• البداية
  • السابق
  • 345 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 14032 / تحميل: 5083
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق في القرآن

الأخلاق في القرآن الجزء ١

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٨١٣٩-٠٥-٩
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

«جُعِلَتْ الخَبَائِثُ في بَيتٍ وَجُعِلَ مِفتَاحُها الكِذْبُ» (١) .

ونختم هذا الموضوع ، بحديثٍ عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث جاء رجل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له : يا رسول الله إنّي إرتكبت في السّر أربع ذنوبٍ ، الزّنا وشرب الخمر والسّرقة والكذب ،فأَيّتَهُنَّ شِئتَ تَركتُها لك ، (لم يكن يريد أن يقلع عنها أجمع ، وإكراماً للرّسول ؛ يريد أن يقلع عن واحدةٍ فقط؟!.

فقال له الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله :«دَع الكَذِبَ».

فذهب الرجل ، وكلما أراد أن يهمّ بالخطيئة ، يتذكر عهده مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويقول ربّما سألني ، وعليّ أن أكون صادقاً في الجواب ، فيجري عليّ الحدّ ، وإن كذبت فقد نقضت العهد مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ممّا إضطّره أخيراً لتركها أجمع.

فرجع ذلك الرجل للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال له :

«قَدْ أَخَذتَ عَليَّ السَّبِيلَ كُلَّهُ فَقَد تَركتُهُنَّ أجمع» (٢) .

ونستنتج ممّا ذُكر آنفاً : أنّه في كثيرٍ من الموارد ، ولأجل تربية وتهذيب النّفوس والأخلاق ، أو لإصلاح بعضها ، يجب أن نبدأ من الجُذور ، وكذلك الإستعانة بالمقارنات والأخلاق الاخرى المتعلقة بها.

__________________

١ ـ بحارالأنوار ؛ ج ٦٩ ، ص ٢٦٣.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ؛ ج ٦ ، ص ٣٥٧.

١٠١
١٠٢

٨

من أين نبدأ؟

تعرفنا على كلّيات علم الأخلاق ، ونتائجه وآثاره ومقاصده وفُروعه ، والآن آن الأوان ، وبما لدينا من المعلومات والمعارف الكلّية ، البِدء في طريق تهذيب النّفس ، أو الإنتقال من المسائل الذهنيّة إلى ميدان الممارسة والتّطبيق ، ومن الكلّيات إلى الجزئيات.

ويجب التّوقف هنا ، لتهيئة لوازم سفرنا الروحاني ، حتى لا نصاب في سلوكنا لذلك الطّريقُ بالحيرة والضّلالة وعدم التّنظيم والتّنظير ، وعليه فلا بدّ من الإلتفات إلى امور :

١ ـ ثلاثة رُؤى في كيفيّة التعامل مع المسائل الأخلاقيّة.

٢ ـ هل يحتاج الإنسان في كل مرحلة إلى استاذٍ ومرشدٍ؟

٣ ـ دور الواعظ الخارجي والواعظ الداخلي.

٤ ـ الامور التي تُساعد الإنسان في عملية الوصول إلى هذا الهدف ؛ مثل ذكر الله والعبادة والأدعية ، الزّيارات ، النصائح المتكررة ، التلقين.

٥ ـ طهارة المحيط.

ثلاث نظريّات في كيفيّة التعامل مع المسائل الأخلاقيّة :

النظريّة الأولى :

رأيٌ يقول : إنّ تهذيب النفس ، نوع من الجهاد ومحاربة أعداء الداخل ، الّذين يتحرّكون

١٠٣

لإيقاع الإنسان في مستنقع الرّذيلة ، وشراك الخطيئة.

هذا الرأي مقتبسٌ في الأصل ، من حديث الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، المعروف ، عند ما خاطب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قومٌ من المجاهدين ، رجعوا لتوّهم من الغزو فقال :

«مَرحَباً بِقَومٍ قَضَوا الجِهادَ الأَصغَرَ وَبَقيَ عَلَيهِم الجِهادُ الأَكبَرُ ، فَقِيلَ يا رَسُولَ اللهِ ، ما الجِهادُ الأكبرُ ، قالَ : جِهادُ النَّفسِ» (١) .

وجاء في البحار في ذيل هذا الحديث : ثُمّ قَالَصلى‌الله‌عليه‌وآله :

«أَفضَلُ الجِهادِ مَنْ جاهدَ نَفْسَهُ الَّتي بَينَ جَنْبَيهِ» (٢) .

هذا وقد فُسّرت بعض الآيات التي وردت في دائرة الجهاد ، بالجهاد الأكبر ، إمّا لأنّها تخصّ الجهاد مع النفس ، أو لمدلولها العام في حركة السياق القرآني ، الذي يتناول القِسمين للجهاد.

وجاء في تفسير القمي ، في ذيل الآية (٦) من سورة العنكبوت :( وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) ، قَالَعليه‌السلام :«ومن جاهد نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَواتِ وَاللَّذَّاتِ وَالمَعاصِي» (٣) .

ويمكن أن نستوحي هذا المعنى من هذه الآية ، من حيث إنّ فائدة الجهاد تعود على الإنسان نفسه ، ويتّضح ويتجلّى أكثر في الجهاد مع النفس ، وخصوصاً أنّ الآية التي جاءت قبلها ، تكلّمت عن لقاء الله :( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ) ، ونعلم أنّ لقاء الله ، والشهود والقرب منه ، هو الهدف الأصلي للجهاد مع النفس.

