وكانت صدّيقة
0%
مؤلف: كمال السيد
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 236
مؤلف: كمال السيد
الناشر: مؤسّسة أنصاريان
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 236
وكانت صدّيقة
الى الذي يأتي في آخر الزمان
ويعيد « فدك » الى فاطمة
من عدن
الى سمرقند
الى افريقيا
الى سيف البحر مما يلي الجزر
وأرمينيا..
الى الذي سيكتب الفصل الاخير من ملحمة الصراع
الصراع بين قوة الشرعية وشرعية القوة
الى حفيد الزهراء
أقدم « وكانت صديقة »
استيقظت « خديجة » وشعور غريب بالفرحة والأمل ، ينبعث في نفسها ، انبعاث النور في الظلام وربّما فكّرت في سبب ما لهذه الموجة الهانئة من الفرح لم تكن تدري سبباً واضحاً لذلك فقد كان كل ما يحيطها يفجّر كوامن الحزن بل ويبعث على المرارة واليأس هاهي تشهد كيف تصب قريش العذاب على زوجها تضطهده تسخر منه وتكذّبه وهو الصادق الأمين.
تساءلت في نفقها : لعلّه الحمل الجديد والشجرة المثمرة عندما تحمل يعني الربيع والأمل والحياة. ولكن كيف وقد أخذ الله « عبدالله والقاسم » من قبل. وتركا في قلبها حزناً عميقاً كجرح لا يندمل ، ولكن لا لا انها تشعر بالأمل يكبر في أعماقها ينمو ويتفتّح كوردة في الربيع.
وحملها هذه المرّة عجيب خفيف تكاد تطير به تشعر بالسكينة
تتر قرق في قلبها كنبع بارد كما لا حظت شيئاً آخر مسحة من نور شفّاف تطوف فوق وجهها وشيئاً آخر أيضاً انّها لم تعد تشتهي طعاماً سوى الرطب والعنب.
أكملت خديجة ارتداء حلّة الخروج فزوجها ينتظر ، و« عليّ » الفتى الذي يتبع ابن عمه يلازمه كظله ، هو الآخر ينتظر.
انطلق الثلاثة أخذوا سمتهم نحو الكعبة مهوى الأفئدة وبيتاً بناه ابراهيم لربّه.
الكعبة تنشر ظلالها الوارفة فوق الأرض والسكينة تغمر المكان ما خلا حوار هادئ لرجال جالسين حول « زمزم » كان أحدهم يراقب مشهداً بدا له عجيباً كان يرنو إلى باب « الصفا ». وقد طلع رجل بين الأربعين والخمسين من عمره أقنى الأنف أدعج العينين كأنه قمر يمشي على الأرض وإلى يمينه فتى يشبه شبلاً وخلفهما امرأة قد سترت محاسنها.
قصد الثلاثة « الحجر الأسود » فاستلموه ثم طافوا البيت سبع مرّات؛ بعدها وقف الرجل والفتى الى يمينه والمرأة خلفهما.
هتف الرجل الأدعح العينين : الله أكبر فردّد الفتى وراءه : الله أكبر وكذا المرأة خلفهما ركع الرجل الأزهر الوجه ثم سجد والمرأة والفتى يتابعانه.
وحول « زمزم » تساءل رجل قدم مكة حديثاً :
ـ هذا دين لم نعرفه من قبل.
أجاب رجل هاشمي :
ـ هذا ابن أخي محمد بن عبدالله وامرأته خديجة وهذا الفتى عليّ بن أبي طالب وما على وجه الأرض من يعبد الله بهذا إلاّ هؤلاء الثلاثة.
ساد الوجوم وجوه الرجال وهم يراقبون موكباً صغيراً يغادر الكعبة حتى توارى خلف جدران البيوت.
وتمر الأيام وتمرّ الشهور ويكبر الحمل ويتألّق وجه خديجة بالنور يشتدّ سطوعاً وتبدأ آلام المخاض.
وبين صخور « حراء » كان محمّد يتأمل مكة ، يفكر في مصير العالم وطريق الانسان.
