الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام12%

الحقائق في تاريخ الاسلام مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 495

الحقائق في تاريخ الاسلام
  • البداية
  • السابق
  • 495 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193406 / تحميل: 7471
الحجم الحجم الحجم
الحقائق في تاريخ الاسلام

الحقائق في تاريخ الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وان كان لمن أحبّ الناس إليّ.

إنّ الناس لم يتمكّنوا من الطعن في عليّ ( ع ) زمان حياة رسول الله ( ص ) ؛ لشدّة قربه منه ولعظمة مقامه عنده، وكونه أحبّ الناس إليه، وأنّه أخوه وابن عمّه وصهره، بل وكنفسه، كما في الآية الكريمة:( فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ) ، وقوله ( ص ): إنّ علياً منّي وأنا منه، وأنا وأنت من شجرة واحدة، ما دعوت لنفسي بشيء إلاّ دعوت لك بمثله. وقال ( ص ): لا تشكوا عليً ؛ فإنّه لأخشن في ذات الله من أن يُشكى، ومن عصى علياً فقد عصاني، ومن آذى علياً فقد آذاني. وما يقرب منها.

ثّم إذا ارتحل رسول الله ( ص ) فعلوا ما فعلوا وقالوا ما قالوا وطعنوا ما طعنوا، آذوا عِترة رسول الله، وخالفوا أهل البيت، بل عادوهم وأبغضوهم وفارقوهم، ودعوهم إلى البيعة والطاعة والخضوع، وأخذوا ما في أيديهم، وأمالوا الناس عنهم، حتى قال بعضهم: والله لأحرقنَّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة. وقال سلمان: كرداد ونا كرداد، أي: عملتم وما عملتم. لو بايعوا علياً لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم.

في مسند أحمد: قال رسول الله ( ص ): لَيردنَّ عليّ الحوض أقوام فإذا رأيتهم اختلجوا دوني، فأقول: أي ربِّ! أصحابي، أصحابي! فيقال إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك.(١)

والعجب من هؤلاء الرجال كيف نسوا في مدّة قليلة ما قال رسول الله ( ص ):

إنّما فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني.

وأنّ الله يغضب لغضب فاطمة.

ويؤذيني ما آذاها. ومن آذى رسول الله فقد حبط عمله.

وإذا دخلت عليه قام إليها واخذ بيدها وقبّلها، وأجلسها في مجلسه.

أنا الشجرة وفاطمة فرعها، وروايات آخر.

فهؤلاء أحدثوا، وأبدعوا ما أبدعوا، وظهرت الفتن، واستترت

____________________

١ - مسند أحمد، ج ٥، ص ٤٠٠، وقريباً منها: ص ٣٩٣.

٢١

الحقائق، وانكسفت شموس المعرفة، وشاعت الآراء والأهواء المختلفة، إلى أن قال عليّ ( ع ): أما والله لقد تقمّصها فلان وأنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير، فسدلت دونها ثوباً وطويت عنها كشحاً، وطفقت ارتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخيّة عمياء.(١)

اللّهمّ إنّا خرجنا نشكوا إليك فقد نبيّنا، وتظاهر الزمان علينا، وكثرة توارد الفتن علينا، وشدّة المحن المستصعبة.

( الولاية تكوينية لا تشريعية )

ومن عقائدهم الواهية السخيفة أنّ النبي والإمام ليسا بممتازين عن سائر الناس، ولا فرق بينهما وبين أفراد أخر إلاّ بتعلّق تكليفٍ به من الله ينصّبه علماً لرسالته وتبليغ أحكامه، أو بتصويب الناس واختيارهم وانتخابهم من يشاءون ولو لم يكن أعلم الأمّة وأفضلها واتقاها، وهم في هذا القول شركاء الكفّار، حيث قالوا:( فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً ) .

نعم لهم أعين لا يُبصرون بها الحقائق والآيات الإلهية، ولهم آذان لا يسمعون بها الأصوات الغيبية والدعوات الربانية، ولا يرون إلاّ ظواهر هذا العالم، ولا يقبلون كرامة ولا فضيلة ومقاما إلاّ بما يشاهدون بنظرهم المادّي المحدود، ثمّ يسوّون بين أفراد الناس، ولا يختارون من اصطفاه الله واختاره.

أخبار أصبهان: عن أبي هريرة، قال: سمعت النبيّ (ص) يقول: إذا خلق الله خلقا للخلافة مسح بيمينه على ناصيته.(٢)

أقول: الناصية عنوان الوجه، وفيها يظهر أثر النور والظلمة والتوجّه إلى الله تعالى. ومن مسحت ناصيته بيد الله تعالى فهو على نور من ربّه. وهذا في مقابل

____________________

١ - نهج البلاغة، خطبة ٤.

٢ - أخبار أصبهان، ج ١، ص ١٣٠.

٢٢

من أخذت ناصيته، كما قال تعالى:( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ ) .

وقد قال الله تعالى:( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ) .

وقال تعالى:( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) .

وقال تعالى: ( يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ) .

وقال تعالى:( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ) .

وإنهم لم يفهموا أنّ التكليف والتشريع تابع للتكوين، ولا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها، ولا يُكلف الله نفسا إلا ما آتاها، ولا تُكلف نفس إلاّ وسعها. فكما أنّ الحيوان ليس له وسع التكاليف الإنسانية ؛ فالإنسان العادي ليس له وسع الوحي والإلهام والتكليم، ولا يمكن تعلّق التكليف والتشريع إلاّ بعد أن آتى الله ما به يتحقّق الاستعداد والتحمّل والوسع، وكما أنّ الاستعداد من جهة الصفات النفسانية والأخلاق باطنية مختلفة شدّة وضعفاً، كذلك مراتب النفوس ودرجاتها متفاوتة. بل الصفات والأخلاق النفسانية والقوى الباطنية كلّها من أطوار النفس، والنفس في وحدتها كلّ القوى.

وهذا أمر ثابت في الفلسفة الإلهية، بل أمر مسلّم محسوس مقطوع لمن تدبّر ونظر، ثمّ نظر وتدبّر! ولا ينكره إلاّ من حُرم من البصيرة، وأبعده الله عن الحقيقة، وليس له من الروحانية نصيب، وفي أبصارهم غشاوة.

( الإمام مَن هو؟ )

إنّ النبيّ: هو المبعوث من الله تعالى بالوحي والإلهام ؛ لأداء الأحكام وتشريع الدين وبيان الحقائق وتنظيم القوانين والآداب في الشؤون المختلفة. والإمام: هو المحيط بتلك الأحكام، العالم بتلك الحقائق والعارف بتلك الآداب والقوانين علماً من لدن حكيم خبير، لا بالعلم التحصيلي وبالطرق المتداولة المعمولة بين الناس. فالنبيّ هو المؤسّس والشارع، والإمام هو وارثه وخليفته

٢٣

وولي أمره وحافظ دينه وشارح معارفه وأحكامه وآدابه.

وكما أنّ علوم النبيّ ومعارفه حضورية ومن الله، كذلك علوم الإمام ومقاماته الروحانية ليس باكتسابية، بل من الله تعالى، ولذا ترى إحاطتهم بالعلوم والمعارف الحقّة وعلمهم بالأحكام والآداب الإسلامية من دون الدرس والتحصيل والبحث والتتلمذ والتجربة، ومن أوّل أوان الإمامة إلى آخرها بل وقبلها، وفي زمان الصبا والشباب وبعدها، ومن دون أن يقولوا خلافاً، ويرتكبوا سهوا وخطاء، أو يخالف قولهم أحكام النبيّ، أو يخالف حكم واحد منهم واحدا آخر، ومن دون أن يحتاجوا إلى الفكر والتدبّر والتأمّل.

وهذا من المحالات في سائر أفراد الناس، وإن بلغوا في تحصيل العلم ما بلغوا، فإنّ الإنسان محلّ السهو والنسيان، وليس كلّ مجتهدٍ مصيب، وكلّ عالم ما جهله أكثر ممّا علمه، وكفى المرء نبلاً أن تُعدّ معايبه.

قال أمير المؤمنين (ع): [ منها يعني آل النبيّ عليه الصلاة والسلام ](*) : هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ، وَلَجَأُ أَمْرِهِ، وَعَيْبَةُ عِلْمِهِ، وَمَوْئِلُ حُكْمِهِ، وَكُهُوفُ كُتُبِهِ، وَجِبَالُ دِينِه، بِهِمْ أَقَامَ انْحِناءَ ظَهْرِهِ، وَأذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ لا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ، وَلا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أبَداً. هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ، وَعِمَادُ اليَقِينِ، إِلَيْهمْ يَفِيءُ الغَالي، وَبِهِمْ يَلْحَقُ التَّالي. وَلَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلايَةِ، وَفِيهِمُ الوَصِيَّةُ وَالوِرَاثَةُ، الآنَ إِذْ رَجَعَ الحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ، وَنُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ.(١)

فإذا كان في الأمّة بعد ارتحال الرسول (ص) من هذه صفتهم، فكيف يعقل أن يتوجّه إلى آخرين، وكيف يجوّز العقل أن يختار الناس لها من يشاءون، وكيف يرضى الله تعالى ورسوله أن يتقدّم من هو متأخّر، وأن يُنصب للإصلاح والتعليم والتربية وحفظ المعارف من يحتاج إلى إصلاح أمره وتربية نفسه وتحصيل العلوم والمعارف، وكيف يكلَّف الناس من جهة الشرع أو العقل أن يطيعوا ويتّبعوا ممّن هو في مرتبتهم، بل وفيهم من هو أحقّ وأفضل، بل وفيهم من

____________________

(*) هكذا في الأصل. وما بين المعقوفتين ليس من قول الإمام، بل هو عنوان لمقطوعة من الخطبة وضعه جامع النهج، ( لجنة التقويم / شبكة الإمامين الحسنين للتراث والفكر الإسلامي ).

١ - نهج البلاغة، خطبة ٢.

٢٤

لهم خصائص حقّ الولاية وفيهم الوصية والوراثة.

( شكوى أمير المؤمنين علي (ع) )

يقول علي (ع) في النهج: حتى إذا قبض الله رسوله صلّى الله عليه وآله، رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتّكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أمروا بمودّته، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه، فبنوه في غير موضعه، معادن كلّ خطيئة.(١)

وفي مستدرك الحاكم عن علي (ع) قال: إنّ ممّا عهد إلي النبيّ (ص) أنّ الأمة ستغدر بي بعده.(٢)

ويروي أيضاً عن ابن عبّاس قال، قال النبيّ (ص): أما إنّك ستلقى بعدي جهدا! قال: في سلامة من دِيني؟ قال: في سلامة من دينك.

وعن علي (ع) قال: قال لي رسول الله (ص): إنّ الأمّة ستغدر بك بعدي وأنت تعيش على ملّتي وتُقتل على سنّتي، من أحبّك أحبّني ومن أبغضك ابغضني، وإنّ هذه ستُخضّب من هذا. يعنى لحيته من رأسه.(٣)

أقول: راجع في تحقيق غدر الأمّة مبحث: وصيّة رسول الله (ص) وفتنة السقيفة من هذا الكتاب، ثمّ إلى مباحث أخر، حتى تعلم ما صنعوا بعد نبيّهم، بل غدرهم في آخر ساعات من حياته، ومخالفتهم وصيّة رسول الله (ص).

ويشير علي (ع) إلى خلاصة غدرهم ونتيجة صنيعهم في حقّه:

في تاريخ الطبري: عن علي (ع): أنّ النبي (ص) قبض وما أرى أحداً أحقّ بهذا الأمر منّي، فبايع الناس أبا بكر فبايعت كما بايعوا، ثمّ أنّ أبا بكر هلك وما أرى أحداً أحقّ بهذا الأمر منّي، فبايع الناس عمر بن الخطاب فبايعت كما بايعوا، ثمّ إنّ عمر هلك وما أرى أحداً أحقّ بهذا الأمر منّي فجعلني سهماً من

____________________

١ - نهج البلاغة: ١٥٠.

٢ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٠.

٣ - نفس المصدر، ص ١٤٢.

٢٥

ستة أسهم، فبايع الناس عثمان فبايعت كما بايعوا، ثمّ سار الناس إلى عثمان فقتلوه ثمّ أتوني فبايعوني طائعين غير مكرهين، فأنا مُقاتل من خالفني بمن اتّبعني، حتى يحكم الله بيني وبينهم.(١)

أقول: الولاية الحقيقية بجعل الله تعالى وإعطائه، وهي مرتبة تكوينيّة روحانية ومقام معلوم لا يزيد بإقبال الناس وتوجههم، ولا ينقص بإدبارهم وإعراضهم. كما ورد بأنّ الإمام كالكعبة يُؤتى ولا يأتي. وأمّا الإمارة والخلافة الظاهرية فهي تتحصل بإقبال الناس وتوجّههم واعتبارهم، وتنتفي بأدبارهم ومخالفتهم، فإنّ أساس هذه الخلافة تحقّق السلطنة الظاهرية والنفوذ والحكومة والغلبة للحاكم، بأيّ وسيلة كان وبأي طريق وقع، حقّاً أو باطلاً. ولكل من هاتين الخلافتين آثار وأحكام شرعية وعقلية وعرفية، ولا ربط بأحديهما إلى الأخرى.

ثمّ إنّ الأحقّ بالولاية الظاهرية مَن كانت له ولاية حقيقية باطنية ؛ فإنّه أولى لإجراء الأحكام والقوانين الدينية، وهو أعلم بإصلاح أمور الناس دنيوية وأخروية، وإنّه مأمون عن الانحراف والضلال والإضلال، وهو أحرى بالاتّباع والاهتداء، وهذا معنى قوله (ع): وما أرى أحداً أحقّ بهذا الأمر منّي.

ولمّا كان الإمام له أن يفسّر الحقائق ويبيّن الأحكام ويحفظ معارف الدين ويدفع الشكوك والشبهات، فليس من وظائفه أن يأتي الناس ويدعوهم إليه، ويبلّغ الأحكام ويجاهد في التبليغ والدعوة. بل لهم أن يأتوا الإمام، ويستفيدوا من محضره، ويهتدوا بهديه، ويستنيروا بنوره، ويستكملوا بتعاليمه وتربيته.

ومن الأسف: أنّ أكثر الناس عن طريق السعادة لناكبون، وعن صراط الحقيقة لمعرضون، وعن الله وعن رسوله وعن أوليائه لمعتزلون، يريدون متاعاً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون.

وما أقبح ما صنعوا ؛ حيث خالفوا أهل بيت رسول الله (ص) وأعرضوا عن طريقة أئمّة الهدى، الذين قال فيهم الرسول: إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله

____________________

١ - تاريخ الطبري، ج ٥، ص ١٧١.

٢٦

وعترتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً.

بل ولم يقنعوا ولم يكتفوا بتركهم والإعراض عنهم، وشرعوا بالتهمة والسبّ والشتم. وكادوا يظنّون أنّ هذا المنكر من المعروف، وأنّهم يتقرّبون بها إلى الله تعالى، فانظر ماذا يقول الإمام علي بن الحسين (ع) في ديدنهم:

في الطبقات، قال منهال: دخلت على علي بن الحسين فقلت: كيف أصبحت أصلحك الله؟ فقال: ما كنت أرى شيخاً من أهل المصر مثلك لا يدري كيف أصبحنا! فأمّا إذ لم تدرِ فأخبرك: أصبحنا في قومنا بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون ؛ إذ كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وأصبح شيخنا وسيدنا يُتقربُ إلى عدونا بشتمه أو سبّه على المنابر! وأصبحت قريش تعدّ أنّ لها الفضل على العرب لأنّ محمّداً (ص) منها، لا يعدّ لها فضلٌ إلاّ به، وأصبحت العرب مقرَّه لهم بذلك، وأصبحت العرب تعد أنّ لها الفضل على العجم لأنّ محمّداً (ص) منها، لا يعدّ لها فضل إلاّ به، وأصبحت العجم مقرّه لهم بذلك، فلئن كانت العرب صدقت أنّ لها الفضل على العجم، وصدقت قريش أنّ لها الفضل على العرب لأنّ محمّداً (ص) منها، إنّ لنا أهل البيت الفضل على قريش لأنّ محمّداً (ص) منّا، فأصبحوا يأخذون بحقّنا ولا يعرفون لنا حقّا، فهكذا أصبحنا إذ لم تعلم كيف أصبحنا.(١)

( مَن هم أهل البيت؟ )

أهل الرجل وأهل بيته خواصّه، والخواص تختلف مصداقاً باختلاف الموارد والأفراد والحالات.

فأهل النبيّ من خاصة أهله الذين لهم اختصاص بالنبيّ من جهة الإيمان والروحانية والمعرفة.

وأهل النبيّ بعد ارتحاله هم الذين يختصّون به في زمان حياته وبعد رحلته

____________________

١ - الطبقات، ج ٥، ص ٢١٩.

٢٧

ولا ينقطع اختصاصهم بالموت. فأهل بيت كلّ رجل خواصّه بحسب حاله ومقامه.

وقد يكون الولد خارجاً عن الأهل إذا انقطع الاختصاص وانتفى الارتباط، كما قال الله تعالى:( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) .

فاللازم في مفهوم الأهل هو قيد الاختصاص، وإطلاقه على الزوجة والأولاد، من جهة اختصاصهم بالرجل، وإذا فقد الاختصاص انتفت الأهلية.

ويقال: أهل القرية، أهل المدينة، أهل الكتاب، أهل الله، أهل المعرفة، أهل العلم، أهل البيت، أهل التقوى، أهل الذكر.

ولمّا كان هذا المفهوم عنوانا كلّياً غير متعيّن فقد عرّف رسول الله (ص) أهل بيته وعيّن الخواص من عموم أهله وصرّح بأسمائهم وأشخاصهم في الأحاديث الآتية، ثمّ وصّى بهم وذكر مقاماتهم.

( أهل البيت وآل محمّد )

مسند أحمد: عن أم سلمة، قالت: بَيْنَمَا رسولُ اللَّه صَلَّى اللّه عليه وَسَلَّم فِي بَيْتِي يَومًا إِذْ قالتْ الْخَادمُ إِنَّ عَلِيًّا وفاطمةَ بِالسُّدَّةِ. قَالَتْ، فَقَالَ لِي: قُومِي فَتَنَحَّيْ لِي عَنْ أَهْلِ بَيْتِي. قالتْ: فَقُمْتُ فَتَنَحَّيْتُ فِي الْبَيْتِ قَرِيبًا، فدخل عليٌّ وفاطمَةُ وَمَعَهُمَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وهمَا صَبِيَّان صغِيرانِ، فَأَخذَ الصَّبِيَّيْنِ فَوَضَعَهُمَا فِي حِجْرِهِ فَقَبَّلَهُمَا، وَاعْتَنَقَ عَلِيًّا بِإِحْدَى يَدَيْهِ وَفَاطِمَةَ بِالْيَدِ الأُخْرَى، فَقَبَّلَ فَاطِمَةَ وَقَبَّلَ عَلِيًّا، فَأَغْدَفَ عَلَيْهِمْ خَمِيصَةً سَوْدَاءَ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِلَيْكَ لا إِلَى النَّارِ، أَنَا وَأَهْلُ بَيْتِي. قَالَتْ، فَقُلْتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! فَقَالَ: وَأَنْتِ.(١)

وعن أمّ سلمة: أنّ رسول الله (ص) قال لفاطمة: ايتيني بزوجك وابنيك، فجاءت بهم، فألقى عليهم كساء فدكيّاً، ثمّ وضع يده عليهم، ثمّ قال: اللّهمّ إنّ هؤلاء آل محمّد فاجعل صلواتك وبركاتك على محمّد وعلى آل محمّد إنّك حميد

____________________

١ - مسند أحمد، ج ٦، ص ٢٩٦.

٢٨

مجيد. قالت: فرفعت الكساء لأدخل معهم، فجذبه من يدي، وقال: إنّك إلى خير.(١)

أقول: كلمة وأنت في الحديث الأوّل تصديق بكونها إلى الله لا إلى النار، لا في كونها من أهل البيت، ويؤيّد هذا المعنى قوله (ص) في الحديث الثاني - إنّك إلى خير - حيث استدعت أن تكون معهم وتدخل في الكساء.

( أهل البيت والثقلين )

في صحيح مسلم: بإسناده عن زيد بن أرقم، قال: يا ابن أخي والله لقد كبرت سنّي وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله (ص)، فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلّفونيه، ثمّ قال: قام رسول الله (ص) فينا خطيباً بماء يدعى خمّا بين مكّة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر، ثمّ قال أمّا بعد: ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين ؛ أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به - فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه، ثمّ قال: - وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي! أذكّركم الله في أهل بيتي! أذكّركم الله في أهل بيتي! فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد، أليس نساؤه من أهل بيته؟! قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومَن هم؟ قال: آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس.(٢)

وفي مسند أحمد قريب منها.(٣)

أقول: نقل في حاشية الكتاب، قال القاضي: يعني أنّ نساءه من أهل مسكنه ولسنَ المراد، وإنّما أهل بيته وأهله وعصبته - انتهى.

وفي تعميم الكلمة حتى تشمل آل عقيل وآل جعفر وآل عباس نظر لا يخفى على البصير، وهو تفسير بالرأي.

____________________

١ - مسند أحمد، ج ٦، ص ٣٢٣.

٢ - صحيح المسلم، ج ٧، ص ١٢٢.

٣ - مسند أحمد، ج ٤، ص ٣٦٧.

٢٩

ويروي أيضاً قريباً منها، وفيها: فقلنا من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا، وايم الله أنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثمّ يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.(١)

سنن الدارمي: عن زيد بن أرقم، قال رسول الله (ص) يوما خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: يا أيّها الناس إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيبه، وإنّي تارك فيكم الثقلين أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور فتمسّكوا بكتاب الله وخذوا به، فحثّ عليه ورغّب فيه، ثمّ قال: وأهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي. ثلاث مرّات.(٢)

ويروي السنن الكبرى للبيهقي مثلها.(٣)

سنن الترمذي: عن جابر رأيت رسول الله (ص): في حجّته يوم عرفة وهو على ناقته القصوى يخطب، فسمعته يقول: أيّها الناس إنّي تركت فيكم من أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي.(٤)

ويروي أيضاً: عن زيد بن أرقم، قال رسول الله (ص): إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعِترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيها.

أقول: هذه الرواية متواترة معنىً بين الفريقين، فلو لم يكن في موضوع الوصية والخلافة إلاّ هذا الحديث المسلّم المروي عن رسول الله (ص) لكفانا، وهذا أعظم حجّة، وأتقن دليل، وأدلّ شاهد قاطع، على أنّ رسول الله (ص) أوصى الأمّة بالكتاب وبأهل بيته، ودلّهم على هذين الثقلين، وصرّح بأنّهم إن تمسّكوا بهما لن يضلّوا أبداً. والعجب من الأمّة كيف تركوا هذه الوصية، واعرضوا عن طريقة

____________________

١ - صحيح مسلم، ج ٧، ص ١٢٣.

٢ - سنن الدارمي، ج ٢، ص ٤٣١.

٣ - السنن الكبرى، للبيهقي، ج ١٠، ص ١١٤.

٤ - سنن الترمذي، ص ٥٤١.

٣٠

أهل البيت، بل خالفوهم أشدّ خلاف، وخاصموهم ألدّ خصام، ضلّوا وأضلوا، وخسروا خسرانا مبيناً.

وفي مسند أحمد: عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ (ص) قال: إنّي أُوشك أن أُدعى فأُجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي. كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروني بمَ تخلفوني فيهما.(١)

وروى قريبا منها،وفيها: تارك فيكم خليفتين.(٢)

مستدرك الحاكم: عن زيد بن أرقم قال: رسول الله (ص): إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه.(٣)

الفائق: النبيّ (ص) - خلّفت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي -الثَّقل ( بفتحتين ) المتاع المحمول على الدابّة، وإنّما قيل للجنّ والإنس.الثقلان ، لأنّهما قطّان الأرض، فكأنّهما أثقلاها، وقد شبّه بهما الكتاب والعترة في أنّ الدين يستصلح بهما ويعمر كما عمرت الدنيا بالثقلين.(٤)

أقول: وفي جملة ( لن يفترقا ) إشارة إلى بطلان القول بكفاية الكتاب، وقد قلنا بأنّ الإمام هو كاشف حقائق القرآن ومفسّر معارفه، وحافظ أحكامه، ومبيّن مجمله ومتشابهه، فكيف يُستغنى عن الإمام، وكيف يكفينا كتاب الله، بل وكيف يصحّ لنا العمل بخلاف قول رسول الله (ص) ووصيّته، وكيف يجوز لرجل مسلم أن يقول معترضاً: كفانا كتاب الله، وقد قال الله تعالى:( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) [ النجم: ٤ ]، و:( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) .

____________________

١ - مسند أحمد، ج ٣، ص ١٧.

٢ - مسند أحمد، ج ٥، ص ١٨٢.

٣ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٤٨.

٤ - الفائق، ج ١، ص ١٥١.

٣١

ثمّ إنّ المراد من أهل البيت في هذه الأحاديث ليس إلاّ أهل الكساء والأئمّة المعصومون الذين هم خزّان العلم والمطهّرون من الرجس، بدليل قوله (ص): إن تمسكتم بهما لن تضلّوا أبداً. و: لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.

( أهل البيت وكيفية الصلاة عليهم )

مسند أحمد: عن طلحة قال: قلت يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال، قل: اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد.(١)

ويروي عن زيد بن خارجة قال: سألت رسول الله (ص) كيف الصلاة عليك؟ قال: صلّوا واجتهدوا ثمّ قولوا: اللّهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم إنّك حميد مجيد.(٢)

ويروي عن كعب، أنّ رجلا قال للنبيّ (ص): يا رسول الله قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال، قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم إنّك حميد مجيد، اللّهم بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم إنّك حميد مجيد.(٣) ويروي بإسناد آخر مثلها.

سنن البيهقي: قال بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلّي عليك يا رسول الله، فيكف نصلّي عليك؟ قال: فسكت رسول الله (ص) حتى تمنّينا أنّه لم يسأله! ثمّ قال رسول الله (ص)، قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم، وبارك على محمّد وآل محمّد كما باركت على إبراهيم في العالمين.(٤)

ويروي روايات قريبة منها.

____________________

١ - مسند أحمد، ج ١، ص ١٦٢.

٢ - مسند أحمد، ج ١، ص ١٩٩.

٣ - مسند أحمد، ج ٤، ص ٢٤١.

٤ - سنن البيهقي، ج ٢، ص ١٤٦.

٣٢

سنن النسائي: قلنا: قد عرفنا كيف السلام عليك، فكيف نصلّي عليك؟ قال، قولوا: اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على آل إبراهيم.(١)

أقول: وروي روايات كثيرة بهذا المضمون في الكتاب.

مسند أبي عوانة: روى روايات مثلها.(٢)

مستدرك الحاكم: ثمّ قال رسول الله (ص): اللّهم هؤلاء آلي، فصلّ على محمّد وعلى آل محمّد. وأنزل الله عز وجل:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) . هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرجاه. وقد صحّت الرواية على شرط الشيخين، أنّه علّمهم الصلاة على أهل بيته كما علّمهم الصلاة على آله.(٣)

أقول: يكشف هذا عن شدّة محبّته وتعلّقه بآله ؛ حيث قرن الصلاة عليه بالصلاة عليهم، وليس هذا إلاّ من جهة طهارتهم وتنزّههم، وكمال قربهم من الله ومن الرسول، ونهاية ارتباطهم واتصالهم به، وسيجيء التصريح منه (ص) بأنّ حبّهم حبّ الرسول، وحربهم حربه، وبغضهم بغضه، وطاعتهم طاعته، وأنّهم أمان أهل الأرض، والتمسّك بهم نجاة من الضلال.

ولا يخفى أنّ المصداق المسلّم من الآل هنا: هم أهل الكساء والأئمّة الطاهرون المعصومون الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وهم خزنة علوم النبيّ وورثة الأنبياء وحملة الكتاب والحكمة وأولياء الله المقرّبون وعباده المخلصون.

( أهل البيت وآية التطهير )

صحيح مسلم: بإسناده عن عائشة، قالت: خرج النبيّ (ص) غداة وعليه مِرط مرحّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثمّ جاء الحسين فدخل معه، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثمّ جاء علي فأدخله، ثمّ قال:( إِنَّمَا

____________________

١ - سنن النسائي، ج ٣، ص ٤٨.

٢ - مسند أبي عوانة، ج ٢، ص ٢١١.

٣ - مستدرك الحاكم، ج٣، ص ١٤٨.

٣٣

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) [الأحزاب: ٣٣ ].(١)

الكُنى للبخاري: قال أبو الحمراء صحبت النبيّ (ص) تسعة أشهر، فكان إذا أصبح كلّ يوم يأتي باب عليٍّ وفاطمة، فيقول: السلام عليكم أهل البيت،إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. (٢)

أقول: هذا العمل من النبيّ (ص) يدلّ على نهاية الاهتمام وكمال التوجّه والتعمّد في تعريف أهل البيت وتعيينهم ؛ لئلاّ يبقى مورد للشكّ والاشتباه والترديد في مصداق أهل البيت.

سنن الترمذي: عن عمر بن أبي سلمة، ربيب النبيّ (ص)، قال: لما نزلت هذه الآية على النبيّ ( ص): ( إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) في بيت أم سلمة، فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً، فجلّلهم بكساء، وعليّ خلف ظهره فجلّله بكساء، ثمّ قال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، قالت أمّ سلمة: وأنا معهم يا نبيّ الله؟ قال: أنت على مكانك، وأنت على خير. (٣)

ويروي أيضا عن أنس بن مالك: أنّ رسول الله (ص) كان يمرّ بباب فاطمة ستّة أشهر، إذا خرج لصلاة الفجر يقول: الصلاة يا أهل البيت( إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) . ورواه أيضا مسند أحمد.(٤)

الكُنى للدولابي: عن عطية، عن أبيه، عن أُمّ سلمة، قالت: بينا رسول الله (ص) في بيته يوماً إذ قال لي الخادم إنّ علياً وفاطمة بالسدّة، فقال لي: قومي فتنحّي لي عن أهل بيتي. فقمت فتنحّيت في البيت قريباً، فدخل عليّ وفاطمة ومعهما الحسن والحسين وهما صغيران، فأخذ الصبيّين فوضعهما في حجره واعتنق عليّ

____________________

١ - صحيح مسلم، ج ٧، ص ١٣٠.

٢ - الكُنى، للبخاري، ص ٢٥.

٣ - سنن الترمذي، ص ٤٦٢.

٤ - سنن الترمذي، ص ٤٦٢. ومسند أحمد، ج٣، ص ٢٥٩.

٣٤

بإحدى يديه وفاطمة بالأخرى، فقبّلهما وأغدف عليهم خميصة سوداء، وقال: اللّهمّ إليك لا إلى النار، أنا وأهل بيتي. قالت: قلت وأنا يا رسول الله، قال: وأنت.(١)

البيان والتعريف: اللّهم هؤلاء أهل بيتي وخاصيّتي فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. أخرجه الإمام أحمد عن أُمّ سلمة رضي الله عنها.(٢)

وسببه: عنها: أنّ النبيّ (ص) كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة فيها حريرة، فدخلت بها عليه، فقال: ادعي زوجك وابنيك، قالت: فجاء عليّ وحسين وحسن فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك الحريرة وهو على منامة له، وكان تحته كساء خيبري، قالت: وأنا أصلي في الحجرة فانزل الله عز وجل هذه الآية:( إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، قالت فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به، ثمّ اخرج يده فألوى بها إلى السماء ثمّ قال: اللّهمّ هؤلاء إلخ.

رواه مسند أحمد: وآخر الحديث: هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. قالت فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: إنّك إلى خير، إنّك إلى خير(٣)

مستدرك الحاكم: عن واثلة قال: جئت أريد علياً ( رض ) فلم أجده، فقالت فاطمة ( رض ): انطلقَ إلى رسول الله (ص) يدعوه، فاجلس! فجاء مع رسول الله (ص) فدخل ودخلت معهما، قال فدعا رسول الله (ص) حسناً وحسيناً فأجلس كلّ واحد منهما على فخذه، وأدنى فاطمة من حجره وزوجها، ثمّ لفّ عليهم ثوبه وأنا شاهد، فقال:( إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، اللّهم هؤلاء أهل بيتي. (٤)

ويروي نظيره، وفيه: اللّهم أهل بيتي أحقّ. هذا حديث صحيح على شرط

____________________

١ - الكُنى، للدولابي، ج ٢، ص ١٢١.

٢ - البيان والتعريف، ج ١، ص ١٥٠.

٣ - مسند أحمد، ج ٦، ص ٢٩٢.

٤ - مستدرك الحاكم، ج ٢، ص ٤١٦.

٣٥

الشيخين ولم يُخرجاه(١)

وفي مسند أحمد: عن شدّاد قال: دخلت على واثلة وعنده قوم، فذكروا علياً، فلمّا قاموا قال لي: ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله (ص)؟ قلت بلى، قال: أتيت فاطمة ( رض ) أسألها عن عليّ، قالت: توجّه إلى رسول الله (ص)، فجلست انتظره حتى جاء رسول الله (ص) ومعه عليّ وحسن وحسين ( رض ) آخذٌ كلّ واحد منها بيده، حتى دخل فأدنى علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسناً وحسيناً كلّ واحد منهما على فخذه، ثمّ لف عليهم ثوبه - أو قال: كساءا - ثمّ تلا هذه الآية:( إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، وقال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحقّ.(٢)

الاستيعاب: أبو الحمراء مولى النبيّ (ص) قيل اسمه هلال بن الحارث، حديثه عن النبيّ (ص): أنّه كان يمرّ ببيت فاطمة وعليّ عليهما السلام فيقول: السلام عليكم أهل البيت( إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) .(٣)

أقول: وقد صرّح رسول الله (ص) بقوله: ( وأهل بيتي أحقّ، السلام عليكم أهل البيت، هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي، وأنت إلى خير، فتنحّي لي عن أهلي، أنا وأهل بيتي ) بكونهم مصداق أهل البيت في آية التطهير وفي دعاء الرسول مخصوصاً، ولا يعمّ غيرهم في هذا المورد، وان أُطلق على غيرهم في سائر الموارد. وهذا الاختصاص نصّ من رسول الله (ص)، ولا يجوز الاجتهاد في مقابل النصّ.

المحاسن للبيهقي: سُئلت عائشة عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقالت: وما عسيت أن أقول فيه وهو أحبّ الناس إلى رسول الله (ص)، لقد رأيت رسول الله (ص) قد جمع شملته على عليّ وفاطمة والحسن والحسين، وقال: هؤلاء أهل بيتي اللّهمّ أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. قيل لها فكيف

____________________

١ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٤٧.

٢ - مسند أحمد، ج ٤، ص ١٠٧.

