• البداية
  • السابق
  • 417 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16464 / تحميل: 3823
الحجم الحجم الحجم
الأخلاق في القرآن

الأخلاق في القرآن الجزء ٣

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٨١٣٩-٢٥-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وفي حديث آخر قال :«ثَمَرَةُ الشُّكرِ زِيادَةُ النِّعَمِ» (١) .

وعلاوة على ذلك عند ما يتم غرس روح الشكر عند الإنسان ، فتصل إلى شكر المخلوق ، فشكر المخلوق في مقابل ما يؤدّيه من أعمال جيدة ، يكون سبباً مؤثراً في حركة المجتمع وتفتح الاستعدادات الخلّاقة وفي أعماق الإنسان وبالتالي فسيتحرك المجتمع لشكر الخالق ومنه يفتح باب معرفته ، فتتعمق العلاقة بين الإنسان وربّه ، وكما أشرنا سابقاً فإنّ أول مسألة تبحث في علم الكلام هي معرفة الله عزّ اسمه ، وأهمّ دليل فيها هو مسألة شكر المنعم والتي هي بدورها نابعة من الوجدان أو كما يقال بأنّ : قياساتها معها.

عملية الشكر بالإضافة إلى أنّها تعرف الواهب ، فإنّها تعرف النعم نفسها أيضاً ، فالنعمة كلّما إزداد حجمها وكيفيتها ، تستدعي شكراً أكبر وأكثر ، ولأداء شكر المنعم تكون معرفة النعمة أمراً ضرورياً ، وبالتالي تؤدي إلى توثيق الأواصر بين الخالق وعباده وتشغل نيران الحب له في القلوب ، وكم استتبعت المواهب المادية ، مواهب معنوية أعلى وأسمى!

الشكر في مصادر الحديث

الروايات في هذا المجال لا تعد ولا تحصى ، ونختار طائفة منها للقارىء الكريم :

١ ـ في حديث عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله :

«الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ لَهُ مِنَ الأجَرِ كَأَجرِ الصَّائِمِ المُحتَسِبُ والمُعافِى الشَّاكِرُ لَهُ مِنَ الأَجرِ كأَجرِ المُبتلى الصَّابِرِ والمُعطى الشَّاكِرُ لَهُ مِنَ الأَجرِ كأجر المَحرُومِ القانِعِ» (٢) .

٢ ـ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال :

«مَكْتُوبٌ فِي التُوراةِ الشُّكرُ مِنَ النِّعَمِ عَلَيكَ ، وَأَنعِم عَلى مَنْ شَكَرَكَ فَإنَّهُ لا زَوالَ لِلنَّعماءِ إِذا شُكِرَتْ وَلا بَقاءَ لَها إِذا كُفِرَتْ» (٣) .

٣ ـ فيبيّن هذا الحديث أنّ الله تعالى وحده لا يزيد النعم فقط عند الشكر ، بل وعلى

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٩٤ ، ح ١.

٣ ـ المصدر السابق ، ح ٣.

٦١

الإنسان أن يزيدها عند الشكر أيضاً.

٣ ـ وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال :

«ثَلاثٌ لا يَضُرُّ مَعَهُنَّ شَيءٌ ، الدُّعاءُ عِندَ الكَربِ ، والاستِغفارُ عِندَ الذَّنْبِ ، والشُّكْرُ عِندَ النِّعمَةِ» (١) .

وأهمية الدعاء والاستغفار في الثقافة الإسلامية معلومة ، ومع ما تقدم من الروايات أعلاه تتبيّن أهمية الشكر للإنسان وأنّ أمامه ثلاث حالات لا رابع لها ، فإمّا أن يكون قد اصيب بمصيبة ، أو وصلته نعمة ، فهو خائف بسبب الحفاظ عليها ، أو يزلّ ويصدر منه ما يغضب الربّ ، ودواء كل واحد منها ذكر في الروايات ، فالمشاكل تزول بالدعاء والذنوب بالاستغفار ، وتثبيت النعم بالشكر ، وجاء في هذا المجال حديث عن الإمامعليه‌السلام :«نِعمَةٌ لا تُشكَرُ كَسَيِّئةٍ لا تُغفَرُ» (٢) .

٤ ـ في حديث آخر عنهعليه‌السلام أيضاً ، أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان في يوم من الأيّام راكباً ناقته وفجأة نزل وسجد خمس سجدات ، وعند ما قام وركب مركبه ، قلت له : يا رسول الله رأيت منك اليوم أمراً لم أره من قبل ، فقال :«نِعَمٌ إستَقبَلَني جِبرئِيلُ فَبَشَّرنِي بِبشاراتٍ مِنْ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَسَجَدتُ للهِ شكُراً لِكُلِّ بُشرى» (٣) .

ونستوحي من هذا الحديث أنّ القادة الإلهيين يؤدّون شكر كل نعمة على حدة مهما استطاعوا.

٥ ـ وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه أمر بشكر جامع وكامل فقال :«إِذا أَصبَحتَ وَأَمسَيتَ فَقُلْ عَشرَ مَرّات : اللهُمَّ ما أَصبَحتْ بِي مِنْ نِعمَةٍ أو عافِيةٍ مِنْ دِينٍ أو دُنيا فَمِنكَ وَحدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ ، لَكَ الحَمدُ وَلَكَ الشُّكرُ بِها عَلَيَّ يا ربَّ حَتّى تَرضى وَبَعدَ الرّضا» (٤) .

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٩٤ ، ح ٧.

٢ ـ غرر الحكم.

٣ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٩٨ ، ح ٢٤.

٤ ـ المصدر السابق ، ح ٢٨.

٦٢

وبعدها قال الإمام الصادقعليه‌السلام : إنّك إن فعلت ذلك فتكون قد أدّيت شكر النعم التي وافتك في ذلك اليوم.

٦ ـ عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في أحاديثه القصار والمليئة بالمعاني الجميلة ، فيقول :

«شُكرُ النِّعمَةِ أَمانٌ مِنْ تَحلِيلِها وَكَفِيلٌ بِتأييدِها» (١) .

٧ ـ وقالعليه‌السلام في حديث آخر :«شَرُّ النّاسِ مَنْ لا يَشكُرُ النِّعمَةَ وَلا يرعى الحُرُمَةَ» (٢) .

والأحاديث في هذا المجال كثيرة جدّاً ولا يسعها هذا المختصر وما ذكر سابقاً هو نزر يسير منها.

الشكر في سيرة المعصومينعليهم‌السلام :

نحن نعلم أنّ احدى أشكال الحديث ، هو فعل وتقرير المعصوم ، وكما أنّ قوله يوضّح ويبيّن لنا معالم الدين ومعارفه ، فكذلك بعمله وسكوته في المواقع والمواضع التربوية المختلفة ، سيرسم لنا معالم الطريق الصحيح للأحكام والمعارف والأخلاق خصوصاً في مجال الشكر ، والأمثلة عليه كثيرة :

١ ـ قال الإمام الباقرعليه‌السلام :«كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله عِندَ عائِشة لَيلَتها فَقالَتْ : يا رَسُولَ اللهِ لِمَ تَتعَب نَفسَكَ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ ما تَقَدمَ مِنْ ذَنبِكَ وَما تأَخرَ؟ فَقَالَ : يا عائِشة أَلا أَكُونَ عَبدَاً شَكُوراً؟» (٣) .

ومنه يتبيّن أن الدافع لعبادة الأولياء هو الشكر ، ونقلت هذه الجملة كثيراً عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في أحاديثه المختلفة ، وهي«أَفلا أَكُنْ عَبدَاً شَكُوراً».

٢ ـ في حديث عن هشام بن الأحمر أنّه قال :«كُنتُ أَسِيرُ مَعَ أَبي الحَسن عليه‌السلام (الكاظم) فِي بَعضِ أَطرافِ المَدِينةِ إذ ثَنّى رِجلَهُ عَن دابَّتِهِ فَخَرَّ ساجِداً ، فَأَطالَ وَطالَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ وَرَكَبَ دابَّتَهُ فَقُلتُ : جُعلتُ فداك قَد أَطلتَ السُّجُودَ؟ فَقالَ :

__________________

١ ـ غررر الحكم.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٩٥ ، باب الشكر ، ح ٦

٦٣

«إنّني ذَكَرتُ نِعمَةً أَنعَمَ اللهُ بِها عَلَيّ فأَحبَبتُ أَنْ أَشكُرَ رَبِّي» (١)

ويعلم من هذه الرواية أنّ الأئمّةعليهم‌السلام ، كانوا ملتزمين بأداء الشكر لكل نعمة ، وكانوا يوصون مريديهم ومحبّيهم بذلك أيضاً ، حيث جاء في الحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال :«إِذا ذَكَرَ أَحَدُكُم نِعمَةَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ فَليَضَع خَدَّهُ عَلى التُّرابِ شُكراً للهِ ، فَإِنْ كانَ راكِباً فَليَنزِل فَليَضَعَ خَدَّهُ عَلَى التُّرابِ ، وإِنْ لَم يَكُن يَقدَرُ عَلَى النُّزُولِ للشُّهرَةِ فَليَضَع خَدَّهُ عَلى قَربُوسِه ، وإن لَم يَقدر فَليَضَع خَدَّهُ عَلى كَفِّهِ ثُمَّ لِيحمِدَ اللهَ عَلى ما أَنعَم عَليهِ» (٢) .

٣ ـ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال لأحد أصحابه واسمه أبو بصير :«إِنَّ الرَّجُلَ مِنكُم لَيشرَبَ الشِّربَةَ مِنَ الماءِ فَيُوجِبُ اللهُ لَهُ بِها الجَنَّةَ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّهُ لَيأَخُذ الإِناءَ فَيَضَعهُ عَلى فِيهِ فَيُسمِّي ثُمَّ يَشرَبُ فَيُنَحِّيهِ وهُوَ يَشتَهيهِ ، فَيَحمدُ اللهَ ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَشرَب ، ثُمَّ يُنَحِّيهِ فَيحمُدُ اللهَ ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَشرَب ، ثُمَّ يُنَحِّيهِ فَيَحمُدُ الله ، فَيُوجِبُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِها الجَنَّةَ» (٣) .

كيف يتمّ الشكر :

قلنا في تعريف الشكر أنّه التقدير وعرفان الحرمة سواء كان باللسان أم بالقلب ، والكفر هو التحقير للنعمة ، وتضييعها ، وعدم الاعتناء بالمنعم لها.

وأهمّ قسم من مراحل الشكر ، هو الشكر العملي ، وكم يوجد أفراد يشكرون باللسان ولكنهم يخالفون عملاً ، ويكفرون بأنعم الله تعالى.

فالمسرفين والمبذّرين والبخلاء والمتفاخرين والطاغين كل اولئك من مصاديق الجاحدين للنعم الإلهية ، ويمشون في طريق كفران النعم ، بعكس اولئك الذين ينفقون أموالهم سرّاً وعلانية ، ويتواضعون لله وللناس رغم سعة أموالهم وتراثهم ، ولا يريدون تضييع ما آثرهم الله تعالى به من فضله ويضعون الشيء موضعه ، أو كما قال الله تعالى :( فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) اولئك المؤدّون شكر النعم حقّها في مقابل المعطي الحقيقي

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٩٨ ، ح ٢٦.

٢ ـ المصدر السابق ، ح ٢٥.

٣ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٩٦ ، ح ١٦.

٦٤

لها ، بل ويستحقون الزيادة ،( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) وورد في الروايات الإسلامية اشارات لطيفة لمراحل الشكر الثلاثة.

نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال :«مَنْ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِ بِنِعمَةٍ فَعَرَفَها بِقَلبِهِ فَقَد أَدّى شُكرَها» (١) .

ومن البديهي أنّ معرفة النعمة وأهميتها وقيمتها ، يؤدّي إلى معرفة الواهب لها ويحثّ على تأدية شكرها بالعمل واللسان.

وورد في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال لأحد أصحابه :«ما أَنعَمَ اللهُ عَلَى عَبدٍ بِنِعمَةٍ صَغُرَتْ أَو كَبُرَتْ فَقَالَ الحَمدُ للهِ إلّا أَدّى شُكْرَها» (٢) .

ومن المؤكد أنّ القصد من القولالحمد لله ، ليس هو لقلقة اللسان بل الحمد الحقيقي النابع من القلب والروح.

ولذلك فإننا نقرأ في حديث ثالث عنهعليه‌السلام ، أنّ أحد أصحابه سأله :«هَلْ لِلشُّكرِ حَدٌّ إِذا فَعَلَهُ العَبدُ كَانَ شاكِراً؟ قَالَ : نَعم ، قُلتُ : ما هُوَ؟

قَالَ : يَحَمدُ اللهَ عَلَى كُلِّ نِعمَةٍ عَلَيهِ فِي أَهلٍ وَمالٍ وإِن كانَ فِيما أَنعَمَ عَلَيهِ فِي مالِهِ حَقٌّ أَداهُ ، وَمِنهُ قَولُهُ عَزَّ وَجَلَّ : «سُبحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا وَما كُنّا لَهُ مُقرِنِينَ» (٣) .