وكذلك جاء في آخر آيةٍ من سورة العنكبوت :( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) .

وهذه الآية أيضاً ناظرةٌ حسب الظاهر إلى الجهاد الأكبر ، وذلك لقرينة :(فينا) ، وجملة :( لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) ، أو تتضمن مفهوماً عاماً يستوعب كلا النَّحوين من الجهاد.

وجاء أيضاً في الآية (٧٨) من سورة الحج :( وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ، ج ١١ ، ص ١٢٢ (باب ١ ، جهاد النفس).

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٧ ، ص ٦٥.

٣ ـ تفسير القمي ، ج ٢ ، ص ١٤٨ ؛ بحار الانوار ، ج ٦٧ ، ص ٦٥.

١٠٤

جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) .

فقد فسّر أغلب المفسّرين كلمة الجهاد بمعناها ومفهومها العام ، الذي يشمل الجهاد الأصغر والأكبر ، أو بخصوص معنى الجهاد الأكبر ، وكما قال المرحوم العلّامة الطّبرسي في كتابه مجمع البيان ، أنّ أكثر المفسّرين ذهبوا إلى أنّ المقصود من حقّ الجهاد ، هو إخلاص النيّة والأعمال والطّاعات لله تعالى(١) .

وقد ذكر العلّامة المجلسيرحمه‌الله هذه الآية ، في زمرة الآيات النّاظرة للجهاد الأكبر(٢) كذلك.

وجاء في الحديث المعروف عن أبي ذرّرحمه‌الله أنّه قال :قُلتُ يا رسُولَ اللهِ أَيُّ الجِهادِ أَفضَلُ؟

فَقالَ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أَنْ يُجاهِدَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَهَواهُ» (٣) .

وكما ورد في حديث : جنود العقل وجنود الجهل ، هذا المعنى أيضاً ، إذ يُشبّه حياة الإنسان بساحةِ حربٍ ، العقلُ جنوده في جهةٍ ، والجهلُ وهوى النّفس وجنودهما في الجهة المقابلة ، فهذان المعسكران ، يعيشان دائماً في حالة حربِ سِجالٍ ، ومن خلال هذا النّزاع ، ومعطيات حالات الصّراع في أعماق النّفس ، تتولد الكمالات المعنويّة للإنسان ، وذلك عند ما ينتصر العقل وجنوده ، والنّصر الآني ، هو السّبب في التّقدم النّسبي للكمالات الإنسانيّة.

النظريّة الثّانية : نظريّة الطّب الرّوحاني

فقد ذهبوا إلى أنّ الرّوح كجسم الإنسان ، تُصاب بأنواع الأمراض ، ولأجل الشّفاء يتوجب اللّجوء إلى أطبّاء النّفس والرّوح ، والاستعانة بأدوية الأخلاق الخاصّة ، حتى تبقى الرّوح سالمةً ونشطةً وفعّالةً.

والجدير بالذكر ، أنّ القرآن الكريم أشار إلى الأمراض الأخلاقية والروحية ، في إثنى عشر موضعاً ، وعبّر عَنها بالمرض(٤) ، ومنها الآية (١٠) من سورة البقرة ، إعتبرت النِّفاق من

__________________

١ ـ مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٩٧.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٧ ، ص ٦٣.

٣ ـ ميزان الحكمة ، ج ٢ ، ص ١٤١.

٤ ـ سورة البقرة ، الآية ١٠ ؛ سورة المائدة ، الآية ٥٢ ؛ سورة الأنفال ، الآية ٤٩ ؛ سورة التوبة ، الآية ١٢٥ ؛ سورة الحج ، الآية ٥٣ ؛ سورة النور ، الآية ٥٠ ؛ سورة الأحزاب ، الآية ١٢ و ٣٢ و ٦٠ ؛ سورة محمد ، الآية ٢٠ و ٢٩ ؛ سورة المدثر ، الآية ٣١.

١٠٥

زمرة الأمراض الروحية ، فقالت :( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ) ؛ بسبب إصرارهم على النّفاق.

وفي الآية (٣٢) من سورة الأحزاب ، وصفت عبيد الشّهوة بمرضى القلوب ، الذين يتحيّنون الفرص لإصطياد النّساء العفيفات ، حيث خاطب الباري تعالى نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال :( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) .

وجاء في الآيات الاخرى نفس هذا المعنى ، أو أوسع منه ، بحيث تناولت الآيات ، جميع الإنحرافات الأخلاقيّة والعقائديّة.

وفي معنى عميق آخر ، عبّر القرآن الكريم ، عن القلوب المليئة بنور المعرفة والأخلاق والتّقوى : بالقلوب السليمة. وجاء ذلك على لسان النّبي إبراهيمعليه‌السلام ، حيث قال :( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (١) .

«السّليم» من مادة«السّلامة» ، وتقع في مقابل الفساد والإنحراف والمرض ، و «القلب السّليم» كما جاء في الرّوايات عن المعصومينعليهم‌السلام ، في تفسير هذه الآية ، أنّه القلب الذي خَلا من غير الله تعالى ، (منزّه من كلّ مرضٍ أخلاقي وروحي).

وقال القرآن الكريم في مكانٍ آخر : إنّ إبراهيمعليه‌السلام عند ما طلب من الباري تعالى : القلب السّليم ، (كما أشارت الآيات الآنفة الذّكر) ، تحقّق له ما يُريد ، وشملته رحمة ولطف الله تعالى ، وأصبح ذا قلبٍ سليمٍ ، فنقرأ في الآيات (٨٣ و ٨٤) من سورة الصافات :

( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ* إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) .