٣ - الاستيعاب، ج ٤، ص ١٦٣٣.

٣٦

سرت إليه؟! قالت: أنا نادمة، وكان ذلك قدراً مقدوراً.! (١)

مستدرك الحاكم: عن أم سلمة قالت: في بيتي نزلت:( إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) ، قالت: فأرسل رسول الله (ص) إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال: هؤلاء أهل بيتي(٢)

ويروي أيضاً: عن عبد الله بن جعفر، قال: لمّا نظر رسول الله (ص) إلى الرحمة هابطة، قال: ادعوا لي، ادعوا لي. فقالت صفيّة: مَن يا رسول الله؟ قال: أهل بيتي، علياً وفاطمة والحسن والحسين. فجيء بهم، فألقى عليهم النبيّ (ص) كساءه ثمّ رفع يديه، ثمّ قال: اللّهمّ هؤلاء آلي فصلّ على محمّد وعلى آل محمّد، وأنزل الله عزّ وجلّ( إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣) . هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرجاه.

أقول: يستفاد من هذه الروايات أمور:

١ - قد صرّح فيها بأنّ المراد من أهل البيت هو عليّ وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام )

٢ - أذهب الله الرجس عنهم وطهّرهم تطهيراً، فقد طهّر قلوبهم ونفوسهم، وأذهب عنهم رجس الشكّ والعصيان، وعصمهم عن الخطأ والخذلان.

٣ - فإذا أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم فلا يجوز نسبة الخطأ والكذب والخلاف والعصيان، فكيف يمكن أن يقولوا خلاف الصدق والحقّ؟! أو أن يدّعوا ما ليسوا له بأهل؟! أو يتملّكوا ما ليس لهم؟! وهل يُعقل أن نتبع ممّن ليس بمعصوم عن الخطأ والرجس مع وجود هؤلاء المطهّرين المعصومين؟!

____________________

١ - المحاسن، للبيهقي، ص ٢٩٨.

٢ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٤٦.

٣ - مستدرك، الحاكم، ص ١٤٨.

٣٧

( بعض ما ورد في أهل البيت )

وقد وردت أحاديث كثيرة عن طرق أهل السنّة، في أنّ أهل البيت: أمان لأهل الأرض.

وأنّ: مَثَلهم كمثل سفينة نوح.

وأنّهم: أوّل من يدخل الجنّة.

وأنّهم: سادة أهل الجنّة.

وأنّ: نسبهم لا ينقطع.

وأنّ: مبغضهم يدخل النار.

وأنّ: رسول الله (ص) حربٌ لمن حاربهم وسلمٌ لمن سالمهم.

وأنّ: صالح الأعمال لا ينفع حتى يُحبوهم. ونحن نورد بعضها بالاختصار.

( أنّهم أمان أهل الأرض )

مستدرك الحاكم: عن ابن عبّاس، قال رسول الله (ص): النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس. (١)

ويروي أيضا: عن المنكدر، قال رسول الله (ص): النجوم أمانٌ لأهل السماء فإن طمست النجوم أتى السماء ما يوعدون، وأنا أمانٌ لأصحابي فإذا قبضت أتى أصحابي ما يوعدون، وأهل بيتي أمانٌ لأمّتي فإذا ذهب أهل بيتي أتى أمّتي ما يوعدون.(٢)

أقول: قد صرّح رسول الله (ص) بأنّ: اتّباعهم وإطاعتهم يرفع الاختلاف عن الأمّة ويهديهم إلى الحقّ ويمنعهم عن الضلال ويعطيهم الأمان من الانحراف والعقوبات،( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ ) .

____________________

١ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٤٩.

٢ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ٤٥٧.

٣٨

( حُبُّهم وبُغضُهم )

مستدرك الحاكم: عن عليّ ( ع ): قال رسول الله (ص): إنّ أوّل مَن يدخل الجنّة أنت وفاطمة والحسن والحسين. قلتُ: يا رسول الله، فمحبّونا؟ قال: من ورائكم.(١)

مسند أحمد: أنّ رسول الله (ص) أخذ بيد حسن وحسين رضي الله عنهما، فقال: مَن أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأمّهما، كان معي في درجتي يوم القيامة.(٢)

الكُنى للدولابي: عن زيد بن أرقم، أنّ النبيّ (ص) قال لعليّ وفاطمة وحسن وحسين ( عليهم السلام ): أنا حربٌ لمَن حاربتم، وسِلمٌ لمَن سالمتم.(٣)

سير الأعلام: عن أبي هريرة، نظر النبيّ (ص) إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين فقال: أنا حربٌ لمَن حاربَكم وسِلم لمَن سالمكم(٤). يروي مسند أحمد مثلها(٥) . والحاكم في المستدرك مثلها. (٦)

ويروي الذهبي أيضاً: عنه (ص): فلو أنّ رجلاً صفن بين الركن والمقام، فصلّى وصام، ثمّ لقي الله وهو مبغض لأهل بيت محمّد، دخل النار.

أقول: لمّا كان أهل البيت مظهر العلم والحقيقة ومَجلى الصدق والإيمان والطهارة ؛ فطاعتهم والسلام لهم طاعة لله، وبغضهم والحرب لهم حربٌ لله، ومخالفةٌ للحقٌ وانحراف عن صراط الحقيقة، ومَن خالفهم وأبغضهم فهو بعيد عن الله، وبعيد عن رسوله وعن الحقّ، ولا يفيده العمل ولا ينفعه التعبّد الظاهريّ.

____________________

١ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٥١.

٢ - مسند أحمد، ج ١، ص ٧.

٣ - الكُنى، للدولابي، ج ٢، ص ١٦٠.

٤ - سير الأعلام، ج ٢، ص ٩٠.

٥ - مسند أحمد، ج ٢، ص ٤٤٢.

٦ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٤٩.

٣٩

أخبار أصبهان: عن سلمان قال: أنزلوا آل محمّد بمنزلة الرأس من الجسد وبمنزلة العين من الرأس ؛ فإنّ الجسد لا يهتدي إلاّ بالعينين.(١)

ويروي: عن أبي هريرة، قال رسول الله (ص): خيركم خيركم لأهلي من بعدي. (٢)

سنن الترمذي: عن ابن عبّاس، قال رسول الله (ص): أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِى بِحُبِّ اللَّهِ، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِى لِحُبِّى.(٣)

سير الأعلام: عن أبي سعيد قال رسول الله (ص): لا يبغضنا أهل البيت أحدٌ إلاّ أدخله الله النار(٤)، ويروي الحاكم في مستدركه نظيره.(٥)

الفائق: أبو ذر رضي الله عنه: لو صلّيتم حتى تكونوا كالحنايا، ما نفعكم ذلك حتى تُحبّوا آل رسول الله (ص). (٦)

ثمّ قال الزمخشري: حتى تحدبوا وتنحنوا ممّا تجهدون أنفسكم.

أقول: سيأتي في الفصول الآتية أحاديث مروية عن رسول الله (ص) في أنّ من أحبّ علياً فقد أحبّه. ومن أحبّ فاطمة فقد أحبّه. ومن أحبّ الحسنين فقد أحبّه. ومن أبغض واحداً منهم فقد أبغضه. وما يقرب منها.

( أنّهم كسفينة نوح )

العقد الفريد: وروى فيها جعفر بن محمّد رضوان الله عليه: ألاّ إنّ الأبرار عِترتي وأطايب أرومتي، أحلم الناس صغاراً وأعلم الناس كباراً، ألا وإنّا أهل البيت

____________________

١ - أخبار أصبهان، ج ١، ص ٤٤.

٢ - أخبار أصبهان، ج٢، ص ٢٩٤.

٣ - سنن الترمذي، ص ٥٤١.

٤ - سير الأعلام، ج ٢، ص ٩٠.

٥ - مستدرك الحاكم، ج ٣، ص ١٥٠.

٦ - الفائق، ج ١، ص ٣٠٢.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩

كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فإنه أستر عليك..)(١) .

ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمامعليه‌السلام ، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالأهواز إلخ.. ما سيأتي: ولا نستبعد أيضاً أن يكون عزل الإمام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين(٢) . وللسبب نفسه أيضاً فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الإمام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

الهدف الرابع:

إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجناً يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضاً، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام.

أي أنه كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جداً ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة.. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد أمن خطراً عظيماً، كان يتهدده من قبلها، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر.

____________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٤٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٥٥.

(٢) هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤٦، ٢٤٧، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص ٨٥، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٥، ومعادن الحكمة ص، ١٨٠، ١٨١، ونور الأبصار ص ١٤٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، وإعلام الورى ص ٣٢٢، ٣٢٣، وروضة الواعظين ج ١ / ٢٧١، ٢٧٢، وأصول الكافي ج ١ / ٤٨٩، ٤٩٠، والبحار ج ٤٩ / ١٣٥، ١٣٦، ١٧١، ١٧٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك.

ولسوف يأتي فصل: خطة الإمام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

١٩٠

إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلاً يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق:

يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضاعليه‌السلام : (إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه..)(١) .

ويقول:. (.. وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.)(٢) .

وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ: (.. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا:

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٣، ٢٢٤.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله.

(٢) المصدر السابق ص ٢١٤.

١٩١

أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، وإتباعه، والالتفاف حوله.)(١) .

وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه.

ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيراً إلى ذلك، في معرض حديثه عن الإمام الرضاعليه‌السلام : (.. نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته.)(٢) .

وتقدم أنهعليه‌السلام كان ـ باعتراف المأمون ـ (الأرضى في الخاصة والعامة) وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله) إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا (غيضاً من فيض منه).

كما وتقدم أيضاً قول المأمون في رسالته للعباسيين: (.. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ـ يعني للعلويين ـ، فإني في تدبيركم، والنظر لكم. ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..)، وأيضاً عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد، فلا نعيد.

وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالاً، ويقروا عيناً، فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم.

____________

(١) المصدر السابق ص ٢٥٦.

(٢) مطالب السؤول ص ٨٤، ٨٥. وقريب منه ما في: الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٨.

١٩٢

إشارة هامة لا بد منها:

هذا.. ويحسن بنا أن نشير هنا: إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. وإلقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه.. فهو يقول:

لـقد قـال الروافض في علي

مـقالاً جـامعاً كـفراً وموقا

زنـادقة أرادت كـسب مـال

مـن الـجهال فـاتخذته سوقا

وأشـهـد أنـه مـنهم بـريّ

وكـان بـأن يـقتلهم خـليقا

كـما كـذبوا عـليه وهو حي

فـأطعم نـاره مـنهم فـريقا

وكـانوا بالرضا شغفوا زماناً

وقـد نفخوا به في الناس بوقا

وقـالـوا: إنـه رب قـديرا

فكم لصق السواد به لصوقا(١)

وهذه الأبيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز، وخيبة أمله في الروافض، الذين ضايقه جداً امتداد دعوتهم في طول البلاد الإسلامية، وعرضها. وخصوصاً في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئاً يستطيع أن ينتقص به إمامهم الرضاعليه‌السلام سوى أنه كان أسود اللون، وأن الروافض قالوا: إنه رب قدير.. وسر حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في عليعليه‌السلام ـ التي كان يراها خطراً حقيقياً على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنهعليه‌السلام : يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين وصفي الكفر والزندقة، واتهامه لهم، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضاعليه‌السلام ، فقالوا: إنه الإمام الثابت إمامته بالنص، وشهروا بذلك، حتى علم به عامة الناس، ونفخوا به في الناس بوقاً.. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث، والزيدية. بل والمرجئة، وأهل السنة، على حد تعبير الشيبي، وقالوا: بإمامة أبيه، ثم بإمامته.

____________

(١) ديوان ابن المعتز ص ٣٠٠، ٣٠١، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٦.

١٩٣

وبديهي.. أن لا يرتاح ابن المعتز، الذي كان في صميم الأسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع، ولمقالة الروافض، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة الذين هم بين الرضا، وعلي أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص.

ولقد بلغ من حنقه عليهم، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصاً في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه، وبين عقيدة الغلاة، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة أخرى، هي: القول بإلوهية عليعليه‌السلام .

وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض، وعقيدة الغلاة، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز، بل على من هو أقل منه بمراتب، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك: أن يقصد بهذا الخلط المتعمد: التشنيع على الروافض، وتهجين عقيدتهم، إذ أنه يقصد ب‍ـ (الروافض)، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا، وإمامة علي أمير المؤمنين، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم: أنه ليس فيهم من يقول بإلوهية أحدهما، أو إلوهيتهما، أو إلوهية غيرهما من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وأخيراً.. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا، واتساع نفوذهم، وعلى أن شخصية الرضاعليه‌السلام ، كانت قد استقطبت قطاعاً واسعاً، إن لم نقل: أنه القطاع الأكبر من الأمة الإسلامية، في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة من الزمن، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك، فلا نعيد.

الهدف الخامس:

هذا.. ونستطيع أن نقول أيضاً: إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم، ولقد كان الحكم بأمس الحاجة إلى شخصية من هذا القبيل. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي، طلبا للشهرة، وطمعا بالمال، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم.. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الأخرى، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم، عندما رأوا ضعف الدولة، وتمزقها، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب.

نعم.. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الأكفاء، والأحرار في تفكيرهم، وفي نظرتهم الواعية للإنسان والحياة، ولم يعد بحاجة إلى المتزلفين، والجامدين، والانهزاميين، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له، يشدون من أزرها، ويقيمون أودها..

١٩٤

ويقرب المعتزلة: كبشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية، التي لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الأرض علماً وزهدا، وورعاً وفضلاً الخ. كانت منحصرة في الإمام الرضاعليه‌السلام ، باعتراف من نفس المأمون، كما قدمنا، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية أخرى، مهما بلغت.

الهدف السادس:

ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات، قد أتى الأمة بمفاجئة مثيرة، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري، وما يحدث، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والأمة منها، وما أكثرها.

وقد عبر إبراهيم بن المهدي، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة. حتى لقد ذهل ـ على حد قوله ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فمه الصبي!

وبعد هذا. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء، لإدراك مدى دهشة غيرهم: ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لاحظنا: أنهم كانوا سياسياً أقل وعيا وتجربة من مثل إبراهيم بن المهدي، الذي عاش في أحضان الخلافة. وكان بمرأى ومسمع من ألاعيب السياسة، ومكر الرجال.

الهدف السابع:

طبيعي بعد هذا: أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ: أن جميع تصرفاته، وأعماله، لم يكن يهدف من ورائها، إلا الخير للأمة، ومصلحة المسلمين، وحتى قتله أخاه، لم يكن من أجل الحكم، والرياسة، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين، والمصلحة العامة، يدل على ذلك: أنه عندما رأى أن خير الأمة، إنما هو في إخراج الخلافة من بني العباس كلية، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عندما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا بإخراجها إلى ألد أعدائهم، سارع إلى ذلك، بكل رضى نفس، وطيبة خاطر.. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به، ألا وهي: قتله أخاه الأمين، العزيز على العباسيين والعرب. وليكون بذلك، قد ربط الأمة بالخلافة، وكسب ثقتها فيها، وشد قلوب الناس، وأنظارهم إليها، حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل، وترفع الظلم، وأن تكون معهم، وفي خدمتهم، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير، وما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص، ويبغون لها الغوائل.

١٩٥

ويدل على ذلك ـ عدا عما ورد في وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي، عامله على المدينة: أن اخطب الناس، وادعهم إلى بيعة الرضا، فقام خطيبا، فقال:

(يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب:

ســتـة آبــاؤهـم مــا هــم

من أفضل من يشرب صوب الغمام(١)

وقد أكد ذلك بحسن اختياره، إذ قد اختار هذه الشخصية، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الأمة، ورجاءها، في حاضرها، ومستقبلها، وتكون النتيجة ـ بعد ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل، وكل عمل يقوم به.. مهما كان غريباً، ومهما كان غير معقول، فإن على الأمة أن تعتبره صحيحاً وسليماً، لا بد منه، ولا غنى عنه، وإن لم تعرف ظروفه، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها، فإن عليها أن تؤول ما يقبل التأويل، وإلا. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب، وتتناسى ما تعلم. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة، وأن ما أدركته ـ ولو كان حقاً ـ لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ويدل على ذلك بشكل واضح أبيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥/٣٠٦ يقول ابن المعتز:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـتي قـد حرصتموا

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غـير مكثر

كـما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

____________

(١) العقد الفريد ج ٣ / ٣٩٢، طبع مصطفى محمد بمصر سنة ١٩٣٥ و (ما) في البيت زائدة.. ولا يخفى ما في البيت، وقد أثبتناه، كما وجدناه.

١٩٦

وعلى كل حال، فإنه يتفرع على ما ذكرناه:

أولاً: إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه، بسبب معاملة أبيه، أو أخيه، وسائر أسلافه لهم، فإن المرء بما كسب هو، لا بما كسب أهله، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد، وهو قد أرجع الخلافة إليهم، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا: أنه لا يريد لهم، ولغيرهم، إلا الصلاح والخير..

وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم، ولا قتله أخاه، ولا أن يزعجهم، ويخيفهم تقريبه للإيرانيين، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك.. ما دام أن الخلافة قد عادت إليهم، على حسب ما يشتهون، وعلى وفق ما يريدون.

ومن هنا.. فلا يجب أن نعجب كثيراً، حين نراهم: قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة، وقلوب رضية. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير، فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري، وابن مسكويه ـ على أن بعضهم وافق، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني العباس ـ رفض. وهذا يدل دلالة واضحة: على أن بغداد، معقل العباسيين الأول، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة..

١٩٧

بل ونص المؤرخون، على أن: إبراهيم بن المهدي، المعروف بابن شكلة، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد: لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد، والكوفة والسواد(١) ، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهراً عديدة بين أنصار المأمون، وعليهم الخضرة، وأنصار العباسيين وعليهم السواد(٢) .

وثانياً: وأما الإيرانيون عامة، والخراسانيون خاصة، والمعروفون بتشيعهم للعلويين، فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له، وثقتهم به، بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم. وأغلى أحلامهم، وأثبت لهم عملاً، حبه لمن يحبون، ووده لمن يودون.. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره، ولا لعربي على غيره، وأن الذي يسعى إليه، هو ـ فقط خير الأمة، ومصلحتها، بجميع فئاتها، ومختلف طبقاتها، وأجناسها.

ملاحظة هامة:

إن من الجدير بالملاحظة هنا: أن الرضاعليه‌السلام كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة ١٩٣ ه‍. أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد، فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه: ضيافة الإخوان: أن علياً الرضاعليه‌السلام كان مستخفياً في قزوين في دار داوود بن سليمان الغازي أبي عبد الله، ولداوود نسخة يرويها عن الرضاعليه‌السلام ، وأهل قزوين يروونها عن داوود، كإسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه(٣) .

وقال الرافعي في التدوين: (وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال: إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي، روى عنه النسخة المعروفة، وروى عنه إسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه، وغيرهما.

____________

(١) راجع البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ١٠٥ ـ زاد على ذلك: المدائن أيضاً.

(٢) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٥ / ١٩٠، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغير ذلك.

(٣) راجع كتاب: ضيافة الإخوان مخطوط في مكتبة المدرسة الفيضية في قم، في ترجمة أبي عبد الله القزويني، وعلي بن مهرويه القزويني.

١٩٨

قال الخليل: وابنه المدفون في مقبرة قزوين، يقال: إنه كان ابن سنتين، أو أصغر)(١) انتهى كلام الرافعي.

والمراد بالخليل في كلامه، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي، القزويني، وهو الحافظ المشهور، مصنف كتاب الإرشاد، وكتاب تاريخ قزوين، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه‍.

الهدف الثامن:

لقد كان من نتائج اختياره الإمام، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ: أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأمصار.

ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبد الرحمان بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط: ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه.

بل لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك:

أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم. بل لقد حصل على ثقة الكثيرين منهم، ومن والاهم، وشايعهم. والخراسانيون منهم، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى، حيث يقول:

(.. ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا) والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين.

ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جداً، بل لقد بايعه أكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه.

وهذه دون شك هي إحدى أمنيات المأمون، بل هي أجل أمنياته وأغلاها.

ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت:

(.. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار..

____________

(١) التدوين قسم ٢ ورقة ٢٣٥ مخطوط في مكتبة دار التبليغ الإسلامي في قم، ترجمة علي الرضا..

١٩٩

وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالأنبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي.

فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.

ثم فكر: أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به، فنظر نظراً دقيقاً، وقال: لو ظهروا للناس، ورأوا فسق الفاسق منهم، وظلم الظالم، لسقطوا من أعينهم، ولانقلب شكرهم لهم ذماً.

ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءاً، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماماً، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الأمر إلى حالته الأولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماماً من آل أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه).

وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ)(١) .

ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ..

وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضاعليه‌السلام من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية العلويين في ذلك.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالاً ـ على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس، وأنهم كانوا أكثر تديناً والتزاماً من أي فئة أخرى على الإطلاق..

____________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢١، ٢٢٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495