تربة الحسين عليه السلام الجزء ٢

مؤلف: الشيخ أمين حبيب آل درويش
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 335
مؤلف: الشيخ أمين حبيب آل درويش
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 335
معنى ، وفي باقي الأئمة قريبة من التواتر ، وكيفية رجوعهم ، هل هو على الترتيب أو غيره؟ فكل علمها إلى الله سبحانه ، وإلى أوليائه عليهم السلام»(٤٢٨) .
وبعد ذكر هذه الروايات ، لعل البعض لا يصدق بما جاء فيها ويقول : إنّ هذه من مبالغات الشيعة في مصرع الحسين عليه السلام ، ومن الشواحد على ذلك ما يلي :
رأي ابن كثير في روايات حادثة كربلاء :
قال : «وللشيعة والرافضة في صفه مصرع الحسين كذب كثير وأخبار باطلة ، وفيما ذكرنا كفاية. وفي بعض ما أوردنا نظر ، ولولا أنّ ابن جرير وغيره من الحفاظ والأئمة ذكروه ما سقته ، وأكثره من رواية أبي مخنف لوط بن يحيى ، وكان شيعياً وهو ضعيف عند الأئمة ، ولكنّه أخباري حافظ ، وعنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره ، ولهذا يترامى عليه كثير من المصنفين في هذا الشأن ممن بعده. والله أعلم»(٤٢٩) .
مناقشة ابن كثير :
مما يؤسف له أنّ مثل هذا الحافظ الذي له أهميته في كتابة التاريخ ، يغلب عليه التعصب والهوى ؛ فإنّ كل من قرأ هذا النص الذي ذكرناه عنه يلاحظ عليه ما يلي :
أولاً ـ الإفتراء على الشيعة بأنها تنقل الكذب الكثير والأخبار الباطلة ، فهذه دعوى لا تغتفر في إتهام طائفة من أكابر الطوائف الإسلامية؟!
ثانياً ـ التشكيك فيما نقله من الأخبار مع إعترافه بنقل الحفاظ والأئمة بذلك ، فبالنتيجة يطعن في علمائه حيث أنّهم ينقلون ما ذكره الشيعة والرافضة من الكذب كما زعم؟!
__________________
(٤٢٨) ـ شبّر ، السيد عبد الله : حق اليقين في معرفة أصول الدين ، ج ٢ / ٥٥.
(٤٢٩) ـ ابن كثير ، عماد الدين إسماعيل بن عمر : استشهاد الحسين / ١٣٠.
ثالثاً ـ الطعن في رواية أبي مخنف لوط بن يحيى باعتبار تشيعه ، وباعتبار ضعفه عند الأئمة ، ثم يذكر أنّه أخبارياً حافظاً ، وأنّ الأئمة أخذوا عنه ، فانظر ـ أيها القارئ الكريم ـ كيف أنّ التعصب والهوى أبعده عن الحقيقة ؛ حيث تورط بتضعيف وتكذيب الشيعة ، وأثبت بعد ذلك أنّ علماءه يأخذون عنهم ، ولا ذنب للشيعة إلا أنهم والوا علياً وولده عليهما السلام ، ولكن هذا التضعيف لا قيمة له في البحث العلمي ، بل هو خلاف العقل والإنصاف. ولو تتبعنا من هو على شاكلته ؛ للاحظنا أنّ منهجهم من قديم الزمان إلى اليوم ، تضعيف الشيعة ورميهم بالكذب ، ومن الشواهد على ذلك ما يلي :
إمام الشافعية يشير إلى هذا المنهج :
إذا في مجلسٍ نذكُرْ علياً |
وسِبطيْهِ وفاطمةَ الزّكية |
|
يُقالُ تجاوزوا يا قومُ هذا |
فهذا منْ حديثِ الرّافضية |
|
برئتُ إلى المُهيمنِ من أناسٍ |
يرون الرّفضَ حُبَّ الفاطميَّة(٤٣٠) |
وقال أيضاً :
قالوا تَرَفّضْتُ قلت : كَلّا |
ما الرّفْضُ ديني ولا إعتقادي |
|
لَكنّ توليتُ غير شكٍّ |
وخيرَ إمامٍ وخيرَ هادي |
|
إن كان حبُّ الوليِّ رفضاً |
فإنّ رفضي إلى العبادِ(٤٣١) |
وهكذا نلاحظ إمام الشافعية من خلال أشعاره يستاء من هذه الظاهرة ، التي نهجتها بعض الجماعات ، والفئات التي عاصرها.
__________________
(٤٣٠) ـ عكاوي ، د. رحاب : ديوان الإمام الشافعي / ١٠٢.
(٤٣١) ـ نفس المصدر / ٤٩.
الدكتور عبد العزيز نور ولي نهج منهج ابن كثير :
وهو من المعاصرين قم بدراسة عنوانها (أثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري) ، ومن النتائج التي توصل إليها ما يلي :
ـ «نجد في الروايات الشيعية التاريخية ، بعض الأمور التي وافقت الروايات الصحيحة ، ولكن مثلهم مثل الكهان ، الذين يأخذون من مسترقي السمع من الشياطين الخبر الصادق ، ويخلطون معه مائة كذبة.
ـ غلاة الشيعة يستغلون بعض الحقائق ليصوغوها بما يوافق هواهم.
ـ يستغل غلاة الشيعة مواطن الإختصار في الروايات الصحيحة ، والتي تكون مجالاً للدس فيها ، فيستغلونها لخدمة عقيدتهم ومذهبهم.
ـ الكم الهائل للروايات الشيعية التي تضمنتها المصادر السنية.
ـ رغم كثرة الروايات التاريخية الشيعية في المصادر التاريخية المعتمدة عند أهل السنة ، إلا أنّ تلك الروايات ؛ كانت أهون بكثير من الروايات التي تناقلتها المصادر الشيعية البحتة.
ـ إعتماد المصادر التاريخية على الروايات الشيعية في حوادث مختلفة من التاريخ ، ولعلّ من أهم الأسباب لهذا الإعتماد الكبير عليها ، عدم الروايات المقابلة التي تعطي التسلسل التاريخي كما تُصوّره الرواية الشيعية.
ـ هذا التشويه والتزييف للتاريخ الإسلامي من قِبَل الشيعة ، تأثر به كُتاب التاريخ قديماً وحديثاً ، فنجد في الروايات المنقولة من طرق ضعيفة ، رغم أنّ رجالها ليسوا شيعة ولكنهم ينقلون ما يوافق روايات الشيعة ، فلا يستبعد تأثرهم بروايات الشيعة.
ـ ضرورة مراجعة كثير من الأخبار المشهورة في التاريخ للتأكد من صحتها ، فليس كل ما هو مشهور صحيحاً.
ـ عدم تجاهل جانب التشيع في غير الغالين فيه ، فرغم غلوهم إلا أنهم ينقلون ما يوافق تشيعهم»(٤٣٢) .
أقول : إنّ صاحب العقل المتجرد من الهوى والعصبية ، يلاحظ أنّ هذا الباحث أقحم نفسه في ميدان علمي لم يستخدم فيه لغة العلم ، بل نراه يتخبط ، فتارة يذهب إلى اعتماد أهل السنة على كثير من المرويات الشيعية ، وتارة أخرى يذهب إلى أنّ الشيعة يستغلون هذه الروايات ، في تصحيح عقيدتهم ومذهبهم.
نعم ، هذا حال تاريخنا الإسلامي وما فيه من الأغاليط ، يشعر بها كل من يقف على أحداثه دارساً ومتأملاً ، وقد ساهم في صنع هذه الأغاليط جماعات من الروات ؛ أعماهم التعصب حتى أفقدهم التوازن الفكري ، غدت حقائق التاريخ على أيديهم سلعة تعرض في (سوق من يزيد أو يريد) ، فهي تظهر حيناً وتختفي حسب الطلب ، ويكثر الوضع إذا إحتدم النزاع بين طائفة وطائفة ، ويقل الوضع حين يخف النزاع ، والوضع تناول كل شيء : الحوادث والحديث والتفسير والأدب وتراجم الرجال ، والتمييز بين المصنوع والمطبوع ، يحتاج إلى حنكة تاريخية وبصيرة نافذة.
٤ ـ تقديس التربة والتبرك بها :
لعلّ من الأشياء التي تُلفت أنظار الآخرين تجاه الشيعة الإمامية ، تلك العلاقة الوثيقة التي تربطهم بكربلاء منذ أزمنة بعيدة ، وإلى يومنا هذا ، اثيرت
__________________
(٤٣٢) ـ نور ولي ، الدكتور عبد العزيز محمد : أثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري / ٤١٣ ـ ٤١٤.
حولها الأسئلة التي يراد بها الوصول إلى الهدف من تقديسها والتبرك بها ، فما هو الهدف الذي دعاهم إلى ذلك؟
يتضح الجواب على هذا السؤال بعد بيان الآتي :
ـ معنى التبرك :
«التبرك : مأخوذ من البَرَكَة وهي : ثبوت الخير الإلهي في الشيء. ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يُحس على وجه لا يحصى ولا يحصر ؛ قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة ، هو مبارك وفيه بركة»(٤٣٣) .
وقد وصف نفسه عَزَ وجَلّ بذلك كما في قوله تعالى :( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) [المؤمنينن / ١٤] ، كل ذلك تنبيهاً على إختصاصه تعالى بالخيرات ؛ أي ثبت الخير عنده وفي خزائنه ، واتسعت رحمته وكثرت نعمته. كما وصف مخلوقاته بذلك في كثير من الآيات ، نذكر منها ما يلي :
١ ـ قوله تعالى :( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ) [مريم / ٣١] ؛ أي موضع الخيرات الإلهية. وفي الحديث عن إمامنا الصادق عليه السلام : (في قول الله عَزَ وجَلّ :( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ) قال : نَفّاعاً)(٤٣٤) .
