تربة الحسين عليه السلام الجزء ٢
0%
مؤلف: الشيخ أمين حبيب آل درويش
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 335
مؤلف: الشيخ أمين حبيب آل درويش
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 335
الجانب الإجتماعي للإسم
توطئة وتمهيد
إختيار الإسم الجميل
تبديل الأسماء المستقبحة
تأثير الإسم على شخصية الإنسان
تخليد أسماء العظماء
توطئة وتمهيد :
لو ألقينا نظرة حول التسمية بشكل عام ؛ لوجدناها من سنن الله عَزّ وجَلّ ، وقد سار الناس على هذه السنّة ، ولكن تختلف التسمية عند البشر على مَرّ الأجيال والعصور على إختلاف لغاتها ، فقد توجد مناسبة بين الإسم والمسمى ولا توجد ، وقد يكون للإسم معنى في قاموس اللغة وقد لا يوجد ، بل هو إسم مخترع لا من مادة لغوية ؛ ولذا نجد العادة جارية في القبائل العربية قبل ظهور الإسلام بتسمية أولادهم بأسماء الوحوش والجوارح ، وقد جاء في رواية أحمد بن أشيم ، عن الإمام الرضا عليه السلام : (قلت له : لِمَ تسمي العرب أولادهم بكلب وفهد ونمر وما أشبه ذلك؟ قال : كانت العرب أصحاب حرب ، وكانت تهول على العدو بأسماء أولادهم ، ويسمون عبيدهم : فرج ، ومبارك ، وميمون وأشباه هذا يتيمنون بها )(٣٥) . وبالرغم من أن تلك الأسماء كانت شايعة ومتداولة بينهم ، إلا إنّها كانت في بعض الأحيان ذريعة قوية للطعن والتحقير في أصحابها ، وعلى سبيل المثال : ما حصل لأحد رؤساء عشاير الشام ـ يسمى جارية بن قدامة ـ وكان رجلاً قوياً صريح اللهجة ، وكان يبطن لمعاوية حقداً وعداً ، وسمع معاوية بذلك فأراد أن يحتقره أمام ملأ من الناس ، ويتخذ إسمه وسيلة للإستهزاء والسخرية منه ، وصادف أن إلتقيا في بعض المجالس ، فقال له معاوية : «ما كان أهونك على قومك إذ سموك جارية؟! فقال له جارية : وما كان أهونك على قومك إذا سموك معاوية ؛ وهي الأنثى من الكلاب؟!»(٣٦) .
__________________
(٣٥) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد حسن : وسائل الشيعة ، ج ٢١ / ٣٩٠ من أبواب أحكام الأولاد ـ الحديث ٥).
(٣٦) ـ الأبشيهي ، شهاب الدين محمد بن أحمد : المستطرف في كل فن مستطرف ، ج ١ / ٩١.
إذن ، من المظاهر المهمة لدى كل إنسان إسمه وإسم عشيرته ، فكما أنّ صورة الشخص سبب لإستحضاره في أذهان الناس ، كذلك إسمه فإنه يعطي صورة عنه ، وكما أنّ الإنسان يلتذ من صورته الجميلة ويتألم منها إن كانت قبيحة ، كذل يَستَرّ من الإسم الجميل ، ويتأذى من الإسم القبيح له أو لعشيرته ؛ ولأهمية الإسم سنبحثه من الجوانب الآتية :
إختيار الإسم الجميل :
إعتني الإسلام بالتسمية وجعلها من حقوق الأولاد على الآباء ، وقد ورد الحث على هذا في الروايات التالية :
روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (من حق الولد على الوالد أن يحسن إسمه ويحسن أدبه)(٣٧) .
وروي عن الإمام الكاظم عليه السلام : (إنّ أول ما يبَر الرجل ولده أن يسميه بإسم حسن ، فليحسن أحدكم إسم ولده)(٣٨) .
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (إستحسنوا أسماءكم فإنكم تدعون بها يوم القيامة)(٣٩) . وأحسن الأسماء أهل بيت العصمة عليهم السلام ، فقد ورد في الزيارة الجامعة : (فما أحلى أسماءكم ، وأكرم أنفسكم).