بدا وجهه حزيناً كسماء مزدحمة بالغيوم يفكّر في قومه يحزن من أجلهم يريد أن يفتح عيونهم على النور الذي اكتشفه فوق الجبل ، لكنّهم صدّوا عنه اعتادوا حياة الخفافيش في الظلام أعرضوا عن ملكوت السماوات فسقطوا في حضيض الأرض ضاعوا بين عناصر التراب والطين.
لم يدعوا شيئاً إلاّ وفعلوه آذوه سخروا منه عيّروه. قالوا :
إنه ساحر كذّاب أبتر سيموت ويموت ذكره فليس له ولد.
شعر بسكين حادّة تغوص في قلبه وهو يتذكّر سخريتهم منه ينادونه بالأبتر. النبي يفكّر في قومه حزيناً حزن نوح وابراهيم وموسى وعيسى بن مريم. آخر الأنبياء يفكّر غير ملتفت لما يجري حوله.
تكهرب الفضاء غلالة شفافة كالضباب تملأ المكان وقد غمر الصمت جميع الأشياء اختفت الأصوات تلاشت ولم يعد « محمّد » يسمع شيئاً سوى كلمات تنفذ في اعماقه نفوذ النور في المياه الرائقة
كلمات مؤثّرة عميقة جفّ لها ريقه تصبب لها جبينه فبدا كحبّات لؤلؤ منثور الكلمات تضيء في أعماقه كالنجوم :
ـ إنّا أعطيناك الكوثر. فصلّ لربّك وانحر. ان شانئك هو الأبتر.
وانقلب الرسول إلى بيته فرحاً ولما دخل على زوجته وجدها هي الأخرى فرحة تنظر اليه بعينين تفيضان حبّاً هتفت بصوت يشوبه اعتذار :
ـ إني وضعتها انثى وليس الذكر كالانثى.
تمتم النبي وهو يحتضن هدية السماء بحب :
ـ إنّا أعطيناك الكوثر اسميها فاطمة ليفطمها الله من الشرور.
كلؤلؤة في حنايا صدفة بدت فاطمة بفمها الدقيق بعينيها الواسعتين كنافذتين تطلاّن على عالم واسع عالم يموج بالصفاء والسلام.
أضاه الأمل منزلاً صغيراً من منازل مكّة وتفتّحت فاطمة للحياة كما تتفتح الورود والرياحين؛ ونمت في أحضان دافئة تنعم بقلبين ينبضان حبّاً لها وبنظرات تغمرها حناناً ورأفة.
وكبرت فاطمة نمت وبدأت تعي شيئاً ممّا يجري حولها تنظر إلى أمّها يغمره الحزن وربّما شعرت بمرارة تعتصر قلب أبيها وهو لا تعرف بعد سبباً لذلك تهفو نحو أمّها تقبل أباها فتعود البسمة الى الوجهين الحزينين وتشرق الفرحة من جديد كما تشرق الشمس من بين الغيوم لتغمر الأرض بالدفء والنور والأمل.
وتمرّ الأيام وتنمو فاطمة ويعصف القدر بقسوة وتجد الطفلة نفسها بين ذراعي والدتها في واد غير ذي زرع حيث أيام الجوع والخوف والحرمان
تصغي إلى أنّات المظلومين وتتأمّل سيوفاً مسلولة في الظلام. كبرت فاطمة في الشعب. فطمت اللبن ودرجت فوق الرمال. ومرّ عام.
ومرّ بعده عامان آخران فجأة اختطف القدر امّها فقدت نبعاً ثرّاً من الحبّ
فاطمة تبحث عن أمّها. تسأل أباها الحزين.
ـ أبه أين امي؟
ويجيب الأب المقهور وهو يحتضن ذكراه الغالية :
ـ أمّك في بيت من قصب لا تعب فيه ولا نصب.
تلوذ بالصمت تفكّر في أمّها. عيناها تبحثان عن نبع سماوي ولكن دون جدوى.
كبرت فاطمة في زمن الحرمان في زمن الحصار في زمن اليتم في زمن القهر لهذا نشأت الطفلة نحيلة القوام كغصن كسير. رسم القهر في عينيها الواسعتين لوحة حزينة منظراً ساكناً يغمره الصمت تفكّر تنطوي على نفسها في استغراق يشبه صلاة الأنبياء ، نشأت فاطمة في زمن الجدب فغدا عودها صلباً ضارباً في الأرض جذوراً بعيدة الغور فبدت أكبر من سنّها ونهضت تملأ فراغاً هائلاً أحدثه رحيل والدتها نهضت سيّدة صغيرة أمّاً رؤوماً لوالدها الذي أضحى وحيداً.