وكذلك في حديث آخر عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال :«شُكرُ العالِمِ عَلى عِلمِهِ ، عَمَلُهُ بِهِ وَبَذْلُهُ لِمُستَحِقِّهِ» (٤) .

فهذه اشارات للشكر العملي في مقابل النعم الإلهية ، وبالطبع إنّ العالم الذي لا يعمل بعلمه ، أو يحجب علمه عن الآخرين ، فهو عبد لا يؤدّي شكر النعم ، ولسان حاله يقول : أنني لا أستحق هذه النعم العظيمة.

ويجب الإشارة إلى أنّ الشكر العملي يختلف باختلاف الأفراد ويتغيّر شكله من مكان

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٩٦ ، ح ١٥.

٢ ـ المصدر السابق ، ح ١٤.

٣ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٩٦ ، ح ١٢.

٤ ـ غرر الحكم.

٦٥

إلى مكان ، وكما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام في حديثه القصير القيم ، حيث أشار إلى أربع نماذج ، فقال :

«شُكرُ إِلهكَ بِطُولِ الثَّناءِ ، شُكرُ مَنْ فَوقَكَ بِصِدقِ الولاءِ ، شُكرُ نَظِيرَكَ بِحُسنِ الإِخاءِ ، شُكرُ مَنْ دُونَكَ بِسَببِ العَطاءِ» (١) .

واحدى فروع الشكر العملي ، وهو عند ما ينتصر الإنسان على عدوّه ، أو بعبارة اخرى العفو عند المقدرة على العدو ما لم يكن خطراً فعلياً ، وليجعل العفو عنه هو علامة لشكر الله تعالى وانتصاره عليه ، فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :«إِذا قَدَرتَ عَلَى عَدوِّكَ فاجعَلِ العَفوَ عَنهُ شُكراً للقُدرَةِ عَلَيهِ» (٢) .

كما وتجدر الإشارة إلى أنّ أفضل طرق الشكر العملي للنعم ، هو الانفاق منها في سبيل الله تعالى ، وقال عليعليه‌السلام في هذا المجال :«أحسَنُ شُكرِ النِّعَمِ الإنعامُ بِها» (٣) .

والطريقة الاخرى لشكر النعم العملي هي العبادة والدعاء ، بل هو وحسب ما جاء في الروايات الإسلامية أفضل دافع للعبادة ، والحال أنّ العبادة لأجل الحصول على الجنّة هي من عبادة التّجار والعبادة خوفاً من النار تعتبر من عبادة العبيد ، فإذا كان الدافع للعبادة هو الشكر ، فتلك هي عبادة الأحرار ، وقال عليعليه‌السلام :«إِنّ قَوماً عَبَدُوهُ شُكراً فَتِلكَ عِبادَةُ الأَحرارِ» (٤) .

دوافع الشكر :

يمكننا تقوية روح الشكر ودوافعه ، بطرق مختلفة متعددة ، وأولها معرفة النعم ،

نحن نعلم أنّ الله تعالى قد أغرق الإنسان بنعمه ظاهرة وباطنة وفردية واجتماعية ، ولحسن الحظ فإنّ تقدم العلوم من عجائب ونعم الله المحيطة بنا ، من عجائب صنع الكون

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الحكمة ١١.

٣ ـ غرر الحكم.

٤ ـ بحار الانوار ، ج ٧٥ ، ص ٦٩ ، ح ١٨.

٦٦

والعالم إلى عجائب خلقة الإنسان وكل واحدةٍ منها تعتبر نعمة عظيمة كبيرة تستحق الإجلال والوقوف عندها ، فمثلاً الكل يعرف في وقتنا الحاضر جسم الإنسان وتركيبه وأنّه مكوّن من مليارات الخلايا الصغيرة ، وهي بدورها لها هيكل وشكل معقد محير للعقول ، وكل خليّة منها تعتبر نعمة تستحق الشكر ، هذا بالنسبة للخلايا ، وأمّا الدم فهو أيضاً يتكون من مكوّنات عديدة أحدها كريّات الدم البيض والتي القي على عاتقها مهمّة الدفاع عن الجسم في مقابل الميكروبات والأمراض المختلفة التي تهجم عليه نتيجة لتعامل الإنسان مع البيئة التي يعيش فيها ، وإذا ما قيل قديماً أنّ كل نفَس يستنشقه الإنسان يتألف من نعمتين وكل نعمة تستحق الشكر ، اليوم وفي وقتنا الحاضر استحدثت آلاف بل ملايين النعم وكل واحدة منها تستحق الشكر فعلاً وحقاً.

وإذا قال القدماء بأنّ العوامل الأربعة من الشمس والأرض والمطر والرياح تلتقي مع بعضها لتولّد لك رغيف الخبز ، فنحن اليوم وبسبب تقدّم العلوم نعلم جيداً أنّ العوامل التي تهب لنا رغيف الخبز لا تقتصر على هذه العوامل الأربعة بل هناك ألالاف من العوامل البيئية والبشرية تلتقي لتولّد لنا هذه النعمة والموهبة الإلهية.

وعليه فانّ دوافع المعرفة التي تتصل من خلال المعرفة تتسع يوماً بعد آخر وتأخذ أبعاداً جديدة ومتنوعة ، وعلى هذا الأساس فإنّ استمرار حالة الشكر للنعم الإلهية يحصل ويتعمّق في وجود الإنسان من خلال التدبّر ودوام التفكّر في هذه النعم الإلهية في حركة الحياة والواقع.

الدافع الآخر للشكر هو أنّ الإنسان لا بدّ أن ينظر في الموارد الدنيوية إلى ما دونه من الناس ليدرك عظيم نعمة الله عليه وما حباه من كثير المنّة وما أعطاه من القابليات والقوى والإمكانات التي يفتقدها الآخرون لأسباب مختلفة ، وفي ذلك نقرأ في الحديث الشريف الوارد عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في كتابه لأحد أصحابه المعروفين (حارث الهمداني) يقول :

٦٧

«وَأَكثِر أَنْ تَنظُرَ إِلى مَنْ فُضِّلتَ عَلَيهِ فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ أَبوابِ الشُّكرِ» (١)

في حين أنّ الإنسان لو نظر إلى من فوقه من الأشخاص المثرين فإنّ ذلك سوف يتسبب له بتفعيل روح الطمع وعدم الشكر وبالتالي تتحرّك الوساوس الشيطانية في نفسه لتثير فيه حالة الابتعاد عن الله تعالى ونسيان النعمة ، ومن الدوافع المهمّة الاخرى مطالعة بركات وآثار شكر النعمة والمنعم وما يترتب عليه من زيادة النعمة ودوامها كما تقدم ذلك بالتفصيل في الأبحاث المتقدمة.

ومن أفضل الطرق لتفعيل حالة الشكر بين الناس تجاه أحدهم الآخر أن يتحرك الناس باتجاه مكافأة المحسن وتقدير الأشخاص الذين يساهمون في حركة الخدمة والإحسان في المجتمع سواءً كان التشجيع والثناء كلامياً أو فعلياً ولذلك قال الإمام عليعليه‌السلام في عهده المعروف لمالك الأشتر :«ولا يَكُونَنَّ المُحسِنُ والمُسِىءُ عِندَك بِمَنزِلَةٍ سواءِ فإنَّ فِي ذَلِكَ تَزهِيداً لأَهلِ الإِحسانِ فِي الإِحسانِ وَتَدرِيباً لأَهلِ الإِساءَةِ عَلَى الإِساءةِ» (٢) .

شكر الخالق وشكر المخلوق :

لا شكّ أنّ الشكر للنعمة كما هو خُلق جميل بالنسبة لله لشكر الله تعالى فكذلك هو خُلق جميل ومطلوب من الإنسان تجاه المخلوق أيضاً ، فالشخص الذي يؤدّي خدمة إلى الآخر ويتحرك في سبيل ايصال نعمة أو يتنازل عن خير من نفسه إلى الآخر فإنّ وظيفة الآخر الذي حصل على هذا الخير أن يشكر هذا الإنسان الذي تسبب في إيصال النعمة له رغم أنّه لا يريد ولا يتوقّع الشكر من الآخر ، فقد ورد في الرواية المعروفة عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام قوله :«مَن لَم يَشْكُرِ المُنعِمَ مِنَ المَخلُوقِينَ لَم يَشكُرِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ» (٣) .

إنّ العبارة المعروفة :«مَنْ لَم يَشكُرِ المَخلُوقَ لَم يَشكُرِ الخالِقَ» رغم أنّها لم ترد في

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الرسالة ٦٩.

٢ ـ المصدر السابق ، الرسالة ٥٣.

٣ ـ عيون أخبار الرضا ، ج ٢ ، ص ٢٤.

٦٨

الروايات الإسلامية بهذا النص إلّا أنّ هذا المضمون والمفهوم قد ورد في الروايات الشريفة عن المعصومين ، ويمكن أن يكون لها معنيان وتفسيران :

الأول : أنّ ترك شكر المخلوق هو شاهد ودليل على روح العناد وكفران النعمة لدى هذا الشخص وبسبب ذلك فإنّه لا يعيش التقدير والاحترام للآخرين بل أحياناً تستولي عليه حالة انتظار الاحسان من الناس ويرى أنّهم مقصّرون في حقّه ، ومثل هذا الإنسان سوف لا يعيش الشكر للخالق جلّ وعلا ، ولا سيّما أنّ النعم والخيرات التي تصل إلى الإنسان عن طريق الآخرين تكون محدودة ولذلك يشعر بها الإنسان ويلمسها من قريب لأنّها تقع بين الفينة والاخرى ، أمّا المواهب الإلهية فكثيرة ولا متناهية وتحيط بوجود الإنسان تماماً ولذلك فإنّها لشدّة ظهورها تكاد تخفى على الإنسان الغارق في النعمة فلا يكاد يشعر بها.

والآخر : أنّ شكر المخلوق هو في الواقع شكر الله تعالى ، لأنّ شكر المخلوق ما هو إلّا واسطة للفيض وانتقال النعمة من الله تعالى إلى الآخرين ، وعليه فإنّ من لم يشكر المخلوق فهو في الواقع لم يشكر الله تعالى.

وعلى كل حال فقد ورد التأكيد على هذا المعنى في الروايات الإسلامية وأنّ المسلم لا بدّ أن يعيش الشكر للمخلوق الذي أوصل إليه النعمة ، وللخالق الذي هو أصل النعمة بل وينبغي اعطاء الشاكر مزيداً من النعمة تشجيعاً لواقع الشكر كما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله ، أنّه ورد في التوراة :«اشكُرْ مَنْ أَنعَمَ عَلَيكَ وَأَنعِمْ عَلَى مَنْ شَكَرَكَ» (١) .

ونقرأ في المفاهيم القرآنية أنّ الله تعالى يأمر بتقديم الشكر للمخلوقين إلى جانب شكره تعالى :( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) (٢) .

ولا شكّ أنّ الوالدين لا يختصّون بإيصال الخير للإنسان أو أنّهما أصحاب الحق فقط عليه (رغم أنّ حقهما عظيم) فإنّ كل من كان له حق معنوي أو مادّي على الإنسان فلا بدّ من تقديم الشكر له.

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٩٤.

٢ ـ سورة لقمان ، الآية ١٤.

٦٩

ونشاهد هذا المعنى في حالات وسيرة القادة الإلهيين حيث يشكرون الآخرين على أيّة خدمة مهما كانت ضئيلة ويجزلون العطاء على أقل نعمة تصل إليهم من الغير ومن ذلك ما ورد في قصة احدى جواري الإمام الحسينعليه‌السلام التي أهدت له وردة جميلة فما كان من الإمامعليه‌السلام إلّا أن أعتقها جزاء صنيعها هذا ، وعند ما سئل عن سبب ذلك وأنّ هذا الجزاء الكبير لا يتلاءم مع تلك الخدمة الصغيرة من الجارية قال :«كذا أدّبنا الله» (١) .

