وكانت صدّيقة
0%
مؤلف: كمال السيد
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 236
مؤلف: كمال السيد
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 236
لقد مات الضمير دفنه رهط من المدينة في أرض فدك ، فراحت البتول تحذّرهم أيام الله :
فدونكموها فاحتقبوها ، دبرة الظهر ، نقبة الخفّ ، باقية العار ، موسومة بغضب الجبّار ، وشنار الأبد ، موصولة بنار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة ، فبعين الله ما تفعلون ، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون ، وأنّا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد فاعملوا إنّا عاملون ، وانتظروا إنا منتظرون.
غادرت الزهراء المسجد وقد زلزلت الأرض زلزالها وصرخ رجل غصب ميراث الأنبياء :
ـ اقيلوني بيعتي
ونظر الرجال الى حيث كشفت فاطمة آفاق المستقبل فإذا السحب الحمراء مخزونة بالرعود والأرض ملغومة بالزلازل وأنهار من دم ، وجماجم وضحايا. وفرّ الانسان ألقى أمانة تهيبت السماوات والأرض عن حملها وحملها الانسان انه كان ظلوماً جهولا.
٣٨
كما تذوي الشموع في قلب الظلمات كما تذوب وتسيل دموع التوهج كانت « فاطمة » تذوي قوامها يزداد نحولاً
قرّرت فاطمة الصمت وان تصوم كما صامت مريم من قبل وأدرك عليّ ان الرحيل وشيك وان « البيت » الذي بناه من جريد النخل بـ« البقيع » سيكون ملجأً لفاطمة بيتاً للأحزان والآلام سيشهد ذلك البيت انطفاء الشموع رحيل النجوم ومصرع شمس أضاءت حياته مدّت بالدفء النور الأمل.
سكتت فاطمة. والذين اشتكوا من بكائها لم يعودوا يسمعون انيناً ينبعث من أعماق قلب كسير. لم يعد أحد يسمع نشيجها الاّ الذين يمرّون بـ « البقيع »
غابت فاطمة كما تغيب النجوم خلف السحب الدكناء. غابت فاطمة كفراشة تبحث عن الشمس عن ربيع مضى تطارده رياح شتائية.
غابت فاطمة لم يعد أحد يسمع بها انها تذوي وحيدة في بيت من جريد النخيل غادرته الحياة الملائكة لا تريد حياة الأرض ، والحوريات لا تعيش في عالم التراب والذين اكتشفوا السماء لن يطيقوا الانتظار
وعندما يدرك الأنبياء ان مواعظهم لاتجد آذاناً واعية سيتحدّثون بلغة الصمت
في بيت الأحزان كانت فاطمة تذوب كشمعة متوهّجة تحرق نفسها لتبعث النور والدفء من حولها فاطمة تتحدّث بلغة الشموع لغة لا يسبر غورها إلّا فراشات النور. ها هي فاطمة تصرخ بصمت :
ـ بدويّ صمتي اناديكم ثورتي تنطوي في حزني ورفضي كامن في دموعي.
وهذا كلّ ما أملكه من لغة علّكم تفهمون خطابي. انا مظلومة يا ربي
حرّرني من هؤلاء.
ذوت الشمعة أحرقت نفسها. لم يبق منها إلّا حلقات من نور آن لها أن تنطفئ. الوجه يشبه قمراً أنهكته ليلة شتائية طويلة بدا مصفرّاً وكان الصوت واهناً تحمله أمواج حزينة والدموع غزيرة كمطر سماء غاضبة
رتبّت « أسماء » فراش سيدتها وسيّدة كلّ امرأة في التاريخ
لم يعد الجسد الواهن قادراً على تحمل روح عظيمة تريد الانطلاق الى عوالم لا نهائية.
وجاء الشيخان يريدان عيادتها وقد أوجسا خيفة
فاطمة غاضبة ينشدان رضاها رضا السماء والأرض والتاريخ.
هكذا قال محمّد من قبل ولكن انّى لهما ذلك وفاطمة تكاد تميز من الغيظ
قال عمر لعليّ وهو يحاوره :
ـ يا أبا الحسن ان أبا بكر شيخ رقيق القلب وكان مع رسول الله في الغار وقد أتيناها غير هذه المرّة فلم تأذن لنا فاستأذن لنا منها
ماذا يقول أبو حفص كيف يفكّر هذان الرجلان نهض عليّ جلس عند فاطمة وقال مستأذناً :
ـ يا بنت رسول الله قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيت وقد تردّدا مراراً ورددتهما وقد جاءا الآن يسألاني الإذن.
ـ والله لا أكلّمهما حتى ألقى أبي.
ـ يا بنت محمّد اني قد ضمنت لهما الاذن.
ـ امّا وقد ضمنت لهما شيئاً فلا اخالفك.
شعر أبو بكر بالأمل يراود قلبه ونظر الى صاحبه بامتنان.
ـ السلام عليك يا بنت رسول الله.
ـ
ـ إنّا جئنا نسألك العفو وقد أقررنا بالإساءة.
ـ
ـ ارضي عنّا رضي الله عنك.
