• البداية
  • السابق
  • 417 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15394 / تحميل: 3401
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق في القرآن

الأخلاق في القرآن الجزء ٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٨١٣٩-٢٥-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

في ذمته أو كان له مال تجدد له بعد الحجر ـ ولو بالاستدانة أو قبول الهدية مثلاً ـ أو أذن له الغرماء بدفع الثمن من ماله المحجور عليه.

مسألة 333 : تثبت الشفعة للشريك وإن كان سفيهاً أو صبياً أو مجنوناً فيأخذ لهم الولي بها ، بل إذا أخذ السفيه بها بإذن الولي صح. نعم إذا كان الولي هو الوصي أو الحاكم ليس له ذلك إلا مع رعاية الغبطة والمصلحة بخلاف الأب والجد فإنه تكفي فيهما رعاية عدم المفسدة كما هو الحال في سائر التصرفات.

مسألة 334 : إذا أسقط الولي عن الصبي أو المجنون أو السفيه حق الشفعة ـ مع رعاية ما تقدم ـ لم يكن لهم المطالبة بها بعد البلوغ والعقل والرشد ، وكذا إذا لم يكن الأخذ بها مصلحة فلم يطالب. أما إذا ترك المطالبة بها مساهلة منه في حقهم فالظاهر أن لهم المطالبة بها بعد البلوغ والعقل والرشد.

مسألة 335 : إذا كان المبيع مشتركاً بين الولي والمولى عليه فباع الولي سهم المولىّ عليه جاز له أن يأخذ بالشفعة لنفسه على الأقوى.

مسألة 336 : إذا باع الولي سهم نفسه جاز له أن يأخذ بالشفعة للمولى عليه ، وكذا الحكم في الوكيل إذا كان شريكاً مع الموكل.

١٠١

فصل

في الأخذ بالشفعة

مسألة 337 : الأخذ بالشفعة من الإنشائيات المعتبر فيها الإيقاع ويتحقق ذلك بالقول مثل أن يقول : أخذت المبيع الكذائي بثمنه ، وبالفعل مثل أن يدفع الثمن إلى المشتري ويستقل بالمبيع.

مسألة 338 : لا يجوز للشفيع أخذ بعض المبيع وترك بعضه الآخر بل إما أن يأخذ الجميع أو يدع الجميع.

مسألة 339 : الشفيع يتملك المبيع بإعطاء قدر الثمن إلى المشتري لا بأكثر منه ولا بأقل سواء أكانت قيمة المبيع السوقية مساوية للثمن أم زائدة أم ناقصة ، ولا يلزم أن يعطي عين الثمن في فرض التمكن منها بل له أن يعطي مثله إن كان مثلياً.

مسألة 340 : إذا كان الثمن قيمياً ففي ثبوت الشفعة للشريك بأن يأخذ المبيع بقيمة الثمن حين البيع إشكال ، فالأحوط له عدم الأخذ بالشفعة إلا برضى المشتري كما أن الأحوط للمشتري إجابته إذا أخذ بها.

مسألة 341 : إذا غرم المشتري شيئاً من أجرة الدلال أو غيرها أو تبرع بشيء للبائع من خلعة ونحوها لم يلزم الشفيع تداركه.

مسألة 342 : إذا حط البائع شيئاً من الثمن للمشتري بعد البيع لم يكن للشفيع تنقيصه.

مسألة 343 : الأقوى لزوم المبادرة إلى الأخذ بالشفعة فيسقط مع المماطلة والتأخير بلا عذر ولا يسقط إذا كان التأخير عن عذر ـ ولو كان عرفياً ـ كجهله بالبيع أو جهله باستحقاق الشفعة ، أو توهمه كثرة الثمن فبان قليلا ،

١٠٢

أو كون المشتري زيداً فبان عمراً ، أو أنه اشتراه لنفسه فبان لغيره أو العكس ، أو أنه واحد فبان اثنين أو العكس ، أوإن المبيع النصف بمائة فتبين أنه الربع بخمسين ، أو كون الثمن ذهباً فبان فضة ، أو لكونه محبوساً ظلماً أو بحق يعجز عن أدائه ، وكذا أمثال ذلك من الأعذار.

مسألة 344 : المبادرة اللازمة في استحقاق الأخذ بالشفعة يراد منها المبادرة على النحو المتعارف الذي جرت به العادة ، فإذا كان مشغولاً بعبادة واجبة أو مندوبة لم يجب عليه قطعها.

مسألة 345 : إذا كان مشغولاً بأكل أو شرب لم يجب قطعه ولا يجب عليه الإسراع في المشي.

مسألة 346 : يجوز له إن كان غائباً انتظار الرفقة إذا كان الطريق مخوفاً ، أو انتظار زوال الحر أو البرد إذا جرت العادة بانتظاره لمثله ، وقضاء وطره من الحمام إذا علم بالبيع وهو في الحمام وأمثال ذلك مما جرت العادة بفعله لمثله ، نعم يشكل مثل عيادة المريض وتشييع المؤمن ونحو ذلك إذا لم يكن تركه موجباً للطعن فيه وكذا الاشتغال بالنوافل ابتداءً ، والأظهر السقوط في كل مورد صدقت فيه المماطلة عرفاً.

مسألة 347 : إذا كان غائباً عن بلد البيع وعلم بوقوعه وكان يتمكن من الأخذ بالشفعة ولو بالتوكيل فلم يبادر إليه سقطت الشفعة.

مسألة 348 : لا ينتقل المبيع إلى الشفيع بمجرد قوله : ( أخذت بالشفعة ) مثلاً ، بل لابد من تعقبه بدفع الثمن إلا أن يرضى المشتري بالتأخير ، فإذا قال ذلك وهرب أو ماطل أو عجز عن دفع الثمن بقي المبيع على ملك المشتري لا أنه ينتقل بالقول إلى ملك الشفيع وبالعجز أو الهرب أو المماطلة يرجع إلى ملك المشتري.

مسألة 349 : إذا باع المشتري قبل أخذ الشفيع بالشفعة لم تسقط بل

١٠٣

جاز للشفيع الأخذ من المشتري الأول بالثمن الأول فيبطل الثاني وتجزي الإجازة منه في صحته له ، وله الأخذ من المشتري الثاني بثمنه فيصح البيع الأول.

مسألة 350 : إذا زادت العقود على اثنين فإن أخذ بالأول بطل ما بعده ويصح مع إجازته ، وإن أخذ بالأخير صح ما قبله ، وإن أخذ بالمتوسط صح ما قبله وبطل ما بعده ويصح مع إجازته.

مسألة 351 : إذا تصرف المشتري في المبيع بوقف أو هبة غير معوضة أو بجعله صداقاً أو غير ذلك مما لا شفعة فيه كان للشفيع الأخذ بالشفعة بالنسبة إلى البيع فتبطل التصرفات اللاحقة له.

مسألة 352 : الشفعة من الحقوق فتسقط بالإسقاط ، ويجوز أخذ المال بإزاء إسقاطها وبإزاء عدم الأخذ بها ، لكن على الأول لا يسقط إلا بالإسقاط فإذا لم يسقطه وأخذ بالشفعة صح ولم يستحق المال المبذول ، بل الظاهر صحة الأخذ بالشفعة على الثاني أيضاً. ويصح الصلح على سقوطها فيسقط بذلك.

مسألة 353 : الظاهر أنه لا إشكال في أن حق الشفعة لا يقبل الانتقال إلى غير الشفيع.

مسألة 354 : إذا باع الشريك نصيبه قبل الأخذ بالشفعة فالظاهر سقوطها خصوصاً إذا كان بيعه بعد علمه بالشفعة.

مسألة 355 : المشهور اعتبار العلم بالثمن في جواز الأخذ بالشفعة ، فإذا أخذ بها وكان جاهلاً به لم يصح لكن الصحة لا تخلو من وجه.

مسألة 356 : إذا تلف تمام المبيع قبل الأخذ بالشفعة سقطت.

مسألة 357 : إذا تلف بعضه دون بعض لم تسقط وجاز له أخذ الباقي بتمام الثمن من دون ضمان على المشتري.

١٠٤

مسألة 358 : إذا كان التلف بعد الأخذ بالشفعة فإن كان التلف بفعل المشتري ضمنه.

مسألة 359 : إذا كان التلف بغير فعل المشتري ضمنه المشتري أيضاً فيما إذا كان التلف بعد المطالبة ومسامحة المشتري في الإقباض.

مسألة 360 : في انتقال الشفعة إلى الوراث إشكال وعلى تقدير الانتقال ليس لبعض الورثة الأخذ بها ما لم يوافقه الباقون.

مسألة 361 : إذا أسقط الشفيع حقه قبل البيع لم يسقط ، وكذا إذا شهد على البيع أو بارك للمشتري إلا أن تقوم القرينة على إرادة الإسقاط بالمباركة بعد البيع.

مسألة 362 : إذا كانت العين مشتركة بين حاضر وغائب وكانت حصة الغائب بيد ثالث فعرضها للبيع بدعوى الوكالة عن الغائب جاز الشراء منه والتصرف فيه ما لم يعلم كذبه في دعواه ، وهل يجوز للشريك الحاضر الأخذ بالشفعة بعد إطلاعه على البيع؟ إشكال ، وإن كان الجواز أقرب فإذا حضر الغائب وصدق فهو ، وإن أنكر كان القول قوله بيمينه ما لم يكن مخالفاً للظاهر فإذا حلف انتزع الحصة من يد الشفيع وكان له عليه الأجرة إن كانت ذات منفعة مستوفاة أو غيرها على تفصيل تقدم في المسألة (78) ، فإن دفعها إلى المالك رجع بها على مدعي الوكالة.

مسألة 363 : إذا كان الثمن مؤجلاً جاز للشفيع الأخذ بالشفعة بالثمن المؤجل ، والظاهر جواز إلزامه بالكفيل ، ويجوز أيضاً الأخذ بالثمن حالاً إن رضي المشتري به أو كان شرط التأجيل للمشتري على البائع.

مسألة 364 : إذا تقايل المتبايعان قبل أخذ الشريك بالشفعة فالمشهور عدم سقوطها بالإقالة ، بل لو أخذ الشفيع بها كشف ذلك عن بطلان الإقالة فيكون نماء المبيع بعدها للمشتري ونماء الثمن للبائع كما كان الحال قبلها

١٠٥

كذلك ، ولكن لا يبعد سقوطها حينئذ ، وأما لو كان التقايل بعد أخذ الشريك بالشفعة لم يمنع ذلك عن صحة الإقالة فيرجع البائع بعوض المبيع إلى المشتري.

مسألة 365 : إذا كان للبائع خيار رد العين فالظاهر أن الشفعة لا تسقط به لكن البائع إذا فسخ قبل أخذ الشريك بالشفعة يرجع المبيع إليه ولا شفعة وإن فسخ بعده رجع بالمثل أو القيمة ، وهكذا الحكم في سائر الخيارات الثابتة للبائع أو المشتري غير ما يسقط بخروج العين عن ملك المشتري كخيار العيب.

مسألة 366 : إذا كانت العين معيبة فإن علمه المشتري فلا خيار له ولا أرش ، فإذا أخذ الشفيع بالشفعة فإن كان عالماً به فلا شيء له وإن كان جاهلاً كان له الخيار في الرد وليس له اختيار الأرش ، وأذا كان المشتري جاهلاً كان له الرد فإن لم يمكن ـ ولو لأخذ الشريك بالشفعة قبل ذلك ـ كان له الأرش ، وأما الشفيع الجاهل بالعيب حين أخذه بالشفعة فيتخير بين الرد إلى المشتري وبين مطالبته بالأرش حتى وإن كان قد أسقطه عن البائع على الأقرب.

مسألة 367 : إذا اتفق اطلاع المشتري على العيب بعد أخذ الشفيع فالظاهر أن له أخذ الأرش وعليه دفعه إلى الشفيع ، وأذا اطلع الشفيع عليه دون المشتري فليس له مطالبة البائع بالأرش بل له إعلام المشتري بالحال ويتخير بين رد العين المعيبة إليه وبين مطالبته بالأرش.

١٠٦

كتاب الإجارة

١٠٧
١٠٨

وهي المعاوضة على المنفعة عملاً كانت أو غيره ، فالأول مثل إجارة الخياط للخياطة ، والثاني مثل إجارة الدار.

وفيه فصول :

فصل في شروطها

مسألة 368 : لابد فيها من الإيجاب والقبول ، فالإيجاب مثل قول الخياط : آجرتك نفسي ، وقول صاحب الدار : آجرتك داري ، والقبول مثل قول المستأجر : قبلت ، ويجوز وقوع الإيجاب من المستأجر ، مثل : استأجرتك لتخيط ثوبي وأستأجرت دارك ، فيقول المؤجر : قبلت ، ويكفي في الأخرس الإشارة المفهمة للإيجار أو الاستئجار.

مسألة 369 : تجري المعاطاة في الإجارة ـ كما تجري في البيع ـ فلو سلّم المؤجر ماله للمستأجر بقصد الإيجار وقبضه المستأجر بقصد الاستئجار صحت الإجارة.

مسألة 370 : يشترط في صحة الإجارة أمور بعضها في المتعاقدين ، وبعضها في العين المستأجرة ، وبعضها في المنفعة المقصودة بالإجارة ، وبعضها في الأجرة.

١٠٩

( شرائط المتعاقدين )

يشترط في المؤجر والمستأجر أن يكون كل منهما بالغاً عاقلا مختارا ، كما يشترط في المؤجر أن يكون مالكا للمنفعة المقصودة بالإيجار وفي المستأجر أن يكون مالكاً للأجرة ، ويشترط فيهما أن لا يكونا محجورين لسفه أو تفليس ، فلا تصح إجارة الصبي والمجنون والمكره ـ إلا أن يكون الإكراه بحق ـ كما لا تصح إجارة الفضولي ، ولا إجارة السفيه أمواله مطلقاً ، ولا إجارة المفلس أمواله التي حجر عليها.

مسألة 371 : إذا أجر السفيه نفسه لعمل فالأظهر بطلان الإجارة ـ ما لم تتعقب بإجازة الولي ـ وأما إذا آجر المفلس نفسه فالأظهر صحتها.

مسألة 372 : إذا لم يكن المؤجر مالكاً للمنفعة ـ ولم يكن ولياً ولا وكيلاً ـ توقفت صحة الإجارة على إجازة المالك ، وأذا كان محجوراً عليه لسفه توقفت صحتها على إجازة الولي ، وإن كان محجوراً عليه لفلس توقفت صحتها على إجازة الغرماء ، وإن كان مكرهاً توقفت صحتها على الرضا لا بداعي الإكراه.

( شرائط العين المستأجرة )

وهي أمور :

1 ـ التعيين ، فلا يصح إجارة المبهم كما لو قال : ( آجرتك إحدى دوري ) نعم يصح إجارة الكلي في المعين كسيارة من عدة سيارات متماثلة.

2 ـ المعلومية ، فإن كانت عيناً معينة فإما بالمشاهدة وأما بذكر الأوصاف التي تختلف بها الرغبات في إجارتها لو كانت غائبة ، وكذا لو كانت كلية.

١١٠

3 ـ التمكن من التسليم ، فلا تصح الإجارة من دونه حتى مع الضميمة على الأحوط ، نعم يكفي تمكن المستأجر من الاستيلاء على العين المستأجرة فتصح إجارة الدابة الشاردة مثلاً إذا كان المستأجر قادراً على أخذها.

4 ـ إمكان الانتفاع بها مع بقاء عينها ، فلا تصح إجارة الخبز ونحوه من المأكولات للأكل.

5 ـ قابليتها للانتفاع المقصود من الإجارة ، فلا تصح إجارة الأرض للزراعة إذا لم يكن المطر وافياً ولم يمكن سقيها من النهر أو غيره.

( شرائط المنفعة المقصودة بالإجارة )

وهي أمور :

1 ـ أن تكون محللة ، فلو انحصرت منافع المال في الحرام أو اشترط الانتفاع بخصوص المحرم منها ، أو أوقع العقد مبنياً على ذلك بطلت الإجارة ، كما لو آجر الدكان بشرط أن يباع أو يحفظ فيه الخمر ، أو آجر الحيوان بشرط أن يحمل الخمر عليه.

2 ـ أن تكون لها مالية يبذل المال بإزائها عند العقلاء على الأحوط.

3 ـ تعيين نوع المنفعة إذا كانت للعين منافع متعددة ، فلو أجر حيواناً قابلاً للركوب ولحمل الأثقال وجب تعيين حق المستأجر من الركوب أو الحمل أو كليهما.

4 ـ معلومية المنفعة ، وهي أما بتعيين المدة مثل سكنى الدار سنة أو شهراً ، وأما بتعيين المسافة مثل ركوب السيارة فرسخاً أو فرسخين ، وأما بتعيين العمل كخياطة الثوب المعين على كيفية معينة أو سياقة السيارة إلى مكة أو غيرها من البلاد المعروفة من طريق معين.

١١١

ولابد في الأولين من تعيين الزمان ، فإذا استأجر الدار للسكنى سنة ، والسيارة للركوب فرسخا من دون تعيين الزمان ، بطلت الإجارة ، إلا أن تكون قرينة على التعيين كالإطلاق الذي هو قرينة على التعجيل.

مسألة 373 : لا يعتبر تعيين الزمان في الإجارة على الخياطة ونحوها من الأعمال ، فيجب الإتيان به متى طالب المستأجر ، هذا إذا لم تختلف الأغراض باختلاف الأزمنة التي يقع فيها العمل ، والا فلابد من تعيين الزمان فيه أيضاً.

( شرائط الأجرة )

يعتبر في الأجرة معلوميتها ، فإذا كانت من المكيل أو الموزون أو المعدود لابد من معرفتها بالكيل أو الوزن أو العد ، وما يعرف منها بالمشاهدة لابد من مشاهدته أو وصفه على نحو ترتفع الجهالة.

ويجوز أن تكون الأجرة عيناً خارجية أو كلياً في الذمة ، أو عملاً أو منفعة أو حقاً قابلاً للنقل والانتقال كحق التحجير.

مسألة 374 : إذا استأجر سيارة للحمل فلابد من تعيين الحمل ، وأذا استأجر دراجة للركوب فلابد من تعيين الراكب ، وأذا استأجر ماكنة لحرث جريب من الأرض فلابد من تعيين الأرض. نعم إذا كان اختلاف الراكب أو الحمل أو الأرض لا يوجب اختلافاً في الأغراض النوعية لم يجب التعيين.

مسألة 375 : إذا قال آجرتك الدار شهراً أو شهرين أو قال آجرتك كل شهر بدرهم مهما أقمت فيها بطلت الإجارة ، وأذا قال : آجرتك شهراً بدرهم فإن زدت فبحسابه صح في الشهر الأول وبطل في غيره ، هذا إذا كان بعنوان الإجارة ، أما إذا كان بعنوان الجعالة بأن يجعل المنفعة لمن يعطيه درهماً أو كان من قبيل الإباحة بالعوض بأن يبيح المنفعة لمن يعطيه درهما فلا

١١٢

بأس.

مسألة 376 : إذا قال : إن خطت هذا الثوب بدرز فلك درهم وإن خطته بدرزين فلك درهمان ، فإن قصد الجعالة كما هو الظاهر صح وإن قصد الإجارة بطل ، وكذا إن قال : إن خطته هذا اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك نصف درهم. والفرق بين الإجارة والجعالة أن في الإجارة تشتغل ذمة العامل بالعمل للمستأجر حين العقد وكذا تشتغل ذمة المستأجر بالعوض ولأجل ذلك صارت عقداً وليس ذلك في الجعالة فإن اشتغال ذمة المالك بالعوض يكون بعد عمل العامل من دون اشتغال لذمة العامل بالعمل أبداً ، ولأجل ذلك صارت إيقاعا.

مسألة 377 : إذا استأجره على عمل مقيد بقيد خاص من زمان أو مكان أو آلة أو وصف فجاء به على خلاف القيد لم يستحق شيئاً على عمله ، فإن لم يمكن العمل ثانياً تخير المستأجر بين فسخ الإجارة وبين مطالبة الأجير بأجرة المثل للعمل المستأجر عليه فإن طالبه بها لزمه إعطاؤه أجرة المثل ، وإن أمكن العمل ثانياً وجب الإتيان به على النهج الذي وقعت عليه الإجارة.

مسألة 378 : إذا استأجره على عمل بشرط ، بأن كان إنشاء الشرط في ضمن عقد الإجارة أو وقع العقد مبنياً عليه فلم يتحقق الشرط ، كما إذا استأجره ليوصله إلى مكان معين وشرط عليه أن يوصله في وقت محدد فأوصله ولكن في غير ذلك الوقت أو استأجره على خياطة ثوبه وأشترط عليه قراءة سورة من القرآن فخاط الثوب ولم يقرأ السورة ـ كان له فسخ الإجارة وعليه حينئذ أجرة المثل وله إمضاؤها ودفع الأجرة المسماة ، والفرق بين القيد والشرط أن متعلق الإجارة في موارد التقييد حصة خاصة مغايرة لسائر الحصص وأما في موارد الاشتراط فمتعلق الإجارة هو طبيعي العمل ولكن العقد معلق على التزام الطرف بتحقق أمر كالإيصال في الوقت المحدد أو القراءة في المثالين ، ولازم

١١٣

ذلك أن يكون التزامه بالعقد مشروطاً بنفس تحقق الملتزم به ، ومعنى ذلك جعل الخيار لنفسه على تقدير عدم تحققه.

مسألة 379 : إذا استأجر سيارة إلى «كربلاء» مثلاً بدرهم وأشترط له على نفسه أنه إن أوصله المؤجر نهاراً أعطاه درهمين صح.

مسألة 380 : لو استأجر سيارة مثلاً إلى مسافة بدرهمين وأشترط على المؤجر أن يعطيه درهماً واحداً إن لم يوصله نهاراً صح ذلك.

مسألة 381 : إذا استأجر سيارة على أن يوصله المؤجر نهاراً بدرهمين أو ليلاً بدرهم بحيث تكون الإجارة على أحد الأمرين مردداً بينهما فالإجارة باطلة.

مسألة 382 : إذا استأجره على أن يوصله إلى «كربلاء» وكان من نيته زيارة ليلة النصف من شعبان ولكن لم يذكر ذلك في العقد ولم تكن قرينة على التعيين استحق الأجرة وإن لم يوصله ليلة النصف من شعبان.

١١٤

فصل

في مسائل تتعلق بلزوم الإجارة

مسألة 383 : الإجارة من العقود اللازمة لا تنفسخ إلا بالتراضي بين الطرفين أو يكون للفاسخ الخيار ، ولا فرق في ذلك بين أن تكون الإجارة منشأة باللفظ أو بالمعاطاة.

مسألة 384 : إذا باع المالك العين المستأجرة قبل تمام مدة الإجارة لم تنفسخ الإجارة بل تنتقل العين إلى المشتري مسلوبة المنفعة مدة الإجارة وإذا كان المشتري جاهلاً بالإجارة أو معتقداً قلة المدة فتبين زيادتها كان له فسخ البيع وليس له المطالبة بالأرش ، وإذا فسخت الإجارة رجعت المنفعة إلى البائع.

مسألة 385 : لا فرق فيما ذكرناه من عدم انفساخ الإجارة بالبيع بين أن يكون البيع على المستأجر وغيره ، فلو استأجر داراً ثم اشتراها بقيت الإجارة على حالها ويكون ملكه للمنفعة في بقية المدة بسبب الإجارة لا من جهة تبعية العين فلو انفسخت الإجارة رجعت المنفعة في بقية المدة إلى البائع ، ولو فسخ البيع بأحد أسبابه بقي ملك المشتري المستأجر للمنفعة على حاله.

مسألة 386 : إذا باع المالك العين على شخص وأجرها وكيله مدة معينة على شخص آخر واقترن البيع والإجارة زماناً صحا جميعاً فيكون المبيع للمشتري مسلوب المنفعة مدة الإجارة ويثبت الخيار له حينئذ.

مسألة 387 : لا تبطل الإجارة بموت المؤجر ولا بموت المستأجر حتى فيما إذا استأجر داراً على أن يسكنها بنفسه فمات ، فإنه لا تبطل الإجارة بموته

١١٥

ولكن يثبت للمؤجر مع التخلف خيار الفسخ ، نعم إذا اعتبر سكناه على وجه القيدية تبطل بموته.

مسألة 388 : إذا أجر نفسه للعمل بنفسه فمات قبل إنجازه بطلت الإجارة ، نعم إذا تعمد ترك الإتيان به قبل موته لم تبطل الإجارة بل يتخير المستأجر بين الفسخ وبين المطالبة بأجرة مثل العمل.

مسألة 389 : إذا لم يكن المؤجر مالكا للعين المستأجرة بل مالكا لمنفعتها ما دام حياً ـ بوصية مثلاً ـ فمات أثناء مدة الأجارة بطلت حينئذ بالنسبة إلى المدة الباقية ، نعم لما كانت المنفعة في بقية المدة لورثة الموصي فلهم أن يجيزوها بالنسبة إلى تلك المدة فتقع لهم الإجارة وتكون لهم الأجرة.

مسألة 390 : إذا أجر البطن السابق من الموقوف عليهم العين الموقوفة فانقرضوا قبل انتهاء مدة الإجارة بطلت بالنسبة إلى بقية المدة إذا لم تجزها الطبقة المتأخرة ، وفي صورة أخذ الطبقة الأولى للأجرة كلها يكون للمستأجر استرجاع مقدار إجارة المدة الباقية منها من أموال الطبقة الأولى ، وأما إذا أجرها المتولي ـ سواء أكان هو البطن السابق أم غيره ـ ملاحظاً بذلك مصلحة الوقف لم تبطل بموته ، وكذا إذا أجرها لمصلحة البطون اللاحقة إذا كانت له ولاية على ذلك فأنها تصح ويكون للبطون اللاحقة حصتهم من الأجرة.

مسألة 391 : إذا أجر نفسه للعمل أما بالإتيان به مباشرة أو تسبيباً فمات قبل ذلك بطلت الإجارة على تفصيل تقدم في المسألة (388) ، وأما إذا تقبل العمل الكلي في ذمته من دون التقييد بذلك فمات قبل تحقيقه لم تبطل المعاملة بل يجب أداء العمل من تركته كسائر الديون.

مسألة 392 : إذا أجر الولي مال الطفل مدة ، وبلغ الطفل أثناءها كانت صحة الإجارة بالنسبة إلى ما بعد بلوغه موقوفة على إجازته حتى فيما إذا كان

١١٦

عدم جعل ما بعد البلوغ جزءاً من مدة الإيجار على خلاف مصلحة الطفل ، وهكذا الحكم فيما إذا أجر الولي الطفل نفسه إلى مدة فبلغ أثناءها ، نعم إذا كان امتداد مدة الإيجار إلى ما بعد البلوغ هو مقتضى مصلحة ملزمة شرعاً بحيث يعلم عدم رضا الشارع بتركها صح الإيجار كذلك بإذن الحاكم الشرعي ولم يكن للطفل أن يفسخه بعد بلوغه.

مسألة 393 : إذا أجرت المرأة نفسها للخدمة مدة معينة فتزوجت في أثنائها لم تبطل الإجارة وإن كانت الخدمة منافية لحق الزوج.

مسألة 394 : إذا أجرت نفسها بعد التزويج توقفت صحة الإجارة على إجازة الزوج فيما ينافي حقه ونفذت الإجارة فيما لا ينافي حقه.

مسألة 395 : إذا وجد المستأجر في العين المستأجرة عيباً فإن كان عالما به حين العقد فلا أثر له وإن كان جاهلاً به فإن كان موجباً لفوات بعض المنفعة كخراب بعض بيوت الدار قسطت الأجرة ورجع على المالك بما يقابل المنفعة الفائتة وله فسخ العقد من أصله ، هذا إذا لم يكن الخراب قابلاً للانتفاع أصلاً ولو بغير السكنى وإلا لم يكن له إلا خيار العيب. وإن كان العيب موجباً لنقص في المنفعة كبطء سير السيارة كان له الخيار في الفسخ وليس له مطالبة الأرش ، وإن لم يوجب العيب شيئا من ذلك لكن يوجب نقص الأجرة ككون السيارة مخسوفة البدنة كان له الخيار أيضاً ، وإن لم يوجب ذلك أيضاً فلا خيار. هذا إذا كانت العين شخصية أما إذا كانت كلية وكان المقبوض معيباً كان له المطالبة بالصحيح ولا خيار في الفسخ ، وإذا تعذر الصحيح كان له الخيار في أصل العقد.

مسألة 396 : إذا وجد المؤجر عيباً في الأجرة وكان جاهلاً به كان له الفسخ وليس له المطالبة بالأرش وإذا كانت الأجرة كلية فقبض فرداً معيباً منها فليس له فسخ العقد بل له المطالبة بالصحيح فإن تعذر كان له الفسخ.

١١٧

مسألة 397 : يجري في الإجارة خيار الغبن ـ على تفصيل تقدم نظيره في البيع ـ كما يجري فيها خيار العيب وخيار الشرط ـ حتى للأجنبي ـ ومنه خيار شرط رد العوض نظير شرط رد الثمن ، وكذا خيار تخلف الشرط الصريح أو الارتكازي ومنه خيار تبعض الصفقة وتعذر التسليم والتفليس والتدليس والشركة ، ولا يجري فيها خيار المجلس ولا خيار الحيوان ولا خيار التأخير على النحو المتقدم في البيع ، نعم مع التأخير في تسليم أحد العوضين عن الحد المتعارف يثبت الخيار للطرف.

مسألة 398 : إذا حصل الفسخ في عقد الإيجار ابتداء المدة فلا إشكال وإذا حصل أثناء المدة فإن لم يكن الخيار مجعولاً للفاسخ على نحو يقتضي التبعيض وبطلان الإجارة بالنسبة إلى ما بقي خاصة ـ كما هو الحال في شرط الخيار غالباً ـ فالأقوى كونه موجباً لانفساخ العقد في جميع المدة فيرجع المستأجر بتمام المسمى ويكون للمؤجر أجرة المثل بالنسبة إلى ما مضى.

١١٨

فصل

في أحكام التسليم في الإجارة

مسألة 399 : إذا وقع عقد الإجارة ملك المستأجر المنفعة في إجارة الأعيان والعمل في الإجارة على الأعمال بنفس العقد وكذا المؤجر والأجير يملكان الأجرة بنفس العقد ، لكن ليس للمستأجر المطالبة بالمنفعة والعمل مع تأجيل الأجرة وعدم تسليمها إلا إذا كان قد شرط ذلك صريحاً أو كانت العادة جارية عليه ، كما أنه ليس للأجير والمؤجر المطالبة بالأجرة مع عدم تسليم العمل والمنفعة إلا إذا كانا قد اشترطا تقديم الأجرة وإن كان لأجل جريان العادة.

مسألة 400 : يجب على كل منهما تسليم ما عليه تسليمه في الزمان الذي يقتضيه العقد ، ولكن وجوب التسليم على كل منهما مشروط بعدم امتناع الآخر ، ولو امتنع المؤجر من تسليم العين المستأجرة مع بذل المستأجر الأجرة جاز للمستأجر إجباره على تسليم العين كما جاز له الفسخ وأخذ الأجرة إذا كان قد دفعها وله إبقاء الإجارة والمطالبة بقيمة المنفعة الفائتة ، وكذا إذا دفع المؤجر العين ثم أخذها من المستأجر بلا فصل أو في أثناء المدة ، ومع الفسخ في الأثناء يرجع بتمام الأجرة وعليه أجرة المثل لما مضى ، وكذا الحكم فيما إذا امتنع المستأجر من تسليم الأجرة مع بذل المؤجر للعين المستأجرة.

مسألة 401 : تسليم المنفعة يكون بتسليم العين ، وتسليم العمل فيما لا يتعلق بعين للمستأجر في يد الأجير يكون بإتمامه ، وفيما يتعلق بعين له في يد الأجير يكون بإتمام العمل فيها مع تسليمها ـ على تقدير عدم تلفها ـ

١١٩

إلى المستأجر.

مسألة 402 : إذا كان العمل المستأجر عليه في العين التي هي بيد الأجير فتلفت العين بعد تمام العمل قبل دفعها إلى المستأجر من غير تفريط استحق الأجير المطالبة بالأجرة ، فإذا كان أجيراً على خياطة ثوب فتلف بعد الخياطة وقبل دفعه إلى المستأجر استحق مطالبة الأجرة فإذا كان الثوب مضموناً على الأجير استحق عليه المالك قيمة الثوب مخيطاً وإلا لم يستحق عليه شيئا.

مسألة 403 : يجوز للأجير بعد إتمام العمل حبس العين إلى أن يستوفي الأجرة ، وإذا حبسها لذلك فتلفت من غير تفريط لم يضمن.

مسألة 404 : تبطل الإجارة بسقوط العين المستأجرة عن قابلية الانتفاع منها بالمنفعة الخاصة المملوكة ، فإذا استأجر داراً سنة ـ مثلاً ـ فانهدمت قبل دخول السنة أو بعد دخولها بلا فصل بطلت الإجارة ، وإذا انهدمت أثناء السنة تبطل الإجارة بالنسبة إلى المدة الباقية وكان للمستأجر الخيار في فسخ الإيجار ، فإن فسخ رجع على المؤجر بتمام الأجرة المسماة وعليه له أجرة المثل بالنسبة إلى المدة الماضية ، وإن لم يفسخ قسطت الأجرة بالنسبة وكان للمالك حصة من الأجرة بنسبة المدة الماضية.

مسألة 405 : إذا استأجر داراً فانهدم قسم منها ، فإن كانت بحيث لو أعيد بناء القسم المهدوم على الوجه المتعارف لعدت بعد التعمير مغايرة لما قبله في النظر العرفي كان حكمه ما تقدم في المسألة السابقة ، وإن لم تعد كذلك فإن أقدم المؤجر على تعميرها فوراً على وجه لا يتلف شيء من منفعتها عرفاً لم تبطل الإجارة ولم يكن للمستأجر حق الفسخ ، وإن لم يقدم على ذلك وكان قادراً عليه فللمستأجر الزامه به ـ فإن لم يفعل كان له مطالبته بأجرة مثل المنفعة الفائتة كما إن له الخيار في فسخ الإجارة رأساً ـ ولو مع

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

من اعتباره ، وكذلك الشخص المتكبّر يتحرّك من موقع تحقير الآخرين والسخرية بشخصيتهم من خلال إساءة الظن بهم وبذلك يخلق في ذهنه عن شخصية الطرف الآخر صورة مهزوزة وحقيرة.

٥ ـ عقد الحقارة : وهي أحد العوامل لسوء الظن بالناس ، فالشخص الذي يعيش الحقارة في شخصيته ويشعر بالتفاهة لذاته أو يجد من الآخرين تحقيراً لشخصيته فانّه يسعى كذلك في التنقيص من شخصية الآخرين واحتقارهم ويتصوّرهم شخصيات ملّوثة وحقيرة ليشبع هذه العقدة في نفسه ويرضي حالته النفسية المهزوزة ، وحينئذٍ يشعر بالراحة الكاذبة من جرّاء ذلك.

أمّا سوء الظن بالله تعالى فيعتمد في الأصل على ضعف الإيمان واليقين في الإنسان واهتزاز صورة الالوهية في دائرة صفات الذات وصفات الأفعال ، فضعف اليقين واهتزاز الإيمان من شأنه أن يخلق في فكر الإنسان سوء الظن وعدم الثقة بالوعود الإلهية لعباده ، وكذلك بالنسبة إلى علم الله تعالى وقدرته ورحمانيّته ورازقيّته وسائر صفاته الحسنى ، وبالتالي يوصد أمامه أبواب السعادة والنجاة.

مراتب سوء الظن :

وأحد الأسئلة المهمّة التي تثار على بساط البحث في هذا المورد هو أنّه أساساً هل أنّ سوء الظن أمراً اختيارياً أو غير اختياري؟ فلو رأى الإنسان ظاهرة معيّنة وأساء الظن بشخص أو أشخاص بدون اختيار ، فهل هذا المعنى يوجب له الذم والتوبيخ؟ وهل تقع هذه الحالة مورداً للتكليف مع أنّ مقدّماتها غير اختيارية؟ وكيف يمكن تعلّق الذم والعقاب بأمر غير اختياري؟

ويمكن الإجابة عن هذه التساؤلات وعلامات الاستفهام من طريقين :

الطريق الأول : أنّ سوء الظن هذا الذي يقفز إلى ذهن الإنسان بدون اختيار منه لا يكون مورد الذم والعقاب لوحده ، فلو أنّه لم يتجسّد في مرحلة العمل ولم يرتب الإنسان عليه أثراً

٣٠١

على مستوى الممارسة والكلام ، ولا يصدر منه سلوك يشير إلى سوء الظن هذا فإنّه لا يقع مورد الذم ولا العقاب ، ولذلك ذكر بعض علماء الأخلاق في هذا المجال :«وَأَمّا الخَواطرُ وَحَدِيثُ النَّفسِ فَهُو مَعفُوٌ عَنهُ وَلَكنَّ المَنهِيَّ عَنهُ أَنْ تَظُنَّ ، والظَّنُّ عِبارَةٌ عَمّا تِركَنُ إِلِيهِ النَّفسُ وَيَميلُ إِلَيهِ القَلبُ» (١) .

وخلاصة الكلام أنّ سوء الظن له ثلاثة مراحل :

أحدها : سوء الظن القلبي.

الثانية : سوء الظن اللّساني.

الثالثة : سوء الظن العملي.

فأمّا ما كان في القلب فلا يقع مشمولاً للتكليف لأنّه خارج عن دائرة الاختيار ، ولكنّ ما يصدر من الإنسان بلسانه أو بعمله فهو الممنوع والحرام.

ولهذا ورد في بعض الروايات قولهعليه‌السلام :«وإِذا ظَنننتَ فلا تَحَقِّقْ» (٢) .

الطريق الثاني : إنّ الكثير من أشكال سوء الظن غير الاختيارية تتضمّن مقدّمات اختيارية في البداية أو في إدامتها واستمرارها ، فالأشخاص الذين يجالسون رفاق السوء فيحصل لهم سوء الظن بالأخيار ينبغي عليهم اجتناب مثل هذه المعاشرة ولمثل هؤلاء الرفاق من الفسّاق والأشرار حتى لا تحصل لديهم حالة سوء الظن تجاه الآخرين ، وهذا أمر اختياري ، ولكن لو حصل له سوء الظن بدون مقدّمات اختيارية ، فيجب على الإنسان أن يتفكّر في حالته هذه ويضع في تصوّره احتمالات صحيحة إلى جانب الاحتمالات السيئة التي أورثته سوء الظن ، مثلاً يقول : إنّ هذه المرأة الأجنبية التي رآها مع الشخص الفلاني ، إمّا أن تكون أخته أو ابنة أخيه أو ابنة اخته أو زوجته وأمثال ذلك من أقرباء الشخص الذين لا يعرفهم هو ، فلا شك أنّ مثل هذا التفكير السليم واحتمال هذه الاحتمالات الصحيحة يتسبب في إضعاف سوء الظن عنده أو يزيله تماماً من ذهنه ، ولهذا ورد في الحديث الشريف

__________________

١ ـ المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٦٨.

٢ ـ فرائد الاصول للشيخ مرتضى الأنصاريقدس‌سره ، في حديث الرفع ؛ بحار الانوار ، ج ٥٥ ، ص ٣٢٠ ، ذيل الحديث ٦.

٣٠٢

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :«اطلُبْ لأخِيكَ عُذراً فَانْ لَم تَجِدْ لَهُ عُذراً فَالتَمِسْ لَهُ عُذراً» (١) .

وقد مرّ علينا الحديث الشريف عن أمير المؤمنينعليه‌السلام هو أنّه قال :«لا تَظُنَنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءً وَأَنتَ تَجِدُ لَها فِي الخَيرِ مُحتَمَلاً (مَحمَلاً» (٢) .

وعلى هذا الأساس يمكننا تقسيم سوء الظن إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ سوء الظن الذي يتجسّد في أفعال الشخص وكلماته وأقواله ، وهذا القسم من سوء الظن الحرام.

٢ ـ سوء الظن الذي لا يظهر أثره خارجاً ، ولكنّه يمكن للشخص إزالته من خلال التفكير السليم وبواسطة إزالة مقدّماته الخارجية ، فهذا النوع من سوء الظن يحتمل أن يكون مشمولاً لأدلّة الحرمة.

٣ ـ سوء الظن الذي لا يترتب عليه أثر خارجي ، وهو خارج تماماً عن دائرة اختيار الإنسان وإرادته ولا يمكن إزالته بشتى الوسائل ، فمثل هذا الظن السيء لا يكون مشمولاً للتكاليف الشرعية ما دام الإنسان لم يرتّب عليه أثراً معيّناً.

والقرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى في الآية ٣٦ من سورة الأسراء :( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) .

وفي هذه المرحلة يجب التوجّه إلى الاصول والمباديء الحاكمة في دائرة علاج الأمراض الأخلاقية والرذائل النفسية ، وأهمّها التفكّر في الآثار السلبية والعواقب الوخيمة لسوء الظن ، لأنّه عند ما يتفكّر الإنسان في عواقب سوء الظن وكيف أنّه يتلف رأس المال الاجتماعي بين أفراد البشر ويسلب منهم الثقة والاعتماد المتقابل ويربك الهدوء والاستقرار في مفاصل المجتمع ، ويتسبب في خسارة الإنسان لأصدقائه وفقده لأحبائه ويورثه الغفلة عن واقعيّات الامور والحقائق الاجتماعية ، ويقوده إلى إرتكاب الظلم والعدوان في حق الآخرين (كما تقدّم تفصيله سابقاً) فحينئذٍ سوف يبتعد عن هذه الرذيلة

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ١٩٦ ، ح ١٥.

٢ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، ح ٣٦٠ ؛ بحار الانوار ، ج ٧١ ، ص ١٨٧.

٣٠٣

الأخلاقية بدون صعوبة ، كما أنّ إطّلاع الإنسان على كون الغذاء مسموماً سيخلق في نفسه مناعة شديدة عن تناوله ، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى فإنّه كلّما تحرّك الإنسان لقطع جذور هذه الرذيلة وقلع أسبابها من مواقع النفس ، أي مجالسة رفاق السوء والتي تسبب سوء الظن بالأخيار أو يبتعد مهما أمكنه عن الأجواء الملّوثة والمحيط السيء والفاسد ، ويطهّر قلبه من أدران الحسد والحقد والتكبّر والغرور التي هي من العوامل المهمّة لسوء الظن وأمثال ذلك من الأسباب والعوامل الاخرى ، فسوف تنتهي وتزول منه هذه الرذيلة الأخلاقية.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ بعض الامور يمكنها أن تساعد الإنسان على إنقاذه من شر هذه الحالة السلبية ، وهي :

الف : البحث عن الاحتمالات السليمة في تبرير سلوكيات الآخرين المبهمة التي قد تورثه سوء الظن ، كما قرأنا في الروايات السابقة عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قوله :«لا تَظُنَنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءً وَأَنتَ تَجِدُ لَها فِي الخَيرِ مُحتَمَلاً (مَحمَلاً» (١) .

ومن الواضح أنّ الكثير من الأعمال والسلوكيات الصادرة من الأشخاص تقبل التبرير السليم والحمل على الصحّة.

ب : أن يبتعد الإنسان عن التجسّس في أعمال الآخرين والذي قد يكون معلولاً لسوء الظن أولاً ، ويتسبب كذلك في سوء الظن أيضاً ، فلو أنّ الإنسان تجنّب التجسّس في حياة الآخرين الخصوصية فانّه يكون قد تخلّص من أحد الأسباب المهمّة لسوء الظن.

ج : أن لا يرتب أثراً عملياً على سوء ظنّه وبذلك يحقّق له أحد طرق العلاج لهذه الرذيلة ، لأنّ الإنسان إذا أساء الظن بشخص من الأشخاص وأفعاله ثم جسّد سوء الظن هذا على سلوكياته وأفعاله كأن يبتعد عنه ويظهر عدم الثقة به أو يستشمّ من أفعاله وعلاقته بذلك الشخص أنّه يسيء الظن به ، فهذه الحالة تسبب في تقوية سوء الظن وزيادته واشتداده ، ولكن إذا لم يهتمّ لذلك ولم يرتّب عليه أثراً ، فإنّه سيضعف تدريجياً وبالتالي سينتهي ولذلك

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، ح ٣٦٠.

٣٠٤

ورد في الروايات الإسلامية :«إِذا ظَنَنَّتُم فَلا تَحَقَّقُوا» (١) .

ولا شك أنّ الالتفات إلى العقوبات الإلهية الاخروية والآثار المعنوية السلبية لهذه الرذيلة الأخلاقية والتي سبقت الإشارة إليها في الروايات الشريفة لها أثر قوي أيضاً في الوقاية من الابتلاء بهذا المرض المعنوي ، وتمنح الإنسان القدرة على التحرّك بعيداً عن ممارسة تداعيات هذه الصفة الأخلاقية الذميمة.

موارد الاستثناء :

لا شك أنّ قبح سوء الظن رغم أنّه يعتبر قاعدة كليّة وأصل من الاصول الاخلاقّية في دائرة علم الإخلاق ، إلّا أنّه هناك إستثناءات لهذا الأصل العام وردت الإشارة إليها في الروايات الإسلامية ، ومن ذلك :

ألف) إذا ساد الفساد والانحطاط الأخلاقي في مجتمع ما وكان التلّوث بالرذائل الإخلاقيّة هو السائد لهذا المجتمع البشري فانّ حسن الظن في مثل هذه الحالات ليس فقط لا يعدّ من الفضائل الإخلاقية ، بل يمكن أن يورّط الإنسان بعواقب سلبيّة ومشاكل حقيقية أيضاً ، وورد التحذير من هذا النوع من حسن الظن في الروايات الإسلاميّة.

فنقرأ في الحديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قوله :«اذا اسْتَوْلَى الصَّلاحُ عَلَى الزَّمانِ وَاهْلِهِ ثُمَّ أساءَ رَجُلٌ الظَنَّ بِرَجُلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ حَوْبَةٌ فَقَدْ ظَلَم ، وَإِذا اسْتَوْلَى الْفَسادُ عَلَى الزَّمانِ وَاهْلِهِ فَاحْسَنَ رَجُلٌ الظَّنَ بِرَجُلٍ فَقَدْ غَرَّرَ» (٢) .

وهذا المضمون ورد أيضاً بتعبيرات مختلفة عن الإمام الصادقعليه‌السلام والكاظمعليه‌السلام والهاديعليه‌السلام (٣) .

وقد ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :«احْتَرِسُوا مِنَ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ» (٤) .

__________________

١ ـ كنز العمال ، ج ٣ ، ص ٤٧٩ ، ح ٧٥٨٥.

٢ ـ نهج البلاغة ، كلمات قصار ، ح ١١٤.

٣ ـ ميزان الحكمه ، ج ٢ ، ص ١٧٨٧ ، ح ١١٥٧٥ تا ١١٥٧٧.

٤ ـ بحار الانوار ، ج ٧٤ ، ص ١٥٨ ، ح ١٤٢.

٣٠٥

وهذا أيضاً يمكن أن يكون إشارة لمثل هذه الأزمان والحالات التي يسود فيها الإنحطاط الأخلاقي في مفاصل المجتمع البشري ، وإلّا فانّ سوء الظن بعنوانه أصل عام لا يمكن أن يكون مورد المدح والثناء والقبول.

ويستفاد من مجموع ما تقدم من الروايات أنّ الأصل في الأجواء الاجتماعية السالمة نسبياً هو حسن الظن ، وعلى العكس من ذلك فإذا عاش الإنسان في أجواء فاسدة ومتخلّفة فانّ الأصل يجب أن يبتنى على سوء الظن ، وطبعاً هذا لا يعني أن ينسب الإنسان بعض التهم ويلفّق بعض العيوب والنقائص لشخص من الأشخاص ، بل ينبغي الاحتياط في مثل هذه الظروف لئلّا يتورّط الإنسان في مشاكل ومصاعب يفرضها عليه هذا المحيط الفاسد.

وطبعاً لا ينبغي أن يكون هذا الاستثناء وهذه الروايات ذريعة بيد الأشخاص لكي يتحرّكوا من موقع سوء الظن بأيّ إنسان ويقول بأنّ هذا الزمان كثر فيه الفساد وشاع فيه الانحطاط فمن الخطأ حسن الظن بالناس ، فحتى في الأزمنة الفاسدة والأجواء المنحطة يجب على الإنسان أن يصنّف الناس إلى عدّة أصناف ، فيجعل من الأشخاص الذين يتجّلى في محياهم الصلاح والخير في دائرة الصالحين ، فلا ينبغي أن يكونوا مورد سوء الظن ما دام لم يشاهد منهم أمراً منكراً من موقع الوضوح.

ولكنه عليه أن يضع الفئات التي شاهد منها سلوكيات مخالفة وأفعال منكرة بصورة متكررة في صف الأشرار والمفسدين ، ولا ينبغي عليه أن يحسن الظن بنيّاتهم وأفعالهم اطلاقاً.

ب) بالنسبة إلى الامور الأمنيّة في المجتمع الإسلامي والتي يتعلّق بها سلامة المجتمع وأمنه واستقراره لا يجوز حسن الظن بأيّة حركة مشكوكة في هذا المجتمع ، بل يجب عليه أن يبتعد عن حسن الظن ما أمكنه ذلك ، أو بتعبير آخر يجب عليه أن يتّخذ جلباب الاحتياط في تعامله مع هذه السلوكيات والحركات الصادرة من بعض الأفراد المشكوكين.

ومفهوم هذا الكلام لا يعني أنّه يجوز هتك حرمة الأفراد أو التعامل معهم بسلبية نتيجة سوء الظن ، بل المراد أنّ جميع الحركات والسلوكيات المشكوكة يجب أن توضع تحت النظر

٣٠٦

ويتمّ دراستها بدقّة ، فلو اتّضح بعد التحقيق ومن خلال القرائن والبيّنات الواضحة أنّ مثل هذه الحركات كانت بدافع من سوء النيّة ومقترنة بتصرفات خاطئة ومحرّمة هناك ينبغي إتّخاذ التدابير العملية اللازمة.

ج) ومن الموارد الاخرى التي يجوز فيها سوء الظن ، بل قد يكون واجباً أيضاً هو في الحالات التي يكون الإنسان في مقابل العدو ، ويمكن أن يطلب العدو الصلح وينادي بالمحبّة والصداقة ويعلن عن رغبته في التعاون وأمثال ذلك ، فمثل هذه الموارد لا ينبغي التعامل معه بسذاجة وتصديق كلّما يقوله من موقع حسن الظن واسدال الستار عن الماضي نهائيّاً والتقدّم إلى العدو بابتسامة عريضة والشد على يده ومعانقته ، بل ينبغي أن يضع في زاوية الاحتمال أن يكون هذا السلوك من العدو من موقع المكر والحيلة والخدعة لإستغفال الطرف المقابل.

ولهذا ورد في عهد مالك الأشتر المعروف قول أمير المؤمنينعليه‌السلام :«الحَذَرُ كُلُّ الحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعدَ صُلحِهِ فَإنَّ العَدُوَّ رُبَّما قاربَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالحَزمِ وَاتَّهِم فِي ذَلِكَ حُسنَ الظَّنِّ» (١) .

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٣٠٧
٣٠٨

١٣

التجسّس في الحالات الخاصة للناس

تنويه :

(التجسّس) بمعنى البحث والفحص في أعمال الآخرين والامور المتعلّقة بهم ، وغالباً ما يكون هذا البحث في الامور السلبية ونقاط الضعف والسلوكيات الذميمة ، ولكنّ التجسّس في لغة العرب يأتي بمعنى البحث والفحص في المسائل الإيجابية أيضاً.

وفي الحقيقة أنّ سوء الظن هو السبب في أن يتحرّك الإنسان للكشف عن أسرار الناس وامورهم الخفيّة ، وأحياناً تدخل عوامل اخرى من قبيل : البخل والحسد وضيق الافق وأمثال ذلك في خلق هذه الحالة الذميمة لدى الإنسان.

التجسّس بالشكل المذكور آنفاً يعتبر حالة ذميمة جدّاً في دائرة المفاهيم الإسلامية ومن الأعمال المحرّمة حيث يتسبب في سلب الأمن الاجتماعي وخلق أنواع الخصومات والنزاعات بين الأفراد ، فلو ابيح لكلّ شخص أن يتدخّل في الكشف عن أسرار الآخرين والتدخل في امورهم الخاصّة في حياتهم الفردية والاسرية ، فلا يبعد أن يترتب على ذلك هتك حرمة الكثير من الأفراد وتدمير شخصيتهم الاجتماعية وبالتالي إندلاع نيران الحقد والعداوة والبغضاء في المجتمع بحيث يتحوّل مثل هذا المجتمع إلى جحيم لا يطاق.

وبالطبع فإنّ هذا الحكم الأخلاقي والإسلامي لا يتقاطع أبداً مع ضرورة وجود أجهزة

٣٠٩

أمنيّة وتجسّسية في جهاز الحكومة الإسلامية ، لأنّ ما تقدّم من التجسّس المذموم يتعلّق بالحياة الخاصة للأفراد ، وأمّا هذا المعنى الثاني فيتعلّق بمصير المجتمع وأمنه ويهدف إلى التصدّي لمؤامرات الأعداء وكشف مخططاتهم والوقاية من تسرّب عناصر الشر والانحراف في مفاصل المجتمع الإسلامي.

وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي منه الدروس الأخلاقية في هذا الباب.

نقرأ في القرآن الكريم آية واحدة تنهى عن التجسّس ، وهي الآية ١٢ من سورة الحجرات حيث يقول تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) .

وكما تقدّمت الإشارة إليه في بحث الغيبة وسوء الظن فإنّ الآية الشريفة المذكورة أعلاه تنهى عن ثلاثة أشياء ، وهي في الواقع بمثابة العلّة والمعلول ، فالأول تنهى عن سوء الظن الذي يعدّ العلّة والمصدر للتجسّس ، ثم تنهى عن التجسّس الذي يتسبب في الكشف عن عيوب الآخرين المستورة وبالتالي التحرّك من موقع غيبتهم وفضح معايبهم.

وكما تقدّمت الإشارة إليه آنفاً فإنّ (التجسّس) له مفهوم سلبي ويراد به عادة سلوك غير أخلاقي تجاه الآخرين ، ولكنّ (التجسّس) قد يرد في مورد يكون البحث والفحص عن الشيء مطلوباً ومحموداً كما نقرأ في قصّة يوسفعليه‌السلام أنّ يعقوبعليه‌السلام أمر أولاده وقال :( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ ) (١) .

وذهب البعض إلى أنّ التحسّس بمعنى إستراق السمع بالنسبة لكلمات وأحاديث الآخرين ، في حين أنّ التجسّس هو البحث والفحص العملي عن أسرار وعيوب الآخرين.

وممّا يلفت النظر أنّ النهي عن التجسّس في آية سورة الحجرات لم يتقيّد بقيد أو شرط ، وهذا يدلّ على أنّ الأصل هو حرمة التجسّس بعنوان قاعدة عامّة ، ولو رأينا أحياناً في الأحكام الإسلامية جواز التجسّس لأغراض خاصّة فإنّ ذلك من قبيل الاستثناء.

وقد كان الحكم بحرمة التجسّس وبالنظر لهذه الآية الشريفة إلى درجة من الوضوح في

__________________

١ ـ سورة يوسف ، الآية ٨٧.

٣١٠

الذهنية المسلمة حتى أنّ المسلمين كانوا يستدلون بهذه الآية كدليل على حرمة التجسّس ، فقد ورد في مصادر أهل السنة من قبيل كنز العمال نقلاً عن (ثور الكندي) حيث يقول : كان عمر بن الخطاب يعسّ في الليل في أزقة المدينة فسمع يوماً صوت رجل يغني في داخل بيته فما كان من عمر إلّا أن تسلق الجدار فصاح به : يا عدو الله أحسبت أنّك ترتكب الذنب في خفاء وأنّ الله تعالى لا يراك؟

فقال له ذلك الرجل : لا تعجل يا أمير المؤمنين ، فلو ارتكبت ذنباً واحداً فقد ارتكبت أنت ثلاثة ، فانّ الله تعالى يقول( وَلا تَجَسَّسُوا ) وأنت قد تجسّست علينا ، ويقول أيضاً :( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) (١) ، وأنت تسلقت الجدار ، والله تعالى يقول :( لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ) (٢) ، وأنت دخلت البيت بلا اذن ولا سلام.

فما كان من عمر إلّا أن أطرق أمام هذا الاستدلال المتين ثم قال له : إذا عفوت عنك فهل تترك ما أنت عليه؟ فقال : نعم ، فتركه عمر وذهب(٣) .

التجسّس في الروايات الإسلامية :

إنّ مسألة التجسّس ذكرت في الروايات الإسلامية من موقع الذم والتقبيح بحيث أنّ القاريء لهذه الروايات يستنتج أهمية وشناعة هذا العمل والسلوك الأخلاقي الذميم ، ومن ذلك :

١ ـ ما ورد عن رسول الله أنّه قال :«إِيّاكُم وَالظَّنَّ فَإنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الحَدِيثِ وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا» (٤) .

٢ ـ ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم أيضاً قوله : «لا تَحاسَدُوا وَلا تَباغَضُوا وَلَا

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ١٨٩.

٢ ـ سورة النور ، الآية ٢٧.

٣ ـ كنز العمال ، ج ٣ ، ص ٨٠٨ ، ح ٨٨٢٧.

٤ ـ صحيح المسلم ، ج ٤ ، ص ١٩٨٥ ، ح ٢٥٦٣.

٣١١

تَجَسَّسُوا وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَناجَشُوا وَكُونُوا عِبادَ اللهِ إِخواناً »(١) .

ويتّضح من هذا الحديث جيداً أنّ حال التجسّس كحال الحسد والحقد والكراهية فإنّه يتسبب في تباعد الناس وتمزّق أوصال المجتمع الإسلامي والتدهور والارتباك في العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وقد أورد الكليني في كتابه الكافي حديثاً عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «يا مَعْشَرَ مَنْ أَسلَمَ بِلِسانِهِ وَلَم يُسلِمْ بِقَلبِهِ لاتَتَبِّعُوا عَثَراتِ المُسلِمِينَ فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَثَراتِ المُسلِمِينَ تَتَبَّعُ اللهُ عَثرَتَهُ وَمَن تَتَبَّعُ اللهُ عَثرَتَهُ يَفْضَحْهُ»(٢) .

٣ ـ وفي حديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال :«تَتَبَّعُ العَيُوبِ مِنْ أَقبَحِ العُيُوبِ وَشَرِّ السَّيِّئاتِ» (٣) .

٤ ـ ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمامعليه‌السلام أنّه قال :«مَنْ بَحَثَ عَنْ أَسرارِ غَيرِهِ أَظهَرَ اللهُ أَسرارَهُ» (٤) .

٥ ـ وجاء في حديث آخر عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أيضاً قوله :«مَن تَتَبَّعَ خَفِيَّاتِ العُيُوبِ حَرَّمَهُ اللهُ مَوَدّاتِ القُلُوبِ» (٥) .

٦ ـ وورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال لأحد أصحابه :«لا تُفَتَّشِ النّاسَ عَنْ أَديانِهِم فَتَبقى بِلا صَدِيقٍ» (٦) .

وهذا يدلّ على أنّ أغلب الناس لهم عيوب ونقائص في دائرة العقيدة أو العمل ، فعند ما تبقى مستورة وخفيّة ، فإنّ ذلك من شأنه أن يوطّد العلاقات بين الأفراد ويتعامل الأفراد فيما بينهم من موقع المحبّة والود ويلتزمون بأصالة الصحّة والعدالة في الطرف الآخر ، ولكن في غير هذه الصورة فانّ الإنسان يبقى بلا صديق.

__________________

١ ـ صحيح المسلم ، ج ٤ ، ص ١٩٨٥ ، ح ٢٥٦٣.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٥٤ ، ح ٤.

٣ ـ غرر الحكم.

٤ ـ المصدر السابق.

٥ ـ المصدر السابق.

٦ ـ بحار الانوار ، ج ٧٥ ، ص ٢٥٣ ، ح ١٠٩.

٣١٢

الآثار والعواقب السلبية للتجسّس :

إنّ البحث والتفحّص عن حال الآخرين لغرض الكشف عمّا خفي من معايبهم ونواقصهم له آثار سلبية كثيرة في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية.

لأنّه من جهة يؤدّي إلى نفور الناس وكراهيتهم لمن يتدخل في شؤونهم الخاصة ويتعدّى على أسرارهم ويهدف إلى الكشف عن امورهم الخاصة ، فيرون مثل هذا الشخص معتدياً على حريمهم الخاص ولا يقيمون له احتراماً ولا يرون له شخصية وحيثية في نظرهم ويكرهون من يعيش هذه الحالة الذميمة بشدّة.

وقد قرأنا في الحديث السابق قول الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ الشخص الذي يفتّش عن عيوب الناس يبقى بلا صديق ، فيمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى.

ومن جهة اخرى فإنّ أغلب الناس لديهم نقاط ضعف وعيوب في شخصيتهم وسلوكياتهم وأخلاقهم فهي لو أنّها بقيت مستورة وفي حيّز الكتمان ، فإنّ ذلك من شأنه أن يدفع بعجلة التفاعل الاجتماعي بين الأفراد كما يرام ، ولكن عند انتشار هذه العيوب ونقاط الضعف فإنّ ذلك من شأنه أن يتسبب في سوء الظن لدى الأفراد وانفصام علقة الاخوة والصداقة والمحبّة بينهم.

ومن جهة ثالثة فانّ التجسّس والتفتيش عن عقائد الآخرين وأسرارهم وعيوبهم يتسبب في تعميق حالة الكراهية والحقد والعداوة بين أفراد المجتمع وأحياناً يؤدّي إلى النزاع الدموي الشديد بينهم.

فإذا أردنا أن يعيش المجتمع السلامة والاطمئنان والاستقرار فينبغي الحذر والابتعاد عن هذا السلوك السلبي.

ومن جهة رابعة فإنّ أكثر الناس يتحرّكون في مقابل هذا العمل من موقع المقابلة بالمثل ، أي يسعون إلى التجسّس والفحص عن عيوب الشخص الفضولي والمتجسّس على أحوالهم ويكشفونها إلى الملأ ، ولعل هذا الحديث الشريف ناظر إلى هذا المعنى وهو قوله :«مَنْ بَحَثَ

٣١٣

عَنْ أَسرارِ غَيرِهِ أَظهَرَ اللهُ أَسرارَهُ» (١) .

ونقرأ في حديث آخر قولهعليه‌السلام :«مَنْ كَشَفَ حَجابَ أَخِيهِ إِنكَشَفَتْ عَورَاتُ بَيتِه» (٢) ، وهو قد يكون إشارة إلى هذا المعنى بالذات ، أو إشارة للأثر الوضعي ونتائج هذا العمل في الدنيا.

ونقرأ كذلك في حديث آخر عن هذا الإمامعليه‌السلام قوله :«مَنْ تَطَّلَعَ عَلى أَسرارِ جارِهِ إِنتُهِكَتْ أَستارُهُ» (٣) .

أمّا الدوافع على هذه الرذيلة الأخلاقية وهي التجسّس والتفتيش في أسرار الناس وأحوالهم الخاصة فكثيرة ، ومن ذلك :

١ ـ سوء الظن بالآخرين الذي يقود الإنسان غالباً إلى التجسّس عن أحوالهم ، فلو أنّه استبدله بحسن الظن فإنّه لا يفكّر عند ذاك بالتفتيش عن عيوب الآخرين ، ولهذا السبب كما أشرنا سابقاً أنّ الآية ١٢ من سورة الحجرات تنهى عن التجسّس بعد النهي عن سوء الظن.

٢ ـ التلوّث بالذنوب والعيوب المختلفة والذي يعدّ عاملاً آخر يدفع صاحبه نحو التجسّس على الآخرين ، لأنّ الشخص الملّوث بالذنوب والغارق في العيوب يريد أن يرى جميع الناس مثله ، وبذلك سوف ينطلق من موقع جبران عيوبه وخلق أجواء كاذبة له من الهدوء النفسي وتسكين حالة التوتر التي تفرضها عليه عيوبه الكثيرة فيقول في نفسه بأنني إذا كنت ملّوثاً فسائر الناس كذلك.

ونقرأ في الحديث الشريف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :«شَرُّ النّاسِ الظّانّون وشَرُّ الظّانّين المُتَجَسِّسُونَ» (٤) .

وأحد العوامل الاخرى للتجسّس هي حالات الحسد والحقد والعداوة والتكبّر والعجب في واقع الإنسان الناقص حيث تدفعه هذه العناصر الشريرة إلى التفتيش عن عيوب

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ المصدر السابق.

٤ ـ مستدرك الوسائل ، ج ٩ ، ص ١٤٧ ، الباب ١٤١ ، ح ١٥ الطبعة الجديدة.

٣١٤

الآخرين واستخدامها كأداة لتسقيطهم وهتك حيثيّتهم لغرض إرضاء الميل إلى التفوّق ورؤية الأنا متعالية على الآخرين.

٤ ـ ومن العوامل الاخرى لهذه الرذيلة هو ضعف الإيمان أيضاً ، لأنّ الإنسان الذي يعيش ضعف الإيمان بالله تعالى لا يلتزم باحترام إيمان الآخرين وشخصيتهم الاجتماعية ، ولذلك يتدخّل بأدنى حجّة في امورهم الخاصة وحريم حياتهم الخصوصية ولا يرى بأساً في الكشف عن مثالبهم وهتك حرمتهم وإراقة ماء وجوههم ، كما قرأنا في الأحاديث السابقة عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ مثل هؤلاء الأشخاص هو من قبيل :«يا مَعْشَرَ مَنْ آمَن بِلِسانِهِ وَلَم يَدخُلِ الإيمانَ فِي قَلبِهِ».

استثناءات :

هنا يطرح سؤال وهو : هل أنّ التجسّس يعدّ عاملاً منافياً للأخلاق والشرع في جميع الموارد ، أو هناك بعض الاستثناءات التي تخرجه عن دائرة الحرمة الشرعية؟ فإنّ جميع الدول والحكومات في العالم سواءً الإسلامية وغير الإسلامية لديها أجهزة أمنيّة خاصة تعمل في دائرة التجسّس والفحص عن أسرار الناس وحالاتهم وتتدخل في امورهم وتسعى إلى الكشف عن أسرارهم ، وهناك موارد اخرى لا يكون التجسس في امور الناس ممنوعاً في نظر عقلاء العالم ، بل قد يكون لازماً وضرورياً.

وفي مقام الجواب عن هذا السؤال يجب القول إنّ هذا الأصل العام في مسألة حرمة التجسّس وقبحه في دائرة القيم الأخلاقية له بعض الموارد الاستثنائية كما هو الحال في الاصول العامة الاخرى ، ومن ذلك :

١ ـ الأجهزة الأمنيّة

إنّ كل حكومة ودولة تجد نفسها موظفة بحماية شعبها من شر مؤامرات الأعداء في الداخل والخارج وتستخدم الحذر من جواسيس الأعداء ، ولا شك أنّ المسؤولين في هذه الحكومات إذا أرادوا أن يواجهوا الأحداث والوقائع من موقع حسن الظن والحمل على

٣١٥

الصحة ، فإنّ ذلك من شأنه أن يورطّهم في العواقب الوخيمة لمؤامرات الاعداء من المنافقين في الداخل ومن تربّص بهم الدوائر في الخارج ، لأنّ مؤامراتهم سريّة جدّاً ويتحرّكون بمنتهى الحذر والتستر بظواهر طبيعية وأقنعة جميلة ولا يتسنى للمسؤولين التعرّف على حالهم إلّا من خلال التفتيش الدقيق والتجسّس المستمر لكشف مؤامرات هؤلاء الأعداء وابطال مفعولها.

ففي مثل هذه الموارد يجب اجتناب حسن الظن والابتعاد عن الحمل على الظاهر الحسن ، بل ينبغي النظر إلى كل ظاهرة اجتماعية وسياسية من موقع سوء الظن لحفظ الأهداف الكبيرة والأغراض المتعالية للمصالح العامة للُامّة الإسلامية وبذلك تتّضح الحكمة من تشكيل الأجهزة الأمنيّة والتجسسية في الداخل والخارج ، وبعبارة اخرى : إنّ هذا الاستثناء ينبع من قانون الأهم والمهم ، فما أكثر الأفراد الذين يقعون مورد سوء الظن وبالتالي تتحرّك الأجهزة الأمنيّة للتفتيش عن أحوالهم الخاصة فيثبت برائتهم وسلامتهم من أي عمل شائن ، ولكن من البديهي أنّه ولغرض العثور على المجرم الواقعي وعملاء الأعداء في الداخل فلا مفرّ من مزاولة البحث والفحص الواسع في جميع الموارد المحتملة للوصول إلى نتيجة حاسمة.

وقد يلزم أحياناً أن تبعث الحكومة ببعض الجواسيس وبظواهر مختلفة وسط الأعداء أو إدخال بعض عناصر الأمن كموظفين في المؤسسات المهمّة التي تعمل في الداخل على شكل عامل أو موظف وأمثال ذلك كيما يتسنى لها الكشف عن بذور الفتنة واحباط أيّة مؤامرة قبل تشكلها واشتدادها ، وبالتالي تعرّض الامّة مصالحها للخطر.

وبالطبع فإنّ هذا لا يعني أنّه يمكن إتّخاذ هذا الاسلوب ذريعة للتدخل في الحياة الخصوصية لجميع أفراد المجتمع وإذاعة أسرارهم وكشف مساوئهم التي لا ترتبط اطلاقاً بمصالح الامّة وأهدافها البعيدة رغم أننا نرى مع الأسف الكثير من التخلفات التي تجري في إطار هذا الأصل العقلائي فيساء استخدامه في كثير من الأحيان ، ونظراً إلى أنّ الجواز في عملية التجسّس يعتبر حكماً استثنائياً من الأصل العام فلا بدّ من مراعاة هذه الموارد بدقّة

٣١٦

والنظر إلى فلسفة هذا الحكم بالذات كيما نتجنّب الافراط في بعض الممارسات التي تدخل تحت هذا العنوان.

ونقرأ في آيات القرآن الكريم وسيرة النبي الأكرم والروايات الإسلامية إشارات واضحة إلى هذه المسألة المهمّة.

فيقول القرآن الكريم في الآية ٤٧ من سورة التوبة بصراحة أنّ من بين المسلمين أشخاصاً يمثّلون عملاء العدو وجواسيسه ، وعلى المسلمين أن يحذروا منهم حيث تقول الآية :( وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ) .

ومن هذا القبيل ما ورد في قصّة المرأة التي أرسلها بعض المنافقين لتوصل أخبار المدينة إلى المشركين في مكّة قبيل الفتح وأنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قد جهّز جيوشاً كبيرة للهجوم على مكّة حيث أرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام عليعليه‌السلام ورائها فوجدها في الطريق وهددها لتسلّم الرسالة ، فاضطرت أخيراً إلى الاعتراف وتسليم هذه الرسالة إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام (١) ، وكذلك قصّة تجسّس حذيفة في معركة الأحزاب لصالح المسلمين ونفوذه إلى قلب جيش الأعداء لتفحّص الأخبار ونقلها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

ويستفاد من آيات القرآن الكريم أنّ هذه المسألة كانت موجودة أيضاً في عصر الانبياء السابقين ، وأحياناً تتخذ صبغة إعجازية كما في قصّة النبي سليمانعليه‌السلام عند ما استخدم الهدهد ليوصل إليه أخبار المناطق البعيدة.

ونقرأ في الحديث الشريف عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أنّه قال :«كانَ رَسُولُ اللهِ إِذا بَعَثَ جَيشَاً فَاتَّهم أَمِيراً بَعَثَ مَعَهُم مِنْ ثِقاتِهِ مَنْ يَتَجَسَّسُ لَهُ خَبَرَهُ» (٣) .

ونقرأ في نهج البلاغة في الكتاب ٣٣ قول الإمام علي أمير المؤمنينعليه‌السلام لقُشم بن عباس أمير مكّة :«أَمّا بَعدُ فَإنَّ عَينِي بِالمَغرِبِ كَتَبَ إِلَيَّ يُعلِمُنِي إِنَّهُ وُجِّهَ إِلَى المَوسِمِ مِنْ أَهلِ الشَّامِ العَمي القُلُوبِ الَّذِينَ يَلبِسُونَ الحَقَّ بِالباطِلِ وَيُطِيعُونَ المَخلُوقَ فِي مَعصِيةِ الخَالِقِ

__________________

١ ـ راجع نفحات القرآن ، ج ١٠

٢ ـ راجع نفحات القرآن ، ج ١٠.

٣ ـ وسائل الشيعة ، ١١ ، ٤٤ ، ح ٤.

٣١٧

فَأَقِمْ عَلى ما فِي يَدَيكَ قِيامَ الحَازِمِ الصَّلبِ».

وفي حديث آخر عن أنس بن مالك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه أرسل شخصاً يدعى (بسبسه)(١) من أصحابه للتجسّس على أحوال قافلة أبي سفيان وإخبار النبي بأخبارها(٢) .

ونقرأ إشارة واضحة إلى هذا المطلب في عهد مالك الأشتر حيث يأمره أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يجعل العيون والجواسيس على موظفيه وعمّاله كيما يراقب أعمالهم عن كثب من حيث لا يشعرون فيقول :«ثُمَّ تَفَّقَد أَعمالَهُم وابعَثْ العُيُوَنَ مِنْ أَهلِ الصِّدقِ وَالوَفاءِ عَليهِم ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لُامُورِهِم حَدوَةٌ لَهُمُ عَلى إِستِعمالِ الأَمانَةِ والرِّفقِ بِالرَّعِيَّةِ» (٣) .

وجاء في الحديث المعروف عن الإمام الحسينعليه‌السلام في مسألة بقاء محمد بن الحنفية في المدينة أنّه عند ما عزم الإمام الحسينعليه‌السلام على التحرّك من المدينة باتجاه مكّة ومنها إلى كربلاء أراد أخوه محمد بن الحنفية أن يصطحبه في هذا السفر فقال له الإمامعليه‌السلام :«أَمَّا أَنتَ فَلا ، عَلَيكَ أَنْ تُقِيمُ بِالمَدِينَةِ وَتَكُونَ لِي عَيناً لا تَخفِ عَنِّي شيئاً مِنْ امورِهِم» (٤) .

٢ ـ منظمات التفتيش والتحقيق

هناك الكثير من المنظمات في جميع الأدارات والمؤسسات المهمّة في هذا العصر باسم منظمات الفحص والتحقيق والتي تعمل لغرض إعمال النظر على عمل الموظّفين والعمّال والتصدّي لعمليات الاسراف والخلاف وضبط الامور واستطلاع الأحوال في مفاصل هذه الدوائر والمؤسّسات.

وبديهي أنّ عملهم ليس هو التجسّس على الامور الخاصة والأحوال الشخصية للعمّال والموظّفين في هذه المؤسّسات والدوائر ، بل عملهم يهدف إلى النظارة على الامور المتعلّقة بأداء العمل والوظيفة الاجتماعية ورعاية مصالح الامّة ، فلو أنّه تمّ الاستغناء عن هذه

__________________

١ ـ نقل في بعض الكتب (بَسْبَسْ) أو بسبس بن عمرو (سيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ٢٦٥).

٢ ـ سنن أبي داود ، ح ٢٦١٨.

٣ ـ نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٤ ـ حياة الحسينعليه‌السلام ، ج ٢ ، ص ٢٦٣.

٣١٨

المنظمات الاستخباراتية وتعطيل أعمالها فيمكن أن يستشري الفساد والخلل في مؤسّسات المجتمع الكبيرة وإداراته المهمّة.

ومن الواضح أنّ هذه المسألة لا تختص بزمان ومكان معيّن بل كانت موجودة منذ قديم الأيّام وفي مناطق مختلفة من العالم.

وأمّا الفرق بين الأجهزة الأمنيّة وهذه المنظّمات التحقيقية فهو أنّ الأجهزة الأمنيّة تعمل في الخفاء لرصد أعمال المتآمرين على أمن الوطن والشعب ولكنّ المنظمات التحقيقية تعمل بوضح النهار وتدرس الحالات المشكوكة وتتفحّص عن ما يثير الريبة والخلاف كيما تكشف عن السلوكيات الخاطئة لدى الموظّفين والمدراء والعمّال وتسلّمهم إلى العدالة.

٣ ـ التجسّس في المسائل المصيرية

يحق لمن يريد أن يختار له زوجة في حياته أو يسعى للعثور على شريك في أعماله التجارية أو موظّف يشتغل في منصب حسّاس في مؤسّسة معيّنة ولا يتمكن من تحقيق ذلك بدون سلوك التجسّس والتحقيق في هذه المسألة والكشف عن زواياها الخفيّة ، فالعقل والشرع يبيحان له أن يتفحّص في أحوال هؤلاء الأشخاص من أصدقائهم وأقربائهم وأرحامهم أو يتحرّك بنفسه لمراقبة حالاتهم وأوضاعهم من بعيد لكي يحصل له الاطمئنان بصلاح هذا الشخص وأنّه مناسب لهذا الغرض الذي يسعى إليه.

ومن المعلوم أنّ مثل هذا التحقيق والتفحّص خارج عن دائرة التجسّس الحرام ، ولكن لا ينبغي اطلاقاً أن يجعل ذلك ذريعة للتدخل إلى حريم الحياة الخاصة للأفراد ، فلو أنّه لم يصمم فعلاً على الزواج من تلك المرأة أو يستخدم الشريك الفلاني فلا يجوز له بهذه الذريعة أن يتجسّس على أحوالهم ولكنّه يبرّر عمله هذا بالقول بأنّه يمكن أن تحصل لديه حاجة يوماً من الأيّام لمثل هذه المعلومات التي اكتسبها عن طريق التجسّس ، فمثل هذه التبريرات الشيطانية لا يمكن أن تعتبر مجوّزاً للتعدّي على حدود الشرع وارتكاب الحرام.

والخلاصة أنّ كلّ شكل من أشكال الافراط والتفريط في هذه المسألة يتسبب في

٣١٩

الانحراف عن تعاليم الإسلام الأصلية ، وبعبارة اخرى : أنّه لا يمكن الابتعاد عن التجسّس والفحص والتحقيق في امهات المسائل الاجتماعية والضرورات الحياتية للمجتمع بسبب حرمة التجسّس وبالتالي تتعرّض مصالح الامّة للخطر ومؤامرات الأعداء ، ولا يمكن كذلك تعريض مصالح الامّة للخطر من جهة التدخل في خصوصيات الحياة الفرديّة للأشخاص التي لا ترتبط من قريب أو بعيد بالمصالح العامة وبذريعة جواز التجسّس في دائرة الاستثناء ، فكلا هذين الأمرين خارج عن حدود الحق والعدالة وبعيد عن مفاهيم الإسلام.

طرق العلاج :

وما لم يتحرّك الإنسان في طريق إزالة جذور هذه الحالة الذميمة من واقع النفس والقضاء على أسبابها ودوافعها فإنّ تركها والابتعاد عنها سيكون عسيراً للغاية ، وعليه فمن أراد التحرّك على مستوى تهذيب النفس وتطهيرها من هذه الصفة الذميمة يجب عليه أولاً الابتعاد عن سوء الظن (وفق ما ذكرنا في الأبحاث السابقة) لأنّ سوء الظن يدفع الإنسان دائماً إلى الفحص والبحث عن أحوال الطرف الآخر الذاتية ، وكذلك الحسد والحقد والعداوة والتكبّر كل واحدة منها يمكنها أن تكون عاملاً من عوامل التجسّس على الامور الخاصة بالآخرين بحيث أنّ الإنسان لو سعى لقلع عناصر الشر هذه من وجوده وقلبه فإنّ التجسّس سيزول بالتبع.

والعامل الآخر (عقدة الحقارة) والتلّوث بالذنب الذي يدعو الإنسان إلى أن يتصوّر الآخرين مثله ليكون مصداقاً للمثل الشائع«البلية إذا عَمَّتْ طابَتْ» وليحصل من ذلك على راحة نفسية كاذبة تدغدغ عواطفه وتسكّن من وخز ضميره ، فلو سعى الإنسان لتطهير نفسه من هذا التلّوث وهذه العقدة ، فإنّه لا يجد في نفسه حاجة للتفتيش والفحص عن حالات الآخرين الخصوصية.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ كل شخص يجب أن يفكّر في هذه الحقيقة ، وهي هل أنّه يرضى للآخرين أن يتدخّلوا في حياته واموره الخاصة ويكشف عن أسراره؟ فلو أنّه لم يرض عن

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417