٢ ـ قوله تعالى :( ربِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا ) [المؤمنون / ٢٩] ؛ أي حيث يوجد الخير الإلهي.
__________________
(٤٣٣) ـ الإصفهاني ، أبو القاسم الحسين بن محمد : المفردات في غريب القرآن ، ج ١ / ٥٦.
(٤٣٤) ـ الصدوق ، الشيخ محمد بن علي ابن الحسين : معاني الأخبار : ٢١٣.
٣ ـ قوله تعالى :( وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ) [الأنعام / ٩٢]. قال الشيخ الطبرسي قده : «وإنما سمّاه مباركاً ؛ لأنّه ممدوح مستعد به ، فكلّ من تمسك به نال الفوز»(٤٣٥) .
ـ معنى التقديس :
قال السيد السبزواري (قده) : «والتقديس : بمعنى التنزيه ـ كما عن جمع من اللغويين والمفسرين ـ والتطهير المعنوي عن النقائص. ويمكن التفريق بينهما ، بجعل الأول بالنسبة على الذات الأقدس ، فهو تعالى منزّه عن كل نقص ، والثاني بالنسبة إلى الفعل ففعله منزّه عن كل نقص ، لكونه صادراً عن الحكمة البالغة»(٤٣٦) . هذا بالنسبة للباري عَزّ وجَلّ ، كما وصف نفسه في قوله تعالى :( لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) [الحشر / ٢٤]. أما بالنسبة لخلقه ، فقد جاء في القرآن ذلك كما يلي :
١ ـ قوله تعالى :( إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) [النازعات / ١٦].
٢ ـ قوله تعالى :( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ) [المائدة / ٢٢].
قال السيد السبزواري (قده) : «ومادة (قدس) تدل على التنزّه والطهر ، يقال : تقدّس الله ؛ أي تنزّه والأرض المقدسة : هي الأرض المطهّرة من رجس الشرك ، والتي يمكن إقامة الدين فها ، ولعلّ هذا هو معنى البركة التي وصف عَزّ وجَلّ الأرض التي وعدهم بها. قال تعالى :( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ
__________________
(٤٣٥) ـ الطبرسي ، الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن : مجمع البيان في تفسير القرآن ، ج ٣ ـ ٤ / ٤١٦.
(٤٣٦) ـ السبزواري ، السيد عبد الأعلى الموسوي : مواهب الرحمن في تفسير القرآن ، ج ١ / ١٧٠.
الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ) [الأعراف / ١٣٧]. فإنّ البركة هي : الخير الكثير ، وأعلاه مرتبة ؛ هو إقامة الدين ، وبسط الحق والعدل ، ورفع قذارة الشرك ، وبذلك يمكن الجمع بين كلمات المفسرين في المراد من المقدّسة في المقام. واختلفوا في تعيين الأرض المقدسة ، فقيل : هي الشام ، وقيل : هي الطور وما حوله ، وقيل : أريحاء ، وقال بعضهم : دمشق وفسطين ، وقال آخر : الأردن ، وقيل : غير ذلك.
والحقّ أن يقال : إنه لم يرد في القرآن الكريم ، ولا في السنة الشريفة تحديد هذه الأرض الموعودة ، وإلا أنّ توصيفها بالبركة ـ كما قال تعالى :( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الاسراء / ١] ، ـ يقرب أنه المسجد الأقصى وما حوله ، فيستفاد أنّ هذه الأرض المقدّسة ؛ هي هذه المنطقة بالخصوص ، ولعلّ ما ورد في بعض الروايات من أنها الشام ، هو اقرب الإجتماعات ، فإن أرض الشام موصوفة بالبركة عبر العصور ومرّ التاريخ ، وهي تشمل المسجد الأقصى وما حوله»(٤٣٧) .
أدلة التبرك والتقديس
ويمكن الإستدلال على ذلك بثلاثة أدلة وهي كالتالي :
الأول ـ القرآن الكريم :
قال تعالى :( إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى) [طه / ١٢]. ذكر المفسرون أن السبب الذي لأجله أمر بخلع النعلين فيه قولان :
__________________
(٤٣٧) ـ المصدر السابق ، ج ١١ / ١٢٧ ـ ١٢٨.
الأول ـ أنه أمر بذلك على وجه الخضوع والتواضع ؛ لأنّ التحفي في مثل ذلك أعظم تواضعاً وخضوعاً.
الثاني ـ ليباشر الوادي بقدميه متبركاً به. وهذا يدل على احترام البقعة ، وتعظيم لها وتشريف لقدسها.
الثاني ـ السنة النبوية :
«عن المناسك للكرماني : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما رمى جمرة العقبة رجع إلى منزله بمنى ، ثم دعا بالحلاق فأعطاه شقه الأيمن فحلقه ، ثم دفعه إلى أبي طلحة ليفرقه بين الناس ، ثم أعطاه شقه الأيسر فحلقه ، ثم دفعه إلى أبي طلحة ليفرقه بين الناس ، قيل وأصاب خالد بن الوليد شعرات من شعرات ناصيته صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الشفا كانت شعرات من شعره عليه السلام في قلنسوة خالد ، فلم يشهد بها قتالاً إلا رزق النصر انتهى من تاريخ الخميس» ويؤيد ما ذكره الكرماني الأحاديث التالية :
١ ـ عن أنس بن مالك : (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أتى منى فأتى الجمرة فرماها ، ثمّ أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق : خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ، ثمّ الأيسر ، ثمّ جعل يعطيه الناس)(٤٣٨) .
٢ ـ عن أنس بن مالك : (لما رمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجمرة ونحر نسكه وحلق ، ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه. ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه ، ثم ناوله الشق الأيسر ، فقال : إحلق فحلقه فأعطاه أبا طلحة فقال : اقسمه بين الناس)(٤٣٩) .
__________________
(٤٣٨) ـ القشيري ، مسلم ابن الحجاج : صحيح مسلم ، ج ٣ / ٩٤٧.
(٤٣٩) ـ نفس المصدر.
٣ ـ (لما نحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الهدي ، دعا الحلاق وحضر المسلمون يطلبون من شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأعطى الحلاق شق رأسه الأيمن. ثم أعطاه أبا طلحة الأنصاري ، وكَلّمه خالد بن الوليد في ناصيته حين حلق فدفعها إليه ، فكان يجعلها في مقدمة قلنسوته ، فلا يلقى جمعاً إلا فضه)(٤٤٠) .
وبعد هذا ، هل يحتمل مسلم مؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، أنّ التبرك غير صحيح وخلاف الأحكام الشرعية ، بعد أن حث عليه النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، كما ذكرنا في الروايات؟!
كلا إنّ في التبرك حقيقة التوحيد وخالص الإيمان ؛ إذ أنّ المسلمين يعتقدون بأنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ؛ هو خيرته من خلقه ، والمقرب عنده والمطاع في ملكوته ، وهو عبده ورسوله ، ومبارك من عنده وبإرادته. ومن أراد التوسع ؛ فليراجع الكتب المتخصصة في هذا المجال ، كوفاء الوفاء للسمهودي ، وتبرك الصحابة لمحمد طاهر الكردي ، والتبرك للعلامة الحجة الشيخ علي الأحمدي.
الثالث ـ سِيرَة المسلمين :
قال العلامة محمد طاهر بن عبد القادر : «ولا شك أنّ آثار رسول الله صلى الله عليه وآله ، صفوة خلق الله وأفضل النبيين ، أثبت وجوداً ، وأشهر ذكراً ، وأظهر بركة ، فهي أولى بذلك ـ يعني التبرك ـ وأحرى ، وقد شهدها الجم الغفير من أصحابه ، واجمعوا على التبرك بها ، والاهتمام بجمعها ، وهم الهداة المهديون ، والقدوة الصالحون فتبركوا بشعراته وبفضل وضوئه ، وبعرقه ، وبثيابه وآنيته ، وبمس جسده الشريف بغير ذلك ، مما عرف من آثاره الشريفة التي صحت به الأخبار. فلا جرم إن كان التبرك بها سنة الصحابة رضي الله
__________________
(٤٤٠) ـ الواقدي ، محمد بن عمر : المغازي ، ج ٣ / ١١٠٨ ـ ١١٠٩.
عنهم واقتفى آثارهم في ذلك من نهج نهجهم من التابعين والصالحين. وقد وقع التبرك ببعض آثاره صلى الله عليه وآله وسلم في عهده وأقره ولم ينكر عليه ، فدلّ ذلك دلالة قاطعة على مشروعيته ، ولو لم يكن مشروعاً لنهى عنه وحذّر منه. وكما تدل الأخبار الصحيحة ، وإجماع الصحابة على مشروعيته تدل على قوة إيمان الصحابة وشدة محبتهم ومولاتهم ومتابعتهم للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله على حد قول الشاعر :
أمر على الدِّيار ديار ليلى |
أقبّل ذا الجدار وذا الجدار |
|
وما حب الديار شغفن قلبي |
ولكن حب من سكن الديار(٤٤١) |
وقال العلامة المحقق الشيخ علي الأحمدي (ره) : «التأمل التام في عمل الصحابة رضي الله عنهم ، يمثل لنا عقيدتهم في النبي صلى الله عليه وآله وفي آثاره ، كما أنّ كتب التاريخ والسيرة والحديث تمثل لنا كيف كانوا يعاشرون الرسول صلى الله عليه وآله ، ويقدسونه ويتبركون به في كل شؤونه ؛ إذ من المسلم المقطوع به من أفعال الصحابة الكاشفة عن عقيدتهم في الرسول ، أنّ كل مولود يولد لهم ـ منذ قدومه صلى الله عليه وآله المدينة الطيبة ـ كانوا يأتون به إليه فيحنكه ويمسح رأسه ويتفل في فيه ويباركه يرون أنّه بذلك قد أصبح مباركاً ، وكانوا يتباهون بذلك ويفتخرون به هذا عمل الصحابة ، وأما رسول الله صلى الله عليه وآله ؛ فكان يقرهم عليه ، ولا ينكر عليهم ذلك. ويعمل به فلو كان التبرك شركاً ؛ لما جرت عليه سيرة الصحابة الذين هم دعاة الدين ورعاته ، ولما اقرهم عليه الرسول العظيم صلى الله عليه وآله ، وبعد هذا
__________________
(٤٤١) ـ عبد القادر ، الشيخ محمد طاهر : تبرك الصحابة / ٥.
