التوابون

التوابون0%

التوابون مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 185

  • البداية
  • السابق
  • 185 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 26132 / تحميل: 10819
الحجم الحجم الحجم
التوابون

التوابون

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١٦١

النتائج

١٦٢

١٦٣

ان ثورة التوابين - كما رأينا - أخفقت عسكرياً، وتحطمت قوتها الاساسية في (عين الوردة). وسبب هذا الاخفاق يعود بدون شك الى عامل رئيسي، هو الاختلال الظاهر في توازن القوى بين الجيشين الاموي والتوابي. فبينما كان الاول، قوياً، انضباطياً ومتفوقاً بشكل بارز في امكانياته البشرية والمادية، كان الآخر ضعيفاً، اقتصر على عدد محدود من المتطوعين، الذين توفر لهم من الحماسة والفروسية والايمان، أكثر مما توفر من التنظيم والعدد والعتاد. وهذا الواقع اعترف به سليمان قبيل المعركة عندما لاحظ هزالة جيشه وقلة امكانياته بالمقارنة مع أعدائه الامويين(١) . وقد أدى هذا الوضع المتباين لدى كل من الفريقين، الى حسم الموقف بسرعة وانهاء المعركة خلال أيام ثلاثة رغم الجهود البطولية التي بذلها التوابون في ساحة القتال(٢) .

_____________________

(١) الطبري : ٧/٦٦.

(٢) المسعودي : مروج الذهب ٣/٩٤.

١٦٤

وعلى الرغم من أن المنطلقات الاولى للحركة التوابية جاءت منسجمة مع ما آلت اليه من نتائج فان التقويم الموضوعي لها هو أبعد من حدود الارتجال والتهور، كما في أذهان بعض المؤرخين. فقد ولدت حركة التوابين في الظلام تحت واقع التكفير عن الذنب الذي أوجده مصرع الحسين في كربلاء، وعاشت كمنظمة سرية تعمل في الخفاء - طوال خلافة يزيد بن معاوية - لتكوين قاعدتها الشعبية في الكوفة، وتحاول ان تستفيد من الظروف التي تمخضت عن وفاة هذا الاخير بخروجها من الاطار السري واعلانها الثورة على النظام الاموي المسؤول المباشر عن مقتل الحسين.

ومع اعترافنا بأن حركة التوابين كانت مجرد حركة تكفيرية التزمت بهدف أساسي هو التوبة، وبأنها كحركة سياسية لم تتضمن أي برنامج اصلاحي سياسياً كان أم اجتماعياً، فلابد لنا أن نعترف ايضاً بأنها كانت حركة منظمة ومدروسة، دأبت بصورة جدية على استقطاب الحزب الشيعي بكل فصائله وتعبئته لخوض معركة الانتقام للحسين. ولكن التمزق الذي أصاب هذا الحزب، بسبب تردد بعض عناصره، واستنكاف البعض الآخر عن المشاركة وانتقاده زعامة الحركة التي لم تضع امامها مخطط الاستيلاء

١٦٥

على السلطة، فضلاً عن ظهور المختار في الكوفة في وقت شارفت فيه هذه الحركة على النضج، فكان لظهوره الاثر الكبير في ارتداد الكثيرين عنها واستمالتهم الى دعوته الاكثر واقعية بمضمونها السياسي والاجتماعي.

ان كل هذه الامور أدت في النهاية الى نتيجة حتمية وهي الاخفاق العسكري المدمر للحركة التوابية، وان كان ينبغي أن نكون حذرين عند استعمالنا صيغة الاخفاق أو الفشل، لان الهزيمة العسكرية لم تكن مفاجئة او غير متوقعة بالنسبة للتوابين، وانما كان هؤلاء يعرفون سلفاً النتائج المترتبة على تحركهم والتي حذرهم منها أكثر من محذر. لذلك توجهوا الى المعركة وهم يشعرون في قرارة أنفسهم انهم متجهين الى نهايتهم المحتومة بكل قناعة وبكل ادراك واقعي للظروف، فحققوا بذلك أهدافهم المرسومة، وكان لهم من النتائج ما أرادوا.

والحقيقة ان أي تقويم موضوعي لحركة التوابين، ينبغي ان لا يبتعد عن المفهوم العام الذي انطلقت منه، وهو الشعور بالذنب ومحاولة التكفير عنه، ذلك الشعور الذي جمع عناصرها القيادية والمتطوعة في تنظيم سري، تحول بعد فترة الى حركة انتحارية، هدفها الاول الانتقام

١٦٦

للحسين او الموت في سبيله(١) . ومن خلال هذا المفهوم نستطيع القول أن فشل الحركة العسكري لا يعني بالضرورة انها فشلت على الصعيد السياسي، ولا يعتبر مبالغة بأية حال اذا اعتبرناها حركة سياسية ناجحة، نفذت خطة موضوعة سلفاً، وقامت بتأدية مهمتها الانتقامية على أكمل وجه. وأخيراً فان أبرز ما حققته الحركة التوابية من نتائج، انها سجلت بعض الايجابيات على صعيد حركة النضال الشيعي، وانعكست تأثيراتها بصورة خاصة على المجتمع الكوفي، فعبأت جماهيره بالثورة، وعمقت في نفوسهم الكراهية والحقد ضد النظام الاموي، الامر الذي جعل من الكوفة فيما بعد مسرح التحرك الدائم للحزب الشيعي وثوراته المتلاحقة، المناهضة للنظام.

والواقع ان الشيعة في الكوفة ظلوا يمارسون النقد الذاتي ازاء موقفهم من الحسين بعد عودة بقايا التوابين من (عين الوردة)، واستمر التعبير عن الندامة والشعور بالاثم يمارس عبر نشاطات وتحركات مختلفة.

ولكن غياب عدد من الشخصيات القيادية في الحزب الشيعي أدى الى فراغ في الزعامة القادرة على تسجيل مواقف سياسية ذات أهمية. حتى رفاعة بن شداد القائد

_____________________

(١) «رأوا انهم لا يغسل عنهم ذلك الجرم، الا قتل من قتله او القتل فيه» مروج الذهب ٣/٩٣.

١٦٧

التوابي المنسحب، لم يكن بمقدوره، وهو المتقدم في السن والمهزوم عسكرياً، أن يتزعم الحزب الشيعي المفكك حينئذ. فهناك فراغ في الزعامة، واختلاف في آراء القادة حول موقف الحزب من التطورات السياسية الجديدة، وهناك تململ في أوساط القاعدة الجماهيرية التي لا تزال تتفجر بالنقمة وتقوم بضغوط على القيادة من اجل استئناف التحرك واتخاذ قرارات أكثر جدية.

وكانت هذه الظروف فرصة نادرة امام الزعيم الشيعي المعتقل آنذاك في سجن الكوفة، المختار الثقفي. فراقبها باهتمام كبير، وكتب الى صهره عبد الله بن عمر موسطاً اياه من جديد لدى عبد الله بن يزيد أمير الكوفة(١) من أجل الافراج عنه. وقد تم له ذلك لقاء عهود قطعها لهذا الاخير(٢) بعدم اثارة المتاعب وتجميد نشاطاته السياسية. ولكن المختار لم يكن بأية حال ذلك الرجل الذي يلتزم بعهود من هذا النوع وهو المحنك والسياسي الطموح، وانما سخر منها، وعجب لسذاجة الذين اعتقدوا انه سيحافظ عليها حيث قال : «ما أحمقهم حين يرون اني أفي لهم بايمانهم هذه، أما حلفي لهم بالله فانه ينبغي لي

_____________________

(١) ابن الاثير : ٤/٨٩.

(٢) الطبري : ٧/٩٤.

١٦٨

اذا حلفت على يمين فرأيت ما هو خير منها أن أدع ما حلفت عليه وآتي الذي هو خير وأكفّر يميني، وخروجي عليهم خير من كفي عنهم»(١) .

وتشاء الصدف أن يتحلل المختار تلقائياً من عهوده مع عبد الله بن يزيد، حين غادر هذا الاخير قصر الامارة معزولاً بقرار من سيده ابن الزبير اذ وجد فيه ضعفاً لا يتناسب مع خطورة المرحلة وعيّن مكانه أحد أشد مؤيديه حماسة هو عبد الله بن مطيع القرشي(٢) الذي لم يكن بينه وبين المختار شيئاً من المواثيق.

وهكذا خرج المختار من سجنه، ليجد نفسه في مواجهة أحداث مصيرية وخطيرة، فكان عليه أن يتحرك فوراً وأن لا يتردد في اتخاذ الموقف المناسب بكل جرأة، قبل أن تقوم شرطة الوالي الجديد برصد نشاطاته واعادته من جديد الى السجن(٢) . وبسرعة أعلن برنامجه السياسي باسم محمد بن الحنفية أحد أبناء علي من غير فاطمة، الذي كان يعيش في المدينة، حيث زعم انه اتفق سراً مع هذا الاخير على الدعوة له في الكوفة. وكان على

_____________________

(١) الطبري : ٧/٩٤.

(٢) الطبري : ٧/٩٠ - ٩١.

(٣) فلهوزن : الخوارج والشيعة ٢٠٣ - ٢٠٤.

١٦٩

المختار أن يقنع الكوفيين بصحة زعمه، لان فريقاً كبيراً منهم شكك في هذا الامر، وانتدب وفداً ذهب لمقابلة الزعيم العلوي من أجل الوقوف على حقيقة ما يزعمه المختار. ورغم ان ابن الحنفية لم يعط جواباً حاسماً، وذلك لاعتبارات متعددة أهمها، موقعه في الدعوة العلوية ثم تخوفه من ابن الزبير، سيد الحجاز، الذي وضع ابن الحنفية تحت مراقبة أجهزته المشددة.

ولكن الزعيم العلوي على ما يبدو لم يمانع في مباركة ما يقوم به المختار واستناده في دعوته على العلويين اذ قال للوفد الكوفي : «انا لا نكره أن ينصرنا الله بمن شاء من خلقه»(١) .

ومن المرجح أن المختار، قبل خروجه من الحجاز او بعده، كان قد اتصل بعلي بن الحسين وباحثه بأمر الدعوة له في العراق ولكنه لم يلق استجابة، فانصرف عنه الى محمد بن الحنفية(٢) . وسواء قابل المختار الزعيمين العلويين، أم أنه زعم ذلك ليعطي تسويغاً أقوى لدعوته وبعداً أكثر من مجرد الثأر للحسين والتكفير عن الذنب،

_____________________

(١) ابن كثير : ٨/٢٦٥.

(٢) المسعودي : مروج الذهب ٣/٧٤.

١٧٠

فان موقف ابن الحنفية من المختار - رغم عدم وضوحه - انعكس على الوضع العام في الكوفة حيث شهد الحزب الشيعي تحولاً نحو ابن الحنفية الذي لم يكن مطروحاً حتى ذلك الحين كامام للدعوة العلوية، وأدى الى نجاح المختار في فرض نفسه على الحزب وتسلم زعامته.

ولقد التف حول المختار بعد خروجه من السجن، نفر من الزعماء الشيعيين الذين وجدوا فيه الشخصية القيادية الصالحة لمتابعة التحرك. وكان من أبرز هؤلاء : رفاعة بن شداد، ويزيد بن انس، وأحمد بن شميط، وعبد الله بن شداد الجشمي، والسائب بن مالك الاشعري. وقد نشط هؤلاء وقاموا بحملات دعائية في أسواق الكوفة وأحيائها لحمل الناس على تأييد المختار والبيعة له(١) . ولكن عقبات عدة جابهت المختار، وأخرت قليلاً سيطرته على الوضع في الكوفة فكان لا بد له من معالجتها بالسرعة الممكنة. ومن هذه العقبات مثلاً، موقف حزب الاشراف منه الذي لم يقل عدائية عن موقفه السابق من التوابين(٢) ، ومنها ايضاً تردد ابراهيم بن الاشتر النخعي أحد كبار الشيعة في الكوفة، في الانضمام الى جانب

_____________________

(١) ابن كثير : ٨/٢٦٤.

(٢) ابن الاثير : ٤/٨٩.

١٧١

المختار. وكان ابراهيم - كأبيه الاشتر - شديد الاخلاص في ولائه لعلي وأبنائه، ومتطرفاً الى أبعد حدود التطرف في عدائه للامويين، ولكن مع نظرة خاصة للامور ورؤية مختلفة تماماً عن غيره من زعماء الحزب الشيعي، فهو لم يشترك مثلاً في ثورة التوابين، ووقف موقف الحذر من المختار، لان التحرك الشيعي كان برأيه حينئذ، تحركاً انفعالياً يفتقر الى خطط منظمة واستعدادات طويلة وأهداف واضحة.

ولعل ابراهيم كان يطمح الى أن يقود بنفسه الحزب الشيعي في العراق، خاصة وانه كان على اتصال دائم مع زعماء البيت العلوي ومنهم محمد بن الحنفية نفسه(١) ، وهذا ما دعاه الى التشكيك بمزاعم المختار. غير أن هذا الاخير تمكن بعد الحاح من اقناع ابراهيم بالاعتراف بدعوته والبيعة له. ويبدو ان الموافقة على ذلك كانت بايحاء من زعيم الدعوة محمد بن الحنفية الذي كتب الى ابراهيم بهذا الشأن(٢) .

والواقع ان المختار كسب حليفاً قوياً بانضمام ابن الاشتر اليه، الذي ما لبث ان صار من ألمع رجالات الثورة

_____________________

(١) ابن كثير : ٨/٢٦٨.

(٢) الطبري : ٧/٩٨ - ٩٩.

١٧٢

وقائدها العسكري الاول، وأصبح يحضر بانتظام الاجتماعات السرية في بيت المختار لتحضير الانقلاب ضد الحكم الزبيري في الكوفة(١) ، واتخاذ قرار بتحديد ساعة الخروج حيث اتفق على أن تكون ليلة الخميس في الرابع عشر من ربيع الاول سنة ست وستين هجري(٢) .

وفي تلك الاثناء كانت التقارير ترد على عبد الله بن مطيع - والي الكوفة - من قائد شرطته(٣) ، محذرة من انقلاب قريب يعده المختار(٤) . فبعث حينذاك ابن مطيع رجاله في أحياء مختلفة من الكوفة في محاولة لافشال خطط المختار، ولكن ذلك لم يؤد الى أي نتيجة سوى المساهمة بتعجيل انفجار الثورة وتقديم موعدها يومين (الثلاثاء ١٢ ربيع الاول ٦٦ هجري). فقد حدث ان كان ابن الاشتر - ومعه مائة من المسلحين - في طريقه ذلك اليوم الى منزل المختار أن اصطدم بصاحب الشرطة اياس بن مضارب الذي اعترض طريقه، فطعنه ابراهيم برمحه طعنة

_____________________

(١) ابن كثير : ٨/٢٦٦.

(٢) ابن كثير ٤/٩١.

(٣) «اياس بن مضارب»، ابن الاثير ٤/٨٩.

(٣) الطبري : ٧/١٠٠.

١٧٣

أودت بحياته(١) . وكانت هذه الحادثة اشارة البدء بالتحرك. وبسرعة مذهلة تم استيلاء المختار وقائده ابن الاشتر على الموقف، وهُزم القائد(٢) الذي أعده الوالي وحزب الاشراف(٣) ، وما لبث ان هرب الوالي نفسه، وغادر قصر الامارة متخفياً ولجأ الى منزل ابي موسى الاشعري(٤) .

وهكذا نجحت ثورة المختار الثقفي، وتحققت معها تطلعات الحزب الشيعي لاستلام الحكم، لاول مرة منذ قيام الخلافة الاموية وتنازل الحسن لمعاوية. وهناك عدة عوامل أسهمت بدون ريب في انجاح هذه الثورة ومهدت لها الطريق لتصل الى السلطة دون أدنى صعوبة. ومن أبرز هذه العوامل :

١ - الاعتماد بشكل أساسي على الفئات الشعبية من العرب وغيرهم الذين ضاقوا بالاضطهاد الاموي ثم الزبيري، ووجدوا في ثورة المختار متنفساً لتحقيق مطالبهم الاصلاحية.

_____________________

(١) الطبري : ٧/١٠٠

(٢) شبث بن ربعي.

(٣) الطبري ٧/١٠٣.

(٤) ابن كثير : ٨/٢٦٧.

١٧٤

٢ - احتواء الحركة لقيادات الحزب الشيعي التي وجدت في المختار سياسياً بارعاً ومناضلاً شديد المراس، واقتنعت به كزعيم للحزب، مفوض من قبل أحد كبار العلويين، محمد بن الحنفية.

٣ - ان الحكم الزبيري لم يقم بأي تغيير سياسي في الكوفة ولم يكن لديه أي برنامج اصلاحي، بل كاد يكون بمناهجه استمراراً للحكم الاموي. وقد جاءت خطبة ممثله في الكوفة حول الخراج تفجر الغضب وتشعل النقمة(١) .

٤ - ان اشراك العامل الزبيري بعض قتلة الحسين في الحكم وفي حرب المختار(٢) ، ترك انطباعاً سيئاً في صفوف المقاتلين معه، وأخذت مجموعات منهم تنصرف الى معسكر المختار.

٥ - ان انضمام ابن الاشتر الى المختار، أدى الى ترجيح كفته وساعده على تحقيق النصر، ذلك ان تأثير ابن الاشتر كان نابعاً من قوته القبلية ومكانته البارزة في الحزب الشيعي، فضلاً عن امكانياته الشخصية كقائد عسكري موهوب ومغامر.

هذه أهم العوامل التي أوصلت المختار الى السلطة

_____________________

(١) ابن الاثير : ٤/٩٤.

(٢) دائرة المعارف الاسلامية الشيعية : ٢ / ٥٩.

١٧٥

في الكوفة، عبر انقلاب أبرز ما فيه انه تم دونما اسراف في اراقة الدماء أو جنوح نحو العنف في ملاحقة الذين تم الانقلاب عليهم. فالاشراف طلبوا الامان، فأجيبوا اليه(١) ، والعامل الزبيري المهزوم أخرج من مخبأه، مبعداً الى البصرة ومعه مائة ألف درهم(٣) . وبذلك خضعت الكوفة بكل فئاتها - رسمياً على الاقل - للمختار الذي اعتلى المنبر في المسجد ليعلن برنامجه السياسي والاصلاحي، وكان محوره اقامة حكم علوي يشيع العدل بين الناس ويبعث الطمأنينة في النفوس ويتعايش مع مختلف الاحزاب. ومما جاء فيه : «تبايعوني على كتاب الله وسنة نبيه والطلب بدماء أهل البيت وجهاد المحلين والدفاع عن الضعفاء، وقتال من قاتلنا، وسلم من سالمنا والوفاء ببيعتنا لا نقيلكم ولا نستقيلكم»(٣) .

على أن المختار اذا كان قد استولى على السلطة بمثل هذه السهولة، فان الاحتفاظ بها وسط تلك الدائرة من الصراعات الخطيرة التي اتخذت من الارض العراقية

_____________________

(١) ابن الاثير : ٤/٩٥.

(٢) ابن كثير : ٨/٢٦٨.

(٣) الطبري : ٧/١٠٨ - ١١٠

١٧٦

مسرحاً لها كان أمراً في منتهى الصعوبة. فهناك أخطار مباشرة تتهدد نظامه الحديث، وتستهدفه مباشرة كلما اقترب الجيش الاموي - الذي فتك بالتوابين - من الكوفة. وهناك في الطرف الآخر ابن الزبير الذي لا زال يحتفظ بسيطرته على جنوب العراق، وكان على المختار أن يتحاشى الاصطدام به، واقناعه بأن حركته ليست ضده، مع ما في هذا الاقناع من استحالة، خاصة بعد أن مُنع الوالي الزبيري الجديد من دخول المدينة(١) .

بالاضافة الى ذلك فان الجبهة الداخلية، لم تكن خالية من المتاعب. فالمختار وصل الى الحكم - كما هو معروف - بواسطة الحزب الشيعي وهو ليس كل الكوفة. فكان من الطبيعي أن يواجه معارضة قوية - لا سيما من الاشراف الذين بايعوا مكرهين - سببت له الكثير من المشاكل وكادت تطيح بسلطانه الحديث العهد.

والواقع ان الاحداث كانت تتلاحق بصورة مثيرة ولا بد من مواجهة الموقف بجرأة وحزم. وكان وصول عبيد الله بن زياد بجيشه الاموي الى الموصل(٢) من أثقل الامور على المختار الذي بدا وكأنه يسابق الزمن في

_____________________

(١) فلهوزن : الخوارج والشيعة : ٢١٥.

(٢) ابن كثير : ٨/٢٦٨.

١٧٧

استعداداته العسكرية لمواجهة أشد أعدائه خصومة وأكثرهم الحاحاً. ولكي يؤخر زحف هؤلاء نحو الكوفة، أرسل المختار جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة يزيد بن انس، المريض والمسن حينئذ(١) فاشتبك مع طلائع الجيش الاموي وتمكن بعد يومين من تحقيق انتصار غير متوقع. ولكن ذلك اقترن بوفاة القائد المنتصر في نفس الليلة، فكان لموته تأثيراً سيئاً على معنويات الجنود الذين تهيبوا ضخامة الجيش الاموي وأخذوا في التراجع الى الكوفة(٢) .

بلغت أخبار الانسحاب، ومعها اشاعات عن هزيمة جيش المختار(٣) . فأسقط في يده، وأمر قائده ابن الاشتر بالتوجه مع سبعة آلاف مقاتل(٤) للحؤول دون توغل ابن زياد في العراق.

غير أن خروج ابن الاشتر من الكوفة ترك مضاعفات خطيرة في المدينة وزاد الموقف حراجة، حين انتفض الاشراف - وكأنهم كانوا ينتظرون خلو الكوفة من ابن الاشتر - وقد كان الحافز وراء ذلك، تضارب مصالحهم

_____________________

(١) الطبري : ٧/١١٣ - ١١٤.

(٢) الطبري : ٧/١١٥.

(٣) فلهوزن : الخوارج والشيعة : ٢١٨.

(٤) ابن كثير : ٨/٢٦٩.

١٧٨

الاقتصادية والسياسية مع وجود حكومة شيعية في الكوفة برئاسة المختار، أبرز اهتماماتها معاقبة المسؤولين عن مقتل الحسين، وبعضهم كان من الاشراف، وانصاف الطبقات المحرومة والفئات المضطهدة لا سيما الموالي، وغير ذلك مما أثار حفيظة هؤلاء ودفعهم الى التآمر على الحكم الشيعي الذي هدد ما تمتعوا به من امتيازات خاصة في ظل الحكومات السابقة(١) .

انطلق الاشراف في زمر مسلحة في الكوفة وحاصروا قصر الامارة، وقد أدى ذلك الى قتال عنيف في الشوارع خاضته الشيعة ببسالة، وصمد المختار، فلم تفقده خطورة الموقف توازنه، وقدرته الفائقة على المناورة، حين لجأ الى المماطلة بالتفاوض مع المتمردين(٢) كسباً للوقت ريثما يصل قائده ابن الاشتر، وكان قد كتب اليه بشأن المؤامرة(٣) .

عاد ابراهيم بسرعة الى الكوفة، وبعودته أتيح للحزب الشيعي - وكانت الحماسة قد بلغت به أقصى درجاتها، يزيدها اشتعالاً صرخات التوابين بقيادة رفاعة ابن شداد مرددة شعارها المعروف «يالثارات

_____________________

(١) بيضون - زكار : تاريخ العرب السياسي ١١٧.

(٢) ابن كثير : ٨/٢٧٠.

(٣) ابن الاثير : ٤/٩٨.

١٧٩

الحسين»(١) - أن يقضي على تمرد الاشراف ويصفي مقاومتهم. وقد أتاح ذلك بدون شك أمام المختار فرصة الاسراع بتنفيذ قراره الانتقامي من قتلة الحسين وتتبعهم في أنحاء العراق، فأوقع بالكثيرين منهم(٢) قتلاً ونفياً وتعذيباً، كان بينهم عمر بن سعد وشمّر بن ذي الجوش(٣) .

وبعد يومين من اخماد تمرد الاشراف، غادر ابراهيم ابن الاشتر الكوفة من جديد في طريقه الى الموصل حيث كان يرابط بجوارها عبيد الله بن زياد مع جيشه الاموي. وعند نهر الخازر(٤) اشتبك الجيشان في ملحمة عظيمة(٥) بذل فيها الشيعة جهوداً عظيمة للسيطرة على زمام الموقف، وقامت فرقة انتحارية منهم باختراق صفوف العدو، مستهدفة عبيد الله بن زياد فتمكنت من الوصول اليه وقتله. ثم قتل غيره من القواد الكبار،

_____________________

(١) الطبري : ٧/١٢٠.

(٢) الطبري : ٧/١٢٠.

(٣) جون جلوب : امبراطورية العرب ١٥٣ - ١٥٤.

(٤) رافد للزاب الكبير.

(٥) في الشهر الاول من سنة ٦٧ للهجرة، ابن الاثير : ٤/١٠٩.

١٨٠