نعم ، فإنّ إبراهيمعليه‌السلام كان يتمنى أن يكون ذا قلبٍ سليمٍ ، وبالسّعي والإيثار ومحاربة الشرك ، وهو النفس من موقع عبادة الله ، إستطاع أن يصل بالنّهاية إلى ذلك المقام.

ونجد في الأحاديث الإسلامية ، إشاراتٌ كثيرةٌ حول هذا الموضوع ، ومنها :

__________________

١ ـ سورة الشعراء ، الآية ٨٧ الى ٨٩.

١٠٦

١ ـ يصف الإمام عليعليه‌السلام ، الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في نهج البلاغة ، فيقول :«طَبِيبٌ دَوّارٌ بِطِبّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَراهِمَهُ وَأَحمَى مَواسِمَهُ يَضَعُ ذِلِكَ حَيثُ الحاجة إِلَيهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمى وآذانٍ صُمٍّ وَأَلسِنَةٍ بُكْمٍ ، مُتَتَبِّعٌ بِدوَائِهِ مَواضِعَ الغَفلَةِ وَمَواطِنَ الحَيرَةِ» (١) .

٢ ـ ورد في تفسير القلب السّليم ، الذي ذُكر في الايتين الشّريفتين أعلاه ، رواياتٌ كثيرةٌ ، فنقرأ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، سئل :ما القَلبُ السّلِيم.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«دِينٌ بِلا شَكٍّ وَهُوىً ، وَعَمَلٌ بِلا سُمْعَةٍ وَرِياءٍ» (٢) .

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام :«لا عِلْمَ كَطَلَبِ السَّلامَةِ ، ولا سَلامَةَ كَسَلامَةِ القَلبِ» (٣) .

وجاء في حديثٍ آخر عن أمير المؤمنينعليه‌السلام :«إِذا أَحَبَّ اللهُ عَبداً رَزَقَهُ قَلبَاً سَلِيماً وَخُلْقاً قَويمَاً» (٤) .

٣ ـ وقد ورد التعبير عن الأخلاق الرّذيلة ، في الروايات بأمراض القلب.

فورد في حديث عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال :

«إِيّاكُم وَالمراءَ وَالخُصُومَةَ فإنّهما يُمرِضانِ القُلُوبَ عَلَى الإِخوانِ ، وَيَنْبُتُ عَلَيهما النِّفاقَ» (٥) .

وجاء أيضاً عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّه قال :

«ما مِنْ شَيءٍ أَفْسَدَ لِلقَلبِ مِنْ خَطِيئَتِهِ» (٦) .

٤ ـ ونقرأ عن الإمام عليعليه‌السلام أيضاً :

«أَلا وَمِنَ البَلاءِ الفاقَةُ ، وَأَشَدُّ مِنَ الفاقَةِ مَرَضُ البَدَنِ ، وَأَشَدُّ مِنْ مَرَضِ البَدنِ مَرَضُ القَلبِ». (٧)

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٨.

٢ ـ مستدرك الوسائل ، ج ١ ، ص ١٠٣ (الطبعة الجديدة).

٣ ـ بحارالأنوار ، ج ٧٥ ، ص ١٦٤.

٤ ـ غُرر الحِكم ، ج ٣ ، ص ١٦٧ ، (طبعة جامعة طهران).

٥ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٣٩٩.

٦ ـ المصدر السابق ، ص ٣١٢.

٧ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، كلمة ٣٨٨.

١٠٧

٥ ـ وجاء أيضاً عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في معرض حديثه عن الحسد ، وأنّه كان ولا يزال على طول التأريخ مرضٌ نفسي عضال ، فقال :

«أَلا إنَّهُ قَدْ دَبَّ إِلَيكُم داءُ الامَمِّ مِنْ قَبلِكُم وَهُوَ الحَسَدُ ، لَيسَ بِحالِقِ الشَّعْرِ ، لَكِنَّهُ حالِقُ الدِّينِ ، ويُنجِي فِيهِ أَنْ يَكُفَّ الإِنسانُ يَدَهُ وَيَحْزُنَ لِسانَهُ وَلا يَكُونَ ذا غَمزٍ عَلَى أَخِيهِ المُؤمِنُ» (١) .

٦ ـ وقد ورد في التّعبير عن الرذائل الأخلاقيّة ، في كثيرٍ من الرّوايات ب : «الدّاء» ومفهومها المرض ، وجاء مثلاً في الخطبة (١٧٦) من نهج البلاغة ، حيث يصف الإمامعليه‌السلام فيها القرآن الكريم :

«فَإسْتَشفُوهُ مِنْ أَدواءِكُم فَإِنَّ فِيهِ شِفاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ وَهُوَ الكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَالغيُّ والضَّلالُ».

ونرى أيضاً هذا التعبير في روايات كثيرة اخرى.

وخلاصة القول ، إنّ الفضائل والرّذائل ، وطبقاً لهذه النظرية والرؤية ، علامةٌ لسلامة ومرض الرّوح عند الإنسان ، والأنبياءعليهم‌السلام والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ، كانوا معلمي أخلاق ، وأطباء نفسيين ، وتعاليمهم تجسّد في مضمونها الدّواء النّافع والعلاج الشافي.