وتمرّ الأيام وذات مساء خرج المحاصرون في « الشعب » الى مكّة. عادوا إلى ضجيج الحياة لتبدأ فصول اخرى من تاريخ مثير يزخر بالأحداث منذ الساعة التي التقت فيها السماء بالأرض في غار حراء.
ملأ رغاء الجمال فضاء مكّة ، فقد آبت القوافل التي انطلقت الى اليمن ، في رحلة الشتاء؛ كان الجوّ بارداً والسماء تزدحم بغيوم رمادية؛ وصخور الجبال الجر داء بدت وكأنها تتضرّع إلى السحب تنشدها قطرات المطر.
وشيئاً فشيئاً خفتت الأصوات وآبت الطيور إلى أوكارها ساعة المغيب ، وبدا البيت خالياً موحشاً كصحراء مقفرة؛ كانت « فاطمة » مستغرقة في تفكير عميق تطوف في خيالها سورة « مريم » تلك الفتاة البتول التي انقطعت عن العالم في صومعتها تعبد الله تتبتل اليه وحيدة تستكشف آفاق السماء متخففة من أثقال الأرض.
جلست فاطمة تترقب أوبة أبيها ، وبدا المنزل خالياً من كل شيء « لا زينب ، ولا رقية » ولا « ام كلثوم » ذهبن ثلاثتهن الى بيوت أزواجهنّ؛ زينب استقرت في بيت « أبي العاص بن الربيع » و« ام
جميل » اختطفت « رقية » و« ام كلثوم » لو لديها « عتبة » و« عتيبة »؛ وكل هذا يهون أمام مصيبة كادت أن تعصف بكلّ شيء لقد رحلت أمّها « خديجة » ذلك النبع المتدفق حناناً وحبّاً ودفئاً
ـ لك الله يا امّي ما كادت أعوام الحصار تمضي بأيّامها الصعبة ولياليها المضنية حتى ودعتي الدنيا ليبقى والدي وحيداً وهو أشدّ الناس حاجة الى من يؤازره ويقف إلى جانبه ولكن يا امّاه سأجهد نفسي لأملأ الفراغ الذي جثم على البيت بعد رحيلك. سأكون له بنتاً وامّاً سأمسح دموعه بيدين تشبهان يديك وسأبتسم له كما كنت تضيئين قلبه بابتسامتك.
ولكن يا أمّاه أنا ما أزال صغيرة ليتك صبرت قليلاً ، أبي كان قويّاً بك وكان يتحدّى العاصفة بعزم « ابي طالب » شيخ البطحاء تكفله صغيراً وحماه كبيراً غير انكما تركتماه وحيداً واسترحتما من هم الدنيا وغمّها وحقّ لكما أن تستريحا وقد عصفت بكما النوائب من كل مكان وسدّد لكما الدهر سهاماً مسمومة وحراباً. أجل يا أمي لقد اظلمت الدنيا نشر المساء ستائره السوداء وهذا عامنا عام حزن ها أنا انتظر أبي أبي الذي يريد تبديد الظلام بنور الإسلام..ولكن مكّة ترفض ذلك تتمنع وفيها من يحبّ حياة الظلمات كما الخفافيش لا تهوى النور ولا تحبّ النهار.
سمعت « فاطمة » خطىً هادئة كنبضات قلب يخفق أملاً ، خطىً تعرفها فاطمة لهذا هبّت كفراشة تهوي الى النور بقوامها النحيل بعينيها الواسعتين سعة الصحرا وبابتسامتها المشرقة بالأمل
ولكن لم تسمّرت « فاطمة » في مكانها كأن خنجراً يطعن قلبها طعنة نجلاء
عاد أبوها حزيناً بدا وجهه كسماء مدلهمة بسحب من رماد ، كان ينقض عن رأسه ووجهه التراب والأوساخ وتمتم الرسول بحسرة :
ـ والله ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه إلاّ بعد موت أبي طالب.