وعن أبي جعفر صلى الله عليه وآله وسلم : (أصدق الأسماء ما يسمى بالعبودية ، وأفضلها أسماء الأنبياء)(٤٠) .
__________________
(٣٧) ـ النوري ، ميرزا حسين الطبرسي : مستدرك الوسائل ، ج ١٥ / ١٢٨ ـ ١٢٩ (باب ١٥ من أبواب أحكام الأولاد ـ حديث ٢).
(٣٨) ـ الكليني ، الشيخ محمد يعقوب : الكافي ، ج ٦ / ١٨ (باب الأسماء والكنى ـ حديث ٣).
(٣٩) ـ نفس المصدر / ج ٦ / ١٩ (باب الأسماء والكنى ـ حديث ١٠).
(٤٠) ـ نفس المصدر / ج ٦ / ١٨ (باب الأسماء والكنى ـ حديث ١).
تبديل الأسماء المستقبحة :
عندما نلقي نظرة عابرة على الأسماء المتداولة في المجتمعات التي تعيش في القرى أو المدن ؛ نجد فيها أسماء وألقاباً قبيحة قد يؤدي التصريح بها في المجالس إلى السأم والضجر بالنسبة إلى البعض ، ومن هذا المنطلق نرى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يغير الأسماء المستهجنة للأفراد والبلدان ، كما تشير الروايات الآتية :
١ ـ الإمام الصادق عليه السلام ، عن أبيه قال : (كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يُغيِّر الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان)(٤١) .
٢ ـ عن أب يرافع : (إنّ زينب بنت أم سلمة كان إسمها برّة ، فقيل تزكي نفسها فسمّاها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ زينب)(٤٢) .
٣ ـ عن ابن عمر : (أنّ إبنة لعمر كان يقال لها عاصية ، فسَمّاها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ جميلة)(٤٣) .
وبعد إستعراض هذه النصوص ؛ نستفيد أنّ الإسلام يكره للمسلمين هذه الأسماء المستقبحة ، تنبيهاً على حفظ كرامة المسلم ، لكي لا يقع معرضاً لتحقير الآخرين وإهانتهم ، ومع هذا نهى الإسلام عن ذكر الناس بإسم أو لقب يشينهم ، ويكون سبباً لإهانتهم وتحقيرهم ، وما يؤدي ذلك إلى زرع البغضاء والحقد بين أفراد المجتمع ، وإلى هذا تشير بعض الروايات كالتالي :
محمد بن يحيى بن أبي عباد قال : حدثني عَمَّي قال : (سمعت الرضا عليه السلام يوماً سنشد ، وقليلاً ما كان ينشد شعراً :
__________________
(٤١) ـ الحميري ، أبي العباس عبد الله بن جعفر : قرب الإسناد / ٩٣ (حديث ٣١).
(٤٢) ـ مسلم ، مسلم بن الحجاج : صحيح مسلم ، ج ٦ / ١٧٣.
(٤٣) ـ نفس المصدر.
كلّنا نأمل مداً في الأجل |
والمنايا هنّ آفات الأمل |
|
لا تغرنك أباطيل المنى |
والزم القصد ودع عنك العلل |
|
إنما الدنيا كظل زائل |
حَلّ في راكب ثمّ رحل |
فقلت : لمن هذا أعزّ الله الأمير؟ فقال : لعراقي لكم ، قلت أنشدنيه أبو العتاهية لنفسه ، فقال : هات إسمه ودع هذا ، إنّ الله سبحانه يقول :( وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ) (٤٤) . ولعلّ الجل يكره هذا(٤٥) وفي الحديث : (حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه)(٤٦) .
تأثير الإسم على شخصية الإنسان :
إنّ للإسم واللقب والكنية تأثيراً على شخصية الإنسان رفعة وضعة ، فالأشخاص الذين يمتازون بأسماء جميلة ، أو ينتمون إلى عشيرة ذات إسم جميل ، يفتخرون بذلك ويذكرونه بكل إرتياح ، بل لربما تفأل به السامع ، ومن الشواهد على ذلك : «حينما جاءت حليمة السعدية إلى مكة تطلب طفلاً ترضعه ، سمعت عبد المطلب ينادي بأعلى صوته : (هل بقي من الرضّاع أحد؟ فإن عندي بُنيّاً لي يتيماً ، وما عند اليتيم من الخير ، إنما يلتمس كرامة الآباء ، قالت : فوقفت لعبد المطلب ـ وهو يومئذ كالنخلة طولاً ـ ، فقلت : أنعم صباحاً أيها الملك المنادي ، عندك رضيع أرضعه؟ فقال هَلمّي ، فدنوت منه فقال لي : من أين أنت؟ فقلت : إمرأة من بني سعد. فقال لي : إيه إيه كرم
__________________
(٤٤) ـ الحجرات / ١١.
(٤٥) ـ الصدوق ، الشيخ محمد بن علي : عيون أخبار الرضا ، ج ١ / ١٩٠.
(٤٦) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٤ / ٣٧.
وزجر ، ثم قال لي : ما أسمك؟ فقلت حليمة فضحك وقال : بَخّ بخّ ، خلتان حَسَنَتان : سعد وحلم ، هاتان خلّتان فيها غنى الدهر ...)(٤٧) .
أما الذين يحملون أسماء مستهجنة ، أو ينتمون إلى قبيلة ذات إسم قبيح ، فيحسون بالحقارة وضعف الشخصية وعدم الكفاءة وفقدان الإرادة ، وما أكثر الرجال من العلماء والمثقفين ، الذين كانت لهم الكفاءة لتسنّم مناصب عالية ، والحصول على مكانة شامخة في المجتمع ، لكنهم فقدوا جميع قيمهم الإجتماعية ، على أثر لقب قبيح أو شهرة سيئة ، ومن الشواهد على ذلك : «فقد كان إسحاق ابن إبراهيم ـ المعروف بابن النديم ـ من العلماء الذين قَلّ نظراؤهم في عصره ، وكان قد أجهد نفسه في علوم كثيرة : كالكلام والفقه والنحو والتاريخ واللغة والشعر ، وبرع في جميع ذلك براعة تامة ، وكان عملاقاً عظيماً في المناظرات العلمية ، وكثيراً ما كان يتغلب على فضلاء عصره ، وله في مختلف العلوم ما يقرب من أربعين مجلداً ، وآثاره المهمة باقية حتى اليوم. كان ابن النديم ذات صوت جميل ، ورغبة شديدة في الغناء ، وكثيراً ما يشترك في مجالس طرب الخلفاء ورجال الدولة ، ويؤنس الحاضرين بغنائه المطرب ، ويجذب قلوبهم نحوه ولإستمراره في هذا العمل ؛ ضؤلت قيمة ثقافته العلمية شيئاً فشيئاً بالنسبة إلى عنائه ، حتى عرف في المجتمع بهذه الصفة ، ولَقّبه الناس بـ(المغني والمطرب) ، لقد أوردت هذه الشهرة ضربة قاصمة على شخصيته ، ولم يتمكن فيما بعد أن يعدّ نفسه في المجتمع كرجل عالم مطلع ، وأن يظهر كفاءته العلمية وبالرغم من قربه لدى الخلفاء والشخصيات ، فإنهم لم
__________________
(٤٧) ـ المجلسي ، الشيخ محمد باقر : بحار الأنوار ، ج ١٥ / ٣٨٨.
يعهدوا إليه بمهمة أو عمل خطير في الدولة ، وذلك حذراً من اضطراب الرأي العام.
وبهذا الصدد كان المأمون العباسي يقول : لو لم يكن يشتهر ابن النديم بالطرب والغناء لوليته القضاء ؛ لأنّه يفوق جميع قضاة الدولة الموجودين من حيث الفضل والعلم ، وأكثرهم إستحقاقاً لهذا المنصب»(٤٨) .
إذن ، نستنتج مما تقدم أنّ الاسم له تأثير على شخصية الإنسان ، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى تنغص الحياة عليه ، ومن هذا المنطلق على الآباء أن يختاروا لأولادهم الأسماء المناسبة الجميلة ، وألا يكونوا سبباً لشعورهم بالخسّة والضعة طيلة حياتهم.
تخليد أسماء العظماء :
إنّ إحياء وتخليد أسماء العظماء أمر يهتم به العقلاء في الشرق والغرب ، وهذا ما نراه واضحاً في حياتهم ، فالحكومات تقوم بتسمية المدن والجامعات والشوارع بأسماء عظمائها ، وبهذه الطريقة خلدوا أسماءهم.
ولو إستعرضنا نصوص أهل البيت عليهم السلام ؛ لوجدنا أنهم أوصوا أتباعهم بتسمية أولادهم بأسماء القادة الإلهيين كالنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام ، ومن بين تلك النصوص ما يلي :
١ ـ عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من ولد له أربعة فلم يسم بعضهم باسمي ، فقد جفاني )(٤٩) .
__________________
(٤٨) ـ فلسفي ، الشيخ محمد تقي : الطفل بين الوراثة والتربية ، ج ٢ / ١٧٥ ـ ١٧٦.
(٤٩) ـ النوري ، ميرزا حسين الطبرسي : مستدرك الوسائل ، ج ١٥ / ١٣٠ (باب من أبواب أحكام الأولاد ـ حديث ١).
٢ ـ عن أبي رافع قال : (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا سميتم محمداً فلا تقبحوه ولا تجبّهوه ولا تضربوه ، بورك بيت فيه محمد ، ومجلس فيه محمد ، ورفقة فيها محمد )(٥٠) .
٣ ـ عن الباقر عليه السلام : (إنّ الشيطان إذا سمع منادياً ينادي يا محمد ، ذاب كما يذوب الرصاص ، حتى إذا سمع منادياً ينادي باسم عدو من أعدائنا ؛ إهتزّ وإختال )(٥١) .
٤ ـ عن أبي الحسن عليه السلام أنه قال : (لا يدخل الفقر بيتاً فيه إسم محمد ، أو أحمد ، أو علي ، أو الحسن ، أو الحسين ، أو جعفر ، أو طالب ، أو عبد الله ، أو فاطمة من النساء )(٥٢) .
٥ ـ عن ربعي بن عبد الله قال : (قيل لأبي عبد الله عليه السلام جعلت فداك ، إنّا لنسمي بأسمائكم وأسماء آبائكم فينفعنا ذلك؟ فقال : إي والله ، وهل الدّين إلا الحب والبغض! قال الله تعالى :( إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (٥٣) )(٥٤) . وبعد هذه النصوص ؛ نخرج بالنتيجة التالية :
__________________
(٥٠) ـ المصدر السابق : (باب ١٦ ـ حديث ٢).
(٥١) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن الحسن : وسائل الشيعة ، ج ٢١ / ٣٩٣ (باب ٢٤ من أبواب أحكام الأولاد ـ حديث ٣).
(٥٢) ـ نفس المصدر / ٣٩٦ (باب ٢٦ من أبواب أحكام الأولاد ـ حديث ١).
(٥٣) ـ آل عمران / ٣١.
(٥٤) ـ النوري ، ميرزا حسين الطبرسي : مستدرك الوسائل ، ج ١٥ / ١٢٨ ـ ١٢٩ (باب ١٥ من أبواب أحكام الأولاد ـ حديث ١).
إنّ الآباء والأمهات الذين سَمّوا أولادهم بأسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأهل بيته الكرام عليهم السلام ، قد حققوا أمرين مهمين :
أولاً ـ تخليد أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام ، وما يترتب على ذلك من إظهار الولاء والمحبة لهم ، لما في ذلك من الخير والبركة والأجر والمثوبة.
ثانياً ـ حفظوا أولادهم من الإحساس بالحقارة ؛ لأنّ أسماءهم عليهم السلام من أجمل وأفضل الأسماء ، التي إختارها لهم الباري عَزّ وجَلّ ، فهي محل فخر وإعتزاز لمن تَسَمّى بها.
الفصل الأول
أسماء شرف وقداسة
١ ـ أرش الله المقدّسة
٢ ـ أطهر بقاع الأرض
٣ ـ أكرم أرض الله
٤ ـ البقعة الطيبة
٥ ـ بقعة كثيرة الخير
٦ ـ البقعة المباركة
٧ ـ بطحاء الجنة
١ ـ أرض الله المقدّسة :
هذا الإسم نصّت عليه بعض الروايات كالتالي :
١ ـ عن صفوان الجمّال قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : (إن الله فَضّل الأرضين والمياه بعضها عن بعض ، فمنها ما تفاخرت ومنها ما بغت ، فما من أرض ولا ماء إلا عوقبت لترك التواضع لله ، حتى سَلّط الله على الكعبة المشركين ، وأرسل إلى زمزم ماءاً مالحاً فأفسد طعمه ، وأن كربلاء وماء الفرات ، أوّل أرض وأوّل ماء ، قَدّس الله وبارك عليه ، فقال لها : تكلمي بما فضلك الله ، فقالت : أنا أرض الله المقدّسة المباركة ، الشفاء في تربتي ومائي ولا فخر ، بل خاضعة ذليلة لمن فعل بي ذلك ، ولا فخر على من دوني بل شكراً لله ، فأكرمها وزادها بتواضعها وشكرها لله بالحسين وأصحابه ، ثم قال أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ : من تواضع لله رفعه ، ومن تَكبّر وضعه الله)(٥٥) .
٢ ـ عن أبي الجارود قال : قال علي بن الحسين ـ عليهما السلام ـ : (إتخذ الله أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق أرض الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام ، وأنها إذا بَدّل الأرضين رفعها كما هي برمتها نورانية صافيه ، فجعلت في أفضل روضة من رياض الجنة ، وأفضل مسكن في الجنة ، لا يسكنها إلا النبيون والمرسلون ـ أو قال : أولوا العزم من الرسل ـ ، وإنها لتزهر من رياض الجنة كما يزهر الكوكب الدّري لأهل الأرض ، يغشى
__________________
(٥٥) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد حسن : وسائل الشيعة ، ج ١٠ / ٤٠٤ (باب ٦٨ استحباب التبرك بكربلاء ـ حديث ٤).
نورها نور أبصار أهل الجنة جميعاً ، وهي تنادي : أنا أرض الله المقدسة ، والطينة المباركة ، التي تضمنت سيد الشهداء وشبان الجنة)(٥٦) .
بحث في تفضيل كربلاء على الكعبة :
يستفاد من الحديثين المذكورين تفضيل كربلاء على أرض الكعبة ، وقد تقدم البحث عن ذلك في الجزء الأول. والذي نريد بحثه ـ هنا ـ هو ما يلي :
الأول ـ الأعوام والسنون في الآيات والروايات :
س ١ / ما هو المراد بالأعوام والسنيين في هذا الحديث وفي غيره من الأحاديث؟
ج / يتضح الجواب بعد بيان المقدمة التالية :
أولاً ـ إنّ أفعال الله سبحانه مبنيّة على الحِكَم والمصالح ، وإنّ كمته إقتضت أن تكون أفعاله بالنسبة إلى مخلوقاته على قسمين :
١ ـ ما يصدر عنه على نحو السرعة وبدون توقفه على مادة أو مدة زمنية ، كما أشار إلى ذلك في قوله تعالى :( وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) [البقرة / ١١٧]. وهذا كناية عن نهاية السرعة في الخلق والإيجاد.
٢ ـ ما يصدر عنه بعد مدة زمنية وعلى نحو التدريج ، ومن هذا خلق السماوات والأرض ، كما في قوله تعالى :( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) [الأعراف / ٥٤]. أما كون الحكمة الداعية إلى إجراء عادته بخلق تلك الأشياء من موادها على نحو التدريج ، كخلق السموات والأرض من مادتها التي هي الماء ، بعد خصوص القدر المذكور ، والزمان المحدود ـ وهو ستة أيام ـ ؛
__________________
(٥٦) ـ النوري ، الشيخ ميرزا حسين الطبرسي : مستدرك الوسائل ، ج ١٠ / ٣٢٢ ـ ٣٢٣. (باب ٥١ ـ إستحباب التبرك بكربلاء ـ حديث ٣).
فهو من أسرار القضاء والقدر التي لا يمكن أن يحيط بها عقل البشر ؛ ولذا ما ورد من الأعداد الموجودة في بعض الآيات والروايات ، قد يطلق ويراد بها الكثرة لا خصوص العدد ، وقد يراعى في ذلك عقول المخاطبين وأفهامهم.
ثانياً ـ إنّ التعبير بقدر وزمان معين في الآيات والروايات ؛ للتفهيم والتقريب. وذلك كتقدير الفلك بالبروج والمنازل والدرجات ، وتقدير الزمان بالسنين والشهور والأيام والساعات ، وعلى هلا لا يُعد في أنّ الحكمة الإلهية إقتضت أن تقدر للزمان المتقدم على زمان الدنيا ، بل للزمان المتأخر عن زمانها أيضاً ، بأمثال ما قدّره لزمانها من السنين إلى الساعات ، لكن مع رعاية مناسبة لهذا الإجراء إلى المقدّر بها ، فكما أنّ المناسب لزمان الدنيا أن يكون كل يوم منه بقدر دورش للشمس ، فكذلك يجوز أن يكون المناسب للزمان المتقدم ، أن يكون لكل يوم منه بألف سنة من أيام الدنيا ، كما جاء في قوله تعالى :( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) [الحج / ٤٧] ، وفي قوله تعالى :( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) [المعارج / ٤]. فيكون المناسب للزمان المتقدم أن يكون كل يوم منه بمقدار ألف سنة من زمان الدنيا ، وللزمان المتأخر مساوياً لخمسين ألف سنة منه ، ويؤيد ذلك ما ذكر في الروايات التالية :
١ ـ عن أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل وفيه قال : (إذا قام عليه السلام سار إلى الكوفة فهدم أربعة مساجد ـ إلى أن قال : ـ فمكث على ذلك سبع سنين ، مقدار كل سنة عشر سنين من سنينكم ، ثم يفعل ما يشاء. قال : قلت : جعلت فداك فكيف تطول السنون؟ قال : يأمر الله تعالى الفلك باللبوث وقلة الحركة ، فتطول الأيام لذلك والسنون. قال له : إنهم يقولون : إن تغير فسد؟
قال : ذلك قول الزنادقة ، فأما المسلمون فلا سبيل لهم إلى ذلك ، وقد شَقّ الله القمر لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، ورَدّ الشمس من قبله ليوشع بن نون ، وأخبر بطول يوم القيامة وأنه كألف سنة مما تعدون)(٥٧) .
٢ ـ عن أبي عبد الله عليه السلام ـ في حديث طويل قال فيه ـ : (فإن في يوم القيامة خمسين موقفاً ، كل موقف مثل ألف سنة مما تعدون ، ثم تلا هذه الآية :( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) [المعارج / ١٤](٥٨) . وبعد هذا البيان لا يستبعد ما أشارت إليه الروايات من أنّه تعالى قَدّر للزمان المتقدم أسابيع ، وسَمّى الأول من أيامها بالأحد ، والثاني بالإثنين وهكذا إلى السبت ، وكذلك قَدّر له شهوراً تامة كل منها ثلاثون يوماً ، سمى أولها بالمحرم ، أو رمضان ـ على إختلاف الروايات ـ في أول شهور السنة ، وثانيها بصفر أو شوال ، وهكذا إلى ذي الحجة أو شعبان ، وعلى كل تقدير كان المجموع سنة كاملة موافقة لثلاثمائة وستين يوماً ، ثم جعل أيام أسابيعنا وشهورنا موافقة لأيام تلك الأسابيع والشهور ، في المبدأ والعِدّة والتسمية ، وقد يستشهد له بما جاء في قوله تعالى :( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ) [التوبة / ٣٦].
وعلى هذا لا إشكال في ما ذكرته بعض الروايات : من خلق السماء وجَنّاتها والملائكة يوم الخميس ، وخلق الأرض في يوم الأحد ، وخلق دواب البحر يوم الإثنين ، وخلق الشجر ونبات الأرض وأنهارها وما فيها من الهوام في
__________________
(٥٧) ـ المفيد ، الشيخ محمد بن محمد النعمان : الإرشاد ، ج ٢ / ٣٨٥.
(٥٨) ـ المفيد ، الشيخ محمد النعمان : الأمالي / ٢٧٤ ـ ٢٧٥ (الماجلس ٣٣ ـ حديث ١).
يوم الثلاثاء(٥٩) . وكذلك ما روي أن دحو الأرض كان في ليلة خمس وعشرين من ذي القعدة. هذا ما استفدته من بعض الأعلام(٦٠) ، وبعد بيان هذه المقدمة ؛ نذكر آراء بعض الأعلام كالتالي :
١ ـ الفيض الكاشاني :
«لعلّ المراد بالقبلية القبلية بالشّرف ، وبالأعوام الدّرجات ، فإنّ ما لأجله الشيء يكون أقدم من ذلك الشيء بالرتبة»(٦١) .
٢ ـ الشيخ أحمد آل طوق القطيفي :
«لعلّ المراد بالأعوام ـ هنا ـ غيب الأعوام المعهودة وعللها ؛ وهي رتب الوجود المتحركة على نقطة ، وهي سِنِّي الشهور الإثني عشر التي عند الله ، وسني الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض ، وذكر مثل هذه السنين متكرر في الأخبار جداً»(٦٢) .
٣ ـ السيد صادق الروحاني :
«المراد من خلق أرض كربلاء في تلكم الروايات هو الخلق في عالم الأنوار ، لا الخلق في هذا العالم ، وتكون الروايات نظير ما ورد عن خلق نور الرسول (صلى الله عليه وآله) ، والإمام أمير المؤمنين (عليه آلاف التحية والثناء) ، قبل خلق آدم بآلاف السنني ، مع أنهما في هذا العالم من أولاد آدم»(٦٣) .
__________________
(٥٩) ـ المجلسي ، الشيخ محمد باقر : بحار الأنوار ، ج ٥٤ / ٧١.
(٦٠) ـ نفس المصدر / ٢١٦ ـ ٢١٩. (بتصرف)
(٦١) ـ آل طوق ، الشيخ أحمد بن الشيخ صالح : رسائل آل طوق القطيفي ، ج ٣ / ٩٩.
(٦٢) ـ جواب إستفتاء خطي.
٤ ـ إستنتاج المؤلف :
بعد عرض آراء الأعلام نخرج بالنتيجة التالية :
أولاً ـ المستفاد من الروايات المصرِّحة بأنّ خلق أرض كربلاء من قبل خلق الكعبة يمكن تلخيصها فيما يلي :
أ ـ التصريح بعدد معين من الأعوام ، كما في رواية أبي الجارود ، عن الإمام زين العابدين عليه السلام قال : (إتخذ الله أرض كربلاء حرماً آمنا مباركاً قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام)(٦٤) . وأيضاً ما رواه عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : (خلق الله أرض كربلاء قبل أن يخلق أرض الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام ، وقدّسها وبارك عليها)(٦٥) .
ب ـ عدم التصريح بعدد معين من الأعوام ، كما في رواية أبي يعفور ، عن الصادق عليه السلام قال : (إنّ الله أتخذ [بفضل قبره] كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يتخذ مكة حرماً)(٦٦) .
ج ـ التصريح بإختيارها يوم دحور الأرض ، كما في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام : (لما سار أبو عبد الله من المدينة ؛ أنته أفواج مسلمي الجن ـ إلى أن قال ـ : قال عليه السلام لهم : فإذا أقمت في مكاني فبماذا يبتلى هذا الخلق المتعوس ، وبماذا يختبرون؟ ومن ذا يكون ساكن حفرتي بكربلاء؟ وقد إختارها الله لي يوم دحا الأرض ، وجعلها معقلاً لشيعتنا ، وتكون أماناً
__________________
(٦٤) ـ النوري ، ميرزا حسين الطبرسي : مستدرك الوسائل ، ج ١٠ / ٣٢٢ (باب ٥١ من أبواب المزار ـ حديث ٣).
(٦٥) ـ نفس المصدر / ٣٢٢ (حديث ٢).
(٦٦) ـ نفس المصدر / ٣٢٤ (حديث ٧).
لهم في الدنيا والآخرة)(٦٧) . وبعد عرض هذه الروايات ؛ نطرح السؤال التالي :
س / ما المراد بلفظة (خَلَقَ) في الروايات المتقدمة :
ج / المستفاد من كلمات الأعلام(٦٨) ما يلي :
إنّ للفظة (خلق) عدة إستعمالات وأهمها التالي :
١ ـ الإبداع : وهو إيجاد شيء من غير أصل ، ومنه قوله تعالى :( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) [الأنعام / ١]. أي أبدعها بدلالة قوله تعالى :( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) [البقرة / ١١٧] ، ولا يكون الخلق بهذا المعنى إلا الله تعالى ؛ ولهذا قال عَزّ وجَلّ للفصل بينه وبين عباده :( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) [النحل / ١٧].
٢ ـ إيجاد شيء من شيء ، كما في قوله تعالى :( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) [النساء / ١].
٣ ـ التقدير : عَبّر عنه الإمام الرضا عليه السلام في جوابه ليونس بن عبد الرحمن : (فنعلم ما القدر؟ فقال يونس : قلت لا؟ قال عليه السلام هي الهندسة ووضع الحدود من ا لبقاء والفناء)(٦٩) . وعَرّفه الشيخ الطريحي (قده) بقوله : «ومعنى خلق التقدير : نقوش في اللوح المحفوظ»(٧٠) ، أي علوم غيبية.
٤ ـ التكوين : وجودات خارجية ؛ من سماء وأرض وبشر وملائكة وحيوانات ونحو ذلك.
__________________
(٦٧) ـ المصدر السابق / ٣٢٥ (حديث ٧).
(٦٨) ـ راجع البحار ٩١ / ٢٥٠ ، والمفردات في غريب القرآن ج ١ / ٢٠٩.
(٦٩) ـ الكليني ، الشيخ محمد بن يعقوب : الأصول من الكافي ، ج ١ / ١٥٨.
(٧٠) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ج ٥ / ١٥٩.
وبعد معرفة هذه الإستعمالات للفظة (خَلَقَ) ؛ يظهر معنى الرواية التي عليها مدار البحث في التقدير ، والأعوام الغيبية المعلومة عند الله عَزّ وجَلّ ، ويتفق هذا الوجه مع ما ذهب إليه الشيخ أحمد آل طوق القطيفي. كما يظهر معنى الرواية القائلة : (وقد إختارها الله تعالى لي يوم دعا الأرض) في الخلق التكويني.
ثانياً ـ جاء في رواية بَيّاع السابري ، عن الإمام الصادق عليه السلام قال : (إنّ أرض مكة قالت : من مثلي؟ وقد جعل بيت الله على ظهري ، يأتيني الناس من كل فَجّ عميق ، وجعلت حرم الله وأمنه. فأوحى الله إليها : أن كُفّي وقرِّي فوعزتي ما فَضْلٌ فُضّلتِ به فيما أعطيت كربلاء ، إلا بمنزلة أبرة غمست في البحر فحملت من ماء البحر ، ولولا تربة كربلاء ما فًضّلتِ ، ولولا من تضمنت أرض كربلاء ما خلقتك ، ولا خلقت البيت الذي به إفتخرتِ)(٧١) .
نستفيد من هذه الرواية ، أنّ أرض مكة تفتخر بالبيت الحرام ، الذي هو أول بيت وضع للعبادة ، وجعله الله سبحانه وتعالى هدىً للعالمين ، كما في قوله تعالى :( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ) [آل عمران / ٩٦]. ولكن كربلاء تفتخر بالحسين عليه السلام ، كما في حديث الإمام السجاد عليه السلام : (أنا أرض الله المقدّسة ، والطينة المباركة ، التي تضمنت سيد الشهداء) ، وسيد الشهداء عليه السلام أفضل من الكعبة والبيت الحرام ؛ لأنّه عليه السلام من أهل بيت آل محمد عليهم السلام ، الذين هم أول بيت وضع للمخلوقات من الأنبياء والأوصياء والملائكة ، ويمكن الإستشهاد لذلك بما يلي :
__________________
(٧١) ـ النوري ، ميرزا حسين الطبرسي : مستدرك الوسائل ، ج ١٠ / ٣٢٢ (باب ٥١ من أبواب المزار ـ حديث ١).