أيوب الأنصاري ولحق بعلي (ع).(٤)

المحاسن للبيهقي: ثم قالت ( غانمة ): يا معشر قريش، والله ما معاوية بأمير المؤمنين ولا هو كما يزعم، هو والله شانيء رسول الله (ص)، إني آتية معاوية وقائلة له بما يعرق منه جبينه ويكثر منه عويله، فكتب عامل معاوية إليه بذلك، فلما بلغه إنها قد قربت منه أمر بدار ضيافة فنُظّفت وألقي فيها فرش. فلما قربت

____________________

١ - الاستيعاب، ج ١، ص ٣٢٩.

٢ - البيان والتعريف، ج ٢، ص ٧٢.

٣ - مستدرك الحاكم، ج ٤، ص ٣٥٢.

٤ - الاستيعاب، ج ١، ص ١٦٠.

٣٧١

غانمة بنت غانم من الشام استقبلها يزيد في حشمه ومماليكه، فلما دخلت المدينة أتت دار أخيها عمرو بن غانم، فقال لها يزيد: أن أبا عبد الرحمن يأمرك أن تصيري إلى دار ضيافته، وكانت لا تعرفه، فقالت: من أنت كلأك الله؟ قال: يزيد بن معاوية. قالت: فلا رعاك الله يا ناقص لست بزائد.

فتمعّر لَوْنُ يزيد، فأتى أباه فأخبره، فقال: هي أسن قريش وأعظمهم، فلما قال يزيد: كم تعدّ لها يا أمير المؤمنين؟ قال: كانت تعدّ على رسول الله (ص) أربعمئة عام، وهي من بقية الكرام. فلما كان من الغد أتاها معاوية فسلّم عليها.

فقالت: على المؤمنين السلام وعلى الكافرين الهوان. ثم قالت: من منكم ابن العاص وأما أنت يا معاوية فما كنت في خير ولا رُبيّت في خير، فمالك ولبني هاشم؟! أنساء بني أمية كنسائهم أم أُعطي أمية ما أعطي هاشم في الجاهلية والإسلام؟ وكفى فخراً برسول الله (ص).

فقال معاوية: أيتها الكبيرة أنا كافّ عن بني هاشم.

قالت: فإني أكتب عليك عهداً، كان رسول الله (ص) دعا ربه أن يستجيب لي خمس دعوات فأجعل تلك الدعوات كلها فيك، فخاف معاوية وحلف لها أن لا يسبّ بني هاشم أبداً.(١)

بعض ما ورد في عمرو بن العاص:

ويناسب هذه المباحث أن نذكر روايات وردت في عمرو وشأنه، ليكون الناظر على بصيرة:

المحاسن والأضداد: في كلام لعاثمة بنت عاثم.. ثم قالت: أفيكم عمرو بن العاص؟ قال عمرو: ها أنا ذا، قالت: أنت تسبّ قريشاً وبني هاشم! وأنت أهل للسب وفيك السب وإليك يعود السب، يا عمرو، إني والله عارفة بك

____________________

١ - المحاسن للبيهقي، ص ٩٣.

٣٧٢

وبعيوبك وعيوب أمك، وإني أذكر ذلك، وُلدت من أمة سوداء مجنونة حمقاء تبول من قيامها ويعلوها اللئام، وإذا لامسها الفحل فكان نطفتها أنفذ من نطفته، ركبها في يوم واحد أربعون رجلاً. وأما أنت، فقد رأيتك غاوياً غير مرشد ومفسداً غير مصلح، والله لقد رأيت فحل زوجتك على فراشك فما غرتَ ولا أنكرتَ.(١)

الفائق: اللَّهُم إن عمرو بن العاص هجاني وهو يعلم أني لستُ بشاعر فاهجُه اللَّهُم والعنه عدد ما هجاني.(٢)

أقول: تباً ثم تباً ثم تباً للأمة المنكوسة المنحطّة الذين يتّبعون من أمثال هذا الرجل المبغوض عند الله ورسوله ويفتخرون به ويسلكون مسلكه، ثم يتركون ما قال لهم رسول الله (ص)، ويُعرضون عن أهل بيت الطهارة، الذين فيهم نزل الوحي، وهم مختلَف الملائكة وأهل بيت النبوة( وَسَيَعْلَمُ الَّذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) .

ثم إنه - كما في الاستيعاب -: عمرو بن العاص بن وائل، وأمه النابغة بنت حرملة، وأخوه لأمه عمرو بن أثاثة وعقبة بن نافع، وزينب بنت عفيف، وإسلامه كان سنة ثمان، وكان أحد الدهاة في أمور الدنيا المقدّمين في الرأي والمكر والدهاء.

المحاسن للبيهقي: عن الشعبي: أن عمرو بن العاص دخل على معاوية وعنده ناس، فلما رآه مقبلاً استضحك، فقال: يا أمير المؤمنين، أضحك الله سنك وأدام سرورك وأقر عينك، ما كل ما أرى يوجب الضحك! فقال معاوية: خطر ببالي يوم صفين يوم بارزت أهل العراق فحمل عليك علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلما غشيك طرحت نفسك عن دابّتك وأبديت عورتك، كيف حضرك ذهنك في تلك الحال؟ وأما والله لقد وافقته هاشمياً منافياً، ولو شاء أن يقتلك لقتلك.

____________________

١ - المحاسن والأضداد، ص١٠٣.

٢ - الفائق، ج ٣، ص١٩٤.

٣٧٣

فقال عمرو: يا معاوية إن كان أضحكك شأني فمن نفسك فاضحك، أما والله لو بدا لك من صفحتك مثل الذي بدا له من صفحتي لأوجع قَذَالك وأيتم عيالك أمَا إني قد رأيتك يوم دعاك إلى البراز فاحوّلت عيناك وأزبد شدقاك وتنشّر مِنخراك وعرق جبينك وبدا من أسفلك ما أكره ذكره. فقال معاوية: حسبك حيث بلغت لم نرد كل هذا.(١)

أقول: هذا ما يعترف كل منهما على عظمة أمير المؤمنين (ع)، ويظهر من كلامهما نهاية ضعف أنفسهما.

الاستيعاب: قال في مرضه: أصلحتُ من دنياي قليلاً وأفسدت من ديني كثيراً، فلو كان الذي أصلحت هو الذي أفسدت والذي أفسدت هو الذي أصلحت لفُزت، ولو كان ينفعني أن أطلب طلبت، ولو كان يُجيني أن أهرب هربت، فصرت كالمنجنيق بين السماء والأرض، لا أرقى بيدين ولا أهبط برجلين.(٢)

الطبقات: فلما نزل به الموت، قال له ابنه عبدالله بن عمرو: يا أبت إنك كنت تقول: عجباً لمن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه، فصف لنا الموت وعقلك معك؟ فقال: يا بنيّ، الموت أجلّ من أن يوصف ولكنّي سأصف لك منه شيئاً، أجدني كأنّ على عنقي جبال رضوى وأجدني كأنّ في جوفي شوك السُلاَّء، وأجدني كأنّ نفسي تخرج من ثَقب إبرة.(٣)

أقول: يناسب هذا المقال ما فيالطبري حدّث شريح بن هاني أن علياً أوصاه بكلمات إلى عمرو بن العاص، قال: قل له إذا أنت لقيته: أن علياً يقول لك: إن أفضل الناس عند الله عَزَّ وجَلَّ من كان العمل بالحق أحب إليه وأن نقصه، وكرثه الباطل وإن حنّ إليه وزاده. يا عمرو، والله إنك لتعلم أين موضع الحق فلِمَ تجاهل؟! إن أوتيت طمعاً يسيراً كنت به لله وأوليائه عدواً، فكان

____________________

١ - المحاسن للبيهقي، ص٥٣.

٢ - الاستيعاب، ج ٣، ص١١٨٩.

٣ - الطبقات، ج ٤، ص٢٦٠.

٣٧٤

والله ما أوتيت قد زال عنك. ويحك ؛ فلا تكن للخائنين خصيماً ولا للظالمين ظهيراً. أما إني أعلم بيومك الذي أنت فيه نادم وهو يوم وفاتك تمنّى أنك لم تُظهر لمسلم عداوة ولم تأخذ على حكم رشوة.(١)

وقد سبق كلام عمرو لمعاوية حيث نُقاتل من تعلم سابقته وفضلهوقرابته، ولكنا إنما أردنا هذه الدنيا.

