• البداية
  • السابق
  • 345 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 14030 / تحميل: 5082
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق في القرآن

الأخلاق في القرآن الجزء ١

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٨١٣٩-٠٥-٩
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

«إنّ القُلُوبَ لَتَرِينُ كَما يَرِينُ السّيفُ ، وَجَلاؤها الحَدِيثُ» (١) .

٣ ـ الأخلاق الفرديّة والإجتماعيّة

المسألة الاخرى الّتي يتوجب ذكرها هُنا هي : هل أنّ المسائل الأخلاقيّة تتشكل من خلال علاقة النّاس بالآخرين ، بحيث أنّ الإنسان إذا ما عاش وحيداً فريداً لا يكون لديه مفهوم حول الأخلاق ، أو أنّ بعض المفاهيم الأخلاقيّة لها موارد في سلوك الإنسان حتى لو عاش لِوَحده ، بالرّغم من أنّ أعظم المسائل الأخلاقيّة ، تتجلى أكثر في عمليّة علاقة الأشخاص مع بعضهم البعض ، ولهذا يمكن تقسيم الأخلاق إلى قسمين : فرديّة وإجتماعيّة؟.

للجواب عن هذا السّؤال ، يجب أن نلفت أنظاركم ، إلى البحث الذي جاء في كتاب «زندگى در پرتو أخلاق» ، «الحياة على ضوء الاخلاق» وسنورده بالكامل هنا :

(يعتقد البعض أنّ كلّ الاسس الأخلاقية ، تعود إلى العلاقات الإجتماعية مع الآخرين ، فلو إنعدم المجتمع وعاش الإنسان وحيداً فريداً ، أو أنّ كلّ إنسان عاش مستقلاًّ عن الآخر ، لا يعرف عنه شيء ، فلن يكون هناك مفهوم للأخلاق أصلاً! ، لأنّ الحسد والتّواضع والكِبَر ، وحُسن الظّن ، والعدالة والجَور والعفّة والكَرم ، كلّها من المسائل الّتي لا يتجلى مفهومها إلّا بوجود المجتمع خاصّة ، وتعامل النّاس مع بعضهم البعض ، وبناءً على هذا ، فإنّ الإنسان بدون المجتمع ، يساوي الإنسان من دون أخلاق).

(ولكن بعقيدتنا ، وعلى الرّغم من الإعتراف ، بأنّ كثيراً من الفضائل والرّذائل الأخلاقيّة ، لها علاقة مباشرة بالحياة الإجتماعية ، ولكنّها ليست بصورةٍ مطلقةٍ ، فكثيرٌ من الأخلاق لها جوانب فردية ، وتصدق على الإنسان الوحيد بصورةٍ خاصةٍ ، فمثلاً الصّبر والجزع ، والشّجاعة والخوف ، والمشاجرة والكسل ، وأمثال ذلك من الحالات والصّفات النّفسية التي تفرضها حالات الصّراع مع الطّبيعة ، وكذلك الغفلة والشّعور اتّجاه الخالق الكريم ، والشّكر والكفران لنعمه التي لا تُحصى ، وما شابه تلك الامور ، الّتي بحثها علماء الأخلاق في كتبهم ، وعدّوها

__________________

١ ـ تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٣١ ، ح ٢٣.

٦١

من الفضائل أو الرّذائل ، فكلّ تلك الامور يمكن أن تدخل في الإطار الفردي للسّلوك ، وتصدق على الإنسان المعزول عن المجتمع ومن هنا يتبيّن أنّ الأخلاق على قسمين : «أخلاقٌ فرديّةٌ» و «أخلاقٌ إجتماعيّةٌ». ومن المعلوم أنّ الأخلاق الإجتماعيّة ، التي لها الثّقل الأكبر في علم الأخلاق ، وصياغة شخصيّة الإنسان : تدور حول هذا المحور ، وإن كنّا لا ننسى أيضاً أنّ الأخلاق الفرديّة لها وزنها ، ووضعها الخاص بها)(١) .

ولا شكَّ أنّ هذا التّقسيم ، لا يقلّل من قيمة المسائل الأخلاقيّة ، ولكنّه يُقسّم المباحث الأخلاقيّة إلى درجاتٍ من حيث الأهميّة ، ولا داعي لإتلاف الوقت في معرفة وتمييز الأخلاق ، هل أنّها فردية أم إجتماعية ، وما أشرنا إليه آنفاً ، يكفي للإحاطة بمعرفةٍ إجماليّةٍ حول هذا الموضوع.

ولا يمكن انكار أنّ الأخلاق الفردية ، لها تأثيرها غير المباشر في القضايا الإجتماعية أيضاً.

__________________

١ ـ زندگى در پرتو أخلاق ، ص ٢٩ ـ ٣١.

٦٢

٤

دعائم الأخلاق

إذا شبّهنا الأخلاق بشجرة باسقةٍ مثمرةٍ ، معرضةٍ للآفات والأخطارِ ، فدعامتها الأخلاقيّة يمكن أن نُشبّهها بالفلّاح ، أو الماء الذي يجري من تحتها ، ولو لا الماء والفلّاح ليَبِست تلك الشّجرة ، أو لأصيبت بأنواع الآفات والأمراض ، حتى تموت أو يغدو ثمرها قليلاً.

وقد إختلف علماء الأخلاق والفلاسفة ، في صياغة الدّعائم الأساسيّة للأخلاق بشكلٍ كبيرٍ ، فكلُّ مجموعةٍ تذكر آرائها ونظراتها حول المسألة ، تبعاً لرأيها ونظرتها في مسألة معرفة العالم. ونشير هنا إلى عدّة نماذج مهمّة :

١ ـ دَعامة الإنتفاع

يوصي البعض بالأخلاق ، لأنّها تعود على الإنسان بالنّفع المادّي المباشر ، فمثلاً تُراعي إحدى المؤسّسات الإقتصادية ، أصل الأمانة والصّدق بشكلٍ دقيقٍ جدّاً ، وتعطي المعلومات الواقعيّة لزبائنها بدون أيِّ تلاعب ، فمثل هذه المؤسّسة ستكون بعد سنوات ، مورد ثقة النّاس ومحل إعتمادهم ، مما سيعود عليها بالنّفع الكبير الطّائل.

وبناءً على ذلك ، قد يتحرك الأشخاص في سلوكهم الأخلاقي ، كلٌّ حسب موقعه. فمثلاً عند ما يكون موظّفاً في المصرف أو البنك ، فهو يُراعي منتهى الأمانة والدّقة ، لكي يعود على

٦٣

البنك بالنّفع الكبير ، ولكن يمكن أن يتحول إلى خائن ، بمجرد أن يضع قدمه خارج المصرف ، لّانّ فائدته ستكون في الخيانة حينها.

وقد نرى تاجراً ، يحرص أن يكون في منتهى الأدب واللّطف واللّياقة مع زبائنه ، لأجل كسب المزيد منهم ، ولكنّه مع عائلته وأولاده ، يكون في منتهى الفضاضة ، لا لشيء إلّا لأنّ الأخلاق الحسنة مَحلُّها في محلّ عمله ، وستعود عليه بالنّفع المادي الأكثر.

فمثل هذه الأخلاق لا دعامة لها ، إلّا النّفع والإستغلال ، وأهمّ عيبٍ في المسألة ، هو أنّه لا يعير للأخلاق أهميّةً ولا أصالةً ، لأنّه يستمر في إستغلاله ، سواءً كان عن طريق الأخلاق ، أم بعقيدته التي هي ضدّ الأخلاق.

وذهب البعض الآخر إلى صياغة حِكمةٍ معدّلةٍ لهذا النمّط من الأخلاق ، ونادوا بالأخلاق لا من أجل المصالح الشّخصيّة ، ولكن لتعود على مصلحة البشر جميعاً ، لإعتقادهم بأنّ الأسس الأخلاقيّة إذا تزلزلت في المجتمع ، فستتحول الحياة إلى جهنّم تحرق كلّ شيء ، وستتحول أدوات الإلفة والتعاون في المجتمع ، إلى حطبٍ يُبقي النار مشتعلةً ، في حركة الواقع الإجتماعي المضطرب.

هذا النّوع من التّفكير يعتبر أرقى من سابقه ، ولكنّ الأخلاق هنا مجرد وسيلةٍ لجلب النّفع والرّاحة والرّفاه ، ولا أساس للفضائل الأخلاقية فيها.

فالماديّون لا يمكنهم أن يتجنبوا مثل هذا النوع من التّفكير ، لأنّهم لا يعتقدون بالوَحي ولا نُبوّة الأنبياء ، وينزلون بالأخلاق من السّماء إلى الأرض ، ويجعلونها مُجرد وسيلةٍ للإنتفاع والرّاحة والاستغلال لا أكثر.

ولا شكَّ ولا ريب ، في أنّ الأخلاق لها مثل هذه المعطيات الماديّة الإيجابية ، في وعي الناس كما أشرنا سابقاً ، ولكن السّؤال هو : هل أنّ أسس ودعائم الأخلاق ، تنحصر في هذه المرتكزات الماديّة ، أو أنّ مثل هذه المرتكزات والمعطيات ، يجب أن تُدرس على أساس أنّها من المسائل الجانبيّة ، والمتفرّعة على علم الأخلاق؟.

وعلى أيّة حال ، فإنّ الإيمان بالأخلاق الّتي يكون أساسها النّفع والإستغلال ، يخدش

٦٤

أصالة الأخلاق ، ويقلل من قيمتها وقدسيّتها ، ومن ناحيةٍ اخرى فإنّ الإنسان في حالة تقاطع مصلحته مع الأخلاق ، فإنّه سيضرب بالأخلاق عَرض الحائط ، ويتّبع مصلحته الشخصيّة ، الّتي إعتبرها دعامته وأساسه ، في حركة السّلوك الإجتماعي والأخلاقي.

٢ ـ الدّعامة العقليّة

الفلاسفة الّذين يعتقدون بحكومة العقل ولزوم اتّباعِه في كلّ شيء ، يعتبرون دعامة الأخلاق هي إدراك العقل : للقبيح والحسن من الأفعال والصّفات الأخلاقيّة ، فمثلاً يقولون أنّ العقل يُدرك جيّداً أنّ الشّجاعة فضيلةٌ والجبنُ رذيلةٌ ، والأمانةُ والصّدقُ فضيلةٌ وكمالٌ ، والخيانةُ والكذبُ نقصانٌ ، ونفس إدراك العقل لها ، هو الباعث والمحرّك لإتّباع الفضائل وترك الرذائل.

وقال البعض الآخر ، إن إدراك الوجدان هو الأساس ، فيقولون : أنّ الوجدان وهو العقل العملي ، أهمّ شيء في الإنسان ، لأنّ العقل النّظري يمكن أن يُخطيء ، ولكن الوجدان والضّمير ليس كذلك ، وبإمكانه أن يقود البشريّة إلى ساحل الأمن والسّعادة.

وعليه ، وبما أنّ الوجدان يقول : إنّ الأمانة والصّدق والإيثار ، والسّخاء ، والشّجاعة هي امور حسنةٌ وجيّدةٌ ، فهو بمفرده يكون دافعاً ومُحرّكاً ، نحو نيل تلك الأهداف والفضائل.

وكذلك بالنّسبة للبُخل ، والأنانيّة وأمثالها ، فإنّ الوجدان يقول أنّها قبيحة ، وذلك يكفي في الإرتداع عنها وتركها.

وهنا تتحد الدّعامة العقلية والوجدانيّة ، فهما تعبيران مختلفان لحقيقةٍ واحدةٍ.

ولا شكّ أنّ وجود هذا الأساس والدّعامة للأخلاق ، لا يخلو من حقيقةٍ ، وهو في حدّ ذاته دافعٌ حسنٌ للسّعي إلى تربية النّفوس ، وترشيد الفضائل الأخلاقية ، في واقع الإنسان والمجتمع.

ولكن وبالنّظر إلى ما ذكرناه في بحث الوجدان(١) ، فإنّ الوجدان يمكن أن يُخدع ، هذا من جهةٍ ، ومن جهةٍ اخرَى : أنّ الوجدان وبالتّكرار لفعل القبائح والرّذائل ، فإنّه سيأنس بها

__________________

١ ـ الرّجاء الرجوع إلى ، كتاب قادةٍ عظماء ، ص : (٦٣ ـ ١٠٦).

٦٥

ويتعوّد عليها ، بل قد يفقد الحسّاسيّة بالكامل تجّاه هذه الامور ، أو يتحرك في إدراكه لها ، من موقع التأييد للرذائل على حساب إهتزاز الفضائل.

ومن جهةٍ ثالثةٍ ، إنّ الوجدان أو العقل العملي ، رغم أهميّته وقداسته ، فإنّه كالعقل النّظري قابل للخطأ ، ولا يمكن الإعتماد عليه وحده ، بل يحتاج إلى أُسس ودعامات أقوى ، يُطمأن إليها في تشخيص الحُسن والقُبح ، بحيث لا يمكن خُداعها ولا تخطئتها ، ولا تتأثر بالتّكرار ، ولا تتغيّر أو تتحول.