ـ
ـ لا تحوّلي وجهك عنّا انا نطمع أن يغفر لنا ربّنا
قالت فاطمة كلمتها الأخيرة :
ـ ان كنتما صادقين فاخبراني عمّا أسألكما.
ـ سلي يا بنت رسول الله.
ـ نشدتكما بالله هل سمعتما أبي يقول : فاطمة بضعة مني فمن آذاها فقد آذاني؟
ـ اللّهم نعم.
رفعت الزهراء يديها امام محكمة السماء :
ـ اللّهم اشهد فانّهما قد آذياني وأني اشكوهما اليك.
انتفض أبو بكر. ودّ لو تبلعه الأرض.
ـ ياويلي يا ويلي ليتني لم اتّخذك خليلا. لقد ضلتني عن الذكر بعد إذ جاءني.
أجاب صاحبه وكان فضّاً غليظ القلب :
ـ لا تجزع يا خليفة الرسول لغضب امرأة.
هتف بمرارة.
ـ اقيلوني فقد ترضى فاطمة.
رمقه عمر بعينين متنمّرتين :
ـ ماذا تقول يا خليفة الرسول أترضي فاطمة وتغضب عائشة والأقربون أولى بالمعروف. ولقد قضي الأمر.
وقف أبو بكر عاجزاً عن صدّ الرياح وهي تعدو مجنونة تهزّ شجرة غرسها رسول السماء تريد أن تجتثها من فوق الأرض.
وقف الخليفة عاجزاً عن توجيه قافلة التاريخ الجهة التي أرادها سيّد التاريخ وهاهو يتّخذ طريقه في الصحراء سربا.
وتمرّ الأيام والرياح المجنونة التي تريد اجتثاث شجرة غرستها السماء في الأرض تكاد تأتي على شمعة تسيل دموعها قطرات حزينة ولسوف تنطفئ بعد حين.
هوت الشمس اشتعلت حمرتها في الافق كجراح الشهداء وشيئاً فشيئاً زحفت كتائب المساء ولملمت الشمس خيوطها ورحلت بعيداً وظهرت نجيمات تومض بأمل وفاطمة مشغولة دبّت في جسدها عروق الحياة قالت لاسماء بسكينة :
ـ اسكبي لي غسلاً.
فرحت اسماء وهي ترى سيدّتها تقبل على الحياة تخطو نحو العافية.
اغتسلت فاطمة تطهّرت من أدران الأرض وارتدت ثياباً جدداً وتعطّرت بكافور كان جبريل قد أهداه الى أبيها
قالت فاطمة وقد شاعت ابتسامة في وجهها.
ـ افرشي لي وسط البيت
فاطمة تستعد للرحيل لم يكن في البيت أحد سوى اسماء
اسماء تراقب فتاة تشعّ نوراً كلما اشتدت ظلمة الأرض.
قالت فاطمة قبل أن ترقد :
ـ يا أسماء أنا استقبح ما يفعل بالمرأة بعد الموت يطرح عليها ثوب فيصفها للناظر ألا تصنعين لي شيئاً يسترني.
أجابت اسماء تطيب خاطرها :
ـ كنت بأرض الحبشة فرأيتهم يصنعون شيئاً فان أعجبك صنعت لك مثله.
هزّت فاطمة رأسها موافقة وراحت تراقب اسماء وقد تدفّقت ينابيع الأمل في قلبها الكسير.
أحضرت اسماء سريراً فأكبّته على وجهه ثم جاءت بجريد النخل وأوصلت بين قوائمه وشدّتها بحبال من الليف ثمّ ألقت عليه غطاءً.
بان الرضا في وجه حورية الأرض وابتسمت :
ـ نعم اصنعي لي مثله ما أجمل هذا يا اسماء استريني سترك الله.
تمدّدت فاطمة في فراشها ثم وضعت يدها تحت خدّها أغمضت عينيها ونامت وكانت اسماء قد سمعتها تتمتم بصوت ملائكي :
ـ السلام على جبريل. الهي في رضوانك وجوارك ودارك دار السلام.
فاحت في الفضاء رائحة الجنّة كانت اسماء تنظر الى وجه ملائكي لسيّدة ودّعت الأرض في عنفوان الشباب زهرة ذابلة في قلب الربيع حمامة بيضاء كسيرة الجناح حوريّة شهيدة.
وجاء عليّ وقد بدا مكسور الظهر كما لو انّه يحمل جبالاً من الحزن وبيد مرتعشة ناولته اسماء رقعة كانت فاطمة قد كتبتها قبل أن تغفو :
تجمعت الدموع في عيني عليّ كغيوم ممطرة وغرقت الكلمات كحمائم تتقاذفها الأمواج.
ـ بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصت به فاطمة بنت رسول الله9 وهي تشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله وان الجنّة حقّ والنار حق وان الساعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور
يا عليّ أنا فاطمة بنت محمّد زوجني الله منك لأكون لك في الدنيا والآخرة
حنطني وغسلني وكفّني وصلّ علي وادفنّي بالليل ولا تعلم أحداً ، وأستودعك الله الى يوم القيامة.
وقف عليّ مذهولاً ، كانت فاطمة سكناً ملاذاً وكانت عزاءه الوحيد وهاهي تودّعه تتركه وحيداً في مهب اعصار فيه نار.
وقف عليّ ينوء بجبال الحزن بركام الغيوم ولقد توقف القلب الذي كان يتدفق حبّاً وانطوت صفحة كانت مشرقة وانطفأ شعاع كان يضيء طريقه في الحياة
وانكسر « ذوالفقار » وتمزّقت أوتار الفرح الظلام يغمر الأرض والنجوم تشتدّ بريقاً كعيون تتطلّع الى كوكب تهشم فوق الأرض.
وقف التاريخ حائراً ، وقد اشتدّت ظلمة الليل والحزن يجوس المدينة كغيمة تبكي بصمت ، وعواء ذئاب بعيدة تنذر برحيل السلام.
ها هي الحور تترك الأرض لأهل الأرض وتعود إلى السماء ,
وجاء أهل المدينة يوارونها الثرى فقال لهم أبو ذر :
ـ انصرفوا فقد أخّر إخراجها.
انصراف الناس فيما ظلّ التاريخ حائراً يترقّب.
نامت المدينة اغمضت اجفاناً مثقلة بالحزن والدموع بدت يثرب تلك الليلة راهبة تبكي بصمت.
فاطمة نائمة واضعة يدها تحت خدّها وقد غادرت الروح العظيمة أهاب جسد نحيل ينتظر عودته الى عناصر التراب فقد ناء بحمل الروح وآن له ان يستريح.
لم يكن في حجرة فاطمة أحد سوى صبيين وبنت ورجال صدقوا.
كان التاريخ يصغي الى تمتمات صلاة وبكاء يحكي نشيج الميازيب في مواسم المطر.
شعر التاريخ بالاعياء وهوّمت عيناه وهو ينتظر في الظلام اغمض عينيه فانسلّت فاطمة كطيف مضيء ولمّا استيقظ لم يجد شيئاً ووجد علياً واقفاً ينفض عن نفسه الغبار ويهمس في اذن الرسول :
ـ السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة والسريعة
اللحاق بك ، قلّ يا رسول عن صفيتك صبري ورق عنها تجلّدي امّا حزني فسرمد ، وامّا ليلي فمسهّد ، الى ان يختار الله لي دارك التي انها بها مقيم ، وستنبئك ابنتك بتظافر امّتك على هضمها ، فأحفها السؤال واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ولم يخل منك الذكر والسلام عليكما سلام مودّع لا قال ولا سئم ، فان انصرف فلا عن ملالة ، وان أقم فلا عن سوء ظنّ بما وعد الله الصابرين.
ونهض عليّ يواجه الدنيا وحيداً ، يشعر بالغربة فلقد وارى بيده آماله وقلبه وسيفه ذا الفقار وتمتم بحسرة :
ـ فقد الأحبة غربة.
وقف التاريخ يقلّب كفّيه على ما انفق من وقت وهاهي فاطمة ترحل بصمت لا يعرف أين مستقرّها. ماذا سيقول للعالم. انّه لا يعرف عن هذه الفتاة شيئاً
فقائل يقول انّها جاءت الى الدنيا قبل أن يهبط جبريل بخمس سنين ، وقائل يقول بل بعد جبريل بخمس سنين ، وآخر يقول وهو ثالث القائلين انّها جاءت مع جبريل ثم مكثت في الأرض عدد سنين فلما غادر جبريل الأرض أخذها معه.
لكأنها حورية جاءت الى الدنيا ثم عادت الى الجنّة تخطر بين الأشجار الخالدة ليبقى طيفها في الأرض مادامت السماوات.
استيقظت المدينة تبحث عن فاطمة وقد رحلت فاطمة
وجاء الشيخان يبحثان في الأرض وكان أحدهما يتوعد حتّى همّ بنبش رفاة المقابر وكان التاريخ يجوس خلال البقيع يقلّب كفيه حائراً لا يدري أين فاطمة
شم رائحة الجنّة في بقعة بالبقيع فقال : هنا ترقد فاطمة وفاحت رائحة الفردوس حيث يرقد محمّد بسلام فقال : بل هاهنا ورأى ملائكة تهبط في حجرتها فأشار بيده المعروقة وهتف : بل هناك.
وحار الشيخ ماذا يقول للقوافل المسافرة كلّما مرّت امّة سألته عن قبر لفاطمة فيقلّب كفّاً معروقة ويقول :
ـ لا أدري.
وتمضي القوافل تسخر من شيخ يفتح عينيه على كلّ شيء إلّا على فاطمة
ولمّا ضاق الشيخ ذرعاً بالقوافل عاد الى حجرة فاطمة يعتذر اليها اشعل شمعة وراح يراقبها كانت الشمعة تتوهّج تذوب تسيل دموعها بصمت وشيئاً فشيئاً كانت تذوي ويخبو نورها حتى انطفأت وساد الظلام.
الفهرس
وكانت صدّيقة ١
الإهداء ٧
١ ٩
٢ ١٥
٢٠ ١١٥
٣٥ ٢٠٥
٣٩ ٢٢٩
٤٠ ٢٣٣