العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته0%

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 603

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

مؤلف: السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
تصنيف:

الصفحات: 603
المشاهدات: 36019
تحميل: 3885

توضيحات:

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 603 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 36019 / تحميل: 3885
الحجم الحجم الحجم
العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

مؤلف:
العربية

أُمّ البَنِيْنَ في كُتُبِ رجال الحديث :

إنّ أصحاب الكتب المتكفّلة لذكر أسماء رواة الحديث الشريف ؛ قد عنونوا فيها وفي قسم النساء لاسم «أُمّ البَنِيْنَ» ذاكرين كونها زوجة الإمام أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام وأنّها وَلَدَتْ له الأولاد ؛ كما ذكروا من الرُواة ممّن يمتّ إليها نَفَراً ؛ مثل : «زبراء مولاة أُمّ البَنِيْنَ امرأة عليّ عليه السلام»(١) وكذلك «سُنْبُلة» كما في النصّ التالي.

رواياتَها :

عن سفيان بن سعيد في «سُنْبلة مولاة الوحيديّين» قوله : قد رأيت سنبلة كانت تأتينا عن مولاتها الوحيدية التي تزوّجها علي بن أبي طالب.

جاء ذلك في سند رواية نقلها أبو يوسف يعقوب بن سفيان البسوي (ت ٢٧٧ هـ) قال :

حدّثنا الحميدي ، قال : ثنا سفيان ، قال : حدّثنا مسعر ، قال أخبرتني «سُنبلة مولاة الوحيديين».

قال سُفيان : وقد رأيت سُنبلة ، كانت تأتينا عن مولاتنا الوحيدية التي كانت تزوّجها علي بن أبي طالب ـ.

قالت : استأذن ابنُ جُرموز قاتل الزبير ، على عليٍّ رضي الله عنه ، فقال :

__________________

(١) ذكرها البخاريّ في التاريخ الكبير (٦ / ١٣٠) رقم (١٩٣٢) والرازي في الجرح والتعديل (٦ / ٧٥) وغيرهما.

٦١

«ائذنوا له ، وبشّروه بالنار»(١) .

وكلام سُفيان يدلّ على وجود روايات عن أُمّ البنين الوحيديّة ، روتها له (سنبلة) ، وأمّا الحديث المذكور فهو من رواية سنبلة نفسها من دون نقل عن أُمّ البنين ، كما هو منطوق ما في كتاب البسوي.

والغريب أنّ السيّد محمّد مهدي الخرسان ، نقل الحديث عن البسوي بقوله : (... عن سنبلة عن مولاتها الوحيدية ...)(٢) .

وهذا ما لا وجود له في المصدر المذكور ، كما عرفت.

وقد توهّم البعض اعتماداً على هذا الحديث أنّه يدلّ على وجود أُمّ البنين في وقعة الجمل مع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

وهم توهّم لا دليل عليه ، ولا دلالة في النصّ المذكور عليه ، حتّى لو صحّ ما في نقل السيّد الخرسان ، لأنّ النصّ ليس فيه كون حضور ابن جُرموز عند الإمام عليه السلام أيّام الجمل ، فليلاحظ.

أُمّ البَنِيْنَ والعبّاس وليداً وشهيداً :

لأُمّ البَنِيْنَ مع العباس موقفان احتفظ بهما التاريخ ، بين المواقف الّتي لابدّ منها بين الأمّهات والأولاد :

__________________

(١) المعرفة والتاريخ (ج ٢ ص ٨١٦) طبع أكرم العمري ، بغداد. وفي طبع خليل منصور (٣ / ١١٢) دار الكتب العلمية ـ بيروت. وعن البسوي في تاريخ دمشق (١٨ / ٤٢٢) وفيه تصحيف كثير.

(٢) موسوعة عبد الله بن عبّاس (٣ / ١٥٤) وفسّر في الهامش (مولاتها الوحيدية) بأنّها أُمّ البنين عليها السلام.

٦٢

أحدهما : مع العبّاس وليداً :

قال ابن حبيب : قالت أُمّ البَنِيْنَ الوحيديّة تزفن ابنها العبّاس بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام :

أعيذُهُ بِالواحِدِ

من عينِ كُلِ حاسِدِ

قائِمِهِمْ والقاعِدِ

مُسْلِمِهِمْ والجاحِدِ

صادِرِهِمْ والواردِ

مولُودِهِمْ والوالِدِ(١)

والآخر : مع العبّاس شهيداً :

وسنذكر ما كانت تندب في رثاء أولادها وتخصّ العبّاس بالرثاء الشجيّ في الحديث عن مقتله عليه السلام.

فكان العَبّاسُ عليه السلام من جهة أمّهِ مخْوِلاً ، كما كان من قبلُ مُعِمّاً.

وقد نطقَ بحقٍّ الشاعرُ السلميّ ، حيثُ عناهُ بقوله :

الله أيّ مُذَبِّبٍ عن حُرْمةٍ

أعني ابن فاطمةَ المُعِمَّ الُمخْوِلا

وكذا دخلَ العبّاسُ في أهل البيت الّذين ذكرهم «كُثّيِّرٌ الخُزاعيُّ المُلَيْحِيُّ»(٢) في شعره :

لَعَنَ اللهُ من يَسُبُّ عليّاً

وحُسَيْنا من سُوْقَةٍ وإمامِ

أَتَسُبُّ المُطيَّبينَ جُدوداً

والكَرِيمي الأخْوالِ والأعْمامِ

يأمنُ الظبيُ والحَمامُ ولا يأْ

مَنُ آلُ الرسولِ عندَ المَقامِ

__________________

(١) المنمق لابن حبيب البغدادي (ص ٣٥١) ونقله المقرم في العباس (ص ٣٤).

(٢) نسب قريش للزبيري (١ / ٢٢) ولم يورد البيتين الأول والثاني ، وسمى الشاعر : كثير بن كثير ابن أبي وداع السهمي ، ولمعرفة الشاعر راجع كتاب بطل العلقمي (١ / ١ ـ ٢٥٢).

٦٣

حَفِظوا خاتَماً وسحقَ رداءٍ

وأضاعُوا قَرابَةَ الأرحامِ

طِبْتَ بَيْتاً وطابَ أهلك أهلاً(١)

أهْلَ بيتِ النَبِيِّ والإسْلامِ

رحمةُ اللهِ والسَلامُ عَلَيْكُمْ

كلَّما قامَ قائمٌ بِسَلامِ

__________________

(١) كذا في نسب قريش لكن في بطل العلقمي : وطاب بيتك بيتاً.

٦٤

اسمُهُ وأَلقابُهُ وكُناهُ

فاسمهُ : العَبّاسُ

«الأسماءُ» في أيّة حضارةٍ تكشف عن اتّجاهاتٍ خاصّة عند شعوبها ، في عقليّتها وفي نفسيّتها ، وقد حاولَ الإسلامُ منذُ استتبابه في المدينة ، الاهتمامَ بهذا الأمر ، فكانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وآله يُؤكّدُ تَوْجيهاتِهِ على تَحْسينِ الأسماء ، والإضفاء على المسمّيات بما يُوحي الجمال والكمال ويُلْهِمُ السَّعادَةَ والتَفَاؤل بالخير ، وخصُوصاً في أسماء الناس ، سواءً من المواليد الجُدُدِ ، أم الكبار الّذين تسمَّوْا بأسماء سابقة غير لائقة.

وقد كان العربُ «يُسَمُّونَ أولادَهُم بشَرِّ الأسماء نحو : كلب ، وفهد ، وجرو ، وَيُسَمُّونَ عَبِيدهم بأحسن الأسماء ، نحو : مرزوق ، ورِباح ، قالوا : «إنّا نُسمّي أبناءنا لأعدائنا ، وعَبِيدنا لأنفُسنا»(١) .

وبعد استقرار الحضارة الإسلاميّة بَدَأَ الرسولُ صلى الله عليه وآله بتغيير الأسماء السخيفة والقبيحة ، إلى الأسماء الحسنة والجميلة ، وركَّزَ على الأسماء الدالّة على الشرك وتعظيم الأصنام والسخافات الدينية لدى أهل الباطل ،

__________________

(١) تاريخ الخميس (١ / ١٥٣) نسب هذا إلى أبي الأقيش الأعرابي ، في حياة الحيوان للدميري ، في مادة (كلب) ونقله العاصميّ في (سمط النجوم العوالي) (١ / ٢٠١) وانظر : (المحاضرات في الأدب واللغة) للبُوسيّ المغربيّ.

٦٥

فكان يُغَيِّرُها إلى ما يدلّ على عبودية الله ووحدانيّته فقال صلى الله عليه وآله : «أحَبُّ الأسماء إلى الله ما عبّد وحمّد»(١) .

كما جعل من حقوق الولد على والده : «... أن يُحَسِّنَ اسْمَهُ ...»(٢) .

ومن أهداف الناس في تسمية أولادهم ، هو تخليد ذكر أسلافهم ، إذ لا ريبَ في أنّ في تسمية الأعقاب بأسماء الأسلاف من أعلام الأُسر تذكيراً بهم وتخليداً لمآثرهم.

وقد كان الإمام أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام ذا عنايةٍ فائقةٍ وإصرار أكيدٍ على تسمية أولاده بأسماء أفرادٍ أعزّاء من سلفه المجيد ، فحرص على تسمية ابْنَيْهِ الحسن والحسين عليهما السلام باسم عمّه «حمزة» وأخيه «جعفر» ولمّا وُلِدا سمّاهما كذلك ، قال :

«فدعاني رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وآله فقال : إنّي أُمرتُ أنْ أُغيّر اسم هذين.

فقلت : الله ورسوله أعلم. فسمّاهما «حَسَناً وحُسيناً»(٣) .

وإن كان للوحي مَدْخَلٌ في تسمية أولاده عليه السلام من سيّدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام فسمّاهم الرسول بأمرٍ من وحي السماء «حسَناً ، وحُسيناً ، ومُحَسِّناً»(٤) فإنّ عليّاً حَقّقَ مُبتغاه وأُمنيته في تسمية أولاده من غير

__________________

(١) كشف الخفا للعجلوني (١ / ٥١). وانظر : حاشية ردّ المحتار (٦ / ٧٣٨).

(٢) شعب الإيمان للبيهقي (٦ / ٤٠٠) رقم ٨٦٥٨ ، وانظر : مجمع الزوائد (٨ / ٤٧) وكنز العمال (١٦ / ٤١٧) رقم ٤٥١٩١ والوافي للفيض الكاشاني (٢٦ / ١٨١).

(٣) الأمالي الاثنينية (ص ٥١٠).

(٤) إنّ بني أُميّة ـ ومنهم بنو حرب بن أُميّة ـ حاولوا تحريف هذا الهدف السامي الّذي أراده

٦٦

فاطمة عليها السلام.

وقد أعلن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عن هذا الهدف السامي ، في ما رواه أبو سعيد الخُدْري عنه ، قال :

«وقد سمّيتُ بعبّاسٍ عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وقد سمّيتُ بخير البريّة محمّد صلى الله عليه وآله» (١) .

وأَجْدرِ بعليٍّ المرتضى أن يُحييَ ذكرَ أعمامِه وإخوته ، في تسمية أولاده ، لما يحملونه من شرفٍ ومجدٍ وشجاعةٍ وكرمٍ ، وطيب ذكرٍ ؛ كي تستمرّ تلك المعاني الرفيعة في الأبناء ، فسمّى باسم ابن عمّه وأخيه المُصطفى رسول الله «محمّد صلى الله عليه وآله» وبإذنٍ منه(٢) .

وسمّى باسم عمّه «عَبْد الله» والد النَبِيّ الأكرم ، وحامل نُوره.

وباسم «العَبّاس» عمّه ، وباسم أخيه «جعفر» ذي الجناحين(٣) .

__________________

الإمام أمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام فنسبوا إليه في أحاديث مفتعلة أنه أراد أن يُسمّيَ كلاً من أولاده الثلاثة باسم «حَرْبٍ» لكنّ الرسول صلى الله عليه وآله غيّر أسماءهم.

ولهذا التحريف ـ كسائر تحريفات بني أُميّة ـ أهداف سياسية :

إمّا بإظهار هذا الاسم ـ يعني : حَرْب ـ بمظهر الأسماء المرغوب فيها من أسماء أسلافهم ، غفلةً منهم عمّا فيه من الدلالة على الوحشة والكراهية والدمار.

أو بإظهار رغبة الإمام في هذه الأُمور ، وهذا ـ أيضاً ـ يقدح بهم لتسمية جدّهم به.

ومهما يكن فقد بحث السيّد محمّد مهدي الخِرْسان حول هذه الأحاديث وأبطلها سنداً ودلالة في كتابه «المُحسن السبط» (ص ١٧ ـ ٨٣) تمام الباب الأوّل.

(١) الأمالي الاثنينيّة (ص ٥١٥).

(٢) وهو «محمّد ابن الحنفية» راجع بحثنا حول الكنية المنشور في مجلّة «تُراثنا» العدد (١٧).

(٣) وقد يتعلّل بعضُ الناس بتسمية بعض أولاد الأئمّة عليهم السلام بأسماء من قبيل (عُثمان

٦٧

__________________

وعُمر وأبي بكر) للقول بأنّ ذلك يُعارض ما يلتزم به الشيعة من تجاوز السلف أصحاب هذه الأسماء على حقوق أهل البيت عليهم السلام!؟.

وهذا التعلّل باطلٌ ، للوجوه التالية :

فأوّلاً : لا دليل على أنّ الأئِمّة عليهم السلام أنفسهم سَمَّوا الأولادَ بهذه الأسماء.

وثانياً : أنّ تلك الأسماء كانت موجودةً في العرب يتعارف تداولها قبل الخلفاء من دون أن يكون في التسمية بها حزازة.

وثالثاً : يمكن أن يكون السببُ في تسميّتهم أنّ أمّهات هؤلاء كنَّ من عامّة الناس ، فلمّا كُنّ يَلِدْنَ عندَ أَهْلِهِنّ ، وذلك من المتعارف عند الناس ، كما جاء في تاريخ الطبري ، في ذكر «هاشم جدّ النبي صلى الله عليه وآله ، وزواجه من سلمى بنت زيد من بني النجّار» حيث قال : فخطبها إلى أبيها ، فأنكحه إيّاها ، وشرط عليه أن لا تلد ولداً إلاّ في أهلها ـ تاريخ الطبري (٢ / ٢٤٧) ـ فلا بدّ أنّ الأُمّهات كنّ يُسمّين المولودين بما يشاؤون من الأسماء المتداولة عندهم ، ولم يُحاول الأَئِمّةُ عليهم السلام تغيير الأسماء لِما في ذلك من الإثارة لمن يحترمونها ، وَهُوَ أمرٌ غيرُ مرغوبٍ فيه ، فكانت الأسماءُ تلك تبقى على الأولاد.

ويشهد على أنّ الأُمّهات كُنّ يُسمّين أولادَهنّ ، قولُ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في مواجهته لمرحب اليهوديّ : «أنا الّذي سمّتني أمّي حيدرة» رواه المجلسي في بحار الأنوار (٣١ / ٤ ـ ١٨) باب ٣٣ ، وهو في طبقات ابن سعد (٢ / ٨٥) والاستيعاب (١ / ٢٣٨) والروض الأنف (٤ / ٨٠) والسيرة النبويّة لابن كثير (٣ / ٣٤٠ و ٣٤٢).

وكذلك الإمام الحسين السبط الشهيد ، قال للحرّ الرياحي الشهيد في كربلاء : «أنت الحُرُّ كما سمّتك أُمُّك أنتَ الحُرُّ إن شاء الله في الدنيا والآخرة» تاريخ الطبري (٥ / ٤٢٨).

وانظر عن تسمية الأمّهات : وفيات الأعيان (٢ / ٥١) وكذا الوافي بالوفيات (١١ / ٢٣٨) رقم ٣٠٩٨ عن قول الحجاج وتسمية أمه له : كليب ، وسير أعلام النبلاء (٤ / ٣٢٨) وكذا تهذيب الكمال (١٠ / ٣٦٨) عن سعيد بن جبير ، وفيه (١١ / ١٧٦) عن الفزاري ، وانظر : تاريخ دمشق (٩ / ٤٢٤) و(٤٨ / ١١٩) وموارد أخرى كثيرة. ويظهر أنّ ذلك كان في الأمم السابقة أيضاً ، كما نقلوه عن تسمية «شمعون» لاحظ : النكت والعيون (تفسير الماوردي) (١ / ٣١٤) وتفسير : التبيان للشيخ الطوسي (٢ / ٢٨٨).

وقد ألّف بعض الأعلام حول هذا الأمر رسائل ، للردّ على من تشبّثَ بهذه التسميات لأهليّة

٦٨

واسم «العَبّاس» قلّ مَنْ سُمِّيَ به في صدر الإسلام ، وأشهرهم صيتاً وأعلاهم صوتاً(١) ومجداً وشرفاً هو «العَبّاسُ بن عَبْد المطّلب الهاشمي» عمُّ النَبِيّ والوَصِيّ سلام الله عليهما.

وقد اجتمعت كلّ تلك المعاني الرفيعة والأهداف السامية في تسمية الإمام ولده «العَبّاس».

وفي التسمية بـ «العَبّاس» لمحةٌ غيبيّةٌ ، تفوق مجرّد التمجُّد والتَّفَأُّل والتوقّع ، وهي أنّ العّبّاس العمَّ كانتْ له «السقايةُ» في مكّة ، يسقي الحجيج الآمِّينَ البيتَ الحرامَ والبلدَ الآمنَ.

والعَبّاسُ ثبتتْ له «السقايةُ» في وادي كربلاء ، سقى العطاشى المواجهين الأعداء في أتُّوْن حَرْبٍ شرسةٍ شنّها آلُ حربٍ ، وناضل السقّاء في سبيل وظيفته تجاهَ أخيه الحُسين عليه السلام حتّى قطَعَ الأعداءُ يَدَيْهِ ، ورُزِقَ الشهادَة لديهِ.

ألقابُ العباس عليه السلام :

عُرف العَبّاسُ عليه السلام بألقابٍ عديدةٍ ، كالآتي :

السقّاء : مُبالغة الساقي وهو : القائم «بالسقي» يعني إرواء الغير من

__________________

المتسمّين بها للخلافة!!! وهذا التشبث ممّا لم يبتنِ إلاّ على التفاهَةِ والسخافَةِ.

وراجع الذريعة لشيخنا الطهرانيّ : (١١ / ١٤٧).

(١) كان العَبّاس عمّ النَبِيّ صلى الله عليه وآله «صَيِّتاً» جَهْوَريّاً. الإرشاد للشيخ المفيد (١ / ١٤٢) وقد تصحّفت الكلمة إلى «صبيّاً» في مطبوعة تاريخ اليعقوبي (٢ / ١١٠) فراجع تعليقنا على (ص ٣١٥ من العدد ٢٠) من مجلّة (علوم الحديث).

٦٩

الماء وغيره من المائعات.

ويُطلق أيضاً على من التزم السقي ، أو كانتْ خاصّته.

وقد ورد في «السقي» للماء ، فضلٌ وثوابٌ كثيرٌ ، في الأحاديث الشريفة ، لأنّ الماءَ هو من ضرورات الحياة ، بل هو أصل الحياة كما قال الله تعالى :( وَجَعَلْنَا مِنْ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) (الآية ٣٠ من سورة الأنبياء) وَنَدبَ الدينُ الحنيف إلى السقي :

فعن أبي جعفر الباقر عليه السلام : «إنّ الله تبارك وتعالى يُحبُّ إبراد الكبِد الحرّى ، ومن سقى كبِداً حرّى من بهيمة أو غيرها ، أظلّهُ الله يوم لا ظِلّ إلاّ ظِلُّه»(١) .

وقال : «من سقى مؤمناً شربةً من ماءٍ ؛ فكأنّما أعتق عشر رقابٍ من ولد إسماعيل»(٢) .

وقال : «أفضل الصدقة إبراد كبدٍ حرّى»(٣) .

و«أفضل الصدقة صدقة الماء»(٤) .

وفي قول رسول الله صلى الله عليه وآله : «سقيُ الماء» في جواب السائل : أيّ الصدقة أفضل؟(٥) .

__________________

(١) الكافي للكليني (٧ / ٣٥٤) ومن لا يحضره الفقيه ، للشيخ الصدوق (٢ / ٣٦) باب ١٧.

(٢) الكافي للكليني (٢ / ٢٠١) ج ٧ ونقله في وسائل الشيعة (٢٥ / ٢٥٣).

(٣) الكافي للشيخ الكليني (٧ / ٣٥١) ح ٦٢٣٢ ، باب سقي الماء ، والغايات في جامع الأحاديث (ص ١٩٦).

(٤) الغايات للرازي (المطبوع مع جامع الأحاديث ص ١٩٥) وفي بحار الأنوار (٧٤ ٣٦٩).

(٥) الغايات للرازي ، المطبوع مع (جامع الأحاديث ص ١٩٦) ورواه السيوطي في الجامع الصغير (١ / ٥٠).

٧٠

وقال : «من سقى مؤمناً على عطشٍ ، سقاهُ اللهُ من الرحيق المختوم»(١) .

وكانت «السقاية» من أشرف خصال قريشٍ في الجاهلية :

قال الجاحظ : إنّ أشرف خصال قُريشٍ في الجاهليّة : اللواءُ ، والندوةُ ، والسقايةُ ، والرفادةُ ، وزمزمٌ ، والحجابةُ وإنّ معظم ذلك صار شرفُه في الإسلام إلى بني هاشمٍ(٢) .

وقد مرّ أنّ هذه كلّها اجتمعتْ إلى قُصيّ فحازها حتّى قال القائل فيهم :

ولهم زمزمٌ وجبرائيلُ

ومجدُ السقاية الغَراءِ(٣)

ولقد أقرّ الإسلامُ البعض منها ، وأهمّها «السقايةُ» وقُصيّ قد حفرَ بِئراً اسمُها «العجول» وأُخرى اسمها «سجلة»(٤) كما أنّ عَبْد المطّلب حفر بئر «زمزم» الشهيرة ، وقبله حفر هاشمٌ بئر «النيرد».

ولقد سبق القيام بهذا الشرف أجدادُ أبي الفضل العَبّاس عليه السلام كما قرأناهُ عن «قُصيّ» أنّه جمع المكارم والمآثر المعروفة عند العرب في الجاهلية ، ومنها «السقايةُ».

ولقد أبدل اللهُ بِكُلِّ تلك المكارم الإيمانَ بالله ورسوله والجهاد في سبيله ، وذلك عندما تفاخر من تولّى تلك المآثر من السقاية الّتي أعطاها

__________________

(١) أمالي الصدوق (ص ٣٥٧ المجلس ٤٧) بحار الأنوار (٧١ / ٣٨٢).

(٢) كتاب فضل هاشم على عَبْد شمس ، للجاحظ ، مطبوع مع رسائل الجاحظ (الرسائل السياسية) (ص ٤٠٩).

(٣) المصدر السابق (ص ٤١٠).

(٤) الروض الأنف (١ / ٢٦٧).

٧١

الرسول صلى الله عليه وآله في فتح مكّة إلى العَبّاس ، والحجابة الّتي أعطاها للحجبيّ ، فتفاخرا بذلك على أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام فأنزل اللهُ فيه قوله عزّ وجلّ :( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

حديثُ الماء والسِقاية عَبْرَ التاريخ

بين بني هاشم في بذلهم ، وبين قريش وبني أُميّة في منعهم

إنّ في التاريخ لَعِبراً لمن اعتبر ، مبشّرةً تارةً ومنذرةً أُخرى لعامّة البشر ، في كلّ مجالات الحياة ، ومنها الماء ، لما فيه من ضرورةٍ حياتية عامّة للموجودات كافّةً ، وللإنسان والحيوان خاصّة ، كما دلّت عليها الآيات والروايات التي ذكرنا طرفاً منها.

ومن العِبَر أنْ نجدَ في صفحات التاريخ ـ والعربي منه بخاصّة ـ قبل الإسلام وبعده ، وقبل مأساة كربلاء ، وفي أيّامها ، وفي الصحاري القاحلة ، وعلى شواطئ الأنهار ، وعلى شاطئ الفُرات بالذات ، من الحوادث الدالّة على ما للماء من الدور الكاشف عن المواقف الإنسانية النبيلة والمشرّفة لبني هاشم في بذله وسقيه ، كما أنّها تُعلن عمّا كان عليه بنو أُميّة ـ وقريش! ـ من المواقف الرذيلة في منْع الماء والشحّ به!

وفي كربلاء وأيّام مأساة الحسين عليه السلام فيها ، يبدو ما للماء من الدور في الإعلان عن مظلوميّة الحسين وأهل البيت النبويّ من نِساء وأظفال حتّى الرضّع ، من المعاناة والعطش فيها ، ويكشف عن ما للعبّاس أبي

٧٢

الفضل من الريادة ، والجهاد في سقيه وبذله.

كما يصرخ التاريخ بما كان لبني أُميّة وأتباعهم من أنذال العرب من مواقف مخزية وموحشة ومرعبة في منع الماء والشحّ به.

تلك حوادث التاريخ نسردها تباعاً :

فقبل الإسلام : وعندما حفر عبد المطّلب بئر «زمزم» وخاصمته قريشٌ فيه ، ذكر ابن الأثير : أنّهم ارتحلوا إلى كاهنة بني سعد بن هُذَيم ـ وكانت بمشارف الشام ـ حتّى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام ، فَنِيَ ماءُ عبد المطّلب وأصحابه فظَمِئُوا حتّى أيقنوا بالهلكة ، فطلبوا الماء ممّن معهم من قريش! فلم يسقوهم!!(١) .

ثُمّ إنّ عبد المطّلب قال لأصحابه : والله! إنّ إلقاءَنا بأيدينا هكذا للموت ، لا نضرب في الأرض ونبتغي لأنفسنا ؛ لعجزٌ.

(أيهلك عشرة من قريش ، وأنا حيٌّ؟! لأطلبنَّ لهم الماء ، حتّى ينقطع خيطُ عنقي ، وأبلي عُذراً ...)(٢) .

فارتحلوا ـ ومن معه من قبائل قريش ينظرون إليهم!! ـ.

ثمّ ركب عبدُ المطّلب ، فلمّا انبعثت به راحلته انفجرتْ من تحته عينٌ عذبَةُ من ماءٍ ، فكبَّر وكبَّر أصحابُهُ ، وشربوا ، وملأوا أسقيتهم(٣) .

__________________

(١) في رواية اليعقوبيّ للحادثة : فاستسقى القيسيّين من فضل مائهم! فأَبَوا أن يسقوهم!! وقالوا : والله! لا نسقيكم!!!.

(٢) ما بين القوسين من رواية اليعقوبي ، وكذا في ما يلي.

(٣) في رواية اليعقوبي : «فركب راحلته وأخذ الفلاةَ ، فبينا هو فيها ، إذ بَرَكَتْ راحلته ، وبصر به

٧٣

ثمّ دعا القبائل من قريش ، فقال : «هَلُمُّوا إلى الماء فقد سقانا الله».

(فانتهوا إليه ، وراحلته تفحصُ بكركرتها على ماءٍ عَذْبٍ رَوِيٍّ قد ساح على ظهر الأرض ، فلمّا رأى القيسيّون ذلك أهرقوا أسقيتهم ، وأقبلوا ليأخذوا من الماء)(١) .

فقال أصحابه (القرشيون) : لا نسقيهم ، لأنّهم لم يسقونا (كلاّ ، والله ، أَلَسْتُم الّذينن منعتمونا فضل مائكم؟).

فلم يسمع منهم ، وقال : «فنحنُ ـ إذنْ ـ مثلهم» (فقال : خلّوا القوم ، فإنّ الماء لا يُمنع).

فجاء أُولئك القرشيّون ، فشربوا وملأوا أسقيتَهم ، وقالوا : قد ، والله ، قضى الله لك علينا ، يا عبد المطّلب ـ واللهِ ، لا نُخاصمك في «زمزم» أبداً ، إنّ الّذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة ، هو الّذي سقاك «زمزم» فارجع إلى سقايتك ، راشداً(٢) .

(فقال القيسيّون : هذا رجل شريف سيّد).

وفي الإسلام : وفي حديث حصر عثمان في داره ، ومنع الماء عنه (٣) كما قال أصحاب السِيَر والتاريخ :

__________________

القومُ فقالوا : هلك عبد المطّلب ، فقال القرشيّون : كلاّ ، والله ، لهو أكرم على الله من أن يهلكه ، وإنّما مضى لصلة الرحم».

(١) ما بين القوسين من رواية اليعقوبي ، وكذا في ما يلي.

(٢) الكامل في التاريخ (٢ / ١٣) ورواية اليعقوبي في تاريخه (١ / ٢٤٩).

(٣) أنساب الأشراف (٥ / ٧١).

٧٤

قال البلاذري : اشتدّ طلحة بن عبيد الله في الحصار (على عثمان) ومنع من أنْ يُدخل إليه الماء(١) .

وقيل للزبير ، إنّ عثمان محصورٌ ، وإنّه قد مُنِعَ الماء!

فقال :( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ ) [سورة سبأ ، الآية ٥٤](٢) .

وقال ابن أبي الحديد الشافعي المعتزلي : لمّا اشتدّ الحصار على عثمان بمنع الماء ، فغضب عليٌّ من ذلك غضباً شديداً ، وقال لطلحة : أدخلوا عليه الروايا(٣) .

قال البلاذري : غضب علي بن أبي طالب من ذلك ، فأدخلت عليه روايا الماء(٤) .

والمراد بروايا الماء ، ما جاء في الحديث التالي :

وقيل لعلي عليه السلام : إنّ عثمانَ قد مُنِعَ الماء!

فأمَرَ بالروايا فَحُكِّمَتْ(٥) فجاء للناس عليٌّ عليه السلام فصاح بهم صيحة ، فانفرجوا ، فدخلت الروايا(٦) .

وهكذا كان موقف الصحابِيَّينِ! (طلحة والزبير) من منع الماء عن عُثمان!

__________________

(١) أنساب الأشراف (٥ / ٧١).

(٢) شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي (١ / ٣٤٢) رقم (٣١٢).

(٣) شرح نهج البلاغة (٢ / ١٤٨).

(٤) أنساب الأشراف (٥ / ٧١).

(٥) فحكّمتْ : أي شُدَّتْ بإحكام.

(٦) الأمالي ، للشيخ الطوسي (ص ٧١٥) رقم (١٥١٧).

٧٥

وذلك موقف عليّ أمير المؤمنين عليه السلام من منع الماء! ومنهما! ومن عُثمان!

لكن التاريخ سَجَّلَ على صفحاته بدمٍ ، قيامهما بالمطالبة بدم عُثمان ، في حرب الجَمَل ، مُطالِبَيْن عليّاً ومُحارِبَيْن له! وهذا من أكبر عِبَر التاريخ!

وكما أتمَّ الإمامُ أميرُ المؤمنين عليه السلام الحجّةَ على أعدائه بتصرّفاته الحكيمة وإقدامه المشرّف ، فكذلك قد أطلق الوجهَ الإنسانيَّ في ذلك ، حيث قال في رفضه منع الماء :

«لا أراى ذلك ، إنّ في الدار صِبياناً وعِيالاً ، لا أرىْ أن يُقتل هؤلاء عطشاً بِجُرم عُثمانَ»(١) .

أقول : لأمرٍ مّا ذكر الإمامُ الصِبيان والعِيال! وإلاّ فإنّ رفض منع الماء ثابتٌ حتّى في حقّ الرِجال والكِبار ، بل الأعداء في سُوح القتال والنضال.

أليسَ في ذكر الإمام عليه السلام للصِبيان والعِيال ، ورفض منع الماء لأجلهم ، إشعاراً بما سيُواجِهُ به آلُ عُثمان وآلُ مروان وآلُ حرب ، ابنَهُ الحُسينَ عليه السلام وأطفالَه وأُسرتَه في ساحة كربلاء!!(٢) .

وفي وقعة صِفّين على شاطئ الفرات :

قال ابن الأثير ـ في حوادث واقعة صِفِّين ـ : إنّ عليّاً طلب لعسكره موضعاً ينزل فيه ، وكان معاوية قد سبق فنزل منزلاً اختاره بسيطاً واسعاً

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (٣ / ٢٥) وانظر تجارب الأُمم لمسكويه (١ / ٤٤٥).

(٢) وللمزيد راجع : تاريخ المدينة المنوّرة لابن شَبَّه (٤ / ١٢٠٤) والإمامة والسياسة لابن قتيبة (١ / ٣٤). وسير أعلام النبلاء للذهبي (٢ / ٤٥٩) وتاريخ دمشق (٢٩ / ٣٦٧) وأنساب الأشراف (٥ / ٧٧) مضافاً إلى المصادر السابقة.

٧٦

أفْيَحَ ، وأخذ شريعة الفُرات ، وليس في ذلك الصقع شريعة غيرها ، وجعلها في حيّزه ، وبعث عليها أبا الأعور السُلَمييحميها ويمنعها!

فطلب أصحاب عليٍّ شريعةً غيرها فلم يجدوا ، فأتوا عليّاً فأخبروه بفعلهم وبعطش الناس ، فدعا صعصعة بن صُوحانٍ ، فأرسله إلى معاوية يقول له :

إنّا سرنا مسيرنا هذا ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم ، فقدمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك ، ونحن من رأينا الكفّ حتّى ندعوك ونحتجّ عليك.

وهذه أُخرى قد فعلتموها : منعتم الناس عن الماء ، والناس غير منتهين ، فابعث إلى أصحابك : فليخلّوا بين الناس وبين الماء ، وليكفّوا ، لننظر في ما بيننا وبينكم ، وفي ما قدمنا له ، فإن اردت أن نترك ما جئنا له ونقتتل على الماء حتّى يكون الغالب هو الشارب ، فعلنا.

فقال معاوية لأصحابه : ما ترون؟

فقال الوليد بن عُقْبة ، وعبد الله بن سعد : امنعهم الماء ، كما منعوه ابن عفّان ، اقتلهم عطشاً قتلهم الله.

فقال عمرو بن العاص : خلّ بين القوم وبين الماء ، إنّهم لن يعطشوا وأنت ريّان ، ولكن بغير الماء فانظر في ما بينك وبين الله.

فأعاد الوليد وعبد الله بن سعد مقالتهما وقالا : امنعهم الماء إلى الليل ، فإنّهم إن لم يقدروا عليه رجعوا وكان رجوعهم هزيمة ، امنعهم الماء منعهم

٧٧

الله إيّاه يوم القيامة.

قال صعصعة : إنّما يمنعه اللهُ الفجرةَ وشَرَبَةَ الخَمْر ، لعنك اللهُ ولعنَ هذا الفاسقَ ـ يعني الوليد بن عقبة ـ فشتموهُ وتهدّدوه.

فرجع صعصعة وأخبره بما كان ، وأنّ معاوية قال : سيأتيكم رأيي ، فسرّب الخيل مع أبي الأعور ليمنعهم الماء ، فلمّا سمع عليُّ ذلك قال : قاتلوهم على الماء.

وقاتلوهم حتّى خلّوا بنهم وبين الماء ، وصار في أيدي أصحاب عليّ ، فقالوا : والله لا نسقيه أهل الشام ، فأرسل عليّ إلى أصحابه : أن خذوا من الماء حاجتكم ، وخلّوا عنهم! فإنّ الله نصركم ببغيهم وظلمهم!!!(١) .

وفي مطلع الحسين عليه السلام من المدينة :

من عِبَر التاريخ ما وقع في طريق الحسين عليه السلام إلى الشهادة ، لمّا خرج من المدينة خائفاً يترقّب ، بعد تهديد آل أُميّة له بالقتل إنْ لم يُبايع يزيد ، الخليفةَ المفروض على الأُمّة عُدواناً ، فكان له مع الماء حديث ، شرحنا بعضه في كتابنا «الحسين عليهم السلام سماته وسيرته» بعنوان «البركة والإعجاز» فقلنا :

من معجزات النبي صلى الله عليه وآله ، المذكورة في سيرته : أنّه تَفَلَ في بئرٍ قد جَفَّتْ ، فكثُر ماؤُها ، وعذب ، وأَمهى ، وأمرى. وهذا المعجز من بركة نبيّ الرحمة للعالمين : قليلٌ من كثير ، وغيضٌ من فيض.

__________________

(١) الكامل لابن الأثير (٣ / ٢٨٣ ـ ٢٨٥).

٧٨

والحسين عليه السلام ابن ذلك النبيّ ، وبضعةٌ منه ، وعصارة من وجوده ، والسائر على دربه ، والساعي في إحياء رسالته ، فهو يُمثّل في عصره جدَّه الرسولَ جسَديّاً ، ويُمثّلُ رسالتَهُ هدياً ، فلا غَرْوَ أن يكون له مثل ما كان لجدّه من الإعجاز ، وهو سائر في طريقه إلى الشهادة والتضحية من أجل الإسلام.

أليس الهدف من الإعجاز إقناع الناس بالحقّ الّذي جاء به الأنبياء؟!

فإذا كان ما يدعو إليه الإمام هو عين ما يدعو إليه النبيُّ ، فأيُّ بُعْدٍ في دَعْم هؤلاء بما دعم به أُولئك؟!

من دون تقصير في حقّ أُولئك ، ولا مُغالاة في قَدْر هؤلاء!

إنّ الحسين عليه السلام لمّا خرج من المدينة يُريد مكّة ، مَرَّ بابن مُطيعٍ وهو يحفر بئراً له ، وجرى بينهما حديث عن مسير الإمام ، جاء في نهايته : قال ابن مطيع :

إنّ بئري هذه قد رشَحْتُها ، وهذا اليوم أوانُ ما خرجَ إلينا في الدلو شيءٌ من الماء ، فلو دعوتَ اللهَ لنا في البركة.

فقال الحسين عليه السلام : «هات من مائها» فأُتي من مائها في الدلو ، فشربَ منه ثمّ تَمَضْمَضَ ، ثمَّ ردّه في البئر ؛ فأعذبَ ، وأمهى(١) .

وهذا من الحسين عليه السلام ـ أيضاً ـ غيضٌ ، وهو معدن الكرم والفيض.

__________________

(١) الحديث في تاريخ دمشق (جزء تاريخ الإمام الحسين عليه السلام ، الحديث ٢٠١). وفي مختصر ابن منظور له (٧ / ١٣٠) : «وأمرى» بدل : «وأمهى».

٧٩

إلاّ أنّ حديث الماء ، والحسين في طريقه إلى كربلاء (حيث هناك العطش والظمأ) فيه عِبْرةٌ تستدرّ العَبْرةَ.

فهل هي إشاراتٌ غَيْبيّة إلى أنّ الحسين سيواجه المنع من الماء ، وسيقتلُ «عَطَشاً» وهو منبع البركة من فيض فمه يعذبُ الماء ويمهى ويمرى!

وهل مثل ذلك يخطر على بالٍ!؟

أو أنّ هذه دلالات عينيّة على مدى الجريمة التي وقعت والفاجعة التي حدثت في كربلاء ، على يد أُمّة تدّعي الإسلام ، وتدعو «يزيدَ» أمير المؤمنين لكن ذكر العطش وحديث الماء ، ومقام السقّاء هناك ، له شأن آخر ستقرأه في حديث كربلاء(١) .

وعلى مشارف كربلاء ، الحسين يسقي جيش الأعداء وحتّى خيولهم :

ولا يزال التاريخ يروي الحوادث ، ويري العَجَب من العبر :

لمّا واجَهَ الإمام الحسين عليه السلام طليعة الجيش الأمويّ في مشارف كربلاء وهم ألفُ فارس بقيادة الحُرّ بن يزيد الرياحيّ ، عند موقع «ذو حُسْم» ظهر من الحسين عليه السلام ما هو المأمول منه.

قال ابن الأثير : جاء القوم وهم ألفُ فارس مع الحرّ بن يزيد التميميّ ثمّ اليربوعيّ ، فوقفوا مقابل الحسين وأصحابه ، في حرّ الظهيرة.

فقال الحسين لأصحابه وفتيانه «اسقوا القوم ، ورشّفوا الخيل ترشيفاً»

__________________

(١) الحسين عليه السلام سماته وسيرته ، الفقرة (٢١) بتصرّف بين الأقواس.

٨٠