وعلى هذا ، فكما هو الحال في الطّب المادي ، ولأجل الوصول إلى الشّفاء الكامل ، يحتاج المريض إلى الدواء ، ويحتاج إلى الحُمية من بعض الأكلات ، فكذلك في الطّب النّفسي والرّوحي الأخلاقي ، يحتاج إلى الإمتناع عن أصدقاء السّوء ، والمحيط الملّوث بالمفساد الأخلاقيّة ، وكذلك الإمتناع عن كلّ ما يَساعد على تفّشي الفساد ، في واقع الإنسان النفسي ، ومحتواه الداخلي.

فالطّب المادي جعل العمليّة الجراحيّة كعلاجٍ لبعض الحالات ، وكذلك جعل الطّب

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ، ج ١ ، ص ٦٣٠.

١٠٨

الرّوحي الحدود والتّعزيرات والعُقوبات كوسيلةٍ ، ودواءٍ رادعٍ ، عن الأعمال المنافيَة للأخلاق ، وهي بِمنزلة إجراء العمليّة الجراحيّة في الطّب المادي.

وكما نرى في الطّب المادي ، أنّه جعل العلاج في مرحلتين ، مرحلة الوقاية : وهي المحافظة على الصّحة البدنيّة ، والثّانية : مرحلة العلاج للمريض ، فكذلك في الطّب الرّوحي والأخلاقي ، يمرّ بمرحلتين : مرحلة الإرشاد والتعليم من قبل معلمي الأخلاق ، للمحافظة على نفوس الناس من التلّوث بالرذائل ، والثّانية : مرحلة العلاج للمذنبين الملوّثين بالرّذائل.

وما جاء في الخطبة (١٠٨) من نهج البلاغة ، في وصف الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومعالجاته بالمراهم والكيّ للجروح ، يبيّن مدى التّنوع في الطّب الرّوحي ، كما هو الحال في الطّب المادي.

ففي الطّب المادي (الجسماني) ، توجد مجموعة إرشاداتٍ وأوامر كليّة لعلاج الأمراض ، وقسمٌ من الأوامر التي تخص كلّ مرض بذاته ، فكذلك الطّب الرّوحي ، فالتّوبة وذكر الله والعبادات الاخرى ، والمحاسبة والمراقبة للنفس ، هي اصولٌ كليّةٌ للعلاج ، وكلّ مرضٍ أخلاقي ، نجد الأوامر والإرشادات الخاصة به ، مذكورةٌ في الكتب الإسلاميّة والأخلاقيّة.

النظريّة الثالثة : نظريّة السّير والسّلوك

وقد شبّه الإنسان في هذه النظريّة ، بمسافر إنطلق من نقطةِ العدم ، إلى لقاء الله تعالى ، ويتحرك في سلوكه بهدف لقاء الله ، والقرب من الذّات المقدّسة اللّامتناهية.

ففي هذا السّفر ، وكما هو الحال بالنسبة لأسفارنا الماديّة ، يجب تحضير المركب والمتاع ، وإزالة الموانع التي تقف في الطّريق ، والتّفكير في كيفية التّصدي للّصوص وقطاع الطّريق والأعداء ، للمحافظة على المال والأرواح ، فهذا السّفر الرّوحاني والمعنوي ، فيه منازل وطرق ملتوية وصعبة العبور ، ومطبّاتٌ خطرةٌ ، ولا يمكن العبور منه بسلامة ، إلّا بمعونة الدليل المطّلع والعارف بالطّريق ، والعُبور منها واحداً بعد واحدٍ حتّى الوصول إلى محطّ الرّحال ومنزل المقصود.

ويصرّ البعض أنّ السّير والسّلوك إلى الله تعالى ، ومعرفته ومنازله ، وزاده وأدلّائه ، و

١٠٩

الطّريق الموصل إليه ، هو علمٌ غير علم الأخلاق ، ومنفصلٌ عنه ، ولكن وبنظرةٍ أوسع ، نرى أنّ السير والسّلوك الرّوحي ، يلتقي في نفس الطّريق التي تهدف إليه التربية الأخلاقية ، وتحصيل الفضائل في خط التّكامل المعنوي ، أو على الأقل أنّ الأخلاق الإلهيّة هي أحد أبعاد السّير والسّلوك الرّوحاني.

وعلى أيّة حال ، فإنّ الآيات والروايات ، أشارت إلى هذه النّظرية أيضاً ، ومنها : الآية (١٥٦) من سورة البقرة ، حيث تقول :( الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) .

فمن جهةٍ ، يرى الإنسان نفسه أنّه مُلكٌ لله تعالى ، ومن جهةٍ اخرى ، يرى نفسه أنّه مُسافر ، ويتحرّك بإتّجاه الله تعالى شأنه.

ونقرأ أيضاً في سورة العَلق :( إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى ) (١) .

وجاء في سورة الإنشقاق :( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) (٢) .

وجاء في سورة الرّعد :( رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها .يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) (٣) .

ويوجد أكثر من (٢٠ آية) ، تحدثت عن أن لقاء الله تعالى ، في الواقع هو مقصود السّالكين إلى الله والعارفين به ، ويعني اللّقاء المعنوي والرّوحي مع المحبوب ، والمقصود الذي لا مثيل له.

وصحيحٌ أنّ هذه الآيات ، وآياتُ الرّجوع إلى الله تعالى ، تستوعب جميع هذه المعاني ، ولكن هذا لا يمنع من أنّ سير وسلوك المؤمن والكافر ، من ناحية الفِطرة والخلقة ، هو بإتّجاه الباري تعالى ، فبعضٌ ينحرف عن طريق الفطرة ، فيسقط في وادٍ سحيقٍ ، ولكن أولياء الله ومع إختلافهم بالمراتب ، يصلون إلى المقصود ، مثل الحيامن التي تسير جميعاً في عالم الرّحم لِتكوين الجَنين ، فبعضها تموت في المراحل الأولى بسبب بعض الآفات ، وتتوقف عن الحركة ، وبعضها يستمر في طريقه ، ليصل أحدها إلى الهدف.

وأفضل وأوضح من هذه التّعابير ، هو تعبير القرآن الكريم ، حيث يقول : «( فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ

__________________

١ ـ سورة العلق ، الآية ٨.

٢ ـ سورة الإنشقاق ، الآية ٦.

٣ ـ سورة الرّعد ، الآية ٢.

١١٠

التَّقْوى ) ، (وعادةً كلمة : الزّاد ، تقال للطعام الذي يحمله المسافر معه ، ولكنّها في الأصل موضوعةٌ لمعنى أشمل : بحيث تشمل كلَّ ذخيرةٍ).

وعلى هذا الأساس يقول : إنّ التّقوى هي خيرُ الزّاد ، وهي إشارةٌ إلى سير الإنسان في طريق التّوحيد الخالص ، وعلى كلّ حال فإنّ هذا السّفر الرّوحاني يحتاج إلى زادٍ ، وزاده لا بدّ وأن يكون معنوياً أيضاً.

ونرى مثل هذا التعبير ، واردٌ بكثرةٍ في الرّوايات الإسلاميّة.

وفي موارد متعدّدةٍ من نهج البلاغة ، أتى ذكر التّزود للآخرة :

ففي الخطبة (١٥٧) يقول الإمامعليه‌السلام :«فَتَزَوَّدوا فِي أَيّامِ الفَناءِ لأَيَّامِ البَقَاءِ».

وفي الخطبة (١٣٢) نرى تعبيراً أوضح ، فيقولعليه‌السلام :

«إِنّ الدُّنيا لَمْ تُخْلَقُ لَكُم دارَ مُقامٍ ، بَل خُلِقَتْ لَكُم مَجازاً لِتَزَوَّدُوا مِنها الأَعمَالَ إِلَى دارِ القَرارِ».

وجاء في الخطبة (١٣٣) ، تعبير ألطَف وأدَق ، فقالعليه‌السلام :

«وَالبَصِيرُ مِنها مُتَزَوُّدُ والأَعمى لَها مُتَزَوُّدُ».

وهناك آيات في القرآن الكريم ، يمكن أن تحمل في مضمونها إشاراتٌ لهذه النظريّة ، ومنها :

( صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (١) ، و( الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) (٢) ، و( سَبِيلِ اللهِ ) ، موجودةٌ في آياتٍ كثيرةٍ من القرآن الكريم ، و( لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) (٣) ، وأمثالها يمكن الإشارة بها إلى هذه النظرية.

__________________

١ ـ سورة إبراهيم ، الآية ١.

٢ ـ فاتحة الكتاب ، الآية ٦.

٣ ـ سورة الأنفال ، الآية ٣٦.

١١١
١١٢

٩

تنوع الطّرق لأرباب السّير والسّلوك

من الجدير بالذكر ، أنّ أرباب السّير والسّلوك ، والعلماء الذين سلكوا هذا الطريق ، واتخذوا من القرآن الكريم والسّنة الشّريفة دليلاً لهم ، (لا الصّوفيين الذين تأثروا بالمذاهب غير الإسلاميّة الأجنبيّة) ، فكلّ واحد من اولئك الأفاضل إقَتَرح طريقةً تختص به ، أو بتعبيرٍ أدق ، إتّخذوا منازل ومراحل ، سنأتي بها بصورةٍ ملخّصة ، حتّى يكتمل البحث ، ويكون أكثر فائدة :

١ ـ السّير والسّلوك المنسوب : «للسيد بحر العلوم»

هناك كتاب منسوب للعلّامة الفقيه العالم :«السيد بحر العلوم» ، ورغم أنّ بعض أبحاثه لا يمكن القول بصدورها منه ، إلّا أنّ بعض أقسامه والحقّ يقال ، في غاية الأهميّة ، فقد ذكر السّيد في هذا الكتاب أربعة عوالم ومنازل ، مهمّة للسّير والسّلوك إلى الله تعالى ، والقرب منه ، وهي :

١ ـ الإسلام.

٢ ـ الإيمان.

٣ ـ الهجرة.

٤ ـ الجهاد.

١١٣

وكلّ واحد من هذه العوالم الأربعة ، ذكر له ثلاث مراحل ، فيصبح المجموع إثني عشرةَ مرحلةً ، وبعد تجاوز هذه المراحل الإثني عشر ، يصل السّالك إلى الله ، وإلى عالم الخُلوص والفناء ، والمراحل أو المنازل الإثني عشر هي :

المنزل الأول : الإسلام الأصغر ، والقصد منه هو إظهار الشّهادتين والتّصديق بهما في الظّاهر ، وأداء الوظائف الدينيّة.

المنزل الثاني : الإيمان الأصغر ، وهو عبارة عن التّصديق القلبي والاعتقاد الباطني بكل المعارف الإسلاميّة.

المنزل الثالث : الإسلام الأكبر ، وهو عبارةٌ عن التّسليم في مقابل كلّ حقائق الإسلام ، والأوامر والنّواهي الإلهيّة.

المنزل الرابع : الإيمان الأكبر ، وهو عبارةٌ عن روح ومعنى الإسلام الأكبر ، والّذي ينتقل من مرتبة الطاعة ، إلى مرتبة الشّوق والرّضا والرّغبة.

المنزل الخامس : الهجرة الصّغرى ، وهي الإنتقال من «دار الكفر» ، إلى «دار الإسلام» ، وهي شبيهةٌ بهجرة المسلمين ، من مكّة التي كانت مقرّ للكفار إلى المدينة.

المنزل السّادس : الهجرة الكبرى ، وهي الهجرة والابتعاد عن أهل الذنوب والعصيان ، وعدم الجلوس مع الظّالمين والملّوثين.

المنزل السابع : الجهاد الأكبر ، وهو عبارةٌ عن محاربة جنود الشّيطان ، بالإستمداد من جنود الرّحمان ، وهي جنود العقل.

المنزل الثامن : منزل الفتح والظّفر على جنود الشيطان ، والتّحرر من سلطتهم ، والخروج من عالم الجهل والطّبيعة.

المنزل التاسع : الإسلام الأعظم ، وهو عبارةٌ عن الغلبة على جنود الشّهوة والآمال البعيدة ، فتنتصر العوامل الموقظة الخارجية ، على العوامل الإنحرافيّة الداخليّة ، وهنا يكون القلب ، مركزاً للأنوار الإلهيّة ، والإضافات الرّبانيّة.

المنزل العاشر : الإيمان الأعظم ، وهو الفناء في الله تعالى ، ومرحلة الدّخول في عالم :

١١٤

( فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ) ، وعندها تظهر حقيقة العبوديّة لله تعالى في واقع النّفس.

المنزل الحادي عشر : الهجرة العظمى ، وهي هجرة الذّات ونسيانها ، والسّفر إلى عالم الوجود المطلق ، والتّوجه الكامل للذّات المقدّسة للباري تعالى ، وهي الّتي تدخل في جملة خطاب :( وَادْخُلِي جَنَّتِي ) .

المنزل الثّاني عشر : الجهاد الأعظم ، فبعد هجرة الذّات ، يتوسل بالله تعالى أن يمحو كلّ آثار الأنا ، ويضع القدم على بساط التّوحيد المطلق.

فبعد أن تُطوى هذه العوالم الإثنا عشر ، يدخل في عالم الخُلوص ، ويكون مصداقاً لقوله تعالى :( بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) .(١)

كيفية السّير والسّلوك في هذه الطريقة :

في رسالة السّير والسّلوك المنسوبة للعلّامة بحر العُلوم ، وبعد ذكره للعوالم والمنازل المذكورة آنفاً ، يتطرق إلى كيفية السّير في هذا الطريق الصعب ، والملىء بالمفاخر ، ويذكر (٢٥) أمراً للوصول إلى المقاصد العليا ، ونذكرها بشكل مختصر :

فالسّالك إلى الله تعالى ، والمريد للقرب منه ، لأجل الوصول إلى هذه العوالم ، وبعد إطّلاعه الكامل على اصول الدين وفروعه ، وأحكامه الإسلامية من الطُرق المعتبرة ، يشدُّ الرحال ويأخذ طريقه في عملية السّلوك ، من خلال الإلتزام بالمراحل ال (٢٥) ، ليصل إلى المقصود :

أولاً : ترك الآداب والرّسوم والعادات التي تقف عقبةً في الطريق ، وتغرقه في بحر الآثام.

ثانياً : العزم القاطع للسّير في هذا الطّريق ، فلا يخاف شيئاً ، ولا يتردّد ، وليعتمد على لُطف الله تعالى.

ثالثاً : الرّفق ومُداراة النّفس ، فلا يحمّلها أكثر من طاقتها ، كي لا تنفر ولا تنطفيء جذوتها ،

__________________

١ ـ للإطّلاع ، يرجى مراجعة : رسالة السّير والسّلوك للمرحوم السيّد بحر العلومقدس‌سره ، وفيه تفاوت وإختلاف بينه وبين رسالة العلّامة الطباطبائي ، لبّ اللّباب ، وهنا في الواقع تلفيق من الإثنين.

١١٥

ولئلّا تنقطع عن المسير.

رابعاً : الوفاء ، وهو الوفاء بالبقاء على العهد في التّوبة ، وتركه للذّنوب وَعدم العودة إليها ، وليكون وفيّاً مع استاذه أيضاً.

خامساً : الثّبات والدّوام ، يعني الدّوام على ما إختاره من برامج لنفسه ، حتى تُصبح عادةً عنده ، وليغلق طريق العودة على نفسه.

سادساً : المُراقبة ، وهي عبارة عن الإنتباه لنفسه في كل الامور والأحوال ، ولِئلا تصدر منه المخالفة.

سابعاً : المحاسبة ، كما جاء في حديث :«لَيسَ مِنّا مَنْ لَم يُحاسِبْ نَفسَهُ كُلَّ يَوم» (١) .

ثامناً : المؤآخذة ، حيث يوآخذ نفسه في كلّ خطأ يصدر منه ويعاقبها.

تاسعاً : المسارعة ، يعني يعمل بمقتضى أمر :( سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (٢) ، الوارد في القرآن الكريم ، فيُسارع في كلّ خير ، لئلّا يسبقه الشّيطان ويوسوس له في تركه.

عاشراً : خُلوص الباطن ، وهو تطهير الباطن ، بحيث لا يكون أدنى غش في قلبه ، والحب التام لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله صاحب الشّريعة ، والأوصياء المعصومينعليهم‌السلام .

الحادي عشر : الأدب ، حفظ حُرمة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوصياءه المعصومينعليهم‌السلام ، بحيث لا يلفظ بلفظ يدل على عدم الرّضا منهم ، والإعتراض عليهمعليهم‌السلام ، وحفظ حرمة الأكابر ، ولبيان حاجته في الدّعاء لا يستعمل ألفاظاً تدل على الأمر والنّهي.

الثاني عشر : النيّة ، وتعني إخلاص القصد في هذا المسير والحركة ، وجميع الأعمال لله تعالى.

الثالث عشر : الصّمت ، ويعني الإكتفاء بالمقدار اللّازم من الكلام.

الرابع عشر : الجوع وقلّة الأكل ، وهو من الشّروط المهمّة لسلوك هذا الطريق ، ولكن ليس للحدّ الذي يبعث على الضّعف وعدم القدرة.

__________________

١ ـ إرشاد القلوب للديلمي ، باب ٣٩.

٢ ـ سورة آل عمران ، الآية ١٣٣.

١١٦

الخامس عشر : الخلوة ، وهي عبارةٌ عن العزلة عن أهل العصيان ، وطلّاب الدنيا وأصحاب العقول الناقصة ، والتّوجه الخالص لله عند العبادة والذّكر ، والإبتعاد عن الضّوضاء وعناصر التّشويش الذهني.

السادس عشر : السّهر ، وخصوصاً في الثّلث الأخير من الليل ، الذي أكدّت عليه الآيات والرّوايات.

السابع عشر : الدّوام على الطّهارة ، وهو أن يكون على وضوء دائماً ، حيث ينوّر الباطن بأنوارٍ خاصّةٍ.

الثامن عشر : التّضرع لله تعالى ، والتحرك على مستوى اظهار الخضوع له ، أكثر وأكثر.

التاسع عشر : عدم إعطاء النفس ما تريد وإن كان مُباحاً ، بالقدر الذي يستطيع.

العشرون : كتمان السّر ، وهو من أهم الشّروط ، وهو ما يؤكد عليه أساتذة هذا الأمر ، حتى لا يجرّ الإنسان للرياء والتّظاهر ، وإذا ما حصلت له المكاشفة ، يجب أن لا يخبر أحد لئلّا يُصاب بالعجب.

الواحد والعشرون : يجب الإلتزام في عمليّة السّلوك المعنوي باستاذ ، سواء كان الأستاذ عامّاً للسّير والسّلوك أو خاصّاً ، وهو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام .

ويجب على السّالك الإنتباه إلى أنّ هذه المرحلة ، هي مرحلةٌ دقيقةٌ جداً ، حتى لا يختبر أحداً ولا يطّلع على صلاحيّته العلميّة والدينية ، ولا يعمتد على إرشاداته بصورة كليّة ، لأنّه يوجد بعض الشياطين يتلبّسون بلباس الأساتذة ، وذئاب تلبس ثوب الرّاعي ، فتحرف السّالك عن الجادّة.

ويقول المرحوم العلّامة الطباطبائي في هذا المجال : إنّ الإطّلاع على العلوم والأسرار الغريبة ، وما وراء الطّبيعة وأسرار الإنسان ، والمشي على الماء والنار والإخبار بالمغيّبات ، كلّها لا تؤكد أنّ ذلك الإنسان قد وصل إلى مرحلة الكمال ، لأنّ كلّ تلك الامور تحصل في مرتبة المكاشفة الرّوحيّة ، والطّريق طويل حتّى الوصول إلى الكمال.

الثاني والعشرون : «الأوراد» ، وهي عبارةٌ عن الأذكار التي تفتح للسّالك الطّريق والمرور

١١٧

من المطّبات الصّعبة ، وتعينه في المسير إلى الله تعالى.

الثالث والعشرون : نفي الخواطر ، وهو تسخير القلب ، والحكومة عليه والّتمركز الفكري ، بحيث لا يمر من خاطره شيء ، إلّا بإختياره وإذنه ، أو بتعبير آخر ، لا يشغل تفكيره الأفكار المُشوّشة ، وهو من الامور الصّعبة.

الرابع والعشرون : التّفكر ، والقصد منه أنّ السّالك يسعى من خلال التّفكير الصحيح ، والعميق ، في إكتساب المعرفة الحقّة ، ويحصر تفكيره في عالم الصّفات ، والأسماء الإلهيّة وتجلّياته وأفعاله.

الخامس والعشرون : الذِكّر ، والمراد منه التّوجه القلبي للذّات المقدّسة للباري تعالى ، وليس الذّكر اللّساني الذي يسمّى بالوِرد ، أو بعبارةٍ اخرى ، يكون كلّ نظره جمال الإله ، ولا يرى شيئاً غيره.

هذه هي خلاصة ، ما نسب للعلّامة بحر العلوم في دائرة السّير والسّلوك ، وتبعه في ذلك مع إختلاف يسيرٍ ، العلّامة الطّباطبائي ، وذلك كما جاء في رسالته «لبّ اللباب».

٢ ـ طريقة المرحوم الملكي التّبريزي

وهو المرحوم «الحاج ميرزا جواد الآقا تبريزي» ، وهو من الاساتذة المعروفين في السّير والسّلوك إلى الله ، وقد إنتهج في رسالته(لقاء الله) ، نهجاً يختلف عمّا جاء به في الرّسالة المنسوبة للعلّامّة بحر العلوم.

فهو يُذكر في البداية ، أنّ لقاء الله هو الغاية القصوى ، والهدف الأعلى ، للسّير والسّلوك ، ويستشهد لذلك بآياتٍ متعدّدةٍ من القرآن الكريم ، وكذلك بالروايات الكثيرة لُمدّعاه ، ويصرّح بأنّ لقاء الله تعالى ليس هو المشاهدة العينية ، لأنّ الباري تعالى منزّه عن الكيفيات التي توجب رؤيته بالبصر ، ولا هو لقاء النّعيم والثّواب في يوم القيامة ، بل هو نوع من«الشّهود» ، واللّقاء القلبي والروحي والمشاهدة بالبصيرة.

١١٨

وبعدها يقترح برنامجاً للسّير في هذا الطريق الطويل ، والمحفوف بالمخاطر ، ويتلخص في عدّة امور :

١ ـ العزم والنيّة لسلوك هذا الطريق.

٢ ـ التّوبة النّصوح من الأعمال السّالفة ، وهي التّوبة التي تنفذ في أعماق الوجدان والوعي ، في واقع النفس ، وتعمل على تغييره ، وغسل آثار الذّنوب وأدران الخطايا من جسمه وروحه.

٣ ـ حمل الزّاد للطريق ، وذكرَ له عدّة برامج :

الف : صباحاً ، المشارطة : (يشرط على نفسه أن لا يمضي إلّا في طريق الحق) ، وفي النّهار المراقبة : (الإنتباه لئلّا يحيد عن الطريق) ، ومساءً المحاسبة : (لنفسه على ما فعله في النّهار).

ب ـ التّوجه للأوراد والأذكار ، ووظائف اليقظة والمنام.

ج ـ التّوجه لصلاة اللّيل ، والخَلوة بالله تعالى ، وإحياء الليل وترويض النفس في حالات النوم والأكل ، بحيث لا يتجاوز عن الحدّ الضروري.

٤ ـ الإستفادة من سوط السّلوك ، وهو عبارة عن مُؤاخذة النّفس وتوبيخها ، لتوجُّهِها للدنيا وتقصيرها في طلب الحق ، وعدم وفائها ، وإطاعة الشّيطان في معصية الله تعالى ، ويستغفر الله على كلّ ذلك ويعزم على السّعي في طريق الإخلاص والإيمان والصلاح.

٥ ـ عند التّحول ، وفي هذه المرحلة ، وقبل كلّ شيء ، يجب أن يفكّر في الموت ، ليميت حبّ الدنيا في قلبه ويصلح الصّفات القبيحة عنده ، وهو دواءٌ نافعٌ في هذا المجال ، (وبعدها يفكر في عظمة الله وأسماءه وصفاته ، ويذكر أولياء الحق ، وليسعى بأن يُشابِههم في صفاتهم).

٦ ـ عند القرب من منزل المقصود ، يشير إلى أنّ الإنسان لديه ثلاثة عوالم :

١ ـ عالم الحسّ والطّبيعة.

٢ ـ عالم الخيال والمثال.

٣ ـ عالم العقل والحقيقة.

فعالم الحسّ والطّبيعة كلّه ظلمات ، وإذا لم يعبره فلن يستطيع الوصول لعالم المثال ، وهو العالم الذي تكون فيه الحقائق لها صورٌ عاريةٌ عن المادّة.

١١٩

وما دام يراوح في عالم المثال ، فلن يستطيع الوصول إلى عالم العقل ، الذي هو عالم الحقيقة والأصل للنفس الإنسانية ، الذي لا صورة ولا مادة فيه ، فإذا وصل لعالم العقل ، وأدرك نفسه خاليةٌ عن المادة والصّورة ، فسيصل إلى معرفة الباري تعالى ، ويكون مصداق لقوله :«مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَد عَرَفَ رَبَّهُ (١) » (٢) .

٣ ـ طريقةٌ اخرَى

في رسالة «لقاء الله» للعالم والمحقق الكبير ، الآقا المصطفوي ، أشار إلى برنامج آخر للسّير والسّلوك ، في رسالته الجامعة والغنية ، والمعتمدة على الآيات والأخبار ، حيث أشار أولاً إلى الآيات المتعلّقة بلقاء الله ، وبعدها شرع في تفسير معنى اللّقاء ؛ أنّ المراد منه اللّقاء المعنوي والرّوحي ، وأضاف أنّ الإنسان ولأجل وصوله للقاء الله تعالى في هذا السير المعنوي ، عليه أن يكسر حدود المادة والمكان والزّمان ، وكذلك الحدود الذّاتية لكلّ المُمكنات ، ويفنى في عالم اللّاهوت ، ويكون المخاطب لقوله تعالى :( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ) (٣) .

وأقترح خمسة مراحل للوصول إلى المقصود الأكبر :

المرحلة الاولى : التّحرك على مستوى تكميل وتقوية الإعتقادات ، والتّوجه الخاص لُاصول الدّين.

المرحلة الثانية : التّوبة من الذنوب ، والتّحرك من هذا الموقع للإتيان بالأعمال الصّالحة وأداء الواجبات.

المرحلة الثالثة : السّعي الجاد لتطهير النّفس من الرذائل ، وتحليتها بالفضائل الأخلاقية.

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٣٢.

٢ ـ للتفصيل يرجى الرجوع إلى رسالة لقاء الله المرحوم التبريزيقدس‌سره .

٣ ـ سورة الفجر ، الآية ٢٧ إلى ٣٠.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345