وكذلك القصّة المعروفة الاخرى عن الثلاثة الكرام وهم الإمام الحسنعليه‌السلام والإمام الحسينعليه‌السلام وعبد الله بن جعفر الذين كانوا في قافلة فتأخروا يوماً عنها فلجأوا في الصحراء إلى خيمة عجوز منفردة فسقتهم الماء وأطعمتهم من لحم الشاة الوحيدة لديها فلّما انتهوا من الطعام وأرادوا الرحيل عنها قالوا لها : إذا وردت المدينة فأتي إلى دورنا لنجازيك على هذه الخدمة الكبيرة ، ثم مضت أعوام من القحط الشديد في تلك الصحراء إلى درجة أنّ الأعراب وأهل الخيام في تلك الصحراء جاءوا إلى المدينة طلباً للطعام والغذاء ، وفي أحد الأيّام وقعت عين الإمام الحسنعليه‌السلام على تلك العجوز في أزقّة المدينة تطلب لها طعاماً ، فناداها الإمام وذكّرها بنفسه وأنّه قدم عليها مع أخيه وابن عمّه إلى خيمتها فاطعمتهم من ذلك الطعام ولكن العجوز لم تتذكر شيئاً ورغم ذلك فإنّ الإمام قال لها : إذا لم تذكري ذلك فأنا أذكره ثم إنّه وهب لها مالاً كثيراً وأغناماً كثيرة وبعثها إلى أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، فقام الإمام الحسينعليه‌السلام بمثل ما قام به أخيه الإمام الحسنعليه‌السلام من العطاء والكرم إلى هذه المرأة الكريمة ، ثم أرسلها إلى عبد الله بن جعفر الذي صنع مثل ما صنع الحسن والحسينعليهما‌السلام حتى أنّ هذه المرأة (صارت من أغنى الناس) كما ورد في ذيل الحديث(٢) .

ونقرأ أيضاً قصّة (شيماء) بنت حليمة السعدية واُخت النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من الرضاعة حيث حباها النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وتقدّم لها بفائق الاحترام والشكر جزاء للخدمة التي تقدّمت بها امّها حليمة السعدية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في طفولته ، فقد ذكر المؤرخون بأنّ طائفة كبيرة من قبيلة

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٤٤ ، ص ١٩٥ ونقل مثلها عن الإمام الحسنعليه‌السلام .

٢ ـ نور الابصار ، محمد الشبلنجي المصري (مع التلخيص) ؛ بحار الانوار ، ج ٤٣ ، ص ٣٤٨.

٧٠

بني سعد قبيلة حليمة السعدية وقعوا أسرى بيد المسلمين في حرب حنين ، وعند ما رأى النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله شيماء بين الأسرى تذكّر خدماتها هي وامّها في أيّام طفولته ، فنهض من مكانه إحتراماً لها وفرش عباءته على الأرض وأجلس شيماء عليها وأخذ يسألها بكل لطف ومحبّة عن أحوالها وقال : أنت صاحبة الفضل عليّ وكذلك امّك ، في حين أنّه قد مرّ على ذلك ستون سنة تقريباً ، وهناك طلبت شيماء من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يطلق سراح أسرى قبيلتها فقال : أنا اوافق على هذا الطلب من سهمي ، فعند ما سمع المسلمون ذلك وهبوا حصّتهم كذلك من الأسرى لشيماء ، وبالتالي تم تحرير جميع أسرى هذه القبيلة بسبب تلك المحبّة والخدمة التي عاشها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في مرحلة الطفولة(١) .

ومثال آخر على ذلك هو ما ورد في سيرة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّه كانت هناك امرأة تدعى (ثويبة) التي نالت شرف ارضاع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل «حليمة السعدية» من لبن ولدها «مسروح» ، فعند ما هاجر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ورزقه الله المال كان يرسل لها بعض الثياب والهدايا إلى آخر حياتها حيث توفيت بعد واقعة «خيبر».

والعجيب أنّه جاء في بعض التواريخ أنّ هذه الامرأة «ثويبة» كانت أَمة «أبي لهب» وعند ما بشرت أبا لهب بولادة رسول الله أعتقها أبو لهب (ومعلوم أنّ أبا لهب في ذلك الزمان قام بهذا العمل بسبب رابطة القرابة بينه وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث فرح أبو لهب لمّا رزق أخوه عبد الله).

وعند ما مات أبو لهب بعد سنوات من العداء والأذى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رآه أخوه العباس في عالم الرؤيا ، فسأله عن حاله ، فقال : أنا معذّب في النار ، ولكن يخفّف عني العذاب في ليالي الاثنين بحيث أشرب الماء من بين أصابعي ، لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولد يوم الأثنين ، وعند ما بشرتني أمتي ثويبة بولادته وعلمت أنّها أرضعته لعدّة أيّام أعتقتها»(٢) .

__________________

١ ـ اعلام الورى ، ص ١٢٦ و ١٢٧ ، سفينة البحار مادة «حلم».

٢ ـ سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٥٢٢ (مفردة ثويبة).

٧١
٧٢

٤

الغيبة ، التنابز بالألقاب وحفظ الغيب

تنويه :

تقدّم في الجزء الأول من هذا الكتاب والذي يبحث عن الاصول العامة للقيم الأخلاقية بحث حول علاج آفات اللسان على أساس أنّها أول خطوات إصلاح الأخلاق وتهذيب النفس والسير والسلوك إلى الله تعالى ، وقد وعدنا هناك أن نفصّل الحديث عن هذه الحالة ونذكر جزئيات اخرى في البحوث اللاحقة ، وأحد افرازات آفة اللسان هذه هي مسألة (الغيبة) التي هي من أخطر المفاسد الأخلاقية وأكثرها إتّساعاً وشيوعاً حيث تتسبب في هتك حُرمة الآخرين ، وكشف أسرارهم ، وإشاعة الفحشاء ، وتمادي المذنبين والمجرمين في سلوكهم ، وبالتالي تفضي إلى تزلزل إعتماد الناس وثقتهم بالبعض الآخر ، ولا ريب أنّ لكثير من الناس عيوب ونقاط ضعف مستورة غالباً ، فإذا اتّضحت هذه العيوب ونقاط الضعف فسوف تتزلزل الثقة العامة بين الناس وتنتشر المفاسد الأخلاقية العديدة التي ذكرناها آنفاً في الوسط الاجتماعي ، ولذا نهى الإسلام عن ذلك بشدّة ، وجاء في كتب علماء الأخلاق أنّ الغيبة من أسوأ آفات اللسان (رغم أنّ الغيبة لا تنحصر بذكر الطرف الآخر باللسان ، بل قد تتحقق بالقلم أو الإشارة أو التعرض بشكل من الأشكال للآخر).

وبما أنّ السلوك إلى الله تعالى لا يمكن أن يتحقق للإنسان ولا يرى المجتمع الإنساني

٧٣

السعادة والصلاح بدون إزالة هذه الرذيلة الأخلاقية بين أفراد المجتمع فلذلك نجد أنّ النصوص الدينية قد اهتمت بهذا الأمر إهتماماً بالغاً.

إنّ تسمية الأشخاص الآخرين بأسماء وقحة وألقاب قبيحة في غيابهم يعتبر فرع من فروع الغيبة المحرّمة ، رغم أنّه قد يذكر بعنوان مستقل ، ولذلك ذكرناهما تحت عنوان واحد.

النقطة المقابلة للغيبة حفظ الغيب ، أي أنّ الإنسان يذكر الآخرين من موقع المدح والثناء ويدافع عنهم في حال تعرضهم للغيبة لحفظ كرامتهم وسمعتهم بما ستأتي الإشارة إليه ، وهذه احدى الفضائل الأخلاقية المهمّة وتتضمّن بركات كثيرة على مستوى الفرد والمجتمع.

على أية حال ونظراً لأهمية الموضوع ، فقد تطرق القرآن الكريم في مواضع عديدة إلى هذه المسألة وأصدر أحكاماً مشددة عليها :

١ ـ( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ) (١) .

٢ ـ( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) (٢) .

٣ ـ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) (٣) .

٤ ـ( لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً ) (٤) .

تفسير واستنتاج :

تنطلق«الآية الاولى» لتتحدث بصراحة عن ثلاث أشياء نهى القرآن الكريم عنها ، الأول : سوء الظن ، ثم التجسس ، ثم الغيبة ، ومعلوم أنّ سوء الظن يقود الإنسان إلى التجسس على أحوال الآخرين وكشف أسرارهم ، وبما أنّ كل إنسان لا يخلو من نواقص ونقاط

__________________

١ ـ سورة الحجرات ، الآية ١٢.

٢ ـ سورة الهُمزة ، الآية ١.

٣ ـ سورة النور ، الآية ١٩.

٤ ـ سورة النساء ، الآية ١٤٨.

٧٤

ضعف ، فسوف تنكشف من خلال التجسس ، وبالتالي تكون موضوعاً للغيبة.

هذا وأنّ القرآن الكريم اهتمّ بمسألة الغيبة في هذه الآية أكثر من اهتمامه بمسألة سوء الظن والتجسس حيث تحرك في استجلاء مضمونها من موقع الاستدلال وقال :

( وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ) .

هذا التشبيه يشكل في الواقع دليلاً منطقياً يبيّن جميع أبعاد المسألة ، فالشخص الغائب قد شبّه هنا بالميت ، والرابطة معه هي رابطة الاخوة ، وسمعته وشخصيته بمثابة جسده ، وغيبته بمثابة أكل لحمه ، وهو العمل الذي ينفر منه وجدان كل فرد مهما كان ضعيفاً ، ولا يجد كل إنسان الاستعداد لارتكابه حتى في أشدّ الظروف وأقسى الحالات.

وهذا التشبيه يمكن أن يكون إشارة إلى نكات اخرى كثيرة : فمن جهة أنّ الشخص الغائب مثل الميت في عدم قدرته على الدفاع عن نفسه ، والتهجم على من لا يقدر على الدفاع عن نفسه يعدّ من أسوأ الحالات الأخلاقية في الدناءة والحقارة.

ولا شك أيضاً أن تناول الميتة لا يتسبب في سلامة البدن والروح ، بل يفضي إلى الابتلاء بأنواع الأمراض ، وعليه فإنّ المستغيب إذا ما استطاع اطفاء نار حسده وحقده بواسطة الغيبة وبصورة مؤقتة ، فسوف لا يمضي وقت طويل حتى تورق بذور المفاسد الأخلاقية التي زرعها في قلبه وتعمل على زيادة قلقه وتوتره النفسي.

وكما أنّ الحيوان أو الإنسان الآكل للميتة يتسبب في انتشار الأمراض والميكروبات في الوسط الذي يعيش فيه ، فكذلك الشخص المستغيب يعمل على إشاعة الفحشاء والمنكر بين المسلمين بذكره عيوب وذنوب الآخرين المستورة.

عند ما يذكر القرآن الكريم هذا المثال بتفاصيله الدقيقة فإنّه يروم إلى تثوير وجدان الإنسان وفطرته تجاه هذا الذنب الكبير ، ولعل هذا هو السبب في حكاية الآية المثال المذكور بصيغة سؤال لكي يجد الإنسان الجواب بنفسه في أعماق وجدانه وبالتالي يكون تأثيره أكبر في واقع الإنسان وأحاسيسه حيث تقول الآية :( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ؟) .

٧٥

وضمناً فانّ الآية يمكن أن تكون إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أن موارد الاستثناء من حكم الغيبة وجوازها (من قبيل التظلم والمشورة وإصلاح ذات البين) هي في الواقع من قبيل المضطر لتناول الميتة حيث ينبغي به أن يقنع بالحدّ الأقل منها.

ولكن قد يثار هذا السؤال ، وهو أننا لا نرى في جميع انحاء العالم من يتناول لحم إنسان ميت (فكيف إذا كان أخاه) ، فانّ شناعة هذا الفعل وقبحه ممّا لا يكاد يخفى على أحد ، في حين أنّ ممارسة الغيبة تعدّ من الامور المتعارفة والمنتشرة في المجالس إلى درجة أنّها تعدّ أحد وسائل الترفيه والفكاهة ، فكيف نفسّر هذا الاختلاف بين هذين الحالين؟

الظاهر أنّ هذا الأمر لا دليل له سوى تفشي الغيبة وكثرة تداولها بين الناس بحيث أدّى إلى التقليل من قبحها إلى هذه الدرجة.

وتتحرك«الآية الثانية» من موقع التهديد الشديد لمن يمارس الغيبة (السخرية والاستهزاء) في حق الآخرين وتقول بأنّ العذاب العظيم ينتظر هؤلاء الأشخاص الذين يسخرون من المؤمنين ويلمزونهم بألسنتهم أو حركات أيديهم أو يغمزونهم بأعينهم من موقع التهمة والخصومة :( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) .

كلمة «لمزة» من مادة لمز على وزن رمز وكلمة «همزة» بنفس الوزن كليهما من صيغ المبالغة ، واختلفوا هل أنّهما بمعنى واحد ، أو يختلفان في المعنى؟ هناك كلام بين المفسّرين ، بعض يرى أنّهما بمعنى واحد ، وبعض آخر يرى أنّ الهمزة بمعنى الغيبة واللمزة بمعنى التعيير ، وذهب ثالث إلى عكس هذا المعنى ، ورابع إلى أنّ الهمزة تقال لمن يعيب على الآخرين بالإشارة بينهما اللمزة تقال لمن يقوم بهذا العمل باللسان ، وخامس يرى بأنّ الاولى هي تعيير الشخص بالعلن والثانية وبالخفاء وبعض يرى أنّ «الهُمزة» تقال لمن يعيب الشخص في حضوره بينما «اللمزة» تقال لمن يعيب شخصاً في غيابه.

