التوابون

التوابون0%

التوابون مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 185

  • البداية
  • السابق
  • 185 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 26131 / تحميل: 10819
الحجم الحجم الحجم
التوابون

التوابون

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

خرج موكب التوابين من قرقيسيا مزوداً بما يلزمه من احتياجات اقتصرت على بعض المواد الغذائية، لان زفر رغم تعاطفه معهم، ورغم عداوته الشرسة للامويين(١) ، لم يمدهم بالمتطوعين ربما لانه وجد في حركتهم من المغامرة والتهور، ما يجعل أي فرصة للنجاح معها مستحيلة، او ربما لخروجه منذ أمد غير بعيد من حرب مدمرة مع الامويين في مرج راهط. ولهذا لم يرد استنفاذ طاقاته مرة أخرى بدون جدوى.

وفي اثناء ذلك، وفي الوقت الذي كان يواكب فيه الزعيم الكلابي جماعة التوابين خارج المدينة(٢) حملت اليه استخباراته معلومات غير سارة عن وجود عبيد الله بن زياد في (الرقّه) على رأس جيش ضخم وبصحبته خمسة من كبار قادة الامويين وأشد أعداء الحزب الشيعي ضراوة وهم : الحصين بن نمير السكوني، شرحبيل بن ذي الكلاع الحميري، أدهم بن محرز الباهلي، ربيعه بن مخارق الغنوي، جبله بن عبد الله الخثعمي(٣) .

_____________________

(١) الطبري : ٧/٧٣.

(٢) الطبري : ٧/٧٣.

(٣) الطبري : ٧/٧٣، ابن الاثير : ٤/٧٥.

١٤١

تهيّب زفر الموقف الخطير، وخاف على ضيوفه المتهالكين على الشهادة، والمتدافعين لقتال عدو ليسوا في حجمه. فأخذ يلحّ عليهم بالتروي والرجوع الى قرقيسيا والعمل على تشكيل جبهة واحدة ضد المروانيين من بني أمية(١) «ان شئتم دخلتم مدينتنا وكانت أيدينا واحدة، فاذا جاء هذا العدو قاتلناهم جميعاً»(٢) . ولكن هذه المعلومات عن الجيش الاموي الضخم لم تستثر التوابين الذين أصروا على متابعة المسيرة، ورفضوا نصيحة زفر، كما رفضوا من قبل نصيحة أمير الكوفة عبد الله بن يزيد. فقد رد سليمان على الامير الكلابي قائلاً : «قد أرادنا أهل مصرنا على مثل ما أردتنا عليه وذكروا الذي ذكرت، وكتبوا الينا بعدما فصلنا، فلم يوافقنا ذلك فلسنا فاعلين»(٣) .

ولابد هنا لاي متتبع لاخبار حركة التوابين، الا ان يستوقفه ذلك الصمود الرائع لهذه الحركة العظيمة، ولا بد ان تنتزع اعجابه تلك الشخصيات القيادية المرتفعة،

_____________________

(١) الفتوح لابن الاعثم الكوفي. نسخة اسطنبول (مخطوطة).

(٢) ابن الاثير : ٤/٧٥.

(٣) الطبري : ٧/٧٣.

١٤٢

بايمانها المثالي، ونضالها الاسطوري الفريد. انها شخصيات من طراز جديد ومن معدن آخر لا نجد لها مثيلاً الا في كتب الاساطير. شخصيات اتقنت جيداً صناعة الموت، وتعدت قوانين الشهادة المعروفة، لتكتب بدمائها شرائع جديدة، ليست لدنياها وانما للتاريخ. أليس مثيراً أن تقوم حركة أساسها المغامرة وعنوانها الفداء، فتمر عليها سنوات خمس - أكثرها كمنظمة سرية تعمل في الخفاء - دون أن يخبو بريقها أو تفقد شيئاً من حماسها المتأجج، حتى في المواجهة المباشرة مع الموت ؟.