وخلاصة الأمر : أنّ الوجدان الأخلاقي ، أو العقل الفِطري والعقل العملي ، أو أيّ تعبيرٍ آخر يُعبّر عنه ، هو أساسٌ ودعامةٌ جيَّدة ، ولا بأس بها لنيل الفضائل الأخلاقيّة ، ولكن وكما أشرنا آنفاً ، تعوزه بعض الأمور ، ولا يُكتفى به وحده.

٣ ـ دعامة الشخصيّة

يتحلّى البعض بالقيم الأخلاقيّة ، لأنّها دليلٌ وعلامةٌ للشخصيّةِ أو الرجولةِ والمروءة ، وكلّ إنسانٍ عند ما يرى ، أنّ شخصيّته بين النّاس متوقفةٌ على الصّدق والأمانة ، فسيتحرك على مستوى التّحلي بها ومُراعاتها ، وكذلك عند ما يرى ، أنّ الناس يحترمون الشّجاع والوفي والرّحيم ، فسيكون طالب الشخصية والإحترام ، أوّل المطبّقين لها على نفسه ، حتى يمدحهُ الناس.

والعكس صحيح ، فإنّه عند ما يرى أنّ الناس لا يحترمون الجبان ، ولا البخيل ، ولا الخائن ، ولا ضعيف الإرادة ، ولا قيمة لهم في نظر المجتمع ، فسوف يسعى لهجر هذه الرذائل ، وتطهير نفسه منها.

وعليه يَتحصَّل لدينا : دعامةٌ وأساسٌ آخر للمسائل الأخلاقيّة.

ولكن وبالتّدقيق والتحقيق ، نرى أنّ هذا الأساس والدّعامة ، يعود إلى مسألة الوجدان ، غاية الأمر ، أنّ المطروح هنا هو وجدان المجتمع ، لا الوجدان الفردي ، يعني أنّ ما يوافق الوجدان العام للمجتمع ، فهو فضيلةٌ وعلامةٌ للشخصيّة ، ومن الأخلاق الفاضلة وعكسه

٦٦

يدخل في الرذائل ، وما يُقرّه الرأي العام للمجتمع ، يكون هو الدّافع للفضائل والرّادع عن الرّذائل. ونحن لا ننكر أنّ الوجدان العمومي للمجتمع ، يمكن أن يشخّص القِيَم من اللّاقيم ، ويحثّ الأفراد للإهتمام بالمسائل الأخلاقيّة في خطّ التّربية والتّكامل.

ولكن ما ذكر من نواقص وإشكالات ، حول الوجدان الفردي ، هو نفسه يصدق على وجدان المجتمع.

فيمكن للمجتمع أن يُخطأ ، وإذا ما وقع هذا الأساس للأخلاق ، تحت طائلة الدعاية والإعلام القوي من قبل الحكومات ، فبالإمكان أن ينقلب رأساً على عقب ، وتكون الفضائل رذائل في منظومة القيم والمثل الأخلاقية ، كما حدّثنا التّأريخ عن نماذج كثيرة من هذا القبيل ، ففي عصر الجاهليّة مثلاً كان يُعتبر وَأْد البنات من المكرمات ، عند شريحةٍ كبيرةٍ من المجتمع آنذاك ، ويُعتبر فضيلةً أخلاقيةً ، (وذلك للمفهوم السّائد في ذلك الوقت وقت ، من أنّه الطّريق للنّجاة من العار والشّنار ، والحيلولة دون وقوع النّساء في الأسر في الحروب)(١) .

ونرى في عصرنا الحاضر ، وفي المجتمعات البشريّة المتقدّمة والمتطوّرة ، أنّ المتموّلين ولأجل الوصول لأهدافهم غير المشروعة ، وبالدعاية يخدعون الوجدان العمومي للمجتمع ، ويقلبون القيم الأخلاقيّة الإيجابية ، إلى مُضادّاتها في دائرة السّلوك الأخلاقي.

بالإضافة إلى أنّ الوجدان والضّمير في الإنسان ، هو من بَوارِق الرّحمة الإلهيّة ، ونموذج لمحكمة العدل الإلهي العظيمة ، عند الإنسان في هذا العالم ، ولكن ومع ذلك ، فالضّمير ليس بمعصوم عن الخطأ ، ويمكن أن ينحرف ، وإذا لم يتّخذ الإنسان تدابير لازمة لإصلاحه وتزكيته ، فلعلّه يبقى على خطئه لسنين طويلة.

__________________

١ ـ يقول الشّاعر الجاهلي :

الموتُ أخفى سِترةً للبناتِ

ودفنها يُردى من المكرماتِ

ألم تر أنّ الله عزّ اسمه

قد وضع النعشَ بجنب البنات

وكما تلاحظون أنّ هذا الشاعر الجاهلي ، يعتبر تلك الجناية الكبرى مكرمْة وإفتخاراً.

٦٧

٤ ـ الدّعامة الإلهيّة

من المعلوم أنّ ما ذكر من الدّعامات والأسس ، لا يخلو من واقعيّةٍ على مستوى دفع الإنسان نحو الفضائل الأخلاقيّة ، ولكن وكما أشرنا إليه سابقاً أنّها لا تخلو ولا تسلم من الخطأ والانحراف ، مثل دعامة الإنتفاع والاستغلال التي تأخذ طريقها في أيّ وقت وزمان ، فتارةً تسير مع الأخلاق واخرى تُعارضها.

والبعض الآخر من الدّعامات له قدرةٌ محدودةٌ في تحريك الإنسان ، ومشوبةٌ بالنّقص والقصور ولربّما أخطأت واشتبهت.

والدّافع الوحيد الخالي عن الخطأ والإشتباه ، والعاري من كلّ نقص في دائرة المسائل الأخلاقيّة ، هو الدّافع الإلهي الذي يكون مصدره الله تعالى ، والوحي ، في إطار التّعاليم الدينيّة.

وهنا لا تعتبر الفضائل الأخلاقيّة وسيلةً للإنتفاع والإستغلال ، ولا هي وسيلةٌ للرفاه الإجتماعي ، (وإن كانت الأخلاق قطعاً ، وسيلةً للرّفاه والعمران والهدوء ، وتؤمّن المنافع الماديّة أيضاً).

فالأصالة هنا للدوافع الروحيّة والمعنويّة ، أو بعبارةٍ اخرَى ، أنّ الذّات الإلهيّة المنزّهة ، والّتي هي الكمال المطلق ، ومُطلق الكمال ، وجميع صفاته الجماليّة والجلاليّة ، تكون هي المحور الأصلي للمسألة ، وكلّ إنسان يسعى في المُضي قُدماً ، للوصول إلى الكمال المطلق ، ويتحرّك في حياته المعنوية ، من موقع تفعيل نور أسماء الصّفات الإلهيّة في نفسه ، ليشبهه ويتقرب إليه أكثر وأكثر يوماً ، بعد يوم (وإن كانت ذاته المقدّسة منزهّةً عن الشبيه الحقيقي) ، ويصل إلى الكمال المطلق ، فلا حدّ للكمال هناك ، وبذلك يعيش بكلّ وجوده ، حالة الإستغراق من الحبّ لله تعالى ، والكمال المطلق ، وتُنير وجوده وباطنه ، أنوارُ وصفاتُ الذّات المقدّسة ، بحيث يطلب الكمال والرّقي ، في الدّرجات العليا في كلّ لحظةٍ ، فلا يتقيّد بالمنافع الماديّة ، ولا يطلب الأخلاق للشخصيّة والاحترام ، ولا يكون هدفه الضّمير وحده ، بل لديه هدفٌ أسمى وأعلى من كلّ تلك الامور.

فلا يأخذ معلوماته من العقل والوجدان فقط ، بل يستعين بالوَحي أيضاً ، ليميّز في ظلّه القيم

٦٨

الحقيقيّة من الكاذبة ، وليمشي بخطى ثابتةٍ مع إيمانٍ ويقينٍ كاملين في هذا الطريق ، والقرآن الكريم ، هو خير دليلٍ في هذا المضمار ، ويُصرّح القرآن الكريم ، بأنّ الأعمال الأخلاقيّة هي وليدة الإيمان بالله واليوم الآخر ، ودائماً ما يردف : (العمل الصالح) بالإيمان ، وعرّف العمل الصالح ، بالّثمرة لشجرة الإيمان.

ومثّل الإيمان ، بالشّجرة الطيّبة ، وجذورها ثابتة في روح وأعماق الإنسان ، وفروعها وأوراقها وارفة ، تؤتي بثمارها كلّ حين ، وأشار إشارة جميلةً فقال الله تعالى :

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ) (١) .

ومن البديهي ، أنّ الشجرة التي تمدّ جذورها في أعماق القلوب ، وتتفرع أغصانها من جميع أعضاء الإنسان ، وترتفع في سماء حياته ، هي شجرةٌ وارفةٌ لا يؤثّر فيها جفاف الخريف ، ولا تقلعها العواصف أبداً.(٢)

وجاء أيضاً في سورة «والعصر» ، نفس هذا المعنى ولكن بتعبير آخر ، فالقاعدة ولكن

الكلّية هو الخسران والتّضييع للإنسان ، والمستثنون من ذلك هم المؤمنون ، في أوّل الأمر ، ثم الّذين يعملون الصّالحات ويتواصون بالحقّ والصّبر :

( وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) .

وجاء نفسُ هذا المعنى وبتعبيرٍ جميلٍ آخر ، في الآية (٢١) من سورة النور ، فيقول الله

__________________

١ ـ سورة ابراهيم ، الآية ٢٤ و ٢٥.

٢ ـ إختلف المفسّرون في ما هو المقصود من الشّجرة الطيّبة؟ ، وهل يوجد مثل هذا التشبيه في الخارج أم لا؟. وهنا كلام كثير ، فالبعض قال : أنّ الشجرة الطيّبة هي كلمة لا إله إلّا الله ، وبعض قال : أنّها أوامر الباري تعالى ، وآخَرون قالوا أنّها الإيمان ، وفي الواقع أنّ هذه كلّها تعود إلى حقيقةٍ واحدةٍ ، وإختلفوا أيضاً في هل أنّ هذه الشجرِة لها واقع خارجي ، وأنّ أصلها ثابت في الأرض وأوراقها وفروعها في السّماء ومثمرة في كلّ وقتٍ وحِينٍ ، حقيقةً ، أو لا؟.ولكن يجب أن لا ننسى أنّ كلّ تشبيه لا يتوجب أن يكون له وجود خارجي ، فعند ما نقول : أنّ القرآن الكريم كشمسٍ لا غروب لها ، وبالطّبع فلا وجود للشّمس التي لا غروب لها ، والقصد من ذلك هو التّشبيه بالشمس لا أكثر ، حيث يمكن أن تختلف خصائص هذه الشمس في الخارج.

٦٩

تعالى :( وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ ) .

وعليه ، فإنّ سمُوّ الأخلاق والعمل والتّزكية الكاملة لا تتمّ ، إلّا بالإيمان بالله ورحمته الواسعة.

وجاء نفس هذا المعنى في سورة (الأعلى) فيقول الله تعالى :

( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) (١) .

فطبقاً لهذه الآيات ، فإنّ التّزكية الأخلاقيّة والعمليّة ، لها علاقةٌ وثيقةٌ بإسم الله تعالى والصّلاة والدّعاء ، هذا إذا ما إستمدّت أسسها منه سُبحانه وتعالى ، وحينها ستكون عميقةً ودائمةً ، وإذا ما إعتمدت على أسسٍ اخرَى ، فستكون واهيةً وعديمة المحتوى.

في الآية (٩٣) من سورة المائدة ، جاء وصف جميل ، للعلاقة الوثيقة بين التّقوى والأعمال الأخلاقيّة بالإيمان : فقال الله تعالى :( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) .

في هذه الآية الشّريفة ، تقدّمت التّقوى مرّة على الإيمان والعمل الصّالح ، وتأخرت اخرَى ، وتقدمت مرّةً على الإحسان ، لأنّ التّقوى الأخلاقيّة والعمليّة تتقدم على الإيمان في مرحلةٍ ما ، وهي التّحضير لقبول الحقّ والإحساس بالمسؤوليّة للبحث عنه.

ثم إنّ الإنسان عند ما يعرف الحقّ ويؤمن به ، فستتكون في نفسه مرحلةٌ أعلى وأقوى من التّقوى ، وتكون مصدراً لأنواع الخيرات.

وبهذا التّرتيب ، تتبيّن العلاقة الوثيقة بين الإيمان والتّقوى.

وخلاصة القول : إنّ أقوى وأفضل الدّعائم للأخلاق ، هو الإيمان بالله ، والإحساس بالمسؤوليّة اتّجاهه ، ومثل هذا الإيمان هو أبعد مدىً وأرحب افقاً من المسائل المادّية ، ولا يبدّل ولا يعوّض بشيٍء ، فهو يرافق الإنسان في كلّ مكان ولا ينفصل عنه أبداً ، ولا يوجد شيء أفضلُ منه.

__________________

١ ـ سورة الأعلى ، الآية ١٤ و ١٥.

٧٠

ولذلك فإنّنا نرى ، أنّ أقوى مظاهر الأخلاق ، كالإيثار والتّضحية تتجسّد في حياة أولياء الله تعالى.

ونرى أيضاً ، في المجتمعات الماديّة التي توزِن كلّ شيء بمعيار النّفع ، أنّ الأخلاق فيها ضعيفةٌ جدّاً ، وفي الأغلب أنّ المعترف به رسميّاً عند الجميع ، هو النّفع الشّخصي المادّي ، فالصّدق والأمانة والوفاء وما شابه ذلك ، هي أخلاق حسنةٌ وسلوكيّات جيدةٌ ، ما دامت تعود بالنّفع على الفرد ، وعند تعرّض النّفع المادي للخطر ، فستفقد لونها وقيمتها!!.

فالأبوان العجوزان ، ولعدم نفعهما ، فمصيرهما أن يعيشا في زاوية النسيان ، ويتمّ نقلهما إلى مراكز ودور العجزة ، لينتظرا أجلهما المحتوم.

وبمجرّد أنّ يبلغ الأطفال مرحلة الرّشد والمراهقة ، فإنّ مصيرهم الانفصال عن اسرهم ، لا لكي يستقلّوا إقتصاديّاً ، بل لكي يُنسوا إلى الأبد.

وكذلك الأزواج ، فهم شركاء في الحياة ما دام في الحياة الزوجية نفعٌ ولذّة ، وإلّا فلا حاجة إلى العلاقة الزّوجيّة ولا ضرورة للإلتزام بتبعاتها ، ولذلك فإننا نرى أنّ الطّلاق هناك كأيسر ما يكون ، وشايع إلى درجةٍ خطيرةٍ ، ففي المذاهب الماديّة التي لا تقوم على أساسٍ إلهي في دائرة الأخلاق ، يكون الإستشهاد لديهم لنيل المقاصد السّامية ، هو الإنتحار بعينه ، والكرم الذي يؤدي إلى تبذير الأموال ، ليس هو إلّا نوعٌ من الجنون ، والعّفة والإستقامة على طريق الفضيلة ، ليست هي إلّا ضَعفٌ في النّفس ، والزُّهد بالعالم المادي ، ليس هو إلّا سذاجةً وجهلاً بالحياة.

وما نراه اليوم من التنافس المحموم على الماديات ، ومراكز القدرة في هذه المجتمعات ، ورؤساء تلك الدول ، هو أفضل وخير نموذج يعبّر عمّا لديهم من معايير للأخلاق الماديّة.

والشّاهد على ذلك ، ما يصدر من الإنتهازيّة والتّعامل المزدوج للقوى الإستعماريّة تجاه (حقوق الإنسان) ، فعند ما تكون حقوق الإنسان ، سبباً لتعرّض منافعهم للخطر ، فسوف يتجاهلونها ويجعلونها وراء ظهورهم ، ويذبحون القيم الإنسانيّة على مذبح المصالح الماديّة.

فأخطر المجرمين والمعتدين على حقوق الإنسان ، يصبحون مسالمين ومصلحين ، وبالعكس

٧١

فإنّ الشخص الذي يريد أن يدافع عن حقّه في مقابلهم ، يكون هو الشّيطان بعينه ، ويجب أن يُقمع بأيّ وسيلةٍ كانت.

فنراهم يدافعون عن الديمقراطيّة وحكومة الشّعب ، دفاعاً مُستميتاً ، وفي نفس الوقت نراهم وفي زاوية أخرى من العالم ، يدافعون عن أسوَأ وأظلم المستبدّين الديكتاتورييّن لا لشيءٍ ، الّا لأن الأخلاق عندهم ليست هي : إلّا النّفع في بُعده المادي والشّخصي. والإنسان المادي لا يمتلك صورةً واضحةً عن الأخلاق في دائرة التّعامل مع الآخرين ، بل مفاهيم ضبابيّةً وصورةً قاتمةً.

والملاحظة الاخرى الّتي تجدر الإشارة إليها ، أنّ المادييّن لا يرون في سلوكهم الأخلاقي ، غير زمانهم ومكانهم الّذي هم فيه الآن ، ولا أهميّة عندهم لما فَعل الماضون ، ولا ما سيفعله اللّاحقون ، إلّا أن يكون له علاقةٌ بحاضرهم ، ومنطقهم يتمثّل به قول الشّاعر ، حيث يقول :

إن أنا مِتُّ فلا

طلعت شمس الضّحى على أحدِ

ولكن الموحّدين المعتقدين بالحياة الآخرة ، ومحكمة العدل الإلهي في يوم القيامة ، يعتقدون أنّ معطيات الأخلاق وبركاتها المعنوية ، جارية حتى بعد الممات ، ولو إمتدّت لِالاف السّنين ، وسيثاب الإنسان عليها في الاخرى ، ولذلك لا يتعاملون مع الواقع الدنيوي ، من موقع الزّمان الحاضر فقط ، بل من موقع التّفكير في الغد البعيد والحياة الخالدة.

وقد جاء في الحديث المعروف عن الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال :

«إذا مات المؤمن إنقطع عمله إلّا من ثلاث ، صدقةٍ جاريةٍ ـ أي الوقف ـ أو علمٍ يُنتفع به أو ولدٍ صالحٍ يدعو له» (١) .

فالإيمان بالآخرة دافعٌ وحافزٌ آخر ، للحثّ على الأعمال ، الأخلاقية المهمة ، مثل الصّدقة الجارية والآثار العلميّة المفيدة وتربية الأولاد الصّالحين ، والحال أنّ لا مفهوم لهذه الامور لدى المادييّن.

وقد قسّم المرحوم الشّهيد (مُطهّري) ، في كتاب «فلسفة الأخلاق» ، الأنانيّة إلى ثلاثة أقسام : (للنّفس ، وللعائلة ، وللقوميّة) ، وعدّها كلّها من الأنانيّة ، التي تقف في الطّرف المقابل

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٤٢.

٧٢

للأخلاق ، ونقل كلاماً عن «كوستاف لوبون» ، في كتابه المعروف (حضارة الإسلام والعرب) ، ورأينا أن ننقله هنا إكمالاً للفائدة.

فقد ذكر هذا الكاتب الغربي ، في معرض حديثه عن الشّعوب الشرقيّة ، وأنّهم لماذا وقفوا من الحضارة الغربيّة موقفاً سلبيّاً؟ فعللّ ذلك بالقول :

(أولاً : لعدم القابليّة لديهم لإستقبال هذه الثّقافة ،وثانياً : إنّ حياتهم ومعيشتهم تختلف عن حياتنا ومعيشتنا ، فحياتهم بسيطةُ وساذجةٌ ، بخلاف ما نحن عليه من التّعقيد الحضاري في واقع الحياة ، ثم يردف قائلاً : ولا يخفى مدى الظّلم الذي إرتكبته الشّعوب الغربّية في حقهم. (وهو عامل مهم آخر).

وبعدها أشار إلى الظّلم الذي إرتكبه الغربيّون ، في أمريكا والهند والصّين ، وخصوصاً كان يؤكد على قصّة الحرب المعروفة ، ب : (حرب التّرياك) ، التي شنّها الإنجليز على شعب الصيّن ، لأجل السّيطرة عليهم ، فنشروا إستعمال التّرياك بين الشعب ، لأجل التّسلط عليهم ، وليميتوا فيهم روح المقاومة ، ويكسروا شوكتهم ، ولكنّ الصّينيين توجهّوا للخدعة ، وتحرّكوا للتّصدي للإنجليز ، الذين صوّبوا مدافعهم ، وانتصروا عليهم بقوّة السّلاح الفتّاك ، وإنتشر بين الأهالي إستعمال التّرياك ، بحيث جاءت الإحصائيات : (في ذلك الزمان) ، أنه في كل سنةٍ يموت حوالي ال (٦٠٠) ألف نفر ، جرّاء إستعمالهم للتّرياك.(١)

نعم فعند ما لا تقوم الأخلاق على قاعدةٍ متماسكةٍ ، من الإيمان والقيم المعنويّة في واقع الإنسان ، فسوف تأخذ بالذّبول والتّراجع ، لصالح المنافع الشّخصيّة والنّوازع الدنيويّة العاجلة.

ملاحظة :

ما ذكرناه آنفاً حول دعامة الأخلاق ، من وجهة نظر الإيمان بالمبدأ والمعاد ، لا يعني إنكار الدّور الفعّال ، ل : «العقل الفطري» في تعميق المسائل الأخلاقيّة ، فالضّمير والوجدان في الحقيقة ، هو رسول الله في أعماق البشر ، ومن جهةٍ اخرى له الأثر الكبير في تحكيم المباني الأخلاقيّة ، بشرط أن يصاحبها عنصر الإيمان ، وتتخلص من حجب الأنانيّة وهوى النّفس.

__________________

١ ـ فلسفة الأخلاق ، ص ٢٨٣ بتضرّف.

٧٣

وأكّد القرآن الكريم ، على هذه المسألة مرّات عديدة ، ففي الآية (١٠٠) من سورة «يونس» ، يقول الله تعالى :( وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) .

وفي الآية (٢٢) من سورة «الأنفال» ، نقرأ :( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) .

ويقول الله سبحانه ، عن الّذين يستهزئون بالصّلاة : في سورة (المائدة) الآية (٥٨) :

( اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) .

وهكذا يتبيّن من خلال ما ذُكر آنفاً ، خلاصة رؤية القرآن المجيد للمسائل الأخلاقية.

٧٤

٥

الأخلاق والحريّة

هناك أبحاثٌ كثيرةٌ ، في مسألة الأخلاق والحريّة ، وهل أنّ الأخلاق تُحدّد وتُقيّد حريّة الإنسان؟ وهل أنّ هذا التّقييد هو في صالح الإنسان أم لا؟

فبإعتقادنا أنّ هذه الأبحاث ، ناشئةٌ من التّفسير الخاطيء لمعنى الحريّة ، ومنها :

١ ـ يُقال : أنّ الأخلاق تقوم بتحديد حريّة الإنسان ، وتعمل على كبت القابليّات في المحتوى الدّاخلي للإنسان.

٢ ـ وتارةً يقولون : إنّ الأخلاق تقمع الغرائز ، وتمنع من تحقّق السّعاد الواقعيّة للفرد ، ولو لم يكن في الغرائز فائدةٌ ، فلما ذا خلقها الله تعالى؟.

٣ ـ وتارةً اخرَى يقولون : إنّ البّرامج الأخلاقيّة ، تخالف فلسفة أصالة اللّذة ، ونحن نعلم أنّ الهدف من الخلق ، هو «اللّذة» التي يريد أن يصل إليها الإنسان.

٤ ـ واخرى يقولون ، وفي النّقطة المعاكسة لها : أساساً إنّ البشر ليس حُرّاً في سلوكه الأخلاقي ، بل هو مجبور وواقع تحت تأثير عوامل كثيرة ، ولذلك فلا تصل النوبّة للوصايا الأخلاقيّة.

٥ ـ وأخيراً يقولون : إنّ الأخلاق مبنيّة على أساس إطاعة الله تعالى ، وهي لا تخلو من الخوف أو الطّمع ، وكلّ هذه الامور تتقاطع مع الأخلاق!

٧٥

هذا التّناقض في الأقوال ، إن دلّ على شي ، فهو دليلٌ على عدم التّقييم الصّحيح لمفهوم الحرّية ، هذا من جهةٍ ، ومن جهةٍ اخرَى لم تُدرس الأخلاق الدينيّة ، وخصوصاً الأخلاق الإسلاميّة ، دراسةً كافيةً ووافيةً.

ولذلك يجب أن ندرس في بادي الأمر ، مسألة الحريّة. ولماذا يطلب الإنسان الحريّة بكلّ وجوده؟ ، ولماذا يجب أن يكون الإنسان حرّاً؟ ، وما هو دور الحريّة في تربية الجسم والرّوح؟ ، وبكلمةٍ واحدةٍ : ما هي «فلسفُة الحريّة»؟.

إنّ الجواب على كلّ هذه الأسئلة يتلخّص في ما يلي :

يوجد في داخل الإنسان قابلياتٌ وملكاتٌ وقوى خفيّةٌ ، لا تخرج من القوّة إلى الفعل إلّا بالحريّة ، والإنسان يسعى للتّكامل ، ويتحرك على مستوى ترشيد إستعداداته وقُدراته ، فهو يطلب الحريّة لأجل ذلك.

ولكن هل أن الحرّية التي تساعد على تفعيل قدرات الإنسان ، هي حرية بلا قيد ولا شرط ، أم أنّها الحريّة المتحرّكةِ في إطارٍ من التّنظيرٍ العقلي والدّيني؟.

ويُمكن تبيان هذا المطلب مع ذكر مثالين :

إفترضوا أنّ هناك فلّاحاً ، قررّ أن يزرع أنواع الورود والفواكه في بستانه ، وتحرّك لتحقيق هذا الغرض ، على مستوى حرث الأرض وغرس النّباتات وسقيها في موعدها في كلّ مرّةٍ ، فَمن البديهي أن تكون الشّجرة مغروسةً في الفضاء الحرّ ، لتأخذ قِسطها من النّور والهواء والمطر ، وستمدّ جذورها في الأرض بحرّيةٍ ، وإذا لم تتوفر لها تلك العوامل ، فلن تثمرَ ولن يحصلَ الفلّاح على ثمن أتعابه ، وبناءً على ذلك ، فإنّ حريّة الجذور والأوراق ، ضروريّة لكي تعطي الثمر ، ولكن من الممكن أن ينحرف غُصن من الأغصان في تلك الشّجرة ، فيقطعه الفلّاح بلا رحمةٍ ولا رأفةٍ ، لأنّ هذا الغَصن يستهلك قوّة الشّجرة ، فلا أحد له الحقّ في الإعتراض على الفلّاح ، بسبب هذا العمل.

ويمكن أن يُقَوِّم الفلّاح الشّجرة المائلة ، أو الفرع المعوّج ، بشدّه إلى خشبةٍ مستقيمة ، فكذلك لا حقّ لأحدٍ أن يعترض عليه في ذلك ، ويقول له : لماذا قيّدت الشّجرة بهذا القيد ، ولم

٧٦

تتركها حرّةً ، لأنّه سيقول : إنّ الشّجرة يجب أن تكون حرّةً لكي تُثمر ، لا أن معوّجة فتذهب بأتعابي سُدىً.

وكذلك بالنسبة للإنسان ، فلديه ملكاتٌ وقابلياتٌ مُتنوّعةٌ ومهمّةٌ ، وإذا ما نُظِّرت تَنظيراً صحيحاً ، فستصعد به إلى أعلى درجات الرّقي والكمال المادّي والمعنوي ، فهو حرٌّ في الإستفادة من قابلياته في الطّريق السّليم ، لا أن يُهدِر هذه القابليّات في الطرق المنحرفة.

فالذّين فسرّوا الحريّة ، بمعناها العام الشّامل بلا قيد ولا شرط ، ففي الحقيقة لم يفهموا معنى الحريّة ، فالحريّة هي الإستفادة من الطّاقات في الطّريق الصّحيح ، الذي يوصله للأهداف العُليا : (ماديةٌ كانت أم معنويةٌ).

ومثالٌ آخر ، حرّية المرورِ والعبورِ في الطّرق الواسعة والضّيقة ، فالغرض هو وصول الإنسان لمقصده ، ولكن هذا لا يعني أبداً ، عدم الإلتزام بقوانين المرور ، حيث يؤدي إلى الهرج والمرج ، والفَوضى في حركة المرور.

فلا يوجد إنسانٌ عاقلٌ يقول : إنّ التّقيد بقوانين المرور ورعايتها ، مثل التّوقف عند الضّوء الأحمر ، أو عدم المرور في طريقٍ ما ، أو السّير على الجانب الأيمن ، وما شابهها من الامور ، التي توجب تحديد حريّة السّائق ، فالكلّ سوف يستهزيء بمثل هذا الكلام ، حيث يقال له ، إنّ الحرّية يجب أن تكون ؛ ضمن المقررات والقوانين التي تراعى من أجل سلامة الإنسان وأموال وممتلكات الآخرين ولا تسبب في الهرج والمرج ، وقتل الأبرياء دون مُبرِّر ، أو تفضي إلى عدم الوصول بسلامةٍ للمقصد والغاية.

فكثيرٌ من هذه الحريّات هي كاذبةٌ ، ونوعٌ من التّقييد الحقيقي.

فالشّاب الذي يسىء الإستفادة من حريته ، ويستعمل المخدّر المميت ، فهو في الواقع يكون قد أمضى حُكم أسرِهَ وتَسلّط الغير عليه ، فالحريّة التي تُصاحب الإلتزام بالموازين الأخلاقية ، هي التي تُعطي للإنسان الحريّة الحقيقيّة وتجعله متمكنّاً من نفسه ومسيطراً على أهوائه ونوازعِهِ النّفسية ، وكم هو جميل كلام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، حيث يقول :

٧٧

«إنّ تقوى الله مفتاحُ سَدادٍ ، وذخيرةُ مَعادٍ ، وعتقٌ من كلّ مَلكةٍ ، ونجاةٌ من كلّ هلكةٍ» (١) .

وممّا ذُكر آنفاً ، تتجلى الحريّة الحقيقيّة من الكاذبة ، ويتمّ منع إستغلال هذا المفهوم المقدّسُ في طريق الإنحراف والزّيغ ، فلا يحقّ لأحدٍ أن يتذرّع ، بكبتِ الأخلاق لطاقاتِ الإنسان ، ويستشكِل على القِيم الأخلاقيّة.

وممّا تقدّم أيضاً ، تتّضح الإجابة على من يدّعي ، قمع الأخلاق للغرائز ، وأنّ الله تعالى خلق الغرائز في الإنسان ، لتحقيق الغرض منها ، وأشباعها بأدوات الحريّة والتّحرر من قيود الأخلاق.

فالغرائز في الإنسان ، مثلها كمثل قطراتُ المطر ، تنزل من السّماء بِقدرٍ لتُحيي الأرض ، ولو لا فائدتها ، لما أنزلها الباري تعالى ، ولكن هذا لا يعني فسح المجال لتلك القطرات لِتَتجَمَّع ، وتكوّن السّيول لإهلاك الحرث والنّسل ، بل يجب أن تُقام السّدود في طَريقها ، وفتح منافذ صغيرة منها لتمد الحياة البشرية بالماء ، وتكون الفائدة فيها أعمّ وأشمل ، فيما لو سيطر عليها الإنسان ، وأخضعها لضوابط معيّنة ، وكذلك الحال بالنّسبة لغرائز الإنسان ، فإذا اطلق لها العِنان ، فستبُيد كلّ شيٍء أمامها ، وتدّمر كلّ شيٍء في حركةِ الحياة الفرديّة والإجتماعية للإنسان.

ويُستنتج مما ذُكر سابقاً ، أنّ الأخلاق لا تقف سدّاً في طريق الإنسان ، ولا تمنعه من ترشيد قابلياته وملكاته ، ولا تقمع الغرائز في واقعه ، بل إنّ الأخلاق وسيلةٌ للوصول للكمال المنشود ، في حركة الإنسان والحياة.

ومن خلال التّفسير الصّحيح للحرية ، الذي ذكرناه آنفاً تتّضح الإجابة على أسئلة المخالفين للأخلاق.

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٣٠.

٧٨

الإعتقاد بالجَبر ، وبالمسائل اللأخلاقيّة :

لا شك أنّه يوجد إرتباطٌ وعلاقةٌ وثيقةٌ ، بين الإعتقاد بحريّة الإرادة للإنسان ، و «المسائل الأخلاقيّة» ، وكما أشرنا سابقاً ، أنّ نفي حريّة الإنسان ، هو نفيٌ وتعطيلٌ لجميع المفاهيم الأخلاقيّة.

وبناءً على هذا نجد ، أنّ الأديان الإلهيّة المتعهّدة بتربية وتهذيب النفوس والأخلاق ، من أقوى المدافعين عن حرّية الإنسان!.

وبناءً على هذا أيضاً ، نجد في القرآن الكريم آياتٌ عديدةٌ وكثيرةٌ تبلغ المئات ، تثبّت الإختيار وحريّة الإرادة للإنسان ، وتنفي الجَبر عنه ، وقد ذُكرت في مباحث الجَبر والإختيار(١) .

فالأمر والنّهي والتّكاليف الاخرى ، والدّعوة إلى الثّواب والعقاب ، والحساب والمحاكم والقوانين والعقوبات ، كلها امور تؤكّد على مسألة الإختيار ، وحريّة الإرادة عند الإنسان.

وإذا ما شاهدنا بعض الآيات تُوافق مذهب الجَبر ، فهي ناشئةٌ من عدم الإنتباه والتّوجه الصحيح لتفسير تلك الآيات ، فتلك الآيات ناظرةٌ إلى نفي التّفويض ، ولا تثبت الجبر ، والشّاهد عليها هو القرآن الكريم نفسه ، وقد أشرنا إليها سابقاً ، وليس هنا محلّ للبحث فيها.

فالإعتقاد بالجَبر ، وسلب حريّة الإنسان ، يمكن أن يكون عاملاً مهمّاً ، لكلّ تحلّل أخلاقي ، فالُمجرم ولتبرير أفعاله المشينة يتذرّع بالجَبر ، وأنّه لا يستطيع أن يُغيّر مصيره المحتوم عليه ، ولذلك يتحرّك في خطّ الإنحراف ، وينحدر في مُنزلقات المعاصي أكثر ، فالتّاريخ يُحدثنا ، عن مجرمين خاضوا غمار الجريمة ، استناداً إلى مُبّررات مذهب الجَبر ، وكانوا يعذرون أنفسهم ، في إرتكابهم لتلك الأعمال والذّنوب ، ويقولون :

(إذا كنّا صالحين أو طالحين ، فليس لنا من الأمر شيء ، فالُمبدع الأزلي هو الذي زرع فينا ذلك ، وجعل مصيرنا أن نكون من أهل الشّقاء! ، فلا المحسنين لهم الحق بالإفتخار بإحسانهم ،

__________________

١ ـ الرجاء الرجوع إلى التّفسير الأمثل : (الفهرس الموضوعي ص ٩٩) ، وإلى أنوار الأصول ، ج ١ ، بحث الجَبر والإختيار.

٧٩

ولا على المسيئين ملامة!).

وبناءً على ذلك ، فقد تحرّك الأنبياءعليهم‌السلام ، قبل كلّ شيء لتوكيد الإرادة الإنسانيّة ، وخصوصاً نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولأجل تحكيم الاسس الأخلاقيّة وتهذيب النّفوس.

وعلى كلّ حال ، فبحث الجَبر والإختيار ، والمسائل الاخرى مثل القضاء والقدر ، والهداية والضّلالة ، والسّعادة والشّقاء ، من وجهة نظر القرآن الكريم ، هو بحثٌ مستقلٌ وسيعٌ ، سنتطرق لتفسيره الموضوعي في المستقبل إن شاء الله ، والهدف هنا هو الإشارة لهذه المسألة ، وتأثيرها في المسائل الأخلاقية ، وليس الدخول في تفاصيلها فعلاً.

أمّا الذين يتحركون من موقع اللّذة ، ويعتبرونها من أهمّ القيم ، فهؤلاء لا يعتبرون الأخلاق من المُثل النّبيلة والسّلوكيات الحسنة ، لأنّها لا تُوافق اصولهم ، وكما قال«آريس تيب» ، الذي وُلد قبل الميلاد : الخير هو اللّذة ، ولا شرّ سوى الألم ، والهدف النّهائي للإنسان في الحياة : هو الّتمتع بلذائذ الدنيا ، ولا يجب التّفكير بنتائجها الصّالحة أو السيئة)(١) .

هذا وقد غاب عن اولئك ، أنّنا وعلى فرض حصرنا اللذائذ في الماديّات فقط ، وتركنا اللّذائذ المعنويّة الّتي هي أعلى وأسمى لذّةٍ للرّوح ، فلا يمكن الوصول للذائذ الماديّة إلّا برعاية الأخلاق ، وذلك لأنّ الّتمتع والالتذاذ بالشّيء ، من دون قيد أو شرطٍ ، يعقبه ألم شديد على مستوى النّفس والبدن ، ولأجله يجب أن نصرف النّظرً عن تلك اللذّة التي يعقبها ألم أقوى وأشد.

وهذا الكلام وإن كان قد صدر ، ممّن يُعتبرون في عداد الفلاسفة ، ولكنّه في الحقيقة يشبه كلام المعتاد على الأفيون ، الّذي إذا نصحوه قالوا له : إنّ لذّتك هذه ستسبب لك المتاعب والآلام العظام ، فيجيب : إنّ اللّذة الحاضرة هي الأصل ، ولا يعلم ما ذا سيكون في الغد ، ولكن الذي ينتظره في الغد ، ليس سوى المرض العصبي ، والإرهاق والقلق ، وما إلى ذلك

__________________

١ ـ علم الأخلاق أو الحكمة العمليّة ، ص ٢٤٣.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345