ويذكر بعض المفسّرين أنّ مقولة «الهمز واللمز» عبارة عن صفتين رذيلتين مركبتين من حالات الجهل والغضب والتكبّر ، لأنّهما تتسببان في إيذاء الآخرين وجرح عواطفهم

٧٦

وشخصيتهم وكذلك تتضمّنان نوع من حالة التفوّق وطلب العلو ، وبما أنّ مثل هذا الإنسان لا يرى في نفسه فضيلة وصفة حسنة فإنّه يتحرّك لجبران هذا النقص من موقع ذكر عيوب الآخرين ونقائصهم ليحرز بذلك تفوّقه(١) .

وقد ذكرت بعض التفاسير وطبقاً لحديث شريف أنّ هاتين الصفتين هما من صفات المنافقين(٢) ، والتعبير بكلمة (ويل) في بداية هذه الآية والتي وردت في سبع وعشرين مورداً في القرآن الكريم هي إشارة إلى اللعن والهلاك وأنواع العذاب لمن يرتكب مثل هذه الأفعال ، وما يقال من أنّ هذه الكلمة إشارة إلى بئر أو وادي عميق في جهنّم ملتهب بالنيران هو في الواقع من قبيل تفسير الكلي بمصداقه.

وهذه الكلمة وكذلك كلمة (ويس) و (ويح) كلّها تأتي لبيان حالة التأسف التي تصيب الإنسان ، غاية الأمر أنّ (الويل) تأتي في الموارد الشديدة القُبح و (ويس) تأتي في مقابل حالة التحقير ، و (ويح) تأتي في مقام الترحّم(٣) .

ومع الالتفات إلى موارد استعمال كلمات (ويل) في القرآن الكريم يتّضح جيداً أنّ هذه المفردة تستخدم في الموارد التي يكون فيها العمل قبيحاً جدّاً ، ومنه يتّضح كذلك أنّ الغيبة والتنابز بالألقاب يعتبر في دائرة المفاهيم القرآنية من أقبح الأعمال.

«الآية الثالثة» تتحدث عن الذين يشيعون الفحشاء بين الناس من موقع الذم لهم والتهديد الشديد بالعذاب الأليم لمرتكب هذه الرذيلة وتتضمّن كذلك ذم الغيبة لأنّ إشاعة الفحشاء تتمّ غالباً من خلال الغيبة أو التهمة فتقول :( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ )

وبالطبع فإنّ شأن نزول هذه الآية إنّما هو في مورد التهمّة التي نسبهما المنافقون لبعض زوجات النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن مسألة إشاعة الفحشاء بين الناس لها مفهوم عام يستوعب

__________________

١ ـ روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٨.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٢ ، ص ٩١.

٧٧

موارد كثيرة لا سيما الغيبة.

وفي الحقيقة إنّ الآية الاولى من الآيات المذكورة آنفاً تتحدث عن البعد الفردي لحق الناس بالنسبة إلى الغيبة ومن هذه الآية نستوحي الآفاق السلبية الاجتماعية لظاهرة الغيبة ، لأنّه في كل مورد يقوم الناس بارتكاب الخطايا والذنوب في الخفاء ثم يفتضح أمرهم فإنّ الكثير من الأشخاص الذين يعيشون ضعف الإيمان واهتزاز القيم الأخلاقية في واقعهم سوف يجدون في أنفسهم ميلاً ورغبة لإرتكاب مثل هذه الذنوب.

«الفاحشة» من مادة فحش ، وهي في الأصل تعني كل فعل خرج عن حدّ الاعتدال وأضحى فاحشاً ، وعليه فإنّ هذه الكلمة تشمل جميع المنكرات والسلوكيات القبيحة في دائرة الأخلاق رغم ورود هذه الكلمة في القرآن الكريم في عدّة موارد وكذلك في المصطلح المتداول بين الناس بمعنى الانحراف الجنسي والتلّوث بأنواع المحرّمات للشهوة الجنسية ، ولكن هذا لا يمنع من عمومية الفاحشة لموارد اخرى ، وفي الحقيقة إنّ استعمالها في خصوص الانحرافات الجنسية هو من قبيل استعمال الكلي في مصداقه البارز ، وعليه فإنّ اشاعة الفحشاء الوارد في هذه الآية لا ينحصر بالانحراف الجنسي ، بل يرد في موارد اخرى تأتي غالباً عن طريق الغيبة.

وفي الآية ٤٥ من سورة العنكبوت نقرأ عن الصلاة : «إنّ الصّلاةَ تَنهى عنِ الفَحشَاءِ والمُنكَرِ».

ولهذا السبب ورد في ذيل هذه الآية حديثاً شريفاً يقول :«مَنْ قالَ فِي مُؤمِنٍ ما رَأَتْهُ عَيناهُ وَسَمِعَتْهُ اذُناهُ فَهُوَ مِنْ الَّذِينَ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ فِي الِّذينَ آمَنُوا لَهُم عَذابٌ أَلَيمٌ»

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم يذكر في الآية أعلاه أنّ جزاء مثل هؤلاء الأشخاص هو العذاب الأليم في الدنيا والآخرة ، وهذا يوكّد أنّ الغيبة وإشاعة الفحشاء لها آثار مخربّة في حياة الإنسان على المستوى الفردي والاجتماعي.

وآخر ما يقال في تفسير الآية محلّ البحث أنّ القرآن الكريم ولغرض التأكيد على هذه

٧٨

المسألة المهمّة لم يقل إنّ الذين يشيعون الفحشاء لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة بل قال :( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ )

وفي«الآية الرابعة» والأخيرة من الآيات محلّ البحث نقرأ إستثناءاً لحرمة الغيبة ، وهو ما إذا كانت الغيبة صادرة من مظلوم يريد أن يأخذ بحقّه من الظالم ومن ذلك يتّضح جيداً أنّ الغيبة لا تجوز بدون مبّرر ومسوّغ فتقول الآية :( لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً ) .

والمراد بالجهر من القول هو أي نحوٍ من الإظهار اللفظي سواءاً كان بصورة شكوى أو حكاية أو غيبة أو لعن وذم وأمثال ذلك ، وعليه فإنّ من وقع مظلوماً يحقّ له ولغرض الدفاع عن نفسه أن يفضح هؤلاء الظالمين ويذكر أعمالهم العدوانية للآخرين.

ومن أجل ، أن لا يسيء الناس الاستفادة من هذا الاستثناء ويتحرّكون من موقع الغيبة والوقيعة بالآخرين بحجّة أنّهم مظلومون فإنّ الآية الكريمة تعقّب في آخرها بقوله تعالى :( وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً ) ، فهو مطلّع على نيّات الأشخاص وأفكارهم ودوافعهم في أعمالهم هذه.

وممّا تقدّم من الآيات الكريمة نستوحي قبح وشناعة الغيبة وبالتالي فإنّ عواقبها الدنيوية والاخروية ستكون أليمة للغاية.

الغيبة في الروايات الإسلامية :

وقد ورد في المصادر الروائية وكتب الأخلاق روايات كثيرة في ذم الغيبة ، حيث تقرّر هذه الروايات في مضامينها حقيقة مذهلة حول الآثار الوخيمة للغيبة وعقوبتها الأليمة إلى درجة أنّه قلّما نجد بين الذنوب والمحرّمات ما ورد في حقّه مثل هذه الكلمات والتعبيرات ، ونحن نختار منها عشر روايات :

٧٩

١ ـ نقرأ في حديث شريف أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله خطب يوماً في المسلمين ونادى بصوتٍ رفيع بحيث سمعته النساء في بيوتهنّ وقال :«يا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسانِهِ وَلَم يُؤمِنْ بِقَلبِهِ لا تَغتابُوا المُسلِمِينَ ولا تَتَبِّعُوا عَوراتَهُم فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَورةَ أَخِيهِ يَتَتَبَّعُ اللهُ عَورَتَهُ حتى يَفْضَحَهُ فِي جَوفِ بَيتِهِ» (١) .

٢ ـ وفي حديث آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه خطب يوماً بالمسلمين وتحدّث عن ذم الربا حتى أنّه ذكر أنّ الدرهم من الربا أشدّ من ستة وثلاثين زنية ثم قال :«إنّ أَربا الرِّبا عِرضُ الرَّجُلِ المُسلِمِ» (٢) .

هذا التعبير الذي يقرّر أهميّة ووخامة الغيبة بالنسبة إلى الزنا حيث ورد في روايات متعددة وفي بعضها ذكر السبب في ذلك وهو : «أمّا صاحب الزنا فيتوب فيتوب الله عليه ، وأمّا صاحب الغيبة فلا يتوب الله عليه حتى يكون صاحبه الذي يحلّه»(٣) .

٣ ـ في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام يقول :«الغَيبَةُ حَرامٌ عَلى كُلِّ مُسلِمٍ وَأَنَّها لَتأكُلُ الحَسناتِ كَما تأكلُ النّارَ الحَطَبَ» (٤) .

وهذه الخصوصية تترتب على الغيبة وكما سيأتي في البحوث اللآحقة بسبب أنّ الغيبة تتعرّض لحقّ الناس وبالتالي فإنّ حسنات المغتاب سوف تنتقل إلى صحيفة أعمال الشخص الآخر الذي وقع مورد الغيبة لجبران الخسارة والضرر الذي تحمّله من هذه الغيبة.

٤ ـ وجاء في حديث قدسي أنّ الله تعالى خاطب نبيّه موسىعليه‌السلام وقال :«مَن ماتَ تائِباً مِنَ الغَيبَةِ فَهُوَ آخِرُ مَنْ يَدخُلِ الجَنَّةَ ومَن ماتَ مُصِرّاً عَلَيه ، فَهُوَ أَوّلُ مَنْ يَدخُلُ النَّارَ» (٥) .

وفي حديث آخر عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله نجد تعبيراً مذهلاً عن مخاطرة الغيبة حيث قال :«مَن مَشى فِي غَيبَةِ أَخِيهِ وَكَشفِ عَورَتِهِ كانَ أَوَّلَ خُطوَةٍ خَطاها وَضَعَها فِي جَهَنّمَ» (٦) .

__________________

١ ـ جامع السعادات ، ج ٢ ، ص ٣٠٣.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٦٠١ ، ح ١٨.

٤ ـ جامع السعادات ، ج ٣ ، ص ٣٠٥.

٥ ـ جامع السعادات ، ص ٣٠٢.

٦ ـ المصدر السابق ، ص ٣٠٣.

٨٠

٦ ـ وفي حديث آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال :«ما عُمّرَ مَجلِسٌ بِالغَيبَةِ إلّا خُرِّبَ بِالدِّينِ فَنَزِّهُوا أَسمَاعَكُم مِنْ اسْتِماعِ الغَيبَةِ فَإِنَّ القائِلَ وَالمُستَمِعَ لَها شَريكَانِ فِي الإثْمِ» (١) .

٧ ـ وفي حديث آخر أيضاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يتحدّث فيه عن الأضرار المعنوية الكبيرة للغيبة ويقول :«مَن إِغتابَ مُسلِماً أَو مُسلِمَةً لَنْ يَقْبَلَ اللهُ صَلاتَهُ وَلا صِيامَهُ أَربَعِينَ لَيلَةً إلّا أَنْ يَغْفِرَ لَهُ صاحِبُهُ» (٢) .

٨ ـ ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام :«مَن رَوى عَلى مُؤمُنٍ رَوايَةً يُريدُ بِها شَينَهُ وَهَدْمَ مُرُوَّتِهِ لِيَسْقُطَ مِنْ أَعيُنِ النّاسِ ، وَأَخْرَجَهُ اللهُ مِنْ وِلايَتِهِ إِلى وِلايَةِ الشَّيطانِ فَلا يَقْبَلُهُ الشَّيطَانُ» (٣) .

ومن الواضح أنّ المصداق البارز للرواية أعلاه هو الشخص المغتاب الذي يهدف من الغيبة إظهار عيوب المؤمنين المستورة ويعمل على هدم شخصيتهم الاجتماعية واسقاطهم بين الناس ، فعذاب مثل هؤلاء الأشخاص عظيم إلى درجة أنّ الشيطان نفسه يستوحش من قبول ولاية هؤلاء ويتبرأ من رفقته وصحبته.

٩ ـ وفي الحديث الوارد في مناهي النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :«نَهى عَنِ الغَيبَة وَقالَ مَنْ إِغتابَ امرءً مُسلِماً بَطَلَ صَومُهُ وَنَقَضَ وَضُوءُهُ ، وَجاءَ يَومَ القيامَةِ يَفُوهُ مِنْ فِيهِ رائِحَةٌ أَنتنَ مِنَ الجِيفَةِ يَتَأَذَّى بِهِ أَهلَ المَوقِفِ» (٤) .

١٠ ـ ونختم هذا البحث بحديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام رغم وجود روايات كثيرة اخرى في هذا المجال ولكننا نكتفي بهذا المقدار الممكن من بيان عواقب الغيبة وآثارها الوخيمة الدنيوية والاخروية حيث يقول :«إِيّاكَ والغَيبَةِ فَإنّها تُمقِتُكَ إلى اللهِ والنّاسِ وَتَحبِطُ أَجرَكَ» (٥) .

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٥ ، ص ٢٥٩.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ٧٢ ، ص ٢٥٨ ، ح ٥٣.

٣ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٥٨ ، ح ١.

٤ ـ وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٥٩٩ ، ح ١٣.

٥ ـ غرر الحكم.

٨١

ومن المعلوم أنّ حديثاً واحداً من هذه الأحاديث يكفي للأحاطة بأهميّة هذه المعصية وخطرها على واقع الإنسان وحياته المعنوية فكيف لو ضممنا وجمعنا هذه الأحاديث بعضها إلى البعض الآخر؟

ولا شكّ أنّه مضافاً إلى القرآن الكريم وتواتر الروايات الإسلامية وإجماع المسلمين على حرمة الغيبة ، فإنّ العقل أيضاً يقرّر قبح هذه الخطيئة ويذمّها باعتبارها أنّها من المصاديق البارزة للظلم والعدوان الذي هو من المستقلات العقلية ، وعليه فإنّ حرمة الغيبة تقوم عليه جميع الأدلة الأربعة الفقهية.

وبقيت هنا مسائل مهمّة لا بدّ من استعراضها وبحثها :

تعريف الغيبة :

ورد تعريف الغيبة لأرباب اللغة والفقهاء وعلماء الأخلاق تعاريف وتفاسير مختلفة تعود في حقيقتها إلى معنى واحد رغم اختلافها على مستوى التعميم والتخصيص وغير ذلك.

يقول في صحاح اللغة أنّ الغيبة هي أن يذكر الإنسان عيب الآخر وعمله في حال عدم حضوره بحيث لو سمعه ذلك الشخص لتألم وتأثر.

ويقول في المصباح المنير : أنّ الغيبة هي كشف العيوب المستورة للآخرين بحيث يتألمون منها وذلك غيبتهم.

وينقل الشيخ الأنصاريقدس‌سره عن بعض كبار العلماء أنّ الإجماع والأحاديث الشريفة تدلّ على أنّ الغيبة في حقيقتها هي (ذكر أخاك بما يكره) في غيبته(١) .

وهذا المضمون ورد أيضاً في حديث نبوي شريف ، وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تعريف الغيبة يقول :«الغَيبَةُ أَنْ تَقُولَ فِي أَخِيكَ ما قَد سَتَرَهُ اللهُ عَلَيهِ ...» (٢) .

ويستفاد ممّا ذكر آنفاً أنّ للغيبة عدّة أركان ، أوّلها أن يكون الكلام في حال غيبة الشخص

__________________

١ ـ المكاسب ، كتاب المكاسب المحرمة ، الشيخ الأنصاري ، ص ٤١.

٢ ـ وسائل الشيعة ، ج ٨ ، أبواب أحكام العشرة ، ص ٦٠٢.

٨٢

المذكور ، فلو قيل هذا الكلام في حضوره فإنّه يكتسب عنواناً آخر (كعنوان الايذاء أو التهتك وأمثال ذلك) والآخر أن يكون الكلام من قبيل ذكر عيوب الشخص المستورة والخفيّة فلو كانت من العيوب البارزة والظاهرة لم تكن من الغيبة رغم أنّها قد تكون محرّمة بعناوين اخرى ، والثالث أن يكون الكلام بحيث إذا سمعه الشخص المذكور بالغيبة فسوف يتألم ويتأثر ، ولكن الظاهر أنّ هذا القيد قيد توضيحي فحسب ، لأنّ إظهار العيوب المستورة للآخرين وخاصة في غيبتهم تورث التألم والأذى ، وقد يكون هناك بعض الأراذل الذين لا يمتعضون بذكر معايبهم ونشر فضائحهم بين الناس ولكن مثل هؤلاء الأشخاص قلّة نادرة.

وممّا تقدمّ آنفاً تتضح لنا هذه الحقيقة جيداً ، وهي أنّه عند ما يقال لبعض العوام من الناس : لماذا ترتكب غيبة الشخص الفلاني وتذمّه وراء ظهره؟ يقول : إنني أتحدث بهذا الكلام أمامه أيضاً وفي حضوره ، فهذا من قبيل العذر أقبح من الذنب ، لأنّ التحدّث بذلك أمامه وفي حضوره لا يجوّز غيبته أبداً ، فذلك أيضاً ذنب كبير بدوره لأنّه يدخل تحت عنوان أذى المؤمن وكذلك هتك حرمته بين الناس وهدم شخصيته في المجتمع.

ونقرأ في حديث شريف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه ذكر بين يديه رجل فقال بعض الحاضرين : أنّه رجل عاجز وضعيف فقال : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لقد اغتبتموه ، فقالوا : يا رسول الله لقد ذكرنا صفته فقال :«إِنْ قُلتُم ما لَيسَ فِيهِ فَقَد بَهَتّموه» (١) .

والعذر الآخر الذي يذكره بعض الجهّال كمسوّغ للغيبة ويتذرّعون به أمام من ينهاهم عن الغيبة يقولون : إنّما نقوله هو حق وليس بكذب ، فالشخص الفلاني لديه هذا العيب ، وهذه الذريعة لا تقل قبحاً عن سابقتها لأنّه لو لم يكن هذا العيب في الطرف الآخر لدخل تحت عنوان التهمة لا الغيبة ، فالغيبة كما ذكرنا هي ذكر العيوب الخفيّة للآخرين في غيبتهم.

ولا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّه يستفاد من بعض كلمات الأعاظم وعلماء الأخلاق أنّ الغيبة لا تقع بالنسبة إلى جميع المؤمنين ، بل تقع في مورد الأشخاص الذين تابوا من ذنوبهم وندموا على خطيئتهم وعادوا إلى جادة الصواب ، وأمّا الفاسق والمذنب والمتجاهر بالإثم ،

__________________

١ ـ المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٥٦.

٨٣

فإنّ غيبته مباحة حتى لو كان ذنبه مستوراً ويتمسّكون في هذا بالرواية الواردة عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث أنّه قال :«مَنْ عامَلَ النّاسَ فَلَم يَظلِمهُم ، وَحَدَّثَهُم فَلَم يَكذِبْهُم ، وَوَعَدَهُم فَلَم يُخْلِفْهُم كَانَ مِمَّنْ حُرِّمَ غَيبَتُهُ وَكَمُلَتْ مُرُوَّتُهُ وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ وَوَجَبَتْ إخُوتُهُ» (١) .

وبهذا فإنّ الغيبة تكون محرّمة إذا كانت بالنسبة إلى الشخص العادل بينما الشخص الفاسق فيجوز غيبته حتى لو كان يمارس الذنب في الخفاء.

العلّامة المجلسيقدس‌سره يميل إلى هذا الرأي أيضاً في الجزء ٧٢ من بحار الانوار باب كتاب العشرة رغم أنّه عدل عن هذا الرأي في ذيل كلامه أيضاً(٢) .

ولكن من المسلّم أنّ هذه الرؤية تسبب في أن يكون أكثر الناس تجوز غيبتهم وهذا على خلاف اطلاق الآية القرآنية والروايات العديدة في مجال حرمة الغيبة.

ومضافاً إلى الروايات الكثيرة التي تقرّر أنّ عدّة طوائف من الناس تجوز غيبتهم أو لا غيبة عليهم ومنهم الفاسق المتجاهر بالفسق ومن جملة ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :«أَربَعَةٌ لَيسَتْ غَيبَتُهُم غَيبَةٌ ، الفاسِقُ المُعلِنِ بِفِسقِه ، ....» (٣) .

ونفس هذا المضمون ورد في رواية اخرى عن الإمام الباقرعليه‌السلام أيضاً.

ويقول الإمام الصادقعليه‌السلام في هذا الصدد :«إذا جاهَرَ الفاسِقُ بِفِسقِهِ فَلا حُرمَةَ لَهُ عَلى غَيبَةٍ» (٤) .

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أنّه قال :«مَن أَلقى جِلبَابَ الحَياءِ فَلا غَيبَةَ لَهُ» (٥) ، وهناك أحاديث متعددة اخرى صريحة في هذا المعنى ، وبمقتضى مفهوم الوصف لهذه الأحاديث ، بل مفهوم الشرط حيث يكون الكلام في مقام الاحتراز ونفي الغير يتّضح جيداً أنّه إذا إرتكب الشخص الذنب في الخفاء فلا يجوز غيبته ، وكما سوف يرد

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٣٩ ، ح ٢٨.

٢ ـ بحار الانوار ، ٧٢ ، ص ٢٣٥ إلى ٢٣٧.

٣ ـ المصدر السابق ، ص ٢٦١.

٤ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٢ ، ص ٢٥٣.

٥ ـ المصدر السابق ، ص ٢٦٠.

٨٤

في بحث إستثناءات الغيبة أنّ الشخص المتجاهر بالفسق تجوز غيبته في خصوص الذنب الذي تجاهر به لا بالنسبة إلى جميع أفعاله الاخرى.

ومضافاً إلى أنّ حرمة الغيبة ثابتة بدليل العقل أيضاً لأنّها نوع من الظلم والعدوان على الآخرين وإفشاء أسرارهم وإسقاط شخصيتهم بين الناس ، ولا شكّ أنّه لا فرق بين الفاسق والعادل في هذا المجال إلّا أن تكون الغيبة في موارد النهي عن المنكر أو دفع الخطر أو الضرر عن المجتمع الإسلامي وحينئذٍ لا فرق أيضاً بين الفاسق والعادل.

وسيأتي في بحث إستثناءات الغيبة تفصيل أكثر حول هذا الموضوع.

أقسام الغيبة :

أحياناً يتصوّر أنّ الغيبة تقع باللسان فحسب ، في حين أنّ حقيقة الغيبة كما إتّضح آنفاً هي اظهار العيوب المستورة للشخص الآخر بحيث إذا سمع بذلك تألّم وتأثر منها ، وهذا العمل يمكن أن يحصل بواسطة اللسان أو بواسطة القلم أو حتى بالإشارة باليد والعين والحاجب ، وأحياناً تتخذ الغيبة صبغة المزاح واخرى صبغة الجد ، وكم من الذنوب والآثام التي يرتكبها البعض في لباس المزاح والسخرية حيث تكون أخطر من الذنوب التي تلبس لباس الجد ، لأنّ الإنسان يتحرّك بحرية أكثر في حالة المزاح بخلاف حالة الجد ، حيث لا يكون قادراً على بيان المطلب المراد بصورة وافية فيذكره بصبغة المزاح والإثارة للتفكّه والضحك.

مضافاً إلى أنّ الغيبة تارةً تقع بتعبيرات صريحة (وبالاصطلاح المنطقي بالدلالة المطابقية والتضمنية) واخرى بالدلالة الالتزامية والتعبيرات الكنائية التي قد تكون أبلغ من التصريح ، مثلاً عند ما يتحدّث الشخص عن أحد المؤمنين يقول : سامحه الله لنسكت عن هذا فإنّ الشرع المقدس قد أغلق أفواهنا ، وبهذه الكلمات يريد أن يفهم الآخرين على أنّ ذلك الشخص قد إرتكب أفعالاً قبيحة وعظيمة ، وقد يكون التصريح بها لا يثير المستمع كما هو الحال في الكناية ، ولكن بما أنّ مثل هذا الكلام يثير تصوّرات مجملة عن الموضوع فإنّ

٨٥

ذهن المستمع قد يتصوّر ذنوباً متنوعة وكثيرة يكون الشخص المذكور بريئاً منها.

أو يقول : إنّ الشخص الفلاني له صفات جميلة وأفعال حسنة ولكن ويسكت عن إكمال الحديث.

وأحياناً اخرى يتحرّك المتكلّم من موقع النصيحة والتحرق القلبي ويقول : سامح الله فلان وجعل عاقبته إلى خير ، أو يقول : أنا خائف من عاقبة أمره ، فهو في الحقيقة يعرض الذنب بلباس الطاعة والشر بثياب الخير ، وكما يقول بعض العلماء أنّه بذلك يكون قد ارتكب إثماً مضاعفاً ، فيكون قد اغتاب من جهة وارتكب الرياء من جهة اخرى ، فمن جهة قد إغتاب الشخص الآخر بتلميحه لمعايب كثيرة ونسبتها إلى الطرف الآخر ، وتحرّك من موقع الرياء حيث تظاهر بأنّه ليس من أهل الغيبة ، بل من أهل التقوى والطاعة لأوامر الله تعالى.

دوافع الغيبة :

إنّ للغيبة عوامل كثيرة ودوافع متعددة يكاد كل واحد منها يكون سبباً كافياً لإرتكاب الغيبة ، ومن ذلك :

١ ـ الحسد.

٢ ـ الأنانية والعجب ورؤية الذات.

٣ ـ الغرور والكبّر.

٤ ـ الحرص.

٥ ـ الحقد.

٦ ـ حبّ الجاه.

٧ ـ حبّ الدنيا والثروة والمقام.

٨ ـ الرياء.

٩ ـ تزكية النفس واظهار الطهارة والتقوى.

١٠ ـ طلب الترفيه عن النفس بأمور غير مشروعة.

٨٦

١١ ـ سوء الظن.

١٢ ـ حبّ الانتقام.

١٣ ـ التشفي وإطفاء سورة الغضب.

١٤ ـ السخرية والاستهزاء ، وغير ذلك من أمثال هذه الدوافع النفسية.

والقدر المشترك بين هذه الامور هو أنّ الإنسان يسعى لتسقيط الشخص الآخر وكسر شخصيته وموقعيته الاجتماعية ليضحى في أنظار الناس ذليلاً ولا قيمة له ، ومن هذا الطريق يجبر نقصه ويهدأ غضبه ويشيع حالة الانتقام من الطرف الآخر ، أو يتحرك لحرمانه من المقام والثروة أو لاظهار الزهد والقداسة الزائفة أو يتحرك من موقع إثارة الضحك والسخرية أو يرى لنفسه امتيازاً ومقاماً على الآخرين.

ومن هنا يتّضح أولاً : أنّ الغيبة مفهوم واسع الأطراف ولها عوامل متنوعة وكثيرة ، ففي الحديث الشريف عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال :«أَصلُ الغَيبَةِ تَتَنوَّعُ بِعَشرَةِ أَنواعِ ، شِفاءِ غَيظٍ وَمُساعَدَةِ قَومٍ وَتُهمَةٍ ، وَتَصدِيقِ خَبَرٍ بِلا كَشفِهِ ، وَسُوءِ ظَنٍّ وَحَسَدٍ وَسُخرِيَّةٍ وَتَعَجُّبٍ وَتَبَرُّمٍ وَتَزَيُّنٍ ، فَان أَرَدتَ السَّلامَةَ فَاذكُرِ الخالِقَ لا المَخلُوقَ فَيَصِيرُ ذلِكَ مَكانَ الغَيبَةِ عِبرَةً وَمَكانَ الإِثمِ ثَواباً» (١) .

ومن الواضح أنّ الإمام هنا في صدد بيان قسماً من العوامل المهمّة للغيبة لأنّه كما تقدّم أنّ دوافع الغيبة متعددة وكثيرة غير ما ذكر في الحديث الشريف.

العواقب السلبية للغيبة :

للغيبة آثار سلبية ونتائج مخربّة كثيرة على الفرد والمجتمع البشري فلو تساهل الناس معها لأزداد الحال خطورة ، ومضافاً إلى ذلك العواقب الوخيمة المعنوية والعقوبات الإلهية المتربتة على هذه المعصية كما سبقت الإشارة إليها في الروايات الشريفة.

وبالنسبة إلى المورد الأول يمكن الإشارة إلى ما يلي :

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ٢٥٧.

٨٧

١ ـ إنّ الغيبة تقوم بأتلاف أهم رأسمال للمجتمع البشري ، والذي يتمثل بتبادل الثقة والاعتماد بين الأفراد ، لأنّ أغلب الأشخاص لديهم نقاط ضعف يسعون لكتمانها وسترها ليحفظوا ثقة الناس واعتمادهم ، وقبح هذه النواقص ونقاط الضعف من شأنه أن يقطع أواصر الاعتماد والثقة بين الناس.

ومن المعلوم أنّ الأساس في ظاهرة التعاون الاجتماعي والتفاعل الإيجابي والعاطفي بين الناس يتمثل في الاعتماد المتقابل بين أفراد المجتمع وبدون ذلك يتبدل المجتمع إلى جحيم لا يطاق من كثرة المشاكل الاجتماعية.

٢ ـ إنّ الغيبة تتسبب في سوء الظن بين الأفراد ، لأنّ العيوب المستورة للأشخاص عند ما تنكشف للناس فتتسبب في زوال حسن الظن لدى الإنسان بالنسبة لجميع الأسوياء والصالحين أيضاً حيث يقول : إنّ هؤلاء قد يمارسون مثل هذه الأعمال الشنيعة في الخفاء ويتظاهرون بالصلاح والخير فلا نعلم من حقيقة حالهم.

٣ ـ إنّ الغيبة هي أحد أسباب إشاعة الفحشاء والمنكر ، لأنّ الذنوب المستورة إذا ظهرت بسبب الغيبة فإنّ ذلك سيؤدي إلى تشجيع الآخرين على إرتكابها ، وأساساً فإنّ إظهار الذنوب والكشف عنها من شأنه أن يزيل حالة الخشية منها فيستصغرها الناس ويكون ذلك عذراً للفسّاق في تبرير ذنوبهم وممارساتهم الخاطئة وأنّه إذا قمنا بارتكاب هذا الذنب فإنّ غيرنا ومن هو أفضل منّا وأعلم قد إرتكبه قبلنا.

ونقرأ في حديث شريف عن الإمام الصادق أنّه قال :«مَنْ قالَ فِي مُؤمِنٍ ما رَأَتْهُ عَيناهُ وَسَمِعَتْهُ اذُناهُ فَهوَ مِنَ الَّذِينَ قالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (١) .

٤ ـ إنّ الغيبة من شأنها أن تبعث الجرأة في نفوس المذنبين على ارتكاب الذنوب وكسر حاجز الحياء ، لأنّ أعمال الإنسان ما دامت مستورة فإنّ الحياء يمنعه من إرتكاب الأشنع منها والتجاهر بها خوفاً من الفضيحة والخزي أمام الآخرين ، فلو أنّه إفتضح أمره ، فحينئذٍ

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٥٧.

٨٨

يزول مانع الحياء من نفسه ويتجرّأ أكثر على ارتكاب الذنب.

٥ ـ إنّ الغيبة تورث الحقد والعداوة والبغضاء بين الناس لأنّ أهم رأسمال للإنسان في المجتمع هو حيثيته وشخصيّته الاجتماعية ، والغيبة بإمكانها أن تذيب وتحرق رأس المال هذا فلا يبقى للإنسان شيئاً يعتدّ به في حركة الحياة الاجتماعية ، ولذا تسبب الغيبة العداوة الشديدة والحقد العميق في قلب الشخص المستغاب (فيما لو سمع بذلك).

٦ ـ إنّ الغيبة من شأنها أن تسقط المستغيب في أنظار الآخرين ، لأنّهم سوف يتصوّرون أن هذا الشخص الذي يتحدّث لهم عن عيوب الآخرين سوف يتحدّث عن عيوبهم أيضاً للآخرين ويغتابهم ، ولذلك ورد في الرواية عن أمير المؤمنين أنّه قال :«مَنْ نَقَلَ إِلَيكَ نَقَلَ عَنكَ» (١) .

وفي حديث آخر نقرأ :«لا مُرُوَّةَ لِمُغتابٍ» (٢) .

٧ ـ إنّ الغيبة من شأنها أن تكون عذراً لتبرير خطايا وذنوب الشخص المستغيب ، فمن أجل أن يكون في أمان من اعتراض الناس وهجومهم ، فإنّه يتحرّك لممارسة هذا الذنب ويستغيب الآخرين لدفع التهمة عن نفسه.

(وأمّا الآثار المعنوية السلبية) للغيبة فأكثر من أن تحصى في هذا البيان ، ولكن نشير إلى بعض ما ورد في الروايات الإسلامية عن ذلك :

١ ـ تقدّم في الروايات السالفة أنّ الغيبة تمحق الحسنات وتبطل الأعمال الخيّرة كما تحرق النار الحطب ، ويقول العالم الكبير الشيخ البهائيقدس‌سره في أحد كتبه : إنّ الغيبة كالصاعقة التي تحوّل الحسنات إلى رماد في لمح البصر ثم يقول : إن الشخص الذي يرتكب الغيبة هو كمن نصب منجنيقاً واستهدف به حسناته لتحطيمها وتدميرها(٣) .

٢ ـ إنّ الغيبة تعمل على تدمير إيمان الإنسان ودينه وتشويه قلبه كما يصنع مرض الجدري بجلد الإنسان.

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ كشكول الشيخ البهائي ، ج ٢ ، ص ٢٩٥.

٨٩

٣ ـ إنّ المرتكب للغيبة في حالة العفو عنه سيكون آخر شخص يدخل الجنّة ، وفي حالة عدم العفو عنه سيكون أول من يدخل النار.

٤ ـ إنّ الغيبة تتسبب في فضيحة الإنسان ، فقد ورد في الحديث النبوي الشريف عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :«يا مَعْشَرَ مَن آمَنَ بِلِسانِهِ وَلَم يُؤمِنْ بِقَلبِهِ لا تَغتَابُوا المُسلِمِينَ وَلا تَتَبَّعُوا عَوراتِهم فَإنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَورَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ يَفضَحُهُ فِي جَوفِ بَيتِهِ» (١) .

٥ ـ إنّ الغيبة تؤدّي إلى انتقال حسنات الشخص المغتاب إلى كتاب أعمال الطرف الآخر ، وكذلك تؤدّي إلى انتقال سيئات الطرف الآخر المستغاب إلى كتاب أعمال المستغيب فنقرأ في رواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :«يُؤتى بِأَحَدٍ يَومَ القِيامَةِ يُوقَفُ بَينَ يَدَي اللهُ يُدفَعُ إِلَيهِ كِتابُهُ فَلا يَرى حَسَناتَهُ فَيَقُولُ إِلهي لَيسَ هذا كِتابِي فَإِنِّي لا أرى فِيها طاعَتِي فَقالَ إِنَّ رَبَّكَ لا يُضِلُّ ولا يَنسى ، ذَهَبَ عَمَلُكَ بِاغتِيابِ النّاسِ ثُمَّ يُؤتى بِآخَرَ وَيُدفَعُ إِلَيهِ كِتابُهُ فَيَرى فِيها طاعاتٍ كَثِيرَةٍ ، فَيَقُولُ إِلَهي ما هذا كِتابِي فَإنِّي ما عَمِلتُ هذِهِ الطَاعاتِ ، فَيَقُولُ : إِنَّ فُلاناً إِغتَابَكَ فَدُفِعَتْ حَسَناتُهُ إِلَيك» (٢) .

ومن هذا المنطلق نقل عن بعض الشخصيات المعروفة السالفة أنّه أرسل إلى شخص إستغابه طبقاً من التمركهدية له وقال : إنّك قد أرسلت إليّ حسناتك وأهديتها لي فأردت جبران صنيعك هذا بهذه الهدية.

ونقل عن شخص آخر أنه كان يقول : أَنّني إذا أردت أن أستغيب أحد الأشخاص فإنّ امّي هي الأولى بذلك لأنّها أولى بحسناتي من الآخرين.

٦ ـ إنّ الغيبة تتسبب في أن لا تقبل صلاة المغتاب وصومه لمدّة أربعين يوماً كما ورد هذا المعنى في الحديث النبوي الشريف قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«مَنْ إِغتابَ مُسلِماً أو مُسلِمَةً لَم يَقبَل اللهُ تَعالى صَلاتَهُ ولا صِيامَهُ أَربَعِينَ يَوماً وَلَيلَةً إلّا أَنْ يَغْفِرَ لَهُ صاحِبُهُ» (٣) .

__________________

١ ـ المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٥٢.

٢ ـ مستدرك الوسائل ، ج ٩ ، ص ١٢١ ، ح ٣٠.

٣ ـ المصدر السابق ، ص ١٢٢ ، ح ٣٤.

٩٠

علاج الغيبة :

إنّ علاج هذا المرض الأخلاقي الخطير يشبه من جهات علاج سائر الأمراض الأخلاقية الاخرى ، ويختلف عنها من بعض الجهات ، وفي المجموع لا بدّ من رعاية الامور التالية للوقاية من الوقوع في هذا المرض أو علاجه :

١ ـ إنّ العلاج الحقيقي لكل مرض بدني أو نفسي أو أخلاقي يتمثّل بالعثور على الجذور والأسباب الكامنة وراء الابتلاء بهذا المرض والسعي لإزالتها والقضاء عليها ، وبما أنّ عوامل حصول هذه الصفة القبيحة في النفس كثيرة ومتعددة فلا بدّ من التوجه إلى تلك العوامل والاسباب ، وقد رأينا أنّ من العوامل المهمّة هو : الحسد ، الحقد ، الأنانية ، حبّ الانتقام ، التكبّر والغرور وأمثال ذلك ، وما دامت هذه الحالات النفسية السلبية موجودة في أعماق النفس وما دام الإنسان لا يتحرّك على مستوى إزالتها من واقعه وذاته فإنّ هذه الحالة الرذيلة أي ـ الغيبة ـ لا تنقلع ولا تزول.