مستدرك الحاكم: عن عوانة قال: كان عمرو بن العاص يقول: عجباً لمن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه، فلما نزل به الموت قال له ابنه عبد الله وذكّره بقوله، فقال: يا بنيّ، الموت أجلّ من أن يوصف، سأصف لك منه شيئاً: أجدني كأنَّ على عنقي جبل رضوى، وأجدني كأنَّ في جوفي شوك السلاح، وأجدني كأن نفسي تخرج من ثَقب إبرة.(٢)

أقول: هذا أول الابتلاء والعذاب، وإن أخذ الله لشديد، وإنه لشديد العقاب بما عملت أيديهم، والعجب أنه لم يتنبّه بعد، ولم يتوجه إلى مأخذ عذابه ومنشأ ابتلائه ( خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظيمٌ ) . نعم ؛ قد سمعتَ من قول عاثمة مبدأ حياته، ثم سمعت قول رسول الله (ص): (اللَّهُم فاهجُه والعنه)، ثم قد رأيت قوله السيّء في عثمان وتهييج الناس عليه، ثم رأيت توسّله بأيّ مكيدة وحيلة ممكنة لتقوية معاوية وتحكيم حكومته وتضعيف أمير المؤمنين علي (ع) حتى يصل إلى إمرة مصر.

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٦، ص٣٩.

٢ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص٤٥٤.

٣٧٥

ممن استشهد في صِفِّين:

وفي الصف المقابل لصفوف معاوية وأصحابه رجال لا تلهيهم أيّة مشكلة عن ذكر الله تعالى، ولا تشغلهم الآمال عن المسير إلى الحقيقة، أرواحهم معلّقة بالملأ الأعلى، ويبتغون تجارة لن تبور، فمنهم عمار بن ياسر وأويس القرني وخزيمة ذو الشهادتين وغيرهم، ويكفي في إثبات الحقيقة لهذا الصف التوجه إلى أحوالهم وأقوالهم وكيفية بِرازهم ودفاعهم عن حريم إمامهم.

عمَّار من الثلاثة

الكنى للبخاري: قال رسول الله (ص): إن الله أمرني بحب أربعة من أصحابي وأخبرني أنه يحبهم، فقلنا: يا رسول الله من هم؟ فكلنا نُحب أن يكون منهم، فقال: إن علياً منهم، ثم سكت ساعة ثم قال: إن علياً منهم، وسلمان الفارسي وأبا ذر والمقداد بن الأسود الكندي.(١)

سنن الترمذي: مثلها.(٢)

ويروي أيضاً: عن أنس قال رسول الله (ص): إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة: عليّ وعمار وسلمان.(٣)

وفي المستدرك: نظيره.(٤)

أنساب الأشراف: عن أنس قال رسول الله (ص): الجنة تشتاق إلى ثلاثة من

____________________

١ - الكنى للبخاري، ص٣١.

٢ - سنن الترمذي، ص٥٣٤.

٣ - نفس المصدر، ص٥٤٢.

٤ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص١٣٧.

٣٧٦

أصحابي: علي وعمار وبلال.(١)

سير الأعلام: قال رسول الله (ص): عليكم بحب أربعة علي وأبي ذر وسلمان والمقداد.(٢)

أقول: إن علياً (ع) من الأربعة الذين أمر الله بحبهم، وإن الجنة تشتاق إلى ثلاثة منهم علي (ع) وعمار. فإذا أمر الله تعالى بحب علي (ع) فماذا يقول أصحاب معاوية حيث تجهّزوا لقتاله. وإذا اشتاقت الجنة إلى عليّ (ع) وعمار فكيف يُجوّزون خلافهما وقتالهما وطعنهما.

ثم انظر إلى الروايات الواردة بأن من عادى عماراً وأبغضه فقد عاداه اللهُ وأبغضه.

من عادى عمَّاراً

سير الأعلام: عن خالد بن الوليد قال: كان بيني وبين عمار كلام، فأغلظت له، فشكاني إلى رسول الله (ص)، فقال: من عادى عماراً عاداه الله، ومن أبغض عماراً أبغضه الله. فخرجت فما شيء أحب إليّ من رضاء عمار، فلقيته فرضى.(٣)

مستدرك الحاكم: عن خالد، قال: دعاني رسول الله (ص) فقال: يا خالد، لا تسبّ عماراً ؛ فإنه من يسبّ عماراً يسبه الله، ومن يبغض عماراً يبغضه الله، ومن يُسفّه عماراً يُسفّهه الله. قال خالد: استغفر لي يا رسول الله، فوالله ما منعني أن أجيبه إلا تسفيهي إياه، قال خالد: وما من شيء أخوف عندي من تسفيهي عمار بن ياسر يومئذٍ.(٤)

____________________

١ - أنساب الأشراف، ج ١، ص١٦٠.

٢ - سير الأعلام، ج ١، ص٢٨٠.

٣ - سير الأعلام، ج ١، ص٢٩٧.

٤ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص٣٩٠.

٣٧٧

ويروي روايات بأسناد أُخر قريبة منها.

أقول: فارجع نظرك هل ترى من أصحاب معاوية من لم يُبغض عماراً ولم يُسفّهه ولم يُعاده؟ ثم ارجع نظرك هل ترى فيهم من يحبه ويهتدي بهداه ويقتدي به؟ فماذا بعد الحق إلا الضلال.

الاقتداء بعمار:

ثم إنه وردت روايات من رسول الله (ص) يأمر فيها بالاتباع والاقتداء بعمار والاهتداء بهديه، ونذكر هنا عدة روايات منها وما يقرب من هذا المعنى.

الطبقات: قرأت كتاب عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة: أما بعد، فإني بعثت إليكم عماراً أميراً، وعبد الله معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله (ص) فاسمعوا لهما واقتدوا بهما.(١)

أنساب الأشراف: عن حذيفة قال رسول الله (ص): اهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن مسعود.(٢)

ويروي أيضاً: عن حارثة قرأ علينا كتاب عمر بالكوفة: أما بعد، فإني بعثت كما فيالطبقات .(٣)

ويروي أيضاً: عن ابن عباس قال: في قوله( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ) نزلت في عمار بن ياسر.

أقول: الآية في سورة الزُمر:( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذينَ لا يَعْلَمُونَ ) أي هل يستوي من هو قانت وقائم بالليل ومن هو عاصٍ ومذنب، وهل القانت بالليل كاللاهي، وهل الاقتداء به كالاقتداء بغيره.

الاستيعاب: عن ابن عباس في قول الله عَزَّ وجَلَّ: ( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ

____________________

١ - الطبقات، ج ٦، ص٧.

٢ - أنساب الأشراف، ج ١، ص١٦٢.

٣ - نفس المصدر، ص١٦٣.

٣٧٨

وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشي بِهِ فِي النَّاسِ ) ، قال: عمار بن ياسر.(١)

العقد الفريد: عن أم سلمة: لما بنى رسول الله (ص) مسجده بالمدينة أمر باللبن يضرب وما يحتاج إليه، ثم قام رسول الله (ص) فوضع رداءه، فلما رأى ذلك المهاجرون والأنصار وضعوا أرديتهم وأكسيتهم يرتجزون ويقولون ويعملون.

لئن قعدنا والنبي يعمل

ذاك إذاً لعمل مُضلل

وكان عثمان رجلاً نظيفاً متنظفاً، فكان يحمل اللبنة ويُجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كفّيه ونظر إلى ثوبه فإذا أصابه شيء من التراب نفضه، فنظر إليه عليّ (ع) فأنشده:

لا يستوي من يَعمر المساجدا

وقائماً طوراً وطوراً قاعدا

يدأب فيها راكعاً وساجدا

ومن يُرى عن الترات حائدا

فسمعها عمار بن ياسر فجعل يرتجزها وهو لا يدري من يعني، فسمعه عثمان فقال: يا ابن سمية ما أعرفني بمن تُعرّض ومعه جريدة، فقال: لتكفّنّ أو لأعترضنّ بها وجهك! فسمعه النبي (ص) وهو جالس في ظلّ حائط، فقال: عمار جلدة ما بين عيني وأنفي، فمن بلغ ذلك منه فقد بلغ مني فأخذ به وطاف به في المسجد وجعل يمسح وجهه من التراب ويقول: يا ابن سمية، لا يقتلك أصحابي، ولكن تقتلك الفئة الباغية. فلما قتل بصفين وروى هذا الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال معاوية: هم قتلوه لأنهم أخرجوه إلى القتل، فلما بلغ ذلك علياً قال: ونحن قتلنا أيضاً حمزة لأنا أخرجناه.(٢)

عمار والحق

ابن ماجة: عن عائشة، قال رسول الله (ص): عمار ما عُرض عليه أمران إلا اختار الأرشد منهما.(٣)

____________________

١ - الاستيعاب، ج ٣، ص١١٣٧.

٢ - العقد الفريد، ج ٤، ص٣٤٢.

٣ - ابن ماجة، ج ١، ص٦٦.

٣٧٩

سنن الترمذي: عن عائشة، قال رسول الله (ص): ما خيّر عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما.(١)

أنساب الأشراف: عن عبد الله كما في ابن ماجة.(٢)

ويروي أيضاً: عن القاسم: أول من بنى مسجداً يُصلى فيه عمار بن ياسر.(٣)

سير الأعلام: يروي مثلها.(٤)

أقول: فإذا قال رسول الله (ص) في حق عمار: (إنه يختار الأرشد من الأمرين)، و(اهتدوا بهدي عمار)، وقال الله تعالى في حقه:( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ) ، فهل تبقى للناس حجة على الحق، بل والله الحجة التامة عليهم.

وكان رسول الله (ص) يشاهد اختلاف الأمة بعده، فهداهم إلى طريق الحق والسعادة، وبيّن لهم سبيل النجاة والجنة، وحذّرهم عن الضلالة والغواية بكلمات مختلفة وعبارات متفاوتة، ومنها هذه التعبيرات في حق عمار:

سير الأعلام: عن سالم: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: إن الله قد آمَنَنا من أن يظلمنا ولم يُؤمننا من أن يفتِننا! أرأيت أن أدركتُ فتنة؟ قال: عليك بكتاب الله، قال: أرأيت أن كان كلهم يدعو إلى كتاب الله؟ قال سمعت رسول الله (ص) يقول: إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق.(٥)

المستدرك: عن حذيفة قلنا يا أبا عبد الله حدّثنا ما سمعت من رسول الله (ص) في الفتنة؟ قال حذيفة: قال رسول الله (ص): دوروا مع كتاب الله حيث ما دار، فقلنا: فإذا اختلف الناس فمع مَن نكون؟ فقال: انظروا الفئة التي فيها ابن سمية فالزموها فإنه يدور مع كتاب الله. قال: قلت ومن ابن سمية؟ قال: أو ما تعرفه؟ قلت: بيّنه لي؟ قال: عمار بن ياسر، سمعت رسول الله (ص) يقول

____________________

١ - سنن الترمذي، ص٥٤٢.

٢ - أنساب الأشراف، ج ١، ص١٦٩.

٣ - أنساب الأشراف، ج ١، ص١٦٢.

٤ - سير الأعلام، ج ١، ص٢٩٥.

٥ - نفس المصدر، ص٢٩٨.

٣٨٠

و قوله:( وَ لا يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً ) ظاهر السياق أنّه معطوف على موضع قوله:( يَوَدُّ الّذينَ كَفَرُوا ) و فائدته الدلالة بوجه على ما يعلّل به تمنّيهم الموت، و هو أنّهم بارزون يومئذ لله لا يخفى عليه منهم شي‏ء لظهور حالهم عليه تعالى بحضور أعمالهم، و شهادة أعضائهم و شهادة الأنبياء و الملائكة و غيرهم عليهم، و الله من ورائهم محيط فيودّون عند ذلك أن لو لم يكونوا و ليس لهم أن يكتموه تعالى حديثاً مع ما يشاهدون من ظهور مساوي أعمالهم و قبائح أفعالهم.

و أمّا قوله تعالى:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جميعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) المجادلة: ١٨، فسيجي‏ء إن شاء الله تعالى أنّ ذلك إنّما هو لإيجاب ملكة الكذب الّتي حصّلوها في الدنيا لا للإخفاء و كتمان الحديث يوم لا يخفى على الله منهم شي‏ء.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، في قوله تعالى:( وَ بِالْوالِدَيْنِ إحساناً ) الآية: عن سلام الجعفيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام و أبان بن تغلب عن أبي عبداللهعليه‌السلام : نزلت في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و في عليعليه‌السلام .

ثمّ قال: و روي مثل ذلك في حديث ابن جبلة. قال: قال: و روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا و عليّ أبوا هذه الاُمّة.

أقول: و قال البحرانيّ في تفسير البرهان، بعد نقل الحديث: قلت: و روى ذلك صاحب الفائق.

و روى العيّاشيّ هذا المعنى عن أبي بصير عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام ، و رواه ابن شهرآشوب عن أبان عن أبي جعفرعليه‌السلام . و الّذي تعرّض له الخبر هو من بطن القرآن بالمعنى الّذي بحثنا عنه في مبحث المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من هذا الكتاب، إذ الأب أو الوالد هو المبدأ الإنسانيّ لوجود الإنسان و المربّي له، فمعلّم الإنسان و مربّيه للكمال أبوه فمثل النبيّ و الوليّ عليهما أفضل الصلاة أحقّ أن يكون أباً للمؤمن المهتدي به، المقتبس من أنوار علومه و معارفه من الأب الجسمانيّ الّذي

٣٨١

لا شأن له إلّا المبدئيّة و التربية في الجسم فالنبيّ و الوليّ أبوان، و الآيات القرآنيّة الّتي توصي الولد بوالديه تشملهما بحسب الباطن و إن كانت بحسب ظاهرها لا تعدو الأبوين الجسمانيّين.

و في تفسير العيّاشيّ، أيضاً عن أبي صالح عن أبي العبّاس في قول الله:( وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى‏ وَ الْجارِ الْجُنُبِ ) قال: الّذي ليس بينك و بينه قرابة، و الصاحب بالجنب قال: الصاحب في السفر.

أقول: قوله: الّذي ليس بينك، تفسير الجار ذي القربى و الجنب معاً و إن أمكن رجوعه إلى الجار الجنب فقط، و قوله: الصاحب في السفر لعلّه من قبيل ذكر بعض المصاديق.

و فيه، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن جدّه قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : في خطبة يصف هول يوم القيامة: ختم على الأفواه فلا تكلّم، و تكلّمت الأيدي، و شهدت الأرجل، و اُنطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثاً.

و اعلم، أنّ الأخبار كثيرة من طرق أهل السنّة في أنّ الآيات نازلة في حقّ اليهود، و هي و إن كان يؤيّدها ما ينتهي إليه ذيل الآيات من التعرّض لحال أهل الكتاب من اليهود في بخلهم و ولعهم بجمع المال و ادّخاره و كذا وسوستهم للمؤمنين و ترغيبهم على الكفّ عن الإنفاق في سبيل الله و تفتينهم إيّاهم و إخزائهم لهم، و إفساد الأمر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن الأخبار المذكورة مع ذلك أشبه بالتطبيق النظريّ منها بنقل السبب في النزول كما هو الغالب في الأخبار الناقلة لأسباب النزول، و لذلك تركنا نقلها على كثرتها.

و اعلم أيضاً أنّ الأخبار الواردة عن النبيّ و آلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إحسان الوالدين و ذي القربى و اليتامى و غيرهم من الطوائف المذكورة في الآية فوق حدّ الإحصاء على معروفيّتها و شهرتها، و هو الموجب للإغماض عن إيرادها ههنا على أنّ لكلّ منها وحده مواقع خاصّة في القرآن، ذكر ما يخصّها من الأخبار هناك أنسب.

٣٨٢

( سورة النساء آية ٤٣)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى‏ حَتّى‏ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتّى‏ تَغْتَسِلُوا وَإِن كُنتُم مَرْضَى‏ أَوْ عَلَى‏ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمّمُوا صَعِيداً طَيّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُور( ٤٣)

( بيان)

قد تقدّم في الكلام على قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ) البقرة: ٢١٩، أنّ الآيات المتعرّضة لأمر الخمر خمس طوائف، و أنّ ضمّ هذه الآيات بعضها إلى بعض يفيد أنّ هذه الآية:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا ) الآية نزلت بعد قوله تعالى:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حسناً ) النحل: ٦٧، و قوله:( قُلْ إنّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ ) الأعراف: ٣٣، و قبل قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثمّ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) البقرة: ٢١٩، و قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إنّما الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) المائدة: ٩٠، و هذه آخر الآيات نزولاً.

و يمكن بوجه أن يتصوّر الترتيب على خلاف هذا الّذي ذكرناه فتكون النازلة أوّلاً آية النحل ثمّ الأعراف ثمّ البقرة ثمّ النساء ثمّ المائدة فيكون ما يفيده هذا الترتيب من قصّة النهي القطعيّ عن شرب الخمر على خلاف ما يفيده الترتيب السابق فيكون ما في سورة الأعراف نهياً من غير تفسير ثمّ الّذي في سورة البقرة نهياً باتّاً لكنّ المسلمين كانوا يتعلّلون في الاجتناب حتّى نهوا عنها نهياً جازماً في حال الصلاة في سورة النساء، ثمّ نهياً مطلقاً في جميع الحالات في سورة المائدة و لعلّك إن تدبّرت في مضامين الآيات رجّحت الترتيب السابق على هذا الترتيب، و لم تجوّز بعد النهي الصريح الّذي في آية البقرة

٣٨٣

النهي الّذي في آية النساء المختصّ بحال الصلاة فهذه الآية قبل آية البقرة، إلّا أن نقول إنّ النهي عن الصلاة في حال السكر كناية عن الصلاة كسلان كما ورد في بعض الروايات الآتية.

