التوابون

التوابون0%

التوابون مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 185

  • البداية
  • السابق
  • 185 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 26135 / تحميل: 10819
الحجم الحجم الحجم
التوابون

التوابون

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بهذا الاسم نسبة الى الجمل الذي كانت تمتطيه عائشة اثناء المعركة(١) .

على ان هذه الحركة برغم فشلها السريع، نجم عنها نتائج على جانب من الاهمية. ذلك ان معركة الجمل أدت الى انتهاء مدينة الرسول كعاصمة سياسية وتحويلها الى مدينة ذات مركز ديني بحت واصبحت الكوفة عاصمة الدولة الجديدة خلال الفترة القصيرة التي قضاها علي في الحكم ومن ثم المركز الاول لنشاط الحزب الشيعي طوال أجيال عديدة. كما كانت معركة الجمل أول معركة في الاسلام يقودها خليفة بنفسه ضد اخوان له في العقيدة(٢) . وكان على علي وهو الشديد الايمان أن يوجد حلاً لذلك ويستن تشريعاً خاصاً عرف فيما بعد بتشريع قتال أهل القبلة جاء فيه : «ليس على الموحدين سبي ولا يغنم من أموالهم الا ما قاتلوا به وعليه»(٣) .

واذا كانت حركة المعارضة الحجازية قد لاقت الفشل سريعاً في البصرة، فان حركة أشد خطورة كان على الخليفة

_____________________

(١) قدوره : عائشة ٢٥٥ - ٢٦٠.

(٢) لويس : العرب في التاريخ ٨٤.

(٣) الدينوري : الاخبار الطوال ١٤٤ - ١٤٥.

٤١

محاربتها في الشام حيث معاوية العامل القوي والولاية المنضبطة والجيش المنظم.

فبعد فراغه من موقعة الجمل وجه علي من مركزه الجديد في الكوفة، الدعوة الى معاوية لمبايعته واعلان الولاء له مع التهديد بأنه سيلجأ الى قتاله اذا ما استمر في مخالفته والخروج على ارادته(١) . ولكن هذه الدعوة كما توقع الخليفة نفسه ومعه كبار معاونيه(٢) اصطدمت بتصلب من معاوية واصرار منه على تسليم المسؤولين عن مقتل عثمان. ولم يكن هذا الاصرار سوى تبريراً لخروجه على الطاعة واخفاء لما يخطط له من وراء هذه الحملة، وهو منطق كان من الطبيعي أن يرفضه علي أو أي حاكم آخر، فهو الخليفة والمسؤول الاول، واليه يرجع المتخاصمون فيحكم ما بينهم.

وبدأت الحرب أخيراً في صيف ٣٦ هجري / ٦٥٧ م وكان سهل صفين، المدينة الفراتية القديمة مسرحاً لها، وقد شهدت عدة معارك طاحنة كان يرافقها حملات دعائية مركزة من الطرفين فضلاً عن الحرب النفسية التي كان الهدف

_____________________

(١) الطبري : ٥/٢١٥.

(٢) ابن الاثير : ٣/١٤٠.

٤٢

منها تدعيم المعنويات واكتساب أكبر عدد ممكن من عناصر الجيش الآخر. وكان سير المعارك الاولى يتجه لصالح العراقيين الذين اصبحوا على وشك الانتصار الى أن جابهتهم المصاحف مرفوعة على أسنة الرماح، وطرح شعار التحكيم للنظر في مسألة الخلاف بين الطرفين. فاستجاب علي وهو مكره(١) ، وتوقف القتال بعد جدل عنيف بين كبار قواده. وكان التحكيم مسرحية لتمييع الموقف أخرجها عمرو بن العاص أحد كبار البارزين في معسكر معاوية. والحق ان استعدادات معاوية لم تتم في الاطار العسكري فقط، وانما في الاطار السياسي أيضاً حيث أحاط نفسه بمجموعة من الرجالات الذين عرف عنهم الدهاء والبراعة في تغيير المواقف، ومن هؤلاء عمرو بن العاص الذي انضم الى معاوية بعد مساومات طويلة جرت بين الرجلين(٢) .

