شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور الجزء ١

شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور9%

شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور مؤلف:
المحقق: محمد شعاع فاخر
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
ISBN: 964-503-000-5
الصفحات: 439

الجزء ١
  • البداية
  • السابق
  • 439 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 34234 / تحميل: 4865
الحجم الحجم الحجم
شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور

شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور الجزء ١

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
ISBN: ٩٦٤-٥٠٣-٠٠٠-٥
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ثانياً: الانحراف السياسي

اتّبع الحكّام الأمويون سياسة من سبقهم في تحويل الخلافة إلى ملك يتوارثه الأبناء عن الآباء دون سابقة علم أو تقوى، وتوزيع المناصب المهمّة والحسّاسة في الدولة على أبنائهم وأقربائهم والمتملقين لهم، واستبدوا بالأمر فلا شورى ولا استشارة إلاّ مع المنحرفين والفسّاق من بطانتهم. ولشعورهم بعدم الأحقية بالخلافة استمروا على نهج من سبقهم في اتخاذ الإرهاب والتنكيل وسيلة لتثبيت سلطانهم، فحينما وجد الوليد بن عبد الملك أنّ ولاية عمر بن عبد العزيز على مكة والمدينة قد أصبحت ملجأً للهاربين من ظلم بقية الولاة، قام بعزله(١) تنكيلاً منه بالمعارضين وارهابهم وغلق منافذ السلامة أمامهم.

وكان سليمان بن عبد الملك محاطاً بثُلّة من الرجال الذين عرفوا بفسقهم وانحرافهم وسوء سيرتهم كما وصفهم أعرابيّ عنده، بعد أن أخذ منه الأمان، فقال له: يا أمير المؤمنين، أنه قد تكنّفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياهم بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، حرب للآخرة وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما يأمنك الله عليه، فإنّهم لم يأتوا إلاّ ما فيه تضييع وللأمة خسف وعسف، وأنت مسؤول عما اجترموا،

ــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ: ٤ / ٥٧٧.

٨١

وليسوا مسؤولين عمّا اجترمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك(١) .

واتّبع أبناء عبد الملك الوليد وسليمان سيرة أبيهم، والتزموا بوصيته في قتل الرافضين للبيعة، والتي جاء فيها: ادع الناس إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا(٢) .

وأقرّ كثير من الفقهاء سياسة الحكّام الأمويين خوفاً أو طمعاً أو استسلاماً للأمر الواقع، فقد أقرّوا ما ابتدعوا من ممارسات في تولية الحكم كالعهد إلى اثنين أو أكثر، فقد عهد سليمان بالحكم إلى عمر بن عبد العزيز ومن بعده ليزيد بن عبد الملك، فأقرّ كثير من الفقهاء ذلك، حتى أصبحت نظرية من نظريات تولّي الحكم(٣) .

وحينما تولّى عمر بن عبد العزيز الحكم حدث انفراج نسبي في السياسة الأُموية، كما لاحظنا، وقام ببعض الإصلاحات ومنح الحرية النسبية للمعارضين، وألغى بدعة سبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام وردّ إلى أهل البيتعليهم‌السلام بعض حقوقهم، واعترف بالممارسات الخاطئة لأسلافه من الحكّام، حتى امتدحه الإمام الباقرعليه‌السلام على ذلك(٤) .

ولكن حكمه لم يدم طويلاً ; إذ عاد الوضع إلى ما كان عليه.

وامتازت هذه المرحلة بسرعة تبدّل الحكّام، فقد حكم سليمان ثلاث سنين، وحكم عمر بن عبد العزيز ثلاث سنين أو أقل، وحكم يزيد بن عبد الملك أربع سنين، وكان كل حاكم ينشغل بالإجهاز على ولاة من سبقه، وكثرت الاختلافات في داخل البيت الأُموي تنافساً على الحكم، كما كثرت

ــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ: ٣ / ١٧٨.

(٢) البداية والنهاية: ٩ / ١٦١.

(٣) الأحكام السلطانية: ١٣، الماوردي.

(٤) الكامل في التاريخ: ٥ / ٦٢.

٨٢

الفتن الداخلية في عهدهم، حتى قام قتيبة بن مسلم بخلع سليمان والاستقلال في خراسان(١) .

وقام يزيد بن المهلب في سنة ( ١٠١ هـ ) بخلع يزيد بن عبد الملك وجهّز إليه يزيد من قتله وقتل أتباعه.

وأحاط يزيد نفسه بالمتملّقين الذين يبررون له انحرافاته حتى أفتوا له أنه ليس على الخلفاء حساب(٢) .

وهكذا كانت الأمة الإسلامية محاطة بالمخاطر من كل جانب، ففي سنة ( ١٠٤ هـ ) ظفر الخزر بالمسلمين وانتصروا عليهم في بعض الثغور.

وفي عهد هشام بن عبد الملك ازداد الإرهاب والتنكيل بأهل البيتعليهم‌السلام وأتباعهم وسائر المعارضين، حتى اجترأ هشام بن عبد الملك على سجن الإمام الباقرعليه‌السلام وأقدم على اغتياله(٣) . وأصدر أوامره بقتل بعض أتباع الإمام الباقرعليه‌السلام إلاّ أنّ الإمام استطاع أن ينقذهم من القتل(٤) .

والتجأ الكثير إلى العمل السرّي للإطاحة بالحكم الأُموي، فكان العباسيون يعدّون العدّة ويبثون دعاتهم في الأقاليم البعيدة عن مركز الحكومة وخصوصاً في خراسان، وأخذ زيد ابن الإمام زين العابدينعليه‌السلام يعدّ العدّة للثورة على الأمويين في وقتها المناسب، لأنّ الأمويين كانوا قد أحصوا أنفاس الناس عليهم لكي لا يتطرقوا إلى انحرافاتهم السياسية أو يعلنوا عن معارضتهم لها.

ــــــــــــــ

(١) تاريخ ابن خلدون: ٥ / ١٥١.

(٢) البداية والنهاية: ٩ / ٢٣٢.

(٣) مناقب آل أبي طالب: ٤ / ٢٠٦.

(٤) بحار الأنوار: ٤٦ / ٢٨٣.

٨٣

ثالثاً: الانحراف الأخلاقي

لقد حوّل الأمويون الأنظار إلى الغزوات، وحشّدوا جميع الطاقات البشريّة والمادّية باتجاه الغزوات; وذلك من أجل إشغال المسلمين عن التحدّث حول الأوضاع المنحرفة، وعن التفكير في العمل السياسي أو الثوري لاستبدال نظام الحكم بغيره، ولم يكن هدفهم نشر مفاهيم وقيم الإسلام كما يتصوّر البعض ذلك، لأنّهم كانوا قد خالفوا هذه المفاهيم والقيم في سياستهم الداخلية، وداسوا كثيراً من المقدسات الإسلامية، وشجّعوا على الانحرافات الفكرية.

وأدّى توسّع عمليات الفتح والغزو إلى خلق الاضطرابات في المجتمع الإسلامي وتشتيت الأُسر بغياب المعيل أو فقدانه، كما كثرت الجواري والغلمان ممّا أدّى إلى التشجيع على الانحراف باقتناء الأثرياء للجواري المغنّيات وتملك المخنثين، وانتقل الانحراف من البلاط إلى الأمة تبعاً لانحراف الحكّام وفسقهم، فقد انشغلوا باللهو والانسياق وراء الشهوات دون حدود أو قيود حتى كثر الغزل والتشبيب بالنساء في عهد الوليد بن عبد الملك بشكل خاص(١) .

وكانت همّة سليمان بن عبد الملك في النساء، وانعكس ذلك على المجتمع حتى كان الرجل يلقى صاحبه فيقول له: كم تزوجت ؟ وماذا عندك من السراري ؟(٢) .

وقد وصف أبو حازم الأعرج الوضع الاجتماعي والأخلاقي مجيباً سليمان بن عبد الملك على سؤاله: ما لنا نكره الموت؟ بقوله: لأنكم عمّرتم

ــــــــــــــ

(١) الأغاني: ٦ / ٢١٩.

(٢) البداية والنهاية: ٩ / ١٦٥.

٨٤

دنياكم وأخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب(١) .

وكان سليمان يسابق بين المغنيين ويمنح السابقين الجوائز الثمينة(٢) ، ويجزل العطاء للمغنيات. كما ازداد عدد المخنثين في عهده(٣) .

وأقبل يزيد بن عبد الملك على شرب الخمر واللهو(٤) ، ولم يتب من الشراب إلاَّ أسبوعاً حتى عاد إليه بتأثير من جاريته حبّابة(٥) .

وكان يقول: ما يقرّ عيني ما أوتيت من أمر الخلافة حتى اشتري سلامة وحبّابة فأرسل من يشتريهما له(٦) .

وهكذا وصل الانحراف إلى ذروته، حينما أصبح اللهو والمجون من أولى هموم حكّام الدولة.

وليس غريباً أن تنحرف الأمة بانحراف حكامها وولاتهم وأجهزة الدولة، وبهذا الانحراف كانت تبتعد الأغلبية من الناس عن الأهداف الكبرى التي حددها المنهج الإسلامي، ولا تكترث بالأحداث والمخاطر المحيطة بالوجود الإسلامي.

رابعاً: الانحراف في الميدان الاقتصادي

لقد تصرّف الحكّام بالأموال العامّة وكأنّها ملك شخصي لهم، فكانوا ينفقونها حسب رغباتهم وأهوائهم، على ملذاتهم وشهواتهم وكان للجواري والمغنيين نصيب كبير في بيت المال، كما كانوا ينفقون الأموال لشراء الذمم

ــــــــــــــ

(١) مروج الذهب: ٣ / ١٧٧.

(٢) الأغاني: ١ / ٣١٧.

(٣) المصدر السابق: ٤ / ٢٧٢.

(٤) مروج الذهب: ٣ / ١٩٦.

(٥) الأغاني: ١٥ / ٢٩٥.

(٦) المصدر السابق: ٨ / ٣٤٦.

٨٥

والضمائر، ويمنحونها لمن يشترك في تثبيت سلطانهم أو مدحهم والثناء عليهم، فقد مدح النابغة الشيباني يزيد بن عبد الملك فأمر له بمائة ناقة، وكساه وأجزل صلته(١) .

فتنافس الشعراء فيما بينهم للحصول على مزيد من الأموال كما تنافس المغنّون لنيل الهدايا من الحكام أو ولاتهم.

وكان الحكّام يعيشون في أعلى مراتب الترف والبذخ، ويبذّرون أموال المسلمين على لهوهم وشهواتهم، وعلى المقربين لهم، في وقت كان كثير من الناس يعيشون حياة الفقر والجوع والحرمان.وازداد التمييز الطبقي حينما عُطِّل مبدأ التكافل الاجتماعي، ولم تكترث الدولة بمعاناة الناس وهمومهم ولم تتدخل في الحث على الإنفاق.

وقد ضاعف الحكّام من الضرائب، فأضافوا ضرائب جديدة على الصناعات والحرف وخصوصاً في عهد هشام بن عبد الملك، الذي كان ينفق ما تجمّع لديه على الشعراء المادحين له(٢) .

وقد وصف سليمان بن عبد الملك حالات الترف والمجون التي وصلوا إليها قائلاً: قد أكلنا الطيب، ولبسنا اللين، وركبنا الفاره، ولم يبق لي لذة إلاّ صديق أطرح معه فيما بيني وبينه مؤنة التحفظ(٣) .

وهكذا انساق الناس ـ وخصوصاً ـ أتباع الأمويين وراء شهواتهم ورغباتهم، وانشغل الكثير في السعي للحصول على الأموال بأي وجه أمكن.

ــــــــــــــ

(١) الأغاني: ٧ / ١٠٩.

(٢) المصدر السابق: ١ / ٣٣٩.

(٣) مروج الذهب: ٣ / ٧٦.

٨٦

الفصل الثالث: دور الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام في إصلاح الواقع الفاسد

على الرغم من انحراف الحكّام وأجهزتهم الإدارية والسياسية عن المبادئ الثابتة التي أرسى دعائمها القرآن الكريم والسنّة النبويّة; إلاّ أنّ القاعدة الفكرية والتشريعية للدولة بقيت متبنّاةً من قبل الحاكم وأجهزته في مظاهرها العامة، وعلى ضوء ذلك فإنّ دور الإمامعليه‌السلام كان دوراً إصلاحياً لإعادة الحاكم وأجهزته وإعادة الأمة إلى الاستقامة في العقيدة والشريعة، وجعل الإسلام بمفاهيمه وقيمه هو الحاكم على الأفكار والعواطف والمواقف.

وكان أسلوب الإمامعليه‌السلام الإصلاحي متفاوتاً تبعاً لتفاوت الظروف التي كانت تحيط به، وبالحكم القائم، وبالأمة المسلمة.

لقد كان الإمامعليه‌السلام مقصد العلماء من كل بلاد العالم الإسلامي. وما زار المدينة أحد إلاّ عرّج على بيته يأخذ من فضائله وعلومه، وكان يقصده كبار رجالات الفقه الإسلامي: كسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وأبي حنيفة.

وكان دورهعليه‌السلام في الإصلاح يتركّز على اتجاهين متزامنين:

الاتجاه الأول: التحرك في أوساط الأمة وعموم الناس، بما فيهم المسلمون وأصحاب الديانات الأخرى، فضلاً عن التحرك على الحكّام وأجهزتهم لإعادتهم إلى خطّ الاستقامة أو الحدّ من انحرافاتهم وحصرها في نطاق محدود.

الاتجاه الثاني: بناء الجماعة الصالحة لتقوم بدورها في إصلاح الأوضاع العامة للأمة وللدولة طبقاً للأسس والقواعد الثابتة التي أرسى دعائمها أهل البيتعليهم‌السلام بما ينسجم مع القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة.

٨٧

محاور الحركة الإصلاحية العامّة للإمام الباقر عليه‌السلام

أوّلاً: الإصلاح الفكري والعقائدي

من الأزمات التي خلّفتها سيرة الحكّام السابقين هي أزمة ارتباك المفاهيم وما رافقها من تقليد وسطحية في الفكر، فلم تتجلّ حقيقة التصور الإسلامي عند الكثير من المسلمين لكثرة التيارات الهدّامة ونشاطها في تحريف المفاهيم السليمة وتزييف الحقائق، فكان دور الإمامعليه‌السلام هو حمل النفوس على التمحيص لتمييز ما هو أصيل من العقيدة عمّا هو زيف، وعلى تحكيم الأفكار والمفاهيم الأصيلة في عالم الضمير وعالم السلوك على حد سواء، والاستقامة على المنهج الذي يريده الله تعالى للإنسان.

وقد مارس الإمامعليه‌السلام عدة نشاطات لإصلاح الأفكار والعقائد، نشير إلى أهمّها كما يلي:

١ ـ الردّ على الأفكار والعقائد الهدّامة والمذاهب المنحرفة

وجد المنحرفون لأفكارهم وعقائدهم الهدّامة أوساطاً تتقبّلها وتروّج لها ـ جهلاً أو طمعاً أو تآمراً على الإسلام الخالد ـ وفي عهد الإمام الباقرعليه‌السلام نشطت حركة الغلاة بقيادة المغيرة بن سعيد العجلي.

٨٨

روى علي بن محمد النوفلي أن المغيرة استأذن على أبي جعفرعليه‌السلام

وقال له: أخبر الناس أنّي أعلم الغيب، وأنا أطعمك العراق، فزجره الإمامعليه‌السلام زجراً شديداً وأسمعه ما كره فانصرف عنه، ثم أتى أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية فقال له مثل ذلك، فوثب عليه، فضربه ضرباً شديداً أشرف به على الموت، فلمّا برئ أتى الكوفة وكان مشعبذاً فدعا الناس إلى آرائه واستغواهم فاتّبعه خلق كثير(١) .

واستمرّ الإمامعليه‌السلام في محاصرة المغيرة والتحذير منه وكان يلعنه أمام الناس ويقول:(لعن الله المغيرة بن سعيد كان يكذب علينا) (٢) .

ولعنعليه‌السلام بقية رؤساء الغلاة ومنهم بنان التبّان، فقال:(لعن الله بنان التبّان، وإن بناناً لعنه الله كان يكذب على أبي) (٣) .

وكانعليه‌السلام يحذّر المسلمين وخصوصاً أنصار أهل البيتعليهم‌السلام من أفكار الغلو، ويرشدهم إلى الاعتقاد السليم، بقوله:(لا تضعوا عليّاً دون ما وضعه الله، ولا ترفعوه فوق ما رفعه الله) (٤) .

وكانعليه‌السلام يخاطب أنصاره قائلاً:(يا معشر الشيعة شيعة آل محمد كونوا النمرقة الوسطى: يرجع إليكم الغالي، ويلحق بكم التالي) (٥) .

وحذّرعليه‌السلام من المرجئة ولعنهم حين قال:(اللهمّ العن المرجئة فإنهم أعداؤنا في الدنيا والآخرة) (٦) .

وكانعليه‌السلام يحذّر من أفكار المفوضة والمجبرة. ومن أقواله في ذلك:(إيّاك

ــــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة: ٨ / ١٢١.

(٢) بحار الأنوار: ٢٥ / ٢٩٧.

(٣) المصدر السابق: ٢٥ / ٢٩٧.

(٤) المصدر السابق: ٢٥ / ٢٨٣.

(٥) المصدر السابق: ٦٧: ١٠١.

(٦) المصدر السابق: ٤٦ / ٢٩١.

٨٩

أن تقول بالتفويض! فإنّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهناً وضعفاً، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً) (١) .

وفي عرض هذا الردّ القاطع الصريح كان الإمامعليه‌السلام يبيّن الأفكار السليمة حول التوحيد لكي تتعرف الأمة على عقيدتها السليمة.

وكان ممّا ركّز عليه الإمامعليه‌السلام في هذا المجال بيان مقومات التوحيد ونفي التشبيه والتجسيم لله تعالى.

قالعليه‌السلام :(يا ذا الذي كان قبل كل شيء، ثم خلق كل شيء، ثم يبقى ويفنى كلّ شيء، ويا ذا الذي ليس في السموات العلى ولا في الأرضين السفلى، ولا فوقهنّ، ولا بينهنّ ولا تحتهنّ إله يعبد غيره) (٢) .

وفي جوابهعليه‌السلام للسائلين عن جواز القول بأنّ الله موجود، قال:(نعم، تخرجه من الحدّين: حدّ الإبطال، وحدّ التشبيه) (٣) .

وقالعليه‌السلام :(إن ربّي تبارك وتعالى كان لم يزل حيّاً بلا كيف، ولم يكن له كان، ولا كان لكونه كيف، ولا كان له أين، ولا كان في شيء، ولا كان على شيء، ولا ابتدع له مكاناً) (٤) .

كما ركّز الإمام الباقرعليه‌السلام على العبودية الخالصة لله ونهى عن الممارسات التي تتضمّن الشرك بالله تعالى.قالعليه‌السلام :(لو أن عبداً عمل عملاً يطلب به وجه الله عزّ جلّ والدار الآخرة، فأدخل فيه رضى أحد من الناس كان مشركاً) (٥) .

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٥ / ٢٩٨.

(٢) المصدر السابق: ٣ / ٢٨٥.

(٣) المصدر السابق: ٣ / ٢٦٥.

(٤) المصدر السابق: ٣ / ٣٢٦.

(٥) المصدر السابق: ٦٩ / ٢٩٧.

٩٠

كما دعا إلى الانقطاع الكامل لله تعالى بقوله:(لا يكون العبد عابداً لله حق عبادته; حتى ينقطع عن الخلق كلّه إليه) (١) .

ونهى الإمامعليه‌السلام عن التكلم في ذات الله تعالى، وذلك لأنّ الإنسان المحدود لا يحيط بغير المحدود فلا ينفعه البحث عن الذات اللامحدودة إلاّ بُعداً، ومن هنا كان التكلم عن ذاته تعالى عبثاً لا جدوى وراءه، فنهىعليه‌السلام عن ذلك، وحذّر منه بقوله:(إن الناس لا يزال لهم المنطق، حتى يتكلموا في الله، فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لا اله إلاّ الله الواحد الذي ليس كمثله شيء) (٢) .

وممّا ركّز عليه الإمام الباقرعليه‌السلام الردع من اتّباع المذاهب المنحرفة والأفكار الهدّامة هو بيان عاقبة أهل الشبهات والأهواء والبدع، واستهدف الإمامعليه‌السلام من التركيز على عاقبة المنحرفين فكرياً وعقائدياً إبعاد المسلمين عن التأثر بهم، وإزالة حالة الأنس والألفة بينهم وبين الأفكار والعقائد المنحرفة.

قالعليه‌السلام في تفسير قوله تعالى:( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) : هم النصارى والقسيسون والرهبان وأهل الشبهات والأهواء من أهل القبلة والحرورية وأهل البدع(٣) .

٢ ـ الحوار مع المذاهب والرموز المنحرفة

يعتبر الحوار إحدى الوسائل التي تقع في طريق إصلاح الناس، حيث تزعزع المناظرة الهادفة والحوار السليم الأفكار والمفاهيم المنحرفة.

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٦٧ / ٢١١.

(٢) المصدر السابق: ٣ / ٢٦٤.

(٣) المصدر السابق: ٢ / ٢٩٨.

٩١

من هنا قام الإمامعليه‌السلام بمحاورة بعض رؤوس المخالفين، لتأثيرهم الكبير على أتباعهم لو صلحوا واستقاموا على الحقّ. وإليك بعض مناظراته:

مع علماء النصارى: حينما أخرج هشام بن عبد الملك الإمامعليه‌السلام من المدينة إلى الشام كانعليه‌السلام يجلس مع أهل الشام في مجالسهم، فبينا هو جالس وعنده جماعة من الناس يسألونه، اذ نظر إلى النصارى يدخلون في جبل هناك، فسأل عن حالهم، فأُخبر أنهم يأتون عالماً لهم في كل سنة في هذا اليوم يسألون عمّا يريدون وعمّا يكون في عامهم، وقد أدرك هذا العالم أصحاب الحوارييّن من أصحاب عيسىعليه‌السلام ، فقال الإمامعليه‌السلام : فهلمّ نذهب إليه؟ فذهبعليه‌السلام إلى مكانهم، فقال له النصراني: أسألك أو تسألني؟ قالعليه‌السلام : تسألني، فسأله عن مسائل عديدة حول الوقت، وحول أهل الجنّة، وحول عزرة وعزير، فأجابهعليه‌السلام عن كل مسألة.

فقال النصراني: يا معشر النصارى، ما رأيت أحداً قطّ أعلم من هذا الرجل لا تسألوني عن حرف وهذا بالشام ردّوني فردّوه إلى كهفه، ورجع النصارى مع الإمامعليه‌السلام .

وفي رواية: أنّه أسلم وأسلم معه أصحابه على يد الإمامعليه‌السلام (١) .

مع هشام بن عبد الملك: ناظره هشام بن عبد الملك في مسائل متنوعة تتعلق بمقامات أهل البيتعليهم‌السلام ، وميراثهم لعلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وادعاء الإمام عليعليه‌السلام علم الغيب، فأجابه الإمامعليه‌السلام عن مسائله المتنوعة وناظره في إثبات مقامات أهل البيتعليهم‌السلام مستشهداً بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة،

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣١٣ ـ ٣١٥.

٩٢

فلم يستطع هشام أن يردّ عليه، وناظره في مواضع أخرى، فقال له هشام: (أعطني عهد الله وميثاقه ألاّ ترفع هذا الحديث إلى أحد ما حييت)، قال الإمام الصادقعليه‌السلام :فأعطاه أبي من ذلك ما أرضاه (١) .

وقد ذكرنا تفصيل المناظرتين في بحث سابق فراجع(٢) .مع الحسن البصري: قال له الحسن البصري: جئت لأسألك عن أشياء من كتاب الله تعالى.

وبعد حوار قصير قال لهعليه‌السلام :بلغني عنك أمر فما أدري أكذاك أنت؟ أم يُكذب عليك؟ قال الحسن: ما هو ؟

قالعليه‌السلام :زعموا أنّك تقول: إنَّ الله خلق العباد ففوّض إليهم أمورهم .

فسكت الحسن... ثمّ وضّح له الإمامعليه‌السلام بطلان القول بالتفويض وحذّره قائلاً:وإيّاك أن تقول بالتفويض، فإنّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يفوّض الأمر إلى خلقه، وهناً منه وضعفاً، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً (٣) .

ولهعليه‌السلام مناظرات مع محمد بن المنكدر ـ من مشاهير زهاد ذلك العصر ـ ومع نافع بن الأزرق أحد رؤساء الخوارج، ومع عبد الله بن معمر الليثي، ومع قتادة بن دعامة البصري(٤) واحتجاجات لا يتحمّل شرحها هذا المختصر.

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣١٣ ـ ٣١٥.

(٢) راجع مبحث: ملامح وأبعاد هامة في عصر الإمام الباقرعليه‌السلام .

(٣) الاحتجاج: ٢/١٨٤.(٤) أعيان الشيعة: ١/٦٥٣ .

٩٣

٣ ـ إدانة فقهاء البلاط

جاء قتادة بن دعامة البصري إلى الإمامعليه‌السلام وقد هيّأ له أربعين مسألة ليمتحنه بها، فقال لهعليه‌السلام :أنت فقيه أهل البصرة؟ قال قتادة: نعم، فقالعليه‌السلام :(ويحك يا قتادة إن الله عَزَّ وجَلَّ خلق خلقاً، فجعلهم حججاً على خلقه، فهم أوتاد في أرضه، قوّام بأمره، نجباء في علمه اصطفاهم قبل خلقه) ، فسكت قتادة طويلاً، ثم قال: أصلحك الله، والله لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدّام أحد منهم ما اضطرب قدّامك(١) .

وأدان الإمام الباقرعليه‌السلام أبا حنيفة لقوله بالقياس، وعلّق الأستاذ محمد أبو زهرة على هذه الإدانة قائلاً: تتبيّن إمامة الباقر للعلماء، يحاسبهم على ما يبدو منهم، وكأنّه الرئيس يحاكم مرءوسيه ليحملهم على الجادة، وهم يقبلون طائعين تلك الرئاسة(٢) .

٤ ـ الدعوة إلى أخذ الفكر من مصادره النقيّة

لقد حذّر الإمامعليه‌السلام الناس من الوقوع في شراك الأفكار والآراء والعقائد المنحرفة، وحذّر من البدع وجعلها أحد مصاديق الشرك فقال:(أدنى الشرك أن يبتدع الرجل رأياً فيُحَبّ عليه ويبغَض) (٣) .

كما حذّر من الإفتاء بالرأي فقال:(من أفتى الناس بغير علم ولا هوى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه) (٤) .

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣٥٧.

(٢) تاريخ المذاهب الإسلامية: ٦٨٩.

(٣) المحاسن: ٢٠٧.

(٤) المصدر السابق: ٢٠٥.

٩٤

ومن هنا كان يدعو الناس إلى أخذ العلم والفكر من منابعه النقية وهم أهل البيت المعصومون من كل زيغ وانحراف. قالعليه‌السلام لسلمة بن كهيل وللحكم بن عتيبة:(شرّقا وغرِّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ شيئاً خرج من عندنا) (١) .

وكان يحذّر من مجالسة أصحاب الخصومات ويقول:(لا تجالسوا أصحاب الخصومات، فإنهم يخوضون في آيات الله) (٢) .

كما كان يشجع على ذكر مقامات أهل البيتعليهم‌السلام وفضائلهم فإنّها من أسباب نشر الحق والفضيلة، فعن سعد الإسكاف، قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : إني أجلس فأقصّ، وأذكر حقكم وفضلكم. فقالعليه‌السلام :(وددت أن على كل ثلاثين ذراعاً قاصّاً مثلك) (٣) .

٥ ـ نشر علوم أهل البيتعليهم‌السلام

لقد فتح الإمامعليه‌السلام أبواب مدرسته العلمية لعامة أبناء الأمة الإسلامية، حتى وفد إليها طلاب العلم من مختلف البقاع الإسلامية، وأخذ عنه العلم عدد كبير من المسلمين بشتى اتّجاهاتهم وميولهم، منهم: عطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، والزهري، وربيعة الرأي، وابن جريج، والأوزاعي، وبسام الصيرفي(٤) ، وأبو حنيفة وغيرهم(٥) .

وفي ذلك قال عبد الله بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً

ــــــــــــــ

(١) الكافي: ١ / ٣٩٩.

(٢) كشف الغمّة: ٢ / ١٢٠.

(٣) رجال الكشي: ٢١٥.

(٤) سير أعلام النبلاء: ٤ / ٤٠١.

(٥) تاريخ المذاهب الإسلامية: ٣٦١.

٩٥

منهم عند أبي جعفر، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه متعلم(١) .

وكانت أحاديثه مسندة عن آبائه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما كان يرسل الحديث ولا يسنده. وحينما سئل عن ذلك، قال:إذا حدّثت بالحديث فلم أسنده، فسندي فيه أبي زين العابدين عن أبيه الحسين الشهيد عن أبيه علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبرئيل عن الله عَزَّ وجَلَّ (٢) .

ثانياً: تأسيس المدرسة الفقهية النموذجية(٣)

لقد جهد الإمام الباقر وولده الصادقعليهما‌السلام على نشر الفقه الإسلامي وتبنّيا نشره بصورة إيجابية في وقت كان المجتمع الإسلامي غارقاً في الأحداث والاضطرابات السياسية، حيث أهملت الحكومات في تلك العصور الشؤون الدينية إهمالاً تاماً، حتى لم تعد الشعوب الإسلامية تفقه من أمور دينها القليل ولا الكثير، يقول الدكتور علي حسن: (وقد أدى تتبعنا للنصوص التاريخية إلى أمثلة كثيرة تدل على هذه الظاهرة ـ أي إهمال الشؤون الدينية ـ التي كانت تسود القرن الأول سواء لدى الحكام أو العلماء أو الشعب، ونعني بها عدم المعرفة بشؤون الدين، والتأرجح وعدم الجزم والقطع فيها حتى في العبادات، فمن ذلك ما روي أن ابن عباس خطب في آخر شهر رمضان على منبر البصرة فقال: اخرجوا صدقة صومكم فكان الناس لم يعلموا، فقال: من ها هنا من أهل المدينة؟ فقوموا إلى إخوانكم فعلموهم، فإنهم لا يعلمون فرض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) .

ــــــــــــــ

(١) مختصر تاريخ دمشق: ٢٣ / ٧٩.

(٢) إعلام الورى: ٢٩٤.

(٣) راجع حياة الإمام محمد الباقرعليه‌السلام ، باقر شريف القرشي ١/٢١٥ ـ ٢٢٦.

(٤) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: ٢ / ١٣١.

٩٦

فأهل البلاد الإسلامية لم يعرفوا شؤون دينهم معرفة كافية، وقد كان يوجد في بلاد الشام من لا يعرف عدد الصلوات المفروضة، حتى راحوا يسألون الصحابة عن ذلك(١) .

إن الدور المشرق الذي قام به الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام في نشر الفقه وبيان أحكام شريعة الله كان من أعظم الخدمات التي قدّماها للعالم الإسلامي.

وسعى إلى الأخذ من علومهما أبناء الصحابة والتابعون، ورؤساء المذاهب الإسلامية كأبي حنيفة ومالك وغيرهما، وتخرج على يد الإمام أبي جعفرعليه‌السلام جمهرة كبيرة من الفقهاء كزرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم وأبان بن تغلب، وإليهم يرجع الفضل في تدوين أحاديث الإمامعليه‌السلام وقد أصبحوا من مراجع الفتيا بين المسلمين، وبذلك أعاد الإمام أبو جعفرعليه‌السلام للإسلام نضارته وحافظ على ثرواته الدينية من الضياع والضمور.

ومن الجدير بالذكر أن الشيعة هم أول من سبق إلى تدوين الفقه فقد قال مصطفى عبد الرازق: (ومن المعقول أن يكون النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة لأن اعتقادهم العصمة في أئمتهم أو ما يشبه العصمة كان حرياً إلى تدوين أقضيتهم وفتاواهم)(٢) .

وبذلك فقد ساهمت الشيعة في بناء الصرح الإسلامي، وحافظت على أهم ثرواته... ولابد لنا من وقفة قصيرة للنظر في فقه أهل البيتعليهم‌السلام الذي هو مستمد من الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ــــــــــــــ

(١) سنن النسائي: ١ / ٤٢.

(٢) تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية: ص٢٠٢.

٩٧

مميّزات مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام الفقهيّة

١ ـ الاتصال بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والشيء المهم في فقه أهل البيتعليهم‌السلام هو أنه يتصل اتصالاً مباشراً بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فطريقه إليه أئمة أهل البيتعليهم‌السلام الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وجعلهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفن النجاة، وأمن العباد، وعدلاء الذكر الحكيم حسبما تواترت الأخبار بذلك.

قالعليه‌السلام :(لو أننا حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من قبلنا، ولكنا حدثنا ببينة من ربنا بينها لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبينها لنا) (١) .

٢ ـ المرونة: إن فقه أهل البيت يساير الحياة، ويواكب التطور، ولا يشذ عن الفطرة ويتمشى مع جميع متطلبات الحياة، فليس فيه ـ والحمد لله ـ حرج ولا ضيق، ولا ضرر، ولا إضرار، وإنما فيه الصالح العام، والتوازن في جميع مناحي تشريعاته، وقد نال إعجاب جميع رجال القانون، واعترفوا بأنه من أثرى ما قنن في عالم التشريع عمقاً وأصالة وإبداعاً.

٣ ـ فتح باب الاجتهاد: إنّ من أهم ما تميز به فقه أهل البيتعليهم‌السلام هو فتح باب الاجتهاد، فقد دلّ ذلك على حيوية فقه أهل البيت، وتفاعله مع الحياة واستمراره في العطاء لجميع شؤون الإنسان، وإنه لا يقف مكتوفاً أمام الأحداث المستجدة التي يبتلى بها الناس خصوصاً في هذا العصر الذي برزت فيه كثير من الأحداث واستحدثت فيه كثير من الموضوعات، وقد أدرك كبار علماء المسلمين من الأزهر مدى الحاجة الملحّة إلى فتح باب الاجتهاد، ومتابعة الشيعة الإمامية في هذه الناحية.

ــــــــــــــ

(١) أعلام الورى: ٢٧٠.

٩٨

قال السيد رشيد رضا: (ولا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما، وأمّا مضارّه فكثيرة، وكلها ترجع إلى إهمال العقل، وقطع طريق العلم، والحرمان من استغلال الفكر، وقد أهمل المسلمون كل علم بترك الاجتهاد، فصاروا إلى ما نرى)(١) .

٤ ـ الرجوع إلى حكم العقل: انفرد فقهاء الإمامية عن بقية المذاهب الإسلامية فجعلوا العقل واحداً من المصادر الأربعة لاستنباط الأحكام الشرعية، وقد أضفوا عليه أسمى ألوان التقديس فاعتبروه رسول الله الباطني، وإنه مما يُعبَد به الرحمن، ويكتَسب به الجنان. ومن الطبيعي ان الرجوع إلى حكم العقل إنّما يجوز إذا لم يكن في المسألة نص خاص أو عام وإلا فهو حاكم عليه، وإن للعقل مسرحاً كبيراً في علم الأصول الذي يتوقف عليه الاجتهاد.

ثالثاً: الإصلاح السياسي

استثمر الإمامعليه‌السلام بعض ظروف الانفراج السياسي النسبي من أجل بناء وتوسعة القاعدة الشعبية، وتسليحها بالفكر السياسي السليم المنسجم مع رؤية أهل البيتعليهم‌السلام ، وتعبئة الطاقات لاتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب، ولهذا لم تنطلق أي ثورة علوية في عهده، لعدم اكتمال شروطها من حيث العدة والعدد.

وكان الإمامعليه‌السلام يقدّم للأمة المفاهيم والأفكار السياسية الأساسية مع الحيطة والحذر; وكانت له مواقف سياسية صريحة من بعض الحكام لإعادتهم إلى جادة الصواب.

وقد تجلّى دوره الإصلاحي في الممارسات التالية:

١ ـ الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحرّران الإنسان والمجتمع من ألوان الانحراف في الفكر والعاطفة والسلوك، ويحوّلان المفاهيم والقيم الإسلامية الثابتة إلى ممارسات سلوكية واضحة المعالم، تترجم فيها الآراء والنصوص إلى مشاعر وعواطف وأعمال وحركات وعلاقات متجسدة في الواقع لكي تكون الأمة والدولة بمستوى المسؤولية في الحياة، والمسؤولية هي حمل الأمانة الإلهية وخلافة الله تعالى في الأرض.

ــــــــــــــ

(١) الوحدة الإسلامية: ٩٩.

٩٩

ومن هنا جاءت تأكيدات الإمامعليه‌السلام على هذه الفريضة التي جعلها شاملة لجميع مرافق الحياة الإنسانية حيث قال:(إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصالحين، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض، وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر، فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم...) (١) .

وحذّرعليه‌السلام من مغبّة التخليّ عن المسؤولية، ومداهنة المنحرفين حكّاماً كانوا أم من سائر أفراد الأمة فقال: (أوحى الله تعالى إلى شعيب النبيعليه‌السلام إنّي لمعذّب من قومك مائة ألف: أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم، فقال: يا ربّ هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار ؟

فأوحى الله عَزَّ وجَلَّ إليه: إنهم داهنوا أهل المعاصي، ولم يغضبوا لغضبي)(٢) .

وحثعليه‌السلام على هذه المسؤولية وبيّن آثار التخلي عنها فقال:(الأمر

ــــــــــــــ

(١) تهذيب الأحكام: ٦ / ١٨٠.

(٢) المصدر السابق: ٦ / ١٨١.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

ومطيفون بمنزله ومحلّ إقامته في تلك الديار السعيدة كما جاء في الأخبار الكثيرة ويعلم منها أنّهم قالوا : شيعتنا معنا وفي درجتنا في الجنّة(١) وبناءاً على هذا تكون الأرواح هي نفسها باعتبار مصاحبتها الأبدان المثاليّة والأجساد البرزخيّة

ويمكن أن يراد من الفناء مقام نفس سيّد الشهداء ودرجته الروحيّة والكماليّة التي نالت شرف هذا السموّ لدنوّها المعنوي من الأحديّة وجلالتها في حضرة الربوبيّة ، إذ لا بدع أن يصل هؤلاء الأصحاب ببركة هذا الإمام العظيم وبقوّة انجذابهم بهداية ذلك الولي المقتدر إلى تلك الرتبة الرفيعة والدرجة المنيعة ، كما كان يقولعليه‌السلام : ما رأيت أصحاباً أبرّ وأوفى من أصحابي وكانوا كما قالعليه‌السلام لأنّ عقولهم تفتّحت على الحقّ فأصمّوا آذانهم عن كلّ نداء غير ندائه فما سمعوه ولن يسمعوه

لمؤلّفه :

فبي وأبي هم من نفوس زكيّة

غدت في السبيل الحقّ منتهكات(٢)

تنبيه :

اختلف العلماء والمؤرّخون اختلافاً عظيماً في عدد الشهداء من أصحاب الحسين الذين كانوا في ركاب سعادته ولكن الشيخ المفيدقدس‌سره في كتاب الإرشاد ، وابن الأثير في الكامل(٣) ، والدياربكري في الخميس ، والقرماني في أخبار الدول وغيره وظاهر المحكي عن البلاذري والواقدي والمدائني والطابري وغيرهم من

_________________

(١) الريان بن شبيب بنقل عن الإمام الرضاعليه‌السلام أمالي الصدوق مجلس ٢٧ رقم ٥ ، عيون أخبار الرضا ١ : ٢٩٩ بحار الأنوار ٤٤ : ٢٨٦ رقم ٢٣ ( هامش الأصل )

(٢) كريمة ديوان المؤلّف : ٣٧

(٣) كامل ابن الأثير ٤ : ٨٠ ط بيروت ( هامش الأصل )

٢٤١

مهرة الصناعة المعتمد عندهم أنّهم اثنان وسبعون رجلاً ؛ الفرسان منهم اثنان وثلاثون ، والرجّالة أربعون

ونقل صاحب العقد الفريد جملة عن زحر بن قيس لعنه الله تدلّ على أنّهم سبع وسبعون إنساناً ، ونسب هذه العبارة في حياة الحيوان وتاريخ الخميس إلى شمر بن ذي الجوشن لعنه الله ، ونقل في الإرشاد والفصول المهمّة عن زحر أيضاً أنّهم ثمانٍ وسبعون ، قال : ورد علينا الحسين في ثمانية عشر من أهل بيته وستّين من شيعته(١) وهذا يطابق ما نقله البحار عن محمّد بن أبي طالب من أنّ عدد الرؤوس ثمانٍ وسبعون رأساً(٢)

ويظهر من عبارة الكشّي في ترجمة حبيبعليه‌السلام أنّهم كانوا سبعين رجلاً بذلوا لهم الأموال وأعطوهم الأمان فلم يزدهم ذلك إلّا إصراراً على الموت وكانوا يستقبلون جبال الحديد وحدود السيوف والرماح بالنحور والصدور في حبّ سيّد الشهداء ، وبالطبع كان فيهم الصبي الذي لم يبلغ الحلم ، وهذا الخبر أقرب إلى رواية الثمانية والسبعين

وفي مطالب السئول والفصول المهمّة أنّهم اثنان وثمانون رجلاً

وفي مروج الذهب وشرح أبوالعبّاس الشريشي على مقامات الحريري أنّهم سبعٌ وثمانون

واختار ابن الجوزي في رسالة الردّ على المتعصّب العنيد وسبطه والشيخ محمّد الصبّان في التذكرة والإسعاف أنّهم مائة وخمس وأربعون ؛ الفرسان منهم خمس وأربعون ، والرجال مائة راجل ، ونسب هذا العدد السيّد في اللهوف إلى الإمام الباقرعليه‌السلام

_________________

(١) بحار الأنوار ٤٥ : ١٢٩ و ١٤٩ ( هامش الأصل ) وتمّت مطابقته ( المترجم )

(٢) بحار الأنوار ٤٥ : ٦٢ ( هامش الأصل ) جرت مطابقته ( المترجم )

٢٤٢

وقال أيضاً في تذكرة الخواص : وقال قوم : كان أصحاب الحسينعليه‌السلام سبعين فارساً ومائة راجل

وروى السيّد الأجل الأزهد ابن طاووسرضي‌الله‌عنه في كتاب الإقبال رواية بسند حسن زيارة من الناحية المقدّسة تتضمّن أسامي الشهداء وأسامي قاتليهم لعنهم الله غالباً والإشارة إلى بعض الوقايع ونحن طلباً للبركة بهذه الزيارة وعموم نفعها ننقلها عينها من كتاب « الإقبال »(١) :

السلام عليك يا أوّلَ قتيلٍ من نسل خير سليل من سلالة إبراهيم الخليل ، صلّى الله عليك وعلى أبيك إذ قال فيك : قتل الله قوماً قتلوك يا بُني ، ما

_________________

(١) والعبارة في الإقبال كما يلي : فصل فيما نذكره من زيارة الشهداء في يوم عاشوراء رويناها بإسنادنا إلى جدّي أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسيرحمه‌الله قال : حدّثنا الشيخ أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن عيّاش [ الظاهر أحمد بن محمّد بن عيّاش معاصر الشيخ لكن نسختي من الإقبال ومن البحار كما ذكرت فنتّبع منهرحمه‌الله ] قال : حدّثني الشيخ صالح أبو منصور بن عبدالمنعم بن النعمان البغداديرحمه‌الله قال : خرج من الناحية [ وظاهراً المراد بالناحية الإمام الحسن العسكري كما هو شايع في كثير من الأخبار مثل هذا الإطلاق لأنّ هذا التاريخ سابق على ولادة الإمام صاحب الزمانعليه‌السلام ـ منهرحمه‌الله ] سنة اثنتين وخمسين ومأتين(١) على يد الشيخ محمّد بن غالب الاصفهاني حين وفاة أبيرحمه‌الله وكنت حديث السنّ وكتبت أستأذن في زيارة مولاي أبي عبد الله وزيارة الشهداء رضوان الله عليهم ، فخرج إليّ منه : « بسم الله الرحمان الرحيم ، إذا أردت زيارة الشهداء رضوان الله عليهم فقف عند رجلي الحسين وهو قبر عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما فاستقبل القبلة بوجهك فإنّ هناك حومة الشهداءعليهم‌السلام وأوم وأشر إلى عليّ بن الحسين وقل : السلام ، إلى آخر الزيارة » ( منهرحمه‌الله )

______________

(١) هكذا في جميع النسخ إلّا أنّ هذا التاريخ لا يناسب ولادة وغيبة الإمام المهديعليه‌السلام بفصل عدّة سنوات فيحتمل تصحيف الرقم ، أو أنّها وردت عن الإمامعليه‌السلام العسكري وقد ذكر العلّامة المجلسي هذين الاحتمالين في البحار ١٠١ : ٢٧٤ كما ذكر عوالم العلوم ٦٣ : ٧٨٧ مخطوط ، هذه الرواية تحت عنوان : الأخبار الأئمّة القائم أو أبيه ( المحقّق )

٢٤٣

أجرأهم على الرحمان وعلى انتهاك حرمة الرسول ، على الدنيا بعدك العفا ، كأنّي بك بين يديه ماثلاً وللكافرين قائلاً :

أنا عليّ بن الحسين بن علي

نحن وبيت الله أولى بالنبي

أطعنكم بالرمح حتّى ينثني

أضربكم بالسيف أحمي عن أبي

ضرب غلام هاشميّ عربي

والله لا يحكم فينا ابن الدعي

حتّى قضيت نحبك ، ولقيت ربّك ، أشهد أنّك أولى بالله وبرسوله ، وأنّك ابن رسوله وحجّته ودينه ، وابن حجّته وأمينه ، حكم الله على قاتلك مرّة بن منقذ بن النعمان العبدي لعنه الله وأخزاه ومن شركه في قتلك وكان عليك ظهيراً ، أصلاهم الله جهنّم وسائت مصيراً ، وجعلنا الله من ملاقيك ومرافقيك ومرافقي جدّك وأبيك وعمّك وأخيك وأُمّك المظلومة ، وأبرأ إلى الله من قاتليك ، وأسأل الله مرافقتك في دار الخلود ، وأبرأ إلى الله من أعدائك أُولي الجحود ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته

السلام على عبد الله بن الحسين الطفل الرضيع المرمي الصريع المتشحّط دماً ، المصعّد دمه في السماء ، المذبوح بالسهم في حجر أبيه ، لعن الله راميه حرملة بن كاهل الأسدي وذويه

السلام على عبد الله بن أمير المؤمنين مبلي البلاء ، والمنادي بالولاء في عرصة كربلاء ، المضروب مقبلاً ومدبراً ، لعن الله قاتله هاني بن ثبيت الحضرمي

السلام على أبي الفضل العبّاس بن أمير المؤمنين ، المواسي أخاه بنفسه ، الآخذ لغده من أمسه ، الفادي له ، الوافي الساعي إليه بمائه ، المقطوعة يداه ، لعن الله قاتليه يزيد بن الرقاد الجهني وحكيم بن الطفيل الطائي

السلام على جعفر بن أمير المؤمنين الصابر بنفسه محتسباً ، والنائي عن

٢٤٤

الأوطان مغترباً ، المستسلم للقتال ، المستقدم للنزال ، المكثور بالرجال ، لعن الله قاتله هاني بن ثبيت الحضرمي

السلام على عثمان بن أمير المؤمنين سميّ عثمان بن مظعون ، لعن الله راميه بالسهم خولي بن اليزيد الأصبحي الأيادي والأباني الدارمي

السلام على محمّد بن أمير المؤمنين قتيل الأيادي الدارمي لعنه الله وضاعف عليه العذاب الأليم ، وصلّى الله عليك يا محمّد وعلى أهل بيتك الصابرين

السلام على أبي بكر بن الحسن الزكي الولي المرمي بالسهم الردي ، لعن الله قاتله عبد الله بن عقبة الغنوي

السلام على عبد الله بن الحسن الزكي ، لعن الله قاتله وراميه حرملة بن كاهل الأسدي

السلام على القاسم بن الحسن بن علي المضروب على هامته ، المسلوب لامته حين نادى الحسين عمّه فجلى عليه عمّه كالصقر وهو يفحص برجليه التراب والحسين يقول : بُعداً لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدّك وأبوك ، ثمّ قال : عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك أو أن يجيبك وأنت قتيل جديل فلا ينفعك ، هذا والله يوم كثر واتره وقلّ ناصره ، جعلني الله معكما يوم جمعكما ، وبوّأني تبوّأكما ، ولعن الله قاتلك عمر بن سعد بن عروة بن نفيل الأزدي وأصلاه جحيماً وأعدّ له عذاباً

السلام على عون بن عبد الله بن جعفر الطيّار في الجنان حليف الإيمان ومنازل الأقران ، الناصح للرحمان ، التالي للمثاني والقرآن ، لعن الله قاتله عبد الله بن قطبة النبهاني

السلام على محمّد بن عبد الله بن جعفر الشاهد مكان أبيه ، والتالي لأخيه ، وواقيه ببدنه ، لعن الله قاتله عامر بن نهشل التميمي

٢٤٥

السلام على جعفر بن عقيل ، لعن الله قاتله وراميه عمر بن خالد بن أسد الجهني

السلام على القتيل ابن القتيل عبد الله بن مسلم بن عقيل ، ولعن الله قاتله عامر ابن صعصعة [ وقيل : أسد بن مالك ]

السلام على أبي عبد الله بن مسلم بن عقيل ، ولعن الله قاتله وراميه عمر بن صبيح الصيداوي

السلام على محمّد بن أبي سعيد بن عقيل ، ولعن الله قاتله لقيط بن ناشر [ لقيط بن ياسر ـ خ ل ] الجهني

السلام على سليمان مولى الحسين بن أمير المؤمنين ، ولعن الله قاتله سليمان ابن عوف الحضرمي

السلام على قارب مولى الحسين بن عليّعليهما‌السلام

السلام على منجح مولى الحسين بن عليّعليهما‌السلام

السلام على مسلم بن عوسجة الأسدي القائل للحسين وقد أذن له بالانصراف : أنحن نخلّي عنك وبم نعتذر عند الله من أداء حقّك ، لا والله حتّى أكسر في صدورهم رمحي هذا ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولا أُفارقك ، ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، ولم أُفارقك حتّى أموت معك وكنت أوّل من شرى نفسه ، وأوّل شهيد شهد لله وقضى نحبه ففزت وربّ الكعبة ، شكر الله لك استقدامك ومواساتك إمامك إذ مشى إليك وأنت صريع فقال : يرحمك الله يا مسلم بن عوسجة ، وقرأ : ومنهم( مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ) (١) لعن الله

_________________

(١) الأحزاب : ٢٣

٢٤٦

المشتركين في قتلك عبد الله الضبابي وعبد الله بن خشكارة البجلي ومسلم بن عبد الله الضبابي

السلام على سعد بن عبد الله الحنفي القائل للحسينعليه‌السلام وقد أذن له في الانصراف : لا والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيك ، والله لو أعلم أنّي أُقتل ثمّ أُحيا ثمّ أُحرق ثمّ أُبعث حيّاً ثمّ أُذرى ويفعل بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك وكيف أفعل ذلك وإنّما هي موتة أو قتلة واحدة ثمّ بعدها هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً ، فقد لقيت حمامك وواسيت إمامك ولقيت من الله الكرامة في دار المقامة ، حشرنا الله معك في المستشهدين ورزقنا مرافقتكم في أعلا علّيّين

السلام على بشر بن عمرو الحضرمي ، شكر الله لك سعيك لقولك للحسين وقد أذن لك في الانصراف : أكلتني إذاً السباع حيّاً إن كان فارقتك وأسأل عنك الركبان ، وأخذلك مع قلّة الأعوان ، لا يكون هذا أبداً

السلام على يزيد بن الحصين الهمداني المشرقي القاري المجدل بالمشرفي السلام على عمرو بن كعب الأنصاري ، السلام على نعيم بن العجلان الأنصاري

السلام على زهير بن القين البجلي ، القائل للحسينعليه‌السلام وقد أذن له في الانصراف : لا والله لا يكون ذلك أبداً ، أترك ابن رسول الله أسيراً في يد الأعداء وأنجو أنا ؟ لا أراني الله ذلك اليوم

السلام على عمرو بن قرظة الأنصاري ، السلام على حبيب بن مظاهر الأسدي ، السلام على الحرّ بن يزيد الرياحي ، السلام على عبد الله بن عمير الكلبي ، السلام على نافع بن هلال بن نافع البجلي المرادي ، السلام على أنس ابن كاهل الأسدي ، السلام على قيس بن مسهّر الصيداوي ، السلام على جون

٢٤٧

ابن حوىٰ مولى أبي ذر الغفاري ، السلام على شبيب بن عبد الله النهشلي ، السلام على الحجّاج بن زيد السعدي

السلام على قاسط وكردوس ( كرش ـ خ ل ) ابني زهير التغلبيّين ، السلام على كنانة بن عتيق ، السلام على ضرغامة بن مالك ، السلام على حوي بن مالك الضبعي ، السلام على زيد بن ثبيت القيسي ، السلام على عبد الله وعبيد الله ابني يزيد بن ثبيت القيني ( القيسي ـ خ ل ) ، السلام على عامر بن مسلم ، السلام على قعنب بن عمرو التمري ، السلام على سالم مولى عامر بن مسلم ، السلام على سيف بن مالك ، السلام على زهير بن بشر الخثعمي ، السلام على زيد بن معقل الجعفي

السلام على مسعود بن الحجّاج وأبيه ، السلام على مجمع بن عبد الله العائذي ، السلام على عمّار بن حسّان بن شريح الطائي ، السلام على حبّاب ابن الحارث السلماني الأزدي ، السلام على جندب بن حجر الخولاني ، السلام على عمر بن خالد الصيداوي ، السلام على سعيد مولاه ، السلام على يزيد بن زياد بن مهاصر الكندي ، السلام على زاهد مولى عمرو بن الحمق الخزاعي ، السلام على جبلة بن علي الشيباني ، السلام على سالم مولى بني المدينة الكلبي ، السلام على أسلم بن كثير الأزدي الأعرج ، السلام على زهير ابن سليم الأزدي ، السلام على قاسم بن حبيب الأزدي ، السلام على عمرو بن جندب الحضرمي ، السلام على أبي ثمامة عمر بن عبد الله الصائدي ، السلام على حنظلة بن سعد الشبامي ، السلام على عبد الرحمان بن عبد الله بن الكدر الأرحبي ، السلام على عمّار بن أبي سلامة الهمداني

السلام على عابس بن أبي شبيب الشاكري ، السلام على شوذب مولى شاكر ، السلام على شبيب بن الحارث بن سريع ، السلام على مالك بن عبد الله بن

٢٤٨

سريع ، السلام على الجريح المأسور سوار بن أبي حمير الفهمي الهمداني ، السلام على المرتب معه عمرو بن عبد الله الجندعي

السلام عليكم يا خير أنصار الله ، السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ، بوّأكم الله مبوّأ الأبرار ، أشهد لقد كشف الله لكم الغطاء ، ومهّد لكم الوطاء ونحن لكم خلطاء في دار البقاء ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(١)

وهذه الزيارة مؤيّدة لأقوال ابن طلحة وابن الصبّاغ لأنّ عدد الأسماء المذكورة فيها بلغت اثنين وثمانين اسماً وفي جملتهم الطالبيّون السبعة عشره وهي الرواية الأشهر كما رويت عن الباقرعليه‌السلام وإنّه قال : قتل من أولاد فاطمة سبعة عشر إنساناً(٢)

ونقل ابن عبد ربّه في ( العقد ) بواسطة روح عن زحر بن قيس الجعفي لعنه الله في مجلس يزيد ، كما ذكر ابن عبد ربّه بواسطة أبي الحسن المدائني عن الحسن البصري أنّ قتلى أولاد أبي طالبعليهم‌السلام ستّة عشر نفساً ويؤيّده شعر سراقة الباهلي حيث يقول :

عين بكّي بعبرة وعويلي

واندبي إن ندبت آل الرسول

تسعة منهم لصلب عليٍّ

قد أُصيبوا وسبعة لعقيلي

وفي البحار(٣) عن المناقب القديمة عن بستان الطرف نقل نفس الخبر وقال : وفي رواية أُخرى أنّ الحسن بلغ بهم سبعة عشر

وفي رواية ألعيون والأمالي عن الريّان بن شبيب خال المعتصم الخليفة العبّاسي عن الإمام الرضاعليه‌السلام أنّهم ثمانية عشر نفساً(٤)

_________________

(١) بحار الأنوار ٤٥ : ٦٥ نقلاً عن الإقبال ( هامش الأصل )

(٢) بحار الأنوار ٤٥ : ٦٣ ط لبنان ( هامش الأصل )

(٣) بحار الأنوار ٤٥ : ٦٤ ط لبنان ( هامش الأصل )

(٤) العيون ١ : ٢٩٩ باب ٢٨ ح ٥٨ نشر رضا مشهدى

٢٤٩

ويقول سبط ابن الجوزي : حاصل الروايات والأقوال أنّ القتلى تسعة عشر ، وذكر خبراً عن محمّد بن الحنفيّة يؤيّد دعواه

ويقول ابن أبي الحديد في ذيل كلام الجاحظ حول مفاخرة بني هاشم بكثره القتلى : قلت : هذا أيضاً من تحامل أبي عثمان ، هلّا ذكر قتلى الطفّ وهم عشرون سيّداً من بيت واحد قُتلوا في ساعة واحدة ! وهذا ما لم يقع مثله في الدنيا ؛ لا في العرب ولا في العجم(١)

ونقل عن أبي الفرج في مقاتل الطالبيين : إنّ القدر المسلّم أنّهم اثنان وعشرون شهيداً(٢)

وقال ابن شهرآشوب وصاحب المناقب ومحمّد بن أبي طالب : اختلفوا في عدد المقتولين من أهل البيتعليهم‌السلام فالأكثرون على أنّهم كانوا سبعة وعشرين(٣)

وفي مصباح الشيخ الطوسيرحمه‌الله عن الصادقعليه‌السلام : تجلّت الهيجاء عن آل رسول_________________

وفي رواية ابن عبّاس عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : يدفن الحسينعليه‌السلام فيها وسبعة عشر رجلاً من ولدي وولد فاطمة وإنّها لفي السماوات معروفة ( بحار الأنوار ٤٤ : ٢٥٣ عن أمالي الصدوق المجلس ٨٧ رقم ٥ ) وفي رواية كمال الدين عن مجاهد عن ابن عبّاس عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : وهذه أرض كرب وبلاء يُدفن فيها الحسين وتسعة عشر كلّهم من ولدي وولد فاطمة ( اثبات الهداة ٢ : ٤١٢ )

وفي رواية معاوية بن وهب عن جعفر بن محمّد قال : يا شيخ ، ذاك دم يطلب الله تعالى به ما أصيب من ولد فاطمةعليها‌السلام ولا يُصابون بمثل الحسين ولقد قتلعليه‌السلام في سبعة عشر من أهل بيته نصحوا لله ( بحار الأنوار ٤٥ : ٣١٣ نقلاً عن أمالي المفيد )

وفي كامل ابن الأثير ٤ : ٨٣ : فدخل زحر بن قيس على يزيد فقال : ما وراءك ؟ فقال : ابشر يا أمير المؤمنين بفتح الله وبنصره ! ورد علينا الحسين بن عليّ في ثمانية عشر من أهل بيته وستّين من شيعته ( هامش الأصل )

(١) شرح نهج البلاغة ١٥ : ٢٥١ ( المترجم )

(٢) مقاتل الطالبيين : ٦٧ ، بحار الأنوار ٤٥ : ٦٣ ط لبنان

(٣) بحار الأنوار ٤٥ : ٦٢ ( المترجم ) وفي هامش الأصل : ثمانٍ وعشرون

٢٥٠

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وانكشفت الملحمة عنهم وفي الأرض منهم ثلاثون صريعاً(١) (٢)

وأكثر هذه الأقوال يمكن جمعها حيث تكون حجّة أو مظنونة الاعتبار لأنّ في بعضها ورد القول : أولاد فاطمة ، والظاهر انّ المراد منها فاطمة بنت أسد وتساوق لفظ « طالبي » وفي بعضها آل الرسول وهو أعمّ من أولاد أبي طالب لأنّه يشمل أولاد أبي لهب أيضاً ففي بعض الأخبار أنّهم حضروا واقعة الطفّ ، وزيارة الناحية ليست صريحة في انحصارهم

ولكن بنظري القاصر أنّ رواية العيون والمحاسن أقوى من غيرها لأنّ سندها صحيح ومعتمد وهي مطابقة لما قاله زحر وشمر لعنهما الله في رواية الإرشاد وحياة الحيوان والفصول المهمّة وتاريخ الخميس وكانا في المعركة ، وتوافق رواية السيّد في اللهوف عن سيّد الساجدينعليه‌السلام حيث قال : رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي مضرّجين على رمضاء كربلاء ، وكذلك رواية البحار عن دلائل الإمامة عن سعيد بن المسيّب : لمّا بلغ عبد الله بن عمر قتل الحسين وثمانية عشر من أهل بيته ، ركب إلى الشام ، ولام يزيد على ذلك فأراه يزيد كتاب أبيه فرضي وسكت ، بالتفصيل الذي لا موقع لذكره الآن(٣)

ويمكن ردّ رواية محمّد بن الحنفيّة إلى هذه الرواية لأنّه قال : قتل تسعة عشر شابّاً من شباب آل محمّد كلّهم ركضوا في بطن فاطمة ويدخل في هذا العنوان سيّد الشهداء أيضاً وكلمة شباب الواردة في الرواية إنّما هي للتغليب لأنّ بعضهم في سنّ اللبن ، ولا يبعد أنّ من أوصلهم إلى سبعة عشر لم يعدّ عبد الله الرضيع

_________________

(١) مصباح المتهجّد : ٧٨٢ ولم يتوجّه المؤلّف إلى قول الإمامعليه‌السلام في مواليهم إذ أنّهم ومواليهم المقتولين معهم يشكّلون هذا العدد ( المترجم )

(٢) مصباح المتهجّد : ٥٤٨ ، بحار الأنوار ٤٥ : ٦٦ عنه ( هامش الأصل )

(٣) بحار الأنوار ٨ : ٢٢٠ مجلّد الفتن والمحن ط أُفست ( هامش الأصل )

٢٥١

منهم ، إذن بالاستناد إلى هذا القول يقرب المعنى كما أنّ شعر سراقة الباهلي يمكن أن تكون الكلمة الثانية ( سبعة لعقيل ) مصحّفة عن تسعة كما هي في الأُولى ( تسعة منهم لصلب علي ) وهذا التصحيف كثيراً ما يحصل في الروايات ، كما حدث في بعض المقاتل اليوم حيث كتب الاثنين « سبعة » وهذا مخالف للنسخ المتعدّدة المعتبرة كما أنّ تصحيف تسعة إلى سبعة وسبعين وتسعين وبالعكس كثير ، لذلك رأيت السيوطي في أدب المحاضرة والسحابة كثيراً ما يضبط اللفظة فيقول على سبيل المثال : سبعين ـ بالسين قبل الباء ـ

ومن هذا الباب ما وقع في تصحيف خمسة وتسعين يوماً بعد وفاة النبيّ الذي يوافق الثالث من جمادى الثانية ، والموافق لرواية الشيخ المفيد وأبي جعفر الطبري وابن طاووس والعلّامة والشهيد والكفعمي في وفاة الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها سلام الله ، رواية الخمسة والسبعين يوماً ، وهي رواية معروفة ، ونوكل هذا التفصيل إلى موضع آخر ، والله أعلم بالصواب

٢٥٢

عَلَيْكُمْ مِنِّي سَلامُ اللهِ(١)

_________________

(١) « عليك منّي سلام الله » وهنا أربعة أسئلة تفرض نفسها على الباحث :

١ ـ كيف يدرك الزائر معنى سلام الله ويبلغه الإمامعليه‌السلام

٢ ـ لماذا يقول « سلام الله » ولا يقول « سلامي »

٣ ـ كيف يبلغ سلام الله من قبله

٤ ـ عندما يعمد الإنسان إلى تبليغ سلام الله لا بدّ من انعتاقه من ذاته وتجرّده عن صفاته ليتمحّض في وجوده لوجه الله وينظر بنور الولاية

ومن أراد إبلاغ سلام الله لا بدّ من نظره إلى ذاته على أنّه مجرّد ظلّ ، فكيف الجمع بين هاتين النظرتين : نظرة المحو والصحو ، فهو من الجهة الاُولى يتجرّد عن ذاته ولا يشعر لها بوجود ، ومن الجهة الاُخرى يحسّ بها إحساساً ثانويّاً ظلّياً ، والفرق واضح بين الإحساس وعدمه

ونقول في الجواب عن الأوّل : لا يرتاب أحد في لزوم إدراك معنى سلام الله لمن أراد إبلاغه فلا يتيسّر ذلك لعامّة الناس لا سيّما ذوي الرتب الدانية فصاحبها يكلّف شططاً حين يؤمر بتبليغ ما لا يدرك ولا يعرف ، وتصبح المسألة عنده مرادفة للّغو من دون درك للحقيقة وإن لم يعدم الأجر والثواب على كلّ حال ، وعلينا أن نخاطب الإمام بهذه العبارة كما يقال في الصلاة وسائر العبادات الاُخرى

ولكن الزائر حين يلقى باله ويلقى نظره المعنوي إلى أصل نور الولاية من غير لواحق أو ملصقات كما أوضحه الكبار في موضعه يمكنه إدراك معنى سلام الله ، ومن ثَمّ إبلاغه :

گر به اين محجوب روئى آورى

پرده خود بينى از من بر درى

نور رويت گر كفيل ما شود

ظلمت خود بينى از ما مى رود

إذا أقبلت يوماً من الحقّ نظرة

واُوشك للمحجوب أن يهتك السترا

وخلّي الأنانيّات يربو ظلامها

فتلك خشار لا يباع ولا يشرى

فيطرد نور الحقّ عنه ظلامه

ويغدو بلبل الذات يطلعه بدرا

وتفكّروا في هذه الآيات والروايات

( نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) [ التحريم : ٨ ]( وَأَنِ اعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) [ يس : ٦١ ] وبناءاً على قرائة أهل البيتعليهم‌السلام فإنّهم قرأوا :( هَـٰذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ) [ الحجر : ٤١ ] ،( وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ
اللَّـهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ
) [ النور : ٤٠ ] « والمؤمن ينظر بنور الله » ، « بنوره عاداه الجاهلون » ، « بنوره آمن به المؤمن » ، « المؤمن نور ، مخرجه نور ، ومدخله نور ، كلامه نور ، منظره يوم القيامة إلى نور » ، « قلب

٢٥٣

أَبَداً مَا بَقِيتُ وَبَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ(١)

_________________

المؤمن عرش الرحمن » ، « والعرش معدن أنوار الله » و .

وأمّا الجواب عن السؤال الثاني ، نقول : في هذه العبارة نوع من الخضوع والتواضع كأنّما الزائر يقول : لمّا كان سلامي زهيداً لا يعدل شيئاً ، فليس من اللائق أن اُقدّمه للمولى ، ولكن سلام الله يليق بجنابه لذلك أقدمه له هديّة ، كما قال الشاعر :

سلام من الرحمن نحو جنابه

فإنّ سلامي لا يليق ببابه

درود خدا بر جنابش بود

سلامم نه لايق به بابش بود

وأمّا الجواب عن السؤال الثالث : لمّا كان الوافد للزيارة يهوىٰ أن يقدّم هديّة لمولاه لكي يزداد عنده قرباً بهذه الوسيلة فلم يجد أجدر به من سلام الله ، فيقول : سلام الله عليك منّي اُقدّمه هديّة لجنابك

ويقال في الجواب عن السؤال الرابع : إنّ من استضاء بنور الحقّ وصار نورانيّاً ومصداقاً من مصاديق الآية الشريفة( يَهْدِي اللَّـهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ) [ النور : ٣٥ ] واستطاع المخاطبة بلسان الحال :( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ
) فإنّ شخصاً كهذا بإمكانه تبليغ سلام الله فيقول : « عليك منّي سلام الله » ( المحقق )

(١) « أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار »

١ ـ الأبد معناه الدهر لأنّ الإنسان مخلوق للبقاء وحقيقته دهريّة ، والأبد عمر الدهر ومدّته ، وحينئذٍ يريد من الله تعالى أن يدوم هذا السلام ويتخطّى الدنيا والآخرة ويبقى بقاء الدهر وبناءاً على هذا يكون « أبداً » ظرفاً لما بقيت مقدّماً عليه « وبقي الليل والنهار » وهما ميزان الزمان ومعنى قوله « أبداً » أي ما دام الزمان ودام الليل والنهار فإنّ هذا السلام باقٍ وخلاصة المعنى طبقاً لهذا الاحتمال يكون كما يلي : سلامي عليك ما بقيت ببقاء الدهر وبقاء الليل والنهار وهما بقاء الزمان

٢ ـ الأبد يأتي بمعنى الزمان الطويل ، كما احتمل ذلك الشيخ الطريحي(١) وبناءاً على هذا يكون معنى العبارة كما يلي : من حين زيارتي إلى آخر عمري وما دام لليل والنهار بقاء ووجود فهذا السلام باقٍ وموجود

٣ ـ الأبد : ما لا آخر له ، ويقابل ما لا أوّل له ، وهو ذات الربوبيّة ، وبناءاً على هذا الاحتمال يكون المعنى كما يأتي : سلامي عليك إلى ما لا نهاية من يومي زيارتي إلى آخر وجودي وما دام الليل والنهار ( المحقق )

_____________

(١) عبارة الطريحي هكذا : وعن الراغب الأمد والأبد متقاربان لكن الأبد عبارة عن مدّة الزمان التي ليس لها حدّ محدود ولا يتقيّد يقال : أبداً كذا والأمد مدّة محصورة إذا اُطلق وينحصر نحو أن يقال : أمد كذا ( مجمع البحرين ١ : ٩٩ ـ المترجم )

٢٥٤

المنصوب في هذه العبارة على الحاليّة ومؤكّد للعموم المستفاد من ضمير الجمع وفي الحال المؤكّدة لا يلزم تقييد مضمون الجملة بل لا يماشى المعنى ومن هذا القبيل :( لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ) (١) وصرّح في الصحاح بأنّ جميعاً مؤكّدة وهی منصوبة على الحاليّة كما في الكشّاف وتفسير القاضي وغيرها ، وفي هذا المثال يستفاد من القضيّة أنّ الحال مؤكّدة تأكيد العموم وهذا يعتبر من تنبيهات ابن هشام

أبد : الظاهر أنّه مشتقّ من « الأبود » ومعناه الإقامة في مكان واستعماله بمعنى الدهر والدائم والقديم من هذا المعنى وفيما نحن فيه جائت بمعنى الدائم الأبدي وهذا الدوام المأخوذ في العبارة ظاهره على الحقيقة ، ودليله القول التالي : « ما بقي الليل والنهار » لأنّ ذلك كناية عن التأبيد كما يستعمل الأشباه والنظائر له في هذا المعنى

وأبداً منصوبة على الظرفيّة و « ما » في قوله : « ما بقيت » زمانيّة مصدريّة أي مدّة بقائي وبقاء الليل والنهار ، ويمكن أن تكون الكلمة لتأبيد السلام وقيداً للمبتدأ حيث أنّ التأبيدات والشرايط المتعارفة في الشعر من هذا القبيل ، وهذا المعنى أقرب وأنسب

ويمكن أن يقال في تأبيد معنى « عليكم منّي » أنّه الإهداء والإرسال ، أي أنّ سلام الله من جانبي عليكم ، ويكون المعنى على هذا الوجه أنّ حالي على هذا المنوال من دوام التسليم واستمراره عليكم ، على وجه ان كان دائماً فأنا المسلّم وهذا السلام الإجمالي منزل تنزيل السلام المستمر التفصيلي عرفاً وشرعاً واعتباراً

وهذا المعنى بعيدٌ كما هو الظاهر البيّن

_________________

(١) يونس : ٩٩

٢٥٥

وفي لفظ « منّي سلام الله » احتمالان :

الأوّل : إنزال الإنسان نفسه منزلة من يحمل سلام الله ويدّعي ذلك ويؤدّي سلام الله باعتباره يرى سلامه لا يليق بالمقام فهو يحمل سلام الله مكانه ، كهذا الشعر الذي أنشده البهائي في ديباجة بعض رسائله وصرّح بالجهة التي بيّناها :

سلام من الرحمان نحو جنابكم

فإنّ سلامي لا يليق ببابكم

وهذا الشعر وإن كان ضعيفاً إلّا أنّنا استشهدنا بمعناه(١)

والاحتمال الآخر : أنّ قول « سلام الله عليكم » دعاء بأن يرسل الله السلام عليهم ، ولمّا كان توجّه الداعي سبباً لهذه الرحمة والتسليم لهذا يعتبر هذا السلام ابتداءاً من الداعي وجاز له على هذا الوجه أن يقول منّي ، وفي السلام احتمالان :

الأوّل : أن يكون بمنزلة الصلاة المراد منه الرحمة لأنّ السلام تحيّة ، وتحيّة الله إكرام وإعظام من جانبه سبحانه وبلوغ المسلّم عليه إلى درجة القرب المعنوي ونزول أمطار الرحمة على أراضي الأرواح والأشباح

والاحتمال الآخر : معناه التسليم بمعنى أنّ الله تعالى طهّره وزكّاه من جميع العيوب المتصوّرة وحفظه من فقد الكمالات المترقّبة وأن يوصله إلى المعارج الرفيعة ، ولمّا كان بهذه المثابة كان حرماً آمناً ووسيلة محكمة ، وبهذا السبب يتمّ الارتباط الوثيق والمناسبة الثابتة بين المسلِّم والمسلَّم عليه حتّى أصبح رجاءاً للشفاعة وأملاً لوصول المثوبات العظيمة

وفي جواز السلام على غير النبي وانتفاعه بهذا السلام بحث نرجئه إلى شرح كلمة « صلّی الله عليه وآله وسلّم » المذكورة في الزيارة

_________________

(١) لست أرى فيه ضعفاً بل على العكس هو قويمّ مبتكر ولكن المؤلّف قرنه بشخصيّة قائله فبدى ضعيفاً لعظم هذه الشخصيّة ( المترجم )

٢٥٦

التنبيه :

هذه العبارة الشريفة من صناعات البديع تستعمل على صنعة « الالتفات » وهو عبارة عن الانتقال من أُسلوب الخطاب إلى أُسلوب الغيبة ، وذلك بالتكلّم بأحدهما أو عكسه ، وهذا له دخل كبير في تحرّك خاطر المستمع وتطرية نشاطه وتوقّد ذهنه وحسن تصدّيه للاستماع كما أنّ له تأثيراً غريباً عليه ، وهو شايع في النظم العربي والفارسي ومنه الكثير وارد في القرآن الكريم كما جاء في قوله تعالى :( وَاللَّـهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ ) (١) وفي القرآن أيضاً :( حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) (٢)

وقال جرير في شعره :

متى كان الخيام بذي طلوح

سقيت الغيث أيّتها الخيام

وشمس الشعراء سروس راست :

ز كلك او يكى خط خطه را زير حكم كرد

الا اى كلك خواجه قوت وفعل وقدر دارى

وفي هذه القصيدة عدد من الأبيات فيها هذه الصنعة واحتواء هذه العبارة الشريفة على هذه الصنعة لا تحتاج إلى بيان لأنّه كان يخاطب الأصحاب وفجئة انقلب إلى الغيبة ثمّ انتقل بعدها من الغياب إلى الخطاب ، ثمّ سلّم عليهم حيث أنّ التوجّه إليه يزداد بعد ذكر الأصحاب حتّى يحضرهم في الذهن ويخاطبهم كما في قوله تعالى :( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) وهو قريب من هذا الوجه

فائدة :

أشرنا فيما سبق إلى أنّ في العبارة تأبيداً ، وفي العربيّة عبارات وجمل تدلّ على

_________________

(١) فاطر : ٩

(٢) يونس : ٢٢

٢٥٧

التأبيد تجري علس ألسنة الفصحاء وعبائر العرب العرباء وهي متداولة بينهم ، ويأتون بها عندما يؤبّدون ، ونحن نذكر منها عدداً محدوداً ونختار العبارة ذات الجرس العذب واللفظ الفصيح ، والقرب من الأفهام :

الف ـ لا أفعل ذلك أبداً ما اختلف العصران

ب ـ ما كرّ الجديدان

ج ـ ما اختلف الملوان

د ـ ما اصطحب الفرقدان

هـ ـ ما تعاقب العصران والفتيان

و ـ ما لاح النيّران

ز ـ ما حنّت النيب

ح ـ ما أورق العود

ط ـ ما دعا الله داع

ى ـ ما عنّ في السماء نجم

يا ـ ما طلع الفجر

يب ـ ما بلّ بحر صوف

يج ـ ما هتفت حمامة

يد ـ ما لاح عارض

يه ـ ما ذرّ شارق

يو ـ ما ناح قمري

يز ـ ما أن كان في الفرات قطرة

يح ـ حتّى يحنّ الضبّ في أثر الإبل الصادرة

٢٥٨

يط ـ ما اختلف الدرّة والحرّة(١)

ك ـ ما اختلف الأجدّان

كا ـ ما غرّد الحمام

كب ـ ولا أفعله أخرى الليالي

كج ـ حتّى يرد الضب

كد ـ ما أطت الإبل

كه ـ ما خوى الليل والنهار

كو ـ ما حدّ الليل والنهار

كز ـ أبد الدهر

كح ـ أبد الآبدين

كط ـ أبد الآباد

ل ـ سنّ الحسل(٢)

وهذه ثلاثون كلمة اخترتها من كتاب « مزهر اللغة » لجلال الدين السيوطي وكتاب « الألفاظ الكتابيّة » لعبدالرحمان بن عيسى الهمداني ، ووجدتها مستعملة في ألسنة أرباب الفصاحة والبلاغة وهناك ألفاظ أُخرى ليست جامعة للشرايط أعرضنا عنها ومن أراد المزيد فعليه الرجوع إلى كتابين هما : « إصلاح المنطق » لابن السكّيت ، و « تهذيب الإصلاح » للخطيب التبريزي(٣)

_________________

(١) اختلافها أنّ الدرّة تسفل والحرّة تعلو ( منهرحمه‌الله ) ( هامش الأصل )

(٢) أي حتّى يسقط سنّ الحسل وهو ولد الضبّ ولا يسقط سنّه أبداً ( هامش الأصل )

(٣) وسوف يأتي من هذا كثير في كلام الإمام الصادق في ذيل « مع إمام منصور أهل بيت محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم » ( هامش الأصل )

٢٥٩

يَا أَبا عبد الله لَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِيَّةُ وَجَلَّتْ الْمُصِيبَةُ بِكَ عَلَيْنا وَعَلَىٰ جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلامِ

الشرح : الجلال والعظمة كما جاء في كثير من كتب اللغة وغيرها أنّهما مترادفان وكلاهما بمعنى الكبر ـ بكسر الكاف وفتح الباء ـ ولكن ما توصّلنا إليه بحسب الاستعمال أنّ العظمة تقابل الصغر ، والجلالة تقابل الدقّة ، كما يقال : « ماله دقّ ولا جلّ ، ولا دقيقة ولا جليلة ، وأتيته فما أدقّني ولا أجلّني » ويقول العلماء : النظر الدقيق والنظر الجليل ، وإن وقع كثير منهم في الخطأ فقالوا : النظر الجلي

يقول الفيّومي في المصباح : « الدقيق خلاف الجليل » وفي مكان آخر يوضع الغليظ ضدّ الدقيق ، وهذا لا يستقيم في ميزان النظر لأنّ لازم ذلك أن يكون الغليظ والجليل بمعنى كما هو ظاهر الفارابي في ديوان الأدب ، لأنّه فسّر العظم بالضخامة والضخامة بالغلظة ، ويرفع هذا الإشكال بما يلي :

.. إنّ بناء علماء اللغة ليس على تحقيق وتحديد المعاني الحقيقيّة ، لأنّ هذا الأمر لا يمكن أن يتصيَّد من استعمال واحد ، وإحياناً يكون المعنى في نفس الإنسان حاضراً ولكنّه لا يجد الألفاظ التي تفيء بأدائه لكي يعبّر بها عندما يصوغ عباراته للأفهام لهذا عبّر اللغويّون بلوازم المعاني أو بالمعاني القريبة من المقصود التي تحوم حول المراد ونزلت عباراتهم على مقدار الأفهام وتفاوت السلائق ، نظماً ونثراً ، فعبّروا بها ، من هذه الجهة وجد الاختلاف الفاحش بين اثنين من علماء اللغة في تفسير المعنى للفظ واحد مع أنّ المحقّق البصير يدرك أن لا خلاف وإنّما أدّى كلّ واحد منهما لازماً لملزوم مشترك وحقّق معناه ، وغالباً يعمد الأُدباء وهم أبناء بجدة اللغة وفقهاء لسان العرب إلى تحمّل المشاقّ في تتبّع هذه المعاني وتحصيلها ، ومن كان عالماً بهذه الحال ملمّاً بطرق الاستعمال وله

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439