شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور الجزء ١

شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور13%

شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور مؤلف:
المحقق: محمد شعاع فاخر
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
ISBN: 964-503-000-5
الصفحات: 439

الجزء ١
  • البداية
  • السابق
  • 439 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 34228 / تحميل: 4864
الحجم الحجم الحجم
شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور

شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور الجزء ١

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
ISBN: ٩٦٤-٥٠٣-٠٠٠-٥
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وما ورد من الآيات الناهية عن الحكم بغير ما أنزل الله ووصف الحاكم بغير ما أنزل الله بالكفر والفسق والظلم(١) ومن المعلوم لزوم مكافحة الكفر والفسق والظلم وهو غير خفيّ على من له أدنى إلمام بالكتاب والسنّة.

كما أنّها مدفوعة بما صح عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من الروايات الناهية عن التعاون مع الظالم وإعانته ومساعدته، منها ما ورد عن كعب بن عجرة عن النبيّ أنّه قال: « اسمعُوا سيكُونُ بعدي اُمراءُ فمن دخل عليهم فصدّقهُم بكذبهم وأعانهُم على ظُلمهم فليس منّي ولستُ منهُ وليس بوارد عليّ [ الحوض ] »(٢) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « ألا ومن علّق سوطاً بين يدي سُلطان جعل الله ذلك السّوط يوم القيامة ثُعباناً من النّار طولُهُ سبعون ذراعاً يُسلّطهُ الله عليه في نار جهنّم وبئس المصير »(٣) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال: « إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوانُ الظلمة ومن لاق لهُم دواة، أو ربط لهُم كيساً، أو مدّ لهُم مدّة قلم، فاحشُرُوهُم معهُم »(٤) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « من خفّ لسُلطان جائر في حاجة كان قرينهُ في النّار »(٥) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما اقترب عبد من سُلطان جائر إلّا تباعد من الله »(٦) .

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يُعصي الله »(٧) .

__________________

(١) المائدة: ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٢) جامع الأصول ٤: ٧٥، نقلاً عن الترمذيّ والنسائيّ.

(٣) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به حديث ١٠.

(٤) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به، حديث ١١.

(٥) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به، حديث ١٤.

(٦) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠ حديث ١٢.

(٧) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٤، حديث ٥.

٣٢١

وعنهعليه‌السلام أنّه قال: « من سُوّد اسمهُ في ديوان الجبّارين حشرهُ الله يوم القيامة حيراناً »(١) .

وعنهعليه‌السلام أنّه قال: « من مشى إلى ظالم ليُعينهُ وهو يعلمُ أنّهُ ظالم فقد خرج عن الإسلام »(٢) .

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام أنّه قال: « ما أحبُّ أنّي عقدت لهم عقدةً أو وكيت لهم وكاء وأنّ لي ما بين لابتيها لا ولا مدّة بقلم، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يفرغ الله من الحساب »(٣) .

وغيرها من عشرات الأحاديث والروايات الواردة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المعصومين ممّا وردت في كتب الحديث، الناهية عن السكوت على الحاكم الجائر، والحاثّة على زجره ودفعه، والإنكار عليه بكل الوسائل الممكنة المتاحة ممّا يدلّ على أنّ الأحاديث التي تحثّ على السكوت عن الحاكم الظالم، والانصياع لحكمه والتسليم لظلمه والرضا بجوره ممّا أوعزت السلطات الحاكمة به في تلك العصور المظلمة، فلفّق البعض هذه الروايات والأحاديث ونسبوها إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو منها براء لمعارضتها الصريحة لمبادئ الكتاب والسّنة.

ولو لم يكن في المقام إلّا قول الإمام عليّعليه‌السلام في خطبته: « وما أخذ الله على العُلماء أن لا يُقارُّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم الخ »(٤) .

لكفى في وهن تلك الروايات المفتعلة على لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبما أنّ هذا البحث واضح لكلّ مسلم يحمل بين جنبيه الحريّة ويفكّر في العدل الإسلاميّ طوينا البحث عن بعض ما ورد في هذا المجال.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٤ حديث ٦.

(٢) وسائل الشيعة ١٢: ١٣١ حديث ١٥.

(٣) وسائل الشيعة ١٢: ١٢٩ حديث ٦.

(٤) نهج البلاغة: الخطبة ٣.

٣٢٢

٣

السلطة القضائيّة

دور القضاء والسلطة القضائيّة :

يحتلّ القضاء، وفصل الخصومات بين الناس دوراً عظيماً، ومكانة حسّاسة في أي مجتمع بشريّ، لأنّ عليه وعلى كيفيّته تتوقّف سلامة المجتمع، واستتباب الأمن، واستقرار العدل، وصيانة الحقوق والحريّات، والحرمات وبالتالي يقوم التوازن الاجتماعيّ.

إنّ القضاء مرتبط بالعدالة، فإن صلح شاعت العدالة وانتعشت، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وصلح أمر الدولة، والناس جميعاً. وإن فسد القضاء اختفت العدالة وباختفائها تعم الفوضى وينتشر الفساد، ولا يأمن الناس على أنفسهم، فتضيع هيبة الدولة، ويتقلّص سلطانها، إنذاراً لها بالنزوال والاندحار.

إنّ القضاء يلعب دوراً كبيراً في تبديل الاختلاف إلى الوئام، وفي تحويل التنازع والتصارع إلى التوافق والتقارب الذي يحتاج إليه كلّ مجتمع إنسانيّ ينشد السعادة والطمأنينة والأمن.

٣٢٣

عوامل التنازع وأسبابه :

لم يزل المجتمع البشريّ ـ منذ تكوّنه وانضمام فرد إلى فرد آخر ـ تلازم حياته التشاجر والاختلاف والتنازع بين أفراده، وقد شهد بذلك التاريخ، وبرهنت عليه الوقائع المحسوسة، ثمّ إنّ هذا الاختلاف لا ينشأ ـ غالباً ـ إلّا من أمرين :

١. الحرص الشديد على جلب الأموال والمنافع والحقوق، الذي يلازم البعد عن المعنويّات والمثل الإنسانيّة، فإنّ حرص كلّ واحد من أفراد النوع الإنسانيّ على أن يجلب المنافع العاجلة العابرة لنفسه ينسيه الجوانب المعنويّة والمثل النبيلة وذلك بدوره يجرّ إلى التعدّي على مصالح الآخرين وحقوقهم ومنافعهم حيث لا إيمان يردع عن ذلك، ولا مكارم أخلاق تحدّ من تلك النزعة الجامحة.

٢. الاختلاف في تشخيص الحقّ، فربّما يتنازع فردان لا للحرص الشديد بل للاختلاف في تشخيص ( الحقّ ) فكلّ واحد منهما يعتقد ـ اعتقاداً جازماً ـ بأنّ الحقّ هو ما يراه دون غيره.

وربّما يبلغ الطرفان المختلفان المتنازعان ـ مع ذلك ـ أقصى درجات التقوى وحسن النية والفضيلة، ولكن جهلهما بالحقّ دفعهما إلى ذلك الاختلاف والتنازع، ولا ريب أنّ بقاء الاختلاف في المجتمع يشكّل خطراً كبيراً على أمنه واستقراره وسلامته ؛ إذ قد يؤدي إلى العدوان، وتأجّج نيران البغضاء والضغينة بين المتخاصمين المختلفين، وربما اُريقت ـ في هذا السبيل ـ دماء كثيرة. واُهدرت أموال طائلة، وضاعت أغراض شريفة ليس إلّا لاُمور حقيرة لا تستأهل كل تلك التبعات والعواقب. ومن أجل ذلك حثّ القرآن الكريم على سدّ باب الاختلاف وقطع دابره من الجذور وحثّ المسلمين على الإصلاح بين المتنازعين إذ قال:( وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) ( الأنفال: ١ ).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام نقلاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يقول :

٣٢٤

« صلاحُ ذات البين أفضلُ من عامّة الصّلاة والصّيام »(١) .

بيد أنّ حلّ الاختلاف يتصوّر بوجوه هي :

إمّا بإخضاع القضيّة لسلاح القوّة، ومنطق الغلبة الذي عبّر عنه المثل السائر بقوله: ( الحقُ لمن غلب ) فيكون الغالب هو المحقّ ولكن هذا ممّا لا يقبله ذو وجدان سليم ولا يرضاه عقل ولا دين.

أو بإخضاع القضيّة لعامل الدعاية والتبليغ الكاذب، وإرغام الطرف الآخر على القبول بما يخالفه انخداعاً وتضليلاً، وهو كذلك أمر يرفضه الدين.

أو يترك الأمر لعامل الزمن ليتجلّى الحقّ بمرور الأيام وتوالي الشهور ومضي السنين والأعوام وهو أمر لا تحتمله الحياة الاجتماعيّة التي تتطلّب الحلول العاجلة لمشكلاتها والمعالجة السريعة لآلامها

أو يترك الأمر حتّى يتعب المتنازعان فيكفّا عن المطالبة، أو يخلّي أحدهما الآخر، ليبطل الحقّ، ويعود باطلاً، ويعود الباطل حقّاً. وهو أمر يرفضه الإسلام كذلك إذ يقول الإمام عليّعليه‌السلام : « الحقُّ القديم لا يبطله شيء ».

ولقد اتّخذ الإسلام طريقاً خامساً، وهو الذي ندبت إليه الشرائع السماويّة السابقة وتقتضيه سنّة الحياة وضرورات المجتمع ألا وهو حثّ المتنازعين على الرجوع إلى أهل الصلاح والتحاكم إليهم، والخضوع لقضائهم وحكمهم ليرتفع التنازع ويعود المتخاصمون اخوة متحابّين، ويتخلّص المجتمع من أخطار الاختلاف والتنازع. ولأجل مثل هذا الدور كانت السلطة القضائيّة الركن الثالث والأساسيّ من أركان الحكومات قديماً وحديثاً، وكان لها من الأهميّة والمكانة ما ليس لغيرها من أركان الحكومة.

ولأجل ذلك أيضاً كان للقضاء والسلطة القضائية مكانة مرموقة في النظام

__________________

(١) نهج البلاغة: ـ قسم الكتب ـ ٤٧.

٣٢٥

الإسلاميّ لم يسبق لها مثيل في العهود والأنظمة السابقة واللاحقة ؛ حيث سنّ له ولها اُصولاً وقواعد واُسساً وبرامج فريدة في نوعها، وعظيمة في محتوياتها.

فلقد وضع القرآن الكريما اُسس القضاء وشيّد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إركانه وبنيانه وبين خلفاؤه المعصومون تفاصيله، وجزئياته، وحدوده وأحكامه.

القضاء والحكومة لله خاصّة

ولمّا كان القضاء ملازماً للتصرّف في أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم احتاج إلى ولاية حقيقيّة وحيث لم تكن الولاية الحقيقيّة إلّا لله تعالى خاصّة ؛ كان القضاء أحد الحقوق المختصة به سبحانه دون سواه، فلا ولاية لأحد على أحد في هذه الشؤون، ولهذا قال سبحانه:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) ( الأنعام: ٥٧ ).

وقال:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) ( يوسف: ٤٠ )(١) .

إلى غير ذلك من الآيات التي تحصر حقّ الحكومة ( الشاملة للقضاء وغيره ) بالله سبحانه وحده لانحصار الولاية الحقيقيّة فيه دون سواه.

وقد عهد الله سبحانه بممارسة هذا الحق إلى أنبيائه وأوصيائهم سواء أكانوا أوصياء بالاسم والشخص، أم بالرسم والوصف.

فالقضاة المنصوبون من ناحية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو أوصيائهم قضاة منصوبون بالاسم والشخص وأمّا الذين يتعاهدون القضاء ـ زمن عدم التمكّن من الأوصياء والأئمّة ـ قضاة منصوبون بالرسم والوصف. كما نرى ذلك من رواية مقبولة لعمر بن حنظلة حيث قال الصادق الإمام جعفر بن محمّدعليه‌السلام له: « من تحاكم إليهم(٢) في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطّاغُوت، وما يحكُمُ لهُ فإنّما يأخُذُ سُحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً لهُ ،

__________________

(١) ولم نذكر الآية المشابهة (٦٧) في تلك السورة لأنّها ناظرة إلى معنى تكوينيّ.

(٢) المراد قضاة الجور.

٣٢٦

لأنّهُ أخذهُ بحُكم الطّاغُوت وما أمر الله أن يُكفر به. قال الله تعالى:( يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ) ( النساء: ٦٠ ) ».

ولـمـّا قال: فكيف يصنعان ؟ قالعليه‌السلام : « ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثناً ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا كالرّادّ على الله وهو على حدّ الشّرك بالله الحديث »(١) .

وما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام نفسه برواية أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال أنّه قال: « إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه »(٢) .

هذا وقد كان طبيعياً أن يحكم هؤلاء القضاة العدول ويقضوا ويفصلوا في الخصومات وفق منهج الله تعالى وتعاليمه وأحكامه في مجال القضاء، لا بما تهواه أنفسهم أو ما يشاؤه المتخاصمون المتحاكمون.

ولذلك أنزل الله الشرائع والكتب والرسالات على الأنبياء وأمرهم أن يحكموا بين الناس بما فيها من الحقّ والقسط فقال تعالى:( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) ( الحديد: ٢٥ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) ( المائدة: ٤٤ ).

وقال تعالى ـ وهو يوصي داود نبيّه ـ أن يحكم بالحق:( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ (٣) بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: باب ١١ من أبواب صفات القاضي / الحديث (١).

(٢) وسائل الشيعة ١٨: باب ١ من أبواب صفات القاضي / الحديث (٥) ويقرب منه ما نقل عنه في الباب ١١ / الحديث (٦).

(٣) المراد من الحكومة أعمّ من الولاية والقضاء.

٣٢٧

يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ) ( ص: ٢٦ ).

كما أمر الله تعالى المقتفين أثر المسيح أن يحكموا بما في الانجيل إذ قال:( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ( المائدة: ٤٧ ).

وبيّن سبحانه أثر الحكم بما في التوراة والانجيل وثمرته بقوله:( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) ( المائدة: ٦٦ ).

وقد أمر الله سبحانه نبيّه الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بالقضاء بالقسط والعدل إذ قال:( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة: ٤٢ ).

وقال سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) ( المائدة: ٤٨ ).

ولم يكتف سبحانه بذلك بل أمر الاُمّة الإسلاميّة ودعاها إلى أن تقضي بالحق والعدل والقسط إذ قال:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( النساء: ٥٨ ).

وأمرها بأن لا يحملها شنآن قوم على التخلّي عن العدل، والتقاعس عن إجرائه إذ قال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ إلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة: ٨ ).

بل وأمر المسلمين باتّخاذ جانب العدل ليس في مجالات القضاء وحدها بل في كلّ مجالات الحياة، حتّى في النطق والكلام إذ قال:( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ) ( الانعام: ١٥٢ ).

وصفوة الكلام أنّ الآيات التي مرّت عليك تثبت ـ بجلاء ودون إبهام ـ أنّ

٣٢٨

القضاء حقّ خاصّ بالله سبحانه، وقد عهد به إلى الأنبياء، وأوصيائهم، ومن أقاموه لذلك المنصب، وجعل كتبه ورسالاته مناهج لهم، ليحكموا بما فيها، ويقضوا بين المتنازعين والمتخاصمين على ضوء تعاليمها وأحكامها.

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يمارس القضاء

ولقد عهد الله بالقضاء إلى النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما عهد إليه، كما عرفت ذلك من خلال الآيات التي مرّت عليك آنفاً، وقد تولّىصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه حلّ الخصومات والحكم بين الناس على ضوء ما أُنزل إليه من القرآن وأحكامه، بل وعيّن ـ في زمنه ـ رجالاً صالحين للقضاء وفصل الخصومات، قال الإمام عليّعليه‌السلام : « بعثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليمن قاضياً، فقُلتُ يا رسول الله: تُرسلُني وأنا حديثُ السّنّ ولا علم لي بالقضاء ؟

فقال: إنّ الله سيهدي قلبك ويُثبتُ لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلاتقضي حتّى تسمع من الآخر كما سمعت من الأوّل فإنّه أحرى أن يتبيّن لك القضاء.

قال: فما زلت قاضياً. ( أو ) ما شككت في قضاء بعد »(١) .

كما قد بعثصلى‌الله‌عليه‌وآله معاذاً إلى اليمن وقال له: « كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ »، قال: أقضي بكتاب الله الى آخر الحديث(٢) .

وبذلك نعلم أنّ ما كتبه بعض المتأخّرين من أنّه لم يعرف القضاء في العهد النبويّ ولا في عهد الخلفاء، بل هو شيء جديد أسّسه الأمويون في الشام، أمّا قبل ذلك فإنّ العرب كانت في خلافاتها ترجع إلى طريقة التحكيم(٣) ، فهو إمّا جهل بتاريخ الإسلام، أو افتراء واضح البطلان يقف عليه كلّ من له أقلّ إلمام بالكتاب والسنّة، وما

__________________

(١) جامع الاُصول ١: ٥٤٩، أخرجه أبو داود والترمذيّ.

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٥٥١

(٣) النظام السياسيّ: ١٢٩، نقلاً عن كتاب عبقريّة الإسلام في اُصول الحكم.

٣٢٩

ورد فيهما من الآيات والأحاديث في مختلف أبواب القضاء بحيث يصعب لنا نقل فهرستها، فضلاً عن ذكر نصوصها(١) .

ثمّ إنّ نظرة واحدة إلى القرآن الكريم تفنّد هذا الزعم الباطل فلاحظ الآيات ٤٠ إلى ٦٠ من سورة المائدة فهي في معرض ذكر الأحكام المتعلّقة بالقضاء والفصل في الخصومات وأحكام القصص والحدود.

كيف يحقّق القضاء أهدافه ؟

إنّ أهمّ أمر في القضاء والسلطة القضائيّة هو أن تحقّق هذه السلطة غرضها وهدفها الأساسيّ في إشاعة العدل وإقامة القسط في المجتمع، بحيث يحسّ كلّ فرد من أفراد المجتمع بالأمن على نفسه وماله وعرضه في ظلّ ما توفّره السلطة القضائيّة له من عدالة شاملة لا يشوبها ظلم ولا عدوان ولا يتخلّلها حيف ولا تجاوز.

إنّ وصول السلطة القضائيّة إلى هذا الهدف الأساسيّ يتحقّق بأربعة اُمور :

١. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء.

٢. استقلاله الماليّ والسياسيّ.

٣. رعايته لآداب القضاء.

٤. أن تكون لديه برامج حقوقيّة وجزائيّة عادلة للقضاء وفقها، وهي بأجمعها متوفّرة في النظام الإسلاميّ وإليك تفصيل ذلك :

١. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء

إنّ أهمّ عامل يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الخطير في المجتمع هو

__________________

(١) وقد جمع أحمد بن حنبل في مسنده قضايا النبيّ ٥: ٣٢٦، ونقل جملة منها الجزريّ في كتابه جامع الاُصول ١٠: ٥٦٥.

٣٣٠

صلاحيّة القاضي، وتوفّر الشروط المؤهّلة للقضاء فيه.

ولقد اشترط الإسلام في القاضي شروطاً وأوصافاً لم يسبق لها مثيل في تاريخ القضاء وهذه الصفات هي :

١. البلوغ.

٢. العقل.

٣. الإيمان.

٤. العدالة.

٥. طهارة المولد.

٦. العلم بالقانون.

٧. الذكورة.

٨. أن يكون ظابطاً سليم الذاكرة فلو غلب عليه النسيان لم يجز نصبه للقضاء(١) .

ولقد شدّد الإسلام على خطورة منصب القضاء، وجسامة مسؤوليّة القاضي ومقامه فقد ورد عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « القضاة ثلاثة: واحد في الجنّة واثنان في النّار

فأمّا الذّي في الجنّة فرجل عرف الحقّ وقضى به.

ورجل عرف الحقّ فجار في الحكم فهو في النّار.

ورجل قضى للنّاس على جهله فهو في النّار »(٢) .

ورفع إلى أبي عبد الله الإمام الصادقعليه‌السلام قوله: « القضاة أربعة، ثلاثة في النّار وواحد في الجنّة :

رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النّار.

__________________

(١) راجع شرائع الإسلام للمحقّق الحليّ كتاب القضاء في الصفات.

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٥٤٥ نقلاً عن أبي داود.

٣٣١

ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام عن من يتصدّى لمقام القضاء وليس له أهل: « ورجل قمش جهلاً، موضع في جهال الاُمّة، غار في أغباش الفتنة، عمّ بما في عقد الهدنة، قد سمّاه أشباه النّاس عالماً وليس به، بكر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر جلس بين النّاس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشواً رثّاً من رأيه ثمّ قطع به فهو من لبس الشُّبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ »(٢) .

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام مشيراً إلى حراجة موقف القاضي، وصعوبة إجراء الحق والعدل الذي هو هدف القضاء الإساسيّ: « الحقُّ أوسع الأشياء في التّواصف وأضيقها في التناصف »(٣) .

إنّ القضاء ليس شيئاً بسيطاً عادياً بل هو أمر مهمّ حتّى في أبسط الأشياء فقد روي أنّ صبيّين تحاكما إلى الإمام الحسن بن عليّعليه‌السلام في خطّ كتباه وحكّماه في ذلك ليحكم أي الخطّين أجود فبصر به عليّعليه‌السلام فقال: « يا بنيّ انظر كيف تحكم فإنّ هذا حكم، والله سائلك عنه يوم القيامة »(٤) .

وقد وقع نظير هذه القضية للإمام عليّعليه‌السلام نفسه فقد روى الإمام أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ألقى صبيان الكتاب ألواحهم بين يديه ليخيّر بينهم فقال: « أما إنّها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلّمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتصّ منه »(٥) .

__________________

(١ و ٥) وسائل الشيعة ١٨: ١١ و ٥٨٢.

(٢ و ٣) نهج البلاغة: الخطبة ١٧، ٢١٦.

(٤) مجمع البيان٣: ٦٤ في تفسير قوله:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ ) .

٣٣٢

ولذلك قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لسانُ القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار »(١) .

كما لذلك أيضاً اشترط الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام على القاضي شُريح أن لا ينفذ قضاء حتّى يعرضه عليه قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « لـمّا ولّى أمير المؤمنينعليه‌السلام شريحاً القضاء اشترط عليه أن لا يُنفذ القضاء حتّى يعرضهُ عليه »(٢) .

ومن هنا أكد الإمام عليّعليه‌السلام على الأشتر واليه على مصر، في عهده المعروف، أن يختار من يريدهم لمنصب القضاء، اختياراً دقيقاً بقوله: « ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الاُمور، ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزّلّة ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشّبهات، وآخذهم بالحجج وأقلّهم تبرُّماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشّف الاُمور، وأصرمهم عند اتّضاح الحكم، ممّن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، واُولئك قليل، ثمّ أكثر تعاهد قضائه »(٣) .

ولخطورة مقام القضاء لا يجوز إلّا للنبيّ أو وصيّه، كما قال الإمام عليّعليه‌السلام لشريح: « يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه ( ما جلسه ) إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ، أو شقيّ »(٤) .

وورد عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام قوله: « اتّقوا الحُكومة ( أي القضاء ) إنّما هي للإمام العادل العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيٍّ ( كنبيّ ) أو وصيّ(٥) نبيّ »(٦) .

* * *

٢. إستقلال القاضي الماليّ والسياسيّ

إنّ القاضي بما أنّه يتحمّل مسؤوليّة كبيرة وخطيرة لا مشابه لها بين أقرانها من

__________________

(١ و ٢ و ٤) وسائل الشيعة ١٨: ١١، ٦، ٧.

(٣) نهج البلاغة: قسم الكتب ٥٣.

(٥) المراد بالوصيّ هو الأعم من الوصيّ المنصوص عليه بالاسم فيشمل المنصوص عليه بالوصف، أي الذي جمع صفات القاضي المعتبرة في الإسلام.

(٦) وسائل الشيعة ١٨: ٧.

٣٣٣

المسؤوليّات والمناصب الاُخرى، يجب أن يكون مستقلاًّ في عمله غاية الاستقلال، لكي لا يخضع لما يميل به عن العمل بمسؤوليّته ويقتضي ذلك أن يكون مستقلاًّ في اقتصاده عن الآخرين كيلا يقع فريسة الأطماع، ولقد أدرك الإسلام هذه الناحية الحسّاسة فأمر الحكومة الإسلاميّة بالإغداق على القاضي إغداقاً يقطع طمعه عمّا في أيدي الآخرين، يقول الإمام عليّعليه‌السلام في عهده للأشتر النخعيّ في هذا الصدد: « وافسح لهُ ( أي للقاضي ) في البذل ما يزيل علّته، وتقلُّ معه حاجته إلى الناس »(١) .

ولكنّ هذا الاستقلال لا يكفي إذا لم ينضمّ إليه استقلال القاضي من أي تأثير خارجيّ سياسيّ عليه، ومن أيّة تدخّلات صادرة عن السلطات الاُخرى في عمله القضائي فإنّ القاضي يجب أن يُترك وشأنه حتّى يستجلّي الحقّ بنفسه دون مؤثرات خارجيّة ولا تدخلات في عمله ولذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام في عهده للأشتر النخعيّ، في هذا الصدد: « واعطه من المنزلة لديك ملا يطمعُ فيه غيرهُ من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال لهُ عندك فانظر في ذلك نظراً بليغاً »(٢) .

والمقصود هو أن يكون للقاضي موضعاً غير متأثّر بأحد ليقضي بالحقّ، ويفصل في الخصومات، ويصدر الأحكام غير متهيّب ولا متأثّر وهذا هو ما يصطلح عليه السياسيّون اليوم باستقلال السلطة القضائيّة، وتفكيكها عن بقية السلطات.

ولقد نبّه إلى هذا فقهاؤنا العظام استلهاماً ممّا لديهم من تعاليم الشريعة المقدّسة في هذا المجال، قال المحقّق النائينيّ ( المتوفّى عام ١٣٥٥ ه‍ ) :

( إنّ ولاية الحاكم ترجع إلى قسمين: الأوّل الاُمور السياسيّة، التي ترجع إلى نظم البلاد وانتظام اُمور العباد، والثاني الإفتاء والقضاء، وكان هذان المنصبان في عصر النبيّ والأميرعليه‌السلام بل في عصر الخلفاء الثلاثة لطائفتين وفي كل بلد أو صقع كان الوالي غير القاضي فصنف كان منصوباً لخصوص القضاء والإفتاء وصنف كان منصوباً لإجراء الحدود ونظم البلاد والنظر في مصالح المسلمين، نعم اتّفق إعطاء كلتا الوظيفتين

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم ٥٣.

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم ٥٣.

٣٣٤

لشخص واحد لأهليّته لهما إلّا أنّ الغالب اختلاف الوالي والقاضي )(١) .

ولقد أعطى الإمام عليّعليه‌السلام وهو إمام المسلمين على الإطلاق، والحاكم الأعلى للاُمّة الإسلاميّة مثلاً عمليّاً على هذا الاستقلال القضائيّ السياسيّ حيث مكّن القاضيّ ـ بفضل هذا السلوك الإسلاميّ ـ من محاكمة حاكم المسلمين وأحد رعاياه في محكمة واحدة وذلك في قضيّة اليهودي مع الإمام عليّعليه‌السلام :

فقد نقل المؤرّخون أنّهعليه‌السلام لـمّا وجد درعه عند يهودي من عامّة الناس فأقبل به إلى أحد القضاة وهو شريح ليخاصمه ويقاضيه، ولـمّا كان الرجلان أمام القاضي قال عليّ: « إنّها درعي ولم أبع ولم أهب ». فسأل القاضي الرجل اليهوديّ ما تقول ؟ فقال اليهوديّ: ما الدرع إلّا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب وهنا التفت القاضي شريح إلى عليّ يسأله: هل من بيّنة تشهد أنّ هذه الدرع لك ؟ فضحك عليّ وقال « مالي بيّنة » فقضى شريح بالدرع لليهوديّ، فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر إليه ! إلّا أنّ الرجل لم يخط خطوات قلائل حتّى عاد يقول :

إمّا أنا فأشهد أنّ هذا أحكام أنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاض يقضي عليه ثمّ قال: الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين وقد كنت كاذباً فيما ادّعيت(٢) .

* * *

٣. رعاية آداب القضاء وكيفيّته

إنّ الإسلام لم يكتف بالتشديد على أهميّة القضاء، واعتبار صفات معيّنة في القاضي، بل سنّ للعمل القضائيّ آداباً وسنناً أكّد على القاضي الأخذ بها في قضائه ليسلم من شوائب الظلم والحيف، ويكون أقرب إلى الإنصاف والحقّ والعدل، وقد لخّص فقهاؤنا هذه الآداب التي ذكرتها الأحاديث المتواترة، في كتبهم الفقهيّة نشير إليها.

__________________

(١) راجع منية الطالب ١: ٣٢٥.

(٢) بحار الأنوار ٤١: ٥٦، عليّ وحقوق الإنسان: ٨٧، ٨٨ لجورج جرداق مع اختلاف يسير.

٣٣٥

قال المحقّق في شرائع الإسلام كتاب القضاء :

في الآداب [ أي آداب القضاء ] وهي قسمان مستحبّة ومكروهة، فالمستحبّة :

١. أن يطلب من أهل ولايته من يسأله عمّا يحتاج إليه في اُمور بلده.

٢. أن يسكن عند وصوله في وسط البلد لترد الخصوم عليّه وروداً متساوياً.

٣. أن يجلس للقضاء في موضع بارز مثل رحبة أو فضاء ليسهل الوصول إليه.

٤. أن يحضر من أهل العلم من يشهد حكمه فإن أخطأ نهوه لأنّ المصيب عندنا واحد ويخاوضهم [ أي يطرح عليهم القضايا ويتبادل معهم الرأي ] فيما يستبهم من المسائل النظريّة لتقع الفتوى مقرّرة، ولو أخطأ فأتلف لم يضمن وكان على بيت المال.

٥. وإذا تعدّى أحد الغريمين سنن الشرع عرّفه خطأه بالرفق.

والآداب المكروهة :

١. أن يتخذ حاجباً وقت القضاء.

٢. أن يقضي وهو غضبان.

٣. وكذا يكره مع كلّ وصف يساوي الغضب في شغل النفس كالجوع والعطش والغمّ والفرح والوجع، ومدافعة الأخبثين، وغلبة النعاس

٤. أن يستعمل الانقباض [ والتقطيب في الوجه ] المانع من الإعلان عن الحجّة، وكذا يكره إظهار اللين الذي لا يؤمن معه من جرأة الخصوم.

ثمّ ذكر مسائل من شأنها حصول الدقة في العمل القضائيّ كقوله :

إذا أفتقر الحاكم إلى مترجم لم يقبل إلّا شاهدان عدلان ولا يقتنع بالواحد عملاً بالمتّفق عليه.

وإذا اتخذ القاضي كاتباً وجب أن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً بصيراً ليؤمن انخداعه، وإن كان فقيهاً كان حسناً.

٣٣٦

ويكره للحاكم أن يعنّت الشهود إذا كانوا من ذوي البصائر والأديان القويمة ؛ مثل أن يفرق بينهم لأنّ في ذلك غضّاً منهم، ويستحب ذلك في وضع الريبة.

ولا يجوز للحاكم أن يتعتع الشاهد وهو أن يداخله في التلفّظ بالشهادة أو يتعقّبه بل يكفّ عنه حتّى ينهي ما عنده.

ويكره أن يضيف القاضي أحد الخصمين دون صاحبه، لأنّ ذلك يكسب الخصم الضيف شيئاً من القوة.

ثمّ قال عن الرشوة: الرشوة حرام على آخذها، ويأثم الدافع إن توصّل بها إلى الحكم له بالباطل، ولو كان إلى حقّ لم يأثم ويجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها ولو تلفت قبل وصولها إليه ضمنها له.

ثمّ ذكر المحقّق الحليّ اُموراً في وظائف القاضي فقال: في وظائف القاضي وهي سبع :

الاُولى: التسوية بين الخصمين في السلام والجلوس والنظر والكلام والإنصات والعدل في الحكم.

الثانية: لا يجوز أن يلقّن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه.

الثالثة: يكره أن يواجه بالخطاب أحدهما لما يتضمّن من إيحاش الآخر.

الرابعة: إذا ترافع الخصمان وكان الحكم واضحاً لزمه القضاء، ويستحبّ ترغيبهما في الصلح، فإن أبيا حكم بينهما وإن أشكل أخّر الحكم حتّى يتّضح ولا حدّ للتأخير إلّا الوضوح.

الخامسة: إذا ورد الخصوم [ في المحكمة ] مترتّبين بدأ بالأوّل فالأوّل فإن وردوا جميعاً قيل يقرع بينهم.

السادسة: إذا قطع المدّعى عليه دعوى المدّعي بدعوى، لم تسمع حتّى يجيب عن الدعوى وينهي الحكومة ثمّ يستأنف هو.

٣٣٧

السابعة: إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى.

وهناك اُمور ذكرها على صعيد عمل القاضي جديرة بالمطالعة نترك ذكرها رعاية للإختصار.

وما ذكره هذا المحقّق وغيره من الفقهاء في آداب القضاء ووظائف القاضي ؛ خلاصة نصوص صريحة وردت في هذه المجالات عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وقد اكتفينا بنقل ما ذكره الفقهاء في كتبهم تاركين نقل النصوص رعاية للإيجاز لكنّنا تيمّناً نذكر بعض هذه الأحاديث :

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من ابتُلي بالقضاء فلا يقضي وهو غضبان »(١) .

وقال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام لشريح: « لا تُشاور [ أو لا تسار ] أحداً في مجلسك، وإن غضبت فقم ولا تقضينّ وأنت غضبان »(٢) .

وقالعليه‌السلام : « من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة وفي النّظر وفي المجلس »(٣) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأوّل حتّى تسمع من الآخر فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء »(٤) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « الرشا في الحكم هو الكفر بالله »(٥) .

إلى غير ذلك من الأحاديث المتواترة على هذا الصعيد.

* * *

٤. وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة

إنّ الأمر الرابع الذي يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الحسّاس والخطير في المجتمع هو وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة للقضاء لكي يقضي القاضي

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ١٥٦ ومثله في جامع الاُصول ١٠: ٥٤٩.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل ١٨: أبواب آداب القضاء.

٣٣٨

وفقها.

وقد وفّر الإسلام هذه البرامج والقوانين العادلة الصالحة للقاضي وذلك بالتعاليم التي زخر بها الكتاب والسنّة وسيرة الأئمّة الطاهرين، ودوّنها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة المفصّلة بدقّة وعناية وتفصيل. فإنّ القاضي يجد في هذه المصادر والبرامج أدقّ الحقوق والحدود وأعدلها، ولو أخذ العالم في مجال القضاء بهذه البرامج والحقوق والحدود لعمّت العدالة كلّ أرجاء الأرض، ولساد السلام والأمن ولاختفى الظلم والجور والشر.

ولقد أكّد الإسلام على القضاة أن يقضوا على ضوء الكتاب والسنّة، وحرّم عليهم القضاء وفق أهوائهم وآرائهم الخاصّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى البرامج الكليّة في صعيد العمل القضائيّ.

وأمّا تمييز الحق عن الباطل والمحق عن المبطل والمظلوم عن الظالم ومن له الحقّ ومن عليه، فقد اعتمد الإسلام في تشخيصه وتمييزه على أوثق السبل وأكثر الوسائل اطمئناناً، وهو الاستشهاد بالبيّنات والأيمان فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما أقضي بينكُم بالبّينات والأيمان »(١) .

نعم إنّ الاعتماد على هذا الأصل في إثبات الحقّ لا يمنع عن الاعتماد على غيرهما ممّا يفيد للقاضي علماً عاديّاً، ولأجل ذلمك قال الفقهاء: ويجوز للقاضي العمل بعلمه.

قال صاحب شرائع الإسلام: « الإمامعليه‌السلام يقضي بعلمه مطلقاً، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس وفي حقوق الله سبحانه على قولين أصحّهما القضاء »(٢) .

الشهادة والشهود

ولقد اشترط الإسلام في الشهود شروطاً من شأنها أن تمنعهم من شهادة الزور

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: أبواب كيفيّة الحكم، الإيمان جمع اليمين أي الحلف والقسم.

(٢) شرائع الإسلام في آداب القضاء.

٣٣٩

والإدلاء بما هو باطل وهذه هي الشروط :

١. البلوغ.

٢. كمال العقل.

٣. الإيمان.

٤. العدالة.

٥. إرتفاع التهمة فلا تقبل شهادة من يجرّ بشهادته نفعاً لنفسه.

وإليك نبذة عن الأحاديث في أهميّة وخطورة الشهادة وشروط الشاهد، فقد روي حول أهميّة الشهادة وخطورتها وعظيم مسؤوليّتها أحاديث تفوق الحصر وكلّها تشدّد على أمر الشهادة بالإجماع، ومن ذلك ما عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال :

« من كتم شهادةً، أو شهد بها ليهدر بها دم امرئ مسلم أو ليزوي بها مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مدّ البصر، وفي وجهه كدوح تعرفه الخلائق باسمه ونسبه.

ومن شهد شهادةً حقّ ليحيي بها حقّ امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نور مدّ البصر تعرفه الخلائق باسمه ونسبه »(١) .

ثمّ قال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام : « ألا ترى أنّ الله عزّ وجلّ يقولُ:( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) »(٢) .

وما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : « شاهد الزور لا تزولُ قدماهُ حتّى تجبُ لهُ النّارُ »(٣) .

وما روي عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من شهد شهادة زُور على أحد من النّاس عُلّق بلسانه مع المنافقين في الدّرك الأسفل من النّار، ومن حبس عن أخيه المسلم شيئاً من

__________________

(١ و ٢ و ٣) وسائل الشيعة ١٨: أبواب الشهادات.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

بها من قربى قد أبعدها الله ما لم يدخل الدين خلل مثله ، ولم ينل الإسلام تبديلاً يشبهه

ومن ذلك إيثاره بخلافة الله على عباده ابنه يزيد السكّرين الخمّير صاحب الديكة والفهود والقردة ، وأخذ البيعة له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة والتوعّد والإخافة والتهديد والرهبة وهو يعلم سفهه ويطلع على رهقه وخبثه ، ويعاين سكراته وفعلاته وفجوره وكفره ، فلمّا تمكّن قاتله الله فيما تمكّن منه طلب بثارات المشركين وطوائلهم عند المسلمين ، فأوقع بأهل المدينة في وقعة الحرّة الوقعة التي لم تكن في الإسلام أشنع منها ولا أفحش(١) فشفى عند نفسه غليله ، وظنّ أنّه انتقم من أولياء الله وبلغ الثار لأعداء الله ، فقال مجاهراً بكفره ومظهراً لشركه :

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

قول لا يرجع إلى الله ولا إلى دينه ولا إلى رسوله ولا إلى كتابه ولا يؤمن بالله وبما جاء من عنده ، ثمّ أغلظ ما انتهك وأعظم ما اخترم سفكه دم الحسين بن عليّعليهما‌السلام مع موقعه من رسول الله ومكانه ومنزلته من الدين والفضل والشهادة له ولأخيه بسيادة شباب أهل الجنّة اجتراءاً على الله وكفراً بدينه وعداوة لرسوله ومجاهرة لعترته واستهانة لحرمته كأنّما يقتل منه ومن أهل بيته قوماً من كفرة الترك والديلم ولا يخاف من الله نقمة ولا يراقب منه سطوة فبتر الله عمره وأخبث [ اجتثّ ـ المصدر ] أصله وفرعه ، وسلبه ما

_________________

(١) ترى هذا الخبيث العبّاسي الذي لا يقلّ خبثاً عمّن تبرّأ منه لا يذكر ما فعله معاوية بالحسن وكيف قضى عليه بالسمّ فهو يعدّد جرائمه ويقفز على هذه الجريمة لأنّ أجداده وآبائه لم يقلّوا إجراماً عمّا جنى معاوية ونغله بحقّ أهل البيتعليهم‌السلام ( المترجم )

٣٦١

تحت يده ، وأعدّ له من عذابه وعقوبته ما استحقّه من الله بمعصيته

هذا إلى ما كان من بني مروان من تبديل كتاب الله وتعطيل أحكام الله واتّخاذ مال الله بينهم دولاً ، وهدم بيت الله ، واستحلالهم حرامه ونصبهم المجانيق عليه ورميهم بالنيران إيّاه [ إليه ـ المصدر ] لا يألون له إحراقاً وإخراباً ، ولما حرم الله منه استباحة وانتهاكاً ، ولمن لجأ إليه قتلاً وتنكيلاً ، ولمن أمنه الله به إخافة وتشريداً ، حتّی إذا حقّت عليهم كلمة العذاب ، واستحقّوا من الله الانتقام ، وملأوا الأرض بالجور والعدوان ، وعموا بلاد الله بالظلم والاقتسار ، وحلّت عليهم السخطة ، ونزلت بهم من الله السطوة ، أتاح الله لهم من عترة نبيّه وأهل وراثته ، ومن استخلصه منهم لخلافته مثل ما أتاح من أسلافهم المؤمنين ، وآبائهم المجاهدين لأوائلهم الكافرين ، فسفك الله به دمائهم مرتدّين كما سفك بآبائهم دماء آبائهم المشركين ، وقطع الله دابر الذين ظلموا والحمد لله ربّ العالمين

أيّها الناس ، إنّما أمر ليطاع ، ومثّل ليتمثّل ، وحكم ليفعل ، قال الله سبحانه وتعالى :( إِنَّ اللَّـهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ) (١) وقال :( أُولَـٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّـهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) (٢) فالعنوا أيّها الناس من لعنه الله ورسوله ، وفارقوا من لا تنالون القربة من الله إلّا بمفارقته

اللهمّ العن أبا سفيان بن حرب بن اُميّة ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وولده وولد ولده

اللهمّ العن أئمّة الكفر وقادة الضلال وأعداء الدين ومجاهدي الرسول

_________________

(١) الأحزاب : ٦٤

(٢) البقرة : ١٥٩

٣٦٢

ومعطّلي الأحكام ومبدّلي الكتاب ومنتهكي الدم الحرام

اللهمّ إنّا نبرأ إليك من موالاة أعداءك ، ومن الإغماض لأهل معصيتك كما قلت :( لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ ) (١)

أيّها الناس ، اعرفوا الحقّ تعرفوا أهله ، وتأمّلوا سبل الضلالة تعرفوا سابلها فقفوا عندما وقفكم الله عليه ، وانفذوا كما أمركم الله به ، وأمير المؤمنين يستعصم بالله لكم ويسأله توفيقكم ، ويرغب إليه في هدايتكم ، والله حسبه وعليه توكّله ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم(٢)

وإذا شئت الاطّلاع على مساوئ بني اُميّة بأكثر من هذا اُنظر « مفاخرة بني هاشم وبني اُميّة » الواردة في الشرح المذكور(٣) مضافاً إلى الفوائد التي ساقها الشارح من عنده لأنّ الجاحظ وإن كان من أعداء أمير المؤمنينعليه‌السلام وكان كتب رسالة في إثبات إمامة المروانيّة وسمّاها « كتاب إمامة أمير المؤمنين معاوية » فقد ذكر في رسالة المفاخرة شطراً مقنعاً وفصلاً مشبعاً من خبث أعراق هذه الشجرة الملعونة والطائفة المشئومة وسوء أخلاقها ودنائة حسبها وردائة نسبها ، ولله درّ أبي القاسم المغربيرحمه‌الله حيث قال :

ثمّ امتطاها عبد شمس فاغتدت

هزواً وبدّل ربحها بخسار

وتنقّلت في عصبة اُمويّة

ليسوا بأطهار ولا أبرار

ما بين مأفون إلى متزندق

ومداهن ومضعّف وحمار

_________________

(١) المجادلة : ٢٢

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ١٨٣ في ما وقع سنة ٢٤٨ ، بحار الأنوار ٨ : ٥٤٣ ط اُفست ( هامش الأصل ) وتجده أيضاً في الطبري ١٠ : ٥٥ طبعة اُخرى ، وشرح ابن أبي الحديد ١٥ : ١٨٠ ( المترجم )

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٥ : ٢٦٢ ط بيروت

٣٦٣

قال ابن أبي الحديد : فأمّا قوله في بين اُميّة « مابين مأفون » البيت ، فمأخوذ من قول عبد الملك [ بن مروان ـ مصدر ] وقد خطب فذكر الخلفاء من بني اُميّة قبله ، فقال : إنّي والله لست بالخليفة المستضعف ، ولا بالخليفة المداهن ، ولا بالخليفة المأفون ، عنى بالمستضعف عثمان ، وبالمداهن معاوية ، وبالمأفون يزيد بن معاوية ، فزاد هذا الشاعر فيهم اثنين : وهما المتزندق وهو الوليد بن يزيد بن عبدالملك ، والحمار وهو مروان بن محمّد بن مروان(١)

تنبيه

في البحار عن كامل البهائي ـ وهو من مصنّفات عماد الدين الحسن بن عليّ الطبري المعاصر للمحقّق واُستاذ البشر قدّس سرّهما وكتبه لبهاء الدين محمّد الجويني في عهد هلاكو كما يستفاد ذلك من رياض العلماء للفاضل المتتبّع الميرزا عبد الله المعروف بالأفندي تلميذ العلّامة المجلسيقدس‌سره ـ ونقل عنه أنّه قال : إنّ اُميّة كان غلاماً روميّاً لعبد شمس فلمّا ألقاه كيّساً فطناً أعتقه وتبنّاه ، فقيل اُميّة عبد شمس كما كانوا يقولون قبل نزول الآية زيد بن محمّد ، والآية :( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ
أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ
) (٢) ولذا روي عن الصادقينعليهما‌السلام في قوله تعالى :( الم õ غُلِبَتِ
الرُّومُ
) (٣) أنّهم بنو اُميّة ومن هنا يظهر نسب عثمان ومعاوية وحسبهما وأنّهما لا يصلحان للخلافة لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الأئمّة من قريش »(٤)

وفي البحار أيضاً عن إلزام الناصب قال : إنّ اُميّة لم يكن من صلب عبد شمس

_________________

(١) ابن أبي الحديد ٦ : ١٧ ط بيروت ، واللفظ من المصدر لا شفاء الصدور فإنّ فيه تصحيفات ( هامش الأصل ) وقد جرت مطابقته من المترجم

(٢) الأحزاب : ٤٠

(٣) الروم : ١ و ٢

(٤) البحار ٨ : ٣٦١ ط اُفست ( هامش الأصل ) و ٣١ : ٥٤٣ ط دار الرضا بيروت ـ لبنان ( المترجم )

٣٦٤

وإنّما هو من الروم فاستلحقه عبد شمس فنسب إليه ، فبنو اُميّة كلّهم ليسوا من صميم قريش وإنّما هم يلحقون بهم ، ويصدّق ذلك قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : لصاق وليسوا صحيحي النسب إلى عبد مناف ، ولم يستطع معاوية إنكار ذلك(١)

وروى المحقّق المحدّث الكاشاني قدّس سرّه النوراني من كتاب « الاستغاثة في بدع الثلاثة » ـ وهو على التحقيق من مصنّفات عليّ بن أحمد الكوفي صاحب كتاب ( الأنبياء ) وكتاب ( الأوصياء ) وهذا الكتاب مذكور في رجال النجاشي باسم ( كتاب بدع الثلاثة ) كما أورد ذلك المحقّق النحرير الشيخ أسد الله الشوشتري ناقلاً عن تلميذه المتتبّع الشيخ عبدالنبي الكاظمي في حاشية ( نقد الرجال ) مستمدّاً من إشارة الشيخ يوسف البحرانيرحمه‌الله ويؤكّد نسبة الكتاب إلى عليّ بن أحمد روايته بلا واسطة عن جعفر بن محمّد بن مالك الكوفي ، ومع كلّ ما تقدّم نسب المحقّق المذكور في كتاب الصافي والمحدّث المتبحّر المجلسي في مقدّمة بحار الأنوار الكتاب لابن ميثم البحراني وهذا غريب جدّاً منهما مع سعة باعهما وكثرة اطّلاعهما ـ

وبالجملة ؛ ورد في الكتاب المذكور وهو مرويّ عن علماء أهل البيت بأسرارهم وعلوّهم ووصل إلى علماء الشيعة أنّ قوماً ينسبون إلى قريش وليسوا منهم في حقيقة النسب وهذا من الأخبار التي لا يعلمها إلّا معادن النبوّة وورثة علم الرسالة وذلك نظير بني اُميّة حيث نفوذهم عن قريش وألحقوهم نسباً بالروم وفيهم ورد تأويل هذه الآية( الم õ غُلِبَتِ الرُّومُ ) ومعناها أنّهم غلبوا على الملك وسيغلبهم بنو العبّاس عجلين ، وهذا التأويل يناسب قرائة ( غلبت ) بصيغة المعلوم كما في الصافي ، وجعلت هذه القرائة من الشواذّ

_________________

(١) بحار الأنوار ٣١ : ٥٤٤

٣٦٥

وفي البحار عن كنز الفوائد للعلّامة الكراجكي روى قريباً من هذا المعنى بطريقين : أحدهما عن ابن عقدة ، والآخر عن محمّد بن العبّاس الماهيار صاحب التفسير المعروف ، ويمكن أن يشار إلى ضعف النسب الأموي بأشعار أبي العطاء السندي وهو من مشاهير شعراء الدولتين المخضرمين التي نظمها في هجاء بني اُميّة ، والشعر بنفسه مرغوب فيه وإن لم يؤت به شاهداً على ما تقدّم من نسب الأمويّين ، فللّه درّه وعلى الله برّه ، فلقد أجاد ما شاء :

إنّ الخيار من البريّة هاشم

وبنو اُميّة أفجر الأشرار

وبنو اُميّة عودهم من خروع

ولهاشم في المجد عود نضار

أمّا الدعاة إلى الجنان فهاشم

وبنو اُميّة من دعاة النار

وبهاشم زكت البلاد وأعشبت

وبنو اُميّة كالسراب الحارِ

النصائح الكافية : ١٣٨(١)

فائدة

حكمت طائفة من بني اُميّة في المغرب ، وسمّوا أنفسهم خلفاء ولكنّهم لا يُعتدّ بهم ، ولا يُعدّون شيئاً ، لاضطراب أيّامهم على الأغلب ، وتدهور اُمور مملكتهم ، وكانت رقعة الأندلس صغيرة ، من ثَمّ لم تتّجه إليهم الأنظار ، ولم يحسب ملكهم في الأندلس من أيّام بني اُميّة ، كما أنّ أيّام عبد الملك لم تُعدّ لأنّها صاحبت فتنة ابن الزبير ، لأنّ خلافته اختصّت بالاُردن ودمشق وما حولها(٢) ، ومثله معاوية فلم يُسمّ خليفة مع وجود الإمام الحسن وإن حكم مصر والشام

_________________

(١) النصائح الكافية : ١٤٣ ( المترجم )

(٢) لعلّ المؤلّف يقصد مروان أبا عبد الملك وأمّا عبد الملك ففي عهده قتل ابن الزبير وانتظمت له الاُمور وخضع له العباد والبلاد

٣٦٦

فتبيّن من هذا أنّ ضيق رقعة الملك وقلّة المملكة توجب عدم الاعتداد بالمتحكّم ، ولا خصوصيّة للمشرق أو المغرب في ذلك ، كما هي الحال في بحار الأنوار فقد كانت وجهته المشرق فلم يعتدّ بغيره وكان عليه اعتماده وله عنايته ، وهذا الوجه وإن كان بسبب ما قلناه من ضيق الرقعة وقلّة البلاد والحكم فهو صحيح من هذه الناحية وإلّا فهو ضعيف وموهون

توضيح

ظاهر العبارة في هذه الزيارة بصرف النظر عن تأكيد التعميم بلفظ قاطبة حيث يوجب سياق الكلام بها منع التخصيص ، تكشف عن أنّ بني اُميّة أجمعين أكتعين أبصعين أتبعين خبثاء مستحقّو اللعن

لأنّ المتكلّم لم يأخذ وصفاً في عنوان الحكم لينسحب على العامّ ويتعنون به فلا يوجد في عموم الأفراد وصف قابل لمعارضة الحكم ، فإذا حصل لنا الشكّ في جماعة من بني اُميّة هل قضوا على العقيدة الحقّة والفطرة النقيّة وماتوا حين ماتوا مؤمنين بالحقّ غير دافعين له بل منكرين لسيرة ذويهم ، فإنّنا نحكم بفساد اعتقادهم بناءاً على مقتضى هذا العموم في النصّ ، حيث لعنهم قاطبة ، والمؤمن لا يستوجب اللعن إذاً فلا يكون مؤمناً

وهذا نظير ما إذا قال المولى لغلامه : أكرم جيراني ، فمع كون حاله تدلّ على عدم إكرام أعدائه ، فإنّ العبارة المذكورة كاشفة أنّ العدوّ لا يوجد في جيرانه وقد حقّقنا هذا المطالب في الاُصول بصفة مستوفاة وشرحه والدنا المحقّققدس‌سره في كتاب ( مطارح الأنظار ) شرحاً وافياً وكان له تحقيق مغنٍ في هذا الباب عمّا عداه

ولكن يستخلص من هذه العبارة إشكال بيّن لا مندوحة من ذكره ، وهو أنّ الحكم على بني اُميّة عامّة بعدم الإيمان يعارضه وجود جماعة من القدماء والمتأخّرين كانوا يوالون أهل البيت مثل خالد بن سعيد بن العاص وأبو العاص

٣٦٧

ابن الربيع وهو من الأولى تخلّفوا عن بيعة أبي بكر ، وثبت مع أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما نصّ على ذلك العامّة والخاصّة في كتبهم ، واعتبر الحرّ العاملي في أمل الآمل ، الأموي الأبيوردي الشاعر من علماء الشيعة وكذلك يظهر لنا بالتتبّع أنّ كثيراً من الرجال والنساء المنسوبين إلى هذه الطائفة كانوا على جانب كبير من الاستقامة مثل أمامة بنت أبي العاص التي تزوّجها الإمام أمير المؤمنين بعد وفاة الصدّيقة الطاهرةعليها‌السلام بوصيّة منها ، ومثل محمّد بن حذيفة واُمّه بنت أبي سفيان وكان من خواصّ أمير المؤمنينعليه‌السلام وتحمّل المشاقّ الصعبة في سبيل محبّته ، ودخل سجن معاوية في هذا السبيل ، وعانى منه سنين عدداً ومعاوية لعنه الله خاله ، ولم يتفق معه قطّ

والجواب على هذا الاعتراض يمكن تحقيقه في وجوه :

الوجه الأوّل : الظاهر أنّ عموم اللفظ يشمل الموجودين ساعة الخطاب ، لأنّ حكم الإضافة في الوضع أنّها حقيقة في المعهود ولا معهود في تلك الآونة إلّا الموجودون من الأمويّين وهذا الوجه ضعيف لأنّ المراد من الموجودين إن كانوا في زمن الراوي الذي هو زمن الإمام الصادق أيضاً فينبغي أن لا يتناول اللفظ أولئك المتقدّمين من بني اُميّة وهم الأكثر ونحن نقطع بدخول معاوية ويزيد في هذا اللعن وإن كان القصد جميع الأزمان السابقة من إمام إلى إمام فالإشكال باق على حاله في الأخيار المتقدّمين منهم

الوجه الثاني : أن نلتزم بفساد الفطرة الأمويّة وانحرافها وإن حصل لبعضهم الاستقامة في عهدٍ مّا من المجتمع فإنّ حكم الفطرة المعوجّة يغلب عليهم ويؤدّي إلى انحرافهم عن جادّة الصواب ويحملهم ذلك على الارتداد ويخرجون من الدنيا على الضلال ، نعوذ بالله العظيم

ولو أنّنا قطعنا باستقامتهم السابقة فلا دليل على إحرازها ساعة الوفاة إلّا

٣٦٨

بالاستصحاب ، والدليل المذكور المتضمّن لتجويز لعنهم قاطبة أمارة كاشفة عن استيعاب واستغراق جميع الأفراد بحكم خباثتهم ، من هنا نحكم بجواز لعنهم والبرائة منهم

ويجب أن يعلم أنّ المراد ببني اُميّة بحكم الوضع واللغة هم الرجال المنسوبون بالآباء إلى اُميّة فلا وجه لعدّ أمامة وهي بنت أو محمّد بن حذيفة وهو منسوب إليهم من جهة أمّه وأمثالهما منهم ، بل لا سبيل لعدّ أبي العاص من بني اُميّة وإن جاء في ذلك خبر ضعيف(١)

وفي رسالة مفاخرة الجاحظ أنّ بني اُميّة استدلّوا على نفي الشجرة الملعونة عنهم بوجود أبي العاص فيهم(٢)

وهذا القول غير ملتئم في ميزان تصحيح الأنساب لأنّ أبا العاص بن ربيع بن عبدالعزّى بن شمس بن عبد مناف وهو عبشمي كما ذكر ذلك في اُسد الغابة وغيرها

ولا وجه لذكر الأبيوردي في الشيعة وإن ذكر ذلك الشيخ الحرّقدس‌سره في أمل الآمال ، ولم يقم شاهداً على ذلك وكان بأشعاره يفخر بأمويّته ويأسف على ضياع

_________________

(١) محمّد بن أحمد الكوفي الخزّاز ، عن أحمد بن محمّد بن سعد الكوفي ، عن ابن فضّال ، عن إسماعيل بن مهران ، عن أبي مسروق النهدذي ، عن مالك بن عطيّة ، عن أبي حمزة قال : دخل سعد بن عبد الملك وكان أبو جعفر يسمّيه سعد الخير وهو من ولد عبد العزيز بن مروان على أبي جعفرعليه‌السلام فبينا ينشج كما تنشج النساء ، قال : فقال له أبو جعفرعليه‌السلام : ما يبكيك يا سعد ؟ قال : وكيف لا أبكي وأنا من الشجرة الملعونة في القرآن ! فقال له : لست منهم ، أنت أمويّ منّا أهل البيت ، أما سمعت قول الله تعالى عزّ وجلّ يحكي عن إبراهيمعليه‌السلام :( فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) [ إبراهيم : ٣٦ ] [ الاختصاص : ٥٩ ، بحار الأنوار ٤٦ : ٣٣٨ ط لبنان ] ( هامش الأصل ) الاختصاص : ٨٥ تحقيق غفّاري ط جماعة المدرسين ـ قم ، والبحار ٤٦ : ٣٣٦ ( المترجم )

(٢) ابن أبي الحديد ١٥ : ٢٦٣ ط بيروت ( هامش الأصل )

٣٦٩

الملك منهم وهذا الأمر ينافي التشيّع بل تقتضيه الفطرة الأمويّة الخبيثة

وأخطاء الشيخ الحرّ من هذا النمط كثيرة ، لأنّه عدّ أبا الفرج الأصفهاني وهو مروانيّ من علماء الشيعة الإماميّة ، لأنّه لم يكن إماميّاً بالإجماع بل كان من علماء الزيديّة ، وسرى الخطاء إلى الشيخ من قول بعضهم أنّه من الشيعة وتخالف رواياته روايات الإماميّة غالباً كما يظهر ذلك التتبّع والتقصّي في كتابه الأغاني ، إذ لا يجيز الإمامي أن ينسب إلى عبد الله بن جعفر ذي الجناحين الذي هو في عصره ثاني الحسنين وثالث القمرين استماع الغناء مع أنّ حليلته زينب سلام الله عليها وهي عقيلة خدر الرسالة ومحجوبة ستر الإمامة ورضيعة ثدي الزهد والعصمة والوليّة ، وربيبة حجر العلم الحكمة النبويّة ، وكانت تعيش معه في بيت واحد

وهكذا تجد من طراز هذه الترّهات والخزعبلات في الأغاني الكثير وهو الذي نسب الندم إلى الحسين من مسيره إلى كربلاء في يوم عاشوراء وكتابه ( مقاتل الطالبيّين ) معروف ، وتعرّضنا لشرح حاله وإن جاء على سبيل الاستطراد ولكنّه إن تأمّلت مطلوب لذاته

ومجمل القول إنّي أذكر في هذا المقام قطعة من الشعر له تدلّ على اختلال عقيدته :

ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت

لنا رغبة أو رهبة عظمائها

وكان إلينا في السرور ابتسامها

شدائد أيّام قليل رخائها

وكان إلينا في السرور ابتسامها

فصار علينا بالهموم(١) بكائها

وصرنا نلاقي النائبات بأوجه

رقاق الحواشي كاد يقطر مائها

وفي البيت الذي يقول فيه « وصرنا نلاقي » تداعى في خاطري شعر سيّد

_________________

(١) في الهموم ـ وفيات ( هامش الأصل )

٣٧٠

الشعراء وخاتم الاُدباء الشاعر الماهر والأديب المعاصر السيّد حيدر الحلّيرحمه‌الله حيث يقول :

من أين تخجل أوجه أمويّة

سكبت بلذّات الفجور حيائها

ومن الشعر الذي يفخر به بنسبه هذه الأبيات وهي من نجديّاته :

قالت لصحبي سرّاً إذ رأت فرسي

من الذي يتعدّى مهره خببا

فقال أعلمهم بي إنّ والده

من كان يجهد أخلاف العلى حلبا

ما مات حتّى أقرّ الناس قاطبة

بعزّه وهو أعلى خندف نسبا

لم يكتف بالفخر العنصر الأموي فحسب بل جعله أعلى قبائل خندف في النسب مع ما علمت من ردّ بعضهم نسبهم في قريش وسوف يتجلّى نسب أبي سفيان واُمّه حمامة وأهون بالخيبة والفضيحة من النسب الذي ينتهي إلى أبي سفيان ثمّ منه إلى اُميّة

ولو قيل للكلب أمثاله

عوىٰ الكلب من لؤم هذا النسب(١)

وفي غيره من نجديّاته يقول :

وإنّي وإن كان الهوى يستفزّني

لذو مرّة قطّاعة للقرائن

أروم العلى والسيف يخضبه دم

بأبيض بتّار وأسمر مارن

وإن خاشنتني النائبات تشبّثت

بأروع عبل الساعدين مخاشن

إذا سمّته خسفاً تلظّى جماحه

وأجلين عن خصم ألدّ مشاحن

لئن سلبتني نخوة أمويّة

خطوب اُعاينها فلست بحاضن

_________________

(١) المشهور في البيت :

ولو قيل للكلب يا باهلي

عوى الكلب من لؤم هذا النسب

ولا معنى لقوله : أمثاله ( المترجم )

٣٧١

قاتله الله ما أشعره وفي موضعٍ آخر من نجديّاته يقول خارج أدب النسيب ويشتدّ في تحمّسه في الغزل ثمّ يقول :

بني خيثم الله الله في دمي

فطالبه الذي قوله الفعل

ومرد على جرد بأيدٍ تمدّها

إلى الشرف الضخم الخلائف والرسل

دم أمويّ ليس ينكر فرده

وما بعده إلّا الفرار أو القتل

ألم يك في عثمان للناس عبرة

فلا ترحضوه طلّه إنّه يغلوا

ولولا الهوى سارت إليكم كتيبة

يعضل من نجد بها الحزن والسهل

ومن تأمّل أشعاره هذه لا يبقى عنده أدنى شكّ في انحرافه وعدم استقامته ، وأكثر شعره تصريحاً بنواياه المقطوعة الأخيرة التي يستعيد فيها ذكرى دم عثمان ويتباهى بحروب الجمل وصفّين ، بل إنّ له أشعاراً في يوم الطفوف كما سوف تعلم أنّ بني اُميّة إنّما ألبسوها قميص عثمان وأثاروها معنونة بالطلب بدم عثمان ، ولقد ارتكبوا اُموراً شنعاء انتقاماً لدمه وأخذاً بثأره

والعجيب أنّ المقطوعة الاُولى من شعره التي سلفت منّا مذكورة في الوفيات ، والشيخ الحرّ العاملي أخذ شرح أحواله من الكتاب نفسه ولكنّه غفل عن مضمون هذا الشعر(١)

وجملة القول : إنّك عرفت تقريب الوجه الثاني ، والإنصاف أنّ الالتزام بهذا الوجه على الوجه الذي يلجئنا إلى رفع اليد عن الاُمور المقطوع بها مع فرض التحقّق من تحكيم هذا الدليل على استصحاب سلامة عقيدتهم أمر مشكل جدّاً

_________________

(١) وفيات الأعيان ٤ : ٤٤٦ وفي القطعة بيت سقط من الناس وهو قوله :

إذ ما هممنا أن نبوح بما جنت

علينا الليالي لم يدعنا حيائها

والمؤلّف ذكره بقرينة استشهاده ببيت الحلّي ولكنّ الناسخ أهمله غفلة ( المترجم )

٣٧٢

لاسيّما وأنّ هناك عمومات اُخرى في فضائل المؤمنين بأيدينا لا يسهل الالتزام بتخصيصها بل هو صعب مستصعب ، وربّما كان في رواية حياة الحيوان التي سلفت ( ذيل وآل مروان ) لا تخلو من تأييد من أنّ النبيّ قال : ما أقلّ المؤمنين فيهم(١)

لأنّ هذا الخبر مع ملاحظة اشتماله على ذمّ بني اُميّة ، مظنون الصدق ، ولا أرى أحداً يقدح بخالد بن سعيد تمسّكاً بهذا الحديث مع ما كان عليه خالد بن سعيد من إظهار الإخلاص والتودّد والثبات ، وما أظهره من حسن البيان في المسجد مع معارضته أبا بكر وامتناعه من بيعته ، وهذا بأجمعه مذكور بأهمّ المصادر التاريخيّة وتشتمل عليه اُمّهات الكتب الموثّقة(٢) ثمّ إنّه بعد هذا وذاك صحابيّ مؤمن مطيع لأهل بيت نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله والعمومات الواردة في فضل الصحابة ومدايح المهاجرين تشمله ولا دليل على إخراجه بخصوصه منها علاوة على أنّ الوجه الثالث موجب لظهور الوهن والضعف في هذا الوجه

الوجه الثالث : المراد من بني اُميّة خصوص أولئك الذين أعانوا في غصب الخلافة وإطفاء نور الله وجحد كلمة الولاية ، وشاركوا في مجريات الأحداث

_________________

(١) رواية الخصال باب الأربعة : ١٠٨ بالإسناد عن الرضا عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحبّ أربع قبائل : كان يحبّ الأنصار وعبد القيس وأسلم وبني تميم ، وكان يبغض بني اُميّة وبني حنيف [ حليف ـ ظ ] وبني ثقيف وبني هذيل ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لم تلدني اُمّ بكر ولا ثقفيّة ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : في كلّ حيّ نجيب إلّا في بني اُميّة

(٢) في الاحتجاج للطبرسي : ٤٧ والخصال باب الإثني عشر ٢ : ٦٧ : إنّه من الإثني عشر الذين أنكروا على خلافته وجلوسه مجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل أوّلهم ، حيث قام فقال : يا أبا بكر ، اتّق الله

وفي الاحتجاج : ٥١ ، قال لعمر : يا بن صهّاك الحبشيّة ، أبأسيافكم تهدّدوننا أم بجمعكم تفزعوننا ؟ والله إنّ أسيافنا أحدّ منكم وإنّا لأكثر منكم وإن كنّا قليلين لأنّ حجّة الله فينا ، والله لولا أنّي أعلم أنّ طاعة الله ورسوله وطاعة إمامي أولى لشهرت سيفي وجاهدتكم في الله إلى أن أبلي عذري فقال أمير المؤمنين : اجلس يا خالد فقد عرف الله مقامك وشكر لك سعيك وراجع ترجمته في التنقيح ١ : ٣٩١ ( هامش الأصل )

٣٧٣

بالسيف والسنان والقلم واللسان ، وأظهروا بغض أهل البيت ، ويؤيّد هذه القضيّة أنّ هذا هو المتبادر إلى الأذهان من ذكر القضيّة مع ملاحظة الإشكال السابق أضف إلى ذلك قلّة مصاديق عنوان بني اُميّة لأنّ أبنائه النسبيّين قليلو العدد ، وأمّا الحكم وأولاده فكلّهم أبناء سفاح ولغير رشدة ، وأمّا أولاد أبي سفيان فهم متّهمون بخبث الولادة بل على التحقيق كانوا لغير رشدة كما سوف اُشير إليه في محلّه إن شاء الله ، وأمّا أولاد أبي معيط وهم أولاد ذكوان أبيه فهم لصقاء ؛ لأنّ ذكوان في رأي جماعة إنّه غلام اُميّة وألحقه بنسبه وتبنّاه كما أشار إليه في اُسد الغابة(١)

فلابدّ من حمل العموم في الجملة المذكورة على الزيادة على الطائفة المشتملة على خلفائهم واُمرائهم ، ويكون بناءاً على هذا لفظ بني اُميّة عنواناً عرفيّاً من أجل الإشارة إلى تلك الجماعة المعهودة ، وحقيقة الإضافة في العهد شاهد صدق هذه الدعوى ، ومجملاً يؤيّد بل يصدّق هذا المعنى الخبر المذكور في الخصال في باب السبعة : للنار سبعة أبواب ، وباب يدخل منه بنو اُميّة هو لهم خاصّة لا يزاحمهم فيه أحد ، وهو باب لظى ، وهو باب سقر ، وهو باب الهاوية تهوي بهم سبعين خريفاً .

وفي آخر الحديث : قال محمّد بن فضيل الرزقي راوي الحديث : فقلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : الباب الذي ذكرت عن أبيك عن جدّكعليهما‌السلام أنّه يدخل منه بنو اُميّة يدخله منهم من مات على الشرك أو من أدرك منهم الإسلام ؟ فقال : لا اُمّ لك ، ألم تسمعه يقول : وباب يدخل منه المشركون والكفّار ، فهذا الباب يدخل فيه كلّ مشرك وكلّ كافر لا يؤمن بيوم الحساب ، وهذا الباب الآخر يدخل منه بنو اُميّة لأنّه

_________________

(١) وقد قيل إنّ ذكوان كان عبداً لاُميّة فاستلحقه [ اٌسد الغابة ٥ : ٩٠ ] وفي ١ : ٢٥١ : ثمّ أدركته « اُميّة » وقد عمي يقوده غلام له يقال له ذكوان

٣٧٤

هو لأبي سفيان ومعاوية وآل مروان خاصّة يدخلون من ذلك الباب فتحطمهم النار حطماً لا تسمع لهم فيها واعية ، ولا يحيون فيها ولا يموتون(١)

وثبت هنا أنّهم فسّروا بني اُميّة بتلك الجماعة المخصوصة التي تقمّصت سروال الخلافة وتشبّثت بأذيالها ، وهذا التوجيه بنظري أقرب إلى التحقيق ، وهذا ليس تخصيصاً ليقول القائل : سياق هذا العام من حيث التأكيد يأبى التخصيص بل هو تخصّص ومؤكّد للتأكيد

وفي هذا المقام مقال هو أهل لأن نعرض له بل ذكره لازم حتماً ، ومجمله كما يلي : يظهر من طائفة من الأخبار والآثار في الجملة مدح عمر بن عبد العزيز من قبيل ما فعله من رفع السبّ عن أمير المؤمنين عندما تسنّم غارب الخلافة ، وكان معمولاً به في العهد الأموي وأشاد به كثير عزّة وقال الأبيات التالية في مدحه :

وليت فلم تشتم عليّاً ولم تخف

بريّاً ولم تتبع مقالة مجرم

تكلّمت بالحقّ المبين وإنّما

تبيّن آيات الهدى بالتكلّم

وصدقت معروف الذي قلت بالذي

فعلت فأضحى راضياً كلّ مسلم

ألا إنّما يكفي الردىٰ بعد زيفه

من الأولاد البادي ثقاف المقوّم

وردّ فدك على أهلها من آل مروان بعد أن نحلها عثمان مروان بن الحكم ، وأحسن إلى أهل البيت فلم يظلم منهم أحداً

ونقل عن فاطمة بنت سيّد الشهداء أنّها قالت : لو كان عمر بن عبد العزيز حيّاً لما احتجنا

_________________

(١) الخصال ٢ : ١٢ باب للنار سبعة أبواب ( هامش الأصل ) الخصال : ٣٦١ تحقيق غفاري ، نشر جماعة المدرّسين في الحوزة العلميّة ( المترجم )

٣٧٥

ونقل العامّة عن باقر علوم النبيّين : لكلّ قوم نجيب وعمر بن عبد العزيز نجيب بني اُميّة(١)

ومن الأقوال المشهورة : الناقص والأشجّ أعدلا بني مروان ، والناقص هو يزيد بن الوليد الذي نقص أعطيات أبيه ، والأشجّ هو عمر بن عبد العزيز لوجود شجّة في رأسه

وفي كتاب قرب الإسناد ويصل السند إلى صادق آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله عن أبيه الباقرعليه‌السلام إنّه قال : لمّا ولّى عمر بن عبد العزيز أعطانا عطايا عظيمة ، قال : فدخل عليه أخوه فقال له : إنّ بني اُميّة لا ترضى منك بأن تفضّل بني فاطمة عليهم ، فقال : اُفضّلهم لأنّي سمعت حتّى لا اُبالي أن أسمع أو لا أسمع أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول : إنّ فاطمة شجنة منّي ، يسرّني ما أسرّها ، ويسوئني ما أسائها ، فأنا أتّبع سرور رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأتّقي مسائته(٢)

ويعثر المتتبّع على أخبار من هذا القبيل ومن هذه الجهة توقّف بعض الأكابر وهو الفاضل المتبحّر الميرزا عبد الله أفندي صاحب « رياض العلماء » في هذا الكتاب جازماً عن لعنه ونقل كلامه وحكاه عنه ، ولست أودّ أن أذكر اسمه الشريف وأنسب إليه هذه الدعوى الباطلة في هذا الكتاب ولا وجه لذلك(٣) بل

_________________

(١) تاريخ الخلفاء : ٢٣٠ ط السعاد بمصر ( هامش الأصل ) وسُئل محمّد بن عليّ بن الحسين عن عمر بن عبدالعزيز ، فقال : هو نجيب بني اُميّة وإنّه يبعث يوم القيامة اُمّة وحده الخ ، والسياق يخالف ما ذكره المؤلّف ( المترجم )

(٢) قرب الإسناد ١ : ٥٣ ( المترجم ) تاريخ الخلفاء : ٢٣٠ ط السعادة بمصر ( هامش الأصل )

(٣) أدع شيخي الجليل على رأيه في جواز لعن الرجل وأسأله عن الخلافة هل كان باستطاعته أن يردّها إلى أهل البيت بين عشيّة وضحاها ؟ ومن أين لشيخنا أنّ ابن عبد العزيز لا ينوي ردّها وقد كان فيما بلغنا من أخباره أنّه ينوي التغيير والثورة على بني اُميّة حتّى أنّ ابنه عبد الملك طالبه بإعلان الثورة على كلّ ما هو

٣٧٦

لعنه أوضح الواضحات وأوجب الواجبات لأنّه لا ذنب أعظم من ذنب غصب الخلافة وادّعاء الإمامة وقد فعلهما ، وتحمّل هذا الوزر العظيم حيّاً وميّتاً ، ولا ضرر على الاُمّة أعظم من منع الأئمّة حقّهم في الأمر النهي ، وإذا كان قد أحسن فهو من أجل المصانعة ومداراة الملك

والحقّ يقال أنّ أهل السنّة أثنوا عليه ثناءاً جميلاً وسمّوه عمر الثاني ، ونحن نصفه أيضاً بهذا الوصف وننحو بحقّه هذا النحو ، ونعتقد فيه نفس المعتقد ، ولقد نال العدل التقديري من عمر بالإرث لأنّه اُمّه بنت عاصم بن عمر بن الخطّاب ، بل تميّزت سيرته الظاهريّة عن سائر بني اُميّة ، وكلام الإمام الباقر ـ إن صحّ ـ فإنّه يحمل على نفس المعنى ، فقول : عمر نجيب بني اُميّة ، معناه مضافاً إلى هذه الطائفة وإن كان في نفسه أخبث خلق الله ، ومثله قول : أعدلا بني مروان أي إنّ عدلهما بالنسبة إلى سائر الأمويّين ، وإن كان قياسهم إلى العدول قياس الظالم إلى العادل

وكيف يطلب عمر بن عبد العزيز رضا فاطمة ولم يعهد بالخلافة إلى ولدها الإمام الباقر وهو إمام واجب الطاعة ومعجزاته وكراماته ملأت السهل والجبل ، وملأت سمع العدوّ وبصره وقمه ويده وكان معاصراً له ، ذلك هو الخسران المبين

وروى في أصل عاصم بن حميد الحنّاط ـ الذي ملكت نسخته بعنايةٍ من الله جلّ ذكره ـ عن عبد الله بن عطا أنّه قال : كانت يدي بيد الإمام الباقرعليه‌السلام لمّا كان على عمر بن عبد العزيز ثوبين ممصّرين ، فقال الإماام الباقر : ليلينّ الولاية سريعاً ثمّ

_________________

أمويّ لكنّ أباه أجابه إنّي أخشى أن يستعينوا علينا بمن نثور من أجلهم أي الضعفاء ، ومعناه أنّ الثورة لم تنضج بعد ثمّ أسأل الشيخ عن قول الشريف :

غير أنّي أقول إنّك قد طبت

وإن لم يطب ولم يزكُ بيتك

هل يجوز لعن الطيّب ؟ وباعتقادي أنّ الشيخ قسى على ابن عبد العزيز ومن حقّه علينا السكوت ؛ لا نلعنه ولا نترحّم عليه ( المترجم )

٣٧٧

يموت فيبكي عليه أهل الأرض ويلعنه أهل السماء(١)

وهذه الرواية غاية في الاعتماد بل هي بناءاً على الأصل الذي أصّلناه في حجيّة خبر الواحد حائزة على مرتبة نصاب الحجيّة والصحّة لأنّ عاصم بن حميد ثقة جليل الشأن ، روى عنه في أصله واعتبره نصر بن الصباح الذي يستند العيّاشي والكشّي على أقواله في أكثر من مكان من نجباء أصحاب الصادقعليه‌السلام ودلالة ذلك على جلالة قدره ظاهرة ، ونقل الشهيد الثاني في كتاب الدراية نفس العبارة دونما نسبة إلى نصر بن الصباح وهذه إمارة الاعتماد وعلامة الاعتداد وموافقة هذا الخبر لعمومات لعن الغاصبين والمنحرفين عن أهل البيت وأعدائهم وإحباء أعدُّائهم وعموم اللعن المذكور في الزيارة كما يبّنّاه بنفسه معقل حصين وركن وثيق لمن حاله الشكّ

أجل ، إنّ من الانصاف أنّ عمر بن عبد العزيز عمل أعمالاً حسنة من قبيل رفع السبّ وردّ فدك ونحن نشكر له عمله هذا نظير مدح السيّد الأجل الأعظم

_________________

(١) أصل عاصم بن حميد هو الأصل الثالث من ستّة عشر أصلاً ، ص ٢٣ الحديث الخامس ، ونظيره الرواية التالية :

أحمد بن محمّد ، عن الأهوازي ، عن القاسم بن محمّد ، عن سليمان بن دينار ، عن عبد الله بن عطا التميمي قال : كنت مع عليّ بن الحسينعليهما‌السلام في المسجد فمرّ عمر بن عبد العزيز عليه شراكا فضّة ، وكان من أحسن الناس وهو شابّ ، فنظر إلى عليّ بن الحسينعليهما‌السلام فقال : يا عبد الله بن عطا ، أترى هذا المترف ؟ إنّه لن يموت حتّى يلي الناس قال : قلت : هذا الفاسق ؟ قال : نعم ، فلا يلبث فيهم إلّا يسيراً حتّى يموت ، فإذا هو مات لعنه أهل السماء واستغفر له أهل الأرض [ بصائر الدرجات : ٤٥ ، بحار الأنوار ٤٦ : ٣٢٧ ط لبنان ، إثبات الهداة ٣ : ١٢ ] ( هامش الأصل )

أبو بصير قال : كنت مع الباقرعليه‌السلام في المسجد إذ دخل عمر بن عبد العزيز متوكّياً على موالي له ، فقالعليه‌السلام : ليلينّ هذا الغلام فيظهر العدل ويعيش أربع سنين ثمّ يموت فيبكي عليه أهل الأرض وتلعنه أهل السماء لأنّه جلس مجلساً ولا حقّ له فيه ثمّ ملك وأظهره العدل وجهره [ إثبات الهداة ٣ : ٥١ عن الخرايج والجرايح ]

٣٧٨

الرضيرضي‌الله‌عنه وهو من أكابر الفقهاء والزهّاد من أهل البيت ، له في ديوانه الشريف حيث خاطبه بقوله :

يا بن عبد العزيز لو بكت العين

فتىً من اُميّة لبكيتك

غير أنّي أقول إنّك قد طبت

وإن لم يطب ولم يزك بيتك

أنت نزّهتنا عن السبّ والقذف

ولو أمكن الجزاء جزيتك

ولو أنّي رأيت قبرك لاسـ

تحييت من أن أرى وما حييتك

وقليل أن لو بذلت دماء البُدن

ضرباً على الذرى وسقيتك

دير سمعان لا أغبك غادٍ

خير ميّت من آل مروان ميتك

أنت بالذكر بين قلبي وعيني

إن تدانيت منك أو قد نأيتك

وإذا حرّك الحشا خاطر منك

توهّمت أنّني قد رأيتك

وعجيب أنّي قليت بني مروان

طرّاً وإنّني ما قليتك

قرب العدل منك لمّا نأى

الجور بهم فاجتنبتهم واجتبيتك

فلو أنّي ملكت دفعاً لما نالك

من طارق الردىٰ لفديتك(١)

إرشاد

الأخبار في لعن عموم بني اُميّة كثيرة من طريق أهل البيتعليهم‌السلام ويستحبّ لعن بني اُميّة بعد كلّ فريضة كما روى ذلك شيخ الطائفة في التهذيب بسنده عن أبي جعفر باقر علوم النبيّينعليهم‌السلام أنّه قال لجابر الجعفي :

إذا انحرفت عن صلاة مكتوبة فلا تنحرف إلّا بانصراف لعن بني اُميّة(٢)

_________________

(١) ديوان السيّد الرضي ١ : ٢١٥

(٢) التهذيب ١ : ١٦٥ و ٢٢٧ ، بحار الأنوار ٥٨ : ٨٦ ( هامش الأصل ) التهذيب ٢ : ١٠٩ و ٣٢١ ( المترجم )

٣٧٩

وَلَعَنَ اللهُ ابْنَ مَرْجانَةَ

الشرح : المراد من ابن مرجانة هو ابن زياد ، وذكره باللعن بعد ذكر آل زياد وبني اُميّة وهو يشمله ـ كما مرّ في التحقيق السابق ـ لخصوصيّة له في قتل سيّد الشهداء ، واحتمل المجلسي عليه الرحمة أنّ إفراده بالذكر لخبث مولده فلا يشمله حينئذٍ لفظ آل زيادٍ وبني اُميّة ، وقد قلنا أنّ هذين الفرعين من بني اُميّة جميعاً أبناء سفاح ولغير رشدة ، وإذا كان هذا هو الوجه فينبغي ذكر آحادهم ولا يقتصر الأمر على ابن زياد وحده ، ونسبته إلى مرجانة لمزيد انتقاصه وذمّه ليعلم مع حال أبيه حال اُمّه كذلك

وكانت مرجانة من الزواني المعروفات وقد اُشير إليها في الأشعار كما يقول في هذا الشعر سراقة الباهلي ، ولنعم ما قال :

لعن الله حيث حلّ زياداً

وابنه والعجوز ذات البعول(١)

وقال جماعة : المراد من العجوز ذات البعول مرجانة ، وظاهر العبارة المرويّة في رجال الشيخ الكشّي في ترجمة ميثم التمّاررضي‌الله‌عنه « يقتله العتلّ الزنيم ابن الأمة الفاجرة »(٢) هذا وإن كانت الإشارة يمكن أن تدلّ على سميّة وربّما كانت أظهر من جهة

وفي خطبة عاشوراء المرويّة في الاحتجاج : ألا وإنّ الدعيّ بن الدعيّ قد ركّز بين اثنين(٣) وهذه العبارة صريحة بأنّ ابن زياد ولد الزنا أيضاً(٤) مثل أبيه ،

_________________

(١) خالف شيخنا الجليل الطبري حيث قال : وكانت مرجانة امرأة صدق فقالت لعبيدالله حين قتل الحسينعليه‌السلام : ويلك ماذا صنعت وماذا ركبت الخ [ تاريخ الطبري ٥ : ٤٨٤ ] ( المترجم )

(٢) ليأخذنّك رجال الكشّي ١ : ٨٥ رقم ١٤٠ ( هامش الأصل ) جرى تطبيق ذلك ( المترجم )

(٣) بحار الأنوار ٤٥ : ٩ ط بيروت ( هامش الأصل ) ٤٥ : ٧ ( المترجم )

(٤) يريد الإمام بالدعيّ استلحاقه بقريش ولكن نسبة الدعوة إلى عبيد الله هو ما قصده المؤلّف ( المترجم )

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439