و أمّا وقوع الآية بين ما تقدّمها و ما تأخّر عنها من الآيات فهي كالمتخلّلة المعترضة إلّا أنّ ههنا احتمالاً ربّما صحّح هذا النحو من التخلّل و الاعتراض - و هو غير عزيز في القرآن - و هو جواز أن تتنزّل عدّة من الآيات ذات سياق واحد متّصل منسجم تدريجاً في خلال أيّام ثمّ تمسّ الحاجة إلى نزول آية أو آيات و لمّا تمّت الآيات النازلة على سياق واحد فتقع الآية بين الآيات كالمعترضة المتخلّلة و ليست بأجنبيّة بحسب الحقيقة و إنّما هي كالكلام بين الكلام لرفع توهّم لازم الدفع، أو مسّ حاجة إلى إيراده نظير قوله تعالى:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثمّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) الآيات القيامة: ٢٠، انظر إلى موضع قوله:( لا تُحَرِّكْ‏ - إلى قوله -بَيانَهُ ) .

و على هذا فلا حاجة إلى التكلّف في بيان وجه ارتباط الآية بما قبلها، و ارتباط ما بعدها بها، على أنّ القرآن إنّما نزل نجوماً، و لا موجب لهذا الارتباط إلّا في السور النازلة دفعة أو الآيات الواضحة الاتّصال الكاشف ذلك عن الارتباط بينها.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا - إلى قوله -ما تَقُولُونَ ) المراد بالصلاة المسجد، و الدليل عليه قوله:( وَ لا جُنُباً إلّا عابِرِي سَبِيلٍ ) ، و المقتضي لهذا التجوّز قوله حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ إذ لو قيل: لا تقربوا المسجد و أنتم سكارى لم يستقم تعليله بقوله:( حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) أو أفاد التعليل معنى آخر غير مقصود مع أنّ المقصود إفادة أنّكم في حال الصلاة تواجهون مقام العظمة و الكبرياء و تخاطبون ربّ العالمين فلا يصلح لكم أن تسكروا و تبطلوا عقولكم برجس الخمر فلا تعلموا ما تقولون، و هذا المعنى - كما ترى - يناسب النهي عن اقتراب الصلاة لكنّ الصلاة لمّا كانت أكثر ما تقع تقع في المسجد جماعة - على السنة - و كان من القصد أن تذكر أحكام الجنب في دخوله المسجد أوجز في المقال و سبك الكلام على ما ترى.

٣٨٤

و على هذا فقوله:( حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) في مقام التعليل للنهي عن شرب الخمر بحيث يبقى سكرها إلى حال دخول الصلاة أي نهيناكم عنه لغاية أن تعلموا ما تقولون و ليس غاية للحكم بمعنى أن لا تقربوا إلى أن تعلموا ما تقولون فإذا علمتم ما تقولون فلا بأس.

قوله تعالى: ( وَ لا جُنُباً إلّا عابِرِي سَبِيلٍ ) إلى آخر الآية سيأتي الكلام في الآية في تفسير قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) المائدة: ٦.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن الفضل عن أبي الحسنعليه‌السلام في قول الله:( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى‏ حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) قال: هذا قبل أن تحرّم الخمر.

أقول: ينبغي أن تحمّل الرواية على أنّ المراد بتحريم الخمر توضيح تحريمها، و إلّا فهي مخالفة للكتاب فإنّ آية الأعراف تحرّم الخمر بعنوان أنّه إثم صريحاً، و آية البقرة تصرّح بأنّ في الخمر إثماً كبيراً فقد حرّمت الخمر في مكّة قبل الهجرة لكون سورة الأعراف مكّيّة و لم يختلف أحد في أنّ هذه الآية ( آية النساء ) مدنيّة، و مثل هذه الرواية عدّة روايات من طرق أهل السنّة تصرّح بكون الآية نازلة قبل تحريم الخمر، و يمكن أن تكون الرواية ناظرة إلى كون المراد بالآية عن الصلاة كسلان.

و فيه، عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: لا تقم إلى الصلاة متكاسلاً و لا متناعساً و لا متثاقلاً فإنّها من خلل النفاق فإنّ الله نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة و هم سكارى يعني من النوم.

أقول: قوله: فإنّها من خلل النفاق استفادعليه‌السلام ذلك من قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا ) ، فالمتمرّد عن هذا الخطاب منافق غير مؤمن، و قوله: يعني من النوم يحتمل أن يكون من كلام الراوي و يحتمل أن يكون من كلامهعليه‌السلام و يكون تفسيراً للآية من قبيل بطن القرآن، و يمكن أن يكون من الظهر.

و قد وردت روايات اُخر في تفسيره بالنوم رواها العيّاشيّ في تفسيره عن الحلبيّ في روايتين، و الكلينيّ في الكافي بإسناده عن زيد الشحّام عن الصادقعليه‌السلام ، و بإسناده عن زرارة عن الباقرعليه‌السلام ، و روى هذا المعنى أيضاً البخاريّ في صحيحة عن أنس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣٨٥

( سورة النساء الآيات ٤٤ - ٥٨)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلّوا السّبِيلَ( ٤٤) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى‏ بِاللّهِ وَلِيّاً وَكَفَى‏ بِاللّهِ نَصِير( ٤٥) مِنَ الّذِينَ هَادُوا يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدّينِ وَلَوْ أَنّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِن لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلّا قَلِيل( ٤٦) يَا أَيّهَا الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزّلْنَا مُصَدّقاً لِمَا مَعَكُم مِن قَبْلِ أَن نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدّهَا عَلَى‏ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنّا أَصْحَابَ السّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُول( ٤٧) إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى‏ إِثْماً عَظِيم( ٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنْفُسَهُم بَلِ اللّهُ يُزَكّيْ مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيل( ٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى‏ بِهِ إِثْماً مُبِين( ٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاَءِ أَهْدَى‏ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيل( ٥١) أُولئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِير( ٥٢) أَم لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِير( ٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى‏ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيم( ٥٤) فَمِنْهُم مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَن صَدّ عَنْهُ وَكَفَى‏ بِجَهَنّمَ سَعِير( ٥٥) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيم( ٥٦) وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلّا ظَلِيل( ٥٧) إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى‏ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُم بِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِير( ٥٨)

٣٨٦

( بيان)

آيات متعرّضة لحال أهل الكتاب، و تفصيل لمظالمهم و خياناتهم في دين الله، و أوضح ما تنطبق على اليهود، و هي ذات سياق واحد متّصل، و الآية الأخيرة:( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى‏ أَهْلِها ) الآية، و إن ذكر بعضهم أنّها مكّيّة، و استثناها في آيتين من سورة النساء المدنيّة، و هي هذه الآية، و قوله تعالى:( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) الآية: النساء: ١٧٦، على ما في المجمع لكنّ الآية ظاهرة الارتباط بما قبلها من الآيات، و كذا آية الاستفتاء فإنّها في الإرث، و قد شرع في المدينة.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) الآية، قد تقدّم في الكلام على الآيات (٣٦ - ٤٢) أنّها مرتبطة بعض الارتباط بهذه الآيات، و قد سمعت القول في نزول تلك الآيات في حقّ اليهود.

و بالجملة يلوح من هذه الآيات أنّ اليهود كانوا يلقون إلى المؤمنين المودّة و يظهرون لهم النصح فيفتّنونهم بذلك، و يأمرونهم بالبخل و الإمساك عن الإنفاق ليمنعوا بذلك سعيهم عن النجاح، و جدّهم في التقدّم و التعالي، و هذا لازم كون تلك الآيات نازلة في حقّ اليهود أو في حقّ من كان يسار اليهود و يصادقهم ثمّ تنحرف عن الحقّ بتحريفهم، و يميل إلى حيث يميلونه فيبخل ثمّ يأمر بالبخل.

و هذا هو الّذي يستفاد من قوله:( وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَ الله أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ ) إلى آخر الآية.

فمعنى الآيتين - و الله أعلم - أنّ ما نبيّنه لكم تصديق ما بيّناه لكم من حال الممسك عن الإنفاق في سبيل الله بالاختيال و الفخر و البخل و الرئاء أنّك ترى اليهود الّذين اُوتوا نصيباً من الكتاب أي حظّاً منه لا جميعه كما يدّعون لأنفسهم يشترون الضلالة و يختارونها على الهدى، و يريدون أن تضلّوا السبيل فإنّهم و إن لقوكم ببشر الوجه،

٣٨٧

و ظهروا لكم في زيّ الصلاح، و اتّصلوا بكم اتّصال الأولياء الناصرين فذكروا لكم ما ربّما استحسنته طباعكم، و استصوبته قلوبكم لكنّهم ما يريدون إلّا ضلالكم عن السبيل كما اختاروا لأنفسهم الضلالة، و الله أعلم منكم بأعدائكم، و هم أعداؤكم فلا يغرّنّكم ظاهر ما تشاهدون من حالهم فإيّاكم أن تطيعوا أمرهم أو تصغوا إلى أقوالهم المزوّقة و إلقاءآتهم المزخرفة و أنتم تقدّرون أنّهم أولياؤكم و أنصاركم، فأنتم لا تحتاجون إلى ولايتهم الكاذبة، و نصرتهم المرجوّة و كفى بالله وليّاً، و كفى بالله نصيراً، فأيّ حاجة مع ولايته و نصرته إلى ولايتهم و نصرتهم.

