تربة الحسين عليه السلام الجزء ٣

تربة الحسين عليه السلام10%

تربة الحسين عليه السلام مؤلف:
الناشر: دار المحجّة البيضاء
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 554

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 554 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41294 / تحميل: 4271
الحجم الحجم الحجم
تربة الحسين عليه السلام

تربة الحسين عليه السلام الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار المحجّة البيضاء
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

وهذه الآية على ايجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين ، وهي خلاصة قصّة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة :

كانت سلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطا واسعا لذبح «الأطفال» من بني إسرائيل حتى أن القوابل [من آل فرعون] كن يراقبن النساء الحوامل [من بني إسرائيل].

ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسىعليه‌السلام «وكان الحمل خفيّا لم يظهر أثره على أم موسى» وحين أحست أم موسى بأنّها مقرّب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع ، وأنّها تحمل جنينا في بطنها وتوشك أن تضعه ، فهي بحاجة ـ هذا اليوم ـ إليها.

وحين ولد موسىعليه‌السلام سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطبع حبّه في قلبها ، وأنار جميع زوايا قلبها.

فالتفتت القابلة إلى أم موسى وقالت لها : كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ليأتي الجلاوزة فيقتلوه «وأنال بذلك جائزتي» ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبّه الشديد في قلبي ، وأنا غير مستعدة لأن تنقص ولو شعرة واحدة من رأسه ، فاهتمي بالمحافظة عليه ، وأظنّ أن عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيرا.

ثمّ خرجت القابلة من بيت أمّ موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت ، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى أمّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر ، فارتبكت ولم تدر ما ذا تصنع؟! وفي هذه الحالة من الارتباك وهي ذاهلة لفت وليدها «موسى» بخرقة وألقته في التنور فإذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار ، فلم يجدوا شيئا إلّا التنور المشتعل نارا فسألوا أم موسى عن سبب دخول القابلة عليها فقالت : إنّها صديقتي وقد

١٨١

جاءت زائرة فحسب ، فخرجواءايسين.

ثمّ عادت أمّ موسى إلى رشدها وصوابها وسألت «أخت موسى» عن أخيها فأظهرت عدم معرفتها بمكانه ، وإذا البكاء يعلو من داخل التنور ، فركضت إلى التنور فرأت موسى مسالما وقد جعل الله النّار عليه بردا وسلاما «الله الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود» فأخرجت وليدها سالما من التنور.

لكن الأمّ لم تهدأ إذ أن الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت يمنة ويسرة ، وكان الخطر سيقع لو سمعوا صوت هذا الطفل الرضيع.

وفي هذه الحال اهتدت أم موسى بإلهام جديد ، إلهام ظاهره أنّه مدعاة للخطر ، ولكن مع ذلك أحسّت بالاطمئنان أيضا.

كان ذلك من الله ولا بدّ أن يتحقق ، فلبست ثياب عملها وصممت على أن تلقي وليدها في النيل.

فجاءت إلى نجّار مصري «وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضا» فطلبت منه أن يصنع صندوقا صغيرا.

فسألها النجار قائلا : ما تصنعين بهذا الصندوق مع هذه الأوصاف؟ ولكن الأمّ لما كانت غير متعودة على الكذب لم تستطع دون أن تقول الحق والواقع ، وأنّها من بني إسرائيل ولديها طفل تريد إخفاءه في الصندوق.

فلمّا سمع النجّار القبطي هذا الخبر صمم على أن يخبر الجلاوزة والجلّادين ، فمضى نحوهم لكن الرعب سيطر على قلبه فارتج على لسانه وكلّما حاول أن يفهمهم ولو كلمة واحدة لم يستطع ، فأخذ يشير إليهم إشارات مبهمة ، فظن أولئك أنّه يستهزئ بهم فضربوه وطردوه ، ولما عاد إلى محله عاد عليه وضعه الطبيعي ، فرجع ثانية إليهم ليخبرهم فعادت عليه الحالة الأولى من الارتجاج والعيّ ، وأخيرا فقد فهم أن هذا أمر إلهي وسرّ خفي ، فصنع الصندوق وأعطاه لأم موسى.

ولعلّ الوقت كان فجرا والناس ـ بعد ـ نيام ، وفي هذه الحال خرجت أم

١٨٢

موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى ، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى ، ثمّ ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج وأخذت تسير به مبتعدة عن الساحل ، وكانت أم موسى تشاهد هذا المنظر وهي على الساحل وفي لحظة أحست أن قلبها انفصل عنها ومضى مع الأمواج ، فلو لا لطف الله الذي شملها وربط على قلبها لصرخت ولانكشف الأمر واتضح كل شيء.

ولا أحد يستطيع أن يصور ـ في تلك اللحظات الحساسة ـ قلب الأم بدقّة.

لا يستطيع أيّ أحد أن يصور حال أم موسى وما أصابها من الهلع والفزع ساعة ألقت طفلها في النيل ولكنّ هذه الأبيات المترجمة عن الشاعرة «پروين اعتصامي» ـ بتصرف ـ تحكي صورة «تقريبية» عن ذلك الموقف :

أمّ موسى حين ألقت طفلها

للذي رب السما أوحى لها

نظرت للنيل يمضي مسرعا

آه لو تعرف حقا حالها

ودوي الموج فيه صاخب

وفتاها شاغل بلبالها

* * *

وتناغيه بصمت : ولدي

كيف يمضي بك هذا الزورق

دون ربان ، وإن ينسك من

هو ذو لطف فمن ذا يشفق

فأتاها الوحي : مهلا ، ودعي

باطل الفكر ووهما يزهق

* * *

إن موسى قد مضى للمنزل

فاتق الله ولا تستعجلي

قد تلقينا الذي ألقيته

بيد ترعى الفتى لا تجهلي

وخرير الماء أضحى مهده

في اهتزاز مؤنس إن تسألي

* * *

وله الموج رؤوما حدبا

فاق من يحدب أمّا وأبا

١٨٣

كل نهر ليس يطغى عبثا

إن أمر الله كان السببا

* * *

يأمر البحر فيغدو هائجا

وله الطوفان طوعا مائجا

عالم الإيجاد من آثاره

كل شيء لعلاه عارجا

* * *

أين تمضين دعيه فله

خير ربّ يرتضيه لا هجا

كل هذا من جهة!

ولكن تعالوا لنرى ما يجري في قصر فرعون؟!

ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة ، ولم يكن له من الأبناء سواها ، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء ، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له : نتكهّن ونتوقع أن إنسانا يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها ، وكان فرعون وزوجه «آسية» في انتظار هذا «الحادث» وفي يوم من الأيّام فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار ، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!

ومثل الصندوق «المجهول» الخفيّ أمام فرعون ، ولم يتمكن أحد أن يفتحه.

بلى كان على فرعون أن يفتحه لينجو موسى على يد فرعون نفسه ، وفتح الصندوق على يده فعلا!.

فلمّا وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها ، ودخل حبّه في قلوب الجميع ، ولا سيما قلب امرأة فرعون «آسية» وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر(١) .

ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصّة من لسانه! يقول القرآن

__________________

(١) ورد هذا القسم من الرّواية عن ابن عباس في تفسير الفخر الرازي كما هناك روايات آخرها في تفسير «أبو الفتوح» و «مجمع البيان».

١٨٤

في هذا الصدد :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) .

كلمة «التقط» مأخوذة من مادة «التقاط» ومعناها في الأصل الوصول إلى الشيء دون جهد وسعي ، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها «لقطة» للسبب نفسه أيضا

وبديهي أنّ الفراعنة لم يجلبوا الصندوق الذي فيه الطفل الرضيع من الماء ليربوه في أحظانهم فيكون لهم عدوا لدودا ، بل أرادوه ـ كما قالت امرأة فرعون ـ قرة عين لهم.

ولكن النتيجة والعاقبة كان ما كان وحدث ما حدث وكما يقول علماء الأدب : إنّ اللام في الآية هنا( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ ) هي «لا العاقبة» ليست «لام العلة» ولطافة التعبير كامنة في أنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن قدرته ، وكيف أن هذه الجماعة «الفراعنة» عبّأت جميع قواها لقتل بني إسرائيل ، وإذا الذي أرادوا قتله ـ وكانت كل هذه المقدمات من أجله ـ يتربى في أحضانهم كأعزّ أبنائهم.