وأرغم علي على القبول تحت ضغط الاكثرية في صفوف جيشه التي كان يعوزها الانضباط وتفتقر الى روح الحماسة، فالجبهة العراقية كانت غير متماسكة وتتفجر بالتناقضات بينما كان الامر على عكس ذلك في الجبهة

_____________________

(١) Perier Vie Dal - Hadjajadj ibn yousof, P١٢

(٢) الطبري : ٥/٢٣٢

٤٣

الشامية، حيث كان وقف القتال انتصاراً للشاميين دفع عنهم الهزيمة وجعل من زعيمهم معاوية في مركز الند والمنافسة لعلي في الخلافة.

وكما أرغم علي على القبول بمبدأ التحكيم، أرغم على اختيار ممثله في المفاوضات وهو ابو موسى الاشعري. بينما كان ممثل معاوية بطل عملية رفع المصاحف عمرو بن العاص، الذي أوصاه معاوية بقوله : «ان أهل العراق أكرهوا علياً على أبي موسى، وأنا وأهل الشام راضون بك، وقد ضُم اليك رجل طويل اللسان قصير الرأي، فأخر الحزّ، وطبق المفصل ولا تلقه برأيك كله»(١) . والتقى الحكمان بأذرح في دومة الجندل (٣٧ هجري /٦٥٩ م) ووضح منذ بدء المفاوضات انعدام التكافؤ بينهما، وما لبث الاجتماع ان ارفضّ دون نتيجة، وعادت الامور الى ما كانت عليه قبل التحكيم مع فارق واحد ان مركز علي أصبح أكثر تضعضعاً حيث خرج من معسكره مجموعة من اثني عشر ألفاً محتجة على مبدأ التحكيم، رافعة شعار «لا حكم الا لله». وهي المجموعة التي عُرفت بالخوارج وكان لثوراتها فيما بعد تأثيراً كبيراً في التاريخ الاسلامي. ولقد أحدث تمرد هؤلاء ارباكاً في جيش علي اضطر هذا

_____________________

(١) المسعودي : مروج الذهب ٢/٣٩٢.

٤٤

الاخير ان يوقف الزحف الى الشام من أجل القضاء عليهم. وقد أدى هذا الاقتتال الجانبي الى هدر طاقات الجيش العراقي في الوقت الذي اتاح الفرصة لمعاوية ان يستفيد بتعزيز مواقعه التي تعدت الدفاع الى الهجوم.

.. وفجأة انهارت الجبهة العراقية بعد ان دأب عليّ على ترميمها واستكمالها بعناصر متجانسة موحدة الولاء لوضع الامور في نصابها.

ولكن مشاريع الحرب التي أريد لها ان تفتح مرة أخرى أبواب الصراع بين الشام والعراق، احبطها معاوية قبل ان تخرج الى النور. وفي غمار ذلك تسقط ولاية مصر المهمة بيد عمرو بن العاص - أحد أبرز المتحالفين مع معاوية في صفين - ويقتل علي غيلة في مسجد الكوفة (٤٠ هجري - ٦٦١ م)، فكانت الضربة القاتلة للحزب الشيعي بغياب قائده المؤسس. وليس من العسير على أي متتبع لشريط الاحداث حينئذ ان يلمح شبح معاوية وراء تلك المؤامرة وقد تلوثت أصابعه بالدماء. واذ أصبحت الصورة أكثر وضوحاً، تحدّد الموقف بصورة شبه نهائية لمصلحة الحزب الاموي.

٤٥

٤٦

الباب الثاني الاحوال السياسية منذ اغتيال علي إلى كربلاء ...