فلا يبقى ريب لأي متدبر منصف في ذلك ، بل يدرك المتأمل أنّ ذلك كان من شؤون الإيمان وعلائمه ، ومظاهر اليقين ومناهجه»(٤٤٢) .
نعم هذه سيرة المسلمين جرت على ذلك ، بل يقدسون ويتبركون بكل شيء له صلة بالدين والعقيدة ، كالعلماء والصلحاء ، ومن الشواهد على ذلك ما يلي :
١ ـ الشيخ الإمام السبكي ، وضع حر وجهه على باسط دار الحديث التي مستها قدم النواوي ؛ لينال بركة قدمه ، وينوّه بمزيد عظمته كما أشار إلى ذلك بقوله :
وفي دار الحديث لطيف معنى |
على بسط لها أصبو وآوي |
|
لعلِّي أن أنال بحرِّ وجهي |
مكاناً مَسّه قدم النواوي(٤٤٣) |
٢ ـ «وعاد الشيخ أبو إسحاق إلى بغداد في أقل من أربعة أشهر ، وناظر إمام الحرمين هناك ، فلما أراد الإنصراف من نيسابور ؛ خرج إمام الحرمين للوداع وأخذ بركابه حتى ركب أبو إسحاق ، فظهر له في خراسان منزلة عظيمة. وكانوا يأخذون التراب الذي وطئته بغلته فيتبركون به»(٤٤٤) .
٣ ـ «ولما مات ابن تيمية ؛ كان تشييه حافلاً حتى ضاقت الطريق لجنازته ، وانتهى إليها الناس من كل فج عميق ، واشتد الزحام ، وألقوا على نعشه مناديلهم وعمائمهم للتبرك وكسرت أعواد سريره ؛ لكثرة تعلق الناس به ، وشربوا ماء غسله للتيمن به ، لما اشرب في قلوبهم من حبه ، واشتروا
__________________
(٤٤٢) ـ الأحمدي ، الشيخ علي : التبرك / ١٣ ، ١٨.
(٤٤٣) ـ الفاكهي ، الشيخ عبد القادر : حسن التوسل (المطبوع بهامش كتاب) ـ الإتحاف يحب الأشراف / ٦٠.
(٤٤٤) ـ ابن خلطان ، أحمد بن محمد بن أبي بكر : وفيات الأعيان ، ج ٢ / ١٢٢.
ما زاد من سدره فقسموه بينهم. ويقال : أنّ الخيط الذي كان عليه الزيبق وعُلِّق على جسده لدفع القمل ، اشتروه بمأة وخمسين درهم»(٤٤٥) .
مما تقدم إتضح لنا ، أنّ العادة المألوفة بين المسلمين ، هي التبرك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآثاره في زمانه ، ولم يكن إستنكار منه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك ، ثم تطور ذلك إلى التقديس والتبرك والإستشفاء بتربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وتربة الحرم والشهداء ، حتى بتربة صهيب الرومي ، وكانت معروفة عند المسلمين في صدر الإسلام. بل تطور الأمر إلى التبرك بموضع أقدام الرجال ، من وضع حَرّ الوجه وتمريغ الجبين على تراب وطئته ، طلباً لليمن والبركة ، إذن فلا غرابة في تقديس الشيعة لتربة الحسين عليه السلام ، التي هي أطيب وأزكى وأطهر تربة ، لما حوته من أجساد أبناء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، الذين هم روحه ونفسه ، وبضعة منه ، ولحمه ودمه ، أيشك في ذلك أحد؟!.
دواعي التبرك والتقديس :
مما سبق يتضح لنا أنّ هناك دواعي للتبرك والتقديس ، نذكر منها ما يلي :
١ ـ إهتمام الباري عَزّ وجَلّ بهذه التربة الطاهرة ، حيث أرسل رسلاً من الملائكة فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقبضة منها ، فمن أجل ذلك يحترمها ويأخذها الشيعي ، للتبرك والإستشفاء بها ، والسجود عليها.
٢ ـ إنّ هذه التربة الشريفة ، التي أهداها الجليل عَزّ وجَلّ إلى نبيه الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، هدية غالية ، لجديرة بأن تُحترم وتُكَرّم إتباعاً لسنة الله تعالى.
٣ ـ إنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، لما تسلمها من جبريل عليه السلام ، قبّلها وأعطاها لأم سلمة (رض) ـ كما ورد في الروايات ـ فالشيعة يقبلونها عملاً بسنة
__________________
(٤٤٥) ـ ابن كثير ، عماد الدين إسماعيل بن عمر : البداية والنهاية ، ج ١٤ / ١٣٦ ـ ١٣٨.
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، كما أنهم يحفظونها ، تأسياً برسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث جعلها في قارورة وأعطاها أم سلمة. كما أنّ الإمام الصادق عليه السلام كان يضعها في خريطة ديباج صفراء ، لا يفتحها إلا وقت الصلاة للسجود عليها.
٤ ـ إنّ الشيعة يشمونها كما شَمّها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، كأغلى العطور والرياحين العطرة ؛ لأنّ شَمّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لها قبل أن يهراق دم الحسين عليه السلام ، إنما هو لعطور معنوية ، وعلاقات ربانية ، وعناية إلهية بالنسبة إليها.
ويقبلونها ؛ لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم قَبّلها ، ويسكبون عليها الدموع كما سكب دمعه ، إقتفاء لأثره ، وإتباعاً لسننه كما قال تعالى :( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) [الأحزاب / ٢١].
٥ ـ ورد عن أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام من الإهتمام بهذه التربة الطاهرة ، والتبرك بها في تحنيك الأطفال ، وتقبيلها ، ووضعها على العين ، وإمرارها على سائر الجسد ، والإستشفاء والتداوي بها(٤٤٦) .
٥ ـ خصائص التربة الحسينية :
المستفاد من الروايات المتقدمة ، أنّ لهذه التربة الشريفة عدة خصائص ، نذكر منها ما يلي :
١ ـ أنّها مقدّسة مباركة يجعلها الله أفضل أرض في الجنة ، وأفضل منزل ومسكن يسكن فيها أولياءه.
٢ ـ أنّ الله خلقها قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام ، وقدّسها وبارك عليها.
__________________
(٤٤٦) ـ استفدت ذلك من العلامة الحجة الشيخ علي الأحمدي ، في كتابه «السجود على الأرض» ـ المؤلف.
٣ ـ عَبّرت عنها الروايات بترعة من ترع الجنة ، وروضة من رياض الجنة ، وأنّها من بطحاء الجنة.
٤ ـ في رواية الإمام زين العابدين عليه السلام : (أنّه إذا زلزلت الأرض زلزالها وسيّرها ؛ رفعت كربلاء كما هي بتربتها النورانية صافية ، فجعلت في أفضل روضة من رياض الجنة ، وأنها لتزهر بين رياض الجنة ، كما يزهر الكوكب الدري ، يغشى أبصارها أهل الجنة ...).
٥ ـ إنّها حرم الله ؛ لما تضمنته من جسد سيد الشهداء وأهل بيته عليهم السلام ، وأنّ التربة المحيطة بقبر الحسين عليه السلام متفاوتة الفضيلة ، من عشرين ذراعاً إلى خمسة فراسخ ، وقد إختارها الله تعالى لمدفنه يوم دحى الأرض.
٦ ـ إنّ هذه التربة قد حملها كل ملك زار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهداها إليه. ففي الرواية : (أنّ كل ملك أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان معه شيء من تربة كربلاء ، وكل نبي زار كربلاء ، فقد قبض منها وشمها ومسّ جلده ترابها ؛ فهي مقام كل الأنبياء إلى يوم القيامة)(٤٤٧) .
٧ ـ قد دفن فيها قبل الحسين عليه السلام مائتا نبي ، ومائتا وصي ، ومائتا سبط كلهم شهداء ، كما في بعض الروايات(٤٤٨) .
٨ ـ زيارة الأنبياء والأوصياء لمكان إستشهاده في كربلاء قبل أن يقتل ، ومن لم يزرها فقد أسري به إليه ، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (اسري به في هذا الوقت إلى موضع من العراق يقال له كربلاء ، فأديت فيه مصرع الحسين ابني وجماعة من ولدي وأهل بيتي ، فلم أزل ألقط دماءهم فها هي في يدي ،
__________________
(٤٤٧) ـ المصدر السابق ، ج ٩٨ / ١١٦.
(٤٤٨) ـ المفيد ، الشيخ محمد بن محمد النعمان : الإرشاد ، ج ٢ / ١٣٠.
وبسطها إليّ فقال : خذيها واحتفظي بها ، فأخذتها فإذا هي شبة تراب أحمر ، فوضعته في قارورة وسددت رأسها)(٤٤٩) .
٩ ـ أنّ الحور العين تستهدي التربة الشريفة من الملائكة النازلين إلى الأرض للتبرك بها.
١٠ ـ إنّ الدفن فيها موجب لدفع العذاب ، والدخول في الجنة بغير حساب.
١١ ـ إنّ السجود عليها يخرق الحجب السبع.
١٢ ـ إنّ الله تعالى جعلها شفاء من كل داء.
١٣ ـ إنّ التسبيح والإستغفار بالسبحة المصنوعة منها ، موجب لمضاعفة الثواب ، وإنّ إدارتها من دون تسبيح يوجب ثواب التسبيح.
١٤ ـ إنّها حرز وأمان من المخاوف إذا حملها الإنسان بهذه النية.
١٥ ـ ورد في الحديث : (حنكوا أولادكم بتربة قبر الحسين عليه السلام فإنّها أمان).
١٦ ـ إنّ وضعها في المتاع موجب للبركة ، كما في بعض الروايات(٤٥٠) .
١٧ ـ إنّ هذه التربة قد إنقلبت دماً أينما كانت منذ انصباب دم الحسين عليه السلام ، بل تتحول في اليوم العاشر من المحرم في كل سنة.
١٨ ـ إنّ شَمّها موجب لإراقة الدموع ، وقد تحقق ذلك قبل مدفنه أيضاً بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام ، وعبروا عنها بريح كرب وبلاء.
١٩ ـ إنّها طيبة الرائحة تفوح كالمسك ، كما ورد في الروايات السابقة ، كما تفوح من قبره رائحة التفاح المهدى له من الجنة ، يجدها المخلص من شيعته ومواليه ، خصوصاً وقت السحر ، كما ورد في بعض الروايات(٤٥١) .
__________________
(٤٤٩) ـ المجلسي ، الشيخ محمد باقر : بحار الأنوار ، ج ٤٤ / ٢٣٦.
(٤٥٠) ـ نفس المصدر ، ج ٩٨ / ١٢٤.
(٤٥١) ـ نفس المصدر ، ج ٤٣ / ٢٩٠.
٢٠ ـ ورد إستحباب خلط الحنوط بتربتها الشريفة.
٢١ ـ ورد في الروايات أنّ لونها حمراء أو بيضاء.
٢٢ ـ إنّها من الأماكن التي يحب الله أن يعبد فيها ، كما جاء في حديث الإمام الهادي عليه السلام.
٢٣ ـ إستجابة الدعاء تحت قبة سيد الشهداء عليه السلام ، وهي من الأمور التي عَوّضه الله بها عن قتله.
٢٤ ـ يستحب وضعها مع الميت ، أمام وجه في القبر لرفع عذاب القبر.
هذه بعض خصائص التربة الحسينية ، وقد ذكر قسماً منها المحقق الشيخ جعفر التستري (قده) في كتابه القيم (الخصائص الحسينية).
٦ ـ المجاورة في كربلاء والأماكن المقدسة
تمهيد
١ ـ تعريف المجاورة
٢ ـ أقسام المجاورة
٣ ـ آداب المجاورة
٤ ـ أهداف المجاورة
تمهيد :
إقتضت الحكمة الإلهية ، أن تكون الأرض مجمعاً للخلائق ، ومحلاً لعبادته ؛ إذ فيها الأنبياء والأوصياء والملائكة ، فعلى هذا لها إرتباط بالقوى العلوية ، ومظاهر عالم الغيب ، وترتب على هذا ، أنّ لبعض البقاع مناسبة خاصة لجهة من جهات الغيب ، فكما أنّ ما بين القبر الشريف والمنبر روضة من رياض الجنة ، كذلك هناك بقاع بخلاف ذلك ، وبعد هذا يمكن تقسيم هذه البقاع إلى التالي :
أ ـ المؤتَفِكَات :
«قال البيضاوي : المؤتفكة : القرى التي إئتفكت بأهلها ؛ أي إنقلبت. وقال في النهاية ـ في حديث أنس ـ : البصرة إحدى المؤتفكات ؛ يعن أنّها غرقت مرتين فشبّه غرقها بانقلابها»(٤٥٢) . وبعد هذ التعريف ، تبين لنا أنّ هذه مواضع خسف ، وأنها من المواضع المغضوب عليها ، والتي ذكرها الفقهاء في الأماكن التي يكره الصلاة فيها ، وقد ذكرها السيد بحر العلوم (قده) في منظومته الفقهية :
وفي خصوص أربع مقررة |
وهن ضجنان ووادي الشقرة |
|
يتم في البيداء والصلاصل |
وقد يزداد خامس ببابل(٤٥٣) |
ويمكن إيضاح ما ذكره السيد بحر العلوم (قده) بما يلي :
__________________
(٤٥٢) ـ القمي ، الشيخ عباس : سفينة البحار ، ج ١ / ١٠٠.
(٤٥٣) ـ بحر العلوم ، السيد محمد مهدي : الدُرّة النجفية / ٩٨.
أولاً ـ في الروايات :
نَصّت بعض الروايات على كراهة الصلاة في هذه الأماكن ، نذكر منها التالي :
١ ـ عن معاوية بن عَمّار ، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال : (الصلاة تكره في ثلاثة مواضع من الطريق : البيداء ـ وهي ذات الجيش ـ ، وذاب الصلاصل ، وضجناان)(٤٥٤) .
٢ ـ محمد بن علي بن الحسين قال : (وروي أنّه لا يُصلّي في البيداء ، ولا ذات الصلاصل ، ولا وادي الشقرة ، ولا وادي ضجنان)(٤٥٥) .
ثانياً ـ التعريف بهذه الأماكن :
١ ـ ضَجْنَان :
ذكر الباحثون في تعريفها ما يلي :
أ ـ «قيل : جبيل على بريد من مكة ، وهناك الغَمِيم في أسفله مسجد صلّى فيه رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلّم ، وله ذكر في المغازي ، وقال الواقدي : بين ضَجْنَان ومكة خمسة وعشرون ميلاً ، وهي لأسلم وهذيل وغاضرة.
وقال أبو عبيد البكري : بفتح أوله وإسكان ثانيه على وزن فعلان : جبل بناحية مكة على طريق المدينة. قال ابن عباس : بعث رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ، أبا بكر بسورة براءة ، فلما بلغ أبو بكر ضجنان ، سمع بغام ناقة علي ثم يقول البكري : ويدلك أنّ بين ضجنان وقُدَيد ليلة ، قول مَعْبد
__________________
(٤٥٤) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد حسن : وسائل الشيعة ، ج ٥ / ١٥٥ (باب ٢٣ من أبواب مكان المصلى ـ حديث ٢).
(٤٥٥) ـ نفس المصدر / ١٥٦ (باب ٢٣ من أبواب مكان المصلي ـ حديث ٥).
ابن أبي مَعْبد الخزاعي ، وقد مَرّ برسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم في غزوة ذات الرّقاع :
قد نَفَرت من رِفْقَتي محمدِ |
وعَجَوةَ من يثرب كالعَنْجدِ |
|
تهوى على دين أبيها الا تلدِ |
قد جعلتْ ماء قُديدٍ موعدي |
وما ضَجْنَان لنا ضُحى الغدِ
قلت : وقوله : وفي أسفله مسجد. لا زال هناك بناء أدركتا بقاياه يستظل بها الإنسان ، وقد اندفن اليوم وكاد ينمحي ، قرب بئر المحسنية من الشمال يرى. ولا شك أنّه هو وقد أهمل واندثر. أما قول معبد : (وماء ضجنان لنا ضحى الغدِ). فإنّ صاحب المطية إذا راح من قديد ؛ يصل ضجناان ضحى الغد»(٤٥٦) .
ب ـ وذكر المقدم عاتق البلادي في معجمه : «حرة مستطيلة من الشرق إلى الغرب ، وينقسم عنها سيل وادي الهَدَةَ ويمرّ بها من مكة إلى المدينة بنعَفِها(٤٥٧) . الغربي على (٥٤) كيلاً ، ويعرف هذا النعف اليوم بخشم المُحْسِنيِّة وكذلك حرة المُحْسِنيِّة ، ولها نعف آخر ينقص شمالاً غربياً يغطيه الرمل ، ذلك هو ما كان يسمى كُرَاعَ الغَميم ويسمى اليوم بَرقاء الغَميم ، أما سبب تسميتها بالمُحْسِنيِّة ؛ فهو أنّ الشريف محسن بن الحسين بن حسن بن أبي نُمَيّ أمير الحجاز ، المتوفى سنة ١٠٣٨ هـ قد بلغه أن خلقاً من الحجاج ماتوا عطشاً في تلك الصحراء التي لا يوجد فيها ماء ، فأمر بحفر بئر سميت (البئر المحسنية) لا زالت تورد ، فأخذت المنطقة إسمها من ذلك»(٤٥٨) .
__________________
(٤٥٦) ـ البلادي ، المقدم عاتق بن غيث : معجم معالم الحجاز ، ج ٥ / ١٩٠ ـ ١٩١.
(٤٥٧) ـ النُّعْف أو النَّعْف : ما ارتفع عن الوادي إلى الأرض وليس بالغليظ. وقيل : ما انحدر عن السطح وغلظ ، وكان فيه صعود وهبوط ، راجع الإفصاح في فقه اللغة ، ج ٢ / ١٠٢٦.
(٤٥٨) ـ البلادي ، المقدّم عاتق بن غيث : معالم مكة التأريخية والأثرية / ١٥٩.
«وكان ضجناان من ديار لحيان من هذيل ، وربما شركتهم فيه خزاعة. أما اليوم فهو من ديار حرب لبني بشر منهم خاصة. غير أنّ ملكية الأرض كانت في عهد ما قبل الدولة السعودية للأشراف ذوي عمرو ، وهم فرع من بني بركات بن أبي نُمَيّ ، ثم صدر قانون الأراضي البور فجعل كل ما ليس حياً مشاعاً»(٤٥٩) .
ج ـ وذكر السيد محمد صالح البحراني في نمارقه : «جبل بناحية مكة ، أهلك الله فيه قوم لوط ، فهو وادٍ من أودية جهنم»(٤٦٠) .
وبعد ذكر هذه التعريفات ؛ نخرج بالنتيجة التالية :
إنّ ما ذكره المُقدّم عاتق البلادي أدق من غيره ، وأقرب إلى الصواب ؛ لأنّه من أدباء مكة المكرمة ، وقد قام بجولات ميدانية لتلك الأماكن ، واعتمد فيها على أهل تلك البقاع في تحديدها ، وذكر أسمائها إلى الوقت الحاضر.
وأما ما ذكره السيد محمد صالح البحراني ؛ فمجمل لا يفيدنا في تحديد الموضع الذي ذكرناه ، إلا أنه تعريف مختصر لما جاء في التاريخ والروايات ؛ حيث جاء في رواية علي بن المغيرة قال : (نزل أبو جعفر عليه السلام في ضجنان ـ وذكر حديثاً يقول في آخره ـ : وإنّه ليقال : إنّ هذا وادٍ من أودية جهنم)(٤٦١) . وقال صاحب الجواهر (قده) : «وضجنان : وادٍ أهلك الله فيه قوم لوط»(٤٦٢) .
__________________
(٤٥٩) ـ المصدر السابق / ١٦٠.
(٤٦٠) ـ البحراني ، السيد محمد صالح الموسوي : النمارق الفاخرة إلى طرائق الآخرة ، ج ٣ / ٨٤.
(٤٦١) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد حسن : وسائل الشيعة ، ج ٥ / ١٥٧.
(٤٦٢) ـ النجفي ، الشيخ محمد حسن : جواهر الكلام / ج ٨ / ٣٤٩.
٢ ـ وادي الشُقْرَة :
عُرِّف هذا الوادي بما يلي :
أ ـ قال السمهودي : «موضع بطريق فَيْد ، بين جبال حمر ، على ثمانية عشر ميلاً من النخيل ، وعلى يوم من بئر السائب ، ويومين من المدينة ، إنتهى إليه بعض المنهزمين يوم أحد ـ كما رواه البيهقي ـ ومنه قطع كثير من خشب الدوم لعمارة المسجد النبوي بعد الحريق»(٤٦٣) .
ب ـ وقال السيد محمد صالح البحراني : «وهو موضع بطريق مكة فيه شقائق النعمان ، وفيه منازل الجن»(٤٦٤) .
وبعد ذكر هذين التعريفين نستنتج ما يلي :
أولاً ـ قال السمهودي : «بئر السائب : بالطريق النجدي على أربعة وعشرين ميلاً من المدينة ، وبينهما وبين الشُقْرة مثل ذلك ، وبها قَصْر وعمائر وسوق ، وسميت بذلك ؛ لأن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه حفرها للناس ، ويقال ، لواديها العرنية ، سَيْلَه يمضي منها فيدفع في الأعواض ، ثم قناة ، والجبل المشرف على بئر السائب يقال له : شباع ، ذكر أهل البادية : «أنّ إبراهيم صلى الله عليه (وآله) وسلّم كان قد نزل في أعلاه قاله الأسدي»(٤٦٥) .
ثانياً ـ جاء في رواية عَمّار الساباطي قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : (لا تصلِّ في وادي الشقرة ، فإن فيه منازل الجن)(٤٦٦) . وقال الشيخ ابن إدريس (قده) :
__________________
(٤٦٣) ـ السمهودي ، نور الدين علي بن أحمد : وفاء الوفاء ، ج ٤ / ١٢٤٥.
(٤٦٤) ـ البحراني ، السيد محمد صالح الموسوي : النمارق الفاخرة إلى طرائق الآخرة ، ج ٣ / ٨٤.
(٤٦٥) ـ السمهودي ، نور الدين علي بن أحمد : وفاء الوفاء ، ج ٤ / ١١٣٨ ـ ١١٣٩.
(٤٦٤) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد حسن : وسائل الشيعة ، ج ٥ / ١٥٨. (الباب ٢٦ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٢).
«والأولى عندي أنّ وادي الشقرة : موضع بعينه مخصوص ، سواء كان في شقائق النعمان أو لم يكن ، وليس كل وادي فيه شقائق النعمان يكره الصلاة فيه ، بل بالموضع المخصوص فحسب ، وهو بطريق مكة ؛ لأنّ أصحابنا قالوا : يكره الصلاة في طريق مكة بأربعة مواضع ، ومن جملتها وادي الشقرة»(٤٦٧) . وقال صاحب الجواهر (قده) : «بل يؤيده أيضاً تعليل الصادق (عليه السلام) ، النهي عن الصلاة فيه في موثق عَمّار (بأنّ فيه منازل الجن) ، اللهم إلا أن يكون المراد أنهم ينزلون في كل مكان فيه شقائق النعمان ، وهو المراد من وادي الشقرة ، كما عن بعض أصحابنا ، ويؤيده التسامح في أمر الكراهة ، وظهور كون السبب مشغولية القلب ، لكن يمكن كونه المكان المخصوص ، وإن قلنا بعموم الكراهة لذلك ، والأمر سهل»(٤٦٨) .
٣ ـ البَيْدَاء :
ذكرها المؤرخون والباحثون بالتعاريف التالية :
ـ قال ياقوت : «إسم لأرض ملساء بين مكة والمدينة ، وهي إلى مكة أقرب ، تُعدُّ من الشّرَف أمام ذي الحليفة» (٤٦٩). وبعد هذا التعريف عَلّق المقدّم عاتق البلادي : «وفيما تقدم خلط من ياقوت رحمه الله ، وإلا كيف تكون البيداء إلى مكة أقرب ، ثم تعد من الشّرَف أمام ذي الحليفة ، الذي هو حد حرم المدينة؟»(٤٧٠) .
__________________
(٤٦٧) ـ ابن إدريس ، الشيخ أبو جعفر محمد بن منصور : كتاب السرائر ، ج ١ / ٤٦٥.
(٤٦٨) ـ النجفي ، الشيخ محمد حسن : جواهر الكلام ، ج ٨ / ٣٥٠ ـ ٣٥١.
(٤٦٩) ـ الحموي ، ياقوت : معجم البلدان ، ج ١ / ٥٢٣.
(٤٧٠) ـ البلادي ، المقدّم عاتق بن غيث : معجم معالم الحجاز ، ج ١ / ٢٦٤.
ـ وقال المقدم عاتق البلادي : «هي تلك الأرض الجرداء التي تخرج فيها من ذي الحُلَيْفَة جنوباً ، ولم تعد اليوم جرداء ، فقد أنشئت فيها عمائر : إحداها لمعهدٍ تابع لوزارة المعارف ، وبعض معسكرات في طرفها الشمالي ، وستدخل حتماً في عمران المدينة»(٤٧١) .
وقال أيضاً : «ومن يرى البيداء وذا الحليفة على الطبيعة ؛ يعرف أنّ ذا الحليفة يقع في طرف البيداء مما يلي المدينة»(٤٧٢) . وقال السيد أحمد الخيّاري : «وهي صحراء واسعة تقع في الجنوب الغربي من المدينة المنورة ، على بُعد تسعة كيلومترات تقريباً ، البيداء لا ينبت فيها الشجر. والبيداء يفصلها الطريق المؤدي إلى جدة ومكة المكرمة إلى قسمين : جنوبي وشمالي ، وأول البيداء عند آخر ذي الحليفة (المحرم) ، ونهايتها عند الجبال التي خلف محطة (الترنك) التليفون»(٤٧٣) . وقال السيد محمد صالح البحراني : «موضع على ميل من ذي الحليفة مما يلي مكة دون الحفيرة بثلاثة أميال ، يُخْسَف فيها بجيش السفياني ، وتسمى بذات الجيش»(٤٧٤) . وبعد ذكر هذه التعاريف ، نذكر التعريف الذي ذكرته الروايات ، وأهمها رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : قلت لأبي الحسين عليه السلام : (إنّا كنّا في البيداء في آخر الليل ، فتوضأت واستكت ، وأنا أهِمّ بالصلاة ثم كأنّه دخل قلبي شيء ، فهل يُصلّى في البيداء في المحمل؟ فقال : لا تصلّ في البيداء. فقلت : وأين حَدّ البيداء؟ فقال : كان جعفر عليه السلام إذا بلغ ذات الجيش جَدّ في السير ، ثم
__________________
(٤٧١) ـ المصدر السابق / ٢٦٣.
(٤٧٢) ـ نفس المصدر / ٢٦٥.
(٤٧٣) ـ الخيّاري ، السيد أحمد ياسين : تاريخ معالم المدينة المنورة / ٢٤٠.
(٤٧٤) ـ البحراني ، السيد محمد صالح الموسوي : النمارق الفاخرة ، ج ٣ / ٨٤.
لا يصلي حتى يأتي مُعَرّس النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قلت : وأين ذات الجيش؟ فقال : دون الحفيرة بثلاثة أميال)(٤٧٥) .
إيضاح وبيان :
أ ـ مُعَرّس النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
ذكر المقدّم عاتق البلادي في معجمه : «قال ياقوت : مسجد ذي الحُلَيْفَة : على ستة أميال من المدينة ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُعرِّس ثم يرحل لغزاة أو غيرها ، والتَعرِّس : نومة المسافر بعد إدلاجه من الليل ، فإذا كان وقت السحر أناخ ونام نومة خفيفة ، ثم يثور من إنفجار الصبح لوجهته. قلت : وهي بلدة ذي الحليفة ميقات أهل المدينة ومن مَرّ بها ، على (٩ أكيال) جنوب المدينة على طريق مكة ، وتعرف ببيار علي»(٤٧٦) .
ب ـ الحُفَيرَة :
قال المقدم عاتق البلادي : «حَفِير ، بالفتح ثم الكسر : وهو القبر في اللغة. قال ياقوت : وهو موضع بين مكة والمدينة ، قال :
لسلامة دار الحفير كبا |
في الخلق والسحق ، قفار |
الحُفَير : بلفظ التصغير أيضاً ، قال : ياقوت : منزل بين ذي الحُلَيْفَة ومَلَل يسلكه الحاج. وقد تقدم باسم الحَفِير غير مصغر»(٤٧٧) .
__________________
(٤٧٥) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن الحسن : وسائل الشيعة ، ج ٥ / ١٥٥ (باب من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ١).
(٤٧٦) ـ البلادي ، المقدم عاتق بن غيث : معجم معالم الحجاز ، ج ٨ / ١٩٥.
(٤٧٧) ـ نفس المصدر ، ج ٣ / ٣٥ ـ ٣٦.
أقول : ما ذكره المقدم عاتق البلادي تصحيف للحفيرة ، ويؤيد ذلك ما ذكره السمهودي : «وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد الأسدي ، في وصف الطريق بين مكة والمدينة : إنّ من ذي الحُلَيْفَة إلى الحفيرة ستة أميال»(٤٧٨) .
وبعد دراسة ما تقدم ؛ نخرج بالنتيجة التالية :
مما تقدم نستفيد أنّ الروايات ذكرت البيداء وعَبّرَت عنها ذات الجيش ، ومهما إختلف الأسماء وطرأت عليها تصحيفات في تسميتها على مَرّ العصور ، إلا أنّ البقعة المذكورة في الروايات محددة على نحو الإجمال ، ومعروفة وإن كان تحديدها غير دقيق.
٤ ـ صُلاصُل :
ذكر الباحثون في تعريفها ما يلي :
قال السيد أحمد الخيّاري : «صُلصل يبدأ على بُعد سبعة أميال من المدينة المنورة ، ويقال فيه صُلصلان بالتثنية إذا قطعت ميلاً من البيداء التي بعد المحرم (آبار علي) ، فهناك صلصل يبدأ وبه نزول التميم على الراجح من القول»(٤٧٩) .
وقال المقدم عاتق البلادي : «صُلْصُل : هو الحزم الذي تطؤه بعد ذي الحليفة على طريق مكة قبل مفرجات (ذات الجيش) ، ويسمى أيضاً صمد الظمأ»(٤٨٠) .
__________________
(٤٧٨) ـ السمهودي ، نور الدين علي بن أحمد : وفاء الوفاء ، ج ١ / ٩٩.
(٤٧٩) ـ الخيّاري ، السيد أحمد ياسين : تاريخ معالم المدينة المنورة / ٢٤٠.
(٤٨٠) ـ البلادي ، المقدم عاتق بن غيث : معجم معالم الحجاز ، ج ٥ / ١٦٠.
وقال أيضاً : «مُفَرِّحَات : ريمان جنوب المدينة على (٢٤ كيلاً يأخذها طريق مكة ، ترى منها منائر المدينة المنورة. فسموها كذلك لفرحهم عند وصولها برؤية المدينة ، يَنقضّ منها شمالاً شرقياً وادي ذات الجيش الذي يعرف اليوم باسم الشّلَبيّة ، وجنوباً وادي تربان إلى مَلَل»(٤٨١) .
وقال السيد محمد صالح البحراني : «ذات الصلاصل : وهي أرض إختلط رملها بالطين وله صلصلة ؛ موضع بين الحرمين. وقيل : هو اسم الذي أهلك الله فيه النمرود»(٤٨٢) .
وبعد ذكر هذه التعريفات ؛ نستنتج ما يلي :
أولاً ـ عَبّر الباحثون الحجازيون عن (صُلاصُل) بـ(صُلصُل ، وصُلصُلان) وهذا لا يُغير الواقع ؛ إذ حدوث مثل التصحيفات وطلب الخفة وكثرة إستعمال الكلمة كثير في أسماء البقاع ، المهم أنّ الجميع يتفق على حدود البقعة ولو على نحو الإجمال.
ثانياً ـ الملاحظ أنّ المقدم عاتق البلادي ، تارة يُعبر عن (ذات الجيش) بالمُفرّحات ، وتارة يُعبّر عن وادي ذات الجيش بـ(الشَّلَبيَّة). وعَرّف الشَّلَبِيَّة بـ : «تلعة كبيرة شبة وادٍ ، وكانت تعرف بذات الجيش تسيل من ثنايا مفرحات شرقاً ، فتدفع في أبي كَببِير أحد روافد عقيق المدينة من الغرب ، يمر الطريق إلى مكة في قسم منها ، وهناك قرب الطريق (بئر جابر) ربما تكون هي (الحَفِير)
__________________
(٤٨١) ـ المصدر السابق ، ج ٨ / ٢١٩ ـ ٢٢٠.
(٤٨٢) ـ البحراني ، السيد محمد صالح الموسوي : النمارق الفاخرة ، ج ٣ / ٨٤.
ورأس الشَّلَبِيَّة ريع المنجور أحد ثنايا مفرحات ، ويقاسمها الماء من الجهة الأخرى وادي تربان ، فيذهب إلى مَلَل»(٤٨٣) .
والمتأمل في كلامه كأنّما يفرِّق بين ذات الجيش ، ومُفرِّحات ، ووادي ذات الجيش «الشَّلَبِيَّة» ، ومن تأمل ذلك لاحظ أنهما تحديدات لمنطقة واسعة خلاصتها : أنّ البيداء وذات الجيش والشَّلَبِيَّة والمُفَرِّحَات أسماء لهذه البقعة لا أنها مختلفة ومتغايرة ، ومن الشواهد على هذه الدعوى ما يلي :
قال السمهودي : «وقال المطري : هي وسط البيداء ، والبيداء هي التي إذا رَحَل الحُجّاج من ذي الحُلَيْفَة استقبلوها مُصْعِدين إلى جهة الغرب ، وهي على جادة الطريق»(٤٨٤) . ـ إلى أن قال ـ : «وهو موافق لقول من قال : ذات الجيش وادٍ بين ذي الحليفة وتربان : فأطلق اسمها على الوادي التي هي فيه»(٤٨٥) .
ثالثاً ـ ما ذكره السيد محمد صالح البحراني من الترعيف ؛ يلاحظ عليه ما يلي :
١ ـ «ذات الصلاصل : وهي أرض إختلط رملها بالطين وله صلصلة» إنّ هذا التعريف سبقه به صاحب السرائر والمنتهى والشهيد. قال صاحب الجواهر (قده) : «فما عن السرائر والمنتهى من تفسير ذات الصلاصل بأنّها : الأرض لها صوت ودوي. وعن الشهيد من أنّه : الطين الحر المخلوط بالرمل ، فصار صلصالاً إذا جَفّ ؛ أي يصوت. إن كان المراد به التعميم لكل أرض كذلك فلا يخلو من إشكال أو منع ، وإن كان المراد به وجه المناسبة ، وبيان الأصل فلا بأس به»(٤٨٦) .
__________________
(٤٨٣) ـ البلادي ، المقدم عاتق بن غيث : معجم معالم الحجاز ، ج ٥ / ٨٨ ـ ٨٩.
(٤٨٤) ـ السمهودي ، نور الدين علي بن أحمد : وفاء الوفاء ، ج ١ / ٩٨.
(٤٨٥) ـ نفس المصدر / ٩٩.
(٤٨٦) ـ النجفي ، الشيخ محمد حسن : جواهر الكلام ، ج ٨ / ٣٥٠.
٢ ـ وقيل : «هو اسم الذي أهلك الله فيه النمرود». أخذ هذه العبارة من صاحب الجواهر (قده) وهي قوله : «بل قيل : إنّ ذات الصلاصل إسم الموضع الذي أهلك الله فيه النمرود»(٤٨٧) . وهذا قول مجهول قائله ، ولم يعرف مستنده ودليله؟
٥ ـ بَابِل :
«مدينة قديمة في أواسط ما بين النهرين ، تقع أنقاضها على الفرات ، قرب الحِلّة على مسافة (٨٠ كم) ، جنوب شرق بغداد»(٤٨٨) . إمتنع أمير المؤمنين عليه السلام عن الصلاة فيها لما مَرّ بها في طريقه إلى النهروان حتى قطعها ، فغابت الشمس ، فدعا لاله فرجعت الشمس إلى موضعها وقت الصلاة ، وأدى الصلاة فغابت.
ويضاف إلى هذه البقاع (بَرَهُوت) :
قال الحموي : «بَرَهُوت : بضم الهاء ، وسكون الواو وتاء فوقها نقطتان : وادٍ باليمن يوضع فيه أرواح الكفار. وقيل : برهوت بئر بحضر موت. وقيل هو السم للبلد الذي فيه هذه البئر وروي عن علي رضي الله عنه ـ أنّه قال : (أبغض بقعة في الأرض إلى الله عَزَ وجَلّ وادي برهوت بحضر موت ، فيه أرواح الكفار ، وفيه بئر ماؤها أسود منتن تأوي إليه أرواح الكفار) ، وعنه أنّه قال : (شَرُّ بئرٍ في الأرض بئر بلهوت في برهوت ، تجتمع فيه أرواح الكفار)»(٤٨٩) .
ب ـ المرحومات :
وهي البقاع التي ورد مدحها كما في الروايات التالية :
__________________
(٤٨٧) ـ المصدر السابق.
(٤٨٨) ـ اليسوعي ، فردينان توتل : المنجد في الأعلام / ١٠٦.
(٤٨٩) ـ الحموي ، شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت : معجم البلدان ، ج ١ ، ٤٠٥.
١ ـ عن أبي هاشم الجعفري ، عن أبي الحسن الثالث عليه السلام : (إنّ الله عَزّ وجَلّ جعل من أرضه بقاعاً تسمى المرحومات ، أحبّ أن يدعى فيها فيجيب ، وإنّ الله عَزّ وجَلّ جعل من أرضه بقاعاً تسمى المنتقمات ، فإذا كسب رجل مالاً غير حِلّه ؛ سَلّط عليه بقعة منها فأنفقه فيها)(٤٩٠) .
٢ ـ عبد الله بن بكير ـ في حديث طويل ـ قال : قال أبو عبد الله : (يا ابن بكير ، إنّ الله إختار من بقاع الأرض ستة : البيت الحرام ، والحرم ، ومقابر الأنبياء ، ومقابر الأوصياء ، ومقاتل الشهداء ، والمساجد التي يذكر فيها اسم الله)(٤٩١) .
