• البداية
  • السابق
  • 417 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15199 / تحميل: 3342
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق في القرآن

الأخلاق في القرآن الجزء ٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٨١٣٩-٢٥-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

٨ ـ ونختم هذا البحث الطويل بحديث شريف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يتحدّث فيه عن مفتاح الجنّة والنار ويقول :«إِنّ رَجُلاً جاءَ إِلى النَّبِيِّ فَقالَ يا رَسُولَ اللهِ ما عَمَلُ الجَنَّةِ؟ قَالَ : الصِّدقُ ، إِذا صَدَقَ العَبدُ بِرَّ وإذا بَرَّ آمَنَ ، وإذا آمَنَ دَخَلَ الجَنَّةَ قَالَ : يا رَسُولَ اللهِ وَما عَمَلُ النَّارِ؟ قَالَ : الكِذبُ ، إِذا كَذِبَ العَبدُ فَجَرَ ، وَإِذا فَجَرَ كَفَرَ ، وإِذا كَفَرَ دَخَلَ النَّارَ» (١) .

والملفت للنظر أنّ هذا الحديث الشريف يعدّ الصدق منبع الخير والصلاح وبالتالي فهو منبع الإيمان أيضاً ، وما ذلك إلّا لأنّ الفاسق يتحرّك في تبرير أعماله الدنيئة من موقع الكذب والدجل والخداع ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّ روح الإنسان ستضعف بسبب الكذب وتدريجياً يضعف الإيمان أيضاً وبالتالي يفضي ذلك إلى الكفر والسقوط من درجة الإنسانية كما قال القرآن الكريم : «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون»(٢) .

٩ ـ ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قوله«إذا أَحَبَّ اللهُ عَبدَاً أَلهَمَهُ الصِّدقَ» (٣) .

١٠ ـ ونختم هذا البحث بحديث آخر عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال :«أَربَعٌ مَنْ اعطِيَهُنَّ اعطِي خَيرَ الدُّنيا وَالآخِرَةِ صِدقُ حَدِيثٍ وَأَداءُ أَمانَةٍ وَعِفَّةُ بَطنٍ وَحُسنُ الخُلقٍ» (٤) .

ومن مجموع هذه الأحاديث الشريفة يمكننا أن نستوحي نكات مهمّة في دائرة هذه الصفة الأخلاقية :

إنّ الصدق هو أحد الطرق التي تتجلّى فيها شخصية الإنسان وإيمانه وبذلك يمكن اختباره من هذا السبيل.

إنّ الدعوة إلى الصدق هي أحدى البنود الأساسية لدعوة الإنبياء والمرسلين في خط

__________________

(١) ميزان الحكمة ، ج ٣ ، ص ٢٦٧٤.

(٢) سور الروم ، الآية ١٠.

(٣) غرر الحكم.

(٤) المصدر السابق.

١٨١

التكامل المعنوي والإلهي.

إنّ الصدق يتسبب في طهارة الأعمال وقبول الأفعال.

إنّ المقام المعنوي للإنسان عند الله تعالى يدور مدار الصدق.

إنّ أكرم الناس هم الصادقون.

إنّ الصدق يتسبب في النجاة في الآخرة.

إنّ الصدق أقوى دعائم الدين.

إنّ الصدق مفتاح الجنّة.

الصدق علامة محبوبية الإنسان لدى الله تعالى.

إنّ الإنسان الصادق سينال خير الدنيا والآخرة.

ونظراً إلى هذه النتائج والمعطيات العشرة للصدق يتّضح جيداً أنّ هذه الصفة الأخلاقية المهمّة لا تلحقها صفة اخرى بهذه المعطيات الكثيرة.

بقي هنا في هذا الموضوع المهم أن نذكر عدّة امور (رغم أنّه قد أشرنا إليها في ضمن الأبحاث السابقة).

١ ـ تأثير الصدق في حياة الإنسان

بالرغم من أنّ تأثير الصدق في حياة الإنسان يعدّ بديهيّاً وتوضيح هذا الأمر يعدّ من توضيح الواضحات ، ولكن عند ما ندخل تفاصيل المسألة نواجه المعطيات الإعجازية الكبيرة للصدق في جميع مفاصل الحياة البشرية ، والالتفات إلى هذه المعطيات المهمّة بإمكانه أن يكون دافعاً قوياً للتحلّي بهذه الصفة الأخلاقية الكبيرة.

وأول تأثير للصدق في حياة الإنسان هو مسألة الثقة وجلب الاطمئنان والاعتماد المتقابل بين أفراد المجتمع في حركة التفاعل الاجتماعي.

ونعلم أنّ أساس الحياة الاجتماعية للإنسان هو العمل على المستوى الجماعي ولا يتسنى ذلك إلّا بأن يتعامل أفراد المجتمع فيما بينهم من موقع الثقة المتبادلة واعتماد البعض

١٨٢

على البعض الآخر ، وهذا المعنى لا يتحصّل إلّا بتوفر عنصر الصدق والأمانة بينهم ، أجل فإنّ أهم وسيلة مؤثّرة في جذب إعتماد الناس هو الصدق ، وأخطر وسيلة وأداة لهدم العلاقات الاجتماعية وتخريب أواصر المودّة بين الأفراد هو الكذب ، ولا فرق في هذا الأمر بين المجالات العلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية.

فالرجل السياسي المحنّك والذي يعتمد عليه الناس إذا تورط في مورد أو عدّة موارد من الكذب وسمع منه الناس ذلك ، فإنّهم سيتباعدون عنه وبهذا يخسر نفوذه وشخصيته بين الناس.

والعالم أو المكتشف إذا تلّوث بالكذب في تحقيقاته العلمية فقد إعتماد المحافل العلمية باختراعاته وتحقيقاته وبالتالي تذهب أتعابه أدراج الرياح وتكون تحقيقاته المدوّنة حبراً على ورق.

المؤسسات الاقتصادية أيضاً إذا تعاملت في الأعلان عن منتوجاتها وبضائعها من موضع الكذب والدجل فإنّ الناس سوف لا يثقون بمنتوجاتها بعد ذلك وسوف تخسر هذه المؤسسات زبائنها سريعاً.

وفي دائرة الإدارة إذا لم يصدق المدير مع مرؤوسيه وموظفيه فإنّ نظم هذه الدوائر أو المؤسسة سوف يتلاشى بالتأكيد ، وعلى هذا نصل إلى هذه النتيجة وهي أنّ أساس جميع أشكال التقدّم المعنوي والمادي في المجتمع يتمثّل بالاعتماد المتقابل بين الأفراد والذي يعتمد بدوره على الصدق.

ولذلك ورد في الرواية الشريفة عن أمير المؤمنين أنّه قال :«الصِّدقُ صلاح كُلِّ شيءٍ والكِذبُ فَسادُ كُلِّ شَيءٍ» (١) .

وقال أيضاً في حديث آخر :«الكَذِّابُ والمَيِّتُ سَواءٌ فإنَّ فَضِيلَةَ الحَيِّ عَلَى المَيِّتِ الثِّقَةُ بِهِ ، فَإذا لَمْ يُوثَقُ بَكلامِهِ فَقَد بَطَلَتْ حَياتُهُ» (٢) .

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ المصدر السابق.

١٨٣

والأمر الآخر هو أنّ الصدق يهب لصاحبه شخصية اجتماعية مرموقة في حين أنّ الكذب يتسبب في فضيحته وذهاب ماء وجهه وسمعته ، والإنسان الصادق يعيش حياة العزّة والكرامة دائماً أمّا الكاذب فيعيش حالة الدناءة والحقارة والانتهازية.

ولهذا ورد عن أمير المؤمنين أنّه قال :«عَلَيكَ بِالصِّدقِ فَمَنْ صَدَقَ فِي أَقوالِهِ جَلَّ قَدرُهُ» (١) .

ومن جهة ثالثة نجد أنّ الصدق والأمانة يهبان للإنسان الشجاعة والشهامة في حين أنّ الكذب والخيانة يجرّان الإنسان إلى السقوط في هوة الخوف والفزع من إنكشاف أمره وافتضاح حاله وبالتالي خسران جميع ما أعدّه سلفاً لحياة كريمة وسعيدة من خلال الكذب والخداع والخيانة.

ومن جهة رابعة فإنّ الصدق بإمكانه أن ينقذ الإنسان من كثير من الذنوب والآثام ، لأنّه في حال ما لو ارتكب ذنباً معيناً ثمّ سأل عنه فإنّه لا يستطيع الإقرار بهذا الذنب والاعتراف به ، فمن الأفضل له أن لا يرتكبه سلفاً.

وقد ورد في الحديث الشريف المعروف عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه جاء رجل إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : أنا يا رسول الله استسر بخلال أربع ، الزنا ، وشرب الخمر ، والسرقة ، والكذب ، فأيّتهنّ شئت تركتها لك ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«دع الكذب».

فلما ولى هم بالزنا فقال : يسألني فان جحدت نقضت ما جعلت له وإن أقررت حددت ، ثم هم بالسرقة ثم بشرب الخمر ففكر في مثل ذلك فرجع إليه فقال : قد أخذت عليَّ السبيل كلّه فقد تركتهنّ أجمع(٢) .

ومن جهة خامسة نجد أنّ الصدق يعمل على حلّ الكثير من المشاكل والأزمات في المجتمع ويسهّل للإنسان الوصول إلى مقصده ويقلّل من نفقات المسير ويهب الناس هدوءاً وطمأنينة ويزيل الاضطراب والقلق والتوتر الذي ينشأ من حالات احتمالات الكذب في

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي اللحديد ، ج ٦ ، ص ٣٥٧.

١٨٤

أقوال الطرف الآخر ويوطد أركان المحبّة ويعمّق وشائج المودّة بين أفراد المجتمع وبذلك يفضي على شخصية هؤلاء الأفراد نوراً وبهاءً أكثر ، وقد أشارت الروايات الكريمة إلى هذا المعنى أيضاً وأنّ شخصية الإنسان الذاتية هي التي تدعو لئن يكون الإنسان صادقاً كما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله :«أَحسَنُ مِنَ الصِّدقِ قائِلُهُ وَخَيرٌ مِنَ الخَيرِ فاعِلُهُ» (١) .

ونختم هذا الكلام بحديث شريف عن أمير المؤمنينعليه‌السلام كشاهد صدق على هذا المطلب حيث يقول :«يَكتَسِبُ الصَّادِقُ بِصِدقِهِ ثَلاثاً ، حُسنُ الثِّقَةِ والمَحَبَّةِ لَهُ وَالمَهابَةُ مِنهُ» (٢) .

٢ ـ دوافع الصدق

إنّ هذه الفضيلة الأخلاقية كسائر الفضائل الأخلاقية الاخرى لها جذور ودوافع في أعماق روح الإنسان منها :

الف : الاعتماد على النفس وعدم الشعور بالحقارة والدونية ، حيث تدعوه هذه الحالة النفسية الإيجابية إلى الصدق والتعامل مع الآخرين من موقع الثقة بالنفس والواقع.

ب : الشجاعة والشهامة الذاتية والاكتسابية فلا يخاف من ذكر الامور الواقعية.

ج : الطهارة القلبية من أدران الذنوب وعدم وجود نقطة ضعف في شخصية الإنسان تدعوه إلى قلب الواقع ، في حين أنّ الملّوث بالعيوب والخطايا قد يدعوه ذلك إلى الكذب لتغطية نقاط الضعف هذه.

د : والأهم من ذلك جميعاً هو أن يتجلّى الإنسان بالإيمان بالله والآخرة ويتحرّك في خط التقوى والاستقامة ، فذلك من شأنه أن يكون عاملاً أساسياً للصدق ، ولهذا السبب ورد في الحديث المعروف في نهج البلاغة قولهعليه‌السلام :«أَن تُؤثِرَ الصِّدقَ حَيثُ يَضُرُّكَ عَلَى الكِذبِ حَيثُ يَنفَعُكَ» (٣) .

٣ ـ مفهوم الصدق

ورغم أننا نفهم من هذه المفردة وضوح المعنى والمفهوم ، ولكن في نفس الوقت هناك

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٦٨ ، ص ٩.

٢ ـ غرر الحكم.

٣ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الرقم ٤٥٨.

١٨٥

خلاف كثير بين العلماء في تعريفها ، فالبعض ذهب إلى أنّ الصدق هو مطابقة محتوى الكلام للواقع ، في حين ذهب البعض الآخر إلى أنّ الصدق هو مطابقة الكلام لاعتقاد الشخص واستدل بالآية الشريفة من سورة المنافقين حيث يقول تعالى :( إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ ) (١) .

ومن البديهي أنّ المنافقين الذين يشهدون على نبوّة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله تكون شهادتهم هذه مطابقة للواقع ، ولكن بما أنّها غير مطابقة لاعتقادهم ، فلذلك ذكرهم الله تعالى بأنّهم كاذبون ونسبهم إلى الكذب ، لأنّ هؤلاء يستخدمون هذه الشهادة بنبوّة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كأداة للتغطية على شخصيتهم حيث يكون مفهوم كلامهم أنّ هذه الشهادة مطابقة لاعتقادهم الباطني ، وبما أنّ هذا الكلام غير مطابق لواقعهم ، فلذلك كانوا كاذبين ، أي أنّ هؤلاء يكذبون في ادعاءاتهم أنّ هذه الشهادة مطابقة لمعتقدهم الباطني ، وعلى هذا الأساس يتبيّن أنّ الصدق على كل حال هو تطابق الكلام مع الواقع سواءاً كان الواقع الخارجي أو الباطني.

ولكننا نقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنينعليه‌السلام تعريفاً آخر للصدق والكذب وهو ناظر إلى بعد العبودية لله تعالى حيث يقول :«الصِّدقُ مُطابَقَةُ المنَطِقِ لِلوَضعِ الإِلَهي والكِذبُ زَوالُ المَنطِقِ عَنِ الوَضعِ الإِلَهي» (٢) .

والمقصود من الوضع الإلهي ظاهراً هو وضع عالم الخلقة والوجود ، الذي يتحرّك بإرادة الله تعالى ، وعليه فإنّ هذا التعريف لا يخرج عن إطار التعريف السابق إلّا بدخوله في دائرة المضمون التوحيدي.

وبالطبع فإنّ الصدق والكذب كما يجريان في كلام الشخص فكذلك يجريان في عمله وسلوكه أيضاً ، فالأشخاص الذين يخالف عملهم ظاهرهم فإنّهم كاذبون من هذه الجهة ، والأشخاص الذين يتطابق ظاهرهم مع باطنهم وأعمالهم ، فإنّهم صادقون أيضاً.

__________________

١ ـ سورة المنافقون ، الآية ١.

٢ ـ غرر الحكم.

١٨٦

٨

الكذب وآثاره وعواقبه

تنويه :

كان من المفروض أن نبحث الصدق والكذب في فصل واحد للملازمة الشديدة بينهما ، ولأنّ أحدهما لا يعرف بدون الآخر ، ولكن بما أنّ هذه المسألة وردت في الآيات والروايات الشريفة وكلمات علماء الأخلاق بصورة منفصلة رأينا أنّ من الأفضل التفكيك بينهما لنؤدي المطلب حقّه من البحث والتفصيل.

أجل فإنّ المفاهيم الإسلامية تؤكّد كثيراً على مسألة محاربة الكذب والدجل إلى درجة أنّ الكاذبين في النصوص الدينية في عداد الكفّار والملحدين وأنّ الكذب هو مفتاح جميع الذنوب كما ورد التصريح بذلك في الروايات الشريفة ، بل إنّ الإنسان ما لم يترك الكذب بشتى أنواعه وأقسامه لن يذوق طعم الإيمان أبداً.

ونكتفي بهذه الإشارة إلى آثار الكذب وأخطاره لنعود إلى القرآن الكريم ونستوحي من آياته ما يتعلّق بهذا المفهوم والصفة الأخلاقية الذميمة :

١ ـ( إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ ) (١) .

__________________

١ ـ سورة النحل ، الآية ١٠٥.

١٨٧

٢ ـ( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ ) (١) .

٣ ـ( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) (٢) .

٤ ـ( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) (٣) .

٥ ـ( وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) (٤) .

وفي مسألة التكذيب الإلهي الذي هو أيضاً نوع من الكذب ، وردت تعابير مهمّة في القرآن الكريم ، منها :

٦ ـ( قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ) (٥) .

٧ ـ( ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) (٦) .

تفسير واستنتاج :

«الآية الاولى» تتحدّث عن أنّ الكاذب هو الشخص الذي إنعدم فيه الإيمان بالله تعالى وأنّ الكاذب الحقيقي هو غير المؤمنين فتقول :( إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ ) .

وهذا في الوقت الذي كان فيه أعداء الإسلام من المشركين الجاهليين عند ما يرون بعض آيات القرآن الكريم قد نسخت بسبب تغيير الظروف الزمانية وإستبدلت الأحكام السابقة بأحكام جديدة ، فكان ذلك ذريعة لديهم في إتهامهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالكذب ، وقولهم أنّ هذا النبي له معلّم يعلّمه هذه الآيات (ومرادهم من المعلّم غلامين نصرانيين أحدهما يدعى يسار ، والآخر جبر ، أو رجل نصراني يدعى بلعام الرومي) في حين أنّ القرآن الكريم نزل بلسان عربي فصيح وهؤلاء كانوا من الأعاجم.

__________________

١ ـ سورة الزمر ، الآية ٣.

٢ ـ سورة غافر ، الآية ٢٨.

٣ ـ سورة التوبة ، الآية ٧٧.

٤ ـ سورة البقرة ، الآية ١٠.

٥ ـ سورة يونس ، الآية ٦٩.

٦ ـ سورة آل عمران ، الآية ٦١.

١٨٨

القرآن الكريم في مقام الجواب على إدّعاءات المشركين الواهية يقرّر أنّ النبي الأكرم يتلقى الوحي الإلهي الذي ينزل به روح القدس من الله تعالى وأنّ آثار الإيمان والصدق جليّة في كلامه ، والأشخاص الذين يكذبون في كلامهم لا يؤمنون بالله تعالى ، أي أنّ الإيمان لا يجتمع مع الكذب ، والمؤمن الحقيقي لا يتحرّك لسانه من موقع الكذب اطلاقاً.

وجملة (يفتري الكذب) في الواقع تأكيد على كذبهم ، أي أنّهم يرتكبون الكذب والتهمة في نفس الوقت ، أو كما يقول الطبرسي في مجمع البيان بمعنى (يخترع الكذب) وهذا يعني أنّهم يختلقون كلاماً لا أصل له (الافتراء بمعنى فرية ، هو في الأصل بمعنى قطع ، ثم استعمل في كل عمل سلبي ومذموم ومنه الشرك والكذب والتهمة).

وفي الواقع فإنّ النسبة بين الكذب والافتراء هي نسبة العموم والخصوص المطلق ، فالكذب يعني كل كلام مخالف للواقع ، ولكنّ الافتراء أو التهمة هي أن يكون الكلام يحتوي في مضمونه على نسبة عمل مذموم إلى شخص معيّن.

ويحتمل أنّ قوله (يفتري الكذب) إشارة إلى رؤساء المشركين وقادة الكفر حيث يختلقون الكذب والعناوين من قبيل شاعر وساحر وينسبونها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويتبعهم الآخرون بذلك.

وعلى أية حال فإنّ الآية أعلاه تبيّن بوضوح أنّ الكذب لا يجتمع مع الإيمان اطلاقاً ، ولذلك ورد في تفسير هذه الآية رواية عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما سُئل :«يا رَسُولَ اللهِ المُؤمِنُ يَزني؟ قال : بلى ، قالوا : المُؤمِنُ يَسرُقُ؟ قال : بلى ، قالوا : المُؤمِنُ يَكذِبُ؟ قال : لا ، ثُمَّ قرأ هذه الآية ..» (١) .

وبالطبع فلا بدّ من ملاحظة أنّ الإيمان له مراحل ومراتب مختلفة.

«الآية الثانية» من الآيات محل البحث تصّرح( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ ) .

__________________

١ ـ الطبرسي في مجمع البيان ؛ ابو الفتوح الرازي في تفسير روح الجنان ، في ذيل الآية المبحوثة.

١٨٩

ومن المعلوم أنّ الهداية والضلالة هما بيد الله تعالى حتى النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يتمكن أن يهدي شخصاً ما لم تتعلّق بذلك مشيئة الله تعالى وإرادته كما ورد في الآية الشريفة :( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (١) .

ولكن هذا لا يعني أنّ الله تعالى يجبر بعض الناس على الهداية والبعض الآخر على الضلالة والانحراف ، ثمّ يهب الجنّة ونعيمها الدائم الى الطائفة الاولى ويرسل الطائفة الثانية إلى النار ، فهذا هو مذهب الجبر الذي لا ينسجم مع العقل والمنطق ولا مع العدل الإلهي.

والمقصود من ذلك أنّه متى ما تهيأت الأرضية للهداية والضلالة في الإنسان بواسطة أعماله وأفعاله فإنّ الله تعالى سيمدّه بما يتوافق مع لياقته وقابلياته ، فيعين الطائفة الاولى للوصول إلى كمالهم المعنوي في خط الإيمان والعبودية والطاعة ويزيدهم من فضله ولطفه ، ويرفع يده عن الطائفة الثانية ليبقوا في حيرتهم وفي دوّامة من السلوكيات المنحرفة والعقائد الباطلة التي لا يصلون معها إلى مقصودهم النهائي.

ومن أهم الامور التي توفّر الأرضية للضلالة والزيغ والانحراف هو الكذب والاسراف وكفران النعمة التي وردت في هاتين الآيتين حيث يفهم بوضوح من سياق هاتين الآيتين أنّ من يقول بالجبر وأنّ الله تعالى هو الذي يهدي ويضل عباده دون أن يكون لهم الخيرة في ذلك فإنّ كلامهم هذا واعتقادهم مجانب للحق والصواب كثيراً وأنّ استدلالهم بهاتين الآيتين هو في الواقع خلاف الظاهر من جو هاتين الآيتين وسياقهما.

أجل ، فإنّ الكذب يعتبر من أهم العوامل في اضلال الإنسان وشقائه.

ويمكن أن يكون مورد هاتين الآيتين هو نسبة الكذب إلى الله تعالى والانحراف عن أصل التوحيد ، ولكنّ المورد لا يخصص الوارد كما في الاصطلاح ، أي أنّ خصوصية المورد لا تمنع من عمومية الحكم الوارد في هاتين الآيتين.

أمّا العلاقة بين الكذب وكفران النعمة الوارد في الآية الاولى فهو يشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ بني اسرائيل كفروا بنعمة وجود موسىعليه‌السلام فيما بينهم لهدايتهم وكذّبوه ، والعلاقة بين

__________________

١ ـ سورة القصص ، الآية ٥٦.

١٩٠

الاسراف والكذب في الآية الثانية هو من جهة أنّ الفراعنة تحرّكوا من موقع عصيان الأمر الإلهي وظلمهم لبني اسرائيل وقتل أولادهم ، فهؤلاء سلكوا طريق الاسراف وكذّبوا بنبوّة موسىعليه‌السلام .

«الآية الرابعة» تستعرض اسلوب المنافقين في التظاهر بالإيمان والعمل الصالح وتتحدّث عن (ثعلبة بن حاطب الأنصاري) الذي كان قد عاهد الله تعالى أنّه إذا رزقه مالاً كثيراً فإنّه سيتصدّق على الفقراء والمساكين ولكنّ سلوكه العملي كان مخالفاً لقوله ووعده حيث نقض عهده مع الله تعالى بعد أن رزقه المال والثروة وأصبح من الموسرين ، ويقول الله تعالى في هذه الآية :( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ) .

ثم تضيف الآية أنّ ذلك كان بسبب نقضهم للعهد وكذبهم على الله تعالى :( بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) .

والجدير بالذكر أنّ نقض العهد مع الله تعالى يعتبر نوع من الكذب العملي.

وعلى أية حال فالآية أعلاه تصرح بأنّ نقض العهد كذب يورث الإنسان روح النفاق في قلبه إلى آخر حياته ، وما أشدّ هذه العقوبة في دائرة أركان الشخصية ودعائمها.

أمّا العلاقة بين هذين الذنبين (نقض العهد والكذب) وبين النفاق فواضحة ، لأنّ النفاق ليس شيئاً سوى اختلاف الظاهر والباطن وأن يكون الإنسان ذا لسانين كما في اصطلاح الروايات ، ونقض العهد والكذب أيضاً هو عبارة عن التظاهر بالتمسك والانضباط بالوعد وبالميثاق من موقع المسؤولية والتعهد القلبي في حين أنّ الواقع الباطني لا يتطابق مع هذا الظاهر الخادع.

أجل ، فإنّ الكثيرين من أمثال ثعلبة بن حاطب الأنصاري عند ما يعيشون حالة الضيق والعسر في حركة الحياة يلجأون إلى الله تعالى بجميع وجودهم وكيانهم ليحل لهم مشكلاتهم ويبذلون له العهود والمواثيق والنذور في هذا السبيل ، ولكن عند ما يستجيب الله تعالى لهم وتنفرج الأزمة ويحصلون على ما يريدون يتعاملون مع عهودهم ومواثيقهم من

١٩١

موقع النسيان والتغافل ، وهذا هو المصداق لنقض العهد والكذب والنفاق في عملية التعامل مع الحياة والواقع (نسأل الله تعالى أن يحفظنا من شرّ هذه الآثام والسلوكيات الدنيئة).

«الآية الخامسة» تتحدّث عن صفات وأعمال المنافقين القبيحة وتسلّط الضوء خاصة على مسألة الكذب وتقول :( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) .

فهذه الآية لم تتحدّث بشكل دقيق عن نوع الكذب الذي كانوا يرتكبونه ولعله إشارة إلى الكذب الذي أشارت إليه الآية السابقة ، ومن ذلك إدّعائهم الإيمان بالله في حين أنّهم غير مؤمنين في قلوبهم ، والآخر الخداع والغش الذي كانوا يمارسونه مع المؤمنين ويستغفلونهم في عملية التعامل معهم ، والأهم من ذلك أنّهم كانوا يستفيدون من كل فرصة في سبيل تكذيب الرسالة الإلهية والرسول الكريم ، ولكن على أيّة حال ، فإنّ هذه الآية تقول : إنّ العذاب الأليم الذي ينتظر هؤلاء هو بسبب كذبهم ، وهذا يدل على أنّ أشدّ وأشنع أعمال المنافقين هو أنّهم كانوا يرتكبون الكذب ويخترعون الإفك ، بالرغم من أنّهم كانوا يرتكبون ذنوباً كثيرة إلى جانب الكذب.

ومن الواضح أنّ المقصود بالمرض في هذه الآية هو مرض النفاق الذي يعدّ مرضاً أخلاقياً ناشئاً من انفصام شخصية المنافق واهتزاز وجدانه بحيث يعيش بين الناس بلسانين ووجهين وظاهره يختلف عن باطنه.

«الآية السادسة» تتحرّك على مستوى بيان قسم خاص من أقسام الكذب ، وهو الكذب على الله تعالى ، حيث تخاطب الآية الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وتقول :( قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ) .

أساساً فانّ الكذب لا يجتمع مع الفلاح والموفقّية في حركة الحياة وخاصّة إذا كان الكذب على الله والأنبياء الإلهيين ، والمراد من الكذب على الله في هذه الآية (وبقرينة

١٩٢

الآيات السابقة لها) هو أنّ المشركين كانوا يعتقدون بأنّ الملائكة هم بنات الله ، وقيل أنّ المراد هو دعوى المسيحيين بأنّ المسيح ابن الله ، وكذلك دعوى اليهود بأنّ عزير إبن الله ، وعلى أية حال فانّ نسبة هذه الامور إلى الله تعالى من الكذب الفاضح والجلي ، لأنّ الله تعالى ليس بجسم ولا يتصف بالعوارض الجسمانيّة وليست له زوجة وأبناء.

وأساساً فانّ فلسفة وجود الابن تكون معقولة في دائرة نظام الخلقة على مستوى الإنسان وحاجاته الفطرّية والطبيعية ، فانّ الإنسان يحتاج إلى الأبناء لبقاء النسل والقيام بمعونته وإسناده في حركة المعيشة الشاقّة أمام تحدّيات الواقع والحياة ، أمّا مفهوم الأبن بالنسبة إلى الله تعالى وهو الغني على الاطلاق والقادر على كل شيء فلا معنى له في دائرة العقل والمنطق.

ومن الجدير بالتأمّل أنّ الآية المذكورة اعتبرت عمل المشركين مصداقاً للكذب والافتراء ، وهذا يعني أنّ الكذب له مفهوم واسع يستوعب في مضمونه الإفتراء أيضاً (وكما في الأصطلاح أنّ النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص المطلق) فالكذب هو أن يتحدّث الإنسان بكلام مخالف للواقع سواءً كان يتحدّث عن شخص معيّن أو شيء آخر ، ولكنّ التهمة والافتراء هو نسبة عمل قبيح وغير واقعي إلى شخص معيّن ، فهنا يتحقق مصداق الكذب ومصداق التهمة أيضاً.

ونفس مضمون هذه الآية ورد في الآية ١١٦ من سورة النحل حيث تقول الآية :( إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ )

«الآية السابعة» والأخيرة من الآيات مورد البحث تستعرض واقعة المباهلة المعروفة والتي تستبطن في طيّاتها الكلام عن قسم خاص من أقسام الكذب ، أي نسبة الكذب إلى النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويترتّب على ذلك لعنة الله على الكاذبين حيث تقول الآية :( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) .

١٩٣

(المباهلة) في الأصل من مادّة بهل (على وزن سهل) بمعنى الترك للشىء ، وقد ورد في التفاسير أنّ المباهلة تعني في المصطلح الديني أن تجتمع فئتان كل واحد منهما على مذهب معيّن فيتحاجون وأخيراً يتلاعنون ويدعون الله تعالى بأن ينزل لعنته على الطرف الآخر الكاذب ، وأي فئة تحقّق في موردها اللّعن ونزل عليها العذاب فهذا دليل على حقّانيّة الطرف الآخر ، وقد حدث ذلك في صدر الإسلام بين نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ونصارى نجران ، فعند ما تقررّت المباهلة بينهما جاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه الإمام علي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام إلى ساحة المباهلة وكانت تبدوا على سيماهم المباركة آثار إستجابة الدعاء ، فتراجع النصارى عن إدّعائهم وصالحوا النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله على أمور مذكورة بالتفصيل في التفاسير الشريفة ذيل هذه الآية ولذلك لا حاجة إلى الإطالة والتفصيل.

والمراد من قوله :( فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) ، لبيان عظمة الكذب وأنّه يستحق نزول اللّعنة على صاحبه.

والآية أعلاه والتي إستعرضت تأكيدات قرآنية مهمّة بالنسبة إلى قبح الكذب وآثاره المشؤمة وعواقبه الوخيمة توضّح جيداً أنّ هذا الذنب إلى أي درجة من القبح والشر في دائرة المفاهيم القرآنية ، فينبغي على المؤمنين في المجتمع الإسلامي أن يعيشوا حالة التنفّر والكراهية لهذا النوع من السلوك الخاطيء والخلق الذميم ويتحرّكوا على مستوى تطهير مجتمعهم من شر هذه الخطيئة.

الكذب في الروايات الإسلامية :

ونقرأ في الروايات الإسلامية تعابير مثيرة ومدهشة تتحدث عن قبح الكذب وشناعته وفيما يلى نماذج منها :

١ ـ يستفاد من بعض الروايات أنّ الكذب مفتاح الذنوب ، كما ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام قوله :«إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِلشّرَّ اقْفالاً وَجَعَلَ مَفاتِيحَ تِلْكَ الأَقْفالِ الشَّرابَ ، وَالْكِذْبُ شَرٌّ مِنَ الشَّرابِ» (١) .

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٣ ، ص ٣٣٩.

١٩٤

٢ ـ وورد في حديث آخر عن الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام قوله :«جُعِلَتِ الْخَبائِثُ كُلُّها فِي بَيْتٍ وَجُعِلَ مِفْتاحُهُ الْكِذْبَ» (١) .

والعلّة في ذلك جليّة ، وهي أنّ الإنسان الكاذب عند ما يجد نفسه في معرض الفضيحة فأنّه يتحرك في عمليّة التغطية على نقائصه ومعايبه من موقع الكذب والخداع ، وبعبارة اخرى : إنّ الكذب يبيح له إرتكاب أنواع الذنوب من دون أن يخاف الفضيحة ، في حين أنّ الإنسان الصادق سيجد نفسه مضطراً إلى ترك سائر الذنوب لأنّ الصدق لا يسوغ له إرتكاب الذنب ، والخوف من الفضيحة بسبب الصدق يدعوه إلى ترك الذنوب.

وكما سبق وأن ذكرنا الحديث المعروف عن الرجل الذي جاء إلى النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ملّوث بأنواع الذنوب وطلب منه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يترك الكذب فقط فقبل منه ذلك ، وكان هذا سبباً في أن يترك جميع الذنوب(٢) .

٣ ـ ويستفاد من الأحاديث الاخرى أنّ الكذب لا ينسجم اطلاقاً مع الإيمان كما نقرأ في الحديث الشريف :«سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله يَكُونُ الْمُؤمِنُ جُبانَاً؟ قالَ : نَعَمُ ؛ قَيلَ وَيَكُونُ بَخِيلاً؟ قالَ نَعم ، قِيلَ يَكُونُ كَذاباً قالَ : لَا» (٣) .

ونفس هذا المضمون ورد بصورة اخرى عن أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يقول :«لا يَجِدُ الْعَبْدُ طَعْمَ الإِيِمانِ حَتّى يَتْرُكَ الْكِذْبَ هَزْلَهُ وَجِدَّهُ» (٤) .

ولكن لماذا لا ينسجم الكذب مع الإيمان؟ لأنّ الكذب إمّا أن يكون لغرض تحصيل الإنسان لمنفعة معيّنة أو للخلاص من مشكلة وأزمة ، فلو كان إيمان الإنسان قوياً ومستحكماً في القلب فأنّه يرى أنّ الخير والشر كلاهما بيد الله تعالى وهو الذي بأمكانه حلّ مشكلاته وإنقاذه من الازمات التي يمر بها في مواجهة تحدّيات الواقع والحياة وهو الذي يدفع عن الإنسان أنواع البلايا والمخاطر ، فلو أنّ الإنسان تمسك بغصن من أغصان التوحيد

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٦٩ ، ص ٢٦٣.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ، ج ٦ ، ص ٣٥٧.

٣ ـ جامع السعادات ، ج ٢ ، ص ٣٢٢.

٤ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٤ ، ح ١١.

١٩٥

الأفعالي واعتقد بذلك بصدق فلا يجد نفسه بحاجة إلى التمسّك بذيل الكذب حينئذٍ.

٤ ـ ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قوله :«وَشَرُّ الْقُولِ الْكِذُبُ» (١) ، لأنّ آثاره السلبية والمدّمرة أشد من كل ذنب آخر.

٥ ـ ونقرأ أيضاً في حديث آخر عن الإمام عليعليه‌السلام حيث يقرّر أنّ الكذب من أعظم الخطايا ويقول :«أَعْظَمُ الْخِطايا عِنْدَ اللهِ الْلِسَ انُ الْكَذُوبِ وشَرُّ النَّدامَةِ نَدامَةُ يَوْمِ الْقِيامَةِ» (٢) .

٦ ـ وورد في حديث آخر أنّ الكذب مصدر الفجور ومنبع الفحشاء وسبب الدخول في النار كما في الحديث الشريف عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث يقول :«إِيَّاكُم وَالكِذبَ فإنَّ الكِذبَ يَهدِي إِلَى الفُجُورِ وَإنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلَى النّارِ» (٣) .

٧ ـ إنّ الكذب لا يتناغم ولا ينسجم مع العقل كما ورد هذا المضمون في الحديث الشريف عن الإمام الكاظمعليه‌السلام أنّه قال :«إِنَّ العاقِلَ لا يَكذِبُ وَإِن كانَ فَيهِ هَواهُ» (٤) .

٨ ـ إنّ الكذب يبعد ملائكة الرحمة عن هذا الإنسان الكاذب ففي حديث عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :«إِذا كَذِبَ العَبدُ تَباعَدَ المَلَكُ مِنهُ مَسيرَةَ مِيلٍ مِنْ نَتِنِ ما جاءَ بِهِ» (٥) .

لأنّ الإنسان إذا تحرّك في تعامله مع الآخرين من موقع الكذب ، فإنّه يتظاهر في نفس الحال بمظهر الصدق في حين أنّ باطنه يختلف عن ذلك ، وهذا الاختلاف بين الظاهر والباطن نوع من أنواع النفاق ، ولذلك كان الكذب من جملة الأعمال الشائعة لدى المنافقين.

١٠ ـ إن الكاذب يخسر اعتماد الناس وثقتهم به كما نقرأ ذلك في الحديث الشريف عن أمير المؤمنينعليه‌السلام :«مَنْ عُرِفَ بِالكِذبِ قَلَّتْ الثِّقَةُ بِهِ» (٦) .

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٨٤.

٢ ـ المحجة البيظاء ، ج ٥ ، ص ٢٤٣ ، وورد شبيه هذه الحديث مع تفاوت يسير في كنز العمال عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله (كنز العمال ، ج ٣ ، ص ٦١٩ ، ح ٨٢٠٣).

٣ ـ كنز العمال ، ح ٨٢١٩.

٤ ـ بحار الانوار ، ج ٧٥ ، ص ٣٠٥.

٥ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ، ج ٦ ، ص ٣٥٧.

٦ ـ غرر الحكم.

١٩٦

والنقطة المقابلة لذلك وردت أيضاً في كلمات أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث قال :«مَنْ تَجَنَّبَ الكِذبَ صَدَّقَتْ أَقوالُهُ» (١) .

١١ ـ ونختم هذا البحث الطويل بحديث آخر من الأحاديث الحكيمة لأمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يحذّر الناس من الصداقة والتعامل مع الكاذبين ويقول :«وَإِيَّاكَ وَمُصادَقَةَ الكَذَّابِ فَإِنَّهُ كَالسَّرابِ يُقَرِّبُ عَلَيكَ البَعِيدَ وَيُبَعِّدُ عَلَيكَ القَرِيبَ» (٢) .

ويستفاد من الروايات أعلاه أنّ الكذب منبع الذنوب والمعاصي المختلفة وعنصر اهتزاز الإيمان بالله والثقة بين الناس ويعتبر أشنع أقسام الكلام وفرع من فروع النفاق ويفسد العلاقة بين أفراد المجتمع ويعمل على هدم إتّحادهم ومروءتهم وقلّما نجد مثل هذه الآثار الذميمة لذنب آخر من الذنوب الفردية والاجتماعية.

بقيت هنا نقاط مهمّة نذكرها بشكل مختصر :

الآثار السلبية للكذب :

بالرغم من أنّ الآيات والروايات المذكوره آنفاً قد درست هذه المسألة بشكل مفصّل وكشفت الستار عن نقاط مهمّة فيها ، ولكن أهميّة هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة أكثر وأعمق.

وأول : أثر من الآثار المضرّة والسلبية للكذب هي الفضيحة وذهاب ماء الوجه وانهيار المكانة الاجتماعية للشخص الكاذب وسلب الثقة منه لدى الناس.

وكما يقول المثل المعروف : (الكاذب قرين النسيان) فإنّ التجارب تثبت أنّ الكلام الكاذب لا يمكن أن يستمر لمدّة طويلة في حجبه الحقيقة عن الناس ، وقد تطوى المسألة في زاوية النسيان إذا لم تكن ذات أهميّة ، ولكن إذا كانت المسألة مهمّة فإنّ الحقيقة سوف

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ نهج البلاغة ، القصار الكلمات ، الكلمة ٣٨.

١٩٧

تتجلّى في دائرة ويفتضح الكاذب حينئذٍ لا من أجل أنّ الكاذب ينسى ما قاله سابقاً ، بل من أجل أنّ الكذب بنفسه لا يتأطر بأطار الحافظة ، لأنّ الحادثة الواقعة في الخارج ترتبط بسلسلة من الحوادث الاخرى ومن موقع العلّة والمعلول وترتبط بما حولها من الحوادث بروابط عديدة وحتميّة ، فالشخص الذي يصوغ حادثة مختلقة يجد نفسه مضطراً إلى أن يربطها بما قبلها وبعدها من ظروف الزمان والمكان والأشخاص والحوادث المحيطة بها وكل ذلك يجب أن يختلقة بما ينسجم مع هذه الحالة الكاذبة ، وبما أنّ هذه الروابط ليس لها حد وحصر ، وعلى فرض أنّه استطاع أن يختلق عدّة حوادث وروابط منسجمة مع بعضها إلّا أنّه قد يترك ثغرات في كلامه حيث يتّضح من ذلك كذبه مثل ما رأينا من قصّة يوسفعليه‌السلام حيث جاء الأُخوة بقميصه الدامي إلى أبيهم واختلقوا قصّة أكل الذئب له ، ولكنّهم نسوا أن يمزقوا القميص من عدّة أماكن ، وهكذا إتّضح كذبهم من بقاء القميص سالماً ، أو مثل زوجة عزيز مصر عند ما إدّعت كذباً بأنّ يوسف كان يقصد بها سوء ولكنّها نسيت أنّ قميص يوسفعليه‌السلام قد قُدَّ من خلفه ، وهذا دليل واضح على كذبها وأنّها هي التي كانت تلحق يوسفعليه‌السلام لا العكس.

وفي هذا العصر فإنّ المحققين في عالم الجريمة يستطيعون بكل سهولة ومن خلال الأسئلة المتعددة عن الحادثة ولوازمها وخصوصياتها أن يكشفوا صدق أو كذب المدّعي بحيث نادراً ما يفلت منهم كاذب دون أن يفتضح ، أجل فإنّ الكاذب ليست له حافظة قويّة ، وسوف يفتضح سريعاً على أيّة حال.

الثاني : من النتائج السلبية للكذب هو أنّه يجر الإنسان إلى أن يكذب مرّات عديدة أو يرتكب ذنوباً اخرى للتغطية على كذبته الاولى أو يرتكب حماقات خطيرة لهذا الغرض.

الثالث : من مضرّات الكذب هو أنّه يبيح للشخص الكاذب أن يغطي على خطيئته وإثمه ولو بشكل مؤقت ويتستر على سلوكياته المنحرفة في حين أنّه لو كان يتحرّك من موقع الصدق فإنّه يجد نفسه مضطراً إلى ترك هذه الأعمال القبيحة.

الرابع : من مضرّات الكذب هو أنّه يدفع بصاحبه إلى أن يسلك في خط النفاق ويصبح من

١٩٨

زمرة المنافقين ، لأنّ الكذب فرع من فروع النفاق ، والكاذب هو الذي يظهر غير ما يبطن ويتكلم بخلاف الواقع وبخلاف ما يعلمه في نفسه ، فهذا الاختلاف بين الظاهر والباطن سوف يسري بالتدريج إلى سائر أعماله وسلوكياته حتى يمسي منافقاً كاملاً.

وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال :«الكذب يؤدي إلى النفاق».

الخامس : من مضرات الكذب هو أنّه لو كان الشخص يتمتع بلياقات كثيرة وطاقات ايجابية يمكنه إستخدامها في حركة التفاعل الإجتماعى فأنّه لو كان كاذباً في هذا المجال فسوف لا يستطيع الناس الإستفادة من لياقاته وطاقاته الإيجابيّة لأنهم سوف يتعاملون معه من موقع الشك والترديد في سلوكياته وكلماته.

ولهذا السبب نجد أنّ الروايات الإسلامية إعتبرت الكاذب مثل الميّت حيث ورد :«الكَذَّابُ والمَيِّتُ سَواءٌ فإنَّ فَضِيلَةَ الحَيِّ عَلَى المَيِّتِ الثِّقَةُ بِهِ ، فَإذا لَمْ يُوثَقُ بَكلامِهِ فَقَد بَطَلَتْ حَياتُهُ» (١) .

السادس : من النتائج السلبية المترتبة على الكذب هو أنّ الإنسان وبالاستفادة من أداة الكذب يمكنه أن يرتكب أعمالاً قبيحة اخرى ، فالحسود والحاقد والبخيل كل منهم يجد في الكذب وسيلة للتغطية على أعمالهم وسلوكيّاتهم وهكذا الحال في سائر الذنوب الاخرى ، مثلاً عند ما يأتي إليه شخص ويطلب منه قرضاً فأنّه يكذب عليه ويقول : لقد إقترضت الآن مبلغاً من المال وليس لدي ما أعطيك منه ، أو عند ما يطلب منه أن يصف شخصاً من الأشخاص فأنّه وبسبب الحسد لا يذكر منه سوى صفاته السلبيّة والحال أنّ ذلك الشخص هو إنسان شريف وثقة.

السابع : هو ما نراه من الآثار المخربة في دائرة العلوم والمعارف البشرية ، فلو أنّ المحققين والمخترعين والعلماء تحرّكوا من موقع الكذب في تحقيقاتهم واكتشافاتهم فانّ جميع الكتب والدراسات العلميّة سوف يلحقها فيروس الشك والترديد وبالتالي لا يضحى

__________________

١ ـ غرر الحكم.

١٩٩

هناك إعتماد على تحقيقات ودراسات الآخرين فتتوقف حركة التطور الحضاري والعلمي في المجتمع البشري.

وهناك نتائج سلبية ومضرات كثيرة اخرى تترتب على الكذب في حركة الحياة الفردية.

ومضافاً إلى هذه النتائج والآثار في حركة الحياة للإنسان فانّ هناك مضرات معنوية تترتب على الكذب وردت الإشارة إليها في الروايات الشريفة ومن ذلك :

أنّ الملائكة تبتعد عن الإنسان كما قرأنا ذلك سابقاً في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام حيث قال :«إِذا كَذِبَ العَبدُ تَباعَدَ المَلَكُ مِنهُ مَسيرَةَ مِيلٍ مِنْ نَتِنِ ما جاءَ بِهِ» (١) .

والآخر إنّ الكاذب يحرم من صلاة الليل كما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «انَّ الَّرجُلَ لَيَكْذِبُ الْكِذْبَةَ فَيُحرَمُ بِها صَلاةَ الْلَيْلِ ، فَاذا حُرِمَ صَلاةُ اللَيْلِ حُرِمَ بِها الرِّزْقُ» (٢) .

والثالث أنّ الكذب يؤدّي إلى عدم قبول بعض العبادات ، كما ورد في الصوم في الحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال :«فَإذا صُمتُم فَاحفَظُوا أَلسِنَتَكُم عَنِ الكِذبِ وَغُضُّوا أَبصارَكُم» (٣) .

وهذا الحديث يدلّ على أنّ مثل هذه الأعمال المنافية للأخلاق تقلّل من قيمة الصوم.

والآخر أنّ الكذب يتسبب في قطع البركات الإلهية على الإنسان كما نقرأ ذلك في الحديث الشريف عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام :«إِذا كَذِبَ الولاةُ حُبِسَ المَطرُ» (٤) .

وقد وردت بعض الآثار السلبية للكذب في الروايات والتي لها بعد معنوي مضافاً إلى البعد الاجتماعي والظاهري ، ومن ذلك ما يستفاد من الروايات المتعددة من أنّ الكذب يتسبب في حرمان الإنسان من الرزق ويؤدّي به إلى الوقوع في هوّة الفقر والمسكنة.

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ، ج ٦ ، ص ٣٥٧.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ٦٩ ، ص ٣٦٠.

٣ ـ وسائل الشيعة ، ج ٧ ، ١١٩ ، ح ١٣.

٤ ـ مسند الإمام الرضاعليه‌السلام ، ج ١ ، ص ٢٨٠.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

٢

السلطة التنفيذيّة

المراد بالسلطة التنفيذيّة في مصطلح اليوم هو هيئة الوزراء، وما يتبعها من دوائر ومديريّات منتشرة في أنحاء البلاد، ويكون مهمّتها تنفيذ ما يقرّره مجلس الشورى من تصميمات، وقرارات، ومخطّطات في شتّى حقول الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وبالتالي يقع على عاتقها مهمّة إدارة البلاد بصورة مباشرة، وهذه السطة لا تتحدّد ـ في عصرنا ـ بتشكيلات محدّدة كمّاً أو كيفاً بحيث لا تتعدّاها بل تختلف من بلد إلى بلد، ومن زمن إلى زمن فهي تزيد أو تنقص، وتضاف مديريّة أو تحذف، أو يدمج بعض في بعض تبعاً للحاجة.

وهيئة الوزراء التي تتصدّر هذه السلطة إمّا أن :

أ ـ ينتخبها الحاكم الأعلى المنتخب للبلاد رأساً.

ب ـ أو ينتخبها مجلس الشورى.

ج ـ أو تنتخبها الاُمّة مباشرةً، وإن كان هذا نادراً.

وعلى أي تقدير فإنّ الذي لا بدّ منه هو أن تكون السلطة التنفيذيّة ـ وفي مقدمتها الوزراء موضع رضا الاُمّة، وذلك يحصل بإحدى الطرق المذكورة، وإن كان الدارج الآن

٢٨١

هو انتخابها عن طريق الحاكم الأعلى، مع موافقة مجلس الشورى.

وإنّما يجب أن تكون هذه السلطة موضع رضا الاُمّة لأنّها تتسلّم زمام السلطة المباشرة على نفوس الناس وأموالهم وأرواحهم، وهذا التسلّط والتصرّف يؤول إلى الاستبداد إذا لم يكن منوطاً برضا الناس، وموافقتهم وإرادتهم.

وهذا هو ما أكّد عليه الدين الإسلاميّ في نظامه السياسيّ، فقد أشار الإمام عليّ ابن أبي طالبعليه‌السلام إلى ذلك ـ في عهده المعروف للأشتر النخعيّ لـمّا ولاّه على مصر حيث وصّاه بأن يتحرّى رضا الرعيّة إذ قال: « وليكن أحبّ الاُمور أليك أوسطها في الحقِّ، وأعمَّها في العدل، وأجمعها لرضا الرَّعيَّة، فإنَّ سخط الخاصَّة ـ يُجحفُ برضا العامّة، وإنَّ سخط الخاصَّة يُغتفرُ مع رضا العامّة »(١) .

هذا والحديث عن السلطة التنفيذيّة يستدعي البحث في ثلاثة اُمور :

أوّلاً: إثبات ضرورة وجود هذه السلطة في الحياة الاجتماعيّة جنباً إلى جنب مع السلطة التشريعيّة، والحاكم الأعلى للبلاد.

ثانياً: استعراض ما كانت عليه هذه السلطة في ( العهد النبوي ) خاصّةً وما آلت إليه فيما بعد.

ثالثاً: بيان الكيفيّة التي يجب أن تكون عليه الآن.

وإليك بيان هذه الاُمور تدريجياً.

ضرورة السلطة التنفيذيّة :

لا ريب أنّ القوانين الإسلاميّة التي شرّعها الله سبحانه للبشريّة وأنزلها عليهم، وكذا ما يستنبطه الفقهاء والمجتهدون أو تقرّره السلطة التشريعيّة من برامج على ضوء التعاليم الإسلاميّة لم تكن إلّا لإدارة المجتمع. فلم يكن تشريع كلّ تلك الشرائع، ولا

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٥٣).

٢٨٢

وضع جميع تلك البرامج عملاً اعتباطيّاً، بل كانت لأجل التنفيذ والتطبيق، وتنظيم الحياة الاجتماعيّة وفقها، فالقانون مهما كان راقياً وصالحاً ليس بكاف وحده في إصلاح المجتمع وإصلاح شؤونه، بل لا بدّ من إجرائه، وتنفيذه في الصعيد العمليّ.

إنّ الكتاب والسنّة زاخران بأحكام حقوقيّة ومدنيّة وجزائيّة وسياسيّة كثيرة وواسعة الأطراف والأبعاد وهي غير خافية على كلّ من له أدنى إلمام بهذين المصدرين الإسلاميّين العظيمين.

ففيهما الأمر الصريح والأكيد بقطع يد السارق:( فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة: ٣٨ ) وجلد الزاني والزانية:( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) ( النور: ٢ ).

إلى غير ذلك من القوانين والحدود. ولقد حثّ الشارع الكريم على إجراء هذه الحدود وتنفيذ هذه القوانين، والتعاليم حثّاً أكيداً لا يترك لمتعلّل عذراً فقد ورد عن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال: « سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: لن تقدس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقَّه من القوي غير متعتع »(١) .

وروى ابن أبي الحديد المعتزليّ أنَّه خرج رجل من أهل الشام في وقعة صفين فنادى بين الصفّين: يا عليّ ابرز أليّ، فخرج إليه عليّعليه‌السلام فقال: إنّ لك يا عليّ لقدماً في الإسلام والهجرة، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن دماء المسلمين وتأخّر هذه الحروب حتّى ترى رأيك ؟ فقالعليه‌السلام : « وما هو ؟ » قال: ترجع إلى عراقك فنخلّي بينك وبين العراق، ونرجع نحن إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين الشام ؟ فقال عليّعليه‌السلام : « قد عرفت ما عرضت إنّ هذه لنصيحة وشفقة، ولقد أهمَّني هذا الأمر وأسهرني وضربت أنفه وعينه، فلم أجد إلّا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنّ الله تعالى ذكره لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون، لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة في الأغلال في جهنَّم »(٢) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٥٣).

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢: ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٢٨٣

ولـمـّا سرقت المرأة المخزوميّة ما سرقت ـ في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأراد اُسامة بن زيد الشفاعة في حقّها، فكلّم النبيّ في أمرها، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أتشفع في حدّ من حدود الله » ؟!

ثمّ قام فخطب وقال: « أيّها الناسُ إنَّما هلك الَّذين من قبلكُم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ »(١) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة وحدّ يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحاً »(٢) .

وفي حديث مفصّل وقضية مطوّلة قال الإمام عليّعليه‌السلام : « أللّهم إنّك قلت لنبيّك فيما أخبرته من دينك: يا محمّد من عطَّل حدَّاً من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادَّتي »(٣) .

وقال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أيضاً: « لابدَّ للنَّاس من إمام يقوم بأمرهم وينهاهم ويقيم فيهم الحدود ويجاهد فيهم العدوَّ، ويقسّم الغنائم ويفرض الفرائض أبواب ما فيه صلاحهم ويحذّرهم ما فيه مضارّهم، إذا كان الأمر والنهي أحد أسباب بقاء الخلق وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع ويفسد التدبير وكان ذلك سبباً لهلاك العباد فتمام أمر البقاء والحياة في الطَّعام والشَّراب والمساكن والنكاح من النّساء والحلال الأمر والنَّهي »(٤) .

وعن الإمام الباقر محمد بن عليّعليه‌السلام : « إنّ الله تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّةُ ـ إلى يوم القيامة ـ إلّا أنزله في كتابه، وبيَّنه لرسوله. وجعل لمن تعدَّى الحدَّ حدَّاً »(٥) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنّه قال: « حدّ يقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين

__________________

(١) صحيح مسلم ٥: ١١٤.

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨، والخراج: ١٦٤.

(٣) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨.

(٤) رسالة المحكم والمتشابه للسيد المرتضى نقلاً عن تفسير النعمانيّ: ٥٠.

(٥) وسائل الشيعة ١٨: ٣١١.

٢٨٤

ليلة وأيّامها »(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنه قال: « لا تبطل حدود الله في خلقه ولا تبطل حقوق المسلمين بينهم »(٢) .

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إقامة حدّ خير من مطر أربعين صباحاً »(٣) .

وقال الإمام الكاظم موسى بن جعفرعليه‌السلام في تفسير قول الله عز وجل:( يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) ( الروم: ١٩ ): « ليس يحييها بالقطر، ولكن يبعث الله رجالاً فيحيون العدل فتحيا الأرض لأحياء العدل، لإقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً »(٤) .

إلى غير ذلك من الأحاديث الصريحة التي تحث على إجراء الحدود، مضافاً إلى الآيات القرآنيّة الكريمة التي تحثّ بدورها على العمل بأحكام الله سبحانه، دون فرق بين ما تعلّق منها بالفرد أو المجتمع وتندّد بالذين يعلمون الكتاب، ويعرفون ما فيه من التعاليم والأحكام ولا يعملون بها.

بيد أنّ تنفيذ الأحكام والقوانين المتعلّقة بالمجتمع، وإجراء الحدود لا يمكن أن يفوّض إلى عامّة الناس وسوادهم فلا يعني ذلك إلّا شيوع الفوضى، وضياع الحقوق، واضطراب الحدود بين الافراط والتفريط، ولهذا لابدّ من جهاز تنفيذيّ خاصّ يتولّى هذه المهمّة الاجتماعيّة الحساسّة ويقوم بهذا الدور الخطير.

ومن العجيب أنّ موضوع الهيئة التنفيذيّة رغم كونه من أبرز ما أشار إليه الإسلام بل وصرّح به في نظام الحكومة الإسلاميّة ؛ قد تعرّض لتجاهل بعض الباحثين حول الإسلام بل وإنكارهم ؛ فقد أخذ بعض المستشرقين ـ فيما أخذ ـ على الإسلام فقدانه لجهاز تنفيذيّ ونظام حكوميّ يضمن تنفيذ القوانين، ويضفي على الإسلام طابع المنهج

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨، ٣١٥.

(٣ و ٤) نفس المصدر: ٣٠٨.

٢٨٥

الصالح لقيادة البشريّة حتّى في الصعيد السياسيّ فقال ما ملخّصه: « إنّ الإسلام مشتمل على قوانين وسنن رفيعة تتكفّل سعادة المجتمع فرديّاً واجتماعيّاً بيد أنّ ما جاء به الإسلام لا يتجاوز حدود التوصية الاخلاقيّة والإرشاد المعنويّ دون أن يكون لديه ما يضمن تنفيذها من سلطات وأجهزة، فإنّنا لم نلمس في التعاليم الإسلاميّة الموجودة أي إشارة إلى هيئة تنفيذيّة تقوم بإجراء الأحكام، وتنفيذ القوانيين ولذلك تعتبر الشريعة الإسلاميّة غير كافية من هذه الناحية، وعاجزةً عن التطبيق ».

هذا هو خلاصة ماقاله بعض المستشرقين، ولكن لو رجع صاحب هذه المقالة إلى الكتاب والسنّة، ولاحظ ما طفحت به الكتب الفقهيّة الإسلاميّة من سياسات اجتماعيّة، وحقوق مدنيّة، وتدابير جزائيّة عهد إجراؤها إلى الحاكم الإسلامي ؛ للمس وجود الهيئة التنفيذيّة في النظام الإسلاميّ بجوهره وحقيقته وإن لم يكن بتفصيله المتعارف الآن.

فأيّ تصريح بوجود الجهاز التنفيذيّ أكثر صراحةً من إيكال قسم كبير من القضايا الاجتماعيّة، والاُمور الجزائيّة إلى ( الحاكم الشرعي ) حيث نجد الكتب الفقهيّة زاخرةً بعبارات: عزّره الحاكم، أدّبه الحاكم، نفاه الحاكم، طلّق عنه الحاكم، حبسه الحاكم، خيّره الحاكم(١) . وما شابه من الاُمور المخوّلة إلى الحاكم الإسلاميّ، وهو يوحي بوجود جهاز تنفيذيّ في النظام الإسلاميّ، لأنّ أكثر تلك المهام هي من صلاحيات السلطة التنفيذيّة المتعارفة الآن.

هذا مضافاً إلى أنّ موضوع ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يؤكّد عليهما الدين الإسلاميّ أشدّ تأكيد يعتبر من أوضح الأدلّة على لزوم مثل هذا الجهاز التنفيذيّ حتّى يمكن القول ـ بدون مبالغة ـ أنّ المقصود بالقائمين بهذه الفريضة الكبرى، والوظيفة العظمى هو ( الهيئة التنفيذيّة ).

__________________

(١) راجع هذا الجزء: ٢٣ ـ ٣٠.

٢٨٦

الآمرون بالمعروف هم السلطة التنفيذيّة :

إنّ النظر العميق في فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وأحكامهما ومسائلهما، وشروطهما يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم ( السلطة التنفيذيّة ) التي تقع على عاتقها مهمّة إجراء الأحكام، وتنفيذها وصيانتها في المجتمع الإسلاميّ. ولابدّ ـ قبل إثبات هذا الأمر ـ من تقديم مقدّمة حول هذه الفريضة الإسلاميّة العظمى فنقول: تعتبر وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) أصلاً مبتكراً، وفريضةً بديعةً جاء بها الإسلام وهي ممّا لم يعهد لها نظير في الأنظمة الوضعيّة البشريّة فقد فرض الدين الإسلاميّ ـ بموجب هذه الفريضة ـ على أتباعه أن ينشروا الخير والمعروف بين الناس، ويزجروا عن الشرّ والمنكر، ولا يكونوا متفرّجين أو ساكتين اتّجاه ما يجري في المجتمع ويقع من إظهار المنكر أو تضييع للمعروف.

ولقد انطلق الإسلام ـ في إيجابه لهذه الفريضة العظيمة ـ من حقيقة اجتماعيّة مسلّمة وهي: أنّ أعضاء المجتمع الواحد الذين يعيشون في بيئة واحدة، مشتركون في المصير فلو كان هناك خير لعمّ الجميع ولم يقتصر على فاعله، ولو كان هناك شرّ لشمل الجميع أيضاً ولم يختصّ بمرتكبه. ومن هناك يجب أن تتحدّد تصرّفات الأفراد في هذا المجتمع، وتتحدّد حريّاتهم بمصالح الاُمّة، ولا تتخطّاها.

ولقد شبّه الرسول الأكرم وحدة المصير للمجتمع الواحد بأحسن تشبيه حيث مثّل أفراد المجتمع بركاب سفينة في عرض البحر، إذا تهددها خطر تهدّد الجميع ولم يختصّ بأحد دون أحد ولذلك لا يجوز لأحد ركّابها أن يثقب موضع قدمه بحجّة أنّه مكان يختصّ به. ولا يرتبط بالآخرين، لأنّ ضرر هذا العمل يعود إلى الجميع ولا يعود إليه خاصّةً. وهذا هو أفضل تشبيه لاشتراك المجتمع الواحد في المصير، والمسير(١) .

كما أنّه لو أصيب أحد أفراد المجتمع بالوباء لم يجز له أن يتجوّل في البلاد بحجّة

__________________

(١) راجع روض الجنان للشيخ أبي الفتوح الرازيّ.

٢٨٧

أنّه حرّ ؛ لأنّ ذلك يعرّض سلامة الآخرين للخطر، فلا بدّ أن يتحدّد تجوّله، تجنيباً للمجتمع من كوارث ذلك المرض.

إنّ هذه الأمثلة وأشباهها توضّح أهميّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ومكانتهما ومدى أثرهما في سلامة المجتمع واستقامته وصلاحه، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظارة عموميّة، ورقابة صارمة تمنع من تفشّي المنكر وتساعد على نمو الخير، وازدهاره. وهما إلى جانب ذلك سبب قويّ في بقاء الدين، واستمرار الرسالة الإلهيّة.

ولقد وردت في التأكيد على هذه المهمّة الخطيرة آيات قرآنيّة كثيرة، وأحاديث، تأمر الجميع بالقيام بالدعوة إلى الخير، وإنكار المنكر، وهي معلومة وواضحة لكلّ من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلاميّة.

نعم، ربّما يُتوهّم من بعض الآيات خلاف ذلك، وهي تلك الآيات التي يتمسّك بها بعض طلاب الراحة والعافية واتّباع الهوس لسدّ باب التبليغ والدعوة، أو للتخلّص من تحمّل مشكلاتها، وصعوبتها، ومن تلك الآيات قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( المائدة: ١٠٥ ).

وقد رفع المفسّرون النقاب عن وجه هذه الآية وفسّرها الأمين الطبرسيّ في تفسيره مجمع البيان بقوله: « إنّ الآية لا تدل على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل توجب أنّ المطيع لربّه لا يؤخذ بذنوب العاصي »(١) .

بيد أنّ لنا توضيحاً آخر لمفاد هذه الآية وهو: أنّ الآية تشير إلى سيرة عقلائيّة وقضيّة عقليّة وهي أنّ على من يريد إصلاح المجتمع أن يبدأ بنفسه ثمّ يتعرّض لإصلاح الآخرين فما لم يصلح المرء نفسه ليس له أن يؤدّب غيره، وإلى ذلك يشير الإمام عليّعليه‌السلام قائلاً: « من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبهُ بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلمُ نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٣: ٢٥٤.

٢٨٨

ومؤدّبهم »(١) .

وبالجملة أنّ الآية ناظرة إلى الاجتماعات الفاسدة الغارقة في الفساد والانحراف فإنّ الطريق الوحيد لإصلاحها هو الابتداء بإصلاح الذات وعدم توقّع أي إصلاح للغير قبل ذلك ؛ وأن لا يترك إصلاح نفسه بحجّة أنّ المجتمع فاسد وإليه يشير قوله سبحانه:( لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) ويؤيد ذلك قول النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ».

فقيل: يا رسول، من الغرباء ؟ فقال: « الَّذين يصلحون إذا أفسد الناس من سنَّتي »(٢) .

وهذا الحديث يرفع التوهّم حول الآية خصوصاً إذا قرئ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يصلحون » بصيغة اللازم، فإلى هذا المعنى تشير الآية المذكورة. وعلى أي تقدير فالآية لا ترتبط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا تمتّ بهما بصلة.

ولقد كفى في أهميّة هذه الوظيفة أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد بلغا من الأهميّة والأثر حتّى صارا أفضل من الجهاد إذ قال الإمام عليّعليه‌السلام : « وما أعمال البرّ كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا كنفثة في بحر لجّيّ »(٣) .

ووجه هذه الأفضليّة على الجهاد وسائر أعمال البرّ هو أنّ ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) بكلا قسميه ( الفرديّ والاجتماعيّ ) كما سيوافيك بيانهما مكافحة داخليّة، والجهاد كفاح خارجيّ. والاُولى متقدّمة على الثانية، فلو لم يصلح الداخل لم يصلح الخارج، وما دام الداخل غير مستعدّ للإصلاح لا يمكن للمسلمين أن يخطوا أيّة خطوة لإصلاح الخارج.

كما ويؤكّد ضرورة إنكار المنكر وحرمة تركه قوله تعالى:( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي

__________________

(١) نهج البلاغة: ـ الحكم ـ الرقم (٧٣).

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٢١٢، أخرجه الترمذي.

(٣) نهج البلاغة: قصار الحكم الرقم (٣٧٤).

٢٨٩

الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) ( النساء: ١٤٠ ).

فهذه الآية تدلّ على أنّ السكوت على المنكر يوجب أن يكون الساكت على الذنب كالمرتكب له، ولأجل ذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنَّما يجمع الناسُ الرِّضى والسَّخطُ وإنَّما عقر ناقة ثمود رجُل واحد فعمَّهُم الله بالعذاب لـمّا عمّوهُ بالرِّضى »(١) .

ثمّ إنّ الغور في هذه الوظيفة الإسلاميّة ومعرفة شروطها وفروعها وآثارها الحيويّة يستدعي إفراد رسالة مفصّلة خاصّة بذلك.

غير أنّنا نقتصر هنا على ذكر ما يرتبط ببحثنا وهو إثبات وجود ( السلطة التنفيذيّة ) في نظام الحكم الإسلاميّ فنقول: إنّ النظر في مهمّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر يتمثّلون ـ في الحكومة الإسلاميّة ـ في ( الهيئة التنفيذيّة ) فليست هذه السلطة في حقيقة الأمر إلّا القائمين بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على صعيدهما الاجتماعيّ العموميّ. والوقوف على هذا المطلب يحتاج إلى التنبيه على أنّ فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) تنقسم إلى وظيفتين :

١. وظيفة فرديّة.

٢. وظيفة اجتماعيّة عموميّة.

وهما يختلفان ماهيّةً وشروطاً حسبما نعرف ذلك من الكتاب والسنّة كما سيوافيك بيانه.

أمّا الكتاب فنجده يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارةً على المجتمع، أي على كلّ فرد فرد من أعضاء الاُمّة الإسلاميّة، وتارةً على جماعة خاصّة من المجتمع الإسلاميّ وإلى القسم الأوّل ( الفردي ) يشير قوله تعالى:( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (٢٠١).

٢٩٠

أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة: ٧١ ).

وقوله تعالى:( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ ) ( التوبة: ١١٢ ).

وقوله سبحانه:( كُنتُمْ خَيْرَ أمّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) ( آل عمران: ١١٠ ).

إلى غير ذلك من الآيات، والخطابات الموجّهة إلى المجتمع بصورة عامّة.

وإلى القسم الثاني تشير الآيات التي تضع هذه الوظيفة على عاتق جماعة خاصّة وتعبّر عنها ب‍ ( أمّة ) وفي ذلك قوله سبحانه:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( العمران: ١٠٤ ).

ومن المعلوم أنّ الاُمّة عبارة عن جماعة خاصّة تجمعهم رابطة العقيدة ووحدة الفكر، وهي وإن كانت تطلق أحياناً على الفرد الواحد كقوله سبحانه:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمّة قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( النحل: ١٢٠ ) لكنه إطلاق واستعمال غير شائع فلا تحمل الآية عليه. وقد فسّر الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام هذه الآية بقوله: « وسُئل عن الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أواجب هو على الاُمّة جميعاً ؟ فقال: لا، فقيل لهُ: ولم ؟ قال: إنَّما هُو على القوي الـمـُطاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضَّعيف والدَّليلُ على ذلك كتاب الله عزَّ وجلَّ قوله:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) فهذا خاص غير عام كما قال الله عزَّ وجلَّ:( وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أمّة يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) ( الأعراف: ١٥٩ ) ولم يقل: على أمّة موسى ولا على كُلِّ قومه، وهم يومئذ اُمم مختلفة والاُمّة واحد فصاعداً كما قال الله عزَّ وجلَّ:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمّة قَانِتًا للهِ ) »(١) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٠.

٢٩١

وقوله تعالى:( إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج: ٤١ ).

فهذه الآية تشير ـ بوضوح ـ إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المذكورين في الآية هو من النوع الذي يحتاج إلى المكنة والقدرة والسلطة، فالوصف فيه وصف للمؤمنين الذين تمكّنوا من السلطة وبالتالي فهو وصف للجهاز الحاكم والسلطة التنفيذيّة، ولا يمكن إرجاعه إلى عامّة المسلمين لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتوجّبين على الكافة لا يختصّ بظرف المكنة في الأرض، ولا يتقيد بقيد السلطة، بل تجب مراتبه قلباً ولساناً في جميع الأحوال بل يمكن أن يقال أيضاً إنّ الدعوة والتبليغ حتى باللسان على قسمين :

قسم يمكن أن يقوم به كلّ مسلم عارف بضروريات الإسلام من واجبها وحرامها.

وقسم لا يمكن أن يقوم به إلّا فرقة من كلّ طائفة ممّن صرفوا أوقاتهم وأعمارهم في تعلّم الدين بعمقه وتفاصيله وجزئيّاته، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:( وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة: ١٢٢ ).

وقد سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن قول رسول الله: « اختلافُ أُمّتي رحمة » فقال: « صدقوا في هذا النَّقل » فقلت: إن كان أختلافهم رحمةً فاجتماعهم عذاب قال: « ليس حيثُ تذهب وذهبوا، إنَّما أراد قولُ الله تعالى:( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهُم الله أن ينفروا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويختلفوا إليه فيتعلّموا ثمَّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنّما أرادهم من البلدان لا اختلافهم في الدين إنّما الدّينُ واحد »(١) .

__________________

(١) تفسير البرهان ٢: ١٧٢ ومعاني الاخبار: ١٥٧ وعلل الشرائع ١: ٦٠ وقد نقلها صاحب الوسائل في ٨: ١٠١ ـ ١٠٢.

٢٩٢

وأمّا الأحاديث والأخبارُ الواردة في شأن وظيفة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فهي أيضاً تُقسِّم هذه الفريضة إلى قسمين :

قسم لا يحتاج القيام به الى جهاز خاص وقدرة وتمكّن، لأنّه لا يتجاوز القلب واللسان والوجه. وقسم يتوقّف القيام به على الجهاز والقوَّة والسّلطة.

وإلى القسم الأوّل يشير ما روي عن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إذ قال: « من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه فهو ميّت بين الأحياء »(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً قال: « أمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرَّة »(٢) .

وقالعليه‌السلام أيضاً: « أدنى الإنكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة »(٣) .

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام إذ قال: « حسبُ المؤمن غيراً ( أي غيرة ) إذا رأى منكر أن يعلم الله عزَّ وجلَّ من قلبهُ إنكاره »(٤) .

وهذا القسم من الأحاديث الحاثَّة على الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يشملُ كلّ فرد من أفراد المسلمين ولا يتجاوز القلب والوجه واللسان ويمكن لأيِّ فرد من الأفراد القيام به ؛ إذ لا يحتاج إلى تكلّف مؤنة، ولا توفّر قوَّة وسلطة وهو بالتالي يعمُّ كلّ مسلم آمراً ومأموراً حاكماً ومحكوماً.

وأمّا القسم الثاني ؛ وهي الأحاديث التي تجعل الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر دعامةً لأقامة الفرائض، وسبيلاً إلى أمن الطرق والمسالك، وردِّ المظالم، وردع الظَّالم، ووسيلةً إلى عمارة الأرض والانتصاف من الأعداء وهي اُمور لا تتحقّق إلّا بجهاز قادر متمكِّن فهي كالتالي :

قال الإمام محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام : « إنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض والنَّهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء بها

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٤، ٤١٣.

(٣ و ٤) وسائل الشيعة ١١: ٤١٣، ٤٠٩.

٢٩٣

تأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر »(١) .

ومن المعلوم أنّ الأمر والنّهي المؤدّيين إلى أمان الطّرق والمسالك وعمارة الأرض والانتصاف من الأعداء للمظلومين لا يتيسّر إلّا بجهاز تنفيذيّ قويّ، وسلطة إجرائيّة قادرة تتحمّل عبء الأمر والنّهي على المستوى العموميّ وبواسطة الأجهزة والتشكيلات، هذا مضافاً إلى أنّ ذكر الأنبياء في الحديث لعلّه يوحي بأنّ الأمر والنهي المذكورين هنا هو ما كان مقروناً بالحاكميّة والسلطة على غرار ما كان للأنبياء: حيث كانوا يمارسون مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ غالباً ـ من موقع السلطة والحاكميّة والولاية لا من موقع الفرد ومن موضع التبليغ ومجرد الوعظ والإرشاد الفرديّ.

وعن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « لا تزال اُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرِّ فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء »(٢) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردِّ المظالم، ومخالفة الظالم وقسمه الفيء وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها »(٣) .

ومن البين أنّ مخالفة الظالم وردعه وإيقافه عند حدّه، وتقسيم المال بين المسلمين بصورة عادلة وأخذ الصدقات والموارد الماليّة، الذي يعني التنظيم الاقتصاديّ على المستوى العام للمجتمع، لا يتأتّى عن طريق الأمر والنهي الفرديين والمنحصرين في إطار الموعظة بل يحصل ويتحقّق بوجود جهاز تنفيذيّ حاكم وسلطة إجرائيّة تتولّى إدارة دفّة البلاد وفق تعاليم الإسلام، فإنّ مثل هذا الأمر والنهي يحتاج إلى استعمال القوّة

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١١: ٣٩٥، ٣٩٨.

(٣) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٣، وقد ورد مثلها عن الإمام الحسين بن عليّ في تحف العقول: ١٧١ ( طبعة بيروت ).

٢٩٤

لإجراء الحدود والعقوبات وتنفيذ الأحكام الجزائيّة، وهي اُمور لا يمكن أن تتحقّق إلّا في ظلّ سلطة وجهاز تنفيذيّ.

من هنا ؛ تكون الوظيفة العموميّة وما يترتّب عليها من الحبس والتأديب والقصاص وما شابه ؛ مقتضية لوجود سلطة تنفيذيّة يعهد إليها الأمر والنهي الاجتماعيين العموميين، الذين فيهما صلاح عامّة الناس، واستقامة اُمورهم عامّة ويمكن إستفادة هذا المطلب من كلام للسيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام إذ قالت: « والأمرُ بالمعروف مصلحة للعامَّة »(١) .

إذ أي أمر بالمعروف يمكن أن يكون مصلحة للعامّة إذا لم يكن القائم به جهاز ذو قدرة وسلطان يقوم بذلك عن طريق التشكيلات والتنفيذ العام.

كما ويمكن استفادة ذلك أيضاً من كلام الإمام عليّعليه‌السلام إذ قال: « أخذ الله على العُلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم وسغب مظلوم »(٢) .

فكيف يمكن منع الظالم من ظلمه، ومنع المستغلّ من الاستئثار بلقمة الفقير، إلّا بجهاز وسلطة خاصّة، فليس العلماء المذكورون في هذا الحديث إلّا ذلك الجهاز التنفيذيّ القادر على الإجراء.

وكذا يستفاد هذا الأمر من كلام آخر للإمامعليه‌السلام وهو يتحدّث عن الوالي وماله وما عليه: « أللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسةً في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنردَّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطَّلة من حدودك »(٣) .

__________________

(١) بلاغات النساء لابن طيفور ـ المتوفّى عام ( ٣٨٠ ه‍ ) ـ ص ١٢، ومعاني الأخبار: ٣٣٦.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة (٣).

(٣) نهج البلاغة: الخطبة (١٢٧) شرح عبده، وقد ورد نظيره عن الإمام الحسين بن عليّ إذ قال: « أللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنرى المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك » راجع تحف العقول: ١٧٢ ( طبعة بيروت ).

٢٩٥

فكيف يمكن أمان المظلومين، وإقامة الحدود المعطّلة وإظهار الإصلاح العام في البلاد وتطبيق سنن الله وأحكامه بلا استثناء إلّا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المعتمدين على السلطة والناشئين عن جهاز تنفيذيّ ؟

إذ كيف يمكن قيام الفرد أو الأفراد بكلّ ذلك وهو بحاجة إلى قدرة وتمكّن ونفوذ أمر وسلطان ؟

ويمكن تأييد ضرورة وجود هذه السلطة واختصاص هذا النوع من ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يتجاوز القلب والوجه واللسان ويتعدّاه إلى ( اليد ) وإستعمال القوة والسلطة ؛ بتنديد الله بالربانيّين والأحبار الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم المسؤولون عن ذلك لأنّهم كانوا في مقام الإمرة وفي موقع السلطة فقال الله تعالى:( وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( المائدة: ٦٢ ـ ٦٣ ).

وقد أشار الإمام عليّعليه‌السلام إلى تفسير هذه بقوله: « أمّا بعد فإنّه إنّما هلك من كان قبلكم حينما عملوا من المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك وأنَّهم لـمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات »(١) .

وهكذا تفيد نصوص الكتاب والسنّة وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ أحدهما وظيفة جميع الأفراد والآخر وظيفة سلطة قادرة

وبذلك يجمع بين الطائفتين من الآيات والروايات اللتين يضع قسم منها هذه الوظيفة على عاتق الجميع، وقسم منها على عاتق جماعة خاصّة ؛ فالأوّل راجع إلى الوظيفة الفرديّة منهما، فهو الذي يجب على الجميع، والثاني راجع إلى الوظيفة الاجتماعيّة التي تختصّ باُمّة متمكّنة من السلطة.

وممّا يدلّ على هذا إلى جانب تلك النصوص فتاوى الفقهاء ـ في باب الحدود ـ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٣٩٥.

٢٩٦

والتي تضافرت على أنّه لو وجب قتل مسلم قصاصاً لم يجز لأحد أن يقتص منه غير ولي الدم بإذن الحاكم أو الحاكم نفسه، فلو قتله غيره كان عليه القود، ولا يتوهّم أنّ من وجب عليه إجراء الحدّ، يكون مهدور الدم بالنسبة إلى كلّ واحد فإنّه توهّم باطل فإنّ من وجب عليه الحد والقصاص على أقسام :

١. إمّا أن يكون مهدور الدم لكلّ أحد كساب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو الكافر الحربيّ، فإنّه إذا قتله المسلم أو الذمي لا قود عليهما. ولكنّهما يعزّران لتدخلهما في أمر الحاكم.

٢. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى المسلمين كالمرتد الفطريّ، فإذا قتله المسلم لا قود عليه، ولو قتله الذميّ فعليه قود، ومع ذلك فيعزّر المسلم لو قتله للتدخّل المذكور.

٣. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من له القصاص ( أي وليّ الدم ) ومن إليه القصاص ( أي الحاكم ) كالقاتل المسلم ظلماً فلا يجوز لغير ولي الدم أو الحاكم قتله(١) .

٤. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من إليه الحكم، كاللائط والزاني المحصن.

كما أنّ ممّا يدلّ على وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أنّ الفقهاء ذكروا للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر شروطاً أربعة هي :

١. أن يكون عارفاً بالمعروف من المنكر.

٢. أن يحتمل تأثير إنكاره فلو غلب على ظنّه أو علم أنّه لا يؤثّر لم يجب عليه شيء.

٣. أن يكون الفاعل للمنكر مصرّاً على الاستمرار فلو لاحت منه إمارة الامتناع أو قلع عنه، سقط الإنكار.

٤. أن لا يكون في الإنكار مفسدة، فلو ظنّ توجّه الضرر إليه، أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط(٢) .

__________________

(١) راجع جواهر الكلام ونظائر هذه المسألة من ص ١٥٩ ـ ١٩٨ الجزء ٤١.

(٢) شرائع الإسلام: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٢٩٧

ومن المعلوم ؛ أنّ الشرط الثاني ( احتمال التأثير ) والثالث ( الإصرار على المنكر ) من شروط القسم الفرديّ من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا الاجتماعيّ منهما إذ لا يعتبر في الاجتماعيّ من هذه الفريضة احتمال التأثير، بل للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة فيقتصّ من القاتل أو الجارح، ويقطع يد السارق سواء أكان هناك تأثير أم لا.

كما أنّ للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة سواء كرّر المجرم أم لم يكرّر جريمته ومعصيته، ولأجل هذا يجب التمييز والفصل بين الأمر والنهي الفردي، والأمر والنهي الاجتماعيّ العموميّ لاختلافهما في الشروط والغايات. ولا شكّ أنّ هذه المغايرة والتمايز يكشف ـ وبمعونة ما سبق وما يأتي من الأدّلة ـ عن أنّ القسم الثاني من هذه الفريضة هو من شأن سلطة تنفيذيّة وجهاز حكم وليس من شأن الأفراد.

دفع إشكال حول الأمر والنهي :

ربما يتوهّم أحد أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطويان على مجرّد طلب فعل المعروف وطلب ترك المنكر وهذا ممّا لا يتحقّق في إجراء حدّ القتل أو الرجم على المحكوم بهما، فكيف يمكن أن نعتبرهما من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟

ولكن هذا الإشكال مدفوع بأنّ الطلب الإنشائي الذي هو من قبيل المفهوم، وإن لم يكن موجوداً في إجراء حدّ القتل والرجم لكنّه فيه واقعيّة الطلب وحقيقته وأثره، إذ باجراء هذين الحدّين تنعدم المنكرات واقعاً، ولو بالنسبة للآخرين، وهذا نظير قوله سبحانه:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة: ١٧٩ ) فإن قتل القاتل وإن كان سلباً لحياته لكنّه إحياء للنفوس الاُخرى. وهو هدف القصاص، ولأجل ذلك كانت العرب تقول في مورد القصاص « القتل أنفى للقتل ».

وخلاصة القول أنّ الأثر المطلوب من إجراء الحدود وإن كان منفيّاً بالنسبة إلى الجاني نفسه ولكنّه موجود بالنسبة إلى المجتمع.

٢٩٨

هذا وممّا يؤكد وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنّ علماء الإسلام ذكروا للمحتسب وهو من يقوم بالأمر والنهي الاجتماعيّين شروطاً لا تعتبر في القسم الفرديّ من هذه الفريضة.

فقد قال ابن الاخوة القرشيّ في كتابه معالم القربة في أحكام الحسبة :

الحسبة من قواعد الاُمور الدينيّة، وقد كان أئمّة الصدر الأوّل يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها وهي: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله وإصلاح بين الناس، قال الله تعالى:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) ( النساء: ١١٤ ).

والمحتسب من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعيّة والكشف عن اُمورهم ومصالحهم ( وفي نسخة اُخرى: وبياعاتهم ومأكولهم ومشروبهم ومساكنهم وطرقاتهم ) وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

ومن شروط المحتسب أن يكون: ( مسلماً ) ( حرّاً ) ( بالغاً ) ( عاقلاً ) ( عدلاً ) ( قادراً )(١) .

ومن المعلوم أنّ ( الحريّة ) و ( البلوغ ) و ( العدالة ) ليست شروطاً في القسم الفرديّ من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فهذا التباين في الشرائط والصلاحيّات يكشف ـ بوضوح ـ عن تنوّع وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى نوعين مختلفين: فرديّ، وعموميّ، والأوّل هو وظيفة كلّ فرد من أفراد المسلمين، بينما يختصّ الثاني بجهاز وسلطة ويتطلّب وجودها في الحياة الإسلاميّة.

وظيفة المحتسب والسلطة التنفيذيّة :

وممّا يدلّ على اختصاص القسم الاجتماعيّ من وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي

__________________

(١) معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الاخوة: ٧.

٢٩٩

عن المنكر ) والمسمّى بالحسبة، بالسلطة التنفيذيّة ؛ مطالبة الإمام عليّعليه‌السلام أحد ولاته على بعض الأمصار بأن يقوم بها ـ وهو في موقع الحكم ـ باعتبار أنّ ذلك أحد مسؤوليّاته ووظائفه وهو يتولّى اُمور المسلمين إذ قال: « من الحقّ عليك حفظُ نفسك والاحتسابُ على الرَّعيّة بجهدك فإنّ الّذي يصلُ إليك من ذلك ( أي من جانب الله ) أفضلُ من الّذي يصلُ بك ( أي من جانب الناس ) ».

وقد أشار صاحب كتاب معالم القربة في أحكام الحسبة فروقاً بين المحتسب والمتطوّع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ قال: ( وأمّا ما بين المحتسب المتولّي من السلطان وبين المنكر المتطوّع من عدّة أوجه :

أحدها: أنّ فرضه متعيّن على المحتسب ـ بحكم الولاية ـ وفرضه على غيره داخل تحت فرض الكفاية.

الثاني: أنّ قيام المحتسب به من حقوق تصرّفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره، وقيام المتطوّع به من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه بغيره.

الثالث: أنّه منصوب للاستعداء إليه في ما يجب إنكاره، وليس المتطوّع منصوباً للاستعداء.

الرابع: على المحتسب إجابة من استعداه وليس على المتطوّع إجابته.

الخامس: أنّ له أن يتّخذ على الإنكار أعواناً لأنّه عمل هو له منصوب، وإليه مندوب وليكون له أقهر، وعليه أقدر، وليس للمتطوّع أن يتّخذ لذلك أعواناً.

السادس: أنّ له أن يعزّر في المنكرات الظاهرة ولا يتجاوز بها الحدود، وليس للمتطوّع أن يعزّر.

السابع: أن يرتزق على حسبته من بيت المال وليس للمتطوّع أن يرتزق على إنكار منكر إلى غير ذلك.

فهذه وجوه الفرق بين من يحتسب بولاية السلطان ( أي يقوم بالقسم الاجتماعيّ

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417