• البداية
  • السابق
  • 417 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 13858 / تحميل: 2832
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق في القرآن

الأخلاق في القرآن الجزء 3

مؤلف:
ISBN: 964-8139-25-3
العربية

من اعتباره ، وكذلك الشخص المتكبّر يتحرّك من موقع تحقير الآخرين والسخرية بشخصيتهم من خلال إساءة الظن بهم وبذلك يخلق في ذهنه عن شخصية الطرف الآخر صورة مهزوزة وحقيرة.

٥ ـ عقد الحقارة : وهي أحد العوامل لسوء الظن بالناس ، فالشخص الذي يعيش الحقارة في شخصيته ويشعر بالتفاهة لذاته أو يجد من الآخرين تحقيراً لشخصيته فانّه يسعى كذلك في التنقيص من شخصية الآخرين واحتقارهم ويتصوّرهم شخصيات ملّوثة وحقيرة ليشبع هذه العقدة في نفسه ويرضي حالته النفسية المهزوزة ، وحينئذٍ يشعر بالراحة الكاذبة من جرّاء ذلك.

أمّا سوء الظن بالله تعالى فيعتمد في الأصل على ضعف الإيمان واليقين في الإنسان واهتزاز صورة الالوهية في دائرة صفات الذات وصفات الأفعال ، فضعف اليقين واهتزاز الإيمان من شأنه أن يخلق في فكر الإنسان سوء الظن وعدم الثقة بالوعود الإلهية لعباده ، وكذلك بالنسبة إلى علم الله تعالى وقدرته ورحمانيّته ورازقيّته وسائر صفاته الحسنى ، وبالتالي يوصد أمامه أبواب السعادة والنجاة.

مراتب سوء الظن :

وأحد الأسئلة المهمّة التي تثار على بساط البحث في هذا المورد هو أنّه أساساً هل أنّ سوء الظن أمراً اختيارياً أو غير اختياري؟ فلو رأى الإنسان ظاهرة معيّنة وأساء الظن بشخص أو أشخاص بدون اختيار ، فهل هذا المعنى يوجب له الذم والتوبيخ؟ وهل تقع هذه الحالة مورداً للتكليف مع أنّ مقدّماتها غير اختيارية؟ وكيف يمكن تعلّق الذم والعقاب بأمر غير اختياري؟

ويمكن الإجابة عن هذه التساؤلات وعلامات الاستفهام من طريقين :

الطريق الأول : أنّ سوء الظن هذا الذي يقفز إلى ذهن الإنسان بدون اختيار منه لا يكون مورد الذم والعقاب لوحده ، فلو أنّه لم يتجسّد في مرحلة العمل ولم يرتب الإنسان عليه أثراً

٣٠١

على مستوى الممارسة والكلام ، ولا يصدر منه سلوك يشير إلى سوء الظن هذا فإنّه لا يقع مورد الذم ولا العقاب ، ولذلك ذكر بعض علماء الأخلاق في هذا المجال :«وَأَمّا الخَواطرُ وَحَدِيثُ النَّفسِ فَهُو مَعفُوٌ عَنهُ وَلَكنَّ المَنهِيَّ عَنهُ أَنْ تَظُنَّ ، والظَّنُّ عِبارَةٌ عَمّا تِركَنُ إِلِيهِ النَّفسُ وَيَميلُ إِلَيهِ القَلبُ» (١) .

وخلاصة الكلام أنّ سوء الظن له ثلاثة مراحل :

أحدها : سوء الظن القلبي.

الثانية : سوء الظن اللّساني.

الثالثة : سوء الظن العملي.

فأمّا ما كان في القلب فلا يقع مشمولاً للتكليف لأنّه خارج عن دائرة الاختيار ، ولكنّ ما يصدر من الإنسان بلسانه أو بعمله فهو الممنوع والحرام.

ولهذا ورد في بعض الروايات قولهعليه‌السلام :«وإِذا ظَنننتَ فلا تَحَقِّقْ» (٢) .

الطريق الثاني : إنّ الكثير من أشكال سوء الظن غير الاختيارية تتضمّن مقدّمات اختيارية في البداية أو في إدامتها واستمرارها ، فالأشخاص الذين يجالسون رفاق السوء فيحصل لهم سوء الظن بالأخيار ينبغي عليهم اجتناب مثل هذه المعاشرة ولمثل هؤلاء الرفاق من الفسّاق والأشرار حتى لا تحصل لديهم حالة سوء الظن تجاه الآخرين ، وهذا أمر اختياري ، ولكن لو حصل له سوء الظن بدون مقدّمات اختيارية ، فيجب على الإنسان أن يتفكّر في حالته هذه ويضع في تصوّره احتمالات صحيحة إلى جانب الاحتمالات السيئة التي أورثته سوء الظن ، مثلاً يقول : إنّ هذه المرأة الأجنبية التي رآها مع الشخص الفلاني ، إمّا أن تكون أخته أو ابنة أخيه أو ابنة اخته أو زوجته وأمثال ذلك من أقرباء الشخص الذين لا يعرفهم هو ، فلا شك أنّ مثل هذا التفكير السليم واحتمال هذه الاحتمالات الصحيحة يتسبب في إضعاف سوء الظن عنده أو يزيله تماماً من ذهنه ، ولهذا ورد في الحديث الشريف

__________________

١ ـ المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٦٨.

٢ ـ فرائد الاصول للشيخ مرتضى الأنصاريقدس‌سره ، في حديث الرفع ؛ بحار الانوار ، ج ٥٥ ، ص ٣٢٠ ، ذيل الحديث ٦.

٣٠٢

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :«اطلُبْ لأخِيكَ عُذراً فَانْ لَم تَجِدْ لَهُ عُذراً فَالتَمِسْ لَهُ عُذراً» (١) .

وقد مرّ علينا الحديث الشريف عن أمير المؤمنينعليه‌السلام هو أنّه قال :«لا تَظُنَنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءً وَأَنتَ تَجِدُ لَها فِي الخَيرِ مُحتَمَلاً (مَحمَلاً» (٢) .

وعلى هذا الأساس يمكننا تقسيم سوء الظن إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ سوء الظن الذي يتجسّد في أفعال الشخص وكلماته وأقواله ، وهذا القسم من سوء الظن الحرام.

٢ ـ سوء الظن الذي لا يظهر أثره خارجاً ، ولكنّه يمكن للشخص إزالته من خلال التفكير السليم وبواسطة إزالة مقدّماته الخارجية ، فهذا النوع من سوء الظن يحتمل أن يكون مشمولاً لأدلّة الحرمة.

٣ ـ سوء الظن الذي لا يترتب عليه أثر خارجي ، وهو خارج تماماً عن دائرة اختيار الإنسان وإرادته ولا يمكن إزالته بشتى الوسائل ، فمثل هذا الظن السيء لا يكون مشمولاً للتكاليف الشرعية ما دام الإنسان لم يرتّب عليه أثراً معيّناً.

والقرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى في الآية ٣٦ من سورة الأسراء :( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) .

وفي هذه المرحلة يجب التوجّه إلى الاصول والمباديء الحاكمة في دائرة علاج الأمراض الأخلاقية والرذائل النفسية ، وأهمّها التفكّر في الآثار السلبية والعواقب الوخيمة لسوء الظن ، لأنّه عند ما يتفكّر الإنسان في عواقب سوء الظن وكيف أنّه يتلف رأس المال الاجتماعي بين أفراد البشر ويسلب منهم الثقة والاعتماد المتقابل ويربك الهدوء والاستقرار في مفاصل المجتمع ، ويتسبب في خسارة الإنسان لأصدقائه وفقده لأحبائه ويورثه الغفلة عن واقعيّات الامور والحقائق الاجتماعية ، ويقوده إلى إرتكاب الظلم والعدوان في حق الآخرين (كما تقدّم تفصيله سابقاً) فحينئذٍ سوف يبتعد عن هذه الرذيلة

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ١٩٦ ، ح ١٥.

٢ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، ح ٣٦٠ ؛ بحار الانوار ، ج ٧١ ، ص ١٨٧.

٣٠٣

الأخلاقية بدون صعوبة ، كما أنّ إطّلاع الإنسان على كون الغذاء مسموماً سيخلق في نفسه مناعة شديدة عن تناوله ، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى فإنّه كلّما تحرّك الإنسان لقطع جذور هذه الرذيلة وقلع أسبابها من مواقع النفس ، أي مجالسة رفاق السوء والتي تسبب سوء الظن بالأخيار أو يبتعد مهما أمكنه عن الأجواء الملّوثة والمحيط السيء والفاسد ، ويطهّر قلبه من أدران الحسد والحقد والتكبّر والغرور التي هي من العوامل المهمّة لسوء الظن وأمثال ذلك من الأسباب والعوامل الاخرى ، فسوف تنتهي وتزول منه هذه الرذيلة الأخلاقية.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ بعض الامور يمكنها أن تساعد الإنسان على إنقاذه من شر هذه الحالة السلبية ، وهي :

الف : البحث عن الاحتمالات السليمة في تبرير سلوكيات الآخرين المبهمة التي قد تورثه سوء الظن ، كما قرأنا في الروايات السابقة عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قوله :«لا تَظُنَنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءً وَأَنتَ تَجِدُ لَها فِي الخَيرِ مُحتَمَلاً (مَحمَلاً» (١) .

ومن الواضح أنّ الكثير من الأعمال والسلوكيات الصادرة من الأشخاص تقبل التبرير السليم والحمل على الصحّة.

ب : أن يبتعد الإنسان عن التجسّس في أعمال الآخرين والذي قد يكون معلولاً لسوء الظن أولاً ، ويتسبب كذلك في سوء الظن أيضاً ، فلو أنّ الإنسان تجنّب التجسّس في حياة الآخرين الخصوصية فانّه يكون قد تخلّص من أحد الأسباب المهمّة لسوء الظن.

ج : أن لا يرتب أثراً عملياً على سوء ظنّه وبذلك يحقّق له أحد طرق العلاج لهذه الرذيلة ، لأنّ الإنسان إذا أساء الظن بشخص من الأشخاص وأفعاله ثم جسّد سوء الظن هذا على سلوكياته وأفعاله كأن يبتعد عنه ويظهر عدم الثقة به أو يستشمّ من أفعاله وعلاقته بذلك الشخص أنّه يسيء الظن به ، فهذه الحالة تسبب في تقوية سوء الظن وزيادته واشتداده ، ولكن إذا لم يهتمّ لذلك ولم يرتّب عليه أثراً ، فإنّه سيضعف تدريجياً وبالتالي سينتهي ولذلك

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، ح ٣٦٠.

٣٠٤

ورد في الروايات الإسلامية :«إِذا ظَنَنَّتُم فَلا تَحَقَّقُوا» (١) .

ولا شك أنّ الالتفات إلى العقوبات الإلهية الاخروية والآثار المعنوية السلبية لهذه الرذيلة الأخلاقية والتي سبقت الإشارة إليها في الروايات الشريفة لها أثر قوي أيضاً في الوقاية من الابتلاء بهذا المرض المعنوي ، وتمنح الإنسان القدرة على التحرّك بعيداً عن ممارسة تداعيات هذه الصفة الأخلاقية الذميمة.

موارد الاستثناء :

لا شك أنّ قبح سوء الظن رغم أنّه يعتبر قاعدة كليّة وأصل من الاصول الاخلاقّية في دائرة علم الإخلاق ، إلّا أنّه هناك إستثناءات لهذا الأصل العام وردت الإشارة إليها في الروايات الإسلامية ، ومن ذلك :

ألف) إذا ساد الفساد والانحطاط الأخلاقي في مجتمع ما وكان التلّوث بالرذائل الإخلاقيّة هو السائد لهذا المجتمع البشري فانّ حسن الظن في مثل هذه الحالات ليس فقط لا يعدّ من الفضائل الإخلاقية ، بل يمكن أن يورّط الإنسان بعواقب سلبيّة ومشاكل حقيقية أيضاً ، وورد التحذير من هذا النوع من حسن الظن في الروايات الإسلاميّة.

فنقرأ في الحديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قوله :«اذا اسْتَوْلَى الصَّلاحُ عَلَى الزَّمانِ وَاهْلِهِ ثُمَّ أساءَ رَجُلٌ الظَنَّ بِرَجُلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ حَوْبَةٌ فَقَدْ ظَلَم ، وَإِذا اسْتَوْلَى الْفَسادُ عَلَى الزَّمانِ وَاهْلِهِ فَاحْسَنَ رَجُلٌ الظَّنَ بِرَجُلٍ فَقَدْ غَرَّرَ» (٢) .

وهذا المضمون ورد أيضاً بتعبيرات مختلفة عن الإمام الصادقعليه‌السلام والكاظمعليه‌السلام والهاديعليه‌السلام (٣) .

وقد ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :«احْتَرِسُوا مِنَ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ» (٤) .

__________________

١ ـ كنز العمال ، ج ٣ ، ص ٤٧٩ ، ح ٧٥٨٥.

٢ ـ نهج البلاغة ، كلمات قصار ، ح ١١٤.

٣ ـ ميزان الحكمه ، ج ٢ ، ص ١٧٨٧ ، ح ١١٥٧٥ تا ١١٥٧٧.

٤ ـ بحار الانوار ، ج ٧٤ ، ص ١٥٨ ، ح ١٤٢.

٣٠٥

وهذا أيضاً يمكن أن يكون إشارة لمثل هذه الأزمان والحالات التي يسود فيها الإنحطاط الأخلاقي في مفاصل المجتمع البشري ، وإلّا فانّ سوء الظن بعنوانه أصل عام لا يمكن أن يكون مورد المدح والثناء والقبول.

ويستفاد من مجموع ما تقدم من الروايات أنّ الأصل في الأجواء الاجتماعية السالمة نسبياً هو حسن الظن ، وعلى العكس من ذلك فإذا عاش الإنسان في أجواء فاسدة ومتخلّفة فانّ الأصل يجب أن يبتنى على سوء الظن ، وطبعاً هذا لا يعني أن ينسب الإنسان بعض التهم ويلفّق بعض العيوب والنقائص لشخص من الأشخاص ، بل ينبغي الاحتياط في مثل هذه الظروف لئلّا يتورّط الإنسان في مشاكل ومصاعب يفرضها عليه هذا المحيط الفاسد.

وطبعاً لا ينبغي أن يكون هذا الاستثناء وهذه الروايات ذريعة بيد الأشخاص لكي يتحرّكوا من موقع سوء الظن بأيّ إنسان ويقول بأنّ هذا الزمان كثر فيه الفساد وشاع فيه الانحطاط فمن الخطأ حسن الظن بالناس ، فحتى في الأزمنة الفاسدة والأجواء المنحطة يجب على الإنسان أن يصنّف الناس إلى عدّة أصناف ، فيجعل من الأشخاص الذين يتجّلى في محياهم الصلاح والخير في دائرة الصالحين ، فلا ينبغي أن يكونوا مورد سوء الظن ما دام لم يشاهد منهم أمراً منكراً من موقع الوضوح.

ولكنه عليه أن يضع الفئات التي شاهد منها سلوكيات مخالفة وأفعال منكرة بصورة متكررة في صف الأشرار والمفسدين ، ولا ينبغي عليه أن يحسن الظن بنيّاتهم وأفعالهم اطلاقاً.

ب) بالنسبة إلى الامور الأمنيّة في المجتمع الإسلامي والتي يتعلّق بها سلامة المجتمع وأمنه واستقراره لا يجوز حسن الظن بأيّة حركة مشكوكة في هذا المجتمع ، بل يجب عليه أن يبتعد عن حسن الظن ما أمكنه ذلك ، أو بتعبير آخر يجب عليه أن يتّخذ جلباب الاحتياط في تعامله مع هذه السلوكيات والحركات الصادرة من بعض الأفراد المشكوكين.

ومفهوم هذا الكلام لا يعني أنّه يجوز هتك حرمة الأفراد أو التعامل معهم بسلبية نتيجة سوء الظن ، بل المراد أنّ جميع الحركات والسلوكيات المشكوكة يجب أن توضع تحت النظر

٣٠٦

ويتمّ دراستها بدقّة ، فلو اتّضح بعد التحقيق ومن خلال القرائن والبيّنات الواضحة أنّ مثل هذه الحركات كانت بدافع من سوء النيّة ومقترنة بتصرفات خاطئة ومحرّمة هناك ينبغي إتّخاذ التدابير العملية اللازمة.

ج) ومن الموارد الاخرى التي يجوز فيها سوء الظن ، بل قد يكون واجباً أيضاً هو في الحالات التي يكون الإنسان في مقابل العدو ، ويمكن أن يطلب العدو الصلح وينادي بالمحبّة والصداقة ويعلن عن رغبته في التعاون وأمثال ذلك ، فمثل هذه الموارد لا ينبغي التعامل معه بسذاجة وتصديق كلّما يقوله من موقع حسن الظن واسدال الستار عن الماضي نهائيّاً والتقدّم إلى العدو بابتسامة عريضة والشد على يده ومعانقته ، بل ينبغي أن يضع في زاوية الاحتمال أن يكون هذا السلوك من العدو من موقع المكر والحيلة والخدعة لإستغفال الطرف المقابل.

ولهذا ورد في عهد مالك الأشتر المعروف قول أمير المؤمنينعليه‌السلام :«الحَذَرُ كُلُّ الحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعدَ صُلحِهِ فَإنَّ العَدُوَّ رُبَّما قاربَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالحَزمِ وَاتَّهِم فِي ذَلِكَ حُسنَ الظَّنِّ» (١) .

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٣٠٧
٣٠٨

١٣

التجسّس في الحالات الخاصة للناس

تنويه :

(التجسّس) بمعنى البحث والفحص في أعمال الآخرين والامور المتعلّقة بهم ، وغالباً ما يكون هذا البحث في الامور السلبية ونقاط الضعف والسلوكيات الذميمة ، ولكنّ التجسّس في لغة العرب يأتي بمعنى البحث والفحص في المسائل الإيجابية أيضاً.

وفي الحقيقة أنّ سوء الظن هو السبب في أن يتحرّك الإنسان للكشف عن أسرار الناس وامورهم الخفيّة ، وأحياناً تدخل عوامل اخرى من قبيل : البخل والحسد وضيق الافق وأمثال ذلك في خلق هذه الحالة الذميمة لدى الإنسان.

التجسّس بالشكل المذكور آنفاً يعتبر حالة ذميمة جدّاً في دائرة المفاهيم الإسلامية ومن الأعمال المحرّمة حيث يتسبب في سلب الأمن الاجتماعي وخلق أنواع الخصومات والنزاعات بين الأفراد ، فلو ابيح لكلّ شخص أن يتدخّل في الكشف عن أسرار الآخرين والتدخل في امورهم الخاصّة في حياتهم الفردية والاسرية ، فلا يبعد أن يترتب على ذلك هتك حرمة الكثير من الأفراد وتدمير شخصيتهم الاجتماعية وبالتالي إندلاع نيران الحقد والعداوة والبغضاء في المجتمع بحيث يتحوّل مثل هذا المجتمع إلى جحيم لا يطاق.

وبالطبع فإنّ هذا الحكم الأخلاقي والإسلامي لا يتقاطع أبداً مع ضرورة وجود أجهزة

٣٠٩

أمنيّة وتجسّسية في جهاز الحكومة الإسلامية ، لأنّ ما تقدّم من التجسّس المذموم يتعلّق بالحياة الخاصة للأفراد ، وأمّا هذا المعنى الثاني فيتعلّق بمصير المجتمع وأمنه ويهدف إلى التصدّي لمؤامرات الأعداء وكشف مخططاتهم والوقاية من تسرّب عناصر الشر والانحراف في مفاصل المجتمع الإسلامي.

وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي منه الدروس الأخلاقية في هذا الباب.

نقرأ في القرآن الكريم آية واحدة تنهى عن التجسّس ، وهي الآية ١٢ من سورة الحجرات حيث يقول تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) .

وكما تقدّمت الإشارة إليه في بحث الغيبة وسوء الظن فإنّ الآية الشريفة المذكورة أعلاه تنهى عن ثلاثة أشياء ، وهي في الواقع بمثابة العلّة والمعلول ، فالأول تنهى عن سوء الظن الذي يعدّ العلّة والمصدر للتجسّس ، ثم تنهى عن التجسّس الذي يتسبب في الكشف عن عيوب الآخرين المستورة وبالتالي التحرّك من موقع غيبتهم وفضح معايبهم.

وكما تقدّمت الإشارة إليه آنفاً فإنّ (التجسّس) له مفهوم سلبي ويراد به عادة سلوك غير أخلاقي تجاه الآخرين ، ولكنّ (التجسّس) قد يرد في مورد يكون البحث والفحص عن الشيء مطلوباً ومحموداً كما نقرأ في قصّة يوسفعليه‌السلام أنّ يعقوبعليه‌السلام أمر أولاده وقال :( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ ) (١) .

وذهب البعض إلى أنّ التحسّس بمعنى إستراق السمع بالنسبة لكلمات وأحاديث الآخرين ، في حين أنّ التجسّس هو البحث والفحص العملي عن أسرار وعيوب الآخرين.

وممّا يلفت النظر أنّ النهي عن التجسّس في آية سورة الحجرات لم يتقيّد بقيد أو شرط ، وهذا يدلّ على أنّ الأصل هو حرمة التجسّس بعنوان قاعدة عامّة ، ولو رأينا أحياناً في الأحكام الإسلامية جواز التجسّس لأغراض خاصّة فإنّ ذلك من قبيل الاستثناء.

وقد كان الحكم بحرمة التجسّس وبالنظر لهذه الآية الشريفة إلى درجة من الوضوح في

__________________

١ ـ سورة يوسف ، الآية ٨٧.

٣١٠

الذهنية المسلمة حتى أنّ المسلمين كانوا يستدلون بهذه الآية كدليل على حرمة التجسّس ، فقد ورد في مصادر أهل السنة من قبيل كنز العمال نقلاً عن (ثور الكندي) حيث يقول : كان عمر بن الخطاب يعسّ في الليل في أزقة المدينة فسمع يوماً صوت رجل يغني في داخل بيته فما كان من عمر إلّا أن تسلق الجدار فصاح به : يا عدو الله أحسبت أنّك ترتكب الذنب في خفاء وأنّ الله تعالى لا يراك؟

فقال له ذلك الرجل : لا تعجل يا أمير المؤمنين ، فلو ارتكبت ذنباً واحداً فقد ارتكبت أنت ثلاثة ، فانّ الله تعالى يقول( وَلا تَجَسَّسُوا ) وأنت قد تجسّست علينا ، ويقول أيضاً :( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) (١) ، وأنت تسلقت الجدار ، والله تعالى يقول :( لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ) (٢) ، وأنت دخلت البيت بلا اذن ولا سلام.

فما كان من عمر إلّا أن أطرق أمام هذا الاستدلال المتين ثم قال له : إذا عفوت عنك فهل تترك ما أنت عليه؟ فقال : نعم ، فتركه عمر وذهب(٣) .

التجسّس في الروايات الإسلامية :

إنّ مسألة التجسّس ذكرت في الروايات الإسلامية من موقع الذم والتقبيح بحيث أنّ القاريء لهذه الروايات يستنتج أهمية وشناعة هذا العمل والسلوك الأخلاقي الذميم ، ومن ذلك :

١ ـ ما ورد عن رسول الله أنّه قال :«إِيّاكُم وَالظَّنَّ فَإنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الحَدِيثِ وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا» (٤) .

٢ ـ ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم أيضاً قوله : «لا تَحاسَدُوا وَلا تَباغَضُوا وَلَا

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ١٨٩.

٢ ـ سورة النور ، الآية ٢٧.

٣ ـ كنز العمال ، ج ٣ ، ص ٨٠٨ ، ح ٨٨٢٧.

٤ ـ صحيح المسلم ، ج ٤ ، ص ١٩٨٥ ، ح ٢٥٦٣.

٣١١

تَجَسَّسُوا وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَناجَشُوا وَكُونُوا عِبادَ اللهِ إِخواناً »(١) .

ويتّضح من هذا الحديث جيداً أنّ حال التجسّس كحال الحسد والحقد والكراهية فإنّه يتسبب في تباعد الناس وتمزّق أوصال المجتمع الإسلامي والتدهور والارتباك في العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وقد أورد الكليني في كتابه الكافي حديثاً عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «يا مَعْشَرَ مَنْ أَسلَمَ بِلِسانِهِ وَلَم يُسلِمْ بِقَلبِهِ لاتَتَبِّعُوا عَثَراتِ المُسلِمِينَ فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَثَراتِ المُسلِمِينَ تَتَبَّعُ اللهُ عَثرَتَهُ وَمَن تَتَبَّعُ اللهُ عَثرَتَهُ يَفْضَحْهُ»(٢) .

٣ ـ وفي حديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال :«تَتَبَّعُ العَيُوبِ مِنْ أَقبَحِ العُيُوبِ وَشَرِّ السَّيِّئاتِ» (٣) .

٤ ـ ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمامعليه‌السلام أنّه قال :«مَنْ بَحَثَ عَنْ أَسرارِ غَيرِهِ أَظهَرَ اللهُ أَسرارَهُ» (٤) .

٥ ـ وجاء في حديث آخر عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أيضاً قوله :«مَن تَتَبَّعَ خَفِيَّاتِ العُيُوبِ حَرَّمَهُ اللهُ مَوَدّاتِ القُلُوبِ» (٥) .

٦ ـ وورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال لأحد أصحابه :«لا تُفَتَّشِ النّاسَ عَنْ أَديانِهِم فَتَبقى بِلا صَدِيقٍ» (٦) .

وهذا يدلّ على أنّ أغلب الناس لهم عيوب ونقائص في دائرة العقيدة أو العمل ، فعند ما تبقى مستورة وخفيّة ، فإنّ ذلك من شأنه أن يوطّد العلاقات بين الأفراد ويتعامل الأفراد فيما بينهم من موقع المحبّة والود ويلتزمون بأصالة الصحّة والعدالة في الطرف الآخر ، ولكن في غير هذه الصورة فانّ الإنسان يبقى بلا صديق.

__________________

١ ـ صحيح المسلم ، ج ٤ ، ص ١٩٨٥ ، ح ٢٥٦٣.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٥٤ ، ح ٤.

٣ ـ غرر الحكم.

٤ ـ المصدر السابق.

٥ ـ المصدر السابق.

٦ ـ بحار الانوار ، ج ٧٥ ، ص ٢٥٣ ، ح ١٠٩.

٣١٢

الآثار والعواقب السلبية للتجسّس :

إنّ البحث والتفحّص عن حال الآخرين لغرض الكشف عمّا خفي من معايبهم ونواقصهم له آثار سلبية كثيرة في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية.

لأنّه من جهة يؤدّي إلى نفور الناس وكراهيتهم لمن يتدخل في شؤونهم الخاصة ويتعدّى على أسرارهم ويهدف إلى الكشف عن امورهم الخاصة ، فيرون مثل هذا الشخص معتدياً على حريمهم الخاص ولا يقيمون له احتراماً ولا يرون له شخصية وحيثية في نظرهم ويكرهون من يعيش هذه الحالة الذميمة بشدّة.

وقد قرأنا في الحديث السابق قول الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ الشخص الذي يفتّش عن عيوب الناس يبقى بلا صديق ، فيمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى.

ومن جهة اخرى فإنّ أغلب الناس لديهم نقاط ضعف وعيوب في شخصيتهم وسلوكياتهم وأخلاقهم فهي لو أنّها بقيت مستورة وفي حيّز الكتمان ، فإنّ ذلك من شأنه أن يدفع بعجلة التفاعل الاجتماعي بين الأفراد كما يرام ، ولكن عند انتشار هذه العيوب ونقاط الضعف فإنّ ذلك من شأنه أن يتسبب في سوء الظن لدى الأفراد وانفصام علقة الاخوة والصداقة والمحبّة بينهم.

ومن جهة ثالثة فانّ التجسّس والتفتيش عن عقائد الآخرين وأسرارهم وعيوبهم يتسبب في تعميق حالة الكراهية والحقد والعداوة بين أفراد المجتمع وأحياناً يؤدّي إلى النزاع الدموي الشديد بينهم.

فإذا أردنا أن يعيش المجتمع السلامة والاطمئنان والاستقرار فينبغي الحذر والابتعاد عن هذا السلوك السلبي.

ومن جهة رابعة فإنّ أكثر الناس يتحرّكون في مقابل هذا العمل من موقع المقابلة بالمثل ، أي يسعون إلى التجسّس والفحص عن عيوب الشخص الفضولي والمتجسّس على أحوالهم ويكشفونها إلى الملأ ، ولعل هذا الحديث الشريف ناظر إلى هذا المعنى وهو قوله :«مَنْ بَحَثَ

٣١٣

عَنْ أَسرارِ غَيرِهِ أَظهَرَ اللهُ أَسرارَهُ» (١) .

ونقرأ في حديث آخر قولهعليه‌السلام :«مَنْ كَشَفَ حَجابَ أَخِيهِ إِنكَشَفَتْ عَورَاتُ بَيتِه» (٢) ، وهو قد يكون إشارة إلى هذا المعنى بالذات ، أو إشارة للأثر الوضعي ونتائج هذا العمل في الدنيا.

ونقرأ كذلك في حديث آخر عن هذا الإمامعليه‌السلام قوله :«مَنْ تَطَّلَعَ عَلى أَسرارِ جارِهِ إِنتُهِكَتْ أَستارُهُ» (٣) .

أمّا الدوافع على هذه الرذيلة الأخلاقية وهي التجسّس والتفتيش في أسرار الناس وأحوالهم الخاصة فكثيرة ، ومن ذلك :

١ ـ سوء الظن بالآخرين الذي يقود الإنسان غالباً إلى التجسّس عن أحوالهم ، فلو أنّه استبدله بحسن الظن فإنّه لا يفكّر عند ذاك بالتفتيش عن عيوب الآخرين ، ولهذا السبب كما أشرنا سابقاً أنّ الآية ١٢ من سورة الحجرات تنهى عن التجسّس بعد النهي عن سوء الظن.

٢ ـ التلوّث بالذنوب والعيوب المختلفة والذي يعدّ عاملاً آخر يدفع صاحبه نحو التجسّس على الآخرين ، لأنّ الشخص الملّوث بالذنوب والغارق في العيوب يريد أن يرى جميع الناس مثله ، وبذلك سوف ينطلق من موقع جبران عيوبه وخلق أجواء كاذبة له من الهدوء النفسي وتسكين حالة التوتر التي تفرضها عليه عيوبه الكثيرة فيقول في نفسه بأنني إذا كنت ملّوثاً فسائر الناس كذلك.

ونقرأ في الحديث الشريف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :«شَرُّ النّاسِ الظّانّون وشَرُّ الظّانّين المُتَجَسِّسُونَ» (٤) .

وأحد العوامل الاخرى للتجسّس هي حالات الحسد والحقد والعداوة والتكبّر والعجب في واقع الإنسان الناقص حيث تدفعه هذه العناصر الشريرة إلى التفتيش عن عيوب

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ المصدر السابق.

٤ ـ مستدرك الوسائل ، ج ٩ ، ص ١٤٧ ، الباب ١٤١ ، ح ١٥ الطبعة الجديدة.

٣١٤

الآخرين واستخدامها كأداة لتسقيطهم وهتك حيثيّتهم لغرض إرضاء الميل إلى التفوّق ورؤية الأنا متعالية على الآخرين.

٤ ـ ومن العوامل الاخرى لهذه الرذيلة هو ضعف الإيمان أيضاً ، لأنّ الإنسان الذي يعيش ضعف الإيمان بالله تعالى لا يلتزم باحترام إيمان الآخرين وشخصيتهم الاجتماعية ، ولذلك يتدخّل بأدنى حجّة في امورهم الخاصة وحريم حياتهم الخصوصية ولا يرى بأساً في الكشف عن مثالبهم وهتك حرمتهم وإراقة ماء وجوههم ، كما قرأنا في الأحاديث السابقة عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ مثل هؤلاء الأشخاص هو من قبيل :«يا مَعْشَرَ مَنْ آمَن بِلِسانِهِ وَلَم يَدخُلِ الإيمانَ فِي قَلبِهِ».

استثناءات :

هنا يطرح سؤال وهو : هل أنّ التجسّس يعدّ عاملاً منافياً للأخلاق والشرع في جميع الموارد ، أو هناك بعض الاستثناءات التي تخرجه عن دائرة الحرمة الشرعية؟ فإنّ جميع الدول والحكومات في العالم سواءً الإسلامية وغير الإسلامية لديها أجهزة أمنيّة خاصة تعمل في دائرة التجسّس والفحص عن أسرار الناس وحالاتهم وتتدخل في امورهم وتسعى إلى الكشف عن أسرارهم ، وهناك موارد اخرى لا يكون التجسس في امور الناس ممنوعاً في نظر عقلاء العالم ، بل قد يكون لازماً وضرورياً.

وفي مقام الجواب عن هذا السؤال يجب القول إنّ هذا الأصل العام في مسألة حرمة التجسّس وقبحه في دائرة القيم الأخلاقية له بعض الموارد الاستثنائية كما هو الحال في الاصول العامة الاخرى ، ومن ذلك :

١ ـ الأجهزة الأمنيّة

إنّ كل حكومة ودولة تجد نفسها موظفة بحماية شعبها من شر مؤامرات الأعداء في الداخل والخارج وتستخدم الحذر من جواسيس الأعداء ، ولا شك أنّ المسؤولين في هذه الحكومات إذا أرادوا أن يواجهوا الأحداث والوقائع من موقع حسن الظن والحمل على

٣١٥

الصحة ، فإنّ ذلك من شأنه أن يورطّهم في العواقب الوخيمة لمؤامرات الاعداء من المنافقين في الداخل ومن تربّص بهم الدوائر في الخارج ، لأنّ مؤامراتهم سريّة جدّاً ويتحرّكون بمنتهى الحذر والتستر بظواهر طبيعية وأقنعة جميلة ولا يتسنى للمسؤولين التعرّف على حالهم إلّا من خلال التفتيش الدقيق والتجسّس المستمر لكشف مؤامرات هؤلاء الأعداء وابطال مفعولها.

ففي مثل هذه الموارد يجب اجتناب حسن الظن والابتعاد عن الحمل على الظاهر الحسن ، بل ينبغي النظر إلى كل ظاهرة اجتماعية وسياسية من موقع سوء الظن لحفظ الأهداف الكبيرة والأغراض المتعالية للمصالح العامة للُامّة الإسلامية وبذلك تتّضح الحكمة من تشكيل الأجهزة الأمنيّة والتجسسية في الداخل والخارج ، وبعبارة اخرى : إنّ هذا الاستثناء ينبع من قانون الأهم والمهم ، فما أكثر الأفراد الذين يقعون مورد سوء الظن وبالتالي تتحرّك الأجهزة الأمنيّة للتفتيش عن أحوالهم الخاصة فيثبت برائتهم وسلامتهم من أي عمل شائن ، ولكن من البديهي أنّه ولغرض العثور على المجرم الواقعي وعملاء الأعداء في الداخل فلا مفرّ من مزاولة البحث والفحص الواسع في جميع الموارد المحتملة للوصول إلى نتيجة حاسمة.

وقد يلزم أحياناً أن تبعث الحكومة ببعض الجواسيس وبظواهر مختلفة وسط الأعداء أو إدخال بعض عناصر الأمن كموظفين في المؤسسات المهمّة التي تعمل في الداخل على شكل عامل أو موظف وأمثال ذلك كيما يتسنى لها الكشف عن بذور الفتنة واحباط أيّة مؤامرة قبل تشكلها واشتدادها ، وبالتالي تعرّض الامّة مصالحها للخطر.

وبالطبع فإنّ هذا لا يعني أنّه يمكن إتّخاذ هذا الاسلوب ذريعة للتدخل في الحياة الخصوصية لجميع أفراد المجتمع وإذاعة أسرارهم وكشف مساوئهم التي لا ترتبط اطلاقاً بمصالح الامّة وأهدافها البعيدة رغم أننا نرى مع الأسف الكثير من التخلفات التي تجري في إطار هذا الأصل العقلائي فيساء استخدامه في كثير من الأحيان ، ونظراً إلى أنّ الجواز في عملية التجسّس يعتبر حكماً استثنائياً من الأصل العام فلا بدّ من مراعاة هذه الموارد بدقّة

٣١٦

والنظر إلى فلسفة هذا الحكم بالذات كيما نتجنّب الافراط في بعض الممارسات التي تدخل تحت هذا العنوان.

ونقرأ في آيات القرآن الكريم وسيرة النبي الأكرم والروايات الإسلامية إشارات واضحة إلى هذه المسألة المهمّة.

فيقول القرآن الكريم في الآية ٤٧ من سورة التوبة بصراحة أنّ من بين المسلمين أشخاصاً يمثّلون عملاء العدو وجواسيسه ، وعلى المسلمين أن يحذروا منهم حيث تقول الآية :( وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ) .

ومن هذا القبيل ما ورد في قصّة المرأة التي أرسلها بعض المنافقين لتوصل أخبار المدينة إلى المشركين في مكّة قبيل الفتح وأنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قد جهّز جيوشاً كبيرة للهجوم على مكّة حيث أرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام عليعليه‌السلام ورائها فوجدها في الطريق وهددها لتسلّم الرسالة ، فاضطرت أخيراً إلى الاعتراف وتسليم هذه الرسالة إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام (١) ، وكذلك قصّة تجسّس حذيفة في معركة الأحزاب لصالح المسلمين ونفوذه إلى قلب جيش الأعداء لتفحّص الأخبار ونقلها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

ويستفاد من آيات القرآن الكريم أنّ هذه المسألة كانت موجودة أيضاً في عصر الانبياء السابقين ، وأحياناً تتخذ صبغة إعجازية كما في قصّة النبي سليمانعليه‌السلام عند ما استخدم الهدهد ليوصل إليه أخبار المناطق البعيدة.

ونقرأ في الحديث الشريف عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أنّه قال :«كانَ رَسُولُ اللهِ إِذا بَعَثَ جَيشَاً فَاتَّهم أَمِيراً بَعَثَ مَعَهُم مِنْ ثِقاتِهِ مَنْ يَتَجَسَّسُ لَهُ خَبَرَهُ» (٣) .

ونقرأ في نهج البلاغة في الكتاب ٣٣ قول الإمام علي أمير المؤمنينعليه‌السلام لقُشم بن عباس أمير مكّة :«أَمّا بَعدُ فَإنَّ عَينِي بِالمَغرِبِ كَتَبَ إِلَيَّ يُعلِمُنِي إِنَّهُ وُجِّهَ إِلَى المَوسِمِ مِنْ أَهلِ الشَّامِ العَمي القُلُوبِ الَّذِينَ يَلبِسُونَ الحَقَّ بِالباطِلِ وَيُطِيعُونَ المَخلُوقَ فِي مَعصِيةِ الخَالِقِ

__________________

١ ـ راجع نفحات القرآن ، ج ١٠

٢ ـ راجع نفحات القرآن ، ج ١٠.

٣ ـ وسائل الشيعة ، ١١ ، ٤٤ ، ح ٤.

٣١٧

فَأَقِمْ عَلى ما فِي يَدَيكَ قِيامَ الحَازِمِ الصَّلبِ».

وفي حديث آخر عن أنس بن مالك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه أرسل شخصاً يدعى (بسبسه)(١) من أصحابه للتجسّس على أحوال قافلة أبي سفيان وإخبار النبي بأخبارها(٢) .

ونقرأ إشارة واضحة إلى هذا المطلب في عهد مالك الأشتر حيث يأمره أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يجعل العيون والجواسيس على موظفيه وعمّاله كيما يراقب أعمالهم عن كثب من حيث لا يشعرون فيقول :«ثُمَّ تَفَّقَد أَعمالَهُم وابعَثْ العُيُوَنَ مِنْ أَهلِ الصِّدقِ وَالوَفاءِ عَليهِم ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لُامُورِهِم حَدوَةٌ لَهُمُ عَلى إِستِعمالِ الأَمانَةِ والرِّفقِ بِالرَّعِيَّةِ» (٣) .

وجاء في الحديث المعروف عن الإمام الحسينعليه‌السلام في مسألة بقاء محمد بن الحنفية في المدينة أنّه عند ما عزم الإمام الحسينعليه‌السلام على التحرّك من المدينة باتجاه مكّة ومنها إلى كربلاء أراد أخوه محمد بن الحنفية أن يصطحبه في هذا السفر فقال له الإمامعليه‌السلام :«أَمَّا أَنتَ فَلا ، عَلَيكَ أَنْ تُقِيمُ بِالمَدِينَةِ وَتَكُونَ لِي عَيناً لا تَخفِ عَنِّي شيئاً مِنْ امورِهِم» (٤) .

٢ ـ منظمات التفتيش والتحقيق

هناك الكثير من المنظمات في جميع الأدارات والمؤسسات المهمّة في هذا العصر باسم منظمات الفحص والتحقيق والتي تعمل لغرض إعمال النظر على عمل الموظّفين والعمّال والتصدّي لعمليات الاسراف والخلاف وضبط الامور واستطلاع الأحوال في مفاصل هذه الدوائر والمؤسّسات.

وبديهي أنّ عملهم ليس هو التجسّس على الامور الخاصة والأحوال الشخصية للعمّال والموظّفين في هذه المؤسّسات والدوائر ، بل عملهم يهدف إلى النظارة على الامور المتعلّقة بأداء العمل والوظيفة الاجتماعية ورعاية مصالح الامّة ، فلو أنّه تمّ الاستغناء عن هذه

__________________

١ ـ نقل في بعض الكتب (بَسْبَسْ) أو بسبس بن عمرو (سيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ٢٦٥).

٢ ـ سنن أبي داود ، ح ٢٦١٨.

٣ ـ نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٤ ـ حياة الحسينعليه‌السلام ، ج ٢ ، ص ٢٦٣.

٣١٨

المنظمات الاستخباراتية وتعطيل أعمالها فيمكن أن يستشري الفساد والخلل في مؤسّسات المجتمع الكبيرة وإداراته المهمّة.

ومن الواضح أنّ هذه المسألة لا تختص بزمان ومكان معيّن بل كانت موجودة منذ قديم الأيّام وفي مناطق مختلفة من العالم.

وأمّا الفرق بين الأجهزة الأمنيّة وهذه المنظّمات التحقيقية فهو أنّ الأجهزة الأمنيّة تعمل في الخفاء لرصد أعمال المتآمرين على أمن الوطن والشعب ولكنّ المنظمات التحقيقية تعمل بوضح النهار وتدرس الحالات المشكوكة وتتفحّص عن ما يثير الريبة والخلاف كيما تكشف عن السلوكيات الخاطئة لدى الموظّفين والمدراء والعمّال وتسلّمهم إلى العدالة.

٣ ـ التجسّس في المسائل المصيرية

يحق لمن يريد أن يختار له زوجة في حياته أو يسعى للعثور على شريك في أعماله التجارية أو موظّف يشتغل في منصب حسّاس في مؤسّسة معيّنة ولا يتمكن من تحقيق ذلك بدون سلوك التجسّس والتحقيق في هذه المسألة والكشف عن زواياها الخفيّة ، فالعقل والشرع يبيحان له أن يتفحّص في أحوال هؤلاء الأشخاص من أصدقائهم وأقربائهم وأرحامهم أو يتحرّك بنفسه لمراقبة حالاتهم وأوضاعهم من بعيد لكي يحصل له الاطمئنان بصلاح هذا الشخص وأنّه مناسب لهذا الغرض الذي يسعى إليه.

ومن المعلوم أنّ مثل هذا التحقيق والتفحّص خارج عن دائرة التجسّس الحرام ، ولكن لا ينبغي اطلاقاً أن يجعل ذلك ذريعة للتدخل إلى حريم الحياة الخاصة للأفراد ، فلو أنّه لم يصمم فعلاً على الزواج من تلك المرأة أو يستخدم الشريك الفلاني فلا يجوز له بهذه الذريعة أن يتجسّس على أحوالهم ولكنّه يبرّر عمله هذا بالقول بأنّه يمكن أن تحصل لديه حاجة يوماً من الأيّام لمثل هذه المعلومات التي اكتسبها عن طريق التجسّس ، فمثل هذه التبريرات الشيطانية لا يمكن أن تعتبر مجوّزاً للتعدّي على حدود الشرع وارتكاب الحرام.

والخلاصة أنّ كلّ شكل من أشكال الافراط والتفريط في هذه المسألة يتسبب في

٣١٩

الانحراف عن تعاليم الإسلام الأصلية ، وبعبارة اخرى : أنّه لا يمكن الابتعاد عن التجسّس والفحص والتحقيق في امهات المسائل الاجتماعية والضرورات الحياتية للمجتمع بسبب حرمة التجسّس وبالتالي تتعرّض مصالح الامّة للخطر ومؤامرات الأعداء ، ولا يمكن كذلك تعريض مصالح الامّة للخطر من جهة التدخل في خصوصيات الحياة الفرديّة للأشخاص التي لا ترتبط من قريب أو بعيد بالمصالح العامة وبذريعة جواز التجسّس في دائرة الاستثناء ، فكلا هذين الأمرين خارج عن حدود الحق والعدالة وبعيد عن مفاهيم الإسلام.

طرق العلاج :

وما لم يتحرّك الإنسان في طريق إزالة جذور هذه الحالة الذميمة من واقع النفس والقضاء على أسبابها ودوافعها فإنّ تركها والابتعاد عنها سيكون عسيراً للغاية ، وعليه فمن أراد التحرّك على مستوى تهذيب النفس وتطهيرها من هذه الصفة الذميمة يجب عليه أولاً الابتعاد عن سوء الظن (وفق ما ذكرنا في الأبحاث السابقة) لأنّ سوء الظن يدفع الإنسان دائماً إلى الفحص والبحث عن أحوال الطرف الآخر الذاتية ، وكذلك الحسد والحقد والعداوة والتكبّر كل واحدة منها يمكنها أن تكون عاملاً من عوامل التجسّس على الامور الخاصة بالآخرين بحيث أنّ الإنسان لو سعى لقلع عناصر الشر هذه من وجوده وقلبه فإنّ التجسّس سيزول بالتبع.

والعامل الآخر (عقدة الحقارة) والتلّوث بالذنب الذي يدعو الإنسان إلى أن يتصوّر الآخرين مثله ليكون مصداقاً للمثل الشائع«البلية إذا عَمَّتْ طابَتْ» وليحصل من ذلك على راحة نفسية كاذبة تدغدغ عواطفه وتسكّن من وخز ضميره ، فلو سعى الإنسان لتطهير نفسه من هذا التلّوث وهذه العقدة ، فإنّه لا يجد في نفسه حاجة للتفتيش والفحص عن حالات الآخرين الخصوصية.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ كل شخص يجب أن يفكّر في هذه الحقيقة ، وهي هل أنّه يرضى للآخرين أن يتدخّلوا في حياته واموره الخاصة ويكشف عن أسراره؟ فلو أنّه لم يرض عن

٣٢٠