وعند ما لا يجد الإنسان في نفسه حسداً على أحد ولا يعيش حالة الحقد والكراهية والمقت تجاه الآخرين ولا يرى في نفسه إمتيازاً ولا تفوّقاً على الغير فلا مسوّغ له للتلّوث بخطيئة الغيبة ولا يجد في ذاته رغبة وميلاً إلى ارتكاب هذا الفعل الذميم.

٢ ـ ومن الطرق الاخرى لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية هو الالتفات والتفكّر في عواقبها السلبية على المستوى المادي والمعنوي ، والفردي والاجتماعي ، فإنّ الإنسان متى ما إلتفت إلى أنّ الغيبة ستؤدّي به إلى المهانة والسقوط في أنظار الناس فيعرفونه بأنّه شخص خائن ، ضعيف النفس ، ويشعر بالدونية والحقارة ، فإنّهم سوف يتحرّكون في الإرتباط معه من موقع عدم الثقة وسوف تهتز شخصيته ومكانته الاجتماعية لدى الآخرين ، وأنّ الغيبة سوف تتلف حسناته وتهدر طاقاته وتنقل سيئات الآخرين إلى صحيفة أعماله ، ولا تقبل عباداته لمدّة أربعين يوماً وهو أول من يدخل النار ، وفيما لو تاب وقبلت توبته يكون آخر من يدخل الجنّة.

وأيضاً عليه أن يلتفت إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ الغيبة هي حق الناس لأنّها تتسبب في

٩١

هدم سمعتهم والذهاب بماء وجوههم ، ونعلم أنّ قيمة ماء الوجه مثل قيمة النفس والمال لدى الإنسان أو أكثر وما لم يرض عنه صاحب الحق ، فإنّ الله تعالى لا يرضى عنه ، وربّما لا يتسنى له التوصل إلى كسب رضى الطرف الآخر أبداً وحينئذٍ سيتحمل وزر هذا الفعل مدى الحياة.

أجل ، فلو أنّ الإنسان تدبّر في هذه الامور جيداً فسوف يندم بالتأكيد على عمله ويتحرّك بعيداً عن هذا السلوك المنحرف ، والأشخاص الذين يعيشون ممارسة الغيبة في مجالسهم وبهدف الترفيه والتفريح واللهو إذا ما فكّروا في عواقب الغيبة فسوف يتحوّلون عنها بالتأكيد ولا يقتربون من ممارسة هذا السلوك السلبي والعدواني.

٣ ـ يجب أن ينتبه المستغيب إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ طاقات الإنسان محدودة ، فلو أنّه بدلاً من إتلاف هذه الطاقات وصرفها في تسقيط شخصية الآخرين وهدم مكانتهم الاجتماعية كان يستخدم هذه الطاقات والقابليات والمواهب الإلهية في خط الكمال المعنوي والمنافسة السلمية والصحيحة بينه وبين الآخرين فقد لا تمضي فترة قصيرة إلّا ويحرز التوفيق في الكمالات الإنسانية والمعنوية على الخير ويصل إلى مراتب سامية في حركة الحياة والتكامل المعنوي والمادي من دون أن يجد حاجة إلى تسقيط الآخرين والعدوان عليهم وبالتالي سوف ينقذ نفسه من نتائج الغيبة وعواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة.

وبعبارة اخرى أنّ الأفضل للإنسان أن يقوم باعمار بيته وبناء داره بدلاً من تخريب بيوت الآخرين ليعيش في منطقة عامرة وفي دارٍ مشيّدة ، ولكن الشخص الذي يتحرّك دائماً من موقع تخريب بيوت الآخرين فإنّ نتيجته سوف تكون تخريب بيوت المنطقة وتخريب بيته أيضاً فيعيش في الأطلال والخرائب.

يجب أن يلتفت المستغيب إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الغيبة هي احدى العلامات البارزة لضعف الشخصية وفقدان الهمّة والمروءة وأنّه يعيش عقدة الحقارة والدونيّة ، ولذلك فهو يمارس الغيبة لجبران هذا الضعف النفسي وفي الحقيقة يقوم باظهار هذه العيوب الذاتية

٩٢

والصفات الباطنية ويجهر بها أمام الناس ، فهو يقوم بتدمير شخصيته وتحطيم كيانه قبل أن يحطّم شخصية الآخرين الذين يغتابهم.

وهناك ملاحظة جديرة بالاهتمام وهي أنّه لا بدّ لترك الغيبة وخاصة فيما لو أصبحت عادة لدى الشخص ، أن يقوم قبل كل شيء بفرض الرقابة الشديدة على لسانه وكلماته ويتحرّك من موقع الضغط الأخلاقي في دائرة الكلام ، وكذلك ينبغي له أن يتجنّب معاشرة الأصدقاء الذين لا يجدون حرجاً في ممارسة الغيبة ويدفعونه بهذا الاتجاه ويترك المجالس المهيئة للغيبة ، بل وجميع الامور التي توسوس له في ممارسة الغيبة.

وفي حديث شريف عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال :«ما عُمِّرَ مَجلِسٌ بالغَيبَةِ إلّا خَرِبَ مِنْ الدِّينِ» (١) .

الملاحظة الاخرى هي أنّ أحد دوافع الغيبة هو السعي لتبرئة الذات والدفاع عنها ، مثلاً أن يقول : إذا كنت قد إرتكبت هذا الذنب ، فإنّ من هو أفضل منّي وأعلم قد ارتكبه أيضاً ، والحال أنّ تبرئة الذات لها طرق اخرى كثيرة لا تنتهي بهذا الذنب الكبير أي ـ الغيبة ـ وأساساً فإنّ الاعتراف بالخطأ في هذه الموارد يكون أسلم عذر وأفضل سبيل لتدارك الخطأ ، مضافاً إلى أنّ أحد الأخطاء الكبيرة لدى الإنسان أن يقارن بينه وبين الفاسقين والأراذل من الناس ويترك المقارنة بينه وبين الأخيار والصلحاء من أفراد المجتمع.

أحياناً يتحرّك الشخص لتبرئة نفسه وتبرير سلوكه إلى التشبث بهذا العذر وهو أنني عند ما رأيت العالم الفلاني قد إنحرف على مستوى السلوك وارتكب الذنوب زالت عقيدتي وضعف إيماني وأصبحت في أمر العقيدة بالمبدأ والمعاد غير مكترث ، هذه المعاذير والتبريرات هي المصداق الأتم لمقولة العذر أقبح من الذنب ، ويترتب على ذلك عواقب خطرة جدّاً ، فما أحرى بالإنسان أن يعترف بخطئه ويسعى في تعامله مع الآخرين في حمل سلوكياتهم وأفعالهم على الصحة ، وعلى فرض أنّ أحد القادة أو العلماء أو الجهّال تصرّف من موقع الإنحراف وارتكب بعض الذنوب ، فلا يكون ذلك مسوّغاً للآخرين على سلوك هذا

__________________

١ ـ روضة الواعظين ، ص ٥٤٢.

٩٣

المسلك وتبريره بتلك الذريعة الشيطانية ، بل يجب على الإنسان أن يجعل الصلحاء والأولياء اسوة له في دائرة السلوك والتكامل المعنوي والأخلاقي.

بقي من موضوع الغيبة عدّة امور مهمّة لا بدّ من التعرّض لها :

١ ـ استماع الغيبة

كما أنّ التحدّث بالغيبة من الذنوب الكبيرة فكذلك المشاركة في مجلس الغيبة والاستماع للمغتاب في تعرضّه للمؤمنين والوقيعة بالآخرين أيضاً من الذنوب الكبيرة ، لأنّ جميع المفاسد المترتبة على الغيبة تتعلق بطرفين ، المغتاب والمستمع للغيبة ، فلو أنّ الشخص لم يجد في نفسه استعداداً لسماع الغيبة فمضافاً إلى أنّه قد تقدّم خطوة في طريق النهي عن المنكر ، فكذلك لا يمكن للغيبة أن تتحقّق في الواقع ، فلا يجد المغتاب من يستمع له ليكشف عن عيوب الناس ولا يتمكن من تسقيط شخصية الآخرين ولا هتك حرماتهم ولا يترتب على ذلك المفاسد الاجتماعية الاخرى.

ولهذا السبب نجد الروايات الإسلامية قد شاركت المستمع للغيبة وجعلته أحد المغتابين كما ورد في أحد الروايات عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :«المُستَمِعُ أحدُ المُغتَابِينَ» (١) .

وورد عن الإمام عليعليه‌السلام قوله :«السّامِعُ للغَيبَةِ أَحَدُ المُغتَابِينَ» (٢) .

وفي حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه عند ما رأى أحد الأشخاص يرتكب الغيبة في حضور ولده الإمام الحسنعليه‌السلام فقال له :«يا بُنَي نَزِّهِ سَمعَكَ عَنْ مَثلِ هذا فَإنَّهُ نَظَرَ إلى أَخبَثِ ما فِي وِعائِهِ فَأَفرَغَهُ فِي وِعائِكَ» (٣) .

وكذلك ورد في الروايات الشريفة أنّ المستمع للغيبة يجب أن يتحرك من موقع الدفاع عن أخيه المسلم وذلك من خلال حمل سلوكه على الصحّة.

__________________

١ ـ جامع السعادات ، ج ٢ ، ص ٢٩٧ ؛ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ٢٢٦.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ ميزان الحكمة ، ج ٣ ، ص ٢٣٣٩.

٩٤

وفي حديث آخر عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :«مَنْ أُغتِيبَ عِندَهُ أَخُوهُ المُسلِمُ فاستَطاعَ نَصرَهُ وَلَم يَنصُرهُ خَذَلَهُ اللهُ فِي الدُّنيا والآخِرةِ» (١) .

وفي حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال :«إذا وَقَعَ فِي رَجُلٍ وَأَنْتَ فِي مَلاءٍ فَكُنْ لِلرَّجُلِ ناصِراً وَلِلقَومِ زاجِراً وَقُم عَنهُم» (٢) .

وأيضاً ورد في الحديث النبوي الشريف قوله :«الساكِتُ شَرِيكُ المُغتَابِ» (٣) .

ونختم هذا البحث بالحديث الشريف الوارد عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً حيث قال :«ألا وَمَنْ تَطَوَّلَ عَلى أَخِيهِ فِي غَيبَةٍ سَمِعَها فِيهِ فِي مَجلِسٍ فَرَدَّها عَنهُ رَدَّ اللهُ عَنهُ أَلَفَ بابٍ مِنَ الشَّرِّ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ فإنْ هُوَ لَم يَرُدَّها وَهُو قادِرٌ عَلى رَدِّها كانَ عَلَيهِ كَوِزرِ مَنْ إِغتابَهُ سِبعِينَ مَرَّةً» (٤) .

ويمكن أن تكون هذه الرواية ناظرة إلى الموارد التي يكون فيها الشخص المستمع من أصحاب النفوذ والمكانة الاجتماعية في حين أنّ المغتاب ليس كذلك ، ومن الواضح أنّ سكوت مثل هذا الشخص يترتب عليه نتائج وخيمة على مستوى هتك حرمة ذلك الشخص المسلم حيث يكون استماعه لذلك أكثر ضرراً من كلام المغتاب نفسه.

٢ ـ الغيبة حق الناس أو حق الله؟

وطبقاً لما ورد في تعريف الغيبة سابقاً يتّضح أنّ الغيبة من حقوق الناس لأنّها تتسبب في هتك حرمتهم وتسقيط شخصيتهم وإزهاق سمعتهم : ونعلم أنّ ماء وجه المسلم له من القيمة كما هو الحال في روح المسلم وماله وعرضه.

ومن التشبيه الوارد في الآية من سورة الحجرات حول الغيبة وأنّها كمن يأكل لحم أخيه ميتاً يتّضح جيداً أنّ الغيبة من حق الناس ؛ ومن الأحاديث الكثيرة يمكننا أن نستوحي هذا

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ص ٢٣٣٩.

٢ ـ كنز العمال ، ح ٨٠٢٨.

٣ ـ آثار الصادقين ، ج ١٦ ، ص ٩٨.

٤ ـ من لا يحضره الفقه ، ج ٤ ، ص ٨ و ٩.

٩٥

المفهوم أيضاً وهو أنّ الغيبة نوع من الظلم والعدوان على الآخرين والذي يجب التحرك على مستوى جبران هذا العدوان وتعويض الطرف الآخر لجبران الظلم الذي وقع عليه ، ومن ذلك :

١ ـ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال في حجة الوداع :«أَيُّها النّاسُ إِنَّ دِمائَكُم وَأَموالَكُم وَأَعراضَكُم عَلَيكُم حَرامٌ كَحُرمَةِ يَومِكُم هذا فِي شَهرِكُم هذا فِي بَلَدِكُم هذا إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الغَيبَةَ كَما حَرَّمَ المَالَ وَالدَّمَ» (١) .