٤٧

بين الحسن ومعاوية

بويع الحسن بالخلافة بعد اغتيال ابيه. وكأي حاكم جديد يتولى السلطة، أعلن برنامجه السياسي في مسجد الكوفة، وكانت أبرز خطوطه مشكلة الصراع مع معاوية، ذلك الصراع الذي وجد الحسن نفسه منقاداً اليه تلقائياً لاعتبارات عقائدية وسياسية.

وعلى عكس ما يعتقد البعض من أن هذا الخليفة كان عازفاً عن استئناف الحرب مع معاوية، وأنه حين سار لقتال هذا الاخير كان تحت ضغوط من جماعته الكوفيين(١) . فالحقيقة الثابتة أن الحسن واجه هذا الامر بمنتهى الجدية والحزم، وكان أول ما فعله بعد وصوله الى الحكم هو الاهتمام بجيشه، فدفع رواتب جنوده(٢) وعمل على اعدادهم اعداداً لائقاً لحرب مصيرية مقبلة. وهذا الجيش

_____________________

(١) الخربوطلي : تاريخ العراق في ظل الحكم الاموي ٦٨.

(٢) الاصفهاني : مقاتل الطالبيين ٣٤.

٤٨

هو نفسه الذي أعده علي قبل اغتياله للزحف به الى الشام. ولعل بعض المؤرخين قد خلطوا بين ما اشاروا اليه من تردد الحسن في مجابهة هذه المشكلة وبين حذره الذي غلب على تصرفاته. فالتردد شيء والحذر شيء آخر. وهذا الموقف كان نابعاً في المقام الاول من عدم ثقته بالزمرة السياسية التي حاطت به وكان لا بد من الاعتماد عليها في مطلق الاحوال(١) . فهي مركز الثقل في الكوفة بما تمتلكه من رجال وأموال، وهي في الواقع تقرر الموقف الذي تريد(٢) على ضوء ما تراه منسجماً مع مصالحها وامتيازاتها في المدينة.

فالحسن كما نعرف عاش عن كثب تجربة الحرب في صفين وما صاحبها من مؤامرات، وخبر جيداً أساليب معاوية في امتلاك قلوب هذا النوع من الرجال(٣) الذي كانت مصالحه فوق المبادئ وفوق المثل. ولم يكن

_____________________

(١) راجع صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين ٨٣ وما بعدها.

(٢) راجع صلح الامام الحسن للسيد محمد جواد فضل الله ٥١ وما بعدها.

(٣) كان من أبرز هؤلاء : الاشعث بن قيس، عمرو بن حريث، معاوية بن خديج، المنذر بن الزبير، شبث بن ربعي، اسحق بن طلحة، وعمر بن سعد.

٤٩

مفاجئاً أن يتحول هؤلاء الذين عرفوا بالاشراف فيما بعد الى مطية للنظام الاموي يقاتلون في صفوفه، نفس الحزب الذي كانوا من أركانه أيام علي والحسن.

فالحسن اذا لم يساوره أدنى تردد او تخاذل في موقفه من الحرب مع معاوية، ولكنه كان شديد الحذر من جماعته، غير واثق من ولائهم واقتناعهم بفكرة الحرب. ولا بد لنا هنا من أن نتصور أية مهمة مستحيلة كانت بانتظار الحسن ليخوضها بجيش مفكك العناصر، مضطرب الولاء، موزع الانتماءات قبلياً وعشائرياً.

بهذه التركيبة العجيبة من المقاتلين التي لم يدخلها سوى قلة مؤمنة ومخلصة، سار الحسن لقتال الجيش الشامي القوي والانضباطي - الذي وصف معاوية عناصره يوماً بأنهم «أطوع جند وأقلهم خلافاً»(١) . وهو يدرك جيداً ان المتاعب لن تأتيه من أعدائه فقط، بل من الانتهازيين داخل جيشه أيضاً الذين يظهرون غير ما يسرون(٢) ، فكان ذلك يزيد من شجونه ويزيد الامور تعقيداً.

_____________________

(١) راجع كتاب تاريخ العرب السياسي (بيضون - زكار) : ٨٢.

(٢) السيد محسن الامين : أعيان الشيعة ٤/٢٢.

٥٠

وكان معاوية قد أدرك بدوره نقطة الضعف هذه في جيش الحسن فاستغلها ببراعة وأخذت مناوراته ودسائسه تفعل فعلها في أوساط المترددين وهم كثرة، وتمكن من تأليب كبار القواد عليه وتخذليهم عنه بشتى المغريات.

ولعل من أقسى ما تعرض له الحسن تواطؤ قائده وابن عمه عبيد الله بن عباس مع معاوية وتسلله الى معسكره ليلاً ومعه القوة الاساسية من الجيش(٢) . وأخذت الأوضاع تتحرج اكثر فأكثر في جبهة الحسن الممزقة حتى وصل الامر الى حد بأن تجرأ عليه بعض جنده فهاجموه في فسطاطه(٣) ، وكمن له رجل متطرف من بني أسد اسمه الجراح بن سنان فأصابه بجرح بليغ في فخذه(٤) . فتراجع الحسن حينئذ الى المدائن لينشغل في مداواة جراحة. كل هذا في الوقت الذي كان فيه معاوية ناشطاً في محاولة استقطاب المزيد من رجالات الحسن(٥) وفي تصعيد حملاته النفسية في صفوف أعدائه.

_____________________

(١) الطبري : ٦/٩٢.

(٢) الاصفهاني : مقاتل الطالبيين : ٤٠ - ٤٢.

(٣) الدينوري : الاخبار الطوال : ٢٣.

(٤) اليعقوبي : ٢/٢٥١.

(٥) أعيان الشيعة : ٤/٤٢.

٥١

وتحت تأثير هذه الظروف المأساوية المؤلمة، ولما آل اليه وضع الجيش العراقي، وفي غمرة هذا الجو المشحون بالتشاؤم في امكانية الصمود والامل بالنصر، استجاب الحسن أخيراً وهو مرغم لعروض معاوية من أجل الصلح بعد أن أبدى هذا الاخير استعداده للموافقة على جميع ما اشترط عليه(١) .

أثارت قضية الحسن ولا تزال الكثير من الجدل. فمن مبالغ متطرف في تقدير مواقفه واجلالها، الى منتقد ظالم اكتفى بالنظرة السطحية الى مجريات الاحداث وتغاضى عن كل الايجابيات. وبالنتيجة كانت شخصية الحسن عرضة لتقويم خاطئ وغير منصف. والحق أنه وجدت هناك أسباب لا ينبغي لأحد تجاهلها في هذا المجال لأنه كان لها الدور المؤثر في عملية الصراع الذي دار بين الحسن ومعاوية او بين العراق والشام باتخاذه بعداً اقليمياً بدأ في صفين وتركز بعد تنازل الحسن ثم تعمق في كربلاء وتحول الى صراع تقليدي على مدى بعيد من الزمن. ومن هذه الاسباب :

١ - فقدان القيادات الشعبية المخلصة التي برزت

_____________________

(١) الطبري : ٦/٩٣.

٥٢

مع علي، القادرة على تحريك الجماهير وضبطها، ابتداء بعمار بن ياسر وانتهاء بالاشتر النخعي، فقد أفلت الزمام في جيش الحسن لافتقاده الى القيادات الفعلية، وهذا الشيء نفسه سيتكرر مع مسلم بن عقيل في الكوفة.

٢ - أدرك الحسن ان موازين القوى غير متكافئة بينه وبين أعدائه خاصة بعد التخلخل الذي أصاب جيشه وظهور الانتهازية فيه. من هنا رجّح خسران المعركة عسكرياً ووجد ان المخاطرة بجيش ضعيف وممزق ستؤدي الى ضرب الحزب الشيعي بكامله وانهيار البقية الباقية من رجالاته المخلصين. وكان هذا بدون شك تقديراً سليماً وبعد نