شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور الجزء ١

شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور13%

شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور مؤلف:
المحقق: محمد شعاع فاخر
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
ISBN: 964-503-000-5
الصفحات: 439

الجزء ١
  • البداية
  • السابق
  • 439 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 34252 / تحميل: 4870
الحجم الحجم الحجم
شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور

شفاء الصّدور في شرح زيارة العاشور الجزء ١

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
ISBN: ٩٦٤-٥٠٣-٠٠٠-٥
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

والمجاهدين في سبيل الله ، أو صفوف المصلّين والعباد.

رغم أنّ القرائن تشير إلى أنّ المراد من كلمة «الصافات» هو الملائكة ، إضافة إلى أنّ بعض الروايات قد أشارت إلى ذلك المعنى(١) .

وليس هناك أي مانع من أن تشمل كلمة «الزاجرات» الملائكة الذين يطردون وساوس الشياطين من قلوب بني آدم ، والإنسان الذي يؤدّي واجب النهي عن المنكر.

و «التاليات» إشارة إلى كلّ الملائكة والجماعات المؤمنة التي تتلو آيات الله ، وتلهج بذكره تبارك وتعالى على الدوام.

هنا يطرح هذا السؤال : ظاهر هذه الآيات ـ وبمقتضى وجود العطف بحرف (الفاء) بين الجمل الثلاث ـ يبيّن أنّ الطوائف الثلاث جاءت الواحدة بعد الاخرى ، فهل أنّ هذا الترتيب جاء بحكم الواجب المترتّب على كلّ طائفة؟ أم كلّ حسب مقامه؟ أم لكلا الأمرين؟

من الواضح أنّ الاصطفاف والاستعداد قد جاءا كمرحلة اولى ، ثمّ جاءت ـ كمرحلة ثانية ـ عملية إزالة العراقيل من الطريق. أمّا إعلان الأوامر وتنفيذها فقد كانت بمثابة المرحلة الثالثة.

ومن جهة اخرى فإنّ المستعدّين لتنفيذ الأوامر الإلهيّة لهم مرتبة ، والذين يزيلون العراقيل لهم مرتبة أعلى ، أمّا الذين يتلون الأوامر وينفّذونها فلهم مرتبة أسمى من الجميع.

على أيّة حال فإنّ قسم الله سبحانه وتعالى بتلك الطوائف يوضّح عظم منزلتهم عند الباريعزوجل ، ويشير إلى حقيقة مفادها أنّ سالكي طريق الحقّ عليهم للوصول إلى غايتهم أن يجتازوا تلك المراحل الثلاث والتي تبدأ بتنظيم الصفوف ووقوف كلّ مجموعة في الصفّ المخصّص لها ، ومن ثمّ العمل على إزالة العراقيل

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد ٤ ، الصفحة ١٥ ، الدرّ المنثور ، المجلّد ٥ ، الصفحة ٢٧١.

٢٨١

من الطريق ، ورفع الموانع بالصوت العالي ، الصوت الذي يتناسب مع مفهوم الزجر ، ومن بعد تلاوة الآيات الإلهيّة والأوامر الربّانية على القلوب المتهيّئة لتنفيذ مضامين تلك الأوامر.

فالمجاهدون السالكون لطريق الحقّ ليس أمامهم من سبيل سوى اجتياز تلك المراحل الثلاث ، وبنفس الصورة على العلماء العاملين أن يستوحوا في جهودهم الجماعية ذلك البرنامج.

وممّا يذكر أنّ بعض المفسّرين فسّروا الآيات على أنّها تعود على المجاهدين ، والبعض الآخر أكّد عودتها على العلماء ، ولكن حصر مفهوم الآيات بالمجاهدين والعلماء فقط مستبعد بعض الشيء ، وإن أعطيت الآيات طابعا عامّا فإنّها ستكون أقرب للواقع ، وإذا اعتبرناها تخصّ الملائكة فإنّ الآخرين يمكنهم تنظيم حياتهم وفق مناهج الملائكة.

أمير المؤمنين عليعليه‌السلام عند ما يصف بخطبته في نهج البلاغة الملائكة ، فإنّه يقسّمهم إلى مجموعات مختلفة ، ويقول : «وصافون لا يتزايلون ، ومسبّحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النسيان ، ومنهم أمناء على وحيه ، وألسنة إلى رسله»(١) .

أمّا آخر حديثنا عن الآيات الثلاث هذه ، فهو أنّ البعض يعتقد بأنّ القسم في هذه الآيات يعود إلى ذات الله ، وكلمة (ربّ) مقدّرة في جميع تلك الآيات ، حيث يكون المعنى كالتالي : وربّ الصافات صفّا ، وربّ الزاجرات زجرا ، وربّ التاليات ذكرا.

والذين فسّروا الآيات على هذا النحو ، فالظاهر أنّهم يعتقدون بأنّ العباد لا يحقّ لهم القسم بغير الله ، لذا فإنّ الله لا يقسم إلّا بذاته ، إضافة إلى أنّ القسم يجب أن يكون بشيء مهمّ ، ألا وهو ذات الله المقدّسة.

__________________

(١) الخطبة الاولى في نهج البلاغة.

٢٨٢

إلّا أنّ هؤلاء غفلوا عن هذه الحقيقة ، وهي أنّ حساب الله لا علاقة له بالعباد ، فالله تعالى ـ من أجل توجيه الإنسان ـ يقسم بآيات «الآفاق» و «الأنفس» ودلائل قدرته في الأرض والسماء ، وذلك لكي يتفكّر الإنسان بتلك الآيات ، وعن طريقها يعرف ربّه.

وجدير بالذكر أنّ بعض آيات القرآن المجيد ، ومنها آيات سورة الشمس تقسم بموجودات الكون إلى جانب القسم بذات الله المقدّسة ، إذن فالتقدير هنا غير سديد ، إذ يقول القرآن الكريم :( وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ) (١) .

على أيّة حال ، فإنّ ظاهر الآيات ـ محلّ البحث ـ يدلّ على أنّ المجموعات الثلاث هي المقسم بها ، وتقدير الشيء هنا خلاف للظاهر ، ولا يمكن قبوله بغير دليل.

الآن نرى ما هو المراد من هذه الأقسام المفعمة بالمعاني ، أي القسم بالملائكة والإنس؟

الآية التالية توضّح ذلك وتقول :( إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ ) .

قسم بتلك المقدّسات التي ذكرناها فإنّ الأصنام ستزول وتدمّر ، وإنّه ليس هناك من شريك ولا شبيه ولا نظير لله سبحانه وتعالى.

ثمّ يضيف( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ ) .

وهنا نطرح سؤالين :

١ ـ ما هي الضرورة لذكر «المشارق» بعد ذكر السماوات والأرض وما بينهما ، رغم أنّ المشارق هي جزء منهما.

ويتّضح الجواب من خلال الالتفات إلى هذه النقطة وهي : إنّ المراد من «المشارق» هو الإشارة إلى مواقع شروق الشمس في أيّام السنة ، أو إلى مشارق

__________________

(١) سورة الشمس ، الآيات ٥ ـ ٧.

٢٨٣

النجوم المختلفة في السماء ، حيث أنّها جميعا لها نظام وبرنامج خاصّ بها ، إضافة إلى النظام السماوي والأرضي الذي يوضّح العلم والقدرة والتدبير المطلق للخالق.

فالشمس في كلّ يوم تشرق من مكان غير المكان الذي أشرقت منه قبل يوم أو بعد يوم ، والفواصل الموجودة بين هذه النقاط منظمة ودقيقة للغاية ، حيث أنّها لا تزيد ولا تقلّ بمقدار ١ من الثانية ، وهذا التنظيم الدقيق موجود منذ ملايين السنين.

كما أنّ هذا النظام ينطبق على ظهور وغروب النجوم.

إضافة إلى ذلك فإنّ الشمس لو لم تكن تتحرّك ضمن مسير تدريجي طوال العام ، لم يعد هناك وجود للفصول الأربعة وللنعم المختلفة التي تظهر خلال تلك الفصول ، وهذا دليل آخر على عظمة وتدبير الخالقعزوجل .

ومن المعاني الاخرى لكلمة «المشارق» ، هو أنّ الأرض لكونها كروية الشكل ، فإنّ كلّ نقطة عليها تعتبر بالنسبة إلى النقطة الاخرى إمّا مشرقا أو مغربا ، وبهذا فإنّ الآية تؤكّد كروية الأرض ووجود المشارق والمغارب (ولا مانع من تحقّق المعنيين في الآية المذكورة).

أمّا السؤال الثاني الذي يطرح نفسه فهو : لماذا لم تأت كلمة «مغارب» في الآية في مقابل «المشارق» كما جاء في الآية (٤٠) من سورة المعارج( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ) .

والجواب على هذا السؤال ، هو أنّ قسما من الكلام ينسخ قسما آخر لوجود القرينة ، وفي بعض الأحيان يأتيان معا ، وهنا ذكر كلمة «المشارق» قرينة على «المغارب» وهذا التنوّع يوضّح فصاحة القرآن وبلاغته.

فيما قال بعض المفسّرين : إنّ ذكر كلمة (المشارق) يتناسب مع شروق الوحي بواسطة الملائكة( فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ) على قلب النّبي الطاهرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، المجلّد ١٧.

٢٨٤

الآيات

( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) )

التّفسير

حفظ السماء من تسلّل الشياطين!

الآيات السابقة تحدّثت عن طوائف الملائكة المكلّفة بتنفيذ المهام الجسام ، والآيات التالية ـ موضوع البحث ـ ستتحدّث عن الطائفة المقابلة لها ، أي الشياطين وعن مصيرهم. ويمكن أن تكون هذه الآيات مقدّمة لدحض معتقدات مجموعة من المشركين الذين يعبدون الشياطين والجنّ ، وتتضمّن كذلك درسا في التوحيد بين طيّاتها.

تبدأ الآية بالقول :( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) (١) فلو رفع أحدنا

__________________

(١) «الكواكب» هنا بدل من الزينة ، ويحتمل كونها عطف بيان ، والزينة هنا اسم مصدر وليست مصدرا ، حيث

٢٨٥

ببصره نحو السماء في إحدى الليالي المظلمة ، لتجسّم في بصره منظر جميل يسحر الإنسان.

وكأنّ الكواكب تتحدّث معنا بلسانها الصامت ، لتكشف لنا أعن أسرار الخلق ، وأحيانا تكون شاعرة تنشد لنا أجمل القصائد الغزلية والعرفانية ، وإغماضها وتواريها ، ومن ثمّ إبراقها ولمعانها ، يوضّح أسرار العلاقة الموجودة بين العاشق والمعشوق.

حقّا إنّ منظر النجوم في السماء رائع الجمال ، ولا تملّ أيّ عين من طول النظر إليه ، بل إنّ النظر إليه يزيل التعب والهمّ من داخل الإنسان. (ممّا يذكر أنّ أبناء المدن في العصر الحاضر التي يغطّيها دخّان المصانع ، لا يستمتعون بمشاهدة السماء وهي مرصّعة بالكواكب كما يشاهدها الإنسان القروي حيث يدركون هذه المقولة القرآنية ـ أي تزيين السماء بالكواكب ـ بصورة أفضل).

ومن الجدير بالاهتمام قول الآية :( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) في حين كانت الفرضيات الشائعة في ذلك الوقت في أذهان العلماء والمفكّرين هي أنّ السماء العليا هي التي تضمّ الكواكب (السماء الثامنة طبقا لفرضيات بطليموس).

وكما هو معروف فإنّ العلم الحديث دحض تلك الفرضيات. وعدم اتّباع القرآن لما جاء في تلك الفرضيات النادرة والمشهورة في ذلك الزمان معجزة حيّة لهذا الكتاب السماوي.

والنقطة الاخرى التي تلفت النظر هي أنّ ارتعاش نور الكواكب الجميل وغمزها للناظر يعود ـ من وجهة نظر العلم الحديث ـ إلى وجود القشرة الهوائية حول الأرض ، وهذا المعنى يتلاءم مع ما نصّت عليه الآية الكريمة( السَّماءَ الدُّنْيا ) .

__________________

غ جاء في الكتب الأدبية أينما وجدت نكرة بدل عن المعرفة فيجب مرافقتها بوصف ، وفي حالة العكس فإنّ الأمر غير واجب.

٢٨٦

أمّا في خارج جو الأرض فإنّ النجوم تبدو نقاط منيرة على وتيرة واحدة وليس لها ذلك التلألؤ ، على عكس ما يشاهد داخل جوّ الأرض.

أمّا الآية( وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ ) (١) فإنّها تشير إلى حفظ السماء من تسلّل الشياطين إليها.

كلمة (مارد) مشتقّة من (مرد) التي تعني الأرض المرتفعة الخالية من الزرع ، كما يقال للشجرة التي تساقطت أوراقها كلمة (أمرد) وتطلق على الفتى الذي لا شعر في وجهه. وهنا المقصود من كلمة (مارد) هو الشخص الخبيث العاري من الخير.

حفظ السماء من تسلّل الشياطين يتمّ بواسطة نوع من أنواع النجوم يطلق عليها اسم (الشهب) ، وسيشار إليها في الآيات القادمة.

ثمّ يضيف القرآن الكريم : إنّ الشياطين لا تتمكّن من سماع حديث ملائكة الملأ الأعلى ومعرفة أسرار الغيب التي عندهم ، فكلّما حاولوا عمل شيء ما لسماع الحديث ، رشقوا بالشهب من كلّ جانب( لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ ) .

نعم إنّهم يطردون من السماء بشدّة ، وقد أعدّ لهم عذاب دائم ، كما جاء في قوله تعالى :( دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ ) .

( لا يَسَّمَّعُونَ ) بمعنى (لا يستمعون) ويفهم منها أنّ الشياطين يحاولون معرفة أخبار «الملأ الأعلى» إلّا أنّه لا يسمح لهم بذلك.

( الْمَلَإِ الْأَعْلى ) ، تعني ملائكة السماوات العلى ، لأنّ كلمة (ملأ) تطلق في الأصل على الجماعة التي لها وجهة نظر واحدة ، وتعدّ في نظر الآخرين مجموعة متّحدة ومنسجمة ، كما تطلق هذه الكلمة على الأشراف والأعيان والدائرين في فلك

__________________

(١) (حفظا) على حدّ قول الكثير من المفسّرين مفعول مطلق لفعل محذوف والتقدير هو : وحفظناها حفظا. والبعض احتمل أنّها معطوفة على (بزينة) التي هي (مفعول له) ، وتقديرها إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا.

٢٨٧

مراكز القوى ، لأنّهم يعدّون في نظر الآخرين متّحدين أيضا ، ولكن عند ما يوصف الملأ بـ (الأعلى) فذلك إشارة إلى الملائكة الكرام ذوي المقام الأرفع والأسمى.

«يقذفون» مشتقّة من (قذف) وتعني رمي الشيء إلى مكان بعيد ، والمقصود هنا طرد الشياطين بواسطة الشهب ، التي سنتطرّق لها فيما بعد ، وهذا يوضّح أنّ الباريعزوجل لا يسمح للشياطين بالاقتراب من الملأ الأعلى.

«دحورا» مشتقة من (دحر) ـ على وزن (دهر) ـ وتعني طرد الشيء ودفعه ، أمّا كلمة (واصب) فإنّها تعني المرض المزمن ، وبصورة عامّة تعني الدائم والمستمر ، وفي بعض الأحيان تعني (الخالص)(١) .

وهنا إشارة إلى أنّ الشياطين لا يطردون ولا يمنعون من الاقتراب من السماء فحسب ، بل سيصيبهم في النهاية ـ مع ذلك ـ عذاب دائم.

وأشارت الآية أيضا إلى طائفة من الشياطين الشريرة التي تحاول الصعود إلى السماء العليا لاستراق السمع ، وإلى المصير الذي ينتظرها هناك ، كما جاء في الآية الشريفة( إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ ) .

«الخطفة» أي اختلاس الشيء بسرعة.

و «الشهاب» شيء مضيء متولّد من النار ، ويرى نوره في السماء على شكل خطّ ممتدّ.

وكما هو معروف فإنّ الشهب ليست نجوما ، وإنّما تشبه النجوم ، وهي عبارة عن قطع صغيرة من الحجر متناثرة في الفضاء ، عند ما تدخل في مجال جاذبية الأرض ، تنجذب نحوها ، ونتيجة دخولها بسرعة إلى جوّ الأرض واحتكاكها الشديد مع الهواء المحيط بالكرة الأرضية فإنّها تشتعل وتحترق.

وكلمة «ثاقب» تعني النافذ والخارق ، وكأنّه يخترق العين بنوره الشديد ويثقبها ، وهذه إشارة إلى أنّ الشهاب يثقب كلّ شيء يصيبه ويحرقه.

__________________

(١) لقد تمّ بحث كلمة «واصب» أيضا في نهاية الآية (٥٢) من سورة النحل.

٢٨٨

وبهذا يكون هناك مانعان يحوّلان دون نفوذ الشياطين إلى السماء العليا :

الأوّل ، هو رشق الشياطين من كلّ جانب وطردهم ، والذي يتمّ على الظاهر بواسطة الشهب.

والثاني ، هو رشقهم بواسطة أنواع خاصّة من الشهب يطلق عليها اسم الشهاب الثاقب ، الذي يكون بانتظار كلّ شيطان يحاول التسلّل إلى الملأ الأعلى لاستراق السمع ، وهذا المعنى نجده أيضا في الآيتين (١٧) و (١٨) من سورة الحجر( وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ ) .

وفي الآية الخامسة من سورة الملك( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ ) .

ولكن هل يجب الالتزام بظواهر هذه الآيات؟ أم أنّ هناك قرائن تجبرنا على تفسيرها بخلاف الظاهر ، كاستخدام الأمثال والتشبيه والكناية؟

هناك وجهات نظر مختلفة بين المفسّرين ، فالبعض منهم التزم بظاهر الآيات وبنفس المعاني التي استعرضت في بداية الأمر ، وقالوا : هناك طوائف من الملائكة تسكن السماء القريبة والبعيدة تعرف أخبار الحوادث التي ستقع في العالم الأرضي قبل وقوعها ، لذا تحاول مجموعة من الشياطين الصعود إلى السماء لاستراق السمع ومعرفة بعض الأخبار ، لكي تنقلها إلى عملائها في الأرض أي الذين يرتبطون بها ويعيشون بين الناس ، ولكن ما أن يحاولون الصعود يرشقون بالشهب التي تتّصف بأنّها كالنجوم المتحرّكة ، فتجبرهم على التراجع ، أو تصيبهم فتهلكهم.

ويقولون : من الممكن أن لا نفهم بصورة دقيقة ما تعنيه هذه الآيات في الوقت الحاضر ، إلّا أنّنا مكلّفون بحفظ ظواهرها ، وترك تفاصيلها للمستقبل.

وقد اختار هذا التّفسير العلّامة «الطبرسي» في (مجمع البيان) و «الآلوسي» في (روح المعاني) و «سيّد قطب» في (الظلال) ، إضافة إلى عدد آخر من المفسّرين.

في حين يرى البعض الآخر أنّ الآيات المذكورة إنّما هي من قبيل الأمثال

٢٨٩

المضروبة تصوّر بها الحقائق الخارجة عن الحسّ في صورة المحسوس لتقريبها من الحسّ ، وهو القائلعزوجل :( وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) .(١)

وأضافوا : إنّ المراد من السماء التي تسكنها الملائكة ، عالم ملكوتي ذو أفق أعلى من عالمنا المحسوس ، والمراد باقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب ، هو أنّ هذه الشياطين كلّما حاولت الاقتراب من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخليفة والحوادث المستقبلية ، طردت من هناك بواسطة نور الملكوت الذي لا يطيقونه ، ورمتهم الملائكة بالحقّ الذي يبطل أباطيلهم.

وإيراده تعالى قصّة استراق الشياطين للسمع ورميهم بالشهب ، عقيب الإقسام بملائكة الوحي وحفظهم إيّاه عن مداخلة الشياطين لا يخلو من تأييد لما ذكرناه(٢) .

ويحتمل أيضا أنّ السماء هنا هي كناية عن سماء الإيمان والمعنويات التي يحاول الشياطين النفوذ إليها ، إضافة إلى الانسلال إلى قلوب المؤمنين عن طريق الوساوس التي يبثّونها في قلوبهم ، إلّا أنّ الأنبياء والصالحين والأئمّة المعصومين من أهل البيت والسائرين على خطّهم الفكري والعملي يهاجمون الشياطين بالشهاب الثاقب الذي يمتلكونه ، ألا وهو العلم والتقوى ، ويمنعون الشياطين من الاقتراب من هذه السماء.

التّفسير المذكور أوردناه هناك كاحتمال ، وذكرنا بعض الدلائل والشواهد عليه في نهاية الآية (١٨) من سورة الحجرات.

هذه ثلاثة تفسيرات مختلفة للآيات مورد البحث والآيات المشابهة لها.

* * *

__________________

(١) العنكبوت ، ٤٣.

(٢) تلخيص من تفسير الميزان ، المجلّد السابع عشر ، الصفحة (١٢٥).

٢٩٠

الآيات

( فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) )

التّفسير

الذين لا يقبلون الحقّ أبدا :

هذه الآيات تعالج قضيّة منكري البعث ، وتتابع البحث السابق بشأن قدرة الباريعزوجل خالق السموات والأرض ، وتبدأ بالاستفسار منهم وتقول : اسألهم هل أنّ معادهم وخلقهم مرّة ثانية أصعب أو خلق الملائكة والسماوات والأرض :( فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا ) .

نعم ، فنحن خلقناهم من مادّة تافهة ، من طين لزج :( إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) .

فالمشركون الذين ينكرون المعاد ، قالوا بعد سماعهم الآيات السابقة بشأن خلق السموات والأرض والملائكة. إنّ خلق الإنسان أصعب من خلق السموات

٢٩١

والأرض والملائكة. إلّا أنّ القرآن الكريم أجابهم بالقول : إنّ خلق الإنسان مقابل خلق الأرض والسماء والملائكة الموجودة في هذه العوالم ، يعدّ لا شيء ، لأنّ أصل الإنسان يعود إلى حفنة من التراب اللزج.

«استفتهم» من مادّة «استفتاء» وتعني الحصول على معلومات جديدة.

وهذا التعبير إشارة إلى أنّ المشركين لو كانوا صادقين في أنّ خلقهم أهمّ وأصعب من خلق السماوات والملائكة ، فإنّهم قد جاؤوا بموضوع جديد لم يطرح مثله من قبل.

«لازب» يقول البعض : إنّ أصلها كان (لازم) ، حيث استبدلت (الميم) (باء) وحاليا تستعمل بهذه الصورة ، على أيّة حال فهي تعني الطين المتلازم بعضه ببعض ، يعني الملتصق لأنّ أصل الإنسان كان من التراب الذي خلط بالماء ، وبعد فترة أضحى طينا متجمعا ذا رائحة نتنة ، ثمّ تحول إلى طين متماسك (وهذه الصورة هي جمع لحالات متعدّدة مذكورة في عدّة آيات في القرآن المجيد).

ثمّ يضيف القرآن الكريم :( بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ) .

نعم أنت تتعجّب لإنكارهم بالمعاد ، لأنّك بقلبك الطاهر ترى المسألة واضحة جدّا ، وأمّا أصحاب القلوب السوداء فيعبدونها مستحيلة إلى حدّ أنّهم يستهزئون بها وينكرونها.

وما يمكن وراء تلك التصرفات القبيحة ليس هو الجهل ـ فقط ـ وعدم المعرفة ، بل إنّها اللجاجة والعناد ، إذ أنّهم كلّما ذكروا بدلائل المعاد والعقوبات الإلهيّة لا يتذكّرون( وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ) .

والأنكى من ذلك ، أنّهم كلّما شاهدوا معجزة من معجزاتك ، لا يكتفون بالاستهزاء ، وإنّما يدعون الآخرين للاستهزاء أيضا( وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ) .

( وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) .

قولهم «هذا» المقصود منه تحقير المعجزات والآيات الإلهية والانتقاص منها ،

٢٩٢

وإطلاقهم كلمة «سحر» على تلك المعجزات لكونها من جهة أعمالا خارقة للعادة ، ولا يمكن نكرانها. ومن جهة اخرى فإنّهم لم يكونوا راغبين للاستسلام لتلك المعاجز ، وكلمة السحر كانت الكلمة الوحيدة التي تعكس خبثهم وترضي أهواءهم النفسية ، وتوضّح في نفس الوقت اعترافهم بالتأثير الكبير للقرآن ولمعجزات النّبي الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

* * *

ملاحظتان

١ ـ يعتقد بعض المفسّرين أنّ عبارة «يستسخرون» تعني «يسخرون» ، ولا يوجد أي فرق بين العبارتين. في حين يؤكّد البعض الآخر على وجود اختلاف بين المعنيين ، بقولهم : إنّ «يستسخرون» جاءت من باب استفعال ، وتعني دعوة الآخرين إلى المشاركة في الاستهزاء ، وتشير إلى أنّهم لم يكتفوا لوحدهم بالاستهزاء بآيات القرآن المجيد ، وإنّما سعوا لإشراك الآخرين في ذلك ، كي تصير المسألة عامّة في المجتمع.

والبعض يعتبر هذا الاختلاف توكيد أكثر يستفاد من عبارة (يستسخرون).

فيما فسّر البعض الآخر هذه العبارة بأنّها «الإعتقاد بكون الشيء مثيرا للسخرية» ، ويعني أنّهم نتيجة انحرافهم الشديد كانوا في قرارة أنفسهم يعتقدون ـ تماما ـ أنّ هذه المعجزات ليست أكثر من سخرية ، ولكن المعنى الثاني يعدّ أكثر مناسبا من غيره.

٢ ـ عزا بعض المفسّرين سبب نزول هذه الآية إلى قضيّة مفادها أنّ «ركانة» رجل من المشركين من أهل مكّة ، لقيه الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جبل خال يرعى غنما له ، وكان من أقوى الناس ، فقال له : يا ركانة أرأيت إنّ صرعتك أتؤمن بي؟

٢٩٣

قال : نعم. فصرعه ثلاثا ، ثمّ عرض عليه بعض الآيات ودعا عليه الصلاة والسلام شجرة فأقبلت ، فلم يؤمن وجاء إلى مكّة فقال : «يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض». فنزلت فيه وفي أضرابه هذه الآية.

* * *

٢٩٤

الآيات

( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) )

التّفسير

هل نبعث من جديد؟

الآيات هذه تتابع سرد أقوال منكري المعاد ، وتواصل الردّ عليها ، فالآية الاولى تعكس استبعاد البعث من قبل منكريه ، بهذا النصّ( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) (١) (٢) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، المجلّد ٢٣ ، الصفحة ٧٧.

(٢) هذه الآية هي بحالة جملة شرطية وشرطها (أإذا متنا) بينما جزاءها محذوف وجملة (أإنّا لمبعوثون) قرينة عليها ، لأنّ نفس هذه الجملة ـ طبقا للقواعد الأدبية ـ لا يمكن أن تكون جزاء.

٢٩٥

وهل سيبعث آباؤنا الأوّلون أيضا؟( أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ) . فمن يستطيع جمع تلك العظام النخرة وأكوام التراب المتفرّقة المتبقّية من الإنسان؟ ومن يتمكّن من إعادة الحياة إليها؟

فهؤلاء ذوي القلوب العمياء نسوا أنّهم كانوا ترابا في اليوم الأوّل ، ومن التراب خلقوا ، وإذ كانوا يشكّكون في قدرة الله ، فعليهم أن يعرفوا أنّ الله كان قد أراهم قدرته ، وإن كانوا يشكّكون باستحالة التراب ، فقد أثبت ذلك من قبل ، وعلاوة على هذا فإنّ خلق السماوات والأرض بكلّ هذه العظمة لا تترك أي مجال للشكّ عند أحد في قدرة الباريعزوجل المطلقة.

ممّا يذكر أنّ منكري البعث صاغوا أقوالهم بشكل عبارات مؤكّدة (إذ أنّ جملة( أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) هي جملة اسمية استخدمت فيها (إن) و (لام) والتي تأتي كلّ منهما للتأكيد) وذلك لجهلهم ولجاجتهم.

وممّا يلفت النظر أنّ كلمة (التراب) قدّمت على (العظام) وهذا الأمر يحتمل أنّه يشير إلى إحدى النقاط الثلاث الآتية :

أوّلا : إنّ الإنسان بعد وفاته يصير عظاما في بداية الأمر ، ثمّ يتحوّل إلى تراب ، وبما أنّ إعادة التراب إلى الحياة يعدّ شيئا عجيبا ، لهذا قدّمت كلمة التراب.

ثانيا : عند اندثار أبدان الأموات ، في البداية تتحوّل اللحوم إلى تراب وتبقى إلى جانب العظام ، ولهذا فهناك تراب وعظام في آن واحد.

ثالثا : التراب يشير إلى أجساد الأجداد الأوّلين ، والعظام تشير إلى أبدان الآباء والتي لم تتحوّل بعد إلى تراب.

ثمّ يردّ القرآن على تساؤلاتهم بلهجة شديدة وعنيفة ، عند ما يقول للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قل لهم : نعم أنتم وأجدادكم ستبعثون صاغرين مهانين أذلّاء ،( قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ ) (١) .

__________________

(١) (داخر) من مادّة (دخر) على وزن فخر (دخور) ، وكلتاهما تعطي معنى الذلّة والحقارة. الآية أعلاه فيها جملة

٢٩٦

فهل تتصوّرون أنّ عمليّة إحيائكم والأوّلين تعدّ مستحيلة ، أو هي عمل عسير على الله القادر والقوي؟ كلّا ، فإنّ صرخة عظيمة واحدة ممّن كلّفهم الله سبحانه وتعالى بذلك كافية لبعث الحياة بمن في القبور ، ونهوض الجميع فجأة من دون أيّ تمهيد أو تحضير من قبورهم ليشاهدوا بأعينهم ساحة المحشر التي كانوا بها يكذّبون( فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ ) .

(زجرة) مشتقّة من (زجر) وكما أشرنا إليها سابقا ، فإنّها تعني الطرد ، وأحيانا تأتي بمعنى الصرخة ، وهنا تفيد المعنى الثاني ، وهي إشارة إلى النفخة والصيحة الثانية لإسرافيل ، والتي سنتحدّث بشأنها في الآيات الأخيرة لسورة الزمر.

عبارة (ينظرون) تشير إلى نظر منكري البعث لساحة المحشر وهم مدهوشون ، أو النظر بعنوان انتظار العذاب ، وفي كلا الحالتين فإنّ المقصود ليس ـ فقط ـ عودتهم إلى الحياة ، وإنّما عودتهم إلى الشعور والنظر فور سماعهم الصيحة.

وتعبير( زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ) مع الالتفات إلى معنى الكلمتين ، يشير إلى أنّ البعث يتمّ بسرعة وعلى حين غرّة ، وإلى سهولته في مقابل قدرة الباريعزوجل ، إذ بصرخة واحدة (لملك البعث) المأمور بها تعود الحياة إلى حالتها الاولى.

وهنا تتعالى صرخات المشركين المغرورين وتبيّن ضعفهم وعجزهم وعوزهم ، ويقولون : الويل لنا فهذا يوم الدين( وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ ) .

نعم ، فعند ما تقع أعينهم على محكمة العدل الإلهي وشهودها وقضاتها ، وعلى علامات العقاب فإنّهم ـ من دون أن يشعروا ـ يصرخون ويبكون ، ويعترفون بحقيقة البعث ، الاعتراف الذي يعجز عن إنقاذهم من العذاب ، أو تخفيف العقاب الذي ينتظرهم.

وهنا يوجّه إليهم الخطاب من الباريعزوجل أو من ملائكته : نعم ، اليوم هو

__________________

تقديرية هي جوابها ، والبقيّة شيء إضافي عليها كي يكتسب القول قاطعية أكثر ، فالتقدير سيكون هكذا (نعم إنّكم مبعوثون حال كونكم داخرين).

٢٩٧

يوم الفصل الذي كنتم به تكذّبون ، يوم فصل الحقّ عن الباطل ، وفصل المجرمين عن المتّقين ، ويوم المحكمة الإلهيّة الكبرى( هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) .

ومثل هذه العبارات وردت في آيات اخرى من آيات القرآن الكريم ، والتي تتناول يوم القيامة ، وتعتبره يوم الفصل ، وهي عبارات عجيبة ورهيبة؟!(١) .

الملاحظ ، هو أنّ الكافرين يوم القيامة يطلقون على هذا اليوم اسم يوم الجزاء( يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ ) .

فيما يطلق عليه الباريعزوجل في كتابه الحكيم اسم يوم الفصل( هذا يَوْمُ الْفَصْلِ ) .

إنّ الاختلاف بين التعبيرين يمكن أن يكون لهذا السبب ، وهو أنّ المجرمين لا يفكّرون إلّا بالجزاء والعقاب الذي سينالهم ، ولكن الله سبحانه وتعالى يشير إلى معنى أوسع من الجزاء الذي يعدّ أحد أبعاد ذلك اليوم ، إذ يعتبر ذلك اليوم هو يوم الفصل ، نعم يوم فصل صفوف المجرمين عن المتّقين ، كما جاء في الآية (٥٩) من سورة يس( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) فالأمر في ذلك اليوم موجّه إلى المجرمين أن انفصلوا عن المؤمنين ، فهنا ليست دار الدنيا التي تجمع بين المجرمين والمتّقين.

وكم يكون هذا المشهد رهيبا عند ما يشاهدون أقاربهم وأبناءهم ينفصلون عنهم لإيمانهم بالله ، ويتّجهون نحو جنان الخلد.

وعلاوة على أنّ ذلك اليوم هو يوم فصل الحقّ عن الباطل ، فيجب أن تتبيّن كلّ الخطوط المتضادّة والبرامج الحقيقيّة والكاذبة التي كانت مختلطة في عالم الدنيا في مكانها الخاصّ بها.

على أيّة حال ، إنّ ذلك اليوم ـ أي يوم الفصل ـ يعني أيضا يوم المحاكمة ، ففي

__________________

(١) الدخان ، الآية ٤٠ ، المرسلات ، الآيات ١٣ ، ١٤ ، ٣٨ ، النبأ الآية ، ١٧.

٢٩٨

ذلك اليوم يقضي الله العالم العادل بين عباده ويصدر أحكاما دقيقة بحقّهم ، وهنا يخزى المشركون.

إذن ، فطبيعة الدنيا هي اختلاط الحقّ بالباطل ، في حين أنّ طبيعة البعث هو فصل الحقّ عن الباطل ، ولهذا السبب فإنّ أحد أسماء يوم القيامة في القرآن المجيد (يوم الفصل) والذي كرّر عدّة مرّات ، اليوم الذي تظهر فيه كافّة الخفايا والأسرار ، ولا يمكن تجنب عملية فصل الصفوف.

ثمّ يصدر الباريعزوجل أوامره إلى ملائكته المكلّفين بإرسال المجرمين إلى جهنّم أن( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ ) .

نعم احشروهم وما كانوا يعبدون( مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ ) . (احشروا) مشتقّة من (حشر) ويقول الراغب في مفرداته : إنّها تعني إخراج الجماعة عن مقرّهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها.

وهذه الكلمة تأتي بمعنى «تجميع» في الكثير من الحالات.

على كلّ حال ، فالخطاب هنا إمّا أن يكون من جانب اللهعزوجل ، أو من طائفة من الملائكة إلى طائفة اخرى مكلّفة بسوق المجرمين إلى الجحيم والنتيجة واحدة.

(أزواج) هنا إمّا أن تشير إلى زوجات المجرمين والمشركين ، أو إلى من يعتقد اعتقادهم ويعمل عملهم ومن هو على شاكلتهم ، لأنّ هذه الكلمة تشمل المعنيين ، حيث نقرأ في سورة الواقعة الآية(٧) ( وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ) .

وبهذا يحشر المشركون مع المشركين والأشرار ، وذوو القلوب العمياء مع نظائرهم ، ثمّ يساقون إلى جهنّم.

أو أنّ المقصود من الأزواج هم الشياطين الذين كانوا يشابهونهم في الشكل والعمل.

المهمّ ، هو عدم وجود أي اختلاف بين هذه المعاني الثلاثة ، ومن الممكن أن

٢٩٩

تجتمع في مفهوم الآية.

جملة( ما كانُوا يَعْبُدُونَ ) تشير إلى آلهة المشركين ، كالأصنام والشياطين والطغاة المتجبّرين والفراعنة والنماردة ، وعبّرت عنها بـ( ما كانُوا يَعْبُدُونَ ) لكون أغلب تلك الآلهة موجودات عديمة الحياة وغير عاقلة ، وقد اصطلح عليها بهذا التعبير لأنّه يعطي طابع التغليب.

(الجحيم) تعني جهنّم ، وهي من مادّة (جحمة) على وزن (ضربة) وتعني شدّة تأجيج النار.

والملاحظ في الآية استخدامها عبارة( فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ ) حقّا كم هذه العبارة عجيبة؟ ففي أحد الأيّام ارشدوا إلى الصراط المستقيم ولكنّهم لم يقبلوه ، واليوم يجب أن يهدوا إلى صراط الجحيم ، وهم مجبرون على القبول به ، وهذا توبيخ عنيف لهم يجعلهم يتحرّقون ألما في أعماقهم.

* * *

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

وسوف تسمع رأي أبناء العامّة في ابن الزنا بأنّه أكثر نجابة(١) ، والحقّ يقال : إنّه لا أحد بعد الثاني أنجب من ابن زياد

ولد ابن زياد ظاهراً في سنة ثمانٍ وعشرين أو تسع وعشرين بعد الهجرة ، وجمع له العراقان وهو ابن الثانية والثلاثين أي في سنة ستّين من الهجرة ، وكان أوّل وال يحوز في ولايته خراسان وآذربيجان والبحرين وعمّان والهند وغالب الممالك الإيرانيّة ، ويقال : إنّ والده زياداً سبقه إلى ذلك وفي عام واحد وستّين شرع في قتل الحسين أرواحنا له الفداء

وفي كتاب العقد الفريد أنّ عدد جيش الكوفة في عهد زياد كان ستّين ألف مقاتل ، ومن هنا يمكن العلم بما ورد في الأخبار المعتبرة من أنّ عدد الخارجين على الحسين كانوا ثلاثين ألفاً ولا غرابة في ذلك ؛ لأنّ الجيش الذي قوامه ستّون ألفاً يمكن تعبئة ثلاثين ألفاً منه في مدّة وجيزة علاوة على ما يقال من أنّ ابن زياد يومها كان يستعدّ لقتال أهل الديلم ولكن طرأت وقعة كربلاء أثناء ذلك فحوّلت وجهه إليها دون بلاد الديلم ، وبناءاً على هذا لا استبعاد في كثرة الجنود وتتابعها ، فلعنة الله عليه وعلى جنوده

_________________

(١) إنّ الأحاديث الواردة في خبث ولد الزنا كثيرة ، وفيها عناوين :

منها : إنّ لولد الزنا علامات أحدها بغضنا أهل البيت راجع سفينة البحار ، ذيل زنىٰ

ومنها : ولد الزنا شرّ الثلاثة راجع جامع الاُصول لابن الأثير عن أبي هريرة ٨ : ٧٩ الحديث ٥٩٢٤ ولكنّ بعض العامّة يكذّبون ذلك ويقولون :

كذب الروافض ويلهم فيما ادّعوا

في قولهم ابن الزنا لا ينجب

هذا ابن خطّا الأمير وإنّه

أزكى البريّة والأنام وأطيب

تجارب السلف ، تصنيف هندوشاه صاحب نخجواني : ٢٠ طبع بهمّة مير سيّد حسن روضاتي ابن العلّامة السيّد محمّد علي الروضاتي

وقال ميرزا حسن ابن الحكيم الصمداني في كتاب ( الشمع واليقين ) في معرفة الحقّ واليقين [ بما يرجع إلى ] قال القطب الشيرازي الشافعي في كتاب نزهة القلوب ، نسب معاوية . ( المحقّق )

٣٨١

وفي سنة سبع وستّين هجريّة ـ وكان عمره تسعاً وثلاثين عاماً ـ وصل إلى دركات الجحيم بيد واسطة الرحمة الإلۤهيّة والنعمة اللامتناهيّة إبراهيم بن الأشتر رضي الله عنهما ، وتوجد في المقتل المنسوب إلى أبي مخنف واقعة عجيبة عن كيفيّة قتله ، ولمّا كانت الحكاية مستبعدة أعرضت عنها مع أنّه لا غرض معتدّ به في هذه التفاصيل

ومن العجايب أنّ قتله صادف يوم عاشوراء ، ولمّا حملوا رأسه إلى الإمام السجّاد فاُدخل عليه وهو يتغدّى ، فقال عليّ بن الحسينعليهما‌السلام : اُدخلت على ابن زياد لعنه الله وهو يتغدّى ورأس أبي بين يديه ، فقلت : اللهمّ لا تمتني حتّى تريني رأس ابن زياد وأنا أتغدّى ، فالحمد لله الذي أجاب دعوتي(١) كما فعل المخذول برأس الإمام المظلوم المبارك عليه وعلى جدّه وأبيه واُمّه وأبنائه أفضل الصلاة والتحيّة والسلام ما هدر حمام وهمر ركام .

_________________

(١) بحار الأنوار ٤٥ : ٣٣٦ ( هامش الأصل ) و ٤٥ : ٣٣٥ ( المترجم )

٣٨٢

وَلَعَنَ اللهُ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ

الشرح : عمر بن سعد بن أبي وقّاص من الصحابة وأصحاب الشورى المتخلّفين عن أمير المؤمنين ، وكان من كبار رجال عصره ، وكان يرمى بالدعوة ـ بكسر الدال ـ وقد تعرّض علماء النسب لذكر نسبه وجاء في مروج الذهب حديث حول المقام ننقله استطرافاً واستطراداً وهو كما يلي :

روى المسعودي عن محمّد بن جرير الطبري قال : لمّا حجّ معاوية طاف في البيت ومعه سعد ، فلمّا فرغ انصرف معاوية إلى دار الندوة فأجلسه معه على سريره ، ووقع معاوية لعنه الله في عليّعليه‌السلام وشرع في سبّه

فزحف سعد ثمّ قال : أجلستني معك على سريرك ثمّ شرعت في سبّ عليّ ، والله لئن يكون فيّ خصلة واحدة من خصال كانت لعليّ أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، والله لئن أكون صهراً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّ لي من الولد ما لعليّ أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس والله لئن يكون قال لي ما قاله يوم خيبر : لاُعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله ليس بفرّار ، يفتح الله على يديه أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس والله لئن يكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي ما قال له في غزوة تبوك : ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، وأيم الله لا دخلت لك داراً ما بقيت ، ثمّ نهض

ثمّ يقول المسعوديرحمه‌الله : ووجدت في وجه آخر من الروايات وذلك في كتاب عليّ بن محمّد بن سليمان النوفلي في الأخبار عن ابن عائشة وغيره : إنّ سعداً لمّا

٣٨٣

قال هذه المقالة لمعاوية ونهض ليقوم ضرط له معاوية(١) وقال له : اقعد حتّى تسمع جواب ما قلت : ما كنت عندي قطّ ألأم منك الآن ، فهلّا نصرته وقد قعدت عن بيعته ؟ فإنّي لو سمعت من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مثل الذي سمعت فيه لكنت خادماً لعليّ ما عشئت

فقال سعد : والله إنّي لأحقّ بموضعك منك

فقال معاوية : يأبى عليك ذلك بنو عذرة ، وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة

قال النوفلي : وفي ذلك يقول السيّد بن محمّد الحميري :

سائل قريشاً بها إن كنت زاعمه

من كان أثبتها في الدين أوتاداً

من كان أقدمها سلماً وأكثرها

حلماً وأطهرها أهلاً وأولادا

من وحّد الله إذ كانت مكذّبة

تدعو مع الله أوثاناً وأندادا

من كان يقدم في الهيجاء إن نكلوا

عنها وإن بخلوا في أزمة جادا

من كان أعدلها حكماً وأقسطها

حلماً وأصدقها وعداً وإيعادا

إن يصدقوك فلم(٢) بعدوا أبا حسن

إن أنت لم تلق للأبرار حسّادا

إن أنت لم تلق من تيم أخا صلف

ومن عديّ لحق الله حجّادا

أو من بني عامر أو من بني أسد

رهط العبيد ذوي جهل وأوغادا

أو رهط سعد وسعد كان قد علموا

عن مستقيم صراط الله صدّادا

قوم تداعوا زنيماً ثمّ سادهم

لولا خمول بني زهر لما سادا(٣)

_________________

(١) ضرط له : عمل بفيه ما يشبه الضراط والمؤلّف فهم المعنى على الحقيقة ولذا قال : بادى از خود رها كرد براى او ، أي أطلق له الريح من تحته ، وهذا ينافي ما هم عليه لعن الله معاوية ( المترجم )

(٢) فلن

(٣) مروج الذهب ٣ : ١٥ ط دار الهجرة ـ ايران ( هامش الأصل ) ٣ : ٢٤ و ٢٥ ط مؤسسة الأعلمي تحقيق عبد الأمير مهنّا ( المترجم )

٣٨٤

ومن هنا يعرف نسب عمر بن سعد وسلامة فطرته عليهما اللعنة ، فقد ورث الولادة المشبوهة من والده المنافق

وحكي عن تقريب ابن حجر قيل إنّه من الصحابة وهذا خطأ لأنّ يحيى بن معين جزم بولادته يوم وفاة عمر بن الخطّاب(١) ولا ينافي هذا الجزم ما ورد في الكامل بأنّه سعى لنيل أبيه الخلافة بعد هلاك عثمان(٢) لأنّه يعلم منه أنّه لم يكن في ذلك الوقت طفلاً

وفي الكامل أيضاً : عن ابن سيرين : قال عليّ لعمر بن سعد : كيف وأنت إذا قمت مقاماً تخيّر فيه بين الجنّة والنار فتختار النار(٣)

وفي أمالي الشيخ الصدوق رواية يرويها عن أبيه المعظّم عن الكميداني [ الكمنداني ـ المؤلّف ] عن ابن عيسى ، عن ابن أبي نجران ، عن جعفر بن محمّد الكوفي ، عن عبد الله السمين ، عن سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نباتة قال : بينا أمير المؤمنينعليه‌السلام يخطب وهو يقول : سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلّا نبّأتكم به

فقام إليه سعد بن أبي وقّاص ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة

فقال له : أما والله لئن سألتني عن مسألة حدّثني خليلي رسول الله إنّك ستسألني عنها وما في رأسك ولحيتك من شعرة إلّا وفي أصلها شيطان جالس ، وإنّ في بيتك لسخلاً يقتل الحسين ابني ، وعمر بن سعد يومئذٍ يدرج بين يديه(٤)

_________________

(١) يقال : إنّ المولود في تلك الليلة هو عمر بن أبي ربيعة ولذا سمّي باسم عمر ( المترجم )

(٢) كامل ابن الأثير ٣ : ٣٣ بيروت ـ دار صادر ( هامش الأصل )

(٣) الكامل لابن الأثير ٣ : ٣٣ بيروت ـ دار صادر ( هامش الأصل ) ٤ : ٤٧ ( المترجم )

(٤) أمالي الشيخ الصدوق : ١٣٣

٣٨٥

وهذا الخبر غاية في الضعف لضعف الكمنداني ، وجعفر بن محمّد الكوفي ، وعبيد بن سمين مجهول بل ابن عيسى أيضاً ، وإن كان المناسب في تدرّج الطبقات أن يكون الواسطة بين الكمنداني وابن أبي نجران أحمد بن محمّد بن عيسى ، ولكن كان التعبير بابن عيسى خلاف المعهود

وزبدة القول أنّ السند معلول والقرائن الدالّة على خلافه واحد أو اثنان ، وأوضحها أنّ سعداً كان من المتخلّفين عن بيعة الإمامعليه‌السلام ولم يطأ أرض الكوفة يومئذٍ ولم يضمّه مجلس تحت منبر الإمامعليه‌السلام مضافاً إلى أنّ سعداً يحظى بشيء من الاحترام لهجرته ولكونه أحد الذين رشّحهم عمر للخلافة ، ولمّا كان عصر الإمام يتّسم باضطراب الاُمور وعدم الانتظام فلا يستدعي الحال هذا الجواب الشديد من جانب الإمامعليه‌السلام ، بل كان الإمام نفسه على طرف التقيّة وتأليف القلوب على أنّ سمة الصلاح الظاهري على سعد يردعه عن سؤال الجهّال والحمقى

ويؤيّده ما ورد في الاحتجاج نظير هذه الرواية مع اختلاف يسير وفيها مكان سعد : وقام رجل وصرّح بطفولة وصغر تلك السخلة التي ما زالت تحبو على يديها ورجليها ويمكن أن يراد منه يزيد أبو خولّى أو أنس أبو سنان ، أمّا ذوالجوشن أبو الشمر فلم يكن أسلم بعد(١) وكان الشمر في زمن أمير المؤمنين يعدّ من الرجال الأبطال كما سنذكره قريباً

وخلاصة القول : كان لعمر بن سعد يوم عاشوراء من العمر سبع وثلاثون عاماً ، وقتل في سنة ستّ وستّين هجريّة بيد كيسان أبي عمرة بأمرٍ من المختار ، وأقبلوا

_________________

(١) ترجم له ابن حجر في الإصابة وقال : اسمه ذوالجوشن الضبابي ـ إلى أن يقول : ـ وقيل له ذلك « ذو الجوشن » لأنّ صدره كان ناتئاً وكان فارساً شاعراً ـ إلى أن يقول : ـ وله حديث عند أبي داود من طريق أبي إسحاق عنه وقال إنّه لم يسمع منه وإنّما سمعه من ولد شمر ، والله أعلم [ ٢ : ٤١٠ ] وهذا يدلّ على أنّه أسلم ولا يشكّ أحد بذلك ولكنّه سرق من صدقات رسول الله عندما استعمله عليها ( المترجم )

٣٨٦

بالرأس إلى مجلسه ووضع بين يدي ولده حفص ، وقال له المختار : هل تعرف هذا ؟ فقال : نعم ولا خير في الحياة بعده ، فأمر المختار بقطع رأسه وقال : عمر بالحسين وحفص بعليّ بن الحسين ، لا والله ولو قتلت ثلاثة أرباع قريش لا تعدل أنملة من أنامل الحسينعليه‌السلام ، واستجيب للحسين دعائه عليه حيث قال : « سلّط الله عليك من يذبحك على فراشك » لأنّه وصل إلى دركات الجحيم من بيته وهو آمن في غاية الذلّ والمهانة

نادرة

في تقريب ابن حجر ـ كما نقل الرواة ذلك ـ أنّ عمر بن سعد بن أبي وقّاص المدني نزيل الكوفة صدوق لكن مقته الناس لكونه أميراً على الجيش الذين قتلوا الحسين من الثانية ، قتله المختار سنة خمس وستّين أو بعدها ووهم من ذكره في الصحابة فقد جزم ابن معين بأنّه ولد يوم مات عمر بن الخطّاب(١) انتهى

وهنا يملك الإنسان العجب من اعتبار ابن سعد من طبقة التابعين بإحسان ويُعدّ له ويريد بحيلة أن يبرئه من قتل ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث يقول : كان أميراً ولا يقول : قتل الحسينعليه‌السلام

والحقّ يقال : إنّ الدين الذي يرى يزيد إماماً مفترض الطاعة لا بدع إذا رأى ابن سعد عادلاً صادق اللهجة ، ومنه يأخذون أحكام الدين وسوف نشير إلى ذلك فيما يأتي(٢) من أنّ قواعد دين أهل السنّة توجب أن لا يكون هؤلاء خارجين على الدين ، أنعم بهذه الشريعة والملّة ، وأنعم بهذه الطريقة والمذهب(٣)

_________________

(١) تقريب التهذيب ١ : ٧١٧ طبعة ثانية ١٤١٥ ، بيروت ـ دار الكتب العلميّة ( المترجم )

(٢) في شرح « اُمّة أسرجت وألجمت وتنقّبت » وشرح حال يزيد بن معاوية لعنهما الله ( هامش الأصل )

(٣) يقول ذلك على طريقة الهزء بهم ، أنعم وأنعم ( المترجم )

٣٨٧

وَلَعَنَ اللهُ شِمْراً

الشرح : شمر هو ابن ذي الجوشن لعنه الله ، وقيل اسمه أوس ، وقيل اسمه شرحبيل بن الأعور الضبابي

وجاء في اُسد الغابة لابن الأثير في باب الذال : وإنّما قيل له ذوالجوشن لأنّ صدره كان ناتئاً

يقول : أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بابن فرس لي يقال لها القرحاء ، فقلت : يا محمّد ، أتيتك يا بن القرحاء للتخذه ، قال : لا حاجة لي فيه ، إن أحببت أن اُقيّضك به المختارة من دروع بدر فعلت قال : قلت : ما كنت لاُقيّضه ، قال : فلا حاجة لي فيه

ثمّ قال : يا ذا الجوشن ، ألا تسلم فتكون من أوّل هذه الاُمّة ؟ قال : قلت : لا ، قال : ولم ؟ قال : قلت : لأنّي رأيت قومك قد ولعوا بك ، قال : وكيف قد بلغك مصارعهم ؟ قال : قلت : بلغني قال : فأنّى يهدى بك ؟ قلت : أن تغلب على الكعبة وتقطنها ، قال : لعلّ إن عشت أن ترى ذلك ، ثمّ قال : يا بلال ، خذ حقيبة الرجل فزوّده من العجوة ( اغلى التمر ـ المؤلّف ) فلمّا أدبرت قال : إنّه من خير فرسان بني عامر

قال : فوالله إنّي بأهلي بالعودة إذ أقبل راكب ، فقلت : من أين ؟ قال : من مكّة ، فقلت : ما الخبر ؟ قال : غلب عليها محمّد وقطنها ، قال : قلت : هبلتني اُمّي لو أسلمت يومئذٍ ثمّ سألته الحيرة لأقطعنيها(١) وهذا مختصر الكلام المنقول عن ابن الأثير

ثمّ يقول ابن الأثير بعد ذلك : وقيل : إنّ ابن إسحاق لم يسمع منه وإنّما سمع

_________________

(١) ابن الأثير ، اُسد الغابة ٢ : ١٣٨ ( المترجم )

٣٨٨

حديثه من ابنه شمر بن ذي الجوشن(١) لعنه الله

واُمّ الشمر كما يظهر ذلك من خطاب الإمام الحسين له ( يا بن راعية المعزى )(٢) يظهر من حاله أنّها معروفة بدنائة الفطرة وخبث الذات ، لأنّ هذه الكلمة سواء اُجريت على الحقيقة أو المجاز فإنّها دالّة على القصد ولا شبهة في خباثة مولد الشمر وسوء نسبه وأنّه لغير رشده مطلقاً

وكان الشمر لعنه الله يُعَدّ من شجعان الكوفة أصحاب الصيت ، وكان في أوّل أمره مع أمير المؤمنينعليه‌السلام في عسكره

وفي كتاب « نصر بن مزاحم » وذكر ذلك غير واحد من المؤرّخين العامّة والخاصّة وروا عنه أنّه قد كان خرج أدهم بن محرز من أصحاب معاوية إلى شمر بن ذي الجوشن في هذا اليوم ، فاختلفا ضربتين فضربه أدهم على جبينه فأسرع فيه السيف حتّى خالط العظم وضربه شمر فلم يصنع شيئاً فرجع إلى عسكره فشرب ماءاً وأخذ رمحاً ثمّ أقبل وهو يقول :

إنّي زعيم لأخي باهله

بطعنة إن لم أمت عاجله(٣)

وضربة تحت الوغى فاصله

شبيهة بالقتل أو قاتله

ثمّ حمل على أدهم وهو يعرف وجهه ، وأدهم ثابت له لم ينصرف ، فطعنه فوقع عن فرسه(٤)

ورأيت في بعض الكتب وأنا أتذكّرها الآن أنّه انتمى إلى الخوارج وفعل فعلته الشنعاء يوم عاشوراء وهو منهم

_________________

(١) نفسه ٢ : ١٣٨ ( المترجم )

(٢) بحار الأنوار ٤٥ : ٥ ط لبنان ( هامش الأصل ) جرت مطابقته ، ويوجد في لواعج الأشجان للسيّد الأمينرحمه‌الله : ١٢٣ ( المترجم )

(٣) ( ان لم تكن عاجله ـ المؤلّف ) ولا معنى لها ( المترجم )

(٤) ابن أبي الحديد ، شرح النهج ٥ : ٢١٣ ( المترجم )

٣٨٩

كان الشمر رجلاً أبرص وروي في كتب العامّة والخاصّة مثل حياة الحيوان والبحار وغيرهما عن صادق آل محمّد ، قيل له : كم تتأخّر الرؤيا ؟ ( فذكر منام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكان التأويل بعد ستّين سنة )(١) أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله رأى كلباً أبقع ـ أسود وأبيض ـ يلغ في دمه فعبّرت الرؤيا بالشمر لعنه الله(٢)

وكذلك جاء في بحار الأنوار عن سيّد الشهداء إنّه قال للشمر : رأيت كلاباً تنهشني ، أشدّها عليّ كلب أبقع(٣) ، فلعنة الله عليه لعناً يملأ أقطار السماوات وآفاق الأرضين

وقد أطرف الحسين بن الحجّاج البغدادي في قوله ـ ولعلّه يهجو به ابن سكرة الناصبي خذله الله ـ :

وأبرص من بني الزواني

ملمّع أبلق اليدين

قلت وقد لجّ في أذاه

وزاد ما بينه وبيني

يا معشر الشيعة أدركوني

قد ظفر الشمر بالحسين

وأخيراً قبض عليه المختار بن أبي عبيد سنة ستّ وستّين للهجرة وأناله جزائه كما ورد في الكامل(٤)

أن إنّه قُتل بيد أبي عمرة في قرية قريبة من الكوفة كما جاء ذلك في رسالة الشيخ الأجل ابن نما(٥) سقى الله قبره

_________________

(١) هذا ما ذكره صاحب البحار ولكن المؤلّف أورد قول النبي : رأيت كلباً أبقع يلغ في دماء أهل بيتي [ بحار الأنوار ٤٥ : ٣١ ] ( المترجم )

(٢) بحار الأنوار ٤٥ : ٣١ ( هامش الأصل )

(٣) نفسه ٤٥ : ٥٦ ( هامش الأصل ) ص ٨٨ ( المترجم )

(٤) بحار الأنوار ٤٥ : ٣٣٦ ، كامل ابن الأثير ٤ : ٢٣٧ ط بيروت ( هامش الأصل )

(٥) بحار الأنوار ٤٥ : ٣٣٨ ( هامش الأصل )

٣٩٠

وعن أبي الحسن عليّ بن سيف المدائني المؤرّخ المعروف ، وفي أمالي ( ابن ) الشيخ رضي الله عنهما أنّ شمراً طلبه المختار فهرب إلى البادية ، فسعي به إلى أبي عمرة فخرج إليه مع نفر من أصحابه فقاتلهم قتالاً شديداً فأثخنته الجراحة فأخذه أبو عمرة أسيراً وبعث به إلى المختار فضرب عنقه وأغلى له دهناً في قدر وقذفه فيها فتفسّخ ووطئ مولیً لآل حارثة بن مضروب وجهه ورأسه(١)

ولكن ذكر في نفح الطيب تأليف أحمد بن محمّد المقري المالكي المغربي في تاريخ الأندلس أنّ الشمر قد فرّ من المختار بولده من الكوفة إلى الشام ( فلمّا خرج كلثوم بن عياض للمغرب كان الصميل فيمن خرج معه ودخل الأندلس في طالعة بلج وكان شجاعاً جسوراً على قلب الدول فبلغ ما بلغ(٢)

وإمارة الصميل وإن ذكرت في عبر ابن خلدون وغيره إلّا أنّ هروب الشمر من الشام لا يلائم الواقع لأنّ مؤرّخي المشرق اتفقت كلمتهم على قتله ، ويمكن أن يكون في هروبه الأوّل الذي نقلناه عن ابن نما ، لم يمكّن الله من أولاده الخبيث فتواروا في بلاد الشام التي هي معدن النواصب واستقرّوا هناك ، ومن الشام انتقلوا إلى الأندلس التي تعرف اليوم بأسبانيول ، وكانت تشتهر قديماً باسم اسبانيا ، فلعنة الله عليه وعلى من انتسب بعمله إليه

_________________

(١) الأمالي ١ : ٢٥٠ الجزء التاسع ط النجف ( هامش الأصل ) ونقلنا العبارة كلّها من أمالي الطوسي : ٢٤٤ المجلس التاسع ( المترجم )

(٢) هذا ما ذكره المقري ٣ : ٢٦ ، وليس فيه ما ذكره المؤلّف من أنّ الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن تأمّر هناك وإنّما قال : وإنّما ذكر ابن حيّان أنّ القائم بدولة يوسف والمستولي عليها الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن الكلابي وجدّه شمر قاتل الحسين ٣ : ٢٧ ( المترجم )

٣٩١

وَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً أَسْرَجَتْ وَأَلْجَمَتْ وَتَنَقَّبَتْ وَتَهَيَّأَتْ لِقِتالِكَ

الشرح : الإسراج اشتقاق جعلي من لفظ سرج وهو جامد لأنّ كلّ لفظ يتوقّف جريان الحدث في معناه فهو جامد ، ويكون الاشتقاق منه خلافاً للأصل ، لأنّ معنى الجريان والتحوّل الذي هو من لوازم المصادر لا يوجد فيه ، مِن ثَمّ يسمّى هذا النوع من الاشتقاق الاشتقاق الجعلي ، وقولهم في تعرّف التعدية بـ « جعل الشيء ذا مصدره » مبنى على التغليب أو أنّ القصد هو المصدر المطلق الذي هو المبدٔ ومعنى أسرج جعله ذا سرج كما لا يخفى

الإلجام : نظير الإسراج وهو مأخوذ من اللجام وهو معرب لكام تحقيقاً كما جزم بذلك الجوهري ولا وجه لترديد الفيّومي والخفاجي

تنقّبت : يحتمل لهذا اللفظ وجوه منها ما ذكرها العلماء ومنها ما اختصصت باستنباطه

منها : أنّه مأخوذٌ من النقاب الذي تضعه المرأة على وجهها حقيقةً وذلك إشارة إلی ما كان يفعله القوم في الحروب حين ينتقبون ، وهذا الوجه ذكره في البحار(١) (٢)

الوجه الثاني : أن يكون من ذلك المعنى على وجه الاستعارة فإنّ النساء ينتقبن حين الخروج من منازلهنّ ومثلهنّ الرجال حين يخرجون إلى الحرب يحملون

_________________

(١) بحار الأنوار ١٠١ : ٣٠١ ط طهران ( هامش الأصل ) و ٩٨ : ٣٠٢ : قال الكفعمي : يمكن أن يكون المعنى مأخوذاً من النقاب الذي للمرأة ، أي اشتملت بآلات الحرب كاشتمال المرأة بنقابها فيكون النقاب هنا استعارة

(٢) ( يشهد له ما في البحار ٣٥ : ٦٠ ط طهران ابن عبّاس قال : لمّا نكل المسلمون عن مقارعة ( قارع القوم : ضارب بعضهم بعضا ) طلحة العبدوي تقدّم إليه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقال طلحة : من أنت ؟ فحسر لثامه ) ( ما كان على الأنف وما حوله من ثوب أو نقاب ) فقال : أنا القضم : ( السيف ) عليّ بن أبي طالب

٣٩٢

السلاح ويشتملون عليه شبّه لامة الهيجاء بنقاب النساء ، وهذا الوجه ذكره الكفعمي في حاشية المصباح(١)

وكلا الأمرين بعيد غاية البعد لا سيّما الثاني وهو ينافي الأذواق السليم إذ لا وجه بين نقاب المرأة واستعداد الرجال للحرب ، اللهمّ إلّا علاقة التضاد وإن لم يذكره

الوجه الثالث : مأخوذ من التنقيب بمعنى السير في الطريق مثل :( فَنَقَّبُوا فِي
الْبِلَادِ
) (٢) وهذا المعنى قريب معناه بعيد لفظه وهو من الكفعمي أيضاً(٣) عليه الرحمة

الوجه الرابع : يكون مأخوذاً من النقبة وهو ثوب يشتمل به كالإزار(٤) وهو شبيه بالسروال ، وتجعل له حجزة أي الموضع الذي يعقد منه ويمرّ الحزام منه من دون خصر ويظهر من بعض موارد الاستعمال أنّه لباس يلتجأ إليه الفارس أحياناً بسهولته أو لأسباب غيرها إذن ، هو كناية عن ذلك التهيّؤ والإعداد ومن موارد استعماله العبارة المنسوبة إلى عمر التي تعرّض العلماء لشرحها مفرقة وقد وردت بتمامها في شرح نهج البلاغة قال يذكر حال صباه في الجاهليّة : لقد رأيتني مرّة واُختاً لي نرعى على أبوينا ناضحاً لنا قد ألبستنا أمناً نقبتها وزودتنا يمنتيها من

_________________

(١) مصباح الكفعمي : ٤٨٣ ، بحار الأنوار ١٠١ : ٣٠٢ ( هامش الأصل )

(٢) ق : ٣٦

(٣) أو يكون معنى تنقّبت سارت في نقوب الأرض وهي طرقها الواحد نقب ، ومنه قوله تعالى :( فَنَقَّبُوا فِي
الْبِلَادِ
) أي طوفوا وساروا في نقوبها أي طرقها ، قال :

لقد نقّبت في الآفاق حتّى

رضيت من الغنيمة بالإياب

راجع مصباح الكفعمي : ٤٨٣ ، والبحار ٩٨ : ٣٠٢ ( المترجم )

(٤) بحار الأنوار ٩٨ : ٣٠٢

٣٩٣

الهبيد فنخرج بناضحنا ، فإذا طلعت الشمس ألقيت النقبة إلى اُختي وخرجت أسعى عرياناً فنرجع إلى اُمّنا وقد جعلت لنا لفيتة من ذلك الهبيد فيا خصباه(١)

ومنه يعلم حاله مع اُخته في البادية وحال الناس معه عرياناً فتذكر حديث الإمارة التي سبق إلى ذكرها الإشارة(٢) وتأمّل حقّ التأمّل في هذه العبارة

وبناءاً على هذا تكون العبارة كقول القائل : ارتدى ثوبه أو لبس سرواله ، وهذا المعنى عرض لي أوّلاً ثمّ عثرت عليه في إشارة وردت في كلام الكفعمي(٣)

الوجه الخامس : لا يبعد أن يكون المعنى كما ترائىٰ لي أنّه مأخوذ من نقب خفّ البعير إذا رقّ كما جاء في الشعر :

اُقسم بالله أبو حفص عمر

ما مسّها من نقب ولا دبر

وصرّح في الأساس أنّ تنقّب بمعنى نقب ، وهو كناية عن التعب والعنت في هذا العمل

الوجه السادس : واحتمل احتمالاً أن يكون مأخوذاً من النقابة بمعنى الرياسة ومعنى ذلك أنّهم جمعوا العساكر وجيّشوا الجيوش

الوجه السابع : مأخوذ من النقاب بمعنى العريف أو بمعنى البصيرة ، وانطباقه على ما نحن فيه أنّه إشارة إلى أنّهم علموا بالحرب وتأكّدت لديهم أسباب القتال وتعرّف وجوه الجدال ، وتنقّب بمعنى تجسّس وتتبّع(٤)

_________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٢ : ٢٠ مع اختلاف بسيط في بعض الكلمات ( المترجم ) ابن أبي الحديد ١٢ : ١٣٠ ط بيروت ( هامش الأصل )

(٢) تجدها في شرح « لعن الله عمر بن سعد » تحت عنوان « نادرة » ( هامش الأصل ) أورد المؤلّف العبارة بالعربيّة

(٣) المصباح للكفعمي : ٤٨٣ ، بحار الأنوار ١٠١ : ٣٠٢ ط طهران ( هامش الأصل )

(٤) لسان العرب ، مادة نقب والنقاب العالم بالاُمور ، والنقاب المنقّب ـ بالكسر والتخفيف ـ الرجل العالم بالأشياء الكثير البحث عنها والتنقيب عليها

٣٩٤

الوجه الثامن : أنّه مشتقّ من النقيبة بمعنى المشاورة

وهذان الوجهان الأخيران لم أجدهما في كتاب أحد والذي ثبت في كتب اللغة من هذه الوجوه هو تنقّب المرأة وتنقّب خفّ البعير ، ولم أعثر على باقي الوجوه لحدّ الآن في كتب اللغة ، ولكن بما أنّ هذا الاستعمال ثابت وأنّ الإختلال بوجوه المشتقّات من المجرّد والمزيد أكثر من النجوم وخارجة عن حدّ الإحصاء والحصر ، وكلّ واحدة من هذه المحتملات من الوجوه لا تخلو من مناسبة فلا مانع من ذكرها ، وإن كان ـ والحقّ يقال ـ لا يخلو وجه منها من وجود الخلل ، ولعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً

التهيّؤ : مشتقّ من الهيئة وهو بمعنى الكيفيّة الحاصلة من اكتناف أعراض مختلفة مثل الوضع واللون والمقدار على الجسم والفرق مابينها وبين الصورة يظهر باختلاف العرضيّة والجوهريّة اصطلاحاً وإن استعملت الصورة عرفاً بالمعنى الأعمّ ، والظاهر أنّ الأيئة والهيئة من أصل واحد ، وحصل هذا الاختلاف من الإبدال وباب الإبدال واللثغ باب واسع في لغة العرب ، وعمد جماعة إلى استيفاء هذين البابين ومع ذلك بقيت عليهم مستدركات ، وفي الزوايا خبايا ، وهذا المعنى اشتبه على صاحب القاموس في غالب ما كتب عنه ، وعزى موارد الإبدال إلى تعدّد اللغة ، ومن المواضع المنصوصة :

إبدال الهمزة والهاء : « هيم الله وأيم الله » في القسم

و « هنا وأنا » في ضمير المتكلّم

و « هيا وأيا » في النداء

و « لهنّك ولأنّك » في التأكيد

و « هيه وايه » في الاستزادة

و « هال وآل » و « هداه وأداه » و « هروت وأروت » و « هراق وأراق » في الإراقة

٣٩٥

و « هسد وأسد » و « هجيج وأجيج » و « هيّاك وأيّاك » في الخطاب

و « هوقه وأوقه » بمعنى الجماعة

و « باه وباء » بمعنى الجماع

و « أرجاه وأرجاء » بمعنى التأخير

و « بده وبدأ » و « دلره ودرأ » بمعنى طلع ودفع

إلى غير ذلك من المواضيع ويؤيّد قول النافين إصالة عدم الوضع والذي له اُنس ومعرفة بوجوه لغة العرب واختلاف ألسنتهم في الزيادة والنقصان التغيير والتبديل يجزم بصحّة دعوى النفي

وجملة القول : معنى التهيّؤ اتخاذ هيئة أمرٍ مّا والاستعداد لأدائه ، والتهيئة إعطاء الهيئة وإعداد العدة للأمر ، والله العالم

٣٩٦

بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي

الشرح : وضع هذه الجملة في الأصل للدعاء بالفداء ، ويكون المعنى هكذا : إذا داهمك بلاء أو آفة يجعل الله روح أبي واُمّي فداء ووقاءاً لك ، ويقع بهما البلاء دونك ، ويدلّ هذا الكلام على تقديم المفدّى في المحبّة والإعزاز على الوالدين ، وتتوقّف صحّة الاستعمال على حياة المخاطب وحياة الوالدين ، لأنّ الميّت لا يفدىٰ ولا يُفدّىٰ ، وهذا المعنى غير خاف على أهل الفهم والإدراك ومن هذا المعنى قول الكميت بن يزيد الأسديرضي‌الله‌عنه في إحدى هاشميّاته السبع يذكر فيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فيقول :

أنقذ الله شلونا من شفا النار

به نعمة من المنعام

لو فدى الحيّ ميّتاً قلت نفسي

وبنيّ الفدا لتلك العظام

وفيه نقد يعرفه من ذاق طعم الأدب ونسل إليه ولو من حدب(١)

وجملة القول : أنّ هذه الجملة التي نُقلت بلغت أعلى حدّ للظهور ؛ إمّا لغلبة الاستعمال أو للشهرة في مطلق التعظيم والإكبار لأحد من الناس ، وهذا القول لازم

_________________

(١) لعلّه يشير إلى قوله : « أنقذ الله شلونا » لأنّ الشلو الجلد والجسد من كلّ شيء وكلّ مسلوخة أكل منها شيء فبقيتها شلو ولكن الشلو مأثور عن غيره من الشعراء كما قال الراعي :

فادفع مظالم عيّلت أبناءنا

عنّا وأنقذ شلونا المأكولا

فليس على الكميت نقد في استعمال هذا اللفظ على سنن إخوانه الشعراء ، وأغلب الظنّ أنّ المؤلّف انتقده على لفظ العظام التي أطلقها على النبيّ وهي لفظة مستكرهة في نعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( المترجم )

٣٩٧

المعنى الأوّل وغالباً ما يؤتىٰ بها ، ولا يراد منها إلّا تجليل المخاطب وتعظيمه(١) ،

_________________

(١) الغرض من ذلك تجليل وتعظيم المخاطب ليس إلّا لأنّ في كثير من الموارد لا توجد شرائط الفداء وبيان هذا المطلب كما يلي :

أربعة شروط لازمة في الفداء الحقيقي :

١ ـ أن يكون المفتدي ـ اسم فاعل ـ حيّاً

٢ ـ أن يكون المفتدى ـ اسم مفعول ـ حيّاً أيضاً

٣ ـ من يفدي أدنى قدراً ممّن يفدىٰ ـ بالبناء للمجهول

٤ ـ لا يجوز أن يكون الفادي أسمى قدراً

فإذا فقدت هذه اللوازم الأربعة كان الفداء صوريّاً لا واقعيّاً ، ونحن نشاهد عدم رعاية هذه اللوازم الأربعة في كثير من الحالات في الأحاديث المرويّة عنهم ، ومن أجل إثبات ذلك نأتي بشاهد من الروايات لكلّ لازم من هذه اللوازم الأربعة

أمّا الأوّل : عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام وأقبل أمير المؤمنين ونزل جبرئيل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : يا محمّد ، اقرأ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ õ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ õ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ) [ سورة الليل ] إلى آخر السورة ، فقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وقبّل بين عينيه ثمّ قال : بأبي أنت ، قد أنزل الله فيك هذه السورة كاملة [ بحار الأنوار ٤١ : ٣٧ الرقم ١٥ ، وراجع : بحار الأنوار ٤١ : ٢٧٠ طبع طهران ]

أمّا الثاني : سويد بن غفلة قال : دخلت على عليّ بن أبي طالب ويحك يا فضّة ، ألا تتقين الله في هذا الشيخ ؟ ألا تتخلون له طعاماً ممّا أرى فيه من النخالة ؟ فقالت : لقد تقدّم إلينا أن لا ينخل له طعام ، قال : ما قلت لها فأخبرته [ أي عليّاً ] فقال : [ عليّعليه‌السلام ] بأبي من لم ينخل له طعام ولم يشبع من خبز البرّ ثلاثة أيّام حتّى قبضه الله عزّ وجلّ [ بحار الأنوار ٤٠ : ٣٣١ ، ومثله بحار الأنوار ٤١ : ١٣٨ ]

أمّا الثالث : بالإسناد عن جابر بن عبد الله أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أقام أيّاماً لم يطعم طعاماً حتّى شقّ ذلك عليه وطاف في منازل أزواجه فلم يصب عند واحدة منها شيئاً فأتى فاطمة فقال : يا بنيّة ، هل عندك شيء آكله فإنّي جائع ؟ فقالت : لا والله بأبي أنت واُمّي ، فلمّا خرج فرجع إليها ، فقالت : بأبي أنت واُمّي قد أتانا الله بشيء [ بحار الأنوار ٤٣ : ٦٨ ]

وهذه التفدية من العجايب فإنّ فاطمة أفدت ( كذا ) أباها لأبيها ، ولا تعدّد في ذلك وأفدت ( كذا ) اُمّها الميّت ( كذا ) للحي

أمّا الرابع : روى المجلسي بالإسناد عن ابن عبّاس : لمّا كنّا في حرب صفّين دعا عليّاً ابنه محمّداً بن

٣٩٨

وصارت من الألفاظ المتداولة للتعارف كالألفاظ التي تصدر بها المكاتيب ومبادئ المراسلات في هذا الزمان من قبيل : فداك ما عداك ، وروحي فداك ، وغيرها ، وليس غرض القائل أو الكاتب الفداء الواقعي منها وإنّما تذكر لبيان رعاية عظمة المكتوب إليه وملاحظة قدره

ومن هذا النمط عبارات الزيارة ، وإن كان الإمام المخاطب باعتقادنا حيّاً وسميعاً بصيراً ، ولكن ذلك لا يؤثّر في المعنى ، لأنّ صحّة استعمال هذا الكلام مبنيّ على الحياة الصوريّة الدنيويّة ، مضافاً إلى أنّ الفداء وهو الأبوان غالباً ما يكونان في عداد الموتى ، ولم يحتمل أحدٌ التفصيل في صحّة الخطاب ، فيصحّ إن كانا حيّين ويبطل عند موتهما ، وإن كان بالإمكان رفع هذا الإشكال بالتنزيل والفرض ، فيقال : إنّ مراد القائل للمخاطب إنّك أصبحت عندي بمنزلة لو كان والدايّ حيّين لفديتهما لك ولكن هذا الفرض لا يطرد في جميع الأمثلة

ولا يصحّ استعمال هذه العبارة في كثير من الموارد كالرواية المنقولة عن الإمام الباقر في خطابه لأصحاب سيّد الشهدا : بأبي أنت واُمّي(١) ولو احتُمل كون الإمام قال ذلك للتعليم ولم يقصد أباه بل تعليم السامع كيفيّة الزيارة مع كونه بعيداً

ويمكن دفع الإشكال بقولنا إنّ الأئمّة داخلون في عموم الحكم ، وحينئذٍ

_________________

الحنفيّة ، وقال له : يا بني ، شدّ على عسكر معاوية فحمل على الميمنة ثمّ رجع وبه جراحات وهو يقول : الماء الماء يا أبتاه فسقاه جرعة من الماء وصبّ باقيه بين درعه وجلده ، ثمّ قال : يا بني ، شدّ على القلب فحمل عليهم وقتل منهم فرساناً ثمّ رجع إلى أبيه وهو يبكي وقد أثقلته الجراح ، فقام إليه أبوه وقبّل مابين عينيه ( ممّا بين عينيه ـ خ ) وقال له : فداك أبوك فقد سررتني والله يا بني بجهادك هذا بين يدي فما يبكيك أفرحاً أم جزعاً [ بحار الأنوار ٤٢ : ١٠٦ ط طهران ، وراجع أيضاً ٤٢ : ١١٧ و ٤٣ : ١٤٢ و ١٥٣ الرقم ١١ ط طهران ] ( المحقق )

(١) كامل الزيارات : ١٧٦ ـ ١٧٩ ، بحار الأنوار ١٠١ : ٢٩٢ ط طهران ( هامش الأصل )

٣٩٩

يستحبّ لهم تلاوة هذه الزيارة والقول للأصحاب « بأبي أنت واُمّي » ، ووالد الإمام إمام وبالطبع لا يصحّ فدائه لأيّ واحد من صحابة الحسينعليه‌السلام بالضرورة

ومن هذا القبيل كلمات عقيلة الرسالة سلام الله عليها : « بأبي المهموم حتّى مضى » إلى آخر ما قالته في نياحتها على الإمام المظلوم(١) ذلك اليوم ، لأنّ الإمام أمير المؤمنين أجلّ قدراً من الإمام الحسينعليه‌السلام

وذكرها النبيّ وفاطمة وخديجة في النياحة إمّا لأنّ فقد الحسين سيّد الشهداء فقد لهم جميعاً كما قالت ليلة العاشوراء : « اليوم مات جدّي رسول الله »(٢) فناحت عليهم جميعاً ، أو أنّ العرف جرى بذكر النائح المعزّىٰ كبار أهله وإشرافهم من الموتى ويبكي على كلّ واحد منهم على حدة كما عليه الحال اليوم وعلى كلّ حال ما من وسيلة لدفع الإشكال في قوله : « بأبي خديجة الكبرى » إلّا ما قلناه من الإشارة التي سلفت والمنصف المتتبّع لا يغفل من رشاقة هذا التحقيق

_________________

(١) « بأبي المهموم حتّى قضى ، بأبي العطشان حتّى مضى ، بأبي من شيبته تقطر بالدماء ، بأبي من جدّه رسول إله السماء ، بأبي من هو سبط نبيّ الهدى ، بأبي محمّد المصطفى ، بأبي خديجة الكبرى ، بأبي عليّ المرتضى ، بأبي فاطمة الزهراء سيّدة النساء ، بأبي من رُدّت عليه الشمس حتّى صلّى » [ بحار الأنوار ٤٥ : ٥٩ ، ط بيروت ] ( هامش الأصل )

(٢) « يا حزناه ، يا كرباه ، اليوم مات جدّي رسول الله » [ بحار الأنوار ٤٥ : ٥٩ ط لبنان ] « اليوم ماتت اُمّي فاطمة وأبي عليّ وأخي الحسن » [ بحار الأنوار ٤٥ : ٢ ط لبنان ] ( هامش الأصل )

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439