ولا شك أنّ كل دم برىء يسفك لا بدّ من جبرانه ، وكل مال مشروع يتُم اتلافه من قِبل شخص آخر يجب عليه أن يقوم بتعويضه ، والغيبة أيضاً ومن خلال هذا المنطلق يجب العمل على تلافيها وجبرانها بأي نحو ممكن.

وأساساً فإنّ جعل عرض المؤمن إلى جانب ماله ودمه لهو دليل واضح على أنّ تسقيط شخصية الإنسان وهتك حرمته إنّما هي من حق الناس.

٢ ـ وفي حديث آخر عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن قارن الغيبة بالزنا وأنّها أشدّ إثماً منه قال :«إنّ صاحِبَ الغَيبَةِ لا يُغفَرُ لَهُ حتّى يَغفِرَ لَه صاحِبُهُ» (٢) .

٣ ـ وجاء في كتاب مجموعة ورام أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قال :«كُلُ المُسلِمِ عَلَى المُسلِمِ حَرامٌ وَدَمُهُ وَمالُهُ وَعِرضُهُ ، والغَيبَةُ تَناوُلِ العِرضِ» (٣) .

العبارة الأخيرة من هذا الحديث الشريف وهي أنّ (الغيبة تناول العرض) مصداق التعرّض لناموس الشخص سواء كانت من كلمات النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أو كلمات الرواة ، فإنّها على أي حال يمكن أن تكون شاهداً على المقصود.

والشاهد الآخر على هذا المعنى هو الروايات الشريفة التي تتحدث عن أنّ الغيبة تسبب في نقل حسنات المغتاب من صحيفة أعماله إلى صحيفة أعمال المغتاب ، ونقل سيئات المستغاب إلى الشخص المرتكب للغيبة (كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك) وهذا يعني أنّ الغيبة

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ، ج ٩ ، ص ٦٢.

٢ ـ المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٥١.

٣ ـ مجموعة ورام ، ج ١ ، ص ١٢٣.

٩٦

هي من حق الناس ، لأنّ نقل الحسنات والسيئات لجبران الضرر الذي لحق بالمستغاب يعني أنّ الغيبة من حقوق الناس.

وبعد أن اتّضح هذا المفهوم وأنّ حق الناس يجب أن يجبر ويعوّض يثار في الذهن هذا السؤال ، وهو أنّ المغتاب كيف يتمكن من جبران خطئه وذنبه؟

ويستفاد من بعض الروايات أنّ المستغاب لو علم بذلك وسمع بأنّ المستغيب يذكره بسوء ، فيجب على المستغيب أن يذهب إليه ويطلب منه أن يرضى عنه ويجعله في حِلّ وإلّا لو لم يتصل به فيجب عليه أن يستغفر الله تعالى ، ويدعو للمستغاب بالرحمة والمغفرة (ليتم له التعويض عن ذلك الظلم في حق أخيه المؤمن) وهذا المضمون ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال :«فَإنَّ اغتِيبَ فَبَلَغَ المُغتابَ فَلَم يَبقَ إلّا أَن تَستَحِلَّ مِنهُ وإنْ لَم يَبلُغْهُ وَلَمْ يَلحَقهُ عِلمَ ذَلِكَ فاستَغْفِرِ الله لَهُ» (١) .

ويتّضح من هذا الحديث الشريف أنّه لو لم تصل الغيبة إلى مسامع المستغاب فإنّ نقل هذا الخبر إليه قد يتسبب في أذاه أكثر ويترتب على ذلك مسؤولية أكبر ، ولهذا السبب نجد أنّ الوارد في الحديث الشريف هو الاستغفار فحسب ، وعليه ففي الموارد التي لا يتأثر فيها المستغاب من خبر الغيبة فلا يبعد وجوب طلب التحلل منه وكسب رضاه.

ومن هنا يتّضح جيداً ما ورد في الروايات الشريفة أنّه :«كَفَّارَةُ الإغتِيابِ أَنْ تَستَغفِرَ لِمَنْ إِغتَبتَهُ» (٢) .

والشاهد الآخر ما ذكر آنفاً هو الحديث الشريف عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال :«مَنْ كانَتْ لأخِيهِ عِندَهُ مَظلَمَةٌ فِي عِرضٍ أَو مالٍ فَليَتَحَلَّلها مِنهُ مِنْ قبلِ أَنْ يَأتِي يَومٌ لَيسَ هُناكَ دِينارٌ وَلا دِرهَمٌ إِنَّما يُؤخَذُ مِنْ حَسَناتِهِ فَإن لَم تَكُن لَهُ حَسَناتٌ اخِذَ مِنْ سَيئَاتِ صاحِبِهِ فَزِيدَتْ عَلَى سَيئَاتِهِ» (٣) .

وجاء في أدعية أيّام الاسبوع للإمام زين العابدينعليه‌السلام الواردة في ملحقات الصحيفة

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ٢٤٢.

٢ ـ ميزان الحكمة ، ج ٣ ، ص ٢٣٣٩ ، ح ١٥٥٤٣ إلى ١٥٥٤٨.

٣ ـ جامع السعادات ، ج ٢ ، ص ٣٠٦.

٩٧

السجادية عبارات واضحة لهذا المفهوم في دعاء يوم الإثنين حيث يقول فيه الإمام (من خلال كونه اسوة للآخرين):«وَأَسأَلُكَ فِي مَظَالِمِ عِبادِكَ عِندِي ، فَأَيُّما عَبدٍ مِنْ عَبِيدِكَ ، أَو أَمَةٍ مِنْ إِمائِكَ كانَتْ لَهُ قِبَلِي مَظلَمَةٌ ظَلَمتُها إِيَّاهُ فِي نَفْسِهِ أَو عِرضِهِ أَو فِي مالِهِ أَو فِي أَهلِهِ وَوَلَدِهِ ، أو غَيبَةٍ اغتَبتُهُ بِها ، أو تَحامُلٌ عَلَيهِ بِمَيلٍ أو هَوىً ، أو أنَفَةٍ أو حَمِيَّةٍ أو رِياءٍ أَو عَصَبِيةٍ غائِباً كانَ أَو شاهداً ، حَيَّاً كانَ أَو مَيتاً ، فَقَصُرتْ يَدِي وَضاقَ وسعِي عَنْ رَدِّها إِلَيهِ ، وَالتَّحلُّلِ مِنهُ. فَأَسأَلُكَ يا مَنْ يَملِكُ الحاجاتِ وَهِيَ مُستَجِيبَةٌ لِمَشِيَّتِهِ وَمُسرِعَةٌ إِلى إِرادَتِهِ أَن تُصَلِّي عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وأَن تُرضِيَهُ عَنِّي بِما شِئتَ ...» (١) .

وعلى أيّة حال فإنّ احتمال كون الغيبة من حق الناس قوي جدّاً ، ولذلك فإنّه لو لم يكن أمامه مشكل في طلب الرضا والتحلل منه وجب عليه ذلك.

وهناك ملاحظة مهمّة وهي أنّ أحد طرق جبران الغيبة هو أن يقوم المستغيب بالحضور في مجلس يحوي الأشخاص الذين كانوا قد حضروا مجلسه السابق ، فيقوم بإعادة الشريط وتبرير سلوك أخيه المؤمن بما يوافق الأخلاق الحسنة والشرع المقدّس ويحمله على الصحة بحيث تزول من الأذهان آثار الغيبة وتعود المياه إلى مجاريها.

٣ ـ مستثنيات الغيبة

يتفق علماء الأخلاق وكذلك الفقهاء على أنّ هناك موارد تجوز فيها الغيبة وقد تصبح واجبة أحياناً ، وذلك بسبب طروء عوارض معينة على الغيبة ممّا يغيّر حكمها الأصلي.

وبعبارة اخرى أنّ الغيبة بعنوانها الأولى حرام بلا شك ومن الذنوب الكبيرة وفي ذلك يتفق علماء الإسلام ، ولكن هناك عناوين ثانوية تطرأ على هذا الفعل بإمكانها أن تكون حاكمة على العنوان الذاتي والأولى ممّا يفضي إلى أن تكون الغيبة جائزة بل واجبة ، وذلك في الموارد التي تكون فيها المصلحة أهم ويكون حفظ هذه المصلحة غالب على المفاسد

__________________

١ ـ ملحقات الصحيفة السجادية ، دعاء يوم الاثنين.

٩٨

الكبيرة المترتبة على الغيبة.

ومن جملة هذه الموارد التي تدخل في مستثنيات الغيبة ما يلي :

١ ـ أن يكون الإنسان في حالة التظلّم وطلب حقّه من الآخر ويسعى لرفع هذه الظلامة بحيث لو أنّه لم يتعرّض لذكر الطرف الآخر بالسوء ولم يصرّح للآخرين بسلوك ذلك الظالم فإنّه لا يصل إلى حقّة.

وهذا هو ما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى : «لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً»(١) .

٢ ـ في موارد النهي عن المنكر ، أيّ في حالة ما إذا لم يتحرّك الإنسان لفضح الطرف الآخر ويكشف عن أعماله السيئة ، فإنّ ذلك المذنب سوف يستمر في غيّه ويقوم على ذنبه ، فهنا ترجح مصلحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مفسدة الغيبة ، بل قد تكون واجبة في بعض الحالات.

٣ ـ في مورد أهل البدع وكذلك الذين يحيكون المؤامرات ضدّ المسلمين بحيث لو أنّ أعمالهم الخفيّة تجلّت وكشفت للمسلمين ، فإنّ الناس سوف يتصدّون لهم ويتحركون من موقع دفعهم وابطال مؤامراتهم ، فهنا تكون غيبة مثل هؤلاء الأشخاص جائزة ، بل واجبة.

٤ ـ في مورد ما إذا كان المسلم يعيش الخطر على نفسه أو ماله أو عرضه من شخص آخر وهذا المسلم لم يكن على علم بالخطر المحيط به ، وهنا يكون إخباره بهذا الخطر جائز ، بل واجباً أحياناً.

٥ ـ في مورد المشورة ، بمعنى أنّ أحد الأشخاص أراد مثلاً الزواج من مسلمة وأراد طلب يدها من والديها أو أراد شخص تشكيل شركة أو السفر إلى أحد البلدان ، وطلب من شخص آخر أن يشير عليه بما يراه صلاحاً له ، فهنا لا يمكن القول بأنّ الكشف عن عيوب الطرف الآخر حرام ، بل إنّ أمانة المشورة تقتضي أن يقول المستشار ما يعلمه وما هو مطلّع عليه من نقاط القوّة والضعف ، ولا ينبغي أن يحجم عن النصح والمشورة لأخيه المؤمن خوفاً

__________________

١ ـ سورة النساء ، الآية ١٤٨.

٩٩

من الوقوع في الغيبة ، لأنّ ستر مثل هذه المعايب يعتبر خيانة للمستشير والخيانة في المشورة حرام.

٦ ـ في مورد الشهادة ، وذلك عند ما يطلب من الإنسان أن يدلي بشهادته في موقع التحكيم أو المحكمة ، فهنا تجوز الغيبة ، لأنّ مصلحة الشهادة أقوى ، وكذلك في موارد إجراء الحدود الإلهية ، فلو أنّ عدّة أشخاص رأوا بأنّ الشخص الفلاني يشرب الخمر أو يزني فلهم أن يأتوا إلى حاكم الشرع ويشهدوا عليه بذلك ليجري عليه الحدّ ، وكذلك فيما لو شهد أشخاص على أمر معيّن وكان هؤلاء الشهود في الواقع فسّاق ولم يكن الحاكم يعلم بخبرهم وحالهم ، وهنا يجوز فضح هؤلاء الشهود ، وبعبارة اخرى يجوز جرح الشهود (وطبعاً فإنّ جميع هذه الموارد هي فيما لو كان عدد الشهود كافياً لإثبات الموضوع).

٤ ـ حكم المتجاهر بالفسق

يتفق علماء الأخلاق والفقهاء العظام عادةً على جواز غيبة المتجاهر بالفسق ويرون أنّها من مستثنيات الغيبة ويصرّحون بأنّ غيبة مثل هؤلاء الأشخاص الذين مزّقوا ستار الحياء وأجهروا بالمعاصي أمام الناس ، فإنّهم لا غيبة لهم وقد تمسكوا في ذلك بروايات في هذا الباب.

ففي حديث عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :«أَربَعَةٌ ليستْ غَيبَتُهُم غَيبَة الفاسِقُ المُعلِنُ بُفسقِهِ ...» (١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال :«ثَلاثَةٌ لَيسَ لَهُم حُرمَةٌ صحِبُ هَوىً مُبدِعٍ والإمامُ الجائِرُ والفاسِقُ المُعلنُ الفِسقَ» (٢) .

وفي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أنّه قال :«مَن أَلقى جِلبَابَ الحَياءِ فَلا غَيبَةَ لَهُ» (٣) .

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ٢٦١.

٢ ـ المصدر السابق ، ص ٢٥٣.

٣ ـ المصدر السابق ، ص ٢٦٠.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417