والتعبير ـ ضمنا ـ بآل فرعون يدل على أنّ الملتقط لم يكن واحدا ، بل اشترك في التقاط الصندوق جماعة من آل فرعون ، وهذا بنفسه شاهد على أنّهم كانوا ينتظرون مثل هذا الحدث!.

ثمّ تختتم الآية بالقول :( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) .

كانوا خاطئين في كل شيء ، وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحقّ ، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك!.

وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسىعليه‌السلام ، ولكن الله سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم : خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم؟!(١)

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : إن الفرق بين «الخاطئ» «والمخطئ» هو أنّ الخاطئ هو من يقدم على عمل لا يخرج من عهدته ويطوي طريق الخطأ بنفسه أمّا المخطي فيقال في من يقدم على عمل ويخرج من عهدته ، إلّا أنّه يخطئ في الأثناء صدفة ، فيتلف العمل.

١٨٥

ويستفاد من الآية التالية أن شجارا حدث ما بين فرعون وامرأته ، ويحتمل أن بعض أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه ، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد :( وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) .

ويلوح للنظر أنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الأخرى ومن جملتها إيداعه في التابوت «الصندوق» وإلقاءه بين أمواج النيل ، وما إلى ذلك ـ أن هذا الطفل من بني إسرائيل ، وأن زوال ملكه على يده ، فجثم كابوس ثقيل على صدره من الهم وألقى على روحه ظلّة ، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه.

فأيده أطرافه وأتباعه المتملّقون على هذه الخطة ، وقالوا : ينبغي أن يذبح هذا الطفل ، ولا دليل على أن لا يجري هذا القانون عليه.

ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولدا ذكرا ، ولم يكن قلبها منسوجا من قماش عمال قصر فرعون ، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.

وإذا أضفنا قصّة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى ـ على ما قدمناه ـ فسيكون دليلا آخر يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الازمة.

ولكن القرآن ـ بجملة مقتضية وذات مغزى كبير ـ ختم الآية قائلا :( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ! ) .

أجل ، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر ، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطرا ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة ، ولا يمكن مخالفتها أبدا

* * *

١٨٦

ملاحظة

تخطيط الله العجيب

إظهار القدرة ليس معناه أن الله إذا أراد أن يهلك قوما جبارين ، يرسل عليهم جنود السماوات والأرض ، فيهلكهم ويدمرهم تدميرا.

إظهار القدرة هو أن يجعل الجبابرة والمستكبرين يدمرون أنفسهم بأيديهم ، يلهم قلوبهم بالإلقاء أنفسهم في البئر التي حفروها لغيرهم ، وأن يصنعوا لأنفسهم سجنا يموتون فيه! وأن يرفعوا أعواد المشانق ليعدموا عليها!

وفي قضية الفراعنة الجبابرة المعاندين حدث مثل هذا ، وتمّت تربية موسى ونجاته في جميع المراحل على أيديهم.

فالقابلة التي أولدت موسى كانت من الأقباط.

والنجار الذي صنع الصندوق الذي أخفي فيه موسى كان قبطيّا.

والذين التقطوا الصندوق كانوا من آل فرعون!.

والذي فتح باب الصندوق كان فرعون بنفسه أو امرأته آسية.

وأخيرا فإن المكان الآمن والهادىء الذي تربّى فيه موسى ـ البطل الذي قهر فرعون ـ هو قصر فرعون ذاته.

وبهذا الشكل يظهر الله تعالى قدرته.

* * *

١٨٧

الآيات

( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) )

التّفسير

عودة موسى إلى حضن أمّه :

في هذه الآيات تتجسد مشاهد جديدة فأمّ موسى التي قلنا عنها : إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل ، بحسب ما فصّلنا آنفا اقتحم قلبها طوفان شديد من الهمّ على فراق ولدها ، فقد أصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خاليا وفارغا منه.

فأوشكت أن تصرخ من أعماقها وتذيع جميع أسرارها ، لكن لطف الله تداركها ، وكما يعبّر القرآن الكريم( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

١٨٨

«الفارغ» معناه الخالي ، والمقصود به هنا أن قلب أم موسى أصبح خاليا من كل شيء إلّا من ذكر موسى وإن كان بعض المفسّرين يرون أن المقصود به هو خلوّ القلب من الهمّ والغمّ ، أو أنّه خال من الإلهام والبشائر التي بشرت بها أم موسى من قبل ، ولكن مع الالتفات لهذه الجمل والتدقيق فيها يبدوا هذا التّفسير غير صحيح.

وطبيعيّ تماما أنّ أمّا تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلّا ولدها الرضيع ، ويبلغ بها الذهول درجة لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.

ولكن الله الذي حمّل أم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله ، ولتعلم أنّه بعين الله ، وأنّه سيعود إليها وسيكون نبيّا.

كلمة «ربطنا» من مادة «ربط» ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظا في مكانه ، ولذلك يدعى هذا المحلّ الذي تربط فيه الحيوانات بـ «الرباط» ثمّ توسعوا في اللغة فصار معنى الربط : الحفظ والتقوية والاستحكام ، والمقصود من «ربط القلب» هنا تقويته أي تثبيت قلب أم موسى ، لتؤمن بوعد الله وتتحمل هذا الحادث الكبير.

وعلى أثر لطف الله أحست أم موسى بالاطمئنان ، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها ، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره( وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ) .

كلمة «قصّيه» مأخوذة من مادة «قصّ» على زنة «نصّ» ومعناها البحث عن آثار الشيء ، وإنّما سميّت القصّة قصّة لأنّها تحمل في طياتها أخبارا مختلفة يتبع بعضها بعضا.

فاستجابت «أخت موسى» لأمر أمّها ، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة ، حتى بصرت به من مكان بعيد ، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه

١٨٩

آل فرعون ويقول القرآن في هذا الصدد :( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ ) .

ولكن أولئك لم يلتفتوا إلى أن أخته تتعقبه( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

قال البعض : إن خدم فرعون كانوا قد خرجوا بالطفل من القصر بحثا عن مرضعة له ، فرأتهم أخت موسى.

ويبدوا أنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر ، فعلى هذا بعد رجوع أم موسى إلى بيتها أرسلت أخته للبحث عنه ، فرأت ـ من فاصلة بعيدة ـ كيف استخرجه آل فرعون من النيل لينجو من الخطر المحدق.

هناك تفاسير أخرى لجملة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أيضا.

فالعلامة «الطبرسي» لا يستعبد أن يكون تكرار هذه الجملة في الآية السابقة والآيات اللاحقة إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أن فرعون جاهل بالأمور الى هذه الدرجة فكيف يدعي الرّبوبية؟ وكيف يريد أن يحارب مشيئة الله التي لا تقهر!؟.

وعلى كل حال ، فقد اقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أمّه عاجلا ليطمئن قلبها ، لذلك يقول القرآن الكريم :( وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ ) (١) .

وطبيعي أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عده ساعات فإنه يجوع ويبكي ولا يطيق تحمل الجوع ، فيجب البحث عن مرضع له ، ولا سيما أن ملكة مصر «امرأة فرعون» تعلق قلبها به بشدّة ، وأحبّته كروحها العزيزة.

كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثا عن مرضع له ، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.

لعل ذلك آت من استيحاشه من وجوه المرضعات ، أو أنّه لم يكن يتذوق

__________________

(١) «المراضع» جمع «مرضع» على زنة «مخبر» ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها ، وقال البعض : (المراضع) جمع (مرضع) على زنة (مكتب) أي مكان الإرضاع ، أي ، «الأثداء» وقال البعض : يحتمل أن تكون الكلمة جمعا للمصدر الميمي «مرضع» بمعنى الرضاع ، ولكن المعنى الأوّل أنسب كما يبدو

١٩٠

ألبانهن ، إذ يبدو لبن كلّ منهن مرّا في فمه ، فكأنّه يريد أن يقفز من أحضان المراضع ، وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعا.

ولم يزل الطفل لحظة بعد أخرى يجوع أكثر فأكثر وهو يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثا عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاء وضجيجا ، وما زال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتا أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل ، فقالت :( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ ) .

إنّني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبنا ، وقلب طافح بالمحبّة ، وقد فقدت وليدها ، وهي مستعدة أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها.

فسّر بها هؤلاء وجاءوا بأمّ موسى إلى قصر فرعون ، فلمّا شمّ الطفل رائحة أمّه التقم ثديها بشغف كبير ، وأشرقت عيناه سرورا ، كما أن عمّال القصر سرّوا كذلك لأنّ البحث عن مربية له أعياهم ، وامرأة فرعون هي الأخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضا.

ولعلهم قالوا للمرضع : أين كنت حتى الآن ، إذ نحن نبحث عن مثلك منذ مدّة فليتك جئت قبل الآن ، فمرحبا بك وبلبنك الذي حلّ هذه المشكلة.

تقول بعض الرّوايات : حين استقبل موسى ثدي أمّه ، قال هامان وزير فرعون لأم موسى : لعلك أمّه الحقيقية ، إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك ، فقالت : أيّها الملك ، لأنّي امرأة ذات عطر طيب ولبني عذب ، لم يأتي طفل رضيع إلّا قبل بي ، فصدّقها الحاضرون وقدموا لها هدايا ثمينة(١) .

ونقرأ في هذا الصدد حديثا قال الراوي : فقلت للإمام الباقرعليه‌السلام ؛ فكم مكث موسى غائبا من أمّه حتى ردّه الله؟ قال «ثلاثة أيّام»(٢) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٤ ، ص ٢٣١.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٦.

١٩١

وقال بعضهم : هذا التحريم التكويني لأنّ الله لم يرد لموسى أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام الملوّثة بأموال السرقة ، أو الملوّثة بالإجرام والرشوة وغصب حقوق الآخرين ، وإنّما أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن أمّه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين.

وتم كل شيء بأمر الله( فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

هنا ينقدح سؤال مهم وهو : هل أودع آل فرعون الطفل «موسى» عند أمّه لترضعه وتأتي به كل حين ـ أو كل يوم ـ إلى قصر فرعون لتراه امرأة فرعون؟!

أم أنّهم أودعوا موسى في القصر وطلبوا من المرضع «أم موسى» أن تأتي بين فترات متناسبة إلى القصر لترضعه؟!

لا يوجد دليل قوي لأيّ من الاحتمالين ، إلّا أن الاحتمال الأوّل أقرب للنظر كما يبدو!

وهناك سؤال آخر أيضا ، وهو : هل انتقل موسى إلى قصر فرعون بعد إكماله فترة الرضاعة ، أم أنّه حافظ على علاقته بأمّه وعائلته وكان يتردد ما بين القصر وبيته؟!

قال بعضهم : أودع موسى بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته ، وتربى موسى عندهما ، تنقل في هذا الصدد قصص عريضة حول موسى وفرعون ، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسىعليه‌السلام بعد بعثته( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟! ) (٢) ، تدل بوضوح على أن موسى عاش في قصر فرعون مدة ، بل مكث هناك سنين طويلة.

ويستفاد من تفسير علي بن إبراهيم أن موسىعليه‌السلام بقي مع كمال الاحترام في

__________________

(١) تحدثنا عن الجذر اللغوي لمادة «تقرّ عينها» في ذيل الآية «٧٤» من سورة الفرقان ـ فيراجع هناك.

(٢) الشعراء ، الآية ١٨.

١٩٢

قصر فرعون حتى مرحلة البلوغ ، إلّا أنّ كلامه عن توحيد الله أزعج فرعون بشدة إلى درجة أنّه صمّم على قتله ، فترك موسى القصر ودخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان ، أحدهما من الأقباط والآخر من الأسباط ، فواجه النزاع بنفسه «وسيأتي تفصيل ذلك في شرح الآيات المقبلة إن شاء الله»(١) .

* * *

__________________

(١) لاحظ تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما ورد في نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٣

الآيات

( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) )

التّفسير

موسىعليه‌السلام وحماية المظلومين :

في هذه الآيات نواجه المرحلة الثّالثة من قصّة موسىعليه‌السلام وما جرى له مع فرعون ، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه ، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثمّ سبب هجرته إلى مدين.

تقول الآيات في البداية( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً

١٩٤

وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

كلمة «أشدّ» مشتقّة من مادة «الشدّة» وهي القوّة.

وكلمة «استوى» مشتقة من «الاستواء» ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.

وهناك كلام بين المفسّرين في الفرق بين المعنيين :

فقال بعض المفسّرين : المقصود من بلوغ الأشد هو أن يصل الإنسان الكمال من حيث القوى الجسمانية ، وغالبا ما يكون في السنة الثامنة عشرة من العمر أمّا الإستواء فهو الاستقرار والاعتدال في أمر الحياة ، وغالبا ما يحصل ذلك بعد الكمال الجسماني.

وقال بعضهم : إنّ المقصود من بلوغ الأشد هو الكمال الجسماني ، وأمّا الاستواء فهو الكمال العقلي والفكري.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب معاني الأخبار قال : فلمّا بلغ أشدّه واستوى قال : «أشدّه ثمان عشر سنة واستوى ، التحى»(١) .

وليس بين هذه التعابير فرق كبير ، ومن مجموعها ـ مع ملاحظة المعنى اللغوي للكلمتين «الأشدّ والاستواء» ـ يستفاد منهما أنّهما يدلان على التكامل في القوى الجسمية والعقلية والروحية.

ولعل الفرق بين «الحكم» و «العلم» هو أنّ الحكم يراد منه العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح ، والعلم يراد به العرفان الذي لا يصحبه الجهل.

أمّا التعبير( كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) فيدل بصورة جليّة على أن موسىعليه‌السلام كان جديرا بهذه المنزلة ، نظرا لتقواه وطهارته وأعماله الصالحة ، إذ جازاه الله «بالعلم والحكم» وواضح أنّ المراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوّة والوحي وما إليهما لأنّ موسىعليه‌السلام يومئذ لم يبعث بعد ، وبقي مدّة بعد ذلك حتى بعث نبيّا.

بل المقصود والمراد من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٥

على القضاء الصحيح وما شابه ذلك ، وقد منح الله هذه الأمور لموسىعليه‌السلام لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة كما ذكرنا آنفا.

ويفهم من هذا التعبير ـ إجمالا ـ أنّ موسىعليه‌السلام لم يتأثر بلون المحيط الذي عاشه في قصر فرعون ، وكان يسعى إلى تحقيق العدل والحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا رغم أنّ جزئيات تلك الأعوام غير واضحة.

وعلى كل حال فإن موسى( دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) .

فما هي المدينة المذكورة في الآية المتقدمة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق لكن الاحتمال القوي أنّها عاصمة مصر وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ موسىعليه‌السلام على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون ، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوما بعد يوم حتى بلغت أوجها ، حكم عليه بالتبعيد عن العاصمة لكنّه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصّة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.

ويحتمل أيضا ، أنّ المقصود دخوله المدينة من جهة قصر فرعون لأنّ القصور يومئذ كانت تشاد على أطراف المدينة ليعرف الداخل إليها والخارج منها.

والمقصود من جملة( عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم ، ولا تراقب المدينة في ذلك الحين بدقّة ، ولكن أي حين وأي زمن هو؟!

قال بعضهم : هو أوّل الليل ، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم ، وجماعة يذهبون للتنزه ، وآخرون لأماكن أخرى هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الرّوايات الإسلامية.

وهناك حديث شريف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الشأن يقول : «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين».

١٩٦

وقد ورد في ذيل هذا الحديث الشريف هذه العبارة «وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء»(١) .

والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيرا ما تحدث الجنايات والفساد والانحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل ، ولا هم نائمون ، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادة ، وتنشط مراكز الفساد أيضا في هذه الساعة.

واحتمل البعض أن ساعة الغفلة هي ما بعد نصف النهار ، حيث يستريح الناس من أعمالهم استراحة مؤقتة ، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر كما يبدو.

وعلى كل حال ، موسى دخل المدينة ، وهنالك واجه مشادّة ونزاعا ، فاقترب من منطقة النزاع( فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ) .

والتعبير بـ «شيعته» يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل ، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة اساسية.

فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه( فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) .

فجاءه موسىعليه‌السلام لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم الذي يقال عنه أنّه كان طباخا في قصر فرعون ، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر ، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره ، فهوى إلى الأرض ميتا في الحال تقول الآية :( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (٢) .

وممّا لا شك فيه ، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني ، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضا ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٤٩ [باب ٢٠ من أبواب الصلوات المندوبة].

(٢) «وكز» مأخوذ من «الوكز» على زنة «رمز» ومعناه الضرب بقبضة اليد ، وهناك معان اخرى لا تناسب المقام

١٩٧

ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام أسف على هذا الأمر( قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) .

وبتعبير آخر : فإنّ موسىعليه‌السلام كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي ، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك. لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل ، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسىعليه‌السلام إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.

ثمّ يتحدث القرآن عن موسىعليه‌السلام فيقول :( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

ومن المسلم به أنّ موسىعليه‌السلام لم يصدر منه ذنب هنا ، بل ترك الأولى ، فكان ينبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة ، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون ، فشمله اللطيف الخبير بلطفه.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام حين نجا بلطف الله من هذا المأزق( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ ) من عفوك عني وانقاذي من يد الأعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) . ومعينا للظالمين.

بل سأنصر المؤمنين المظلومين ، ويريد موسىعليه‌السلام أن يقول : إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبدا بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين ..».

واحتمل بعضهم أن يكون المقصود بـ «المجرمين» هو هذا الإسرائيلي الذي نصره موسى ، إلّا أن هذا الاحتمال بعيد جدّا ، حسب الظاهر.

* * *

١٩٨

مسألتان

١ ـ ألم يكن عمل موسى هذا مخالفا للعصمة!

للمفسّرين أبحاث مذيّلة وطويلة في شأن المشاجرة التي حدثت بين القبطي والإسرائيلي وقتل موسى للقبطي.

وبالطبع فإنّ أصل هذا العمل ليس مسألة مهمّة لأنّ الظلمة الأقباط والفراعنة المفسدين الذين قتلوا آلاف الأطفال من بني إسرائيل ولم يتأبّوا يحجموا عن أية جريمة ضد بني إسرائيل ، لم تكن لهم حرمة عند بني إسرائيل.

إنّما المهم عند علماء التّفسير هو تعبيرات موسىعليه‌السلام التي ولّدت إشكالات عندهم.

فهو تارة يقول :( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) .

وفي مكان آخر يقول :( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) .

فكيف تنسجم أمثال هذه التعابير مع عصمة الأنبياء حتى قبل بعثتهم ورسالتهم.

ولكن هذه الإشكالات تزول بالتوضيح المتقدم في تفسير الآية الآنفة ، وهو أن ما صدر من موسىعليه‌السلام هو من قبيل «ترك الأولى» لا أكثر ، إذ كان عليه أن يحتاط قبل أن يضرب القبطي ، فلم يحتط ، فأوقع نفسه في مشاكل جانبية ، لأنّ قتل القبطي لم يكن أمرا هينا حتى يعفو عنه الفراعنة.

ونعرف أن ترك الأولى لا يعني أنّه عمل حرام ذاتا ، بل يؤدي الى ترك عمل أهم وأفضل ، دون أن يصدر منه عمل مخالف ومناف لذلك العمل!.

ونظير هذه التعابير ما ورد في بعض قصص الأنبياء من جملتهم أبو البشر آدمعليه‌السلام التي تقدم شرحه في ذيل الآية (١٩) من سورة الأعراف.

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في تفسير الآيات

١٩٩

المتقدمة :

«قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » يعنى الاقتتال الذي وقع بين الرجل لا ما فعله موسىعليه‌السلام من قتله «إنه» يعنى الشيطان «عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ » ـ وأمّا المراد من جملة ـ «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي » يعنى ان موسى يريد أن يقول وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة «فَاغْفِرْ لِي » أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني ...».(١)

٢ ـ دعم المجرمين وإسنادهم من أعظم الآثام :

هناك باب مفصل في الفقه الإسلامي فيه أحاديث وافرة تتحدث حول «الإعانة على الإثم» و «معاونة الظلمة» وتدل على أن واحدا من أسوأ الآثام إعانة الظالمين والمجرمين ، وتكون سببا لأن يشترك المعين في مصيرهم الأسود.

وأساسا فإنّ الظلمة والمجرمين ـ أمثال فرعون ـ في المجتمع أيّا كان هم أفراد معدودون ، وإذا لم يساعد المجتمع هؤلاء لم يكونوا فراعنة ، فهؤلاء القلّة المتفرعنون إنّما يعتمدون على الناس الضعاف أو الانتهازيين وعبدة الدنيا ، الذين يلتفّون حولهم ويكونون لهم أجنحة وأذرعا ، أو على الأقل يكثّرون السواد ليوفروا لهم القدرة الشيطانية.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى هذا الأصل الإسلامي ، فنحن نقرأ في الآية الثّانية من سورة المائدة قوله تعالى :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) .

كما أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته بالقول :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) عيون أخبار الرضا طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

٣ ـ صاحبة أول صالون أدبي في مصر :

هذه دعوى بلا دليل ، بل موضوعة على السيدة سكينة ، وما نسب إليها من كثرة الشعر ـ كما أخبر صاحب الأغاني ـ ، فغير صحيح ، إذ لو كان عندها كل ذلك لقالته في رثاء والدها ، بل المعروف أنّ لها أبياتاً قليلة في رثاء والدها :

لا تَعْذليه فهم قاطعٌ طُرُقه

فعينه بدموع دُرَّفٍ غدقه

إنّ الحسين غداة الطف يرشقه

ريب المنون فما أن يخطئ الحدقه

بكفّ شر عباد الله كلهم

نسل البغايا وجيش المرَّق الفسقة

يا أمة السوء هاتوا ما احتجاجكم

غداً وجلُّكم بالسيف قد صفقه

الويل حل بكم إلا بمن لحقه

صيرتموه لأرماح العدى درقه

يا عين فاحتفلي طول الحياة دماً

لا تبك ولداً ولا أهلاً ولا رفقه

لكن على ابن رسول الله فانسكبي

قيحاً ودمعاً وفي أثريهما العلقة(٣٥٨)

والكلمة الأخيرة في حق السيدة سكينة لوالدها الحسين : «أما سكينة ؛ فغالب عليها التوجه إلى الله تعالى. فنفهم من هذه الكلمة ، أنّ كل ما قيل : من لقاء الشعراء وبيت الضيافة غير صحيح وكل أملي للكاتب المحترم ، أنّ يتنبّه للحقائق التاريخية قبل كتابتها ، حتى يكون قد أنصف في كتابته ، ولا يعتمد على نقل الروايات فقط من دون تتحقيق ، والعصمة لله» (٣٥٩).

__________________

(٣٥٨) ـ شُبّر ، جواد : أدب الطف ، ج ١ / ١٥٨.

(٣٥٩) ـ المنهل ـ العدد ٤٩٢ ، جمادى الآخرة ١٤١٢ هـ / ١٨٠ ـ ١٨١. وهنا تصحيح للأخطاء المطبعية وذكر النواقص التي لم تذكر في هذا الععدد «المؤلف».

٢٨١

رؤياها في دمشق :

وبعد ذكر هذه الترجمة المختصرة للسيدة سكينة عليها السلام ، نذكر بعض الروايات التي ذكرت رؤياها في دمشق ، وهي كالتالي :

١ ـ ذكر السيد ابن طاووس في كتابه (اللهوف في قتلى الطفوف) : «قال الراوي : ووعد يزيد علي بن الحسين عليهما السلام في ذلك اليوم أنّه يقضي له ثلاث حاجات ، ثم أمر بهم إلى منزل لا يكنهم من حرٍ ولا برد ، فأقاموا به حتى تقشرت وجوههم ، وكانوا مدة إقامتهم في البلد المشار إليه ، ينوحون على الحسين عليه السلام. قالت سكينة : فلما كان في اليوم الرابع من مقامنا ؛ رأيت في المنام رؤيا ـ وذكرت مناماً طويلاً تقول في آخره ـ : رأيت إمرأة راكبة في هودج ويدها موضوعة على رأسها ، فسألت عنها فقيل لي : هذه فاطمة بنت محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أم أبيك صلوات الله عليه ، فقلت : والله لأنطلقن إليها ، ولأخبرنّها ما صنع بها ، فسعيتُ مبادرةً نحوها حتى لحقتُ بها ، فوقفتُ بين يديها أبكي وأقول : يا أمّاه ، جحدوا والله حَقّنا ، يا أمّاه ، بَدّدوا والله شملنا ، يا أمّاه ، إستباحوا والله حريمنا ، يا أمّاه ، قتلوا والله الحسين أبانا ، فقالت لي : كفّي صوتك يا سكينة ، فقد قطعت نياط قلبي ، هذا قميص أبيك الحسين لا يفارقني حتى ألقى الله به» (٣٦٠).

٢ ـ وذكر الشيخ ابن نما في كتابه (مثير الأحزان) : «ورأت سكينة في منامها وهي بدمشق ، كأنّ خمسة نجب من نور قد أقبلت ، وعلى كل نجيب شيخ والملائكة محدقة بهم ، ومعهم وصيف يمشي ، فمضى النجب وأقبل الوصيف إليّ وقرب مني وقال : يا سكينة ، إنّ جدّك يسلم عليك.

__________________

(٣٦٠) ـ ابن طاووس ، السيد علي الحسني الحسيني : اللهوف في قتلى الطفوف / ٧٩.

٢٨٢

فقلت : وعلى رسول الله السلام ، يا رسول ، رسول الله من أنت؟ قال وصيف من وصائف الجنة. فقلت : من هؤلاء المشيخة الذين جاؤوا على النجب؟

قال الأول آدم صفوة الله ، والثاني إبراهيم خليل الله ، والثالث موسى كليم الله ، والرابع عيسى روح الله. فقلت : من هذا القابض على لحيته يسقط مرة ويقوم أخرى؟ فقال : جدك رسول الله صلى الله عليه وآله.

فقلت : وأين هم قاصدون؟ قال : إلى أبيك الحسين عليه السلام. فأقبلت أسعى في طلبه لأعرفه ما صنع بنا الظالمون بعده. فبينا أنا كذلك إذ أقبلت خمسة هوادج من نور ، وفي كل هودج إمرأة. فقلت : من هذه النسوة المقبلات؟ قال : الأولى حواء أم البشر ، والثانية آسية بنت مزاحم ، والثالثة مريم بنت عمران ، والرابعة خديجة بنت خويلد ، والخامسة الواضعة يدها على رأسها تسقط مرة وتقوم أخرى ، جدتك فاطمة بنت محمد أم أبيك. فقلت : والله لأخبرنها ما صنع بنا ، فلحقتها ، فوقفت بين يديها أبكي ، وأقول : يا أمّاه جحدوا والله حقنا ، يا أمّاه بددوا والله شملنا ، يا أمّاه إستباحوا والله حريمنا ، يا أمّاه قتلوا والله الحسين أبانا. فقالت : كفي صوتك يا سكينة ، فقد أحرقت كبدي ، وقطعت نياط قلبي ، وحدثت به أهلي ، فشاع بين الناس»(٣٦١) .

٣ ـ قال الراوي : «فلما سكن الروع ، قالت سكينة : إعلم يا يزيد ، أني البارحة كنتُ بين النوم واليقظة ؛ إذ رأيت قصراً شرفاته من الياقوت ، وإذا بباب قد فتح ، فخرج منه خمسة مشايخ قد عظم الله تعالى أجورهم ، وزاد في نورهم ، ويقدمهم وصيف فتقدمت إليه وقلت : يا فتى لمن هذا

__________________

(٣٦١) ـ ابن نما ، الشيخ محمد جعفر الحلي : مثير الأحزان / ١٠٤ ـ ١٠٥.

٢٨٣

القصر؟ فقال : لأبيك الحسين. فقلت : ومن هذه المشايخ؟ فقال : هذا آدم ، ونوح ، وابراهيم ، وموسى ، وعيسى ، فبينما هو يخاطبني إذ أقبل رجل قمري الوجه كأنه قد إجتمع عليه هَمّ الدنيا ، وهو قابض على لحيته ، فقلت : من هذا؟ فقال : جدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فدنوت منه وقلت : يا جداه ، قد قتلت والله رجالنا ، وذبحت والله أطفالنا ، وهتكت والله حريمنا ، فإنحنى عليّ وضمني إلى صدره ، وبكى بكاء عالياً ، فأقبل إبراهيم ، وآدم ، ونوح ، وموسى ، وعيسى وقالوا : إخفضي من صوتك يا بنت الصفوة ، فقد أوجعت قلب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم أخذ الوصيف بيدي وأدخلني القصر. وإذا بخمس نسوة كالبدور الطالعة ، وبينهن إمرأة ناشرة شعرها ، قد صبغت أثوابها بالسواد ، وبين يديها قميص مضمخ بالدماء ، إن هي قامت قمن النساء مها ، وإن هي جلست جلسن معها ، وكانت تحثو التراب على رأسها بعد مرة ، وتعض الأكف غيضاً وحنقاً ، تكاد أن تذوب مهجتها ، قد إحترق قلبها حزناً لمصاب الحسين ، فقلت للوصيف فمن هؤلاء النسوة؟ فقال : هذه حواء ، ومريم ، وأم موسى ، وآسية ، وخديجة الكبىر ، وصاحبة القميص المضمّخ بالدم جدتك فاطمة الزهراء. فدنوت منها وقلت لها : يا جدتاه ، قتلوا والله أبي ، وأيتمت على صغر سني ، فضمنتني إلى صدرها وقالت : يعزّ والله عليّ ذلك ، وصارت صارخة وقالت : أحرقت قلبي يا سكينة ، من غسّل ابني؟ من كفّنه؟ من صلى عليه؟ من جهّزه؟ من سار بنعشه؟ من حفر له قبراً؟ من تحفّى له؟ من لحّده في لحده؟ من شرج له لبناً؟ من أهال التراب على وجه ولدي وقرّة عيني الحسين؟ من ذا كفل أيتامكم يا سكينة بعده؟ من حَنّ عليكم

٢٨٤

بعوائد اللطف؟ من تكفل أرامله؟ ثم قالت : وا ولداه ، وا مهجة قلباه ، وا ثمرة فؤاداه. فتناوحت النساء من حولها ، حتى ظننت أنّ القصر يريد أن ينطبق ، وهي من عبرتها تخنق ، فجعلت النساء يعزونها تعزية شديدة ، ويهدئنها ولم تكن تهدأ ولا تقنق ، كأنّها قد أخذت حزن أهل الدنيا على رأسها ، هذا والنساء يقلن لها : يا فاطمة (سلام الله عليكم) ، يحكم الله تعالى بينكم وبين يزيد (لع) وهو خير الحاكمين ، وودعتني وهي باكية ، فانتبهت وجلة قد زادني حزناً إلى حزني فراقها. قال : فعند ذلك ضحك يزيد (لع) مستهزءاً وقال : إنكم تسلون بالأحلام ولم يعبأ بكلام الطاهرة ، ولم يخف من ملالها»(٣٦٢) .

نتيجة بحث رؤياها :

وبعد عرض هذه الروايات التي ذكرت رؤيا السيدة سكينة في دمشق ؛ نخرج بالنتيجة التالية :

أولاً ـ إنّ الروايات مختلفة من حيث الإجمال والتفصيل ، وإختلاف الألفاظ والفقرات والزيادة والنقصان ، ومع ذلك يمكن القول بوحدة القضية وكونها رواية واحدة ، ولعل ذلك يرجع إلى ما يلي :

١ ـ إنّ من دأب الرواة الزيادة والنقصان ، سواء من باب العمد أو السهو أو النسيان.

٢ ـ قد يرجع ذلك إلى النسّاخ في نقل الرواية من مصادرها الأساسية ، وهذا معروف عنهم.

__________________

(٣٦٢) ـ الدربندي ، الشيخ آغا بن عابد الشيرواني الحائري : أسرار الشهادة ، ج ٣ / ٦٢٢ ـ ٦٢٣.

٢٨٥

ثانياً ـ إنّ رواية الشيخ ابن نما الحلي تنصّ على أنّ سكينة لم تقص الرؤيا على يزيد (بع) ، بل أرادت إخفائها عنه ، فشاعت بين الناس ، وهذا هو الأقرب إلى الصحة ، وذلك لما يلي :

١ ـ إنّ بعض الروايات التي نصت على إخبارها ليزيد برؤياها ، تنص على أنّ يزيد تارة يسخر من كلامها ، وتارة أخرى يبكي ويقول : ما لي ولقتل الحسين. فهي متضاربة من حيث النتيجة من الإستهزاء تارة والبكاء تارة أخرى؟!

٢ ـ إنّ مخاطبة السيدة سكينة وقصّ رؤياها ليزيد (لع) مستبعدة ؛ وذلك لما هو الملاحظ من سيرته مع أهل البيت عليهم السلام من الشماتة والإستهزاء بهم ، وقد عَبّرت عنه هذه السيدة الجليلة بما روي عنها : (ما رَأيت أقسى قلباً من يزيد ، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شرّاً منه ، ولا أجفى منه)(٣٦٣) .

ثالثاً ـ تنصّ بعض الروايات على أنّ يزيد (لع) كان يهزأ من رؤيا سكينة ، وبعضها تنصّ على أنّه بكى وقال : مالي ولقتل الحسين؟ وإن صح هذا ال قول المنسوب إليه ، فيدل على أنّه لما افتضح بين أهل الشام ، أراد أن يبرر موقفه بالندم تارة ، ونسبة القتل إلى ابن زياد تارة أخرى ، وهذا هو المعروف من سيرته مع أهل البيت عليهم السلام في دمشق. نذكر منها ما يلي :

أ ـ ذكر الشيخ عباس القمي (ره) : «وفي رواية أخرى ، أنّ هند زوجة يزيد بنت عبد الله بن عامر بن كريز ، كانت قبل ذلك تحت الحسين عليه السلام ، فلما دخلت على يزيد كان الملعون جالساً في مجلس عام ، فقالت : يا يزيد ، أرأس ابن افطمة بنت رسول الله مصلوب على فناء داري. فوثب إليها يزيد

__________________

(٣٦٣) ـ المجلسي ، الشيخ محمد باقر : بحار الأنوار ، ج ٤٥ / ١٥٥ ـ ١٥٦.

٢٨٦

فغطاها وقال : نعم ، فأعولي عليه يا هند ، وأبكي على ابن بنت رسول الله وصريخة قريش ، عَجّل عليه ابن زياد لعنه الله فقتله ، قتله الله ، ثم إنّ يزيد أنزلهم في داره الخاصة ، فما كان يتغدى ولا يتعشى حتى يحضر علي بن الحسين (عليه السلام)»(٣٦٤) .

ب ـ وذكر الشيخ عباس القمي أيضا : «وقيل لما وصل الحسين (عليه السلام) إلى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده ، وزاده ووصله وسره ما فعل ، ثم لم يلبث إلا يسيراً حتى بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبهم ، فندم على قتل الحسين (عليه السلام) ، فكان يقول : وما عليّ لو إحتملت الأذى وأنزلت الحسين معي في داري وحكمته فيما يريد ، وإن كان عليّ في ذلك وهن في سلطاني ، حفظاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ورعاية لحقه وقرابته ، لعن الله ابن مرجانة ، فإنّه إضطره وقد سأله أن يضع يده في يدي ، أو يلحق يثغر حتى يتوفاه الله ، فلم يجبه إلى ذلك فقتله فبغّضني بقتله إلى المسلمين ، وزرع في قلوبهم العداوة فأبغضني البر والفاجر بما استعظموه من قتل الحسين (عليه السلام) ، مالي ولابن مرجانة (لعنه الله وغضب عليه). ثم عَقّب الشيخ عباس القمي على ذلك بقوله : «يظهر لمن تأمل في أفعال يزيد وأقواله ، أنّه لما جيء برأس الحسين (عليه السلام) وأهل بيته سُرّ بذلك غاية السرور ، ففعل ما فعل مع الرأس الشريف ، وقال ما قال ، وحبس علياً بن ال حسين (عليه السلام) وسائر أهل بيته في محبس لا يكنّهم من حَرّ ولا قَرّ ، حتى تقشرت وجوههم ، فلما عرفهم الناس واطلعوا على جلالتهم وأنهم مظلومون ، ومن أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه

__________________

(٣٦٤) ـ القمي ، الشيخ عباس : نفس المهموم / ٤١٩ ـ ٤٢٠.

٢٨٧

وآله) كرهوا فعل يزيد ، بل لعنوه وسبوه وأقبلوا على أهل البيت ، فلما إطلع يزيد على ذلك أراد أن يفرغ ذمته من دم الحسين (عليه السلام) ، فنسب قتله إلى إبن زياد ولعنه بفعله ذلك ، وأظهر الندم على قتله (عليه السلام) ، وغَيّر حاله مع علي بن الحسين (عليه السلام) وسائر أهل بيته ، فأنزلهم في داره الخاصة ، حفظاً للملك والسلطنة ، وجلباً لقلوب العامة ، لا أنّه ندم على قتل الحسين ، وساءه ما فعل إبن زياد ، بحسب الواقع ونفس الأمر.

والذي يدل على هذا ، ما نقله السبط ابن الجوزي في التذكرة : أنّه إستدعى ابن زياد إليه واعطاه أموالاً كثيرة ، وتحفاً عظيمة ، وقَرّب مجلسه ، ورفع منزلته وأدخله على نسائه ، وجعله نديمه ، وسكر ليلة وقال للمغني : غَنِّ ، ثم قال يزيد بَدِيهاً :

إسقني شربة تروي مَشَاشِي

ثم مِل فاسقِ مثلها ابن زيادِ

صاحب السر والأمانة عندي

ولتسديد مغنمي وجهادي

قاتل الخارجي أعني حسيناً

ومبيد الأعداء والحساد»(٣٦٥)

رابعاً ـ في رواية السيد ابن طاووس في كتابه (اللهوف) : أنّ السكينة عليها السلام رأت جدها الزهراء عليها السلام وفي بعض الروايات أنّها رأت جدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأولي العزم من الأنبياء.

وفي رواية الشيخ ابن نما الحلي ، رأت جدتها الزهراء عليها السلام وسيدات النساء المفضلات على العالمين ، وفي رواية المجلسي في كتابه (بحار الأنوار ج ٤٥ /

__________________

(٣٦٥) ـ المصدر السابق / ٤٢٠ ـ ٤٢١.

٢٨٨

١٩٥) : أنّها رأت زيادة على ذلك جدها أمير المؤمنين عليه السلام. هذا ما أردنا بيانه ، والله سبحانه العالم بحقائق الأمور.

٢٨٩
٢٩٠

٧ ـ السيدة رُقَية (عليها السلام)

أولاً ـ أخوات السيدة رقية

١ ـ السيدة فاطمة

ـ زوجها وأولادها

ـ منزلتها وعلوّ شأنها

ـ وفاتها ومدفنها

٢ ـ السيدة فاطمة الصغرى (العليلة)

٢٩١
٢٩٢

٧ ـ السيدة رُقيّة بنت الإمام الحسين (عليه السلام) :

قبل عرض ما ذكرته الروايات لرؤياها في الشام ، ينبغي التعرف على شخصيتها ، وبما أنّ هناك تكراراً لإسم فاطمة في بنات الإمام الحسين عليه السلام ، وأيضاً يضاف له الكبرى ، والصغرى ، والصغيرة ، لذا ينبغي البحث في عددها ، وإعطاء نبذة عنها ؛ كي يتضح لنا التَعرّف على السيدة رقية من خلال ذلك ، والبحث في ذلك يرتكز على التالي :

أولاً ـ اخوات السيدة رقية (عليها السلام) :

المستفاد من كلمات المؤرخين أنّ بنات الحسين عليه السلام أربع : فاطمة ، وسكينة ، وزينب ، ورقية ، وقد مضى الحديث عن السيدة سكينة عليها السلام ، وبقي الحديث عن أخواتها كالتالي :

١ ـ السيدة فاطمة (عليها السلام) :

السيدة فاطمة المعروفة بـ(فاطمة الكبرى ، وفاطمة الصغرى ، وزينب الصغرى).

قال السيد جعفر آل بحر العلوم (ره) : «وكانت تُلقّب بفاطمة الصغرى ، قبال فاطمة الصِدِّيقة الكبرى ، ويظهر من (الكافي) أنّها أكبر سناً من أختها سكينة بنت الحسين عليه السلام ؛ لأنّه عليه السلام في يوم الطف أوصى إليها لتوصل الوصية إلى السجاد عليه السلام»(٣٦٦) .

__________________

(٣٦٦) ـ بحر العلوم ، السيد جعفر : تحفة العالم ، ج ١ / ٢٩٨.

٢٩٣

وذكر الشيخ الحائري (ره) في كتابه (معالي السبطين) : «وفاطمة الكبرى ، الملقبة بزينب الصغرى ، وقيل : أمها قضاعية ، فعلى هذا هي وجعفر بن الحسين عليه السلام من أم واحدة»(٣٦٧) .

أقول : تبين لنا بعد عرض هذين النصين ، أنّ هذه السيدة تعرف بـ(فاطمة الكبرى) باعتبار أنّها أكبر بناته عليه السلام ، وفاطمة الصغرى باعتبار جدتها الصديقة الكبرى (فاطمة) ، ولعلّ من قال : بأنّ للحسين عليه السلام بنتاً إسمها (زينب) ، هي هذه السيدة ؛ لأنّها تعرف بـ(زينب الصغرى).

والدتها هي : أم إسحاق ، بنت طلحة ، بن عبيد الله التيمي ، كانت زوجة الإمام الحسن عليه السلام ، وولدت له طلحة ، وقد درج ولا عقب له ، ثم تزوجها الإمام الحسين عليه السلام بوصية منه ، فولدت له فاطمة.

وذكر الشيخ عباس القمي (ره) في كتابه (نفثة المصدور) : «قال ابو الفرج : وأمها ـ أي أم إسحاق ـ جرباء بنت قسامة ، بن رومان من طيء ، إنّما سميت جرباء لحسنها ، كانت لا تقف إلى جانبها إمرأة ـ وإن كانت جميلة ـ إلا إستقبح منظرها لجمالها ، وكانت النساء يتحامين أن يقفن إلى جانبها ، فشبهت بالناقة الجرباء التي تتوقاها الإبل مخافة أن تعديها ، وقد كانت أم إسحاق عند الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) ، قبل أخيه الحسين (عليه السلام) ، فلما حضرته الوفاة دعا بالحسين (عليه السلام) ، فقال : يا أخي ، إنّي أرضى هذه المرأة لك ، فلا تخرجن من بيوتكم ، فإذا إنقضت عدتها فتزوجها ،

__________________

(٣٦٧) ـ الحائري ، الشيخ محمد مهدي : معالي السبطين ، ج ٢ / ٢١٤.

٢٩٤

فلما توفي (عليه السلام) ؛ تزوجها الحسين ، وقد كان ولدت من الحسن (عليه السلام) طلحة ، وقد درج ولا عقب له»(٣٦٨) .

هل أم إسحاق والدة السيدة فاطمة؟

المشهور بين المؤرخين أنّ أمّها هي (أم إسحاق) ؛ إلا أنّ هذه الشهرة قابلة للنقاش والتحقيق ، وذلك كالتالي :

أولاً ـ أنّ (أم إسحاق) كانت زوجة للإمام الحسن عليه السلام ثم تزوجها من بعده الإمام الحسين عليه السلام.

والأقوال في تاريخ وفاة الامام الحسن هي :

(٥٠ هـ ، ٤٩ هـ ، ٥١ هـ ، ٤٤ هـ ، ٤٧ هـ ، ٥٨ هـ).

والأقوال في وفاة السيدة فاطمة عليها السلام مرددة بين عام (١١٧ هـ و ١١٠ هـ) ، وأن عمرها (٧٠ أو أكثر من ٧٠ ، أو قاربت التسعين) ، ويمكن الجمع بين هذه الأقوال بأنّ عمرها (٧٠ ـ ٨٠) ، فيكون تاريخ ولادتها كالتالي :

(١١٧ – ٧٠ = ٤٧ هـ ، فيكون عمرها يوم الطف (١٣ سنة)

(١١٧ – ٨٠ = ٣٧ هـ ، فيكون عمرها يوم الطف (٢٣ سنة)

(١١٠ – ٧٠ = ٤٠ هـ ، فيكون عمرها يوم الطف (٢٠ سنة)

(١١٠ – ٨٠ = ٣٠ هـ ، فيكون عمرها يوم الطف (٣٠ سنة)

وعلى كل هذه الفروض والإحتمالات ، فأقربها هو أنّ ولادتها عام (٤٧ هـ) ، ومع هذا فهو قابل للنقاش ؛ حيث أنّه أحد الأقوال الغير قوية في وفاة الإمام الحسن عليه السلام ، ومع هذا لا يقبل هذا الإحتمال ؛ إذ أنّها أكبر من أختها السيدة سكينة ، وقد عَبّر عنها الحسين عليه السلام بـ(يا خيرة النسوانِ) وعلى بعض

__________________

(٣٦٨) ـ القمي ، الشيخ عباس : نفثة المصدور / ٤٨٢.

٢٩٥

الأقوال أنّ عمرها يوم وفاتها (٧٥ سنة) ، وتاريخ وفاتها عام (١١٧ هـ) ، فتكون ولادتها عام (٤٢ هـ) ، وعمرها يوم الطف (١٨ سنة) ، فعلى هذا يُستبعد هذا الإحتمال.

ثانياً ـ قد يكون هناك خلط بين فاطمة بنت الإمام الحسن عليه السلام وفاطمة بنت الإمام الحسين عليه السلام ، فقد ذكر الشيخ المفيد (قده) في كتابه (الإرشاد) ـ في تعداد أولاد الإمام الحسن عليه السلام ـ : «والحسين بن الحسن الملقب بالأثرم ، وأخوه طلحة بن الحسن ، وأختهما فاطمة بنت الحسن ، أمهم أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التيمي»(٣٦٩) .

ثالثاً ـ وقد تكون أمّاً لغير فاطمة الكبرى من بنات الحسين عليه السلام ، فقد ذكر الشيخ الحائري (ره) في كتابه (معالي السبطين) : «وفاطمة الكبرى ، الملقبة بزينب الصغرى ، أمّها قضاعية ، فعلى هذا هي وجعفر بن الحسين عليه السلام من أم واحدة»(٣٧٠) .

وقال أيضاً : «وفاطمة الصغرى ، وقال صاحب (الحدائق الوردية) وفاطمة الصغرى ، هي أخت عبد الله الرضيع من أمه ، وهو الذي ولد في الحرب وقت صلاة الظهر ، وقتل في حجر أبيه»(٣٧١) .

وقال أيضاً : «وفاطمة الصغرى ؛ هي التي خلفها الحسين عليه السلام بالمدينة لمصلحة ، أو لأنّها مريضة ، وفي كتاب (مشارق الأنوار) ، نقلاً عن كتاب (درر الأصداف (: إنّ للحسين عليه السلام فاطمة صغرى ، وفاطمة كبرى ، ثم قال : وجاء

__________________

(٣٦٩) ـ المفيد ، الشيخ محمد بن محمد : الإرشاد ، ج ٢ / ٢٠.

(٣٧٠) ـ الحائري ، الشيخ محمد مهدي : معالي السبطين ، ج ٢ / ٢١٤.

(٣٧١) ـ نفس المصدر.

٢٩٦

غراب وتمرّغ في دمه وطار حتى وقع بالمدينة على جدار فاطمة بنت الحسين عليه السلام وهي صغيرة»(٣٧٢) .

فبعد هذا البيان ؛ إتضح لنا ، أنّ هناك فاطمة أخرى للحسين عليه السلام قد تكون أمها (أم إسحاق) ، وسيتضح لنا فيما بعد أنّها أم (لرقية وعلي الأصغر ، الرضيع المولود وقت صلاة الظهر يوم عاشوراء ، ولم يتضح لنا أنّها أمّاً لفاطمة الكبرى بنت الحسين عليه السلام ، بل أمّها قضاعية ، والله العالم بحقايق الأمور.

زوجها وأولادها :

تزوجت بابن عمها الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين عليه السلام ، كما ذكر ذلك الشيخ المفيد (قده) في كتابه (الإرشاد) : «وروي : أنّ الحسن بن الحسن ، خطب إلى عمِّه الحسين بن علي (عليهما السلام) إحدى إبنتيه ، فقال له الحسين ، إختر يا بُنيّ أحبهما إليك ، فاستحيا الحسن ولم يُحِرْ جواباً ، فقال الحسين (عليه السلام) : فإنّي قد إخترت لك ابنتي فاطمة ، وهي أكثرهما شبهاً بأمي فاطمة بنت رسول الله (صلى اللع عليهما) ...»(٣٧٣) والمستفاد من نَصّ الشيخ المفيد (قده) ، جلالة وحسن حال هذا الرجل ، حيث قال : فأما الحسن بن الحسن ؛ فكان جليلاً رئيساً فاضلاً ورعاً ، وكان يلي صدقات أمير المؤمنين (عليه السلام) في وقته»(٣٧٤) . وقال أيضاً : «وكان الحسن بن الحسن حضر مع عمه الحسين بن علي (عليهما السلام) الطف ، فلما قتل الحسين ، وأسر الباقون من أهله ؛ جاءه أسماء بن خارجة فانتزعه من بين الأسرى ، وقال : والله لا يوصل

__________________

(٣٧٢) ـ المصدر السابق.

(٣٧٣) ـ المفيد ، الشيخ محمد بن محمد : الإرشاد ، ج ٢ / ٢٣.

(٣٧٤) ـ نفس المصدر / ٢٥.

٢٩٧

إلى ابن خولة أبداً. فقال عمر بن سعد : دعوا لأبي حَسّان ابن أخته. ويقال : إنّه أسر وكان به جراح قد أشفي منها»(٣٧٥) . وقال أيضاً : «ومضى الحسن بن الحسن ولم يَدّعِ الإمامة ، ولا إدّعَاها له مُدّعٍ ، كما وصفناه من حال أخيه زيد رحمة الله علهيما)(٣٧٦) .

وأنجب من بنت عمه ثلاثة أولاد وبنتا واحدة كالتالي :

١ ـ عبد الله بن الحسن (المحض)(٣٧٧) :

«شيخ بني هاشم ، والمقدم فيهم وذا الكثير منهم فضلاً وعلماً وكرماً ، ولد في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد. وقتل في محبسه بالهاشمية ، وهو ابن خمس وسبعين ، سنة خمس وأربعين ومائة»(٣٧٨) .

٢ ـ الحسن بن الحسن :

كان فاضلاً ورعاص ، توفي في محبسه بالهاشمية ، في ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائة ، وهو ابن ثمانٍ وستين سنة.

٣ ـ إبراهيم بن الحسن (الغمر)(٣٧٩) :

يكنى أبا الحسن ، كان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وتوفي في محبسه بالهاشمية في شهر ربيع الأول سنة خمس وأربعين ومائة ، وهو أول من توفي منهم في السجن ، وهو ابن سبع وستين.

__________________

(٣٧٥) ـ المصدر السابق.

(٣٧٦) ـ نفس المصدر / ٢٦.

(٣٧٧) ـ سمي بـ(المحض) ؛ لأنّ أباه ال حسن بن الحسن ، وأمه فاطمة بنت الحسين (ع) ، وكان يشبه برسول الله (ص).

(٣٧٨) ـ الإصفهاني ، ابو فرج ، علي بن الحسين : مقاتل الطالبيين / ١٨٠ ـ ١٨٤.

(٣٧٩) ـ سمي بـ(الغمر) ؛ لجوده وكرمه.

٢٩٨

٤ ـ زينب (أم جعفر) :

لم نعرف عن تاريخها شيئاً.

مناقشة تعدد أزواجها :

وزوج السيدة فاطمة عليها السلام الوحيد هو ابن عمها ، ولم تتزوج بغيره ، كما هو المعروف عند الإمامية ، وأما إدّعَاء ابو الفرج الإصفهاني ، نقلاً عن الزبير بن بكار : «وقد كانت فاطمة تزوجت بعد الحسن ، عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ـ وهو عَم الشاعر الذي يقال له : العَرْجِي ـ ، فولدت له أولاداً ، منهم المقتول مع أخيه عبد الله بن الحسن ، ويقال له : الدِيببَاج ، والقاسم والرقية ، بنو عبد الله بن عمرو»(٣٨٠) . فيمكن مناقشة ذلك بما يلي :

أولاً ـ لم يذكر ذلك علماء الشيعة ورجال التاريخ ، مع ما عرفوا به من الإطلاع والتحقيق ، أمثال الشيخ المفيد ، والسيد المرتضى ، وابن شهر آشوب ، وغيرهم من أعلام البحث والتحقيق.

ثانياً ـ ما ذكره أبو الفرج الإصفهاني في روايته عن الزبير بن بكار ، عن عمه مصعب ؛ مقدوح فيه ، لإنحرافهما عن أهل البيت عليهم السلام وعداوتهما الواضحة ، فقد ألصقا التهم وكثرة الأزواج بأختها السيدة سكينة كذلك ، وهذا واضح لكل من قرأ ما ذكره أبو الفرج الإصفهاني من المهازل والأساطير ، بالنسبة للأزواج المدّعَاة للسيدة فاطمة بنت الحسين عليهما السلام.

ثالثاً ـ ما ذكره الشيخ المفيد (قده) : «ولما مات الحسن بن الحسن ـ رحمة الله عليه ـ ضربت زوجته فاطمة بنت الحسين على قبره فسطاطاً ، وكانت

__________________

(٣٨٠) ـ الإصفهاني ، ابو الفجر ، علي بن الحسين : مقاتل الطالبيين / ١٨٠.

٢٩٩

تقوم الليل وتصوم النهار ، وكانت تُشبّه بالحور العين لجمالها ، فلما كان رأس السنة ؛ قالت لمواليها : إذا أظلم الليل ؛ فقوِّضوا هذا الفسطاط. فلما أظلم الليل ، سمعت قائلاً يقول : هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه آخر : بل يئسوا فانقلبوا»(٣٨١) .

وبعد هذا نقول : هل مثل هذه المرأة التي ضربت المثل في الحب والوفاء لزوجها ، تُفكِّر في الزواج من غيره؟!

منزلتها وعلو شأنها :

كانت السيدة فاطمة عليها السلام جليلة القدر ، عظيمة المنزلة ، ويكفيها شرفاً وفخراً أنّها تربت في بيت الطهر والقداسة والشرف ، وإليك ـ أيها القارئ الكريم ـ بعض النماذج من سيرتها الطاهرة ، ففي العبادة عَبّر عنها والدها سيد الشهداء عليه السلام : «.. (أما في الدين ؛ فتقوم الليل كله وتصوم النهار) وفي علو المنزلة ما رواه الشيخ الكليني بسنده عن الإمام الباقر عليه السلام قال : (إنّ الحسين بن علي عليهما السلام لما حضره الذي حضره ، دعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين عليهما السلام ، فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ، ووصية ظاهرة ، وكان علي بن الحسين عليهما السلام مبطوناً معهم لا يرون إلا أنّه لما به ، فدفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسين عليهما السلام ، ثم صار والله ذلك الكتاب إلينا يا زياد. قال : قلت : ما في ذلك الكتاب جعلني الله فداك؟ قال : فيه والله ما يحتاج إليه ولد آدم منذ خلق الله آدم إلى أن تفنى الدنيا ، والله إنّ فيه الحدود ، حتى أنّ فيه أرش الخدش»(٣٨٢) .

__________________

(٣٨١) ـ المفيد ، الشيخ محمد بن محمد : الإرشاد ، ج ٢ / ٢٦.

(٣٨٢) ـ الكليني ، الشيخ محمد بن يعقوب ، الكافي ، ج ١ / ٣٠٣.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554