وبعد هذا التمهيد ؛ إتضحت لنا البقاع المعروفة بالقداسة والطهارة ، وأنّها خير مكان للعبادة واستجابة الدعاء ؛ ولذا نرى جمعاً من العلماء ، يسكنون هذه البقاع طلباً للبركة ، والوسيلة إلى الله عَزّ وجَلّ ، بل هذه سيرة المسلمين منذ بداية العصر الإسلامي إلى يومنا هذا ، فقد إعتنى المسلمون بمسألة المجاورة في إحدى هذه البقاع : مكة المكرمة ، والمدينة المنورة ـ وهي محل إتفاق بين المسلمين ـ ، والنجف الأرض ، والكوفة ، وكربلاء ، وطوس وقم ، وباقي مراقد الأئمة عليهم السلام ، عند الإمامية ، وسيتم بحث مسألة المجاورة حسب التفاصيل الآتية :
١ ـ تعريف المجاورة :
جَاوَرَ مُجَاوَرَة وجوَاراً وجُوَاراً : أقام قرب مسكنه ، ساكنه ، والمسجد إعتكف فيه.
__________________
(٤٩٠) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد حسن : وسائل الشيعة ، ج ٣ / ٥٧٠ (باب ٨ من أبواب أحكام المساكن ـ حديث ٣).
(٤٩١) ـ المجلسي ، الشيخ محمد باقر : بحار الأنوار ، ج ٩٨ / ٦٦.
وجَارَ جوَاراً : طلب أن يجار ؛ أي يغاث. وأجار فلاناً : أغاثه(٤٩٢) .
«وفي الدعاء : (يا مَنْ يُجيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) ؛ أي ينقذ من هرب إليه ولا يُنقذ أحدٌ ممن هرب منه. وأجاره الله من العذاب ؛ أنقذه. و (المستجار) من البيت الحرام : هو الحائط المقابل للباب دون الركن اليماني ؛ لأنّه كان قبل تجديد البيت هو الباب ، سمي بذلك ؛ لأنّه يستجار عنده بالله من النار»(٤٩٣) .
وفي دعاء الإمام السجاد : «واجعل في ذلك اليوم مع أوليائك موقفي ، وفي أحبائك مصدري ، وفي جوَارِك مسكني ، يا رب العالمين ». والمراد بجواره تعالى حضرته المقدسة التي ليست بمكان ولا زمان ، بل هي قرب معنوي وعِنْدِيّه روحانية ؛ وهي المشار إليها بقوله تعالى :( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ) (٤٩٤) ، ويُعبر عنها بالجنة النورانية الروحانية. وختم الدعاء بقوله عليه السلام : (يا رَبَّ الْعالَمينَ) ؛ أي مالك أمرهم ومبلغهم إلى كمالهم اللائق لمزيد إستدعاء الإجابة ، فإنّ من كان ذلك شأنه وصفته ؛ كان من شأنه إفاضة ما فيه صلاح المربوب ، حتى ينتهي به إلى أقصى غاية الكمال ، وأشرف المراتب والأحوال والله أعلم»(٤٩٥) .
وبعد عرض ما تقدم من معنى المجاورة لغة ، وما ترتب على ذلك من الشواهد القرآنية ؛ تبين لنا أنّ النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأهل بيته الكرام عليهم السلام ، هم أقرب الخلق وأفضلهم لديه ، وهم وسيلتنا إليه كما قال تعالى :( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ
__________________
(٤٩٢) ـ اليسوعي ، لويس معلوف : المنجد في اللغة / ١٠٩.
(٤٩٣) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٣ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.
(٤٩٤) ـ القمر / ٥٥.
(٤٩٥) ـ المدني ، السيد علي خان : رياض السالكين ، ج ٧ / ٤١٠.
الْوَسِيلَةَ ) [المائدة / ٣٥]. ومن مصاديق الوسيلة والقرب إلى الله مودتهم وموالاتهم ، ففي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام : (يا عليّ ، من أحبّك وتولّاك أسكنه الله معنا في الجنة. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ) (٤٩٦) [القمر / ٥٤ ـ ٥٥]. ومن أهم مصاديق الوسيلة مجاورتهم في تلك البقاع الطاهرة ، وبعد هذا التوضيح يمكن تعريف المجاورة بما يلي :
هي سكنى البقاع المقدسة ، والمراقد الطاهرة ، أو الدفن فيها ، طلباً للنجاة والأمان في الدنيا والبرزخ والآخرة.
٢ ـ أقسام المجاورة :
يمكن تقسيم المجاورة إلى قسمين كالتالي :
القسم الأول ـ سكنى البقعة المقدسة :
إعتنى المسلمون بهذا القسم من المجاورة ، إعتماداً على بعض الروايات التي حثت على سكنى هذه البقاع ، لما فيها من القداسة حسب التفصيل الآتي :
أ ـ عند العامة :
بحث علماء العامة هذه المسألة ، وجعلوا موضوعها مكة المكرمة ، والمدينة المنورة ، كما في الأقوال التالية :
الأولى ـ كراهة سكنى مكة :
ذهب الشعبي ، وعبد الرزاق ، وغيرهما ـ كما في وفاء الوفاء ـ إلى ما يلي :
__________________
(٤٩٦) ـ البحراني ، السيد هاشم : البرهان في تفسير القرآن ، ج ٧ / ٣٨٠.
«وعن الشعبي أنّه كان يكره المقام بمكة ويقول : هي دار أعرابية هاجر منها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلّم ـ ، وقال : ألا يفتي حبيب نفسه يجاور مكة ، وهي دار اعرابية. وقال عبد الرزاق في مصنفه : كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلّم ـ يحجون ثم يرجعون ، يعتمرون ثم يرجعون ولا يجاورون»(٤٩٧) .
الثاني ـ كراهة سكنى مكة والمدينة :
نسب هذا القول إلى النووي في شرح مسلم ـ كما ذكر السمهودي ـ : «لكن إقتضى كلام النووي في شرح مسلم حكاية الخلاف فيها ، وكأنّه قاس المدينة على مكة من حيث إنّ عِلّة الكراهية ـ وهي خوف الملل وقلّة الحرمة للأنس وخوف ملابسة الذنوب ؛ لأنّ الذنب بها أقبح ـ نحوه موجود في المدينة ، ولهذا قال : المختار أن المجاورة بهما جميعاً مستحبة ، إلا أن يغلب على ظنه الوقوع في المحذورات المذكورة»(٤٩٨) .
الثالث ـ إستحباب سكنى المدينة :
قال السمهودي : «وبالجملة فالترغيب في الموت في المدينة لم يثبت مثله لغيرها ، والسكنى بها وصلة إليه ؛ فيكون ترغيباً في سكناها تفضيلاً لها على غيرها ، وإختيار سكناها ، هو المعروف من حال السلف ، ولا شك أنّ الإقامة بالمدينة في حياته ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أفضل إجماعاً ، فنستصحب ذلك بعد وفاته ، حتى يثبت إجماع مثله يرفعه»(٤٩٩) .
__________________
(٤٩٧) ـ السمهودي ، نور الدين علي بن احمد : وفاء الوفاء ، ج ١ / ٥٠.
(٤٩٨) ـ نفس المصدر / ٥١.
(٤٩٩) ـ نفس المصدر ، ج ١ / ٥٠.
وقال الزركشي : «إنّ الظاهر ضعف الخلاف في المدينة ؛ أي لما قدمناه من الترغيب فيها ؛ ولأنّ كل من كره المجاورة بمكة ، إستدل بترك الصحابة الجوار بها ، بخلاف المدينة فكانوا يحرصون على الإقامة بها ـ إلى أن قال ـ وهذا كله متضمن للحث على سكنى المدينة ، وتفضيله على سكنى مكة ـ وهي جدير بذلك ـ ؛ لأنّ الله تعالى إختارها لنبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلّم ـ قراراً ، وجعل أهلها شيعة له وأنصاراً ، وكانت لهم أوطاناً ، ولو لم يكن إلا جواره (صلى الله عليه وآله وسلم) بها ، وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : (ما زال جبريل يوصيني بالاجر) الحديث ولم يخصّ جاراً دون جار ، ولا يخرج أحد عن حكم الجار وإن جار ؛ ولهذا إخترتُ تفضيل سكناها على مكة ، مع تسليم مزيد المضاعفة لمكة ؛ إذ جهة الفضل غير منحصرة في ذلك ، فتلك لها مزية العدد ، ولهذه تضاعف البركة والمدد ، ولتلك جوار بيت الله ، ولهذه جوار حبيب الله وأكرم الخلق على الله ، وسرّ الوجود والبركة الشاملة لكل موجود»(٥٠٠) .
ب ـ عند الإمامية :
إنّ عنوان المجاورة عند الشيعة الإمامية أوسع من غيرهم ؛ حيث يشمل مكة المكرمة ، والمدينة المنورة ، وباقي البقاع المقدسة ، وقد بحثها الفقهاء كالتالي :
١ ـ مكة المكرمة :
إختلف الفقهاء في المجاورة بمكة المكرمة على قولين :
الأول ـ الإستحباب :
قال الفاضل المقداد (قده) : «والأصح إستحباب المجاورة بها للواثق من نفسه بعدم هذه المحذورات ، وبه يجمع بين الروايات الدالة على الإستحباب
__________________
(٥٠٠) ـ المصدر السابق / ٥٢.
والكراهية. وفهم من قال : إن جاور للعبادة استحبت ، وإن جاور للتجارة كره ، وهو جمع حسن بين الروايات»(٥٠١) .
