لواعج الاشجان في مقتل الحسين عليه السلام

لواعج الاشجان في مقتل الحسين عليه السلام0%

لواعج الاشجان في مقتل الحسين عليه السلام مؤلف:
المحقق: السيد حسن الأمين
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 198

لواعج الاشجان في مقتل الحسين عليه السلام

مؤلف: السيّد محسن الأمين العاملي
المحقق: السيد حسن الأمين
تصنيف:

الصفحات: 198
المشاهدات: 12639
تحميل: 3278

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 198 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 12639 / تحميل: 3278
الحجم الحجم الحجم
لواعج الاشجان في مقتل الحسين عليه السلام

لواعج الاشجان في مقتل الحسين عليه السلام

مؤلف:
العربية

المقصد الأول

في الأمور المتقدمة على القتال

لما مات معاوية(١) وذلك في النصف من رجب سنة ستين من الهجرة وتخلف بعده ولده يزيد ، كتب يزيد إلى ابن عمه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وكان واليا على المدينة مع مولى لمعاوية يقال له ابن أبي زريق يأمره بأخذ البيعة على أهلها(٢) وخاصة على الحسينعليه‌السلام ولا يرخص له في التأخر عن ذلك ، ويقول : ان أبى عليك فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه ، فأحضر

__________________

(١) كان الوالي في ذلك الوقت على المدينة الوليد بن عتبة بن ابي سفيان ، وعلى مكة عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق وهو من بني أمية ، وعلى الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري ، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد (منه).

(٢) كان معاوية حذر يزيد من أربعة الحسين بن عليعليه‌السلام وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن ابي بكر ولا سيما من الحسينعليه‌السلام وابن الزبير ، اما ابن الزبير فهرب الى مكة على طريق الفرع هو وأخوه جعفر ليس معهما ثالث ، وأرسل الوليد خلفه أحد وثمانين راكبا فلم يدركوه ، وخرج بعده الحسينعليه‌السلام وكان عبد الله بن عمر بمكة ، ولما بلغ يزيد ما صنع الوليد عزله عن المدينة وولاها عمرو بن سعيد الأشدق فقدمها في رمضان (منه).

٢١

الوليد : مروان بن الحكم واستشاره في أمر الحسينعليه‌السلام فقال انه لا يقبل ولو كنت مكانك لضربت عنقه فقال الوليد ليتني لم أك شيئا مذكورا ، ثم بعث إلى الحسينعليه‌السلام في الليل فاستدعاه فعرف الحسينعليه‌السلام الذي أراد ، فدعا بجماعة من أهل بيته ومواليه وكانوا ثلاثين رجلا وأمرهم بحمل السلاح وقال لهم : ان الوليد قد استدعاني في هذا الوقت ولست آمن أن يكلفني فيه أمرا لا أجيبه إليه وهو غير مأمون فكونوا معي ، فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب ، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه عني ، فصار الحسينعليه‌السلام إلى الوليد فوجد عنده مروان بن الحكم ، فنعى إليه الوليد معاوية فاسترجع الحسينعليه‌السلام ، ثم قرأ عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه ليزيد ، فقال الحسينعليه‌السلام : اني أراك لا تقنع بيعتي سرا حتى أبايعه جهرا فيعرف ذلك الناس ، فقال له الوليد : أجل ، فقال الحسينعليه‌السلام : تصبح وترى رأيك في ذلك ، فقال له الوليد : انصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس ، فقال له مروان والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ولكن احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه ، فوثب الحسينعليه‌السلام عند ذلك وقال : ويلي عليك يا ابن الرزقاء(١) أنت تأمر بضرب عنقي ، وفي رواية أنت تقتلني أم هو كذبت والله ولؤمت ، ثم أقبل على الوليد فقال : أيها الأمير انا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة ، ثم خرج يتهادى بين مواليه وهو يتمثل بقول يزيد بن المفرغ.

__________________

(١) هي جدة مروان وكانت مشهورة بالفجور (منه).

٢٢

لا ذعرت السوام في غسق(١) الص

بح مغيرا ولا دعيت يزيدا

يوم اعطي مخافة الموت(٢) ضيما

والمنايا يرصدنني أن أحيدا

حتى أتى منزله ، وقيل أنه أنشدهما لما خرج من المسجد الحرام متوجها إلى العراق ، وقيل غير ذلك ، فقال مروان للوليد : عصيتني لا والله لا يمكنك مثلها من نفسه أبدا ، فقال له الوليد : ويحك انك أشرت علي بذهاب ديني ودنياي والله ما أحب أن أملك الدنيا بأسرها وأني قتلت حسينا سبحان الله أقتل حسينا لما أن قال لا أبايع ، والله ما أظن أحدا يلقى الله بدم الحسين الا وهو خفيف الميزان لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم ، فقال مروان : فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت. يقول هذا وهو غير حامد له على رأيه ، فأقام الحسينعليه‌السلام في منزله تلك الليلة وهي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستين ، فلما أصبح خرج من منزله يستمع الأخبار ، فلقيه مروان فقال له : يا أبا عبد الله اني لك ناصح فاطعني ترشد ، فقال الحسينعليه‌السلام وما ذاك قل حتى أسمع ، فقال مروان : اني آمرك ببيعة يزيد بن معاوية فإنه خير لك في دينك ، ودنياك فقال الحسينعليه‌السلام : إنا لله وإنا إليه راجعون وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد.

وطال الحديث بينه وبين مروان حتى انصرف مروان وهو غضبان فلما كان آخر نهار السبت بعث الوليد الرجال إلى الحسينعليه‌السلام ليحضر فيبايع ، فقال لهم الحسينعليه‌السلام : أصبحوا ثم ترون ونرى فكفّوا تلك الليلة عنه ولم يلحّوا عليه ، فخرج في تلك الليلة وقيل في غداتها وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب متوجها نحو مكة(٣) .

__________________

(١) شفق خ ل ، فلق خ ل.

(٢) من المهانة خ ل.

(٣) قال ابن نما : ان توجهه الى مكة كان لثلاث مضين من شعبان ، وستعرف ان وصولهعليه‌السلام الى مكة كان بذلك التاريخ ، ولعله وقع اشتباه بينهما كما ان ابن نما ـ

٢٣

وقال محمد بن أبي طالب خرج الحسينعليه‌السلام من منزله ذات ليلة وأقبل إلى قبر جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : السلام عليك يا رسول الله أنا الحسين بن فاطمة فرخك وابن فرختك وسبطك الذي خلقتني في أمتك فاشهد عليهم يا نبي الله أنهم قد خذلوني وضيعوني ولم يحفظوني وهذه شكواي إليك حتى القاك ثم قام فصف قدميه فلم يزل راكعا وساجدا ، فلما كانت الليلة الثانية خرج إلى القبر أيضا وصلى ركعات ، فلما فرغ من صلاته جعل يقول : اللهم هذا قبر نبيك محمد وأنا ابن بنت نبيك وقد حضرني من الأمر ما قد علمت ، اللهم اني أحب المعروف وانكر المنكر وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحق القبر ومن فيه الا اخترت لي ما هو لك رضا ولرسولك رضا.

ولما عزم الحسينعليه‌السلام على الخروج من المدينة مضى في جوف الليل إلى قبر أمه فودّعها ثم مضى إلى قبر أخيه الحسنعليه‌السلام ففعل كذلك وخرج معه بنو أخيه وأخوته وجل أهل بيته إلّا محمد بن الحنفية فانه لما علم عزمه على الخروج من المدينة لم يدر أين يتوجّه فقال له يا أخي أنت أحب الناس إليّ وأعزهم عليّ ولست والله أدخر النصيحة لأحد من الخلق وليس أحد أحق بها منك لأنك مزاج مائي ونفسي وروحي وبصري وكبير أهل بيتي ومن وجبت طاعته في عنقي لأن الله قد شرفك عليّ وجعلك من سادات أهل الجنة تنحّ ببيعتك عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك ، فان بايعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك وان اجتمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك اني أخاف عليك أن تدخل مصرا من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم فمنهم طائفة معك وأخرى عليك فيقتتلون

__________________

ـ قال : ان وصول كتاب يزيد الى الوليد كان في أول شعبان ، ومقتضى ما تقدم ان يكون وصوله في أواخر رجب لثلاث أو أربع بقين منه (منه).

٢٤

فتكون لأول الأسنة غرضا ، فإذا خير هذه الأمة كلها نفسا وأبا وأما أضيعها دما وأذلها أهلا فقال له الحسينعليه‌السلام فأين أذهب يا أخي؟ قال : تخرج إلى مكة فإن اطمأنت بك الدار بها فذاك وان تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن فأنهم أنصار جدك وأبيك وهم أرأف الناس وأرقهم قلوبا وأوسع الناس بلادا فأن اطمأنت بك الدار والا لحقت بالرمال وشعف(١) الجبال وجزت من بلد إلى بلد حتى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين فانك أصوب ما تكون رأيا حين تستقبل الأمر استقبالا فقال الحسينعليه‌السلام : يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجا ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية ، فقطع محمد بن الحنفية عليه الكلام وبكى فبكى الحسينعليه‌السلام معه ساعة ثم قال : يا أخي جزاك الله خيرا فقد نصحت وأشفقت وأرجو أن يكون رأيك سديدا موفقا وأنا عازم على الخروج إلى مكة ، تهيأت لذلك أنا وأخوتي وبنو أخي وشيعتي أمرهم أمري ورأيهم رأيي ، وأما أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عينا عليهم لا تخفي عني شيئا من أمورهم ، ثم دعا الحسينعليه‌السلام بدواة وبياض وكتب هذه الوصية لأخيه محمد :

بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية ، أن الحسينعليه‌السلام يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله جاء بالحق من عند الحق ، وأن الجنة حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي عليّ بن أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحق فالله

__________________

(١) الشعف كغرف والشعاف جمع شعفة كغرفة رأس الجبل (منه).

٢٥

أولى بالحق ومن رد عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين ، وهذه وصيتي يا أخي إليك وما توفيقي إلّا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ، ثم طوى الكتاب وختمه بخاتمه ثم دفعه إلى أخيه محمد ثم ودعه وخرج من المدينة ، وأقبلت نساء بني عبد المطلب فاجتمعن للنياحة لما بلغهن أن الحسينعليه‌السلام يريد الشخوص من المدينة حتى مشى فيهن الحسينعليه‌السلام فقال : أنشدكنّ الله أن تبدين هذا الأمر معصية لله ولرسوله ، قالت له نساء بني عبد المطّلب ، فلمن نستبقي النياحة والبكاء فهو عندنا كيوم مات فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وفاطمة والحسن ورقية وزينب وأم كلثوم ، جعلنا الله فداك من الموت يا حبيب الأبرار من أهل القبور.

وخرجعليه‌السلام من المدينة في جوف الليل وهو يقرأ :( فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (١) ، ولزم الطريق الأعظم ، فقال له أهل بيته : لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقك الطلب ، فقال : لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض ، فلقيه عبد الله بن مطيع فقال له : جعلت فداك اين تريد؟ قال : أما الآن فمكة وأما بعد فاني استخير الله ، قال : خار الله لك وجعلنا فداك فاذا اتيت مكة فاياك ان تقرب الكوفة فانها بلدة مشؤومة بها قتل أبوك وخذل أخوك واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه ، الزم الحرم فانت سيد العرب لا يعدل بك أهل الحجاز أحدا ويتداعى إليك الناس من كل جانب ، لا تفارق الحرم فداك عمي وخالي ، فو الله لئن هلكت لنسترقن بعدك. وكان دخولهعليه‌السلام الى مكة يوم (ليلة خ ل) الجمعة لثلاث مضين من شعبان ، فيكون مقامه في الطريق نحوا من خمسة أيام لأنه خرج من المدينة لليلتين بقيتا من رجب كما مر ، ودخلها وهو يقرأ :( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ ) (٢)

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٢١.

(٢) سورة القصص ، الآية : ٢٢.

٢٦

فأقام بمكة باقي شعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة وثماني ليال من ذي الحجة ، وأقبل اهل مكة ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق يختلفون اليه وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة وهو قائم يصلي عندها عامة النهار ويطوف ويأتي الحسينعليه‌السلام فيمن يأتيه اليومين المتواليين وبين كل يومين مرة ولا يزال يشير عليه بالرأي وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير لأنه قد علم ان أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسينعليه‌السلام باقيا في البلد ، وان الحسينعليه‌السلام أطوع في الناس منه وأجل. ولما بلغ أهل الكوفة موت معاوية وامتناع الحسينعليه‌السلام من البيعة أرجفوا بيزيد واجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي ، فلما تكاملوا قام سليمان فيهم خطيبا وقال في آخر خطبته : يا معشر الشيعة انكم قد علمتم بأن معاوية هلك وصار الى ربه وقدم على عمله وقد قعد في موضعه ابنه يزيد ، وهذا الحسين بن عليعليهما‌السلام قد خالفه وصار الى مكة هاربا من طواغيت آل أبي سفيان ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه من قبله وقد احتاج الى نصرتكم اليوم ، فان كنتم تعلمون انكم ناصروه ومجاهدوا عدوه فاكتبوا اليه ، وان خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه ، قالوا : بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه ، فارسلوا وفدا من قبلهم وعليهم أبو عبد الله الجدلي وكتبوا اليه معهم :

بسم الله الرحمن الرحيم للحسين بن عليعليهما‌السلام من سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة(١) ورفاعة بن شداد البجلي وحبيب بن مظاهر وعبد الله بن وال وشيعته من المؤمنين والمسلمين سلام عليك ، اما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك وعدو أبيك من قبل الجبار العنيد الغشوم الظلوم ، الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيأها وتآمر عليها بغير رضا منها ، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وعتاتها فبعدا

__________________

(١) بالنون والجيم والباء الموحدة المفتوحات (كامل ابن الأثير).

٢٧

له كما بعدت ثمود ، وانه ليس علينا امام غيرك فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق ، والنعمان بن بشير في قصر الأمارة ولسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه الى عيد ، ولو قد بلغنا انك أقبلت أخرجناه حتى يلحق بالشام ، ان شاء الله تعالى ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته يا ابن رسول الله وعلى أبيك من قبلك ، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.

وقيل انهم سرحوا الكتاب مع عبد الله بن مسمع الهمداني وعبد الله بن وال وأمروهما بالنجاء ، فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسينعليه‌السلام بمكة لعشر مضين من شهر رمضان ، ثم لبثوا يومين وانفذوا قيس بن مسهر الصيداوي(١) وعبد الرحمن بن عبد الله بن شداد الأرحبي وعمارة بن عبد الله السلولي الى الحسينعليه‌السلام ومعهم نحو مائة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة ، وهو مع ذلك يتأنى ولا يجيبهم ، فورد عليه في يوم واحد ستمائة كتاب ، وتواترت الكتب حتى اجتمع عنده في نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب ، ثم لبثوا يومين آخرين وسرحوا اليه هاني بن هاني السبيعي(٢) وسعيد بن عبد الله الحنفي وكانا آخر الرسل وكتبوا اليه :

بسم الله الرحمن الرحيم للحسين بن عليعليهما‌السلام من شيعته من المؤمنين والمسلمين ، أما بعد فحيهلا(٣) فان الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل ثم العجل العجل والسلام.

ثم كتب معهما أيضا شبث(٤) بن ربعي وحجاز بن

__________________

(١) احد بني الصيداء قبيلة من بني اسد واياهم عنى الشاعر بقوله :

يا بني الصيداء ردوا فرسي

انما يفعل هذا بالذليل

(منه).

(٢) نسبة الى السبيع بوزن أمير ابو بطن من همدان (منه).

(٣) بمعنى أسرع (منه).

(٤) بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة وآخره ثاء مثلثة (منه).

٢٨

ابجر(١) ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم وعروة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي :

أما بعد ، فقد اخضر الجناب وايعنت الثمار فاذا شئت فاقبل على جند لك مجند والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وعلى أبيك من قبلك.

وفي رواية أن أهل الكوفة كتبوا اليه أن لك هنا مائة ألف سيف فلا تتأخر.

وتلاقت الرسل كلها عنده فقال الحسينعليه‌السلام لهاني وسعيد : خبراني من اجتمع على هذا الكتاب الذي سير إليّ معكما؟ فقالا : يا ابن رسول الله شبث بن ربعي وحجار بن ابجر ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم وعروة بن قيس وعمرو بن الحجاج(٢) ومحمد بن عمير بن عطارد ، فعندها قام الحسينعليه‌السلام فصلّى ركعتين بين الركن والمقام وسأل الله الخيرة في ذلك ، ثم كتب مع هاني بن هاني وسعيد بن عبد الله :

بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي الى الملأ من المؤمنين والمسلمين ، أما بعد فان هانيا وسعيدا قدما علي بكتبكم وكانا آخر من قدم علي من رسلكم ، وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم ومقالة جلكم انه ليس علينا امام فاقبل لعل الله ان يجمعنا بك على الحق والهدى ، وأنا باعث اليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلما بن عقيل ، فان كتب الي انه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فاني أقدم اليكم وشيكا(٣) ان شاء الله تعالى ،

__________________

(١) حجار بوزن كتان وابجر بوزن أحمر (منه).

(٢) كل هؤلاء خرج لقتال الحسينعليه‌السلام وهم من أعيان أهل الكوفة ووجوهها (منه).

(٣) أي قريبا (منه).

٢٩

فلعمري ما الامام الا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحق الحابس نفسه على ذلك لله والسلام.

ودعا الحسينعليه‌السلام مسلما بن عقيل وقيل انه كتب معه جواب كتبهم فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبد الله السلولي وعبد الرحمن بن عبد الله الأزدي ، وأمره بالتقوى وكتمان أمره واللطف ، فان رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجل اليه بذلك ، فأقبل مسلم رحمة الله حتى أتى الى المدينة فصلى في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وودع من أحب من أهله ، واستأجر دليلين من قيس فأقبلا به يتنكبان الطريق وأصابهما عطش شديد فعجزا عن السير ، فأومآ له الى سنن الطريق بعد ان لاح لهما ذلك فسلك مسلم ذلك السنن ومات الدليلان عطشا فكتب مسلم الى الحسينعليه‌السلام من الموضع المعروف بالمضيق مع قيس بن مسهر :

أما بعد فاني أقبلت من المدينة مع دليلين فحادا عن الطريق فضلا واشتد علينا العطش فلم يلبثا ان ماتا ، وأقبلنا حتى انتهينا الى الماء فلم ننج الا بحشاشة أنفسنا ، وذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبت وقد تطيرت من توجهي هذا ، فان رأيت اعفيتني منه وبعثت غيري والسلام. فكتب اليه الحسينعليه‌السلام :

أما بعد فقد خشيت أن لا يكون حملك على الكتاب الي في الاستعفاء من الوجه الذي وجهتك له الا الجبن ، فامض لوجهك الذي وجهتك فيه والسلام.

فلما قرأ مسلم الكتاب قال : أما هذا فلست أتخوفه على نفسي ، فاقبل حتى مر بماء لطيء فنزل ثم ارتحل عنه فاذا برجل يرمي الصيد فنظر اليه وقد رمى ظبيا حين أشرف له فصرعه ، فقال مسلم : نقتل عدونا ان شاء الله ، ثم أقبل حتى دخل الكوفة فنزل في دار المختار بن ابي عبيدة الثقفي وقيل في

٣٠

غيرها ، وأقبلت الشيعة تختلف اليه فكلما اجتمع اليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسينعليه‌السلام وهم يبكون ، وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفا وفي رواية اثنا عشر ألفا ، فكتب مسلم الى الحسينعليه‌السلام كتابا يقول فيه :

أما بعد فان الرائد لا يكذب أهله وان جميع أهل الكوفة معك وقد بايعني منهم ثمانية عشر ألفا وفي رواية اثنا عشر الفا فعجل الاقبال حين تقرأ كتابي هذا والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ، وأرسل الكتاب مع عابس بن شبيب الشاكري وقيس بن مسهر الصيداوي. وعن الشعبي انه بايع الحسينعليه‌السلام أربعون ألفا من أهل الكوفة على أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم ، وجعلت الشيعة تختلف الى مسلم حتى علم بمكانه ، فبلغ النعمان بن بشير ذلك وكان واليا على الكوفة من قبل معاوية فأقره يزيد عليها وكان من الصحابة من الأنصار وحضر مع معاوية حرب صفين وكان من أتباعه(١) ، فصعد المنبر وخطب الناس وحذرهم الفتنة ، فقام اليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني أمية فقال له : انه لا يصلح ما ترى الا الغشم ان هذا الذي أنت عليه رأي المستضعفين ، فقال له النعمان: ان أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إليّ من أن أكون من الأعزين في معصية الله ، ثم نزل فكتب عبد الله بن مسلم إلى يزيد يخبره بقدوم مسلم بن عقيل الكوفة ومبايعة الناس له ويقول : ان كان لك في الكوفة حاجة فابعث اليها رجلا قويا ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك ، فان النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعف. وكتب اليه عمارة بن الوليد بن عقبة وعمر بن سعد بنحو ذلك فدعا يزيد سرحون مولى معاوية واستشاره فيمن يولي على الكوفة ، وكان يزيد عاتبا على عبيد الله بن زياد وهو يومئذ وال على

__________________

(١) وقتله أهل حمص في فتنة ابن الزبير وكان واليا عليها (منه).

٣١

البصرة ، وكان معاوية قد كتب لابن زياد عهدا بولاية الكوفة ومات قبل انفاذه ، فقال سرحون ليزيد : لو نشر لك معاوية ما كنت آخذا برأيه؟ قال : بلى ، قال : هذا عهده لعبيد الله على الكوفة ، فضم يزيد البصرة والكوفة الى عبيد الله وكتب اليه بعهده وسيره مع مسلم بن عمرو الباهلي ، وكتب الى عبيد الله معه :

أما بعد فانه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني ان ابن عقيل فيها يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين ، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه والسلام فخرج مسلم بن عمرو حتى قدم على عبيد الله بالبصرة فأمر عبيد الله بالجهاز من وقته والتهيؤ والمسير الى الكوفة من الغد.

وكان الحسينعليه‌السلام قد كتب الى جماعة من اشراف البصرة كتابا مع ذراع السدوسي وقيل مع مولى للحسينعليه‌السلام اسمه سليمان ويكنى أبا رزين منهم. الأحنف بن قيس ، ويزيد بن مسعود النهشلي ، والمنذر بن الجارود العبدي يقول فيه : اني ادعوكم الى الله والى نبيه فان السنة قد اميتت وان البدعة قد أحييت ، فان تجيبوا دعوتي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد ، فجمع يزيد بن مسعود بني تميم وبني حنظلة وبني سعد فلما حضروا قال : يا بني تميم كيف ترون موضعي فيكم وحسبي منكم؟ فقالوا : بخ بخ أنت والله فقرة الظهر ورأس الفخر حللت في الشرف وسطا وتقدمت فيه فرطا ، قال : فاني قد جمعتكم لأمر أريد أن أشاوركم فيه وأستعين بكم عليه ، فقالوا : انا الله نمنحك النصيحة ونجهد لك الرأي فقل حتى نسمع ، فقال : إن معاوية مات فأهون به والله هالكا ومفقودا ، الا وأنه قد انكسر باب الجور والاثم وتضعضعت أركان الظلم ، وقد كان أحدث بيعة عقد بها أمرا ظن ان قد أحكمه وهيهات الذي أراد ، اجتهد والله ففشل وشاور فخذل ، وقد قام ابنه

٣٢

يزيد شارب الخمور ورأس الفجور يدعي الخلافة على المسلمين ويتآمر عليهم بغير رضى منهم مع قصر حلم وقلة علم لا يعرف من الحق موطىء قدميه ، فأقسم بالله قسما مبرورا لجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين ، وهذا الحسين بن علي بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل له فضل لا يوصف وعلم لا ينزف ، وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنه وقدمه وقرابته ، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير ، فأكرم به راعي رعية وامام قوم وجبت لله به الحجة وبلغت الموعظة ، فلا تعشوا عن نور الحق ولا تسكعوا(١) في وهد الباطل ، فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل فاغسلوها بخروجكم الى ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصرته ، والله لا يقصر أحد عن نصرته الا أورثه الله تعالى الذل في ولده والقلة في عشيرته ، وها انا ذا قد لبست للحرب لامتها وأدرعت لها بدرعها ، من لم يقتل يمت ومن يهرب لم يفت فاحسنوا رحمكم الله رد الجواب.

فتكلمت بنو حنظلة فقالوا : يا أبا خالد نحن نبل كنانتك وفرسان عشيرتك ان رميت بنا أصبت وان غزون بنا فتحت ، لا تخوض والله غمرة الا خضناها ولا تلقى والله شدة الا لقيناها ، ننصرح بأسيافنا ونقيك بأبداننا ، اذا شئت فقم.

وتكلمت بنو سعد بن يزيد فقالوا : يا أبا خالد ان أبغض الأشياء الينا خلافك والخروج من رأيك ، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال فحمدنا أمرنا (رأيه خ ل) وبقي عزنا فينا ، فامهلنا نراجع الرأي ونحسن المشورة ونأتيك برأينا.

وتكلمت بنو عامر بن تميم فقالوا : يا أبا خالد نحن بنو أبيك وحلفاؤك لا نرضى ان غضبت ولا نقطن ان ظعنت والأمر اليك ، فادعنا نجبك ومرنا

__________________

(١) التسكع : التمادي في الباطل (منه).

٣٣

نطعك والأمر لك اذا شئت ، فقال : والله يا بني سعد لئن فعلتموها لا رفع الله السيف عنكم ابدا ولا زال سيفكم فيكم.

ثم كتب الى الحسينعليه‌السلام :

بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد وصل اليّ كتابك وفهمت ما ندبتني اليه ودعوتني له من الأخذ بحظي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك ، وان الله لم يخل الأرض قط من عامل عليها بخير أو دليل على سبيل نجاة ، وأنتم حجة الله على خلقه ووديعته في أرضه ، تفرعتم من زيتونة أحمدية هو أصلها وأنتم فرعها ، فأقدم سعدت بأسعد طائر فقد ذللت لك أعناق بني تميم وتركتهم أشد تتابعا في طاعتك من الابل الظمآء لورود الماء يوم خمسها ، وقد ذللت لك رقاب بني سعد وغسلت درن صدورها بماء سحابة مزن حين استهل برقها فلمع.

فلما قرأ الحسينعليه‌السلام الكتاب قال مالك آمنك الله يوم الخوف وأعزك وأرواك يوم العطش الأكبر ، فلما تجهز المشار اليه للخروج الى الحسينعليه‌السلام بلغة قتله قبل أن يسير فجزع من انقطاعه عنه. وكتب اليه الأحنف : أما بعد فاصبر ان وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون.

واما المنذر بن الجارود فانه جاء بالكتاب والرسول الى عبيد الله بن زياد في عشية الليلة التي يريد ابن زياد ان يذهب في صبيحتها الى الكوفة لأن المنذر خاف أن يكون الكتاب دسيسا من عبيد الله ، وكانت بحرية بنت المنذر زوجة عبيد الله ، فأخذ عبيد الله الرسول فصلبه ، ثم انه خطب الناس وتوعدهم على الخلاف ، وخرج من البصرة واستخلف عليها أخاه عثمان ، وأقبل الى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي رسول يزيد وشريك(١) ابن الأعور

__________________

(١) قال ابن الأثير : كان كريما على ابن زياد وعلى غيره من الأمراء ، وكان شديد التشيع قد شهد صفين ، ا ه. وله حكاية مع معاوية مشهورة حين قال له : أنت شريك وليس لله ـ

٣٤

الحارثي ، وقيل كان معه خمسمائة فتأخروا عنه رجاء. ان يقف عليهم ويسبقه الحسينعليه‌السلام الى الكوفة فلم يقف على أحد منهم ، وسار فلما أشرف على الكوفة نزل حتى أمسى ودخلها ليلا مما يلي النجف وعليه عمامة سوداء وهو متلثم ، قال بعضهم انه دخلها من جهة البادية في زي أهل الحجاز ليوهم الناس انه الحسينعليه‌السلام والناس قد بلغهم اقبال الحسينعليه‌السلام فهم ينتظرونه ، فظنوا حين رأوا عبيد الله انه الحسينعليه‌السلام ، فقالت امرأة : الله أكبر ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتصايح الناس وقالوا : أنا معك أكثر من أربعين ألفا ، وأخذ لا يمر على جماعة من الناس الا سلموا عليه وقالوا : مرحبا بك بك يا ابن رسول الله قدمت خير مقدم ، فرأى من تباشرهم بالحسينعليه‌السلام ما ساءه ، وازدحموا عليه حتى أخذوا بذنب دابته ، فحسر اللثام وقال : انا عبيد الله فتساقط القوم ووطأ بعضهم بعضا ، وفي رواية ان عبد الله بن مسلم قال لهم لما كثروا : تأخروا هذا الأمير عبيد الله بن زياد.

وسار حتى وافى القصر بالليل ومعه جماعة قد التفوا به لا يشكون انه الحسينعليه‌السلام فأغلق النعمان بن بشير عليه وعلى خاصته ، فناداه بعض من كان مع ابن زياد ليفتح لهم الباب ، فاطلع عليه النعمان وهو يظنه الحسينعليه‌السلام فقال : أنشدك الله الا تنحيت والله ما أنا بمسلم اليك أمانتي ومالي في قتالك من ارب ، فجعل لا يكلمه ، ثم انه دنى فتدلى النعمان من شرف القصر فجعل يكلمه ، فقال ابن زياد : افتح لا فتحت فقد طال ليلك ، وسمعها انسان من خلفه فنكص الى القوم الذين اتبعوه من أهل الكوفة على انه الحسين ، فقال : يا قوم ابن مرجانه والذي لا إله غيره ، ففتح له النعمان فدخل ، وضربوا الباب في وجوه الناس وانفضوا.

__________________

شريك ، وأبوه الحارث الأعور الهمداني من خواص أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهو الذي يقول له :

يا حار همدان من يمت يرني

من مؤمن او منافق قبلا (منه)

٣٥

وأصبح ابن زياد فنادى في الناس الصلاة جامعة فاجتمع الناس ، فخرج اليهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أما بعد فان أمير المؤمنين يزيد ولاني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بانصاف مظلومكم واعطاء محرومكم والاحسان الى سامعكم ومطيعكم وبالشدة على مريبكم وعاصيكم ، وأنا متبع فيكم أمره ومنفذ فيكم عهده ، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالولد البر ، وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي ، فليتق امرؤ على نفسه الصدق ينبئ عنك لا الوعيد ثم نزل ، وفي رواية انه قال : فأبلغوا هذا الرجل الهاشمي (يعني مسلما بن عقيل) ليتقي غضبي ، وأخذ العرفاء(١) والناس أخذا شديدا فقال : اكتبوا لي الغرباء ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين(٢) ومن فيكم من الحرورية(٣) وأهل الريب الذين شأنهم الخلاف والنفاق والشقاق ثم يجاء بهم لنرى رأينا ، فمن يجيء لنا بهم فبريء ومن لم يكتب لنا أحدا فليضمن لنا من في عرافته ان لا يخالفنا منهم مخالف ولا يبغي علينا منهم باغ ، فمن لم يفعل برئت منه الذمة وحلال لنا دمه وماله ، وايما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين احد لم يرفعه الينا صلب على باب داره وألغيت تلك العرافة من العطاء.

ولما سمع مسلم بن عقيل مجيء عبيد الله الى الكوفة ومقالته التي قالها وما أخذ به العرفاء والناس خرج من دار المختار الى دار هاني بن عروة في جوف الليل ودخل في أمانه ، فأخذت الشيعة تختلف اليه في دار هاني على

__________________

(١) جمع عريف كأمير وهو الرئيس ، والظاهر انه كان يجعل لكل قوم رئيس من قبل السلطان يطالب بأمورهم يسمى العريف كما هو متعارف الى اليوم ، وكان يجعل للعرفاء رؤساء يقال لهم المناكب (منه).

(٢) أي الشيعة الذين بايعوا مسلما للحسينعليه‌السلام (منه).

(٣) قوم من الخوارج كانوا في أول امرهم اجتمعوا بموضع يقال له حروراء فنسبوا اليه.

(منه).

٣٦

تستر واستخفاء من عبيد الله وتواصوا بالكتمان ، وألحّ عبيد الله في طلب مسلم ولا يعلم اين هو ، وكان شريك بن الأعور الهمداني لما جاء من البصرة مع عبيد الله بن زياد نزل دار هاني فمرض ، وكان شريك من محبي أمير المؤمنينعليه‌السلام وشيعته عظيم المنزلة جليل القدر ، فأرسل اليه ابن زياد انه يريد ان يعوده ، فقال شريك لمسلم : ان هذا الفاجر عائدي فادخل بعض الخزائن فاذا جلس أخرج اليه فاقتله ، ثم أقعد في القصر ليس أحد يحول بينك وبينه ، فان برئت سرت الى البصرة حتى اكفيك أمرها وعلامتك ان أقول اسقوني ماء ونهاه هاني عن ذلك. وكان مسلم شجاعا مقداما جسورا ، فلما دخل عبيد الله على شريك وسأله عن وجعه وطال سؤاله جعل يقول اسقوني ماء ، فلما رأى ان أحدا لا يخرج خشي ان يفوته فأخذ يقول :

ما الانتظار بسلمى ان تحييها

كأس المنية بالتعجيل اسقوها

فتوهم ابن زياد وخرج ، فلما خرج دخل مسلم والسيف في كفه فقال له شريك : ما منعك من قتله؟ قال هممت بالخروج فتعلقت بي امرأة وقالت لي نشدتك الله ان قتلت ابن زياد في دارنا وبكت في وجهي فرميت السيف وجلست ، فقال هاني : يا ويلها قتلتني وقتلت نفسها والذي فرت منه وقعت فيه. وفي رواية انه قال : منعني من قتله خصلتان؟ كراهية هاني ان يقتل في داره ، وحديث ان الايمان قيد الفتك ، فقال له هاني : أما والله لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا.

ولما خفي على ابن زياد حديث مسلم دعى مولى له يقال له معقل فأعطاه ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف درهم وأمره بحسن التوصل الى أصحاب مسلم ، وان يدفع اليهم المال ويقول لهم استعينوا به على حرب عدوكم ويعلمهم انه من أهل حمص ويظهر لهم انه منهم ، وقال له : انك لو قد أعطيتهم المال اطمأنوا اليك ووثقوا بك ، فتردد اليهم حتى تعرف مقر مسلم

٣٧

وتدخل عليه ، فجاء معقل حتى جلس الى مسلم بن عوسجة الأسدي في المسجد الأعظم وهو يصلي ، فسمع قوما يقولون : هذا يبايع للحسينعليه‌السلام ، فقال له معقل : اني امرء من أهل الشام أنعم الله علي بحب أهل هذا البيت ومن أحبهم ، وتباكى له وقال : معي ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني انه قدم الكوفة يبايع لابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاغتر ابن بنت عوسجة بذلك ، فأخذ بيعته وأخذ عليه المواثيق المغلظة لينا صحن وليكتمن ، ثم أدخله على مسلم فأخذ بيعته وأمر أبا تمامة الصائدي بقبض المال منه وهو الذي كان يقبض أموالهم وما يعين به بعضهم بعضا ويشتري لهم به السلاح وكان بصيرا وفارسا من فرسان العرب ووجوه الشيعة ، وأقبل معقل يختلف اليهم فهو أول داخل وآخر خارج حتى فهم ما احتاج اليه ابن زياد فكان يخبره وقتا وقتا ، وبلغ الذين بايعوا مسلما خمسة وعشرين ألف رجل فعزم على الخروج ، فقال هاني : لا تعجل ، وخاف هاني عبيد الله على نفسه فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض ، فسأل عنه ابن زياد فقيل هو مريض ، فقال : لو علمت بمرضه لعدته ودعا محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة وعمرو بن الحجاج الزبيدي وكانت رويحة بنت عمرو هذا تحت هاني فقال لهم : ما يمنع هاني من اتياننا؟ فقالوا : ما ندري وقد قيل انه مريض ، قال : قد بلغني ذلك وبلغني انه بريء وانه يجلس على باب داره فألقوه ومروه ان لا يدع ما عليه من حقنا فاني لا أحب ان يفسد عندي مثله من اشراف العرب ، فأتوه ووقفوا عشية على بابه فقالوا له : ما يمنعك من لقاء الأمير فانه قد ذكرك وقال لو أعلم انه مريض لعدته ، فقال لهم : المرض يمنعني ، فقالوا : انه قد بلغه انك تجلس كل عشية على باب دارك وقد استبطأك والابطاء والجفاء لا يحتمله السلطان من مثلك لأنك سيد في قومك ونحن نقسم عليك الا ركبت معنا ، فدعا بثيابه فلبسها ثم دعا ببغلته فركبها حتى اذا دنى من القصر كأن نفسه أحست ببعض الذي كان ، فقال لحسان بن

٣٨

أسماء بن خارجة : يا ابن الأخ اني والله لهذا الرجل لخائف فما ترى؟ قال : يا عم والله ما أتخوف عليك شيئا ولم تجعل على نفسك سبيلا ، ولم يكن حسان يعلم مما كان شيئا وكان محمد بن الأشعث عالما به ، فجاء هاني والقوم معه حتى دخلوا على عبيد الله ، فلما طلع قال عبيد الله لشريح القاضي وكان جالسا عنده :

أنتك بخائن رجلاه تسعى

يقود النفس منها للهوان

فلما دنى من ابن زياد التفت الى شريح وأشار الى هاني وأنشد بيت عمرو بن معد يكرب الزبيدي :

أريد حياته (حباءه خ ل) ويريد قتلي

عذيرك من خليلك من مراد

وكان أول ما قدم مكرما له ملطفا به ، فقال له هاني : وما ذاك أيها الأمير؟ قال : ايه يا هاني ما هذه الأمور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين جنت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له الجموع والسلاح في الدور حولك وظننت ان ذلك يخفى علي ، قال : ما فعلت ذلك وما مسلم عندي ، قال : بلى قد فعلت ، فلما كثر ذلك بينهما وأبى هاني الا مجاحدته ومناكرته دعا ابن زياد معقلا ذلك العين فقال : أتعرف هذا؟ قال : نعم ، وعلم هاني عند ذلك انه كان عينا عليهم وانه قد أتاه بأخبارهم فسقط في يده(١) ساعة ثم راجعته نفسه فقال : اسمع مني وصدق مقالتي فو الله ما كذبت والله ما دعوته الى منزلي ولا علمت بشيء من أمره حتى جاءني يسألني النزول فاستحييت من رده وداخلني من ذلك ذمام فضيفته وآويته وقد كان من أمره ما قد بلغك ، فان شئت اعطيتك الآن موثقا تطمئن به ورهينة تكون في يدك حتى انطلق وأخرجه من داري فاخرج من ذمامه وجواره ، فقال له ابن زياد : والله لا تفارقني أبدا حتى تأتيني به ، قال : لا والله لا أجيئك به أبدا

__________________

(١) أي بهت وتحير ولا يكون الا مبنيا للمفعول (منه).

٣٩

أجيبك بضيفي تقتله. قال والله لتأتيني به ، قال : والله لا آتيك به.

فلما كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي وليس بالكوفة شامي ولا بصري غيره فقال : اصلح الله الأمير خلني واياه حتى أكمله ، فقام فخلى به ناحية فقال له : يا هاني أنشدك الله ان تقتل نفسك وان تدخل البلاء في عشيرتك فو الله اني لأنفس بك عن القتل ، ان هذا الرجل ابن عم القوم وليسوا قاتليه ولا ضائريه فادفعه اليهم فانه ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة انما تدفعه الى السلطان ، فقال هاني : والله ان علي في ذلك الخزي والعار ان أدفع جاري وضيفي وأنا صحيح اسمع وأرى شديد الساعدين كثير الأعوان ، والله لو لم أكن الا واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه ، فأخذ يناشده وهو يقول : والله لا أدفعه أبدا ، فسمع ابن زياد ذلك فقال : أدنوه مني فأدنوه منه ، فقال : والله لتأتيني به أو لأضربن عنقك ، فقال هاني : اذا والله لتكثر البارقة حول دارك ، فقال ابن زياد : وا لهفاه عليك ابالبارقة تخوفني وهاني يظن ان عشيرته سيمنعونه ، ثم قال أدنوه مني فادني منه فاستعرض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وسالت الدماء على ثيابه ووجهه ولحيته ونثر لحم جبينه وخده على لحيته حتى كسر القضيب ، وضرب هاني يده على قائم سيف شرطي وجاذبه الشرطي ومنعه ، فقال عبيد الله الحروري(١) سائر اليوم قد حل دمك جروه فجروه فألقوه في بيت من بيوت الدار وأغلقوا عليه بابه ، فقال : اجعلوا عليه حرسا ففعل ذلك به ، فقام اليه أسماء بن خارجة وقيل حسان بن اسماء فقال : ارسل غدر سائر اليوم أمرتنا ان نجيئك بالرجل حتى اذا جئناك به هشمت انفه ووجهه وسيلت دماءه على لحيته وزعمت انك تقتله ، فقال له عبيد الله : وانك لههنا فأمر به فضرب وأجلس ناحية ، فقال : انا لله وانا اليه راجعون الى نفسي

__________________

(١) الحروري الخارجي نسبة الى الحرورية وتقدم تفسيرهم (منه).

٤٠