اهتزّت « فاطمة » لهول ما ترى وبدت كسعفة أغضبتها الريح يا لصبر الأنبياء شعرت بالانكسار. كيف سوّلت لذلك السفيه نفسه أن يمسّ بالسوء وجها يسطع بالنور
بكت بانكسار وسالت دموعها حزينة حزن سماء تمطر على هون.
مسح الأب دموع ابنته ثم قال وعيناه تشعّان أملاً :
ـ لا تبكي يا فاطمة ان الله ناصر أباك على أعداء رسالته. انحسرت الغيوم عن السماء فبدت صافية مشرقة وعادت الابتسامة الى الوجه الملائكي ولكن عتباً كان يموج في قلبها :
ـ ترى أين كان فتى شيخ البطحاء وهو لا يكاد يفارق أباها
يتبعه كظلّه يدفع عنه أذى السفهاء من قريش ونسيت فاطمة كلّ شيء بعد أن ناداها أبوها فخفّت اليه كحمامة بريّة تهفو إلى عشّها.
ابتسمت فاطمة فانعكست ابتسامتها في وجه أبيها ابتسم محمّد أشرقت على قلبه شمس تغمره بالدفء والأمل والحياة يالهذه الحورية الصغيرة ذكرى خديجة وباقة ورد من جنّات السماء.
جلست فاطمة بين يدي والدها النبيّ زهرة تتفتح تتشرب كلمات الله. وتضيء الكلمات قلبها كنجوم في سماء صافية.
وتمر ثلاثة أعوام. ونمت فاطمة وتفتحت للحياة كما تتفتح الأزهار في الربيع.
٣
شيء يلوح في سماء مكّة لعلّها خيوط مؤامرة تحوكها قريش كما تحوك العنكبوت بيتاً هو أهون البيوت.
أبو جهل بدا مربّد الوجه غاظه محمّد وقد أصبح حديث العرب في الجزيرة السياط تنهال على فقراء المسلمين ، والاسلام ينتشر كنهر دافق تنثال مياهه على الشطآن الرملية.
وأبو جهل لا يروق له ذلك. غاظه رحيل محمّد الى الطائف يدعو قبائلها الى دينه ، وأفقده صوابه أن يبايعه رجال من يثرب
لقد مات أبو طالب وانتهت زعامته واختفت خديجة وتبددت ثروتها وآن لمحمّد أن يموت ليمت هذا المتمرّد الذي يريد تحطيم الأصنام آلهة الأباء والأجداد وحارسة قوافلنا ومصدر هيبتنا؛ ولكن كيف السبيل إلى قتل محمّد إنه لم يعد وحيداً يحوطه رجال أشدّ من الحديد بأساً انّه لاينسى صفعة حمزة صيّاد الاسود. ولكن
حمزة قد فرّ من مكة. ترك ابن أخيه وهاجر. واذن فان كلّ شيء مهيأ للضربة القاضية. ويالها من فكرة رهيبة تفتقت عن شيطان مكّة.
شمّت « فاطمة » عبير الوحي ورأت أباها وجبينه يتصبب عرقاً اكتنفه جبريل يسرّه كلمات عظيمة يكشف له خيوط العنكبوت.
غمر الليل مكّة. ملأ أزقّتها بظلمة مخيفة؛ وبدت النجوم وهي تومض من بعيد لآلئ متناثرة فوق عباءة سوداء
تقاطر رجال من مختلف القبائل يخفون سيوفاً وخناجر كأشباح ، الليل كانوا يمرقون خلف أبواب مكّة الموصدة وأبو جهل ينتظر اللحظة الحاسمة. لسوف يغمد شباب مكّة سيوفهم في قلب محمّد وينتهي كلّ شيء وسيرى الحيرة بادية على وجوه بني هاشم لقد قتل محمّد وضاع دمه تفرّق بين القبائل.
كان أبو جهل يعبّ خمرته منتشياً بفكرته ستبقى مكّة تتحدّث في أنديتها عن فطنة أبي جهل.
فرك شيطان مكة يديه وراح ينظر من خلال كوّة تفضي إلى زقاق ملتوٍ منتظراً عودة فتيانه.
تمتم النبيّ بخشوع وقد استدعى ابن عمه عليا :
ـ « وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخر جوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ».