شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور الجزء ١

شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور13%

شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور مؤلف:
المحقق: محمد شعاع فاخر
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
ISBN: 964-503-000-5
الصفحات: 439

الجزء ١
  • البداية
  • السابق
  • 439 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 34251 / تحميل: 4870
الحجم الحجم الحجم
شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور

شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور الجزء ١

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
ISBN: ٩٦٤-٥٠٣-٠٠٠-٥
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

النبيّ مثل الأوّل ، فقال : سمّه حسيناً خرّجه الإمام عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام .(١) وفي هذا الحديث ورد ذكر « ابن » وأُطلق على الحسين في ثلاث مواضع ، وهذا الحديث عينه مرويّ في ذخائر العقبى(٢)

الحديث العاشر : ذكره الشيخ العارف الكامل المحدّث الفاضل سليمان بن خواجه كلان الحسيني الحنفي النقشبندي القندوزي البلخي الإسلامبولي المعاصر في كتاب « ينابيع المودّة » وفي « جمع الفوائد »(٣) : عبد الله بن شدّاد عن أبيه : خرج علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في إحدى صلواتي الليل ، وهو حامل حسناً أو حسيناً ، فتقدّمصلى‌الله‌عليه‌وآله فوضعه ثمّ كبّر للصلاة فصلّى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها ، فرفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ساجد فرجعت إلى سجودي ، فلمّا قضى الصلاة قال الناس : يا رسول الله ، إنّك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتّى ظننّا أنّه قد حدث أمر ، أو أنّه يوحىٰ إليك ؟ قال : كلّ ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أُعجّله حتّى يقضى حاجته ذكره النسائي في باب السجدة(٤) وإنّي عثرت على هذا الخبر في نفس النسائي بعد ما نقلت من الينابيع العزو إليه

_________________

(١) تاريخ الخميس ٢ : ٤١٨ ط الوهبيّة ، و ط بيروت ( هامش الأصل )

(٢) ذخائر العقبى : ١٣٠ ط قدسي ، وإحقاق الحقّ ١٠ : ٥٠١ ( هامش الأصل )

(٣) جمع الفوائد : هو كتاب مأخوذ من أخبار جامع الأُصول لابن الأثير الذي جمع به الصحاح الستّة ومأخوذ أيضاً من جمع الزوائد للهيثمي نورالدين الذي جمع فيه مسند أحمد بن حنبل ومسند أبي يعلى الموصلي ومسند أبي بكر البزاز والمعاجم الثلاثة للطبراني كما نقل ذلك في أوّل كتاب الينابيع ( منهرحمه‌الله )

(٤) ينابيع المودّة : ١٦٨ ط إسلامبول ، والمستدرك للحاكم ٣ : ١٦٥ ط حيدر آباد الدكن ، وأُسد الغابة ٢ : ٣٨٩ ط مصر ( هامش الأصل ) وجرى تطبيقه على ينابيع المودّة ط دار الأُسوة تحقيق سيّد علي جمال أشرف الحسيني ، الأُولى ١٤١٦ ، ٢ : ٤٣ ، وعلى المستدرك ط دار المعرفة بيروت تحقيق المرعشلي ، ٣ : ١٦٦ ، وعلى أُسد الغابة نشر إسماعيليان ، ٢ : ٣٨٩ ، وعلى سنن النسائي ، ط دار الفكر بيروت أُولى ١٣٤٨ ، ٢ : ٢٣٠ ( المترجم )

١٦١

ومجمل القول أنّ الأخبار على هذا النمط في كتب أحاديث أهل السنّة والجماعة كثيرة وهي في حنايا كتبهم خارجة عن حدّ الحصر(١)

إشارة :

المشهور بين علماء الإماميّة رضوان الله عليهم أنّ من كانت أُمّه من بني هاشم وأبوه من سواهم لا يستحقّ الخمس ولكن مذهب السيّد المرتضى خلاف ذلك وتبعه من المتأخّرين صاحب الحدائق الشيخ يوسف البحرانيرحمه‌الله فأجاز أخذه لهاشميّ الأُمّ ، وبنو النزاع على مسألة ابن البنت ، وهل يقال له ولد أو لا ؟ والحقّ أنّ الإنكار غير متين على هذه المسألة بل مستند المشهور مرسلة حمّاد عن الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام فقد روي صريحاً عن الإمام الكاظمعليه‌السلام أنّ النسب من جهة الأُمّ إلى هاشمعليه‌السلام لا يوجب أخذ الخمس ولا تحريم الصدقة ، قالعليه‌السلام : فأمّا من كانت أُمّه من بني هاشم وأبوه من سائر قريش فإنّ الصدقة تحلّ له وليس له من الخمس شيءٌ(٢)

ولا يقدح بالاحتجاج التضعيف بالإرسال لأنّ حمّاداً من أصحاب الإجماع وأخباره كلّها صحيحة كما أوضحنا ذلك في رسالة مفردة ببيان كاف على وجه لا تبقى معه شبهة على أنّ متن الرواية شاهد بنفسه على الصدق ، راجع باب الخمس من أُصول الكافي ، وتأمّل الحديث تأمّلاً جيّداً من أوّله إلى آخره فستطمئنّ بصدوره عنهمعليهم‌السلام إن كنت من أهل الأُنس بلسان الأئمّة وتتبّع أخبارهم

_________________

(١) تجد الكثير منها في إحقاق الحقّ مجلّدات ١٠ ـ ١١ ( هامش الأصل منقولا )

(٢) وسائل الشيعة ٦ : ٣٥٩ ومن كانت أُمّه فإنّ الصدقات ( هامش الأصل ) وجرى تطبيقه على الوسائل ط آل البيت قم الثانية ١٤١٤ ، ٩ : ٢٧١ من كانت أُمّه من بني هاشم وأبوه من سائر قريش فإنّ الصدقات تحلّ له وليس له من الخمس شيء الخ ( المترجم )

١٦٢

علاوة على أنّ الشهرة الاستناديّة جابرة لكلّ نوع من أنواع الضعف ورافعة لكلّ قسم من أقسام العيب

وفي أخبار كثيرة جاء ذكر الهاشمي والظاهر أنّ هذه النسبة تماماً مثل النسبة إلى القبيلة أو العشيرة لا تكون إلّا من جهة الأب لا الأُمّ ، وإن كانت بحسب الوضع اللغوي أعمّ من ذلك لأنّ ياء النسبة في جميع المراتب كالنسبة إلى الصنعة أو البلد أو المذهب واحدة لا فرق بينها ، ومثلها مادّة النسبة ، وحمل الأخبار قطعيّة الصدور الواردة في فخر الأئمّة بولادتهم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّهم أبنائه على المجاز والاستعارة ينافي مقام فضلهم الواقعي وشرفهم الحقيقي في نفس الأمر ، بل المتأمّل في الأخبار الكثيرة الواردة في هذا الباب والاستعمالات غير المقيّدة بالقرينة يقطع بأنّ النزاع بين الأئمّة وبني العبّاس يدور على الإطلاق الحقيقي ، فإنّ بني العبّاس إمّا لجاجة وعناداً وإمّا خبثاً ودهاءاً منهم يجادلون في انصراف المعنى الحقيقي عن الأئمّة في هذه المسألة لإلقاء الشبهة في أذهان العامّة ، والحديث الذي ذكرناه في ذيل الآية الثانية شاهد صدق على هذا المدّعىٰ

من هذه الجهة ادّعى الشيخ المحقّق الفقيه محمّد بن إدريس الحلّيرحمه‌الله في كتاب السرائر الإجماع على إطلاق الابن على ابن البنت على الحقيقة في باب المواريث ، والكلام المفصّل الذي نقل عن السيّدرضي‌الله‌عنه يحكي عدم الخلاف في المسألة

وحكي عن شيخ الطائفة القول بإجماع الأُمّة على ذلك ودليل الخصوم بيت الشعر الذي قاله الجاهلي :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهنّ أبناء الرجال الأباعد(١)

_________________

(١) ينسب هذا الشعر إلى عمر بن الخطّاب ، جامع الشواهد : ٩١ ( تعليقات المحقّق )

١٦٣

وهذا الكلام أوّلاً مجهول القائل(١) ، ولا يُدرى متى قاله صاحبه وفي أيّ طبقة

_________________

(١) نسب هذا الشعر إلى عمر بن الخطّاب(١) ونسبه بعضهم إلى أبي فراس همام الفرزدق(٢)

وتمكّنت يد السياسة الأثيمة من حمل علماء العامّة في مقابل ظاهر الآية الشريفة وتصريح جمع غفير من علمائهم مثل الفخر الرازي(٣) والقرطبي(٤) وغيرهما وغيرهما ، وروايات كثيرة ادّعي لها التواتر والإجماع تنصّ على أنّ الحسن والحسين ابنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أن يقولوا الحسن والحسين ليسا ابني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله استناداً على هذا الشعر الفارغ من المحتوىٰ ، ونحن من أجل إظهار واقع السياسة يومذاك وما كان يعانيه شيعة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام من الضغط والإكراه ننقل رواية واحدة تدلّ على ما قلناه كنموذج على الواقع يومذاك

نقل الطريحي عن الشعبي الحافظ للقرآن قال : استدعاني الحجّاج بن يوسف الثقفي يوم عيد الأضحى وقال : أيّ يوم هذا ؟

فقلت : عيد الأضحى

قال الحجّاج : بم يضحي الناس في هذا اليوم ؟

قلت : بالأضاحي والصدقات وأعمال البرّ

فقال الحجّاج : إنّي نويت التقرّب بقتل علويّ

فقال الشعبي : فسمعت خشخشة القيود ، فخفت أن أتطلّع لئلّا يستخفّ بي الحجّاج ، فبينا أنا كذلك إذ بدى العلوي وقد وضعت السلاسل على عنقه والقيود من الحديد في رجليه ومعصميه ، فاستقبل الحجّاج العلوي بوجهه وقال : أنت فلان بن فلان العلوي ؟

فقال : نعم ، أنا هو ذلك

فقال الحجّاج : أنت القائل بأنّ الحسن والحسين أبناء رسول الله ؟

فقال العلوي : ما قلتها ولا أقولها بلى أقول الحسن والحسين ابنا رسول الله لصلبه برغم أنفك

فقال الشعبي : فاستوى الحجّاج جالساً ـ بعد أن كان متّكئاً ـ لشدّة غضبه وانتفخ سحره إلى الدرجة التي قطع_____________

(١) خزانة الأدب ١ : ٣٠٠

(٢) جامع الشواهد : ٩١

(٣) تفسير الرازي ٨ : ٤٨٨

(٤) تفسير القرطبي ٤ : ١٠٤ و ٧ : ٣١

١٦٤

_________________

زرّ قميصه وأمر بتجديد ثيابه ، ثمّ قال : أيّها العلوي ، إن جئت على ما تقول ببرهان من كتاب الله وهبتك ثيابي وأطلقت سراحك ، وإن عجزت عن ذلك قتلتك شرّ قتلة

يقول الشعبي : وكنت حافظاً للقرآن وأعرف وعده ووعيده وناسخه ومنسوخه ، فلم تخطر ببالي آية تدلّ على ما يطلبه الحجّاج ، فحزنت للعلوي وكبر عليّ مقتله

قال الشعبي : فشرع العلوي بتلاوة القرآن وقال :( بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ ) فقطع الحجّاج تلاوته وقال : لعلّك تريد الاحتجاج بآية المباهلة في القرآن :( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا
وَنِسَاءَكُمْ
) (١) ؟

فقال العلوي : أما والله إنّ فيها لمقنعاً ولكنّي أحتجّ بغيرها ، ثمّ أخذ يتلو قوله تعالى :( بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ
الرَّحِيمِ
õ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ õ
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ
) (٢) ثمّ سكت

فقال الحجّاج : لم تركت عيسى ؟ هل جهلته ؟

فقال العلوي : صدقت يا حجّاج ، فكيف استقرّ عيسى في عقب نوح مع أنّه لا أب له ؟

فقال الحجّاج : من جهة اُمّه يعتبر من صلب نوح

فقال العلوي : وكذلك الحسنان في ولادتهما من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

فبهت الحجّاج من هذا القول فكأنّه ألقمه حجراً(٣)

ونقل العيّاشي الحديث بصورة مختصرة وقال : أرسل الحجّاج إلى يحيى بن معمر قال : بلغني أنّك تزعم أنّ الحسن والحسين من ذرّيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٤)

وأخيراً كانت هذه المسألة تثير خنق الحكّام في كلّ زمان من ثَمّ تشتدّ وطأة ظلمهم على أبناء النبيّ وشيعتهم ، ولك أن ترجع إلى حديث الإمام الرضاعليه‌السلام في مجلس المأمون ، وحديث الإمام موسى بن

_____________

(١) آل عمران : ٦١

(٢) الأنعام : ٨٤ ـ ٨٥

(٣) منتخب الطريحي : ٤٩١ و ٤٩٢ والحديث طويل ( هامش الأصل ) وهو مترجم كما ترى ( المترجم )

(٤) تفسير العيّاشي ١ : ٣٥٩ ( المترجم ) نفسه ١ : ٣٦٧ ، تفسير البرهان ١ : ٥٣٩ ذيل الآية الشريفة ( هامش الأصل )

١٦٥

هو ، ولعلّه لشاعر قاله تقرّباً إلى بني أُميّة أو بني العبّاس ، شأنه شأن الموضوعات الكثيرة حولى المعنى ، ولو اطّلعت على ما كان يضعه خلف الأحمر وحمّاد الراوية والأصمعي وغيرهم من الشعر وينسبونه إلى الأوائل ، وهو ثابت في كتب الأدب ، لما جعلت مثل هذه الأشعار دليلاً على المدّعىٰ .

وثانياً : إنّ ما يصل ذهني القاصر أنّ معنى الشعر ليس لتقرير حقيقة لغويّة ، لأنّ ذلك خارج عن نطاق الشعر بل يقوم بعض النحاة واللغويّين والأُدباء على انتحال الشعر لوضع لفظ فيه مورد خلاف بينهم ليسهل حفظها ، ومعنى الشعر في هذا البيت أنّ الشاعر يقول : إنّ الذين يلبّون ندائنا ساعة الحاجة ويشفون العلّه وينقعون الغلّه هم أبناء أبنائنا لأنّهم أبنائنا أمّا أبناء البنات فهم بمنزلة البعداء لأنّهم يحيون مع آبائهم ويعينونهم ، وليس معنى هذا أنّه يريد نفي صدق الابن على أبناء البنات ، وهذا المعنى لا يخفى على الأريب الذي يميّز دقائق الكلام

وتفصيل هذا البحث خارج عن نطاق هذا المختصر ، وتعرّضنا إلى هذه النكتة لكي تكون إشارة إلى بعض النابهين الناظرين في هذه الصفحات لئلّا يحرموا من الفائدة ، والله المعين الموفّق

_________________

جعفرعليهما‌السلام مع هارون ، واستدلال هذين الإمامين العظيمين على المسألة بالآية الشريفة :( حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ
) (١) وقالا : لا يحلّ للنبيّ الزواج من بناتنا وتحلّ له بناتكم(٢) ( المحقّق )

_____________

(١) النساء : ٢٣

(٢) تجد هذا كلّه في تفسير البرهان ١ : ٣٥٦ ، نور الثقلين ٢ : ٢٩٩ ذيل الآية الشريفة

١٦٦

السَّلامُ عَلَيْكَ يا بن أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ

الشرح : يقتضينا شرح هذه الكلمة المباركة الكلام في موضعين :

الموضع الأوّل : في لفظ أمير المؤمنين

أمّا أمير فهو فعيل من الأمر ، مهموز الفاء ومصدره الإمارة والأمر ، ومعناه الآمر ، وهذا واضح لا غبار عليه ولكنّ ذكرنا لهذا المورد لوجود إشكال معروف متعلّق بهذه الكلمة

في الحديث المنقول في علل الشرايع ومعاني الأخبار أنّ الكاظمعليه‌السلام أجاب من سأله عن وجه تسمية الإمامعليه‌السلام بأمير المؤمنين ، فقال : « لأنّه يميرهم بالعلم »(١) ويدلّ هذا الخبر على أنّ اشتقاق « أمير » من مار يمير كما صرّح بذلك جماعة ، مِن ثَمّ عمدوا إلى التوجيه والتأويل وتناولوا ذلك من عدّة وجوه :

الأوّل : إنّ الكلمة مشتملة على القلب فقد نقلت عين الفعل إلى فاء الفعل ثمّ اشتقّ اللفظ منها وهذا الوجه في غاية الضعف والسخافة لأنّ « مار » فعل أجوف و « امر » فعل مهموز ، ولو كان قلب ، على أنّ ذلك مخالف للقاعدة فينبغي أن يكون

_________________

(١) يميرهم العلم معاني الأخبار : ٦٣ ، علل الشرايع : ٦٥ ، العيّاشي وبصائر الدرجات : ١٤٩ ، بحار الأنوار ٣٧ : ٢٩٣ قد أفلحوا بك أنت والله أميرهم ؛ تُميرهم من علمك حسن بن محبوب عن الصادقعليه‌السلام ابن شهرآشوب ١ : ٣٥٩ في حمله وولادته ( هامش الأصل ) وجرى تطبيقه على « علل الشرايع » ط المطبعة الحيدريّة ١٣٨٦ النجف ، ١ : ١٦١ ، وعلى معاني الأخبار للصدوق ط انتشارات اسلامي ، الطبعة ١٣٦١ هجري شمسي تحقيق علي أكبر الغفاري : ٦٣ ( المترجم )

أبان بن الصلت عن الصادقعليه‌السلام : سمّي أمير المؤمنينعليه‌السلام إنّما هو من ميرة العلم وذلك أنّ العلماء من علمه امتاروا ومن ميرته استعملوا

سلمان : سُئل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إنّما يميريهم العلم يمتاروا منه ولا يمتار من أحد ( ابن شهرآشوب ١ : ٥٤٨ في أنّه أمير المؤمنين )

١٦٧

« يمر » وتكون صفته المشبّهة « يمير » إلّا أن يلتزم القائل بهذا بقلب الياء إلى همزة اعتباطاً وعلى خلاف القياس ليكون المصداق الحقيقي للمثل المعروف « زاد في الطنبور نغمة »

الوجه الثاني : تكون هذه الكلمة على سبيل الحكاية لأنّ أمير المؤمنين كفيل بإيصال الميرة والطعام إلى أهل الإيمان ، فقال : « أنا أمير المؤمنين » [ فتكون كلمة أمير فعلاً مضارعاً ـ المترجم ] فكانت هذه الجملة اسمه المبارك نظير تأبط شراً ، وهذا الوجه وإن كان أقرب من الوجه الأوّل(١) ولكنّه ضعيف أيضاً لأنّ الجملة إذا سمّي بها لا يتغيّر إعرابها وعلى هذا ينبغي أن يكون لفظ « أمير » مضموم دائماً حتّى إذا كان منصوباً أو مجروراً ولا تغيّره العوامل لأنّه فعل وجزء الكلام وهو بالضرورة فاسد ومختل ، وفي الوجهين إشكال مشترك ومعلوم من الأخبار المتواترة أنّ لفظ « أمير » مأخوذ من الإمرة كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين »(٢) وهذا الحديث متواتر من جهة الشيعة وهو مروي في صحاح أهل السنّة والجماعة ومسلَّمٌ به ولم يقدح في الكتب الكلاميّة في سنده غالباً ، مِن ثَمّ يكون القول في اشتقاقه من مار باطلاً ، وظهور الرواية التي أُبيّنها بعد ذلك يمنع منه

الوجه الثالث : والذي أقطع به وذكره الشيخ الطريحي في كتابه مجمع البحرين في مادة « أمر » إجمالاً عن بعض الأفاضل وحكي عن العلّامة المجلسي أنّه مختاره ونعم الوفاق ، وبيانه على وجه التقريب بنظري القاصر كما يلي : لمّا كان أمير المؤمنين بما يقتضي كونه مدينة العلوم وهو ذو أعلى مراتب الولاية وهي الرياسة على عامّة القلوب والنفوس وجميع الأرواح الملكوتيّة والملائكة

_________________

(١) بل هو أسخف مرّات ومرّات ( المترجم )

(٢) بحار الأنوار ٣٧ : ٢٩٠ ط لبنان ، مناقب ابن شهرآشوب ١ : ٥٤٦ في أنّه صلوات الله وسلامه عليه أمير المؤمنين وفيه أحاديث ( هامش الأصل )

١٦٨

الكرّوبيّة والعقول المجرّدة والنفوس المفارقة ـ عند من يقول بها ـ بفضله يعترف ومن بحره تغترف ، كما قلت :

من علمه علم العقول ونورها

والبحر أصل العارض المتهلّل(١)

لمؤلّفه أيضاً :

عاجز چوگان عزمش از عناصر تا عقول

بنده فرمان حكمش از ملايك تا دواب

ولمّا كان جميع العوالم من الصدر إلى الساق يعني من مرتبة العقول التي هي بداية سلسلة النظام الجملي للعالم ، وقاعدة النور وسية قوس الوجود إلى مرتبة الهيولى ، العجوز الشوهاء ومبدأ سلسلة العوديّة وقاعدة الظلمة ، كلّ ما في الوجود وفي أيّ مقام سواء بلسان النطق أو بلسان الاستعداد آمنوا بوجه من الوجوه كما في الآية الكريمة( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) (٢) وهي شاهد عدل على هذا العموم وهذه الدعوى ولمّا كانت هذه الأصناف المتقدّمة على الشاكلة التي ألمحنا إليها فلابدّ من حيازتها علماً يساوي إيمانها لذلك كان الجميع بمراتبها المختلفة تستمدّ من علمه(٣) وتستفيض بإفاضته(٤) ذلك لأنّه المرآة التي تنعكس فيها من

_________________

(١) فيضه ، ديوان المؤلّف : ٢٥١

(٢) الإسراء : ٤٤

(٣) الجميع يستفيدون من العلم حتّى الجنين في بطن اُمّه

حدّث الراوندي قال : إنّ أباطالب قال لفاطمة بنت أسد ـ وكان عليّ صبيّاً ـ : رأيته يكسر الأصنام فخفت أن تعلم كفّار قريش ذلك ، فقالت : يا عجباً ، أخبرك بأعجب من هذا وهو أنّي اجتزت بموضع كانت أصنامهم فيه منصوبة وعليّ في بطني ، فوضع رجليه في جوفي شديداً لا يتركني أقرب منها وأن أمرّ في غير ذلك الموضع ، وإن كنت لم أعبدها قطّ وإنّما كنت أطوف بالبيت لعبادة الله لا الأصنام [ الخرائج والجرائح للراوندي ٢ : ٧٤٠ ، بحار الأنوار ٤٢ : ١٨ رقم ٥ طبع طهران نقلاً عن خرائج الراوندي ، ونقل هذا الحديث الشبلنجي في نور الأبصار ، والشيخ محمّد الصبّان المصري في إسعاف الراغبين مع شيء من التحريف ، راجع : شفاء الصدور ٢ : ٢٩٩ ] ( المحقّق )

(٤) راجع ص ٤٤٧ من الكتاب روي أنّ أباطالب قال لفاطمة بنت أسد وكان عليّعليه‌السلام صبيّاً رأيته يكسر

١٦٩

أعلاها إلى أدناها الحقيقة المحمّديّة ، بل هو بحكم آية المباهلة عين نفسه المقدّسة بل جاء في أخبار العامّة « عليّ روحي التي بين جنبي »(١) ونوره نوره وشجرته شجرته ومرجع علوم الخلايق جمياً مبتنى على علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو تلميذه الخاصّ والطالب الظاهر الاختصاص بالأحديّة ، وبحكم آية( عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوَىٰ
) (٢) إنّه علمه في مدارس القرب الإلهي علوم الأوّلين والآخرين

وإذا عرفت هذه المقدّمة التي هي بمنزلة صغرى القياس ، فإنّنا نقول : أنّ من المقرّرات العرفيّة والمسلّمات العادية أنّ كلّ من يتحمّل بكفالة رزق فريق من الناس أو طائفة منهم ويأخذ على عاتقه إيصال وجوه المعاش إليهم فإنّه يغدو أميرهم وهم المأمورون ، ويشعر بالقضيّة المعروفة : الإنسان عبد الإحسان ، وهذه القضيّة بمنزلة كبرى القياس ، وبضمّ هاتين المقدّمتين نخرج بقياس على الشكل التالي : عليّ يمير المؤمنين ، وكلّ من يمير قوماً فهو أميرهم ، ينتج عليّ أمير المؤمنين وهو المطلوب

_________________

الأصنام فخفت أن يعلم كبار قريش ، فقالت : يا عجباً ، أُخبرك بأعجب من هذا ، إنّي اجتزت بالموضع التي كانت أصنامهم فيه منصوبة وعليّ في بطني فوضع رجليه في جوفي شديداً لا يتركني أن أقرب من ذلك الموضع الذي فيه وإنّما كنت أطوف بالبيت لعبادة الله لا للأصنام بحار الأنوار ٤٢ : ١٨ ط [ طهران ( هامش الأصل ) ] مؤسسة الوفاء سنة ١٤٠٣ بيروت ( المترجم )

(١) مشارق أنوار اليقين للحافظ رجب البرسي : ١٦١ سطر ٣ ط انتشارات فرهنگ اهل البيت « أنت روحي التي بين جنبي » وفي فرائد السمطين ٢ : ٧١ بالإسناد عن ابن عبّاس عن رسول الله في حديث : « دمك من دمي وروحك من روحي » وإحقاق الحقّ ٤ : ١٤٩ عنه مفتاح النجا : ٤٣ عن ابن النجّار عن ابن مسعود قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : عليّ بن أبي طالب منّي كروحي من جسدي ، وأخرجه إحقاق الحقّ ٥ : ٢٤٢ ، أمالي الصدوق : ٢٢ بالإسناد عن أمير المؤمنين عن رسول الله : « روحه روحي وطينته من طينتي » والبحار ٤٠ : ٤ عنه

(٢) النجم : ٥

١٧٠

ولعلّ من شواهد هذا التأويل الحديث الوارد في كيفيّة ولادة أمير المؤمنينعليه‌السلام وأنّ رسول الله حين دخل بيت أبي طالبعليه‌السلام ورآه عليّعليه‌السلام « فلمّا دخل اهتزّ له أمير المؤمنينعليه‌السلام وضحك في وجهه ، وقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته قال : ثمّ تنحنح بإذن الله تعالى وقال :( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ õ الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ
) (١) إلى آخر الآيات ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : قد أفلحوا بك ( انت والله أميرهم ، تميرهم من علومك وأنت والله دليلهم وبك يهتدون(٢) والظاهر أنّ « تميرهم » تفريع على « أنت أميرهم » والإمارة علّة لجلب رزق علوم المؤمنين

وجملة القول : أنّ هذا التعليل راعىٰ الجناس في أمير الفعل المضارع وأمير الصفة المشبّهة ، كما في الآية الكريمة :( قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ ) (٣)

والميرة في الأصل كما جاء في الصحاح بمعنى الطعام ، ومار يمير بمعنى إيجاده وجلبه(٤) وفي القاموس : ذكر الميرة بمعنى جلب الطعام(٥) وهذا بعيد ، وأخطائه في أمثال هذا كثيرة

وعلى كلّ حال « لأنّه يميرهم العلوم » ومعناه لما كان على جالب رزق العلوم للمؤمنين صار أمير المؤمنين ، وإطلاق الطعام على العلم في هذا الحديث يناسب الخبر المروي في الكافي في تفسير( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ) (٦) ( زيد الشحّام

_________________

(١) المؤمنون : ١ و ٢

(٢) أمالي ابن الشيخ : ٨٠ و ٨٢ ، بحار الأنوار ٣٥ : ٣٨ ط لبنان ، ابن شهرآشوب ١ : ٣٥٩ في حمله وولادته ( هامش الأصل ) وفي البحار : وقرأ تمام الآيات إلى قوله :( أُولَـٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ õ الَّذِينَ يَرِثُونَ
الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : وأنت والله دليلهم وبك يهتدون وللحديث بقيّة ، ٣٥ : ٣٧ ( المترجم )

(٣) الشعراء : ١٦٨

(٤) الميرة الطعام يمتاره الإنسان ( الصحاح ٢ : ٨٢١ ) ( المترجم )

(٥) القاموس ٢ : ١٢٧ ( المترجم )

(٦) عبس : ٢٤

١٧١

عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله عزّ وجلّ :( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ) قال : قلت : ما طعامه ؟ قال : علمه الذي يأخذه عمّن يأخذه(١)

وبالجملة فإنّ هذا بطريق الاستدلال الإنّي وهو الانتقال من المعلول إلى العلّة يمكن تطبيقه لأنّ جلب الميرة وكفالة الرزق لازم الإمارة وأخذ دليلاً على تحقّق الملزوم ، ومن الواضح جدّاً أنّ اختصاص القول بالعلم في هذا الحديث إنّما هو لشرافته ، ولكي تعمّم إمارة الإمام لكلّ مناحي الوجود ولا ينافي جلبه للرزق الظاهري ، كما تمطر السماء ببركته وتخضر الأرض بيمنه ، وينتفع الخلق ويرزقون « لولاه لساخت الأرض بأهلها » والله أعلم بالصواب(٢)

وجملة القول أنّ عليّاًعليه‌السلام من يوم قال الله « ألست » هو أمير المؤمنين على كلّ الموجودات في كلّ مكان حتّى في اللوح المحفوظ كما جرت الإشارة إلى هذا التعميم من طريق أهل السنّة والجماعة أيضاً

يقول السيّد علي الهمداني في كتاب مودّة القربى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لو علم الناس متى سُمّي عليّ أمير المؤمنين ما أنكروا فضله(٣)

وفي هذا الكتاب أيضاً روى عن أبي هريرة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : في يوم ألست ، ألست بربّكم ؟ قالت الأرواح : أجل فقال : أنا ربّكم ومحمّد نبيّكم وعليّ أميركم(٤)

_________________

(١) الكافي ١ : ٤٩ كتاب ٢ باب ١٦ ح ٨ ( هامش الأصل ) و ١ : ٥٠ تحقيق علي أكبر غفاري ، دار الكتب الإسلاميّة ط ثالثة ١٣٨٨ هجريّة ( المترجم ومنه أخذنا الحديث )

(٢) فرائد السمطين ١ : ٤٥ ط بيروت ، بالإسناد عن الصادق : وبنا ينزّل الغيث وينشر الرحمة ويخرج بركات الأرض ولولا ما في الأرض منّا لساخت الأرض بأهلها ( هامش الأصل )

(٣) مودّة القربى : ٢٤٨ الطبعة الثانية مكتبة المحمّدي

(٤) نفسه : ٢٤٨ باب المودّة الرابعة في أنّ عليّاً أمير المؤمنين ، وبحار الأنوار ٤٠ : ٧٧ عن فردوس الأخبار مثله ( هامش الأصل )

١٧٢

وفي كتاب اليقين عن عثمان بن أحمد السمّاك ذكر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : في اللوح المحفوظ تحت العرش عليّ أمير المؤمنين(١) (٢)

وجملة القول : أنّ أشباه هذه الفضائل لهذا الإمام العظيم ليست من السهولة بحيث تضبط في كتاب أو توضع في صحيفة سلام الله عليه وعلى أخيه وآله وذرّيّته

أمّا الإيمان : وهو من باب الإفعال ، من الأمن ، وحقيقة حفظ النفس من عذاب العصيان أو الملكات الرديئة أو المحافظة على النبيّ من مخالفة رأيه ، كما أنّ الإسلام بهذا الاعتبار مأخوذ من السلامة ، ومقتضى القاعدة أن يكون هذان الفعلان متعدّيين بأنفسهما ولكن بتضمين معنى الإذعان يتعدّيان بالباء واللام وكذلك معنى التصديق والإقرار لأنّ اشتقاقها جميعاً من متعدّي

واعتبر المحقّق النراقيرحمه‌الله في معراج السعادة أقسام الإيمان أربعة ، فاصطلح على ذلك بقوله : القشر ، وقشر القشر ، واللبّ ، ولبّ اللبّ ، ولكن التتبّع يقتضينا في موارد اطلاقات الكتاب والسنّة أن نضيف مرتبة أُخرى إلى القشر واللبّ فتكون الأقسام ستّة :

الأوّل : الوجود اللفظي الصرف ، وهو ذلك الإقرار باللسان إذا لم ينفذ إلى القلب مطلقاً ولا يوجد فيه سوى الكفر وفائدته حفظ المال والنفس والطهارة الصوريّة ، وهذه المرتبة المسمّاة بالنفاق وتُدعى بالاصطلاح المتقدّم قشر القشر

الثاني : الاعتقاد بالتوحيد والنبوّة مع إنكار الشروط المتضمّن للقصور في مقام

_________________

(١) اليقين : ٩٣ ط نمونه قم ، تحقيق الأنصاري ، اولى ١٤١٣ ( المترجم )

(٢) ينابيع المودّة : ٢٤٨ ط اسلامبول ، المناقب المرتضويّة : ١١٨ ط بمبي ، إحقاق الحقّ ٦ : ١٥٢ عنهما مثله ( هامش الأصل )

١٧٣

الولاية ، وهذا الثاني شريك الأوّل في الفائدة وعدمها ، وإذا ثبت لذوي الاعتقاد المذكور ثواب بموجب ما ورد في أخبارنا فإنّ ذلك راجع إلى القائلين بالولاية وهم شيعة الأئمّة الإثنی عشر ، وهذه المرتبة بالاصطلاح المذكور قشر القشر

الثالث : الاعتقاد بالأُصول الخمسة طبقاً لمذهب الإماميّة وإن لم يقترن بالعمل الصالح كسائر فسّاق الشيعة ، ولهذه المرتبة شئون ومراتب في الموت والحياة والدنيا والآخرة ، من قبيل « سؤره شفاء » وقضاء حاجته أفضل من جميع المستحبّات وزيارته وعيادته وإعانته مستحبّة وتحرم غيبته ، ويجب حفظ حياته واحترام ميتته بالصلاة والكفن والدفن وذلك واجب وتتعلّق بذاته أحكام كثيرة من الواجبات والمستحبّات والمحرّمات والمكروهات وربّما تقدّر له النجاة الأُخرويّة كما هو ثابت عقلاً ونقلاً ، كتاباً وسنّة وإجماعاً ، ولا يستلزم عقابه على المعاصي خلوده في النار ، وإذا كان في الكتاب والسنّة الإيعاد بالخلود في العذاب على بعض المعاصي فذلك مأوّل بطول الأمد وامتداد المكث ، وهذه المرتبة بناءاً على الاصطلاح المتقدّم تدعى القشر

الرابع : هذه المرتبة مع العمل الصالح وهو التقوى من المعاصي والدوام على الواجبات مثل عالم الزهّاد والعبّاد ، أو عدول العوام من أهل الإيمان وترتفع مرتبة هؤلاء على المرتبة السابقة إذ ليس عليهم عذاب ، ولهم نعيم كثير ، وتنقدح في قلوبهم الأنوار بواسطة الاعتقاد الصحيح وصلاح العمل ، ومجمل الكلام لعلّهم ينالون بصيصاً من البصيرة في الأسرار الباطنيّة ، وبرزخهم أشدّ وضوحاً ، وإحاطتهم بالمقامات العالية المثالية أكثر منالاً ، وتُدعى هذه المرتبة بالاصطلاح المذكور « اللب »

الخامس : هذه المرتبة نفسها مصحوبة بالعلم الكامل الموجب لشرح الصدر ونورانيّة الضمير ، وفضل هؤلاء على الطوائف كفضل القمر على سائر النجوم بل

١٧٤

كفضل النبيّ على سائر الأُمّة ، وهذا المقام في الاصطلاح المشار إليه يُدعىٰ « لبّ اللب »

السادس : هذه المرتبة مع إضافة اليقين « بلغ القلم إلى هنا وتحطّمت ريشته »(١) وهو مقام الأولياء والصدّيقين ونتيجته : رسوخ الكمالات النفسانيّة في القلب من الرضا والتوكّل والإقبال والطاعة وخلع ربقة العلايق ونضو جلباب الهوى في الخلايق ووحدة الهم وعكوف الهمّة(٢) على الواحد الأحد « حضرة الأحديّة » جلّ جناب قدسه ، ولهذا القسم مراتب أيضاً وهو مقول على التشكيك

لمؤلّفه :

إنّ النجوم في ارتفاع قدرها

ليس سهاها في السنا كبدرها

واسم هذه المرتبة في الاصطلاح المذكور لبّ لبّ اللب

وفي الكافي أنّ الإمام الصادقعليه‌السلام قال لجابر الجعفي : ما من شيء أعزّ من اليقين(٣) (٤)

( عن الوشاء ، عن أبي الحسنعليه‌السلام قال : سمعته يقول الإيمان فوق الإسلام بدرجة ، والتقوى فوق الإيمان بدرجة ، واليقين فوق التقوى بدرجة ) وما قسم الله في الناس شيء أقلّ من اليقين(٥)

_________________

(١) قلم اينجا رسيد وسر بشكست ، مثل فارسي ( المترجم )

(٢) الكافي ، باب فضل الايمان على الإسلام ، ٢ : ٥١ ح ١ ( هامش الأصل )

(٣) هذه الجمل العربيّة من وضع المؤلّف ولكنّه أدخلها إلى اللغة الفارسيّة وصعب عليّ ترجمتها بل هي غير ممكنة لذلك أبقيتها كما استعملها المؤلّف ( المترجم )

(٤) عن جابر قال : قال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام : يا أخا جعف ، إنّ الإيمان أفضل من الإسلام وإنّ اليقين أفضل من الإيمان ، وما من شيء أعزّ من اليقين ( الكافي ، تحقيق علي أكبر غفاري ، المطبعة الحيدريّة ، الناشر دار الكتب الإسلاميّة ، آخوندي ، ط رابعة ١٣٦٥ هجريّة ) ( المترجم )

(٥) نفسه ، باب فضل الإيمان على الإسلام ٢ : ٥٢ و ٥١ ح ٣ ( هامش الأصل والمترجم ) وما بين القوسين ملحق بالكتاب من الكافي

١٧٥

وفي رواية يونس بن عبد الرحمان قال : سألت أبا الحسن الرضاعليه‌السلام عن الإيمان والإسلام ـ إلى أن يقول : ـ فأيّ شيء اليقين ؟ قال : التوكّل على الله ، والتسليم لله ، والرضا بقضاء الله ، والتفويض إلى الله(١)

والأخبار في هذا المورد كثيرة ، وما تعرّضت له من البيان إنّما هو الإجمالي منه نالته يدي ، ومن الممكن أن تضاف إلى المراتب الأربع الأُخرى مراتب أُخرى تستفاد كلّ مرتبة منها من أخبار أهل بيت العصمة والطهارة والإمارة على أصحاب هذه المراتب جميعاً تناط بأمير المؤمنينعليه‌السلام يعني كلّ من وضع قدمه في دائرة الرسالة المحمّديّة فالواجب عليه أن يطوّق عنقه بطاعة عليّعليه‌السلام حتّى لو كان منافقاً فإنّ عليه أن يطيعه في الظاهر ، ويتبع أوامره بحكم قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه »(٢) فتبيّن من هذا أنّ من أقرّ بولاية رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وآله وأطاع أمره فإنّه بنفس الدرجة يجب عليه الالتزام بولاية أمير المؤمنين ورئاسته

الموضع الثاني : في بيان أنّ « أمير المؤمنين » لقب الهيّ خاصّ بعليّعليه‌السلام فعدىٰ عليه الآخرون ولقّبوا أنفسهم به من دون استحقاق وغصبوا هذا الاسم الكريم

اعلم أنّ ما اتفق عليه الإماميّة ضاعف الله اقتدارها أنّ هذا اللقب خاصّ بالإمام عليّعليه‌السلام وثبتت له هذه الرتبة العليّة منذ زمن النبوّة ، والأخبار من طرق الأئمّة حول هذا المعنى لا تُعدّ ولا تحصى

ولكن قال أبناء العامّة أنّ لعليّعليه‌السلام شريكين من السابقين وسائر الخلفاء في هذا اللقب بل اعتبره البعض منهم من أوليّات الثاني ، وقالوا : أوّل من تلقّب بلقب أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب

_________________

(١) الكافي ٢ : ٥٢ ح ٥ فضل الإيمان على الإسلام

(٢) خطبة الغدير ( هامش الأصل )

١٧٦

ولكن في أخبارهم الصحاح والمعتبرة رويت أحاديث من الكثرة بمكان بهذا المضمون أنّ في العرش وفي الجنّة والمحشر وفي لسان جبرئيل والملائكة والنبيّ والمؤمنين وأخبار اليهود والمشركين وذي الفقار والسباع والمنافقين حتّى عمر ، أمير المؤمنين لقب عليّعليه‌السلام ، بحيث لا يمكن إحصاء ما ورد من الأخبار بهذا المعنى بل صرّح في بعضها بأنّ أحداً من السابقين أو اللاحقين لا يستحقّ هذا اللقب روي ذلك عن أكابر الصحابة مثل حذيفة وأبي ذر ، ومذهب هؤلاء أنّ قول الصحابي حجّة ، لما رووا : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم »

ولمّا كان الاستدلال بحديث الخصوم في موقع الاختلاف أولى فإنّني أسوق عدّة أحاديث من طريقهم في هذا المختصر ، ولقد كتب السيّد الأجل الأزهد الأورع الأقدس أبو القاسم رضي الدين علي بن طاوس الحسيني رضي الله عنه وأرضاه كتاباً في هذا الموضوع جعل أحاديثه كلّها من طرقهم المعتبرة وكتبهم المعتمدة ، وإذا كان فيه بعض الأخبار رواها من طرق الشيعة فإنّ ذلك لروايتها من طرق السنّة ، وروى مأتين وعشرين حديثاً في هذا الكتاب بأسانيد مختلفة متعدّدة واعترف نفسه بأنّه لم يستقص الأحاديث كلّها وهو كذلك وأنا بدوري رأيت أخباراً كثيرة من طرق العامّة غير هذه الأحاديث ، ولكنّي أنقل هنا عشرة أحاديث من أجل التبرّك والتيمّن من ذلك الكتاب مع حذف الأسانيد في هذا المختصر ، منتخبةً لتنوير قلوب الإخوان ولتكون قرّة عين لأهل الإيمان

الحديث الأوّل : في شهادة الله تعالى بثبوت هذا اللقب الشريف لعليّ عليه‌السلام :
أبو الفتح محمّد بن علي الكاتب الأصفهاني النطنزي(١) في كتاب الخصائص

_________________

(١) نطنز ـ بنون وطاء مهملة ونون وزاي ـ ناحية معروفة مابين اصفهان وكاشان وكانت في السابق من أعمال اصفهان وصرّح جماعة بنسبته إلى هذا البلد ومن عجايب الزمان أنّ واحداً من أدعياء الفضل والفنّ رأيته

١٧٧

يوصل السند بابن عبّاس قال : لمّا خلق الله تعالى آدم ونفخ فيه من روحه عطس فألهمه الله ( الحمد لله ربّ العالمين ) فقال ربّه : يرحمك ربّك ، فلمّا أسجد له الملائكة تداخله العجب فقال : يا ربّ ، خلقت خلقاً أحبّ إليك منّي ؟ فلم يجب ، ثمّ قال الثانية فلم يجب ، ثمّ قال الثالثة فلم يجب ، ثمّ قال الله عزّ وجلّ له : نعم لولاهم ما خلقتك ! فقال : يا ربّ ، فأرنيهم ، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى ملائكة الحجب أن ارفعوا الحجب ، فلمّا رفعت إذا آدم بخمسة أشباح قدّام العرش ، فقال : يا ربّ ، من هؤلاء ؟ قال : يا آدم ، هذا محمّد نبيّي ، وهذا عليّ أمير المؤمنين ابن عمّ نبيّي ووصيّه ، وهذه فاطمة ابنة نبيّي ، وهذان الحسن والحسين ابنا عليّ وولد نبيّي ، ثمّ قال : يا آدم ، هم ولدك ، ففرح بذلك ، فلمّا اقترف الخطيئة قال : يا ربّ ، أسألك بمحمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين لما غفرت لي ، فغفر له الله بهذا ، فهذا الذي قال الله عزّ وجلّ :( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) (١) فلمّا هبط إلى الأرض صاغ خاتماً فنقش عليه ( محمّد رسول الله وعليّ أمير المؤمنين ) ويكنى آدم بـ « أبي محمّد »(٢)

الحديث الثاني : شهادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ابن مردويه وأوصل السند إلى أنس قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بيت أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، فقال : يا أُمّ حبيبة ، اعتزلينا فإنّا على حاجة ، ثمّ دعا بوضوء فأحسن الوضوء ثمّ قال : إنّ أوّل من يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين وسيّد العرب وخير الوصيّين وأولى الناس بالناس

_________________

وكان يعدّ نفسه وحداً في فنّ الحديث والأدب والرجال ومع هذا فقد كان يصرّ على أنّ هذا اللفظ « نظيري » بنون مضمومة وظاء معجمة وباء مثنّاة وراء مهملة ولم تكن معه شبهة فضلاً عن الحجّة والدليل ، وإلى الله المشتكى ( منهرحمه‌الله )

(١) البقرة : ٣٧

(٢) اليقين : ١٧٤ ط قم ـ نمونه ، تحقيق الأنصاري طبعة اولى ١٤١٣ هجري قمري

١٧٨

فقال أنس : فجعلت أقول : اللهمّ اجعله رجلاً من الأنصار قال : فدخل عليّعليه‌السلام فجاء يمشي حتّى جلس إلى جنب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح وجهه بيده ثمّ مسح بها وجه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال عليّعليه‌السلام : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : إنّك تبلّغ رسالتي من بعدي وتؤدّي عنّي وتُسمع الناس صوتي وتُعلّم الناس من كتاب الله ما لا يعلمون(١)

الحديث الثالث : شهادة جبرئيل : فيما نذكره من الحافظ أحمد بن مردويه المسمّى ملك الحفّاظ وطراز المحدّثين من كتاب المناقب وساق السند إلى ابن عبّاس قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في صحن الدار فإذا رأسه في حجر دحية بن خليفة الكلبي ، فدخل عليّعليه‌السلام فقال : كيف أصبح رسول الله ؟ فقال : بخير قال دحية : إنّي لأُحبّك وإنّ لك مدحة أزفّها إليك ؛ أنت أمير المؤمنين وقائد الغرّ المحجّلين ، أنت سيّد ولد آدم ما خلا النبيّين والمرسلين(٢) ، لواء الحمد بيدك يوم القيامة تزفّ أنت وشيعتك مع محمّد وحزبه إلى الجنان زفّاً ، قد أفلح من تولّاك وخسر من تخلّاك ، ومحبّو محمّد محبّوك ، ومبغضو محمّد مبغضوك ، لن تنالهم شفاعة محمّد ، أُدن منّي يا صفوة الله ، فأخذ رأس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فوضعه في حجره ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما هذه الهمهمة ؟ فأخبره الحديث ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : لم يكن دحية الكلبي ، كان جبرئيل ، سمّاك باسم سمّاك الله به وهو الذي ألقى محبّتك في صدور المؤمنين ورهبتك في صدور الكافرين(٣)

وروى هذا الحديث باختلاف في السابق واللاحق وببعض التفاوت في يقين السيّد الرضي بطرق متعدّدة

_________________

(١) ميزان الاعتدال ١ : ٣٠ ط القاهرة ، وإحقاق الحقّ ٤ : ٣٤٤ ( هامش الأصل ) اليقين : ١٣٥ ( المترجم )

(٢) وإنّما استثنى الرسل لأنّه نبيّ آخر الزمان لا أنّهم أفضل منه لأنّ فضل النبيّ على الأنبياء من ضرورات مذهب الشيعة ( منهرحمه‌الله )

(٣) اليقين : ١٢٩ ـ ١٣٠ ( المترجم )

١٧٩

الحديث الرابع : شهادة الشمس : أخطب خطباء خوارزم موفّق الدين بن أحمد المكّي الخوارزمي الذي كان شيخ المحدّثين وأثنى عليه محمّد بن النجّار في تذييل تاريخ بغداد كما نقل السيّدرضي‌الله‌عنه ووصفه بالفقه والفضل والأدب والشعر والبلاغة وكان من تلامذة الزمخشري(١) في كتاب المناقب أسند عن الإمام الحسن العسكري عن آبائه الطاهرين أباً عن أب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام : يا أبا الحسن ، كلّم الشمس فإنّها تكلّمك قال عليّعليه‌السلام : السلام عليك أيّها العبد المطيع لله فقالت الشمس : وعليك السلام يا أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغرّ المحجّلين ، يا علي ، أنت وشيعتك في الجنّة يا علي ، أوّل من تنشقّ عنه الأرض محمّد ثمّ أنت ، وأوّل من يحيي محمّد ثمّ أنت ، وأوّل من يُكسىٰ محمّد ثمّ أنت ، ثمّ انكبّ عليّ ساجداً وعيناه تذرفان بالدموع فانكبّ عليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا أخي وحبيبي ، ارفع رأسك فقد باهى الله بك أهل سبع سماوات(٢)

لا يخفى أنّ علماء أهل السنّة والجماعة متفقون على جلالة قدر الأئمّة الإثنی عشر وعلمهم وتقواهم وصلاحهم وشرفهم وفضيلتهم ، ولم يختلف في ذلك أحد من المسلمين ، ولم يتوقّف أحد من هذه الطائفة في أخبار الفضائل التي نقلت عنهم ولم تدركه شبهة حول ذلك

الحديث الخامس : شهادة ذوالفقار : محمّد بن جرير الطبري ـ وهو من أكابر

_________________

(١) من هنا يعرف تغلغل الفضل بن روزبهان في الجهل حتّى بحال علمائهم لأنّه يقول في مقام إنكار فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام : الخوارزمي هذا مجهول الحال ولا يعرفه أحد ، وليس لأخباره مأخذ معلوم ، ويعلم حال الفضل الخالي من الفضل بعد شهادة ابن النجّار بحقّ الخوارزمي وفي العبقات توجد له ترجمة مهبة ( منهرحمه‌الله )

(٢) مناقب الخوارزمي : ٦٤ ط طهران ، بحار الأنوار ٤١ : ١٧٠ ( هامش الأصل ) اليقين : ١٦٤ ( المترجم )

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

والمجاهدين في سبيل الله ، أو صفوف المصلّين والعباد.

رغم أنّ القرائن تشير إلى أنّ المراد من كلمة «الصافات» هو الملائكة ، إضافة إلى أنّ بعض الروايات قد أشارت إلى ذلك المعنى(١) .

وليس هناك أي مانع من أن تشمل كلمة «الزاجرات» الملائكة الذين يطردون وساوس الشياطين من قلوب بني آدم ، والإنسان الذي يؤدّي واجب النهي عن المنكر.

و «التاليات» إشارة إلى كلّ الملائكة والجماعات المؤمنة التي تتلو آيات الله ، وتلهج بذكره تبارك وتعالى على الدوام.

هنا يطرح هذا السؤال : ظاهر هذه الآيات ـ وبمقتضى وجود العطف بحرف (الفاء) بين الجمل الثلاث ـ يبيّن أنّ الطوائف الثلاث جاءت الواحدة بعد الاخرى ، فهل أنّ هذا الترتيب جاء بحكم الواجب المترتّب على كلّ طائفة؟ أم كلّ حسب مقامه؟ أم لكلا الأمرين؟

من الواضح أنّ الاصطفاف والاستعداد قد جاءا كمرحلة اولى ، ثمّ جاءت ـ كمرحلة ثانية ـ عملية إزالة العراقيل من الطريق. أمّا إعلان الأوامر وتنفيذها فقد كانت بمثابة المرحلة الثالثة.

ومن جهة اخرى فإنّ المستعدّين لتنفيذ الأوامر الإلهيّة لهم مرتبة ، والذين يزيلون العراقيل لهم مرتبة أعلى ، أمّا الذين يتلون الأوامر وينفّذونها فلهم مرتبة أسمى من الجميع.

على أيّة حال فإنّ قسم الله سبحانه وتعالى بتلك الطوائف يوضّح عظم منزلتهم عند الباريعزوجل ، ويشير إلى حقيقة مفادها أنّ سالكي طريق الحقّ عليهم للوصول إلى غايتهم أن يجتازوا تلك المراحل الثلاث والتي تبدأ بتنظيم الصفوف ووقوف كلّ مجموعة في الصفّ المخصّص لها ، ومن ثمّ العمل على إزالة العراقيل

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد ٤ ، الصفحة ١٥ ، الدرّ المنثور ، المجلّد ٥ ، الصفحة ٢٧١.

٢٨١

من الطريق ، ورفع الموانع بالصوت العالي ، الصوت الذي يتناسب مع مفهوم الزجر ، ومن بعد تلاوة الآيات الإلهيّة والأوامر الربّانية على القلوب المتهيّئة لتنفيذ مضامين تلك الأوامر.

فالمجاهدون السالكون لطريق الحقّ ليس أمامهم من سبيل سوى اجتياز تلك المراحل الثلاث ، وبنفس الصورة على العلماء العاملين أن يستوحوا في جهودهم الجماعية ذلك البرنامج.

وممّا يذكر أنّ بعض المفسّرين فسّروا الآيات على أنّها تعود على المجاهدين ، والبعض الآخر أكّد عودتها على العلماء ، ولكن حصر مفهوم الآيات بالمجاهدين والعلماء فقط مستبعد بعض الشيء ، وإن أعطيت الآيات طابعا عامّا فإنّها ستكون أقرب للواقع ، وإذا اعتبرناها تخصّ الملائكة فإنّ الآخرين يمكنهم تنظيم حياتهم وفق مناهج الملائكة.

أمير المؤمنين عليعليه‌السلام عند ما يصف بخطبته في نهج البلاغة الملائكة ، فإنّه يقسّمهم إلى مجموعات مختلفة ، ويقول : «وصافون لا يتزايلون ، ومسبّحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النسيان ، ومنهم أمناء على وحيه ، وألسنة إلى رسله»(١) .

أمّا آخر حديثنا عن الآيات الثلاث هذه ، فهو أنّ البعض يعتقد بأنّ القسم في هذه الآيات يعود إلى ذات الله ، وكلمة (ربّ) مقدّرة في جميع تلك الآيات ، حيث يكون المعنى كالتالي : وربّ الصافات صفّا ، وربّ الزاجرات زجرا ، وربّ التاليات ذكرا.

والذين فسّروا الآيات على هذا النحو ، فالظاهر أنّهم يعتقدون بأنّ العباد لا يحقّ لهم القسم بغير الله ، لذا فإنّ الله لا يقسم إلّا بذاته ، إضافة إلى أنّ القسم يجب أن يكون بشيء مهمّ ، ألا وهو ذات الله المقدّسة.

__________________

(١) الخطبة الاولى في نهج البلاغة.

٢٨٢

إلّا أنّ هؤلاء غفلوا عن هذه الحقيقة ، وهي أنّ حساب الله لا علاقة له بالعباد ، فالله تعالى ـ من أجل توجيه الإنسان ـ يقسم بآيات «الآفاق» و «الأنفس» ودلائل قدرته في الأرض والسماء ، وذلك لكي يتفكّر الإنسان بتلك الآيات ، وعن طريقها يعرف ربّه.

وجدير بالذكر أنّ بعض آيات القرآن المجيد ، ومنها آيات سورة الشمس تقسم بموجودات الكون إلى جانب القسم بذات الله المقدّسة ، إذن فالتقدير هنا غير سديد ، إذ يقول القرآن الكريم :( وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ) (١) .

على أيّة حال ، فإنّ ظاهر الآيات ـ محلّ البحث ـ يدلّ على أنّ المجموعات الثلاث هي المقسم بها ، وتقدير الشيء هنا خلاف للظاهر ، ولا يمكن قبوله بغير دليل.

الآن نرى ما هو المراد من هذه الأقسام المفعمة بالمعاني ، أي القسم بالملائكة والإنس؟

الآية التالية توضّح ذلك وتقول :( إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ ) .

قسم بتلك المقدّسات التي ذكرناها فإنّ الأصنام ستزول وتدمّر ، وإنّه ليس هناك من شريك ولا شبيه ولا نظير لله سبحانه وتعالى.

ثمّ يضيف( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ ) .

وهنا نطرح سؤالين :

١ ـ ما هي الضرورة لذكر «المشارق» بعد ذكر السماوات والأرض وما بينهما ، رغم أنّ المشارق هي جزء منهما.

ويتّضح الجواب من خلال الالتفات إلى هذه النقطة وهي : إنّ المراد من «المشارق» هو الإشارة إلى مواقع شروق الشمس في أيّام السنة ، أو إلى مشارق

__________________

(١) سورة الشمس ، الآيات ٥ ـ ٧.

٢٨٣

النجوم المختلفة في السماء ، حيث أنّها جميعا لها نظام وبرنامج خاصّ بها ، إضافة إلى النظام السماوي والأرضي الذي يوضّح العلم والقدرة والتدبير المطلق للخالق.

فالشمس في كلّ يوم تشرق من مكان غير المكان الذي أشرقت منه قبل يوم أو بعد يوم ، والفواصل الموجودة بين هذه النقاط منظمة ودقيقة للغاية ، حيث أنّها لا تزيد ولا تقلّ بمقدار ١ من الثانية ، وهذا التنظيم الدقيق موجود منذ ملايين السنين.

كما أنّ هذا النظام ينطبق على ظهور وغروب النجوم.

إضافة إلى ذلك فإنّ الشمس لو لم تكن تتحرّك ضمن مسير تدريجي طوال العام ، لم يعد هناك وجود للفصول الأربعة وللنعم المختلفة التي تظهر خلال تلك الفصول ، وهذا دليل آخر على عظمة وتدبير الخالقعزوجل .

ومن المعاني الاخرى لكلمة «المشارق» ، هو أنّ الأرض لكونها كروية الشكل ، فإنّ كلّ نقطة عليها تعتبر بالنسبة إلى النقطة الاخرى إمّا مشرقا أو مغربا ، وبهذا فإنّ الآية تؤكّد كروية الأرض ووجود المشارق والمغارب (ولا مانع من تحقّق المعنيين في الآية المذكورة).

أمّا السؤال الثاني الذي يطرح نفسه فهو : لماذا لم تأت كلمة «مغارب» في الآية في مقابل «المشارق» كما جاء في الآية (٤٠) من سورة المعارج( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ) .

والجواب على هذا السؤال ، هو أنّ قسما من الكلام ينسخ قسما آخر لوجود القرينة ، وفي بعض الأحيان يأتيان معا ، وهنا ذكر كلمة «المشارق» قرينة على «المغارب» وهذا التنوّع يوضّح فصاحة القرآن وبلاغته.

فيما قال بعض المفسّرين : إنّ ذكر كلمة (المشارق) يتناسب مع شروق الوحي بواسطة الملائكة( فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ) على قلب النّبي الطاهرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، المجلّد ١٧.

٢٨٤

الآيات

( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) )

التّفسير

حفظ السماء من تسلّل الشياطين!

الآيات السابقة تحدّثت عن طوائف الملائكة المكلّفة بتنفيذ المهام الجسام ، والآيات التالية ـ موضوع البحث ـ ستتحدّث عن الطائفة المقابلة لها ، أي الشياطين وعن مصيرهم. ويمكن أن تكون هذه الآيات مقدّمة لدحض معتقدات مجموعة من المشركين الذين يعبدون الشياطين والجنّ ، وتتضمّن كذلك درسا في التوحيد بين طيّاتها.

تبدأ الآية بالقول :( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) (١) فلو رفع أحدنا

__________________

(١) «الكواكب» هنا بدل من الزينة ، ويحتمل كونها عطف بيان ، والزينة هنا اسم مصدر وليست مصدرا ، حيث

٢٨٥

ببصره نحو السماء في إحدى الليالي المظلمة ، لتجسّم في بصره منظر جميل يسحر الإنسان.

وكأنّ الكواكب تتحدّث معنا بلسانها الصامت ، لتكشف لنا أعن أسرار الخلق ، وأحيانا تكون شاعرة تنشد لنا أجمل القصائد الغزلية والعرفانية ، وإغماضها وتواريها ، ومن ثمّ إبراقها ولمعانها ، يوضّح أسرار العلاقة الموجودة بين العاشق والمعشوق.

حقّا إنّ منظر النجوم في السماء رائع الجمال ، ولا تملّ أيّ عين من طول النظر إليه ، بل إنّ النظر إليه يزيل التعب والهمّ من داخل الإنسان. (ممّا يذكر أنّ أبناء المدن في العصر الحاضر التي يغطّيها دخّان المصانع ، لا يستمتعون بمشاهدة السماء وهي مرصّعة بالكواكب كما يشاهدها الإنسان القروي حيث يدركون هذه المقولة القرآنية ـ أي تزيين السماء بالكواكب ـ بصورة أفضل).

ومن الجدير بالاهتمام قول الآية :( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) في حين كانت الفرضيات الشائعة في ذلك الوقت في أذهان العلماء والمفكّرين هي أنّ السماء العليا هي التي تضمّ الكواكب (السماء الثامنة طبقا لفرضيات بطليموس).

وكما هو معروف فإنّ العلم الحديث دحض تلك الفرضيات. وعدم اتّباع القرآن لما جاء في تلك الفرضيات النادرة والمشهورة في ذلك الزمان معجزة حيّة لهذا الكتاب السماوي.

والنقطة الاخرى التي تلفت النظر هي أنّ ارتعاش نور الكواكب الجميل وغمزها للناظر يعود ـ من وجهة نظر العلم الحديث ـ إلى وجود القشرة الهوائية حول الأرض ، وهذا المعنى يتلاءم مع ما نصّت عليه الآية الكريمة( السَّماءَ الدُّنْيا ) .

__________________

غ جاء في الكتب الأدبية أينما وجدت نكرة بدل عن المعرفة فيجب مرافقتها بوصف ، وفي حالة العكس فإنّ الأمر غير واجب.

٢٨٦

أمّا في خارج جو الأرض فإنّ النجوم تبدو نقاط منيرة على وتيرة واحدة وليس لها ذلك التلألؤ ، على عكس ما يشاهد داخل جوّ الأرض.

أمّا الآية( وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ ) (١) فإنّها تشير إلى حفظ السماء من تسلّل الشياطين إليها.

كلمة (مارد) مشتقّة من (مرد) التي تعني الأرض المرتفعة الخالية من الزرع ، كما يقال للشجرة التي تساقطت أوراقها كلمة (أمرد) وتطلق على الفتى الذي لا شعر في وجهه. وهنا المقصود من كلمة (مارد) هو الشخص الخبيث العاري من الخير.

حفظ السماء من تسلّل الشياطين يتمّ بواسطة نوع من أنواع النجوم يطلق عليها اسم (الشهب) ، وسيشار إليها في الآيات القادمة.

ثمّ يضيف القرآن الكريم : إنّ الشياطين لا تتمكّن من سماع حديث ملائكة الملأ الأعلى ومعرفة أسرار الغيب التي عندهم ، فكلّما حاولوا عمل شيء ما لسماع الحديث ، رشقوا بالشهب من كلّ جانب( لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ ) .

نعم إنّهم يطردون من السماء بشدّة ، وقد أعدّ لهم عذاب دائم ، كما جاء في قوله تعالى :( دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ ) .

( لا يَسَّمَّعُونَ ) بمعنى (لا يستمعون) ويفهم منها أنّ الشياطين يحاولون معرفة أخبار «الملأ الأعلى» إلّا أنّه لا يسمح لهم بذلك.

( الْمَلَإِ الْأَعْلى ) ، تعني ملائكة السماوات العلى ، لأنّ كلمة (ملأ) تطلق في الأصل على الجماعة التي لها وجهة نظر واحدة ، وتعدّ في نظر الآخرين مجموعة متّحدة ومنسجمة ، كما تطلق هذه الكلمة على الأشراف والأعيان والدائرين في فلك

__________________

(١) (حفظا) على حدّ قول الكثير من المفسّرين مفعول مطلق لفعل محذوف والتقدير هو : وحفظناها حفظا. والبعض احتمل أنّها معطوفة على (بزينة) التي هي (مفعول له) ، وتقديرها إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا.

٢٨٧

مراكز القوى ، لأنّهم يعدّون في نظر الآخرين متّحدين أيضا ، ولكن عند ما يوصف الملأ بـ (الأعلى) فذلك إشارة إلى الملائكة الكرام ذوي المقام الأرفع والأسمى.

«يقذفون» مشتقّة من (قذف) وتعني رمي الشيء إلى مكان بعيد ، والمقصود هنا طرد الشياطين بواسطة الشهب ، التي سنتطرّق لها فيما بعد ، وهذا يوضّح أنّ الباريعزوجل لا يسمح للشياطين بالاقتراب من الملأ الأعلى.

«دحورا» مشتقة من (دحر) ـ على وزن (دهر) ـ وتعني طرد الشيء ودفعه ، أمّا كلمة (واصب) فإنّها تعني المرض المزمن ، وبصورة عامّة تعني الدائم والمستمر ، وفي بعض الأحيان تعني (الخالص)(١) .

وهنا إشارة إلى أنّ الشياطين لا يطردون ولا يمنعون من الاقتراب من السماء فحسب ، بل سيصيبهم في النهاية ـ مع ذلك ـ عذاب دائم.

وأشارت الآية أيضا إلى طائفة من الشياطين الشريرة التي تحاول الصعود إلى السماء العليا لاستراق السمع ، وإلى المصير الذي ينتظرها هناك ، كما جاء في الآية الشريفة( إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ ) .

«الخطفة» أي اختلاس الشيء بسرعة.

و «الشهاب» شيء مضيء متولّد من النار ، ويرى نوره في السماء على شكل خطّ ممتدّ.

وكما هو معروف فإنّ الشهب ليست نجوما ، وإنّما تشبه النجوم ، وهي عبارة عن قطع صغيرة من الحجر متناثرة في الفضاء ، عند ما تدخل في مجال جاذبية الأرض ، تنجذب نحوها ، ونتيجة دخولها بسرعة إلى جوّ الأرض واحتكاكها الشديد مع الهواء المحيط بالكرة الأرضية فإنّها تشتعل وتحترق.

وكلمة «ثاقب» تعني النافذ والخارق ، وكأنّه يخترق العين بنوره الشديد ويثقبها ، وهذه إشارة إلى أنّ الشهاب يثقب كلّ شيء يصيبه ويحرقه.

__________________

(١) لقد تمّ بحث كلمة «واصب» أيضا في نهاية الآية (٥٢) من سورة النحل.

٢٨٨

وبهذا يكون هناك مانعان يحوّلان دون نفوذ الشياطين إلى السماء العليا :

الأوّل ، هو رشق الشياطين من كلّ جانب وطردهم ، والذي يتمّ على الظاهر بواسطة الشهب.

والثاني ، هو رشقهم بواسطة أنواع خاصّة من الشهب يطلق عليها اسم الشهاب الثاقب ، الذي يكون بانتظار كلّ شيطان يحاول التسلّل إلى الملأ الأعلى لاستراق السمع ، وهذا المعنى نجده أيضا في الآيتين (١٧) و (١٨) من سورة الحجر( وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ ) .

وفي الآية الخامسة من سورة الملك( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ ) .

ولكن هل يجب الالتزام بظواهر هذه الآيات؟ أم أنّ هناك قرائن تجبرنا على تفسيرها بخلاف الظاهر ، كاستخدام الأمثال والتشبيه والكناية؟

هناك وجهات نظر مختلفة بين المفسّرين ، فالبعض منهم التزم بظاهر الآيات وبنفس المعاني التي استعرضت في بداية الأمر ، وقالوا : هناك طوائف من الملائكة تسكن السماء القريبة والبعيدة تعرف أخبار الحوادث التي ستقع في العالم الأرضي قبل وقوعها ، لذا تحاول مجموعة من الشياطين الصعود إلى السماء لاستراق السمع ومعرفة بعض الأخبار ، لكي تنقلها إلى عملائها في الأرض أي الذين يرتبطون بها ويعيشون بين الناس ، ولكن ما أن يحاولون الصعود يرشقون بالشهب التي تتّصف بأنّها كالنجوم المتحرّكة ، فتجبرهم على التراجع ، أو تصيبهم فتهلكهم.

ويقولون : من الممكن أن لا نفهم بصورة دقيقة ما تعنيه هذه الآيات في الوقت الحاضر ، إلّا أنّنا مكلّفون بحفظ ظواهرها ، وترك تفاصيلها للمستقبل.

وقد اختار هذا التّفسير العلّامة «الطبرسي» في (مجمع البيان) و «الآلوسي» في (روح المعاني) و «سيّد قطب» في (الظلال) ، إضافة إلى عدد آخر من المفسّرين.

في حين يرى البعض الآخر أنّ الآيات المذكورة إنّما هي من قبيل الأمثال

٢٨٩

المضروبة تصوّر بها الحقائق الخارجة عن الحسّ في صورة المحسوس لتقريبها من الحسّ ، وهو القائلعزوجل :( وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) .(١)

وأضافوا : إنّ المراد من السماء التي تسكنها الملائكة ، عالم ملكوتي ذو أفق أعلى من عالمنا المحسوس ، والمراد باقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب ، هو أنّ هذه الشياطين كلّما حاولت الاقتراب من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخليفة والحوادث المستقبلية ، طردت من هناك بواسطة نور الملكوت الذي لا يطيقونه ، ورمتهم الملائكة بالحقّ الذي يبطل أباطيلهم.

وإيراده تعالى قصّة استراق الشياطين للسمع ورميهم بالشهب ، عقيب الإقسام بملائكة الوحي وحفظهم إيّاه عن مداخلة الشياطين لا يخلو من تأييد لما ذكرناه(٢) .

ويحتمل أيضا أنّ السماء هنا هي كناية عن سماء الإيمان والمعنويات التي يحاول الشياطين النفوذ إليها ، إضافة إلى الانسلال إلى قلوب المؤمنين عن طريق الوساوس التي يبثّونها في قلوبهم ، إلّا أنّ الأنبياء والصالحين والأئمّة المعصومين من أهل البيت والسائرين على خطّهم الفكري والعملي يهاجمون الشياطين بالشهاب الثاقب الذي يمتلكونه ، ألا وهو العلم والتقوى ، ويمنعون الشياطين من الاقتراب من هذه السماء.

التّفسير المذكور أوردناه هناك كاحتمال ، وذكرنا بعض الدلائل والشواهد عليه في نهاية الآية (١٨) من سورة الحجرات.

هذه ثلاثة تفسيرات مختلفة للآيات مورد البحث والآيات المشابهة لها.

* * *

__________________

(١) العنكبوت ، ٤٣.

(٢) تلخيص من تفسير الميزان ، المجلّد السابع عشر ، الصفحة (١٢٥).

٢٩٠

الآيات

( فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) )

التّفسير

الذين لا يقبلون الحقّ أبدا :

هذه الآيات تعالج قضيّة منكري البعث ، وتتابع البحث السابق بشأن قدرة الباريعزوجل خالق السموات والأرض ، وتبدأ بالاستفسار منهم وتقول : اسألهم هل أنّ معادهم وخلقهم مرّة ثانية أصعب أو خلق الملائكة والسماوات والأرض :( فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا ) .

نعم ، فنحن خلقناهم من مادّة تافهة ، من طين لزج :( إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) .

فالمشركون الذين ينكرون المعاد ، قالوا بعد سماعهم الآيات السابقة بشأن خلق السموات والأرض والملائكة. إنّ خلق الإنسان أصعب من خلق السموات

٢٩١

والأرض والملائكة. إلّا أنّ القرآن الكريم أجابهم بالقول : إنّ خلق الإنسان مقابل خلق الأرض والسماء والملائكة الموجودة في هذه العوالم ، يعدّ لا شيء ، لأنّ أصل الإنسان يعود إلى حفنة من التراب اللزج.

«استفتهم» من مادّة «استفتاء» وتعني الحصول على معلومات جديدة.

وهذا التعبير إشارة إلى أنّ المشركين لو كانوا صادقين في أنّ خلقهم أهمّ وأصعب من خلق السماوات والملائكة ، فإنّهم قد جاؤوا بموضوع جديد لم يطرح مثله من قبل.

«لازب» يقول البعض : إنّ أصلها كان (لازم) ، حيث استبدلت (الميم) (باء) وحاليا تستعمل بهذه الصورة ، على أيّة حال فهي تعني الطين المتلازم بعضه ببعض ، يعني الملتصق لأنّ أصل الإنسان كان من التراب الذي خلط بالماء ، وبعد فترة أضحى طينا متجمعا ذا رائحة نتنة ، ثمّ تحول إلى طين متماسك (وهذه الصورة هي جمع لحالات متعدّدة مذكورة في عدّة آيات في القرآن المجيد).

ثمّ يضيف القرآن الكريم :( بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ) .

نعم أنت تتعجّب لإنكارهم بالمعاد ، لأنّك بقلبك الطاهر ترى المسألة واضحة جدّا ، وأمّا أصحاب القلوب السوداء فيعبدونها مستحيلة إلى حدّ أنّهم يستهزئون بها وينكرونها.

وما يمكن وراء تلك التصرفات القبيحة ليس هو الجهل ـ فقط ـ وعدم المعرفة ، بل إنّها اللجاجة والعناد ، إذ أنّهم كلّما ذكروا بدلائل المعاد والعقوبات الإلهيّة لا يتذكّرون( وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ) .

والأنكى من ذلك ، أنّهم كلّما شاهدوا معجزة من معجزاتك ، لا يكتفون بالاستهزاء ، وإنّما يدعون الآخرين للاستهزاء أيضا( وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ) .

( وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) .

قولهم «هذا» المقصود منه تحقير المعجزات والآيات الإلهية والانتقاص منها ،

٢٩٢

وإطلاقهم كلمة «سحر» على تلك المعجزات لكونها من جهة أعمالا خارقة للعادة ، ولا يمكن نكرانها. ومن جهة اخرى فإنّهم لم يكونوا راغبين للاستسلام لتلك المعاجز ، وكلمة السحر كانت الكلمة الوحيدة التي تعكس خبثهم وترضي أهواءهم النفسية ، وتوضّح في نفس الوقت اعترافهم بالتأثير الكبير للقرآن ولمعجزات النّبي الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

* * *

ملاحظتان

١ ـ يعتقد بعض المفسّرين أنّ عبارة «يستسخرون» تعني «يسخرون» ، ولا يوجد أي فرق بين العبارتين. في حين يؤكّد البعض الآخر على وجود اختلاف بين المعنيين ، بقولهم : إنّ «يستسخرون» جاءت من باب استفعال ، وتعني دعوة الآخرين إلى المشاركة في الاستهزاء ، وتشير إلى أنّهم لم يكتفوا لوحدهم بالاستهزاء بآيات القرآن المجيد ، وإنّما سعوا لإشراك الآخرين في ذلك ، كي تصير المسألة عامّة في المجتمع.

والبعض يعتبر هذا الاختلاف توكيد أكثر يستفاد من عبارة (يستسخرون).

فيما فسّر البعض الآخر هذه العبارة بأنّها «الإعتقاد بكون الشيء مثيرا للسخرية» ، ويعني أنّهم نتيجة انحرافهم الشديد كانوا في قرارة أنفسهم يعتقدون ـ تماما ـ أنّ هذه المعجزات ليست أكثر من سخرية ، ولكن المعنى الثاني يعدّ أكثر مناسبا من غيره.

٢ ـ عزا بعض المفسّرين سبب نزول هذه الآية إلى قضيّة مفادها أنّ «ركانة» رجل من المشركين من أهل مكّة ، لقيه الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جبل خال يرعى غنما له ، وكان من أقوى الناس ، فقال له : يا ركانة أرأيت إنّ صرعتك أتؤمن بي؟

٢٩٣

قال : نعم. فصرعه ثلاثا ، ثمّ عرض عليه بعض الآيات ودعا عليه الصلاة والسلام شجرة فأقبلت ، فلم يؤمن وجاء إلى مكّة فقال : «يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض». فنزلت فيه وفي أضرابه هذه الآية.

* * *

٢٩٤

الآيات

( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) )

التّفسير

هل نبعث من جديد؟

الآيات هذه تتابع سرد أقوال منكري المعاد ، وتواصل الردّ عليها ، فالآية الاولى تعكس استبعاد البعث من قبل منكريه ، بهذا النصّ( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) (١) (٢) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، المجلّد ٢٣ ، الصفحة ٧٧.

(٢) هذه الآية هي بحالة جملة شرطية وشرطها (أإذا متنا) بينما جزاءها محذوف وجملة (أإنّا لمبعوثون) قرينة عليها ، لأنّ نفس هذه الجملة ـ طبقا للقواعد الأدبية ـ لا يمكن أن تكون جزاء.

٢٩٥

وهل سيبعث آباؤنا الأوّلون أيضا؟( أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ) . فمن يستطيع جمع تلك العظام النخرة وأكوام التراب المتفرّقة المتبقّية من الإنسان؟ ومن يتمكّن من إعادة الحياة إليها؟

فهؤلاء ذوي القلوب العمياء نسوا أنّهم كانوا ترابا في اليوم الأوّل ، ومن التراب خلقوا ، وإذ كانوا يشكّكون في قدرة الله ، فعليهم أن يعرفوا أنّ الله كان قد أراهم قدرته ، وإن كانوا يشكّكون باستحالة التراب ، فقد أثبت ذلك من قبل ، وعلاوة على هذا فإنّ خلق السماوات والأرض بكلّ هذه العظمة لا تترك أي مجال للشكّ عند أحد في قدرة الباريعزوجل المطلقة.

ممّا يذكر أنّ منكري البعث صاغوا أقوالهم بشكل عبارات مؤكّدة (إذ أنّ جملة( أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) هي جملة اسمية استخدمت فيها (إن) و (لام) والتي تأتي كلّ منهما للتأكيد) وذلك لجهلهم ولجاجتهم.

وممّا يلفت النظر أنّ كلمة (التراب) قدّمت على (العظام) وهذا الأمر يحتمل أنّه يشير إلى إحدى النقاط الثلاث الآتية :

أوّلا : إنّ الإنسان بعد وفاته يصير عظاما في بداية الأمر ، ثمّ يتحوّل إلى تراب ، وبما أنّ إعادة التراب إلى الحياة يعدّ شيئا عجيبا ، لهذا قدّمت كلمة التراب.

ثانيا : عند اندثار أبدان الأموات ، في البداية تتحوّل اللحوم إلى تراب وتبقى إلى جانب العظام ، ولهذا فهناك تراب وعظام في آن واحد.

ثالثا : التراب يشير إلى أجساد الأجداد الأوّلين ، والعظام تشير إلى أبدان الآباء والتي لم تتحوّل بعد إلى تراب.

ثمّ يردّ القرآن على تساؤلاتهم بلهجة شديدة وعنيفة ، عند ما يقول للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قل لهم : نعم أنتم وأجدادكم ستبعثون صاغرين مهانين أذلّاء ،( قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ ) (١) .

__________________

(١) (داخر) من مادّة (دخر) على وزن فخر (دخور) ، وكلتاهما تعطي معنى الذلّة والحقارة. الآية أعلاه فيها جملة

٢٩٦

فهل تتصوّرون أنّ عمليّة إحيائكم والأوّلين تعدّ مستحيلة ، أو هي عمل عسير على الله القادر والقوي؟ كلّا ، فإنّ صرخة عظيمة واحدة ممّن كلّفهم الله سبحانه وتعالى بذلك كافية لبعث الحياة بمن في القبور ، ونهوض الجميع فجأة من دون أيّ تمهيد أو تحضير من قبورهم ليشاهدوا بأعينهم ساحة المحشر التي كانوا بها يكذّبون( فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ ) .

(زجرة) مشتقّة من (زجر) وكما أشرنا إليها سابقا ، فإنّها تعني الطرد ، وأحيانا تأتي بمعنى الصرخة ، وهنا تفيد المعنى الثاني ، وهي إشارة إلى النفخة والصيحة الثانية لإسرافيل ، والتي سنتحدّث بشأنها في الآيات الأخيرة لسورة الزمر.

عبارة (ينظرون) تشير إلى نظر منكري البعث لساحة المحشر وهم مدهوشون ، أو النظر بعنوان انتظار العذاب ، وفي كلا الحالتين فإنّ المقصود ليس ـ فقط ـ عودتهم إلى الحياة ، وإنّما عودتهم إلى الشعور والنظر فور سماعهم الصيحة.

وتعبير( زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ) مع الالتفات إلى معنى الكلمتين ، يشير إلى أنّ البعث يتمّ بسرعة وعلى حين غرّة ، وإلى سهولته في مقابل قدرة الباريعزوجل ، إذ بصرخة واحدة (لملك البعث) المأمور بها تعود الحياة إلى حالتها الاولى.

وهنا تتعالى صرخات المشركين المغرورين وتبيّن ضعفهم وعجزهم وعوزهم ، ويقولون : الويل لنا فهذا يوم الدين( وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ ) .

نعم ، فعند ما تقع أعينهم على محكمة العدل الإلهي وشهودها وقضاتها ، وعلى علامات العقاب فإنّهم ـ من دون أن يشعروا ـ يصرخون ويبكون ، ويعترفون بحقيقة البعث ، الاعتراف الذي يعجز عن إنقاذهم من العذاب ، أو تخفيف العقاب الذي ينتظرهم.

وهنا يوجّه إليهم الخطاب من الباريعزوجل أو من ملائكته : نعم ، اليوم هو

__________________

تقديرية هي جوابها ، والبقيّة شيء إضافي عليها كي يكتسب القول قاطعية أكثر ، فالتقدير سيكون هكذا (نعم إنّكم مبعوثون حال كونكم داخرين).

٢٩٧

يوم الفصل الذي كنتم به تكذّبون ، يوم فصل الحقّ عن الباطل ، وفصل المجرمين عن المتّقين ، ويوم المحكمة الإلهيّة الكبرى( هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) .

ومثل هذه العبارات وردت في آيات اخرى من آيات القرآن الكريم ، والتي تتناول يوم القيامة ، وتعتبره يوم الفصل ، وهي عبارات عجيبة ورهيبة؟!(١) .

الملاحظ ، هو أنّ الكافرين يوم القيامة يطلقون على هذا اليوم اسم يوم الجزاء( يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ ) .

فيما يطلق عليه الباريعزوجل في كتابه الحكيم اسم يوم الفصل( هذا يَوْمُ الْفَصْلِ ) .

إنّ الاختلاف بين التعبيرين يمكن أن يكون لهذا السبب ، وهو أنّ المجرمين لا يفكّرون إلّا بالجزاء والعقاب الذي سينالهم ، ولكن الله سبحانه وتعالى يشير إلى معنى أوسع من الجزاء الذي يعدّ أحد أبعاد ذلك اليوم ، إذ يعتبر ذلك اليوم هو يوم الفصل ، نعم يوم فصل صفوف المجرمين عن المتّقين ، كما جاء في الآية (٥٩) من سورة يس( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) فالأمر في ذلك اليوم موجّه إلى المجرمين أن انفصلوا عن المؤمنين ، فهنا ليست دار الدنيا التي تجمع بين المجرمين والمتّقين.

وكم يكون هذا المشهد رهيبا عند ما يشاهدون أقاربهم وأبناءهم ينفصلون عنهم لإيمانهم بالله ، ويتّجهون نحو جنان الخلد.

وعلاوة على أنّ ذلك اليوم هو يوم فصل الحقّ عن الباطل ، فيجب أن تتبيّن كلّ الخطوط المتضادّة والبرامج الحقيقيّة والكاذبة التي كانت مختلطة في عالم الدنيا في مكانها الخاصّ بها.

على أيّة حال ، إنّ ذلك اليوم ـ أي يوم الفصل ـ يعني أيضا يوم المحاكمة ، ففي

__________________

(١) الدخان ، الآية ٤٠ ، المرسلات ، الآيات ١٣ ، ١٤ ، ٣٨ ، النبأ الآية ، ١٧.

٢٩٨

ذلك اليوم يقضي الله العالم العادل بين عباده ويصدر أحكاما دقيقة بحقّهم ، وهنا يخزى المشركون.

إذن ، فطبيعة الدنيا هي اختلاط الحقّ بالباطل ، في حين أنّ طبيعة البعث هو فصل الحقّ عن الباطل ، ولهذا السبب فإنّ أحد أسماء يوم القيامة في القرآن المجيد (يوم الفصل) والذي كرّر عدّة مرّات ، اليوم الذي تظهر فيه كافّة الخفايا والأسرار ، ولا يمكن تجنب عملية فصل الصفوف.

ثمّ يصدر الباريعزوجل أوامره إلى ملائكته المكلّفين بإرسال المجرمين إلى جهنّم أن( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ ) .

نعم احشروهم وما كانوا يعبدون( مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ ) . (احشروا) مشتقّة من (حشر) ويقول الراغب في مفرداته : إنّها تعني إخراج الجماعة عن مقرّهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها.

وهذه الكلمة تأتي بمعنى «تجميع» في الكثير من الحالات.

على كلّ حال ، فالخطاب هنا إمّا أن يكون من جانب اللهعزوجل ، أو من طائفة من الملائكة إلى طائفة اخرى مكلّفة بسوق المجرمين إلى الجحيم والنتيجة واحدة.

(أزواج) هنا إمّا أن تشير إلى زوجات المجرمين والمشركين ، أو إلى من يعتقد اعتقادهم ويعمل عملهم ومن هو على شاكلتهم ، لأنّ هذه الكلمة تشمل المعنيين ، حيث نقرأ في سورة الواقعة الآية(٧) ( وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ) .

وبهذا يحشر المشركون مع المشركين والأشرار ، وذوو القلوب العمياء مع نظائرهم ، ثمّ يساقون إلى جهنّم.

أو أنّ المقصود من الأزواج هم الشياطين الذين كانوا يشابهونهم في الشكل والعمل.

المهمّ ، هو عدم وجود أي اختلاف بين هذه المعاني الثلاثة ، ومن الممكن أن

٢٩٩

تجتمع في مفهوم الآية.

جملة( ما كانُوا يَعْبُدُونَ ) تشير إلى آلهة المشركين ، كالأصنام والشياطين والطغاة المتجبّرين والفراعنة والنماردة ، وعبّرت عنها بـ( ما كانُوا يَعْبُدُونَ ) لكون أغلب تلك الآلهة موجودات عديمة الحياة وغير عاقلة ، وقد اصطلح عليها بهذا التعبير لأنّه يعطي طابع التغليب.

(الجحيم) تعني جهنّم ، وهي من مادّة (جحمة) على وزن (ضربة) وتعني شدّة تأجيج النار.

والملاحظ في الآية استخدامها عبارة( فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ ) حقّا كم هذه العبارة عجيبة؟ ففي أحد الأيّام ارشدوا إلى الصراط المستقيم ولكنّهم لم يقبلوه ، واليوم يجب أن يهدوا إلى صراط الجحيم ، وهم مجبرون على القبول به ، وهذا توبيخ عنيف لهم يجعلهم يتحرّقون ألما في أعماقهم.

* * *

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439