• البداية
  • السابق
  • 441 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 14736 / تحميل: 3117
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق في القرآن

الأخلاق في القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

١ ـ الخوف المعقول وغير المعقول

لا شكّ أنّ المراد من الجبن والخوف هنا ليس هو الجبن المعقول والخوف المنطقي بل يقع في دائرة اللامعقول واللامنطقي ، وتوضيح ذلك :

إن الخوف من الامور الّتي تتضمن الخطر واقعاً هي أحد الحالات الروحية والطبيعية في الإنسان وأحد المواهب والنعم الإلهية الكبيرة ، وانه لو لا هذه الحالة تجاه الخطر فإنّ الإنسان لا يشعر بالخوف إذا واجهه الخطر حيث يفقد حياته سريعاً ، وهذا هو ما ورد في كلمات علماء الأخلاق باسم(التهوّر) في مقابل الخطر والّتي هي صفة ذميمة من قبيل أن يعبر الشخص الشارع المزدحم بالسيارات بدون أن ينظر يميناً أو يساراً ولا يحاذر من الخطر ، فمثل هذا الشخص سيتعرض للحوادث الخطرة الّتي سرعان ما تؤدي بحياته.

مثل هذا النوع من الخوف في حياة الإنسان اليومية ، وهكذا في موارد الخوف من تناول الأطعمة المشكوكة أو الخوف في دائرة المسائل السياسية والاقتصادية وغيرها ، يُعتبر خوفاً منطقياً ، ويتسبب في نجاة الإنسان من الأخطار الّتي تهدد حياته في حركة الحياة والواقع.

أمّا الخوف المذموم فهو أن يخاف الإنسان من المظاهر والعناصر الّتي لا تستبطن خطراً في حدّ ذاتها ، بل يتصور الخطر الموهوم فيها ، فيخاف من كلّ خطر وهمي وكلّ عدوٍ خيالي ويخاف من كلّ شيء حتّى من خياله ، مثل هذا الإنسان يعيش حالة التردّد في كلّ عمل يريد الاشتراك به مخافة عدم نجاحه في ذلك العمل وبالتالي يمنعه هذا الخوف من تصعيد طاقاته وقابلياته ويعيش التخلف والكسل والفشل والذلّة والمهانة.

إن هذه الحياة الدنيا في حقيقتها ميدان للصراع مع الموانع والمشكلات والأخطار الموجودة دائماً في مفاصل وزوايا هذه الحياة ، وما لم يواجه الإنسان هذه الأخطار والموانع من موقع الجرأة ويستعد بجدّية لمقابلتها فإنه لا يوفَّق في حياته.

والغالب إننا لا يمكننا تحقيق النجاح والنصر في كلّ عمل نعمله أو نضمن عدم وجود الخطر فيه ، فهذا من الخيال المحال وهو من الأوهام الزائفة ، وهنا يتجلّى الدور المهم

٢٢١

للشجاعة والشهامة في واقع الإنسان تجاه التحدّيات الصعبة ، وتتجلّى كذلك الآثار السلبية لرذيلة الخوف والجبن أيضاً.

إن كلّ مزارع يحتمل الجفاف والأمراض الزراعية الّتي تصيب مزرعته ، وكلّ تاجر يحتمل تغيّر الأسعار وتحوّل أوضاع السوق ، وكلّ مسافر يحتمل وقوع الحوادث الخطرة في الطريق ، وفي كلّ عملية جراحية يُحتمل وجود الخطر ، فإذا عملت هذه الاحتمالات على منع الإنسان من القيام بشاطاته الحياتية فلا بدّ أن يجلس الإنسان جانباً ولا يقدم على أي عمل من الأعمال بل ينتظر الموت فقط.

ومن المعلوم أنّ الإنسان في مثل هذه الموارد يجب أن يتوقع الأخطار الجدّية ثمّ يضع لها ما يقابلها من العلاجات والحلول ويتجنّب التهوّر وإلقاء نفسه بالتهلكة ، ولكن في نفس الوقت لا ينبغي للاحتمالات الموهومة واللامعقولة الّتي تكتنف العمل دائماً أن تكون مانعة له من الإقدام على سلوك هذا الطريق.

وهذا هو أفضل تعريف لمسألة الشجاعة بعنوانها صفة من الصفات الأخلاقية الفاضلة ، والخوف بعنوانه من الصفات الأخلاقية الرذيلة.

وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام في تعريف الجبن قوله :«الْجُرْأَةُ عَلَى الصَّديِقِ وَالنُّكُولُ عَنِ الْعَدُوّ» (١) .

ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال في جوابه على سؤال عن الشجاعة :«مُوَافِقَةُ الْاقْرَانِ وَالصَّبْرُ عِنْدَ الطَّعَانِ» (٢) .

القرآن الكريم يقول أيضاً في إحدى آياته :( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (٣) .

ويقول في مكان آخر في وصف المؤمنين :( ... أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ) (٤) ولا يخالجهم

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ، ج ١ ، ص ٣٧٠ ؛ تحف العقول ، كلمات الإمام المجتبىعليه‌السلام ، ح ١.

٢ ـ ميزان الحكمة ، ج ٢ ، ص ١٤١٢.

٣ ـ سورة البقرة ، الآية ١٩٥.

٤ ـ سورة الفتح ، الآية ٢٩.

٢٢٢

خوف موهوم في هذا الطريق.

إنّما تقدّم آنفاً يوضح جيداً أنّ الشجاعة هي الفضيلة الّتي تقع في الحدّ الوسط بين(التهوّر) و (الجبن).

٢ ـ الآثار السلبية للجُبن في حركة الحياة الفردية والاجتماعية

ويترتب على هذه الصفة الرذيلة آثار سلبية كثيرة في حياة الإنسان والّتي تُعد من الأسباب والعوامل المهمة في فشله وذلّته.