قوله تعالى: ( مِنَ الّذينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ - إلى قوله -فِي الدِّينِ ) ( من ) في قوله:( مِنَ الّذينَ ) ، بيانيّة، و هو بيان لقوله في الآية السابقة:( الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) ، أو لقوله:( بِأَعْدائِكُمْ ) ، و ربّما قيل: إنّ قوله: مِنَ الّذينَ هادُوا خبر لمبتدإ محذوف و هو الموصوف المحذوف لقوله يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ، و التقدير: من الّذين هادوا قوم يحرّفون، أو من الّذين هادوا من يحرّفون، قالوا: و حذف الموصوف شائع كقول ذي الرمّة:

فظلوا و منهم دمعه سابق له

و آخر يشني دمعة العين بالمهل

يريد: و منهم قوم دمعه أو و منهم من دمعه و قد وصف الله تعالى هذه الطائفة بتحريف الكلم عن مواضعه، و ذلك إمّا بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم و التأخير و الإسقاط و الزيادة كما ينسب إلى التوراة الموجودة، و إمّا بتفسير ما ورد عن موسىعليه‌السلام في التوراة و عن سائر الأنبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحقّ كما أوّلوا ما ورد في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بشارات التوراة، و من قبل أوّلوا ما ورد في المسيحعليه‌السلام من البشارة، و قالوا: إنّ الموعود لم يجي‏ء بعد، و هم ينتظرون قدومه إلى اليوم.

و من الممكن أن يكون المراد بتحريف الكلم عن مواضعه ما سيذكره تعالى بقوله:( وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا ) ، فتكون هذه الجمل معطوفة على قوله:( يُحَرِّفُونَ ) ، و يكون المراد حينئذ من تحريف الكلم عن مواضعه استعمال القول بوضعه في غير

٣٨٨

المحلّ الّذي ينبغي أن يوضع فيه، فقول القائل: سمعنا من حقّه أن يوضع في موضع الطاعة فيقال:( سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) لا أن يقال: سمعنا و عصينا، أو يوضع: سمعنا موضع التهكّم و الاستهزاء، و كذا قول القائل: اسمع ينبغي أن يقال فيه: اسمع أسمعك الله لا أن يقال:( اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) أي لا أسمعك الله و راعنا، و هو يفيد في لغة اليهود معنى اسمع غير مسمع.

و قوله:( لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ ) أصل اللّيّ الفتل أي يميلون بألسنتهم فيظهرون الباطل من كلامهم في صورة الحقّ، و الإزراء و الإهانة في صور التأدّب و الاحترام فإنّ المؤمنين كانوا يخاطبون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين ما كانوا يكلّمونه بقولهم: راعنا يا رسول الله، و معناه: أنظرنا و اسمع منّا حتّى نوفي غرضنا من كلامنا، فاغتنمت اليهود ذلك فكانوا يخاطبون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهم: راعنا و هم يريدون به ما عندهم من المعنى المستهجن غير الحريّ بمقامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذمّوا به في هذه الآية، و هو قوله تعالى:( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ) ثمّ فسّره بقوله:( وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) ثمّ عطف عليه كعطف التفسير قوله:( وَ راعِنا ) ثمّ ذكر أنّ هذا الفعال المذموم منهم ليّ بالألسن، و طعن في الدين فقال:( لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ ) و المصدران في موضع الحال و التقدير: لاوين بألسنتهم، و طاعنين في الدين.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ أنّهم قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ ) كون هذا القول منهم و هو مشتمل على أدب الدين، و الخضوع للحقّ خيراً و أقوم ممّا قالوه (مع اشتماله على اللّيّ و الطعن المذمومين و لا خير فيه و لا قوام) مبنيّ على مقايسة الأثر الحقّ الّذي في هذا الكلام الحقّ على ما يظنّونه من الأثر في كلامهم و إن لم يكن له ذلك بحسب الحقيقة، فالمقايسة بين الأثر الحقّ و بين الأثر المظنون حقّاً، و المعنى: أنّهم لو قالوا: سمعنا و أطعنا، لكان فيه من الخير و القوام أكثر ممّا يقدّرون في أنفسهم لهذا اللّيّ و الطعن فالكلام يجري مجرى قوله تعالى:( وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ الله خَيْرٌ مِنَ اللهوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ الله خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) الجمعة: ١١.

قوله تعالى: ( وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلًا ) تأييس للسامعين

٣٨٩

من أن تقول اليهود سمعنا و أطعنا فإنّه كلمة إيمان و هؤلاء ملعونون لا يوفّقون للإيمان، و لذلك قيل: لو أنّهم قالوا، الدالّ على التمنّي المشعر بالاستحالة.

و الظاهر أنّ الباء في قوله:( بِكُفْرِهِمْ ) للسببيّة دون الآية، فإنّ الكفر يمكن أن يزاح بالإيمان فهو لا يوجب بما هو كفر لعنة تمنع عن الإيمان منعاً قاطعاً لكنّهم لمّا كفروا (و سيشرح الله تعالى في آخر السورة حال كفرهم) لعنهم الله بسبب ذلك لعناً ألزم الكفر عليهم إلزاماً لا يؤمنون بذلك إلّا قليلاً فافهم ذلك.

و أمّا قوله:( فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلًا ) فقد قيل: إنّ( قَلِيلًا ) حال، و التقدير: إلّا و هم قليل أي لا يؤمنون إلّا في حال هم قليل، و ربّما قيل: إنّ( قَلِيلًا ) صفة لموصوف محذوف، و التقدير: فلا يؤمنون إلّا إيماناً قليلاً، و هذا الوجه كسابقه لا بأس به لكن يجب أن يزاد فيه أنّ اتّصاف الإيمان بالقلّة إنّما هو من قبيل الوصف بحال المتعلّق أي إيماناً المؤمن به قليل.

و أمّا ما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد به قليل الإيمان في مقابل كاملة، و ذكر أنّ المعنى: فلا يؤمنون إلّا قليلاً من الإيمان لا يعتدّ به إذ لا يصلح عمل صاحبه، و لا يزكّي نفسه، و لا يرقّي عقله فقد أخطأ، فإنّ الإيمان إنّما يتّصف بالمستقرّ و المستودع، و الكامل و الناقص في درجات و مراتب مختلفة، و أمّا القلّة و تقابلها الكثرة فلا يتّصف بهما، و خاصّة في مثل القرآن الّذي هو أبلغ الكلام.

على أنّ المراد بالإيمان المذكور في الآية أمّا حقيقة الإيمان القلبيّ في مقابل النفاق أو صورة الإيمان الّتي ربّما يطلق عليها الإسلام، و اعتباره على أيّ معنى من معانيه، و الاعتناء به في الإسلام ممّا لا ريب فيه، و الآيات القرآنيّة ناصّة فيه، قال تعالى:( وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى‏ إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) النساء: ٩٤، مع أنّ الّذي يستثني الله تعالى منه قوله:( وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ ) ، كان يكفي فيه أقلّ درجات الإيمان أو الإسلام الظاهريّ بحفظهم الظاهر بقولهم: سمعنا و أطعنا كسائر المسلمين.

و الّذي أوقعه في هذا الخطأ ما توهّمه أنّ لعنه تعالى إيّاهم بكفرهم لا يجوز

٣٩٠

أن يتخلّف عن التأثير بإيمان بعضهم فقدّر أنّ القلّة وصف الإيمان و هي ما لا يعتدّ به من الإيمان حتّى يستقيم قوله:( لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ ) ، و قد غفل عن أنّ هذه الخطابات و ما تشتمل عليه من صفات الذمّ و المؤاخذات و التوبيخات كلّ ذلك متوجّهة إلى المجتمعات من حيث الاجتماع، فالّذي لحقه اللّعن و الغضب و المؤاخذات العامّة الاُخرى إنّما هو المجتمع اليهوديّ من حيث أنّه مجتمع مكوّن فلا يؤمنون و لا يسعدون و لا يفلحون، و هو كذلك إلى هذا اليوم و هم على ذلك إلى يوم القيامة.

و أمّا الاستثناء فإنّما هو بالنسبة إلى الأفراد، و خروج بعض الأفراد من الحكم المحتوم على المجتمع ليس نقضاً لذلك الحكم، و المحوج إلى هذا الاستثناء أنّ الأفراد بوجه هم المجتمع فقوله:( فَلا يُؤْمِنُونَ ) حيث نفي فيه الإيمان عن الأفراد - و إن كان ذلك نفياً عنهم من حيث جهة الاجتماع - و كان يمكن فيه أن يتوهّم أنّ الحكم شامل لكلّ واحد واحد منهم بحيث لا يتخلّص منه أحد استثني فقيل:( إلّا قَلِيلًا ) فالآية تجري مجرى قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إلّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ) النساء: ٦٦.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا ) إلخ الطمس محو أثر الشي‏ء، و الوجه ما يستقبلك من الشي‏ء و يظهر منه، و هو من الإنسان الجانب المقدّم الظاهر من الرأس و ما يستقبلك منه، و يستعمل في الاُمور المعنويّة كما يستعمل في الاُمور الحسّيّة، و الأدبار جمع دبر بضمّتين و هو القفا، و المراد بأصحاب السبت قوم من اليهود كانوا يعدون في السبت فلعنهم الله و مسخهم، قال تعالى:( وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الّتي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ) الأعراف: ١٦٣، و قال تعالى:( وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها ) البقرة: ٦٦.

و قد كانت الآيات السابقة - كما عرفت - متعرّضة لحال اليهود أو لحال طائفة من اليهود، و انجرّ القول إلى أنّهم بإزاء ما خانوا الله و رسوله، و أفسدوا صالح دينهم ابتلوا بلعنة من الله لحق جمعهم، و سلبهم التوفيق للإيمان إلّا قليلاً فعمّ الخطاب لجميع

٣٩١

أهل الكتاب - على ما يفيده قوله:( يا أَيُّهَا الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) و دعاهم إلى الإيمان بالكتاب الّذي نزّله مصدّقاً لما معهم، و أوعدهم بالسخط الّذي يلحقهم لو تمرّدوا و استكبروا من غير عذر من طمس أو لعن يتّبعانهم اتّباعاً لا ريب فيه.

و ذلك ما ذكره بقوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى‏ أَدْبارِها ) ، فطمس الوجوه محو هذه الوجوه الّتي يتوجّه بها البشر نحو مقاصدها الحيويّة ممّا فيه سعادة الإنسان المترقّبة و المرجوّة لكن لا المحو الّذي يوجب فناء الوجوه و زوالها و بطلان آثارها بل محواً يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها فهي تقصد مقاصدها على الفطرة الّتي فطر عليها لكن لمّا كانت منصوبة إلى الأقفية و مردودة على الأدبار لا تقصد إلّا ما خلّفته وراءها، و لا تمشي إليه إلّا القهقرى.

و هذا الإنسان - و هو بالطبع و الفطرة متوجّه نحو ما يراه خيراً و سعادة لنفسه - كلّما توجّه إلى ما يراه خيراً لنفسه، و صلاحاً لدينه أو لدنياه لم ينل إلّا شرّاً و فساداً، و كلّما بالغ في التقدّم زاد في التأخّر، و ليس يفلح أبداً.

و أمّا لعنهم كلعن أصحاب السبت فظاهره المسخ على ما تقدّم من آيات أصحاب السبت الّتي تخبر عن مسخهم قردة.

و على هذا فلفظة( أَوْ ) في قوله:( أَوْ نَلْعَنَهُمْ ) ، على ظاهرها من إفادة الترديد، و الفرق بين الوعيدين أنّ الأوّل أعني الطمس يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من غير تغيير الخلقة إلّا في بعض كيفيّاتها، و الثاني أعني اللّعن كلعن أصحاب السبت يوجب تغيير المقصد بتغيير الخلقة الإنسانيّة إلى خلقة حيوانيّة كالقردة.

فهؤلاء إن تمرّدوا عن الامتثال - و سوف يتمرّدون على ما تفيده خاتمة الآية - كان لهم إحدى سخطتين: إمّا طمس الوجوه، و إمّا اللّعن كلعن أصحاب السبت لكنّ الآية تدلّ على أنّ هذه السخطة لا تعمّهم جميعهم حيث قال:( وُجُوهاً ) فأتى بالجمع المنكّر، و لو كان المراد هو الجميع لم ينكّر، و لتنكير الوجوه و عدم تعيينه نكتة اُخرى هي أنّ المقام لمّا كان مقام الإيعاد و التهديد، و هو إيعاد للجماعة بشرّ لا يحلق إلّا ببعضهم كان إبهام الأفراد الّذين يقع عليهم السخط الإلهيّ أوقع في الإنذار و التخويف لأنّ

٣٩٢

وصفهم على إبهامه يقبل الانطباق على كلّ واحد واحد من القوم فلا يأمن أحدهم أن يمسّه هذا العذاب البئيس، و هذه الصناعة شائعة في اللّسان في مقام التهديد و التخويف.

و في قوله تعالى:( أَوْ نَلْعَنَهُمْ ) ، حيث أرجع فيه ضمير( هم ) الموضوع لاُولي العقل إلى قوله:( وُجُوهاً ) كما هو الظاهر تلويحاً أو تصريحاً بأنّ المراد بالوجوه الأشخاص من حيث استقبالهم مقاصدهم، و بذلك يضعف احتمال أن يكون المراد بطمس الوجوه و ردّها على أدبارها تحويل وجوه الأبدان إلى الأقفية كما قال به بعضهم، و يقوى بذلك احتمال أنّ المراد من تحويل الوجوه إلى الأدبار تحويل النفوس من حال استقامة الفكر، و إدراك الواقعيّات على واقعيّتها إلى حال الاعوجاج و الانحطاط الفكريّ بحيث لا يشاهد حقّاً إلّا أعرض عنه و اشمأزّ منه، و لا باطلاً إلّا مال إليه و تولّع به.

و هذا نوع من التصرّف الإلهيّ مقتاً و نقمة نظير ما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مرّة وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الأنعام: ١١٠.

فتبيّن ممّا مرّ أنّ المراد بطمس الوجوه في الآية نوع تصرّف إلهيّ في النفوس يوجب تغيير طباعها من مطاوعة الحقّ و تجنّب الباطل إلى اتّباع الباطل و الاحتراز عن الحقّ في باب الإيمان بالله و آياته كما يؤيّده صدر الآية:( آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ ) إلخ، و كذا تبيّن أنّ المراد باللّعن المذكور فيها المسخ.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالطمس تحويل وجوه قوم إلى أقفيتهم و يكون ذلك في آخر الزمان أو يوم القيامة، و فيه: أنّ قوله:( أَوْ نَلْعَنَهُمْ ) ينافي ذلك كما تقدّم بيانه.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالطمس الخذلان الدنيويّ فلا يزالون على ذلّة و نكبة لا يقصدون غاية ذات سعادة إلّا بدّلها الله عليهم سراباً لا خير فيه، و فيه: أنّه و إن كان لا يبعد كلّ البعد لكنّ صدر الآية - كما تقدّم - ينافيه.

و ربّما قيل: إنّ المراد به إجلاؤهم و ردّهم ثانياً إلى حيث خرجوا منه، و قد

٣٩٣

اُخرجوا من الحجاز إلى أرض الشام و فلسطين، و قد جاؤوا منهما، و فيه أنّ صدر الآية بسياقه يؤيّد غير ذلك كما عرفته.

نعم من الممكن أن يقال: إنّ المراد به تقليب أفئدتهم، و طمس وجوه باطنهم من الحقّ إلى نحو الباطل فلا يفلحون بالإيمان بالله و آياته، ثمّ إنّ الدين الحقّ لمّا كان هو الصراط الّذي لا ينجح إنسان في سعادة حياته الدنيا إلّا بركوبه و الاستواء عليه، و ليس للناكب عنه إلّا الوقوع في كانون الفساد، و السقوط في مهابط الهلاك، قال تعالى:( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذي عَمِلُوا ) الروم: ٤١، و قال تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتّقوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ ) الأعراف: ٩٦، و لازم هذه الحقيقة أنّ طمس الوجوه عن المعارف الحقّة الدينيّة طمس لها عن حقائق سعادة الحياة الدنيا بجميع أقسامها فالمحروم من سعادة الدين محروم من سعادة الدنيا من استقرار الحال و تمهّد الأمن و سؤدد الاستقلال و الملك، و كلّ ما يطيب به العيش، و يدرّ به ضرع العمل اللّهمّ إلّا على قدر ما نسرّب الموادّ الدينيّة في مجتمعهم و على هذا فلا بأس بالجمع بين الوجوه المذكورة جلّها أو كلّها.

قوله تعالى: ( وَ كانَ أَمْرُ الله مَفْعُولًا ) إشارة إلى أنّ الأمر لا محالة واقع، و قد وقع على ما ذكره الله في كتابه من لعنهم و إنزال السخط عليهم، و إلقاء العداوة و البغضاء بينهم إلى يوم القيامة، و غير ذلك في آيات كثيرة.

قوله تعالى: ( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) ظاهر السياق أنّ الآية في مقام التعليل للحكم المذكور في الآية السابقة أعني قوله:( آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ ) إلخ، فيعود المعنى إلى مثل قولنا: فإنّكم إن لم تؤمنوا به كنتم بذلك مشركين، و الله لا يغفر أن يشرك به فيحلّ عليكم غضبه و عقوبته فيطمس وجوهكم بردّها على أدبارها أو يلعنكم فنتيجة عدم المغفرة هذه ترتّب آثار الشرك الدنيويّة من طمس أو لعن عليه.

و هذا هو الفرق بين مضمون هذه الآية، و قوله تعالى:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ

٣٩٤

بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً ) النساء: ١١٦، فإنّ هذه الآية (آية ٤٨)، تهدّد بآثار الشرك الدنيويّة، و تلك (آية ١١٦)، تهدّد بآثاره الاُخرويّة، و ذلك بحسب الانطباق على المورد و إن كانتا بحسب الإطلاق كلتاهما شاملتين لجميع الآثار.

و مغفرته سبحانه و عدم مغفرته لا يقع شي‏ء منهما وقوعاً جزافيّاً بل على وفق الحكمة، و هو العزيز الحكيم، فأمّا عدم مغفرته للشرك فإنّ الخلقة إنّما تثبت على ما فيها من الرحمة على أساس العبوديّة و الربوبيّة، قال تعالى:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات: ٥٦، و لا عبوديّة مع شرك، و أمّا مغفرته لسائر المعاصي و الذنوب الّتي دون الشرك فلشفاعة من جعل له الشفاعة من الأنبياء و الأولياء و الملائكة و الأعمال الصالحة على ما مرّ تفصيله في بحث الشفاعة في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

و أمّا التوبة فالآية غير متعرّضة لشأنها من حيث خصوص مورد الآية لأنّ موردها عدم الإيمان و لا توبة معه، على أنّ التوبة يغفر معها جميع الذنوب حتّى الشرك، قال تعالى:( قُلْ يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعاً أنّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‏ ربّكمْ ) الزمر: ٥٤.

و المراد بالشرك في الآية ما يعمّ الكفر لا محالة فإنّ الكافر أيضاً لا يغفر له البتّة و إن لم يصدق عليه المشرك بعنوان التسمية بناءً على أنّ أهل الكتاب لا يسمّون في القرآن مشركين و إن كان كفرهم بالقرآن و بما جاء به النبيّ شركاً منهم أشركوا به (راجع تفسير آية ٢٢١ من البقرة)، و إذا لم يؤمن أهل الكتاب بما نزّل الله مصدّقاً لما معهم فقد كفروا به، و أشركوا ما في أيديهم بالله سبحانه فإنّه شي‏ء لا يريده الله على الصفة الّتي أخذوه بها فالمؤمن بموسىعليه‌السلام إذا كفر بالمسيحعليه‌السلام فقد كفر بالله و أشرك به موسى، و لعلّ ما ذكرناه هو النكتة لقوله تعالى:( أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) دون أن يقول: المشرك أو المشركين.

و قوله تعالى:( لِمَنْ يَشاءُ ) تقييد للكلام لدفع توهّم أنّ لأحد من الناس تأثيراً

٣٩٥

فيه تعالى يوجب به عليه المغفرة فيحكم عليه تعالى حاكم أو يقهره قاهر، و تعليق الاُمور الثابتة في القرآن على المشيئة كثير و الوجه في كلّها أو جلّها دفع ما ذكرناه من التوهّم كقوله تعالى:( خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إلّا ما شاءَ ربّك عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) هود: ١٠٨.

على أنّ من الحكمة إلّا يغفر لكلّ مذنب ذنبه و إلّا لغا الأمر و النهي، و بطل التشريع، و فسد أمر التربية الإلهيّة، و إليه الإشارة بقوله:( لِمَنْ يَشاءُ ) ، و من هنا يظهر أن كلّ واحد من المعاصي لا بدّ أن لا يغفر بعض أفراده و إلّا لغي النهي عنه، و هذا لا ينافي عموم لسان آيات أسباب المغفرة فإنّ الكلام في الوقوع دون الوعد على وجه الإطلاق، و من المعاصي ما يصدر عمّن لا يغفر له بشرك و نحوه.

فمعنى الآية أنّه تعالى لا يغفر الشرك من كافر و لا مشرك، و يغفر سائر الذنوب دون الشرك بشفاعة شافع من عباده أو عمل صالح، و ليس هو تعالى مقهوراً أن يغفر كلّ ذنب من هذه الذنوب لكلّ مذنب بل له أن يغفر و له أن لا يغفر، كلّ ذلك لحكمة.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ) قال الراغب: أصل الزكاة النموّ الحاصل من بركة الله تعالى - إلى أن قال -: و تزكية الإنسان نفسه ضربان: أحدهما: بالفعل و هو محمود، و إليه قصد بقوله:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) ، و الثاني بالقول كتزكيته لعدل غيره، و ذلك مذموم أن يفعل الإنسان بنفسه، و قد نهى الله تعالى عنه فقال:( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) ، و نهيه عن ذلك تأديب لقبح مدح الإنسان نفسه عقلاً و شرعاً، و لهذا قيل لحكيم: ما الّذي لا يحسن و إن كان حقّاً؟ فقال: مدح الرجل نفسه، انتهى كلامه.

و لمّا كانت الآية في ضمن الآيات المسرودة للتعرّض لحال أهل الكتاب كان الظاهر أنّ هؤلاء المزكّين لأنفسهم هم أهل الكتاب أو بعضهم، و لم يوصفوا بأهل الكتاب لأنّ العلماء بالله و آياته لا ينبغي لهم أن يتلبّسوا بأمثال هذه الرذائل فالإصرار عليها انسلاخ عن الكتاب و علمه.

و يؤيّده ما حكاه الله تعالى عن اليهود من قولهم:( نَحْنُ أَبْناءُ الله وَ أَحِبَّاؤُهُ ) المائدة: ١٨،

٣٩٦

و قولهم:( لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلّا أيّاماً مَعْدُودَةً ) البقرة: ٨٠، و زعمهم الولاية كما في قوله تعالى:( قُلْ يا أَيُّهَا الّذينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لله مِنْ دُونِ النَّاسِ ) الجمعة: ٦، فالآية تكنّي عن اليهود، و فيها استشهاد لما تقدّم ذكره في الآيات السابقة من استكبارهم عن الخضوع للحقّ و اتّباعه، و الإيمان بآيات الله سبحانه، و استقرار اللّعن الإلهيّ فيهم، و أنّ ذلك من لوازم إعجابهم بأنفسهم و تزكيتهم لها.

قوله تعالى: ( بَلِ الله يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) إضراب عن تزكيتهم لأنفسهم، و ردّ لهم فيما زكّوه، و بيان أنّ ذلك من شؤون الربوبيّة يختصّ به تعالى فإنّ الإنسان و إن أمكن أن يتّصف بفضائل، و يتلبّس بأنواع الشرف و السؤدد المعنويّ غير أنّ اعتناءه بذلك و اعتماده عليه لا يتمّ إلّا بإعطائه لنفسه استغناء و استقلالاً و هو في معنى دعوى الاُلوهيّة و الشركة مع ربّ العالمين، و أين الإنسان الفقير الّذي لا يملك لنفسه ضرّاً و لا نفعاً و لا موتاً و لا حياةً و الاستغناء عن الله سبحانه في خير أو فضيلة؟ و الإنسان في نفسه و في جميع شؤون نفسه، و الخير الّذي يزعم أنّه يملكه، و جميع أسباب ذلك الخير، مملوك لله سبحانه محضاً من غير استثناء، فما ذا يبقى للإنسان؟.

و هذا الغرور و الإعجاب الّذي يبعث الإنسان إلى تزكية نفسه هو العجب الّذي هو من اُمّهات الرذائل، ثمّ لا يلبث هذا الإنسان المغرور المعتمد على نفسه دون أن يمسّ غيره فيتولّد من رذيلته هذه رذيلة اُخرى، و هي رذيلة التكبّر و يتمّ تكبّره في صورة الاستعلاء على غيره من عباد الله فيستعبد به عباد الله سبحانه، و يجري به كلّ ظلم و بغي بغير حقّ و هتك محارم الله و بسط السلطة على دماء الناس و أعراضهم و أموالهم.

و هذا كلّه إذا كان الوصف وصفاً فرديّاً و أمّا إذا تعدّى الفرد و صار خلقاً اجتماعيّاً و سيرة قوميّة فهو الخطر الّذي فيه هلاك النوع و فساد الأرض، و هو الّذي يحكيه تعالى عن اليهود إذ قالوا:( لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) آل عمران: ٧٥.

فما كان لبشر أن يذكر لنفسه من الفضيلة ما يمدحها به سواء كان صادقاً فيما يقول أو كاذباً لأنّه لا يملك ذلك لنفسه لكنّ الله سبحانه لمّا كان هو المالك لما ملّكه، و المعطي

٣٩٧

الفضل لمن يشاء و كيف يشاء كان له أن يزكّي من شاء تزكية عمليّةً بإعطاء الفضل و إفاضة النعمة، و أن يزكّي من يشاء تزكية قوليّة يذكره بما يمتدح به، و يشرّفه بصفات الكمال كقوله في آدم و نوح:( إِنَّ الله اصْطَفى‏ آدَمَ وَ نُوحاً ) آل عمران: ٣٣، و قوله في إبراهيم و إدريس:( أنّه كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ) مريم: ٤١، ٥٦، و قوله في يعقوب:( وَ أنّه لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) يوسف: ٦٨، و قوله في يوسف:( أنّه مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) يوسف: ٢٤، و قوله في حقّ موسى:( أنّه كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا ) مريم: ٥١، و قوله في حقّ عيسى:( وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) آل عمران: ٤٥، و قوله في سليمان و أيّوب:( نِعْمَ الْعَبْدُ أنّه أَوَّابٌ ) ص: ٣٠، ٤٤، و قوله في محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّ وَلِيِّيَ الله الّذي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) الأعراف: ١٩٦، و قوله:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) القلم: ٤، و كذا قوله تعالى في حقّ عدّة من الأنبياء ذكرهم في سور الأنعام و مريم و الأنبياء و الصافّات و ص و غيرها.

و بالجملة فالتزكية لله سبحانه حقّ لا يشاركه فيه غيره إذ لا يصدر عن غيره إلّا من ظلم و إلى ظلم، و لا يصدر عنه تعالى إلّا حقّاً و عدلاً يقدّر بقدره لا يفرط و لا يفرّط، و لذا ذيّل قوله: بل الله يزكّي من يشاء بقوله - و هو في معنى التعليل -:( وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) .

و قد تبيّن ممّا مرّ أنّ تزكيته تعالى و إن كانت مطلقة تشمل التزكية العمليّة و التزكية القوليّة لكنّها تنطبق بحسب مورد الكلام على التزكية القوليّة.

قوله تعالى: ( وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) الفتيل فعيل بمعنى المفعول من الفتل و هو اللّيّ قيل: المراد به ما يكون في شقّ النواة، و قيل: هو ما في بطن النواة، و قد ورد في روايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام : أنّه النقطة الّتي على النواة، و النقير ما في ظهرها، و القطمير قشرها، و قيل: هو ما فتلته بين إصبعيك من الوسخ، و كيف كان هو كناية عن الشي‏ء الحقير الّذي لا يعتدّ به.

و قد بان بالآية الشريفة أمران: أحدهما: أن ليس لصاحب الفضل أن يعجبه فضله و يمدح نفسه بل هو ممّا يختصّ به تعالى فإنّ ظاهر الآية أنّ الله يختصّ به أن يزكّي كلّ من جاز أن يتلبّس بالتزكية فليس لغير صاحب الفضل أيضاً أن يزكّيه إلّا بما زكّاه

٣٩٨

الله به، و ينتج ذلك أنّ الفضائل هي الّتي مدحها الله و زكّاها فلا قدر لفضل لا يعرفه الدين و لا يسمّيه فضلاً، و لا يستلزم ذلك أن تبطل آثار الفضائل عند الناس فلا يعرفوا لصاحب الفضل فضله، و لا يعظّموا قدره بل هي شعائر الله و علائمه، و قد قال تعالى:( وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ الله فإنّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحجّ: ٣٢، فعلى الجاهل أن يخضع للعالم و يعرف له قدره فإنّه من اتّباع الحقّ و قد قال تعالى:( هَلْ يَسْتَوِي الّذينَ يَعْلَمُونَ وَ الّذينَ لا يَعْلَمُونَ ) الزمر: ٩، و إن لم يكن للعالم أن يتبجّح بعلمه و يمدح نفسه، و الأمر في جميع الفضائل الحقيقيّة الإنسانيّة على هذا الحال.

و ثانيهما: أنّ ما ذكره بعض باحثينا، و اتّبعوا في ذلك ما ذكره المغاربة أنّ من الفضائل الإنسانيّة الاعتماد بالنفس أمر لا يعرفه الدين، و لا يوافق مذاق القرآن، و الّذي يراه القرآن في ذلك هو الاعتماد بالله و التعزّز بالله قال تعالى:( الّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حسبنَا الله وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ ) آل عمران: ١٧٣، و قال:( أَنَّ الْقوّة لله جميعاً ) البقرة: ١٦٥، و قال:( إِنَّ الْعزّة لله جميعاً ) يونس: ٦٥، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: ( انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ ) فتزكيتهم أنفسهم ببنوّة الله و حبّه و ولايته و نحو ذلك افتراء على الله إذ لم يجعل الله لهم ذلك، على أنّ أصل التزكية افتراء و إن كانت عن صدق فإنّه - كما تقدّم بيانه - إسناد شريك إلى الله و ليس له في ملكه شريك قال تعالى:( وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) الإسراء: ١١١.

و قوله:( وَ كَفى‏ بِهِ إِثْماً مُبِيناً ) أي لو لم يكن في التزكية إلّا أنّه افتراء على الله لكفى في كونه إثماً مبيناً، و التعبير بالإثم - و هو الفعل المذموم الّذي يمنع الإنسان من نيل الخيرات و يبطئها - هو المناسب لهذه المعصية لكونه من أشراك الشرك و فروعه، يمنع نزول الرحمة، و كذا في شرك الكفر الّذي يمنع المغفرة كما وقع في الآية السابقة:( وَ مَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرى‏ إِثْماً عَظِيماً - بعد قوله -إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) .

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ ) ، الجبت و الجبس كلّ ما لا خير فيه، و قيل: و كلّ ما يعبد من دون الله سبحانه،

٣٩٩

و الطاغوت مصدر في الأصل كالطغيان يستعمل كثيراً بمعنى الفاعل، و قيل: هو كلّ معبود من دون الله، و الآية تكشف عن وقوع واقعة قضى فيها بعض أهل الكتاب للّذين كفروا على الّذين آمنوا بأنّ سبيل المشركين أهدى من سبيل المؤمنين، و ليس عند المؤمنين إلّا دين التوحيد المنزّل في القرآن المصدّق لما عندهم، و لا عند المشركين إلّا الإيمان بالجبت و الطاغوت فهذا القضاء اعتراف منهم بأنّ للمشركين نصيباً من الحقّ، و هو الإيمان بالجبت و الطاغوت الّذي نسبه الله تعالى إليهم ثمّ لعنهم الله بقوله:( أُولئِكَ الّذينَ لَعَنَهُمُ الله ) الآية.

و هذا يؤيّد ما ورد في أسباب النزول أنّ مشركي مكّة طلبوا من أهل الكتاب أن يحكموا بينهم و بين المؤمنين فيما ينتحلونه من الدين فقضوا لهم على المؤمنين، و سيأتي الرواية في ذلك في البحث الروائيّ الآتي.

و قد ذكر كونهم ذوي نصيب من الكتاب ليكون أوقع في وقوع الذمّ و اللّوم عليهم فإنّ إيمان علماء الكتاب بالجبت و الطاغوت و قد بيّن لهم الكتاب أمرهما أشنع و أفظع.

قوله تعالى: ( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ - إلى قوله -نَقِيراً ) النقير فعيل بمعنى المفعول و هو المقدار اليسير الّذي يأخذه الطير من الأرض بنقر منقاره، و قد مرّ له معنى آخر في قوله:( وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) الآية.

و قد ذكروا أنّ( أَمْ ) في قوله:( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ) ، منقطعة و المعنى: بل أ لهم نصيب من الملك، و الاستفهام إنكاريّ أي ليس لهم ذلك.

و قد جوّز بعضهم أن تكون( أم ) متّصلة، و قال: إنّ التقدير: أ هم أولى بالنبوّة أم لهم نصيب من الملك؟ و ردّ بأنّ حذف الهمزة إنّما يجوز في ضرورة الشعر، و لا ضرورة في القرآن، و الظاهر أنّ أم متّصلة و أنّ الشقّ المحذوف ما يدلّ عليه الآية السابقة:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) الآية، و التقدير: أ لهم كلّ ما حكموا به من حكم أم لهم نصيب من الملك أم يحسدون الناس؟ و على هذا تستقيم الشقوق و تترتّب، و يتّصل الكلام في سوقه.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495