وقال الشهيد الثاني (قده) : «وهذه الأخبار تدل على إستحباب الإقامة فيتعارض الأخبار ظاهراً ، وجمع الشهيد (رحمه الله) ، وجماعة بينها بحمل الكراهية على من لا يأمن وقوع لهذه المحذورات منه ، والإستحباب للواثق من نفسه بعدمها. ويشكل بأنّ بعضها غير إختياري ، كالتأسي بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ، وكونه أخرج منها كرهاً. وجمع آخرون بحمل الأخبار الأخيرة على المجاورة لأجل العبادة ، والأولى على المجاورة لا لها كالتجارة.
وهو حسن مع الوثوق بعدم الملل والإحترام ، وملابسة الذنب ونحوه»(٥٠٢) .
الثاني ـ الكراهة :
قال الفاضل المقداد (قده) : «هنا سؤال : مكة أشرف البقاع لتظافر الروايات بذلك ، فلا يتناسب كراهة المجاورة بها؟
جواب : الكراهية ليست باعتبار نفس المجاورة بل بإعتبار آخر ، وذُكِرَ وجوه :
١ ـ خوف الملالة وقلّة الإحترام.
٢ ـ حذر ملابسة الذنب ، فإنّ الذنب بها أعظم ، قال الصادق (عليه السلام) : (كل الظلم فيه إلحاد حتى ضرب الخادم) ، قال : ولذلك كره الفقهاء سكنى مكة.
__________________
(٥٠١) ـ السيوري ، الشيخ مقداد بن عبد الله : التنقيح الرّائع لمختصر الشرائع ، ج ١ / ٥٢١.
(٥٠٢) ـ الشهيد الثاني ، الشيخ زين الدين بن علي العاملي : مسالك الأفهام ، ج ٢ / ٣٨٠.
٣ ـ ليدوم شوقه إليها أشرع خروجه منها ، ولهذا ينبغي الخروج منها عند قضاء المناسك.
٤ ـ روي أن المقام بها يقسي القلب(٥٠٣) .
وقال الشهيد الثاني (قده) : ـ شارحاً عبارة الشرائع ـ «ويكره المجاورة بمكة» ـ بمعنى الإقامة بها بعد قضاء المناسك وإن لم يكن سنة ، وكلاهما مروي في الصحيح ، ومع الثاني أنّه المتعارف ، وقد عُلّل ذلك بوجوه كلها مروية :
الأول ـ أنّ المقام بها يقسي القلب ، رواه الصدوق في العلل ـ عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : (إذا قضى أحدكم نسكه ؛ فليركب راحلته وليلحق بأهله ، فإنّ المقام بمكة يقسي القلب).
الثاني ـ مضاعفة العذاب بسبب ملابسة الذنب فهيا ، فقد روي فيه أيضاً بإسناده إلى أبي الصباح الكناني ، قال : (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عَزّ وجَلّ :( وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) (٥٠٤) . فقال (عليه السلام) : كل ظلم يظلم فيه الرجل نفسه من سرقة ، أو ظلم أحد ، أو شيء من الظلم فإني أراه إلحاداً حتى ضرب الخادم ، ولذلك كان ينهى أن يسكن الحرم)/.
الثالث ـ خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) منها قهراً وعدم عوده إليها إلا للنسك ، وإسراعه الخروج منها حين عاد ، روى ذلك أيضاً عنه (عليه السلام) : (أنّه كره المقام بمكة ، وذلك أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله
__________________
(٥٠٣) ـ السيوري ، الشيخ مقداد بن عبد الله : التنقيح الرائع لمختصر الشرائع ، ج ١ / ٥٢٠ ـ ٥٢١.
(٥٠٤) ـ الحج / ٢٥.
وسلّم) أخرج عنها ، ويقسو قلبه حتى يأتي في غيرها) وروى محمد بن مسلم ، عن الباقر (عليه السلام) قال : (لا ينبغي للرجل أن يقيم بمكة سنة ، قلت : كيف أصنع؟ قال : يتحول عنها إلى غيرها).
وعلل أيضاً بخوف الملالة وقلّة الإحترام ، وليدون شوقه إليها ، وهو منقوض بالمدينة ، فإنّ المجاورة بها مستحبة مع وجود العلل فيها؟ إلا أن يقال : إنّ ذلك في مكة أزيد بسبب زيادة المشقة في الإقامة بها ـ إلى أن قال ـ وإن كان المشهور الكراهة مطلقاً»(٥٠٥) .
٢ ـ المدينة المنورة :
قال صاحب الجواهر (قده) : «لا خلاف ولا إشكال في أنّه (تستحب المجاورة بها) ؛ أي بالمدينة ، بل في الدروس الإجماع عليه ؛ للتأسي ، ولما ورد في مدحها ودعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها ، ولما نستتبعه من العبارات فيها»(٥٠٦) .
٣ ـ كربلاء المقدسة :
وردت الروايات الكثيرة في فضل هذه البقعة الطاهرة ، كما أنّ جمعاً من العلماء والأتقياء سكنوا كربلاء ، ومن أوائل من سكن كربلاء ؛ هو السيد ابراهيم المجاب ، وقد كانت الحوزة العلمية في كربلاء لفترة من الزمن ، ومع هذا فإنّ العلماء إختلفوا في سكنى كربلاء على قولين :
الأول ـ الإستحباب :
وقد أشار إلى هذا الشيخ المامقاني (قده) : «ولعلّ ما يظهر منه فضل السكنى بها مختص بمن لسكناه مدخل في عمارة القبر ، وكان سكناً له
__________________
(٥٠٥) ـ الشهيد الثاني ، الشيخ زين الدين بن علي العاملي : مسالك الإفهام ، ج ٢ / ٣٧٩ ـ ٣٨١.
(٥٠٦) ـ النجفي ، الشيخ محمد حسن : جواهر الكلام ، ج ٢٠ / ١٠٣.
للزيارة ، وكان من أهل التقوى والعبادة ، دون من اتخذه وطناً يرتكب فيها ما يرتكب في ساير البلاد من المحرمات والمكروهات ـ أعاذنا الله تعالى من ذلك ـ فإنّ الذنب في الأمكنة الشريفة ، أشدّ خطراً وأعظم عقوبة منه في ساير الأمكنة ، فالله الله في ذلك»(٥٠٧) .
الثاني ـ الكراهة :
قال الشيخ المامقاني (قده) : «ولكن مع ذلك فقد ورد النهي عن إتخاذها وطناً ، فعن مولانا الصادق (عليه السلام) أنه قال : (إذا زرت الحسين ؛ فزره وأنت مكروب ، وأشعت مغبر جائع عطشان ، فإنّ الحسين قتل حزيناً ومكروباً شعتاً مغبراً جائعاً عطشاناً ، واسأله الحوائج وانصرف عنه ، ولا تتخذه وطناً»(٥٠٨) .
القسم الثاني ـ الدفن فيها :
إنّ مسألة الدفن في جوار أحد المعصومين عليهم السلام ، أو النقل إلى مشاهدهم المشرفة ، من المسائل التي دارت حولها المناقشات بين مؤيّد ومعارض ، وقد أشار إلى ذلك الشيخ ال أميني (قده) بقوله : «لقد كثرت الجبلة واللغط حول هذه المسألة من أناس جاهلين بمواقع الأحكام ، ذاهلين عن مصار الفتيا ، حسبوا أنّها مختصات الشيعة فحسب ، ففوّقوا إليهم نبال الطعن ، وشنُّوا عليهم الغارات ، وهناك أغرار تصدّوا للدفاع ـ وهم مشاركون لأولئك في الجهل أو الذهول ـ بأنّها من عمل الدهماء ، فلا يُحتجُّ بها على المذهب أو العلماء ، وآخر حَرّف الكلم عن مواضعه إبتغاء إثبات أمنيّته ، ولكن وراء الكل حُذّاق
__________________
(٥٠٧) ـ المامقاني ، الشيخ عبد الله : مرآة الكمال ، ج ٣ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠.
(٥٠٨) ـ نفس المصدر / ٢٥٩.
البحث كشفوا عن تلك السوءات»(٥٠٩) وبعد هذا ، سنعرض هذه المسألة على البحث ، ليتضح لنا رأي علماء المسلمين فيها كالتالي :
أ ـ عند العامة :
أما آراء علماء العامة ؛ فهي كالتالي :
١ ـ المالكية ـ قالوا : يجوز نقل الميت قبل الدفن وبعده من مكان إلى آخر بشروط ثلاثة :
أولها ـ أن لا ينفجر حال نقله.
ثانيها ـ أن لا تهتك حرمته ، بأن ينقل على وجه يكون فيه تحقير له.
ثالثها ـ أن يكون نقله لمصلحة ، كأن يخشى من طغيان البحر على قبره ، أو يراد نقله إلى مكان قريب من أهله ، أو لأجل زيارة أهله إياه ، فإن فقد شرط من هذه الشروط الثلاثة حرم النقل.
٢ ـ الحنفية ـ قالوا : يستحب أن يدفن الميت في الجهة التي مات فيها ، ولا بأس بنقله من بلدة إلى أخرى قبل الدفن عند أمن تغير رائحته ، أما بعد الدفن فيحرم اخراجه ونقله ، إلا إذا كانت الأرض التي دفن فيها مغصوبة ، أو أخذت بعد دفنه بشفعة.
٣ ـ الشافعية ـ قالوا : يحرم نقل الميت قبل دفنه من محلّ موته إلى آخر ليدفن فيه ولو أمن تغيره ، جرت عادتهم بدفن موتاهم في غير بلدتهم ، ويستثنى من ذلك من مات في جهة قريبة من مكة ، أو المدينة المنورة ، أو بيت المقدس ، أو قريباً من مقبرة قوم صالحين ، فإنه يسنّ نقله إليها إذا لم يخش تغير رائحته ، وإلا حرم ، وهذا كله إذا كان قديم غسله وتكفينه
__________________
(٥٠٩) ـ الأميني ، الشيخ عبد الحسين : الغدير ، ج ٥ / ٦٦.