غير أن رفض سليمان لرغبة زفر بالانكفاء الى قرقيسيا والتحصن فيها ضد الامويين، واصراره على التقدم لاكمال المهمة التي التزم بها مع رفاقه في مسيرتهم التكفيرية، لم يحولا دون متابعة الامير الكلابي تحذيراته للتوابين من الخطر الداهم الذي يتهددهم، وتقديم نصائحه وخبراته بكل اخلاص لهم.. وهي توجيهات على جانب من الاهمية، خاصة ما يتعلق بجغرافية المنطقة واستراتيجيتها ومواقع الماء فيها.. وكان آخر ما توجه به زفر للتوابين بعد أن أدرك عقم محاولاته في حملهم على التراجع : «اني للقوم (أي الامويين) عدو، وأحب أن يجعل الله عليهم الدائرة، وأنا لكم وادّ أحب أن يحوطكم الله بالعافية».

١٤٣

ان القوم قد فصلوا من الرقة فبادروهم الى عين الوردة(١) فاجعلوا المدينة في ظهوركم ويكون الرستاق والماء والمادة في أيديكم وما بيننا وبينكم فأنتم آمنون منه. فاطووا المنازل فوالله ما رأيت جماعة قط أكرم منكم، فأني أرجو أن تسبقوهم، وان قاتلتموهم فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم وتطاعنوهم فانهم أكثر منكم ولا آمن أن يحيطوا بكم فلا تقفوا اليهم فيصرعوكم ولا تصغوا اليهم فاني لا أرى معكم رجالة ومعهم الرجالة والفرسان وبعضهم يحمي بعضاً، ولكن ألقوهم في الكتائب والمقانب ثم بثوها فيما بين ميمنتهم وميسرتهم واجعلوا مع كل كتيبة أخرى الى جانبها، فان حُمل على احدى الكتيبتين رحلت الاخرى فنفست عنها. ومتى شاءت كتيبة ارتفعت ومتى شاءت كتيبة انحطت، ولو كنتم صفاً واحداً فزحفت اليكم الرجالة فدفعتم عن الصف انتفض وكانت الهزيمة»(٢) .

_____________________

(١) رأس عين تنبع على بضعة أميال الى الشمال من قرقيسيا على نهر الفرات، ابن الاثير : ٤/٧٦، جون جلوب : امبراطورية العرب ١٣٤.

(٢) الطبري ٧/٧٣ - ٧٤، ابن الاثير : ٤/٧٦.

١٤٤

معركة عين الوردة

تقدم سليمان مع رفاقه في عمق الجزيرة، ونصائح الامير الكلابي لازالت تتردد في أسماعه. فهذا الرجل (زفر) خبر المنطقة جيداً وأكسبته الحرب مهارة عسكرية وتجربة واسعة، فضلاً عما أظهره من تودد ظاهر وتعاطف ملموس ازاء التوابين وقضيتهم. لقد كان لكلماته وقعها المؤثر في نفوس هؤلاء الذين استجابوا لنصيحته وساروا في اتجاه عين الوردة حسب الخطة التي رسمها لهم، حتى اذا وصلوها واستراحوا قليلاً(١) من مشاق الطريق أخذ سليمان في تنظيم المقاتلين ووضع خطط الاشتباك مع الجيش الاموي الذي أخذ يقترب من المعسكر. وكانت أهم معالم التكتيك الذي اتبعته القيادة، تقسيم المقاتلين الى مجموعات صغيرة(٢) مهمتها القيام بهجمات صاعقة على طلائع وأطراف الجيش الاموي، للتأثير على العناصر المقاتلة فيه.

_____________________

(١) ابن الاثير الخ : ٨/٢٥٣.

(٢) الفتوح لابن الاعثم الكوفي. نسخة اسطنبول (مخطوطة).

١٤٥

وبعد أن استكمل سليمان هذه الترتيبات العامة. وقف بين رفاقه خطيباً، ليضعهم نفسياً في أجواء المعركة التي دنت ساعتها. وكانت بمثابة تحليل لفكرة الخروج والغاية الاساسية التي انطلقوا في سبيلها وهي التوبة والغفران(١) ، وتوضيح لمفهوم الحرب مستقي من تشريع علي، الامام ورأس الحزب الشيعي، الذي وضع مفاهيمه المثالية الاولى. كما أشار فيها الى موضوع القيادة وانتقالها - اذا أصيب - الى نائبه المسيّب ومنه الى عبد الله بن سعد فعبد الله بن وال حتى آخر الخمسة القياديين، رفاعة بن شداد(٢) . وأخيراً فان هذه الخطبة كانت انعكاساً صادقاً لاخلاقية القيادة التوابية، المترفعة والمتمسكة بالمثل العليا حتى في ساحات القتال : «... فقد أتاكم الله بعدوكم الذي دأبتم في المسير اليه آناء الليل والنهار تريدون فيما تظهرون التوبة النصوح ولقاء الله معذرين. فقد جاءوكم بل جئتموهم انتم في دارهم وحيزهم. فاذا ألقيتموهم فاصدقوهم واصبروا ان الله مع الصابرين... لا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح ولا تقتلوا أسيراً من أهل دعوتكم الا ان يقاتلكم بعد أن تأسروه أو يكون من قتلة اخواننا بالطّف(٣) رحمة الله

_____________________

(١) الطبري : ٧/٧٤.

(٢) الطبري : ٧/٧٤.

(٣) المكان الذي استشهد فيه الحسين ورفاقه في كربلاء.

١٤٦

عليهم، فان هذه كانت سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في أهل الدعوة...»(١) .

وفي هذا الوقت كانت طلائع الجيش الضخم الذي أعده مروان بن الحكم تشق طريقها نحو قرقيسيا بقيادة عبيد الله بن زياد. وكانت مهمة هذا الجيش تصفية جيوب المعارضة في العراق والمشرق ضد النظام الاموي الذي انتقلت فيه السيادة الى المروانيين، وانتقل معها ولاء ابن زياد الذي ظل خادماً أميناً ومخلصاً لهذا النظام، مستعداً لتنفيذ أصعب المهمات في سبيله، بمقدار حرصه على استمرارية مصالحه الخاصة. وقد ساعدت خبرة هذا القائد الطويلة في شؤون العراق، على أن يكون الرجل الاكثر جدارة للقيام بهذه المهمة التي كان سائراً الى تنفيذها بملء الثقة. ولكنها ثقة كانت في غير محلها هذه المرة، فالتغييرات السياسية والعسكرية التي شهدتها الارض العراقية حينئذ فاقت تصوراته، وفاته أن هذه المهمة كانت آخر مهامه في خدمة النظام الاموي، بسقوطه صريعاً على نفس الارض التي كانت لفترة مسرح عملياته الدموية الرهيبة.

_____________________

(١) الطبري : ٧/٧٤، ابن الاثير : ٤/٧٦.

١٤٧

وفي الطريق الى العراق تسربت معلومات الى الجيش الاموي عن تحركات التوابين باتجاه (عين الوردة) فحوّل ابن زياد خط سيره نحو تجمعاتهم ليكونوا أول فريسة له. ولكن تطورات جديدة حدثت في دمشق حينذاك، كان يمكن ان تؤدي الى ارتباك في هذا الجيش، حين تناقلت الاخبار موت الخليفة مروان وتعيين ابنه عبد الملك(١) ، الا ان ذلك لم يترك أي انعكاس في صفوف الجند، أو يحدث أي تعديل في خطط الحملة، ذلك أن الخليفة الجديد سارع الى تأكيد أوامر الخلافة باستئناف المهمة التي أوكلت الى هذه الحملة واقرار قائدها في منصبه. وبدوره كان ابن زياد اكثر تجاوباً مع سيده فأرسل اليه بيعته بالخلافة ومعه جميع عناصر الجند في الحملة.

لم يكن سوى أيام لحسم الموقف الذي أخذ في التأزم، كلما اقترب الجيش الاموي من معسكر التوابين في (عين الوردة)، حيث كان ترقب مثير من جانب هؤلاء الذين وجدوا في اعدائهم تفوقاً عددياً ظاهراً وامكانيات عسكرية مذهلة، بالمقارنة مع جنودهم القلائل وامكانياتهم المحدودة. والواقع ان الصورة كما بدت عشية الالتحام في

_____________________

(١) ٣ رمضان سنة ٦٥ هجري. تاريخ خليفة ١/٣٣١.

١٤٨

المعركة الفاصلة، غير واضحة تماماً. فهناك قوى غير متكافئة ستخوض حرباً هي بالنتيجة غير متكافئة. فالتوابون كما أشرنا قبلاً، لم يطرأ على وضعهم العسكري أي تحسن، وانما افتقدوا بعض العناصر القتالية، فانخفض عددهم الى ما يزيد على الثلاثة آلاف مقاتل بقليل. وعلى العكس من ذلك كان جيش الامويين متفوقاً بصورة ملحوظة، حيث تشير بعض التقديرات الى انه جاوز العشرين الفاً(١) . وهناك تقديرات أخرى لا شك انها احتوت على كثير من المبالغة أشارت الى انه بلغ الستين ألفاً(٢) . ولابد ان الرقم الاول هو الاقرب الى الحقيقة، وكانت عناصره موزعة، وفقاً للنظام الحربي التقليدي، الى خمسة ألوية : مقدمة ومؤخرة وقلب وجناحين. وكان على كل لواء قائد من القواد الخمسة الذين مر ذكرهم. وعقدت القيادة العامة طبعاً لامير الحملة عبيد الله بن زياد. اما التوابون فقد شكلوا خطاً واحداً للتصدي بقيادة سليمان، يعاونه عبد الله بن سعد بن نفيل على الميمنة والمسيب بن نجبه على الميسرة(٣) .

_____________________

(١) الفتوح لابن الاعثم الكوفي. نسخة اسطنبول (مخطوطة).

(٢) تاريخ خليفة ١/٣٣١.

(٣) الطبري : ٧/٧٥.

١٤٩

ووصل الجيش الاموي أخيراً، وما لبث أن أخذ مواقعه في مواجهة معسكر التوابين في (عين الوردة) وبدأت استعداداته تتم في اطار من السرعة المتناهية لبدء عملية الالتحام فوراً، والتخلص من هؤلاء الذين عرقلوا مسيرة الجيش وأعاقوا مهمته بعض الوقت. ولكن اللقاء بين المتحاربين في (عين الوردة) تأخر قليلاً، ولعل ذلك يعود الى ان الجنود الامويين لم يكونوا قد استكملوا ترتيباتهم العسكرية بشكل نهائي، كما يعود الى محاولات القائد الاموي مفاوضة زعيم التوابين لحمله على الاستسلام والاعتراف بخلافة عبد الملك. وقد قبل سليمان بالمحاورة مع أعدائه وقدم اليهم شروطه للقبول بعدم القتال(١) ، لكنها كانت شروط تعجيزية وغير مقبولة أصلاً لدى الامويين فقط طلب اليهم تسليمه عبيد الله بن زياد (ابن مرجانة حسب تعبيره) وقتله الحسين، والانضمام الى صفوف شيعة آل البيت(٢) .

وكان من البديهي أن يرفض القائد الاموي شروط

_____________________

(١) ثابت الراوي : العراق في العصر الاموي ١٧٠.

(٢) البلاذري : انساب الاشراف ٥/٢١٧. الفتوح لابن الاعثم الكوفي. نسخة اسطنبول (مخطوطة).

١٥٠

زعيم التوابين المستحيلة، وكان معنى ذلك ان الحرب أصبحت وشيكة الوقوع. وكانت قد وقعت فعلاً واتخذت شكل مناوشات، حقق خلالها التوابون نجاحات أولية على جانب كبير من الاهمية. فقد أرسل سليمان نائبه المسيّب بن نجبه على رأس اربعمائة فارس(١) نحو معسكر الامويين حين علم بتحرك جيش اموي نحو (عين الوردة) بقيادة شرحبيل بن ذي الكلاع والحصين بن نمير السكوني(٢) فأوقع المسيب هزيمة قاسية بالجيش الاموي، افقدته الكثير من القتلى(٣) على الرغم من التفاوت العددي الكبير بين كل من القوتين. وهذا عائد بدون ريب من ناحية الى نجاح مخطط التوابين في الحرب الصاعقة، ومستوى الحماس الملتهب الذي بلغ حداً كبيراً. ومن ناحية أخرى الى تفكك الجبهة الاموية واختلاف شرحبيل والحصين على القيادة العليا(٤) .

وكانت هذه الهزيمة بمثابة تصعيد عنيف للموقف من

_____________________

(١) جاء في البداية والنهاية : خمسمائة فارس، ابن كثير : ٨/٢٥٣.

(٢) الطبري : ٧/٧٥، ابن الاثير ٤/٧٦.

(٣) الطبري : ٧/٧٥، ابن الاثير : ٤/٧٦.

(٤) الطبري : ٧/٧٥، ابن الاثير : ٤/٧٦.

١٥١

جانب الامويين الذين بادروا بارسال أحد القائدين المهزومين (الحصين بن نمير) الى (عين الوردة) ومعه اثني عشر الفاً من الجنود حيث أصبح وجهاً لوجه مع التوابين.. وكان ذلك ايذاناً بوقوع الحرب فعلياً(١) حين اندفع التوابون من مواقعهم بقيادة سليمان بن صُرد التحموا مع قوات الحصين الاموية التي تفوقهم كثيراً في العدد، وذلك في يوم الاربعاء في الثاني والعشرين من جمادي الاولى سنة ٦٥ هجري /٤ كانون الثاني ٦٨٥ م بعد خمسة أيام من نزولهم في (عين الوردة)(٢) .

ويظهر من سير الاشتباكات الاولية أن وضع التوابين - برغم قلتهم العددية - كان معززاً، ومعنوياتهم في ارتفاع دائم، أما الحماس فقد بلغ حداً لا يوصف، وكانت تستثيره نداءات سليمان في صخب المعركة فتزيده التهاباً وتأججاً : «يا شيعة آل محمد، يا من يطلبوا بدم الشهيد ابن فاطمة، ابشروا بكرامة الله عز وجل، فوالله ما بينكم ودخول الجنة والراحة من هذه الدنيا الا فراق الانفس والتوبة والوفاء بالعهد»(٣) .

_____________________

(١) ابن كثير : ٨/٢٥٤.

(٢) فلهوزن : الخوارج والشيعة ١٩٥.

(٣) الفتوح لابن الاعتم الكوفي. نسخة اسطنبول. (مخطوطة).

١٥٢

«التوبة والوفاء بالعهد» تلك الصرخة التي أطلقها سليمان في المعركة والشعار الذي طرحه التوابون منذ سنوات طويلة وقاسية، اقترن الآن بالفعل وحانت ساعة تنفيذه. لقد دخلوا حرب التكفير عن الذنب بأهداف مثالية وقلوب تطفح بالايمان، عبّروا عنها ابان المعركة بتكسير أغمدة السيوف(١) والتقدم الى القتال بشجاعة خارقة وحماس منقطع النظير.

دارت المعارك رهيبة، وبلغت في أيامها الثلاثة التالية (وهو الوقت الذي استغرقته الحرب) مرحلة من التصعيد غير متوقعة. فعلى جبهة التوابين الدافقة بالحيوية والنشاط، كانت تحركات المقاتلين تتم في سرعة عجيبة، والوحدات الانتحارية الصاعقة كانت تحقق نجاحات مذهلة على أطراف ومقدمات الجيش الاموي، الامر الذي أحدث ارتباكات في صفوفه وأفقده كثيراً من عناصره المقاتلة. ففي اليوم الاولللمعارك الجدية دار قتال ضاري بين الطرفين حسمه التوابون بهجوم عنيف على طرفي الجيش الاموي فتراجع مهزوماً، تاركاً وراءه الكثير من القتلى والجرحى(٢) . وقد تركت هذه الهزيمة صدى استياء

_____________________

(١) الطبري : ٧/٧٦.

(٢) قدر عدد الجيش الاموي الذي اشترك باثني عشر الفاً، كان على رأسه الحصين بن نمير السكوني. ابن الاثير : ٨/٢٥٤.

١٥٣

عميق عند القائد العام عبيد الله بن زياد وأفقدته السيطرة على أعصابه، حين صب جام غضبه وقذف بشتائمه أحد قواده (شرحبيل بن ذي الكلاع) متهماً اياه بالتخاذل والتقصير(١) .

واستؤنف القتال الضاري في اليوم الثاني. وكان وضع الجيش الاموي قد أصبح أكثر تعزيزاً، بحيث ان التوازن العسكري اختل الى حد كبير وانعدم التكافؤ بين القوتين المتحاربتين بشكل ظاهر. غير ان الروح النضالية المغامرة التي تميزت بها أعمال التوابين، وذلك التسابق الجموح نحو الاستشهاد، نسف كل قواعد التوازن. فقد كان صمودهم بطولياً ورائعاً طوال يوم مثير، أثخن فيه الفريقان قتلاً وجراحاً(٢) ، ولم تكن نتيجته على ما يبدو حاسمة لاي منهما، حتى كان اليوم الثالث(٣) وهو الاكثر اثارة في معارك (عين الوردة) حين أطبق الجيش الاموي بكل امكانياته على التوابين الذين اصبحوا في قلة قليلة بعد أن أفقدتهم اشتباكات اليوم السابق جزءاً كبيراً من مقاتليهم. وقد وجدوا أنفسهم في هذا اليوم محاطين من كل جانب بقوات مكثفة من أعدائهم، انقضّت عليهم

_____________________

(١) الطبري : ٧/٧٦.

(٢) الطبري : ٧/٧٦.

(٣) المسعودي : مروج الذهب ٣/٩٤.

١٥٤

بمنتهى العنف والشراسة. ولكن التوابين، للحقيقة، لم يتخاذلوا ولم يتخلوا مطلقاً عن ايمانهم بالقضية التي يناضلون في سبيلها، وانما ظلوا متماسكين في جبهة واحدة متراصة ويقاتلون قتالاً بطولياً مستميتاً(١) ، حتى أن هجماتهم الانتحارية أوقفت بعض الوقت الجنود الامويين عن التقدم، وجعلتهم يتحاشون الالتحام المباشر معهم، فاعتمدوا النبال كسلاح رئيسي(٢) وتمكنوا بذلك من انزال خسائر جسيمة في صفوف التوابين، مما أدى الى سيطرتهم أخيراً على زمام الموقف.

وكان سليمان ذلك الرجل الاسطوري، يتقدم رفاقه المناضلين، بخطى ثابتة نحو قدره الذي اختاره عن قناعة وايمان. وفي وسط المعمعة كان صوته يخترق الآذان مردداً : «عباد الله من أراد البكور الى ربه والتوبة من ذنبه والوفاء بعهده فاليّ»(٣) . وكانت هذه الكلمات آخر ما وردده القائد التوابي وهو يشق بسيفه صفوف الامويين بكل جرأة ورباطة جأش. ولعله عاش في تلك اللحظات لذة الانتقام وحلم الشهادة الذي أوشك أن

_____________________

(١) الجمعة في ٢٤ جمادي الاول ٦٥ هجري / ٦ كانون الثاني ٦٨٥ م. المسعودي : مروج الذهب : ٣/٩٤.

(٢) جون جلوب : امبراطورية العرب ١٣٥.

(٣) الطبري : ٧/٧٦.

١٥٥

يتحقق. وحدث ذلك فعلاً عندما أدركه سهم ألقى به يزيد بن الحصين، فأوقعه قتيلاً وكان له من العمر ثلاثاً وتسعين سنة(١) . ومن غرائب المصادفات ان تكون نهاية زعيم التوابين - الذي قام بثورته للانتقام من النظام الاموي عبر ممثله والمسؤول الاول عن مقتل الحسين، يزيد بن معاوية - على يد يزيد آخر هو ابن الحصين بن نمير السكوني أحد أركان هذا النظام البارزين، وكأن ذلك جاء ليوحي بأن معركة الانتقام التي يخوضها الحزب الشيعي لم تنته بعد، وستبعث من جديد، ولكن مع وجوه أخرى وبأبعاد مختلفة.

بعد مقتل سليمان، تسلم راية القيادة نائبه المسيّب بن نجبه الذي أثبت انه لا يختلف عن مستوى سليمان في جرأته المتطرفة وفي ايمانه العظيم، وقد وصفه أحد الذين شاركوا في (عين الوردة) بقوله : «ما رأيت أشجع منه انساناً قط، ولا من العصابة التي كان فيهم، ولقد رأيته يقاتل قتالاً شديداً ما ظننت ان رجلاً واحداً يقدر أن يبلى مثل ما أبلى، ولا ينكأ في عدوه مثل ما نكأ»(٢) . وقد سقط المسيّب بدوره صريعاً في المعركة(٣) بعد جهود

_____________________

(١) ابن كثير : ٨/٢٥٥.

(٢) الطبري : ٧/٧٦ - ٧٧.

(٣) ابن كثير : ٨/٢٥٤.

١٥٦

مستميتة، وتبعه بقية القواد وعدد كبير من المقاتلين، باستثناء رفاعة بن شداد الذي اعترف بالهزيمة وأدرك عدم جدوى القتال، وكانت القيادة قد انتقلت اليه فأصدر أوامره سراً الى البقية الباقية من التوابين بالانسحاب والتراجع. غير أن الاستجابة لم تكن جماعية، لان فئة، قدّر عددها نحو مائة وثلاثين مقاتلاً، رفضت فكرة الانسحاب، وأصرت على الاستشهاد، فظلت تقاتل حتى أبيدت بكاملها(١) . اما الباقون فقد انسحبوا تحت جنح الظلام ممتثلين لاوامر القائد العام. وكانت عملية الانسحاب مدروسة ومنظمة الى حد كبير، ذلك ان رفاعة كان قد أمر بتشكيل فرقة من سبعين فارس، مهمتهاً تغطية الانسحاب واشغال العدو، كما أمر بتهديم الجسور والقناطر وراء المقاتلين لاعاقة أي ملاحقة قد يقوم بها الامويون.

تمت عملية التراجع بنجاح تام، وابتعد التوابون المنسحبون عن ميدان المعركة، واصبحوا في منأى عن مطاردة الجيش الاموي المنتصر الذي استنكف عن محاولة اللحاق بهم(٢) . وفي طريق العودة الى الكوفة عاودتهم ذكريات القتال في (عين الوردة) ورجعت اليهم من جديد عقدة الشعور بالذنب، ففكروا بالرجوع والسير على خطى

_____________________

(١) جون جلوب : امبراطورية العرب ١٣٦.

(٢) ابن كثير : ٨/٢٥٤.

١٥٧

رفاقهم الذين وهبهم الله نعمة الشهادة. ولكن رفاعة تمكن بعد صعوبة من اقناعهم بالتخلي عن هذه الفكرة ومتابعة الانسحاب الى الكوفة(١) .

ولم تقتصر متاعب الانسحاب على التمرد والاصرار على الرجوع الى ساحة القتال، وانما كانت مشاق الرحلة تفوق حدود الاحتمال، وتضفي عليها مسألة الجرحى(٢) وفقدان بعضهم في الطريق، ظلالاً مأساوية قاتمة. وقد حاول زفر بن الحارث الكلابي مواساتهم والتخفيف عنهم عند وصولهم الى (قرقيسيا)، فأرسل اليهم المواد الغذائية، والاطباء لمداواة الجرحى، عارضاً عليهم الاقامة ما شاءوا في مدينته. فأقاموا فيها ثلاثة أيام(٣) انصرفوا بعدها متبعين نفس الطريق الذي حملهم الى (عين الوردة) حتى اذا بلغوا (هيت) تفجرت أحزانهم من جديد بلقاء اخوانهم من جماعة المدائن بقيادة سعد بن حذيفة بن اليمان، وهم في طريقهم الى ساحة القتال(٤) ، فكان مجيئهم متأخراً وفي غير محله. ولكنهم سجلوا على أية حال موقف التضامن

_____________________

(١) جون جلوب : امبراطورية العرب ١٣٦.

(٢) الفتوح لابن الاعثم الكوفي. نسخة اسطنبول (مخطوطة).

(٢) الطبري : ٧/٨٠.

(٤) ابن الاثير : ٤/٧٨.

١٥٨

السياسي والعقائدي مع رفاقهم التوابين من أجل الغفران والتكفير عن الذنب. كان اللقاء حزيناً بكل ما تعنيه هذه الكلمة، لم يخفف بعض حدته الا افتراقهم، عائدين كل الى مدينته، وقد غمره أسى عميق وحمل في قلبه صورة لن تنسى من الفجيعة.

تابعت فلول التوابين بعد ذلك رحلة العودة الى الكوفة، وكانت أخبار المعارك الانتحارية والبطولات الخارقة التي شهدتها (عين الوردة)، قد بلغت أسماع الكوفيين فهزتهم اعجاباً، كما أن بعضهم آلمه أن تتهاوى تلك النخبة من الحزب الشيعي وتضيع جهودها هباء في غمار حرب غير متكافئة. فلما بلغوا مشارف المدينة، هرع لمواساتهم جمهور من الكوفيين، كان بينهم الامير الزبيري عبد الله بن يزيد الانصاري الذي استقبل قائدهم رفاعة معزياً ومشجعاً، ومشيداً كذلك بالدور البطولي الذي قام به التوابون في مسيرتهم النضالية الرائعة ضد (قوى الطغيان) و(زمرة الجوار)(١) .

وفي الكوفة، اتصل بهم المختار من السجن معزياً : «ابشروا فقد قضيتم ما عليكم وبقي ما علينا، ولن يفوتنا منهم من بقي ان شاء الله»(٢) . وكتب الى زعيمهم رفاعة

_____________________

(١) الفتوح لابن الاعثم الكوفي. نسخة اسطنبول (مخطوطة).

(٢) الفتوح لابن الاعثم الكوفي. نسخة اسطنبول (مخطوطة).

١٥٩

مبشراً بالنصر القريب، ومعاهداً على اكمال المسيرة التي بدأها سليمان ورفاقه وان كان لا يفوته ان يغمز من قناة هذا الاخير بوصفه انه ليس بالرجل الذي يمكن ان يتحقق على يديه النصر وانما هو - أي المختار - القادر على حمل راية الحزب الشيعي وتنفيذ مخططاته الثأرية وتصفية كل من شارك في مأساة كربلاء، نظاماً كان أم اشخاصاً : «أما بعد فمرحباً بالعصبة الذين عظم الله لهم الاجر ورضي فعلهم حين قتلوا، اما ورب البيت ما خطا خاط منكم خطوة ولا ربا ربوة الا كان ثواب الله أعظم من الدنيا، ان سليمان قضى ما عليه وتوفاه الله وجعل روحه مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون، اني أنا الامير المأمور والامين المأمون وقاتل الجبارين والمنتقم من أعداء الدين المقيد من الاوتار، فأعدوا واستعدوا وابشروا. أدعوكم الى كتاب الله وسنة نبيه والطلب بدم أهل البيت والدفع عن الضعفاء وجهاد المحلين»(١) .

_____________________

(١) ابن الاثير : ٤/٧٨.

١٦٠