إننا نقرأ الكثير عن حالات الشعوب والامم على طول التاريخ البشري ، ونقرأ أنّ الكثير منها رغم امتلاكها لوسائل القوّة والمنعة من العُدة والعدد ، إلّا أنّها كانت تعيش الذلّة والمهانة والأسر لسنوات طويلة ، ولكن بمجرد أن ينبري من بينها قائد شجاع وشهم يتخطّى بها صفوف التقدّم والنهضة ويُعبّي طاقاتها وأفرادها في سبيل الكرامة والتقدّم فإنّها سرعان ما تنفض عن نفسها رداء الذلّة والمهانة والتخلف وترتقي إلى أوج العزّة والعظمة.

إن شجاعة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في مختلف موارد سيرته العملية من هجرته إلى المدينة وموقفه في بدر واحد والأحزاب وسائر الغزوات الاخرى يُعد من أهمّ العوامل لانتصار المسلمين وتقدّمهم السريع ، ولهذا ورد في الأحاديث الإسلامية عن الإمام علي قوله :«الشُّجَاعَةُ عِزٌّ حَاضِرٌ وَالْجُبْنُ ذُلٌّ ظَاهِرٌ» (١) .

ويقول في مكان آخر أيضاً :«الشُّجَاعَةُ نَصْرَةٌ حَاضِرَةٌ وَفَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ» (٢) .

وأحد الآثار السلبية الاخرى لهذه الرذيلة الأخلاقية هو أنّها تمنع الإنسان من التصدي لكثير من الأعمال والنشاطات المهمة ، لأن هذه الأعمال الكبيره تقترن عادة مع مشاكل كبيرة أيضاً وتتطلّب رجالاً يقفون أمام هذه المشكلات والموانع من موقع الشجاعة والجرأة ، فلا يتسنّى للشخص الجبان أن يخوض في اطار هذه الأعمال إطلاقاً.

__________________

١ ـ الآمدي ـ الغرر والدرر ، ج ٧ ، ص ١٧١.

٢ ـ المصدر السابق.

٢٢٣

وعليه فإنّ مثل هؤلاء الأشخاص وعلى فرض حصولهم على بعض الموفقيّة المحدودة والتافهة في الحياة فإنّهم يعجزون عن التصدّي للأعمال المهمة على المستوى الاجتماعي والتغيير الإصلاحي الّذي يحتاجه الناس.

وهذه المسألة من الأهمية إلى درجة أنّ الإسلام نهى عن المشورة مع الجبناء والّذين يعيشون حالة الخوف والرعب الوهمي في دائرة مديرية المجتمع والأعمال المهمة في عملية التغيير والإصلاح الإجتماعي ، لأن هؤلاء من شأنهم أن يقرأوا آية اليأس فقط وبذلك يُحبطوا عزم المدراء الموفَّقين ويثبطوا من إرادتهم القوية.

وكما رأينا أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام يوصي مالك الأشتر في عهده المعروف ان لا يستشير أحداً من الجبناء لئلّا يُصاب بالضعف والإحباط ويقول :«لَا تَدْخُلَنَّ فِي مَشْوِرَتِكَ جَبَاناً يُضَعِّفُكَ عَنِ الْامُورِ» (١) .

ويقول في مكان آخر أيضاً :«وَيُعَظِّمُ عَلَيْكَ مَا لَيْسَ بِعَظِيمٍ».

٣ ـ دوافع الجُبُن

١ ـضعف الإيمان وسوء الظنّ بالله ، لأن الشخص الّذي يعيش الإيمان بالله والثقة به وينطلق في حياته من موقع التوكل والأمل برحمة الله ولطفه والتصديق بوعده ، مثل هذا الشخص سوف لا يذوق طعم الذلّة والمهانة والضعف ولا يتردد أو يخاف أمام الحوادث الصعبة ولا يهتز لتحديات الواقع الثقيلة ، وهذا هو ما ورد في عهد أمير المؤمنينعليه‌السلام لمالك الأشتر حيث يقول :«انَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزٌ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ».

٢ ـالشعور بالحقارة وضعف الشخصية لدى الفرد ، ولهذا نجد انه كلّما كانت شخصية الإنسان نافذة وقوية وشعر الإنسان معها بالكرامة واحترام الذات فإنّ ذلك ممّا يزيد في شجاعته وشهامته ، ولذلك يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام :«شِدَّةُ الْجُبْنِ مِنْ عَجْزِ النَّفْسِ وَضَعْفِ الْيَقِينِ» (٢) .

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٢ ـ شرح غرر الحكم ، ج ٤ ، ص ١٨٥.

٢٢٤

٣ ـ(الجهل وقلّة المعرفة) حيث تسبب للإنسان غالباً الخوف الموهوم ، كما نرى في خوف الإنسان من الأشخاص أو الحيوانات الّتي لا يعرفها على وجه الدقة ولكن عند ما تتضح له الصورة ويتعرف عليها تذوب حالة الخوف في نفسه تدريجياً.

٤ ـ(طلب الراحة والعافية) يُعد أحد الأسباب للخوف المذموم ، لأن الشجاعة تتطلب الخوض في دوّامة المشكلات واللاملائمات لكي يتسنّى للإنسان أن يخرج منها منتصراً ، وهذا المعنى لا يتلائم ولا ينسجم مع مزاج من يطلب الراحة والعافية.

٥ ـ إن دروس الحوادث المُرة والمؤلمة قد يتسبّب غالباً في أن يعيش بعض الناس حالة الخوف والرعب ، لأن هذه الحوادث المرة تترسخ في أذهانهم وتمتزج بالخوف الّذي قد يستمر بالإنسان إلى آخر حياته ولا يمكنه التخلّص منه إلّا ببعض العلاجات النفسية.

٦ ـ إن الإفراط في سلوك طريق الحذر من شأنه أن يورث الخوف أيضاً أو هو عامل من عوامل ايجاد الخوف في النفس ، لأن مثل هذا الإنسان يتوقى كلّ ما يحتمل فيه الخطر ، وهذا يؤدي به إلى أن يعيش حالة التردد والخوف من الإقدام.

٧ ـ وممّا لا ينبغي إنكاره أنّ الحالة الروحية والمزاجية والبدنية للأفراد أيضاً مؤثرة في بروز هذه الحالة السلبية ، فترى بعض الأشخاص وبسبب ابتلائهم بضعف الأعصاب أو ضعف القلب يخافون من كلّ شيء ، في حين يشعرون في نفس الوقت بالتنفر من هذه الحالة والامتعاض لوجودها في واقعهم ولكنهم لا يستطيعون التخلّص منها.

هؤلاء يقولون : أنّ الخوف المتسرب في أعماقنا ليس باختيارنا بل نجده مفروض علينا ، ولكن الصحيح أنّ هذه الحالة قابلة للعلاج أيضاً.

٤ ـ طرق العلاج والوقاية

إن أحد الطرق الأصلية لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية ، كما في سائر الرذائل الاخرى ، أن يتفكر الإنسان من جهة في آثارها السلبية وعواقبها الوخيمة على المستوى الفردي والاجتماعي للإنسان ، فعند ما يطالع الشخص الجبان والّذي يعيش حالة الخوف والرعب

٢٢٥

من كلّ إقدام مثمر ، الآثار السلبية للخوف الموهوم وما يترتب عليه من ذلّة وحقارة وتخلف وحرمان من الكثير من مواهب الحياة في حياته أو حياة الآخرين ، فإنه سيتحرك في الغالب لتجديد فكرته ونظرته عن هذه الحالة ويسعى لتطهير نفسه منها.

ومن الطرق المهمة الاخرى في عملية العلاج هو السعي إلى قطع دوافع وجذور هذه الرذيلة من واقع النفس ، فعند ما تزول السحب المظلمة لسوء الظنّ بالله من سماء القلب ، وتشرق شمس التوكل على الله في أجواء الروح الإنسانية ، فإنّ ظلمات الخوف الموهوم ستزول بسرعة عن النفس البشرية ، ولكن قد يحتاج هذا الأمر إلى مطالعة ودقّة أكثر.

ومن الطرق الاخرى للعلاج هو أن يتورّط الإنسان في الميادين المثيرة للخوف والوحشة ويعمل على إقحام نفسه مرات عديدة في مثل هذه الميادين والأجواء المثيرة ، وعلى سبيل المثال فعند ما يجد الإنسان نفسه يخاف من تناول الدواء أو زرق الابر فعليه أن يقحم نفسه مرّات عديدة في مثل هذه الأعمال كيما تزول حالة الخوف.

والبعض الآخر يستوحش من السفر في السفينة أو الطائرة ، ولكن تكرار مثل هذه السفرات من شأنه أن يزيل الخوف منه.

وبعض الناس يجد حالة التردد والخوف في نفسه عند حضوره أمام الآخرين أو عند إلقائه لمحاضرة أو كلمة أمام الجمع ، ولكن هذا الخوف والتردّد يزول غالباً بتكرار مثل هذه الأعمال.

وأحد أهداف التمرينات العسكرية والمناورات الّتي تُجريها الحكومات لجيوشها وقواها العسكرية هو إزالة آثار الخوف من قلوب أفراد الجيش من الحروب.

ونجد هذا المعنى بصورة جميلة ورائعة في الكلمات القصار لأمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يقول :«اذَا هَبْتَ امْراً فَقَعْ فِيهِ ، فَانَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ اعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ» (١) .

ويقول العلّامة المرحوم الخوئي في شرحه لنهج البلاغة عند شرح هذه العبارة : «كثيراً ما يستوحش الإنسان من بعض الامور بسبب جهله وجبنه فيمنعه ذلك الخوف من نيل

__________________

١ ـ الكلمات القصار ، الجملة ١٧٥.

٢٢٦

الموفقية في الحياة ، وهنا الإمامعليه‌السلام يحرضه على خلع حالة الجبن عن نفسه لأن تحمل ضغط هذه الحالة قد يكون في كثير من الحالات أشد على الإنسان من التورط في ذلك الأمر المخوف».

ثمّ يضيف : «إن المخترعين والمكتشفين في العالم نالوا أوسمة الفخر بالعمل بهذه التوصية الحكيمة ، حيث توغلوا إلى أعماق الغابات الاستوائية والصحاري الأفريقية وخاضوا لجج البحار ووصلوا إلى الجزر البعيدة وحصلوا على ثروات طائلة وشهرة عظيمة مضافاً إلى ما قدّموا إلى البشرية من علم ومعرفة لا يستهان بها»(١) .

وقد ورد في المثل المعروف :«امُّ الْمَقْتُولِ تَنَامُ وَامُّ المُهَدَّدِ لَا تَنَامُ».

وقيل أيضاً :«كُلُّ امْرٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَسِمَاعُهُ اعْظَمُ مِنْ عَيَانِهِ» (٢) .

وأحد الطرق الاخرى لعلاج حالة الجبن والخوف هو أن يعيش الإنسان بطُهر ونقاء من شوائب الرذيلة والأعمال الذميمة ، لأن الأشخاص الملوّثين يخافون غالباً من نتيجة أعمالهم ، وبما أنّ نيتجة هذه الأعمال سوف تتجلّى إلى الملأ يوماً من الأيام فإنّهم يعيشون حالة الخوف في أنفسهم ، ولذلك ورد في الحديث المعروف عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قوله :«مَا اشْجَعُ الْبري وَاجْبَنَ الْمُريِبُ» (٣) .

ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام قوله :«لَوْ تَمَيَّزَتِ الْاشْيَاءُ لَكَانَ الصِّدْقُ مَعَ الشَّجَاعَةِ وَكَانَ الْجُبْنُ مَعَ الْكِذْبِ» (٤) .

__________________

١ ـ منهاج البراعة ، ج ١٢ ، ص ٢٥٢.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ، ج ١٨ ، ص ١٧٧.

٣ ـ غرر الحكم ، ح ٩٦٢٦.

٤ ـ شرح غرر الحكم ، ج ٧ ص ١٧٢. (بالفارسية)

٢٢٧

٥ ـ معطيات الشجاعة في حياة الإنسان

والنقطة المقابلة لصفة الجبن الرذيلة ، هي الشجاعة والشهامة والجرأة على الخوف في الأعمال المهمة كما تقدّمت الإشارة إليه ضمن حديثنا عن الجبن والخوف ، فكلّ واحد من هاتين الصفتين المتقابلتين تتضح بدراسة ما يقابلها من الحالات الأخلاقية ، فمعرفة مفهوم الجبن لا تتسنّى بدون معرفة مفهوم الشجاعة ، وكذلك العكس فإنّ من العسير أن ندرك مفهوم الشجاعة بدون أن نُحيط علماً بمفهوم الجبن والخوف.

وبهذا نرى من اللازم ولغرض تكميل الأبحاث السابقة أن نتحدث أكثر عن صفة الشجاعة وآثارها الايجابية ومعطياتها في حركة الحياة وخاصة من وجهة نظر الأخبار والأحاديث الإسلامية :

١ ـ ما ورد في عهد الامام علىعليه‌السلام لمالك الأشتر (والّذي يُعدّ أشمل دستور إلهي وسياسي) في عملية إدارة الحكومة في موارد متعددة أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام أشار إلى هذه المسألة ، فيحذّر في أحد الموارد مالك الأشتر من المشورة مع الأشخاص الجبناء والّذين يعيشون حالة الخوف والحرص والبخل. ويقول في مكان آخر بالنسبة إلى قادة الجيش (أو المعاونين والموظفين والمسئولين):«ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوآتِ وَالْاحْسَابِ وَاهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ثُمّ اهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخاء وَالسَمَاحَةِ ، فَانَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ» (١) .

وهنا نجد أنّ الإمام يرى أنّ صفة الشجاعة والشهامة تُعد من الاصول الأساسية والقيم الأخلاقية المهمة للإنسان المدير والمدبّر وخاصة على مستوى قادة الجيش أو المسؤولين الكبار في الحكومة.

٢ ـ ويقول هذا الإمام في حديث آخر :«الشَّجَاعَةُ زَيْنٌ ، الْجُبْنُ شَيْنٌ» (٢) .

٣ ـ وورد عن هذا الإمام الهُمام قوله في حديث آخر :«السَّخَاءُ وَالشَّجَاعَةُ غَرَائِزٌ شَرِيفَةٌ

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٢ ـ شرح غرر الحكم ، ج ٧ ص ١٧١. (بالفارسية)

٢٢٨

يَضَعُهَا اللهُ سُبْحَانَهُ فِي مَنْ احَبَّهُ وَامْتَحِنْهُ» (١) .

٤ ـ وورد عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذكره لفضائل أهل بيته أنّه ذكر سبع صفات وأحدها الشجاعة.

وفي حديث آخر ذكر النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فضائله وفضائل أهل بيته في كلمتين ، وأحد هاتين الفضيلتين هي الشجاعة.

٥ ـ ونقرأ في حديث ليلة المبيت (وهي الليلة الّتي بات فيها الإمام عليعليه‌السلام على فراش النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في ليلة الهجرة إلى المدينة) أنّه عند ما حاصر المشركون بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليلاً ، ثم هجموا في الصباح الباكر إلى داخل الدار رأوا علياً نائم في فراش النبي ، فقال أبو جهل : أما ترون محمداً كيف أبات هذا ونجا بنفسه لتشتغلوا به وينجو محمد ، لا تشتغلوا بعلي المخدوع لينجو بهلاكه محمد

فقال عليعليه‌السلام :«أَلِي تَقُولُ هذا يا أَبا جَهل؟ بَلِ اللهُ قَدْ أَعطانِي مِنَ العَقلِ ما لُو قُسِّمَ عَلى جَميعِ حُمَقاء الدُّنيا وَمَجانِينِها لَصارُوا بِهِ عُقلاء ، وَمِنَ القُوَّةِ ما لَو قُسِّمَ عَلى جَمِيعِ ضُعَفاءِ الدُّنيا لَصارُوا بهِ أَقوياء ، وَمِنَ الشَّجَاعَةِ مَا لَوْ قُسِّمَ عَلَى جَمِيعِ جُبَنَاءِ الدُّنْيَا لَصَارُوا بِهِ شَجْعَاناً» (٢) .

٦ ـ ونقرأ في الخطبة المعروفة للإمام زين العابدين في الشام أنّ هذا الإمام ابتدأ خطبته التاريخية بقوله :«ايُّهَا النَّاسُ : اعْطِينَا سِتأً وَفُضِّلْنَا بِسَبْعٍ اعْطِينَا الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ وَالسَّمَاحَةَ وَالْفَصَاحَةَ وَالشَّجَاعَةَ وَالْمَحَبَّةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» (٣) .

٧ ـ ونختم هذا البحث بحديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام (رغم وجود أحاديث كثيرة في هذا الباب) قال :«الْغِيرَةُ الشَّدِيدَةُ عَلَى حَرَمِكَ ، وَالسَّخَاءُ ، وَحُسْنُ الْخُلْقِ ، وَصِدْقُ اللِّسَانِ وَالشَّجَاعَةُ».

__________________

١ ـ غرر الحكم ، ح ١٨٢٠.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ١٩ ، ص ٨٣.

٣ ـ بحار الأنوار ، ج ٤٥ ، ص ١٣٨.

٢٢٩

ويتبين من الأحاديث المذكورة آنفاً وكذلك الآيات والروايات الكثيرة في هذا الباب أهمية هذه الفضيلة الأخلاقية وقيمتها من بين القيم الإنسانية الرفيعة الّتي يراها الإسلام في مجمل تعاليمه الأخلاقية والإنسانية.

وممّا يجدر ذكره هو أنّ(الشجاعة) لها معنىً واسع وتمتد لمساحات شاسعة من السلوكيات الإنسانية ، والشجاعة في ميدان الحرب والقتال هو أحد فروعها ومصاديقها ، ومنها الشجاعة في ميدان السياسة ، وفي المسائل العلمية وإبداع النظريات الجديدة المنطقية والاختراعات العلمية ، والشجاعة في مقام القضاء والحكم وأمثال ذلك ، فكلّ واحدٍ منها يعد من فروع هذه الشجرة الأخلاقية والصفة الكريمة للإنسان ، ولذلك نقرأ في بعض الروايات«الصَّبْرُ شَجَاعَةٌ» (١) .

وورد في حديث آخر عن الإمام عليعليه‌السلام قوله :«اشْجَعَ النَّاسِ اسْخَاهُمْ» (٢) .

ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام قوله :«لَوْ تَمَيَّزَتِ الْاشْيَاءُ لَكَانَ الصِّدْقُ مَعَ الشَّجَاعَةِ وَكَانَ الْجُبْنُ مَعَ الْكِذْبِ» (٣) .

فهذه الأحاديث الشريفة تقرر في كلّ واحد منهما فرعاً من فروع الشجاعة الّتي تندرج تحت المفهوم العام لهذه الكلمة.

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الحكمة ٤.

٢ ـ غرر الحكم ، ح ٢٨٩٩.

٣ ـ شرح غرر الحكم ، ج ٥ ، ص ١١٨ ، ح ٧٥٩٧.

٢٣٠

١٢

ضعف النفس والتوكل على الله

تنويه :

وردت الإشارة في كثير من الآيات القرآنية الكريمة والروايات الإسلامية وكذلك سيرة الأنبياء والأولياء والصالحين وفي كتب علماء الأخلاق وأرباب السير والسلوك إلى مسألة «التوكل» بعنوان أنّها من الفضائل الأخلاقية المهمة الّتي لا يتسنّى للإنسان الوصول إلى مقام القرب الإلهي بدونها.

والمراد من التوكل هو : تفويض الامور إلى الله والاعتماد على لطفه ، لأن(التوكل) من مادّة (وكالة) بمعنى اختيار الوكيل والاعتماد عليه في تسيير الامور ، وبديهي انه كلّما كان الوكيل يتمتع بقدرة أكبر واحاطة علمية أكثر فإنّ الشخص الموكل يشعر في قرارة نفسه بالهدوء والسكينة أكثر ، وبما أنّ الله تعالى وقدرته لا محدودة ، فعند ما يتوكل الإنسان عليه يشعر بالطمأنينة والسكينة تدغدغ قلبه وتنفذ إلى أعماق روحه ، فتمنحه القدرة على التصدي للمشكلات والحوادث الصعبة ، وأن لا يعيش الخوف من الأعداء والأخطار المختلفة ، ولا يرى نفسه في مأزق في حركة الحياة ، فيسير بالتالي بقلب مطمئن وبطريق مفتوح متجهاً صوب أهدافه ومقاصده.

الإنسان الّذي يعيش التوكل على الله لا يشعر إطلاقاً بالحقارة والضعف بل يرى نفسه

٢٣١

وبالاعتماد على لطف الله وعلمه وقدرته المطلقة منتصراً وناجحاً في حياته الفردية والاجتماعية ، وحتّى أنّه لو اصيب بالفشل أحياناً فإنّ ذلك لا يفرض عليه اليأس والقنوط. وعند ما يتجلّى مفهوم التوكل بمعناه الصحيح في واقع الإنسان وعلى سلوكياته فإنّ ذلك من شأنه أن يثير الأمل في القلب ويبعث على تقوية الإرادة وتحكيم دعائم المقاومة والشجاعة.

إنّ مسألة التوكل لها دورٌ مهم في حياة الأنبياء الإلهيين ، فعند ما نستعرض الآيات القرآنية في هذا الباب نجدها تشير إلى أنّ هؤلاء الأنبياء واجهوا سلسلة الحوادث والمشكلات المدمّرة والعظيمة بسلاح التوكل على الله ، وكانت أحد الأسباب المهمة لانتصارهم وتغلّبهم على هذه المشكلات هو كونهم يتمتعون بهذه الفضيلة الأخلاقية.

وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته دروساً من سيرة الأنبياء الإلهيين في مسألة التوكل ودورها المهم في حياتهم العملية وذلك بالترتيب :

(نبدأ من نوحعليه‌السلام وننتهي إلى نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ).

١ ـ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ) (١) .

٢ ـ( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ) (٢) .

٣ ـ( رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) (٣) .

٤ ـ( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) (٤) .

__________________

١ ـ سورة يونس ، الآية ٧١.

٢ ـ سورة هود ، الآية ٥٦.

٣ ـ سورة إبراهيم ، الآية ٣٧.

٤ ـ سورة هود ، الآية ٨٨.

٢٣٢

٥ ـ( وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) (١) .

٦ ـ( وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ* فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (٢) .

٧ ـ( وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) (٣) .

٨ ـ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) (٤) .

٩ ـ( وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) (٥) .

١٠ ـ( ... وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) (٦) .

تفسير واستنتاج :

معطيات التوكل في حياة الأنبياء

عند ما نطالع القرآن الكريم في اطار حديثه عن سيرة الأنبياء نلاحظ أنّ القرآن يستعرض من صفات الأنبياء الإلهيين صفة(التوكل) بعنوان ابرز ظاهرة وصفة تتجلّى في سيرة الأنبياء على طول التاريخ ، حيث نجدهم يعيشون روح الاعتماد على الله والتوكل عليه في مقابل المصاعب والمشاكل الجمّة الّتي يواجهونها في خطّ الرسالة والدعوة إلى الله ،

__________________

١ ـ سورة يوسف ، الآية ٦٧.

٢ ـ سورة يونس ، الآية ٨٤ و ٨٥.

٣ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٥٠.

٤ ـ سورة التوبة ، الآية ١٢٩.

٥ ـ سورة إبراهيم ، الآية ١٢.

٦ ـ سورة الطلاق ، الآية ٣.

٢٣٣

وأنّهم كانوا لا يرتبطون بأيّ شيء برابطة الاعتماد والتعلق سوى بالقدرة المطلقة للذات المقدسة.

ونبدأ من النبي نوحعليه‌السلام :

«الآية الاولى» من الآيات محل البحث تستعرض حياة نوح مع قومه المتعصّبين والمعاندين حيث واجههم بكلّ شجاعة ودعاهم بالكلام الهادئ والمتّزن والمنطقي من موقع الاعتماد على الله والتوكل عليه ، فتقول الآية الشريفة مخاطبة نبي الإسلام :( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ) (١) .

فما هو العامل الّذي دفع بنوح مع قلّة المؤمنين من حوله إلى التصدي لكلّ قوى الانحراف والأعداء المعاندين من قومه بهذه الشهامة والشجاعة والسخرية من قوّتهم وعدم الاهتمام بقدراتهم وبمخططاتهم وبأوثانهم؟

وبالتالي فقد وجّه إليهم ضربة قاصمة على المستوى الروحي والنفسي.

أجل لم يكن هذا العامل سوى الإيمان بالله والتوكل عليه ، والعجيب أنّ نوح لم يكتف فقط بمواجهتهم من موقع اللامبالاة وعدم الاهتمام بقدراتهم ومعبوداتهم بل دعاهم إلى مبارزته وشجّعهم على مواجهته ، أجل فمثل هذا الإظهار للقوّة واستعراض العضلات لا يتسنّى في الحقيقة إلّا من المتوكلين.

ونظراً إلى أنّ سورة يونس الّتي تستبطن هذه الآية محل البحث ، مكيّة ، فإنّ الله تعالى أراد من المسلمين في مكّة أن يلتفوا حول نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله كالفراش الّذي يدور حول المصباح ويُظهروا من أنفسهم القوّة والقدرة أمام الأعداء الشرسين وأن لا يعيشوا الخوف والرعب من هذه القدرات الموهومة مقابل قدرة الله ومشيئته.

وعبارة (شركائكم) يمكن أن تكون إشارة إلى الأصنام الّتي جعلوها شريكة لله تعالى ،

__________________

١ ـ سورة يونس ، الآية ٧١.

٢٣٤

وقد ورد هذا التعبير أيضاً في موارد اخرى كثيرة من القرآن الكريم.

أو يكون المراد منه هو أتباعكم وأصدقائكم وأعوانكم ، أي اجمعوا جميع قواكم وقدراتكم لتتحركوا بها في التصدي لي ولمواجهتي.

وتأتي«الآية الثانية» للتحدث على لسان النبي هود الّذي عاش بعد عصر نوحعليه‌السلام وقد هدّده قومه الوثنيّون بالموت ، ولكنه انطلق من موقع القوّة والتوكل على الله وقال لهم بصراحة كما تقول الآية :( ... قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ* إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ) (١) .

واللطيف أنّ هود لم يكتف بعدم الاهتمام والاعتناء بقوى مخالفيه من عبّاد الأوثان وقدراتهم ومؤامراتهم بل انه سعى لتحريكهم وإثارتهم للتصدي له ومواجهته لكي يثبت لهم أنّ قلبه وروحه يرتبطان بقوة أخرى ، وانه بالتوكل على الله تعالى لا يعيش في نفسه أيّ شعور بالخوف من مؤامراتهم مهما عظمت قوتهم واشتدت قدرتهم ، وهذا يدلّ على أنّ التوكل على الله يقود الإنسان إلى حيث المواقف الشجاعة والبطولية والسير في خطّ الاستقامة والحقّ.

فما أعجب أن يقف رجل واحد بمفرده أو مع القليل من أصحابه مقابل هذه الكثرة الكاثرة من قوى الانحراف والأعداء الأشداء مثل هذا الموقف البطولي ويتحرك في مواجهته لهم من موقع الاستهزاء بتهديداتهم والسخرية بمؤامراتهم!! أجل فإنّ هذه من معطيات الإيمان والتوكل على الله في حياة الإنسان.

وقد ذكر أحد المفسّرين القدماء وهو (الزجاج) أنّ هذه الآية تعد من أهم الآيات الّتي تتحدّث عن الأنبياء العظام والّتي استعرضت فيها قصة نبي من الأنبياء يقف هذا الموقف البطولي في مقابل جماعات كثيرة من مخالفيه ويتحدّث معهم مثل هذا الحديث الشجاع ، ومثل هذا التعبير ورد في قصة نوحعليه‌السلام وكذلك في الحديث عن سيرة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً.

__________________

١ ـ سورة هود ، الآية ٥٤ ـ ٥٦.

٢٣٥

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم وبعد هذه الآية يتحدّث عن أنّ هودعليه‌السلام خاطب قومه المعاندين بخطاب من موقع العقل والاستدلال وقال :( ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ) (١) .

ثمّ أضاف : إن قدرة الله تعالى ليست بالقدرة الّتي توحي لصاحبها بالغرور والانحراف عن خطّ الحقّ بل( إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

وعليه فأنا أعتمد على من قدرته مطلقة وافعاله عين الصواب والعدالة.

وتأتي«الآية الثالثة» لتشير إلى جانب من سيرة النبي إبراهيمعليه‌السلام وتوكّله على الله في أحلك الظروف وأصعب الحالات الّتي يواجهها الإنسان وتقول :( رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) (٢) .

فلو لم يكن ايمان إبراهيم كالجبل الشاهق ، ولم يكن له قلب كالبحر المتلاطم ، ولم يكن يعيش التوحيد والتوكل في أعلى مراتبه ، فهل يمكنه كإنسان طبيعي أن يسكن زوجته وابنه الحبيب في صحراء قاحلة ومحرقة بلا ماءٍ ولا كلاء ليس لشيء إلّا امتثالاً لأمر الله تعالى ثمّ يعود من هناك إلى وطنه الأصلي؟

هذه الحادثة العجيبة تذكرنا بحادثة اخرى في سيرة إبراهيمعليه‌السلام العظيم ، وهي عند ما وضعه مخالفوه وأعداؤه المعاندون في قفص الإتهام بسبب تحطيمه أصنامهم ، فكان إبراهيم على وشك أن يُقتل ولكنه مع ذلك لم يترك السخرية من أصنامهم وعقائدهم الزائفة وكان ينطلق في حواره معهم من موقع المنطق والدلائل القوية في عملية إبطال منطقهم الخرافي وإثبات زيف مدّعياتهم الواهية.

«الآية الرابعة» تشير إلى قصة شعيبعليه‌السلام الّذي جاء بعد فترة من النبي هودعليه‌السلام وقُبيل

__________________

١ ـ سورة هود ، الآية ٥٦.

٢ ـ سورة إبراهيم ، الآية ٣٧.

٢٣٦

موسىعليه‌السلام ، حيث وقف مقابل المشركين من قومه وتصدّى لعقائدهم وتهديداتهم ومؤامراتهم من موقع الاستهزاء والسخرية ، وكان يقول لهم في حكايته عن دعوته ورسالته السماوية :( ... إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) (١) .

أجل فأنا لا أخاف من شيء لاعتمادي على إيماني بالله والتوكل على ذاته المقدسة وسأستمر في خطّ الرسالة والدعوة إلى الله والإصلاح ما أمكنني ذلك وبالاتكال على الله.

والجدير بالذكر أنّ شعيب ولغرض تنفيذ عملية الإصلاحات الواسعة الّتي كان يتحرّك باتجهاهها في مجتمعه الفاسد كان يعتمد على ثلاث دعائم :

الاولى : تهيئة المقدّمات للعمل من قبل الله تعالى حيث تشير إلى ذلك كلمة«توفيقي» ، ثمّ بالإنطلاق من عزم راسخ وارادة قوية بالشروع بالعمل والإصلاح ، وذلك بقوله«عليه توكلت» ، ثمّ أن تكون للإنسان المصلح دوافع سليمة وبنّاءة للقيام بعملية الإصلاح ، وهو ما أشار إليه بقوله(إليه انيب).

وتتحرّك«الآية الخامسة» لتستعرض لنا كلام يعقوب لأولاده ، ويعقوب هو الجدّ الأعلى لبني إسرائيل والّذي كان يعيش في مضيقة شديدة في ذلك الزمان ، فمن جهة فقد ابنه العزيز يوسف ، ومن جهة اخرى كان يعيش القحط الشديد في كنعان الّذي أصاب الناس في تلك المناطق ، فكانوا يواجهون التحديات والظروف الصعبة بسبب ذلك ، وبالتالي وجد نفسه مجبراً على أن يودع ابنه الآخر (بنيامين) بيد ابنائه الآخرين الّذين كانوا يعيشون الجفاف الروحي والعاطفي ، وذلك لغرض تحصيل القوت والطعام من أرض مصر ويحصلوا على المساعدة من عزيز مصر ، وهنا أوصى يعقوب ابناءه المتجهون إلى مصر بقوله :( وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) (٢) .

ثمّ أضاف : انني بهذه التوصية لا أستطيع أن أصُدّ عنكم البلاء أو أمنع عنكم ما قدّر الله

__________________

١ ـ سورة هود ، الآية ٨٨.

٢ ـ سورة يوسف ، الآية ٦٧.

٢٣٧

لكم ،( ... وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) (١) .

وعلى هذا الأساس فإنّ يعقوب أوصى أولاده بوصايا خاصة لمقابلة الحوادث المتوقعة ، ولكنه أكد عليهم أنّه بهذه التوصية لا يستطيع أن يقف مقابل الحوادث أو يضع تدبيراً حاسماً لجميع المشكلات والمصاعب الّتي سيواجهونها في سفرهم هذا ، بل انّ عليه أن يضع ما يمكنه من الحلول والتوصيات ، وأمّا الباقي فيجب أن يتوكلوا على الله تعالى.

وبهذا فإنّ يعقوب في الحقيقة قد أوصاهم بالتوكل على الله ، وقد ذكر الدليل والسبب في تأكيده على هذا المعنى ، وهو انّ جميع الامور بيد الله تعالى :( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) .

إذن فينبغي على الإنسان أن يعيش التوكل والاعتماد على هذه القدرة المطلقة والّتي لا توجد أية قدرة اخرى في مقابلها في عالم الوجود.

ومن الواضح أنّ المراد بكلمة (الحكم) هنا هو (الحكم التكويني) لله تعالى في عالم الخلقة والّتي تعود جميع الأسباب لديه وليست ناظرة إلى الحكم التشريعي. (فتأمل).

وتتعرض«الآية السادسة» إلى ما جرى بين موسىعليه‌السلام وقومه بني إسرائيل ، وذلك عند ما أظهر موسى دعوته الإلهية وأبرز معجزاته العظيمة ولكن مع ذلك لم يؤمن به جميع بني إسرائيل بل آمن به واتبعه جماعة منهم ، في حين انّ بني إسرائيل كانوا مستضعفين بأجمعهم من قبل الفراعنة وكانوا يعيشون الخوف وشدّة العذاب من قبل فرعون وقومه ، فعند ما نرى أنّ زوجة فرعون وبسبب اعلانها الإيمان بموسىعليه‌السلام قد وضعت تحت طائلة العذاب الشديد من قبل زوجها فرعون ، فمن الواضح ما كان تعامل فرعون مع سائر بني إسرائيل ، ولهذا السبب فإنّ موسى بن عمران ولغرض ايجاد حالة من الطمأنينة والهدوء النفسي في قومه وإزالة عنصر الخوف والرعب المسلّط عليهم أمرهم بالتوكل على الله ،( وَقالَ مُوسى

__________________

١ ـ سورة يوسف ، الآية ٦٧.

٢٣٨

يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ) (١)

وهذا يعني انكم لا يمكنكم التصدي لمثل هذا الحاكم الجائر ومواجهته من موقع القوّة والخلاص من شرّه إلّا بالتوكل على الله تعالى.

ومن البديهي أنّ موسىعليه‌السلام نفسه كان في مرتبة متقدمة من هذا الأمر من حيث تجسيده لمعنى التوكل في ممارساته العملية ، ولو لم يكن يتمتع بمقام التوكل فكيف يستطيع وهو راعٍ للأغنام بدون أن يتمتع بأية قدرة ظاهرية مواجهة أعتى قوّة وحكومة في ذلك الزمان؟

وهكذا لبّى المؤمنون من بني إسرائيل نداء موسىعليه‌السلام ( فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا ) (٢) .

ثمّ توجّهوا إلى الله تعالى وقالوا :( ... رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (٣) .

والمقصود من(فتنة) في الآية الأخيرة هو ما قد يتعرضون له من التعذيب والتنكيل على يد أزلام فرعون ، وقد وردت هذه الكلمة في سورة (البروج) في مورد أصحاب الأخدود ، وكذلك في الآية ٨٣ من هذه السورة مورد البحث والّتي أشرنا إليها سابقاً.

ويُحتمل أنّ المراد من(الفتنة) في كلا الموردين هو عملية الإنحراف عن خطّ التقوى والطاعة والإيمان ، لأن الفراعنة لو تسلّطوا على المؤمنين لرأوا ذلك دليلاً على حقانيّتهم ولاستمروا في طريق الإنحراف بأقدام ثابتة وعزم راسخ أكثر من السابق.

وتستعرض«الآية السابعة» في إطار الحديث عن الأزمنة الّتي تلت عصر موسىعليه‌السلام حيث كان بنو إسرائيل يعيشون العناء والظلم على يد سلطان جبّار يُسمّى(جالوت) ، فكان أن اضطروا إلى اللجوء لنبي لهم يُدعى(إشموئيل) وطلبوا منه أنّ يُعيّن لهم قائداً يقود جيوشهم نحو مواجهة جالوت والتخلّص منه واستعادت أراضيهم وبيوتهم منه ، فعيّن إشموئيل

__________________

١ ـ سورة يوسف ، الآية ٨٤.

٢ ـ سورة يونس ، الآية ٨٥.

٣ ـ المصدر السابق.

٢٣٩

طالوت ملكاً وقائداً عليهم والّذي كان شاباً قوياً وعارفاً بالامور ولائقاً لهذا المقام من كلّ جهة ، ولكن بني إسرائيل رفضوا الإذعان لهذا التعيين ، ثمّ قبلوا به أخيراً بعد أنّ بيّن لهم نبيّهم الخصوصيات والمميزات الفريدة في طالوت.

أمّا طالوت فقد اختبر جيشه بعدّة اختبارات ليهيئهم أكثر من الناحية النفسية والروحية لجهاد العدو.

والآية مورد البحث تتحدّث عن الفترة اللاحقة لذلك حيث تستعرض منظر الواقعة بين طالوت وجيشه من جهة ، وجالوت وجيشه العظيم من جهة اخرى ، وتقول :( وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) (١) .

فصحيح أنّ جيش طالوت كان يعاني القلّة في أفراده بالنسبة لجيش جالوت الجرار وما يتمتعون به من سلاح وامكانات حربية واسعة ، ولكن الشيء الّذي أخلّ بالموازنة وأربَكَ المعادلة لصالح المظلومين من بني إسرائيل وبالتالي كتب لهم النصر والغلبة على عدوهم القوي هو الإيمان بالله والتوكل عليه ومواجهة العدو من موقع الصبر والاستقامة في طريق نصرة الحقّ.

ولهذا السبب فإنّ الآية الّتي تليها تُصرح بهذه النتيجة الباهرة وتقول :( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ ) .

وبديهي أنّ حالة الصبر والاستقامة هي السبب في ثبات القدم ورسوخ المواقع ، وثبات القدم سببٌ لتحقيق النصر ، ولهذا ورد ذكر هذه الامور الثلاثة بالترتيب في دعائهم المذكور في الآية الشريفة ، ومعلوم أنّ روح هذه الامور الثلاثة تكمن في الإيمان والتوكل على الله تعالى.

وتأتي«الآية الثامنة» لتتحدّث عن نبي الإسلام ومقام توكله على الله تعالى ، فعند ما كان يواجه المشكلات والضغوط الصعبة في حركته التبليغية علّمه الله تعالى كيف يتغلب على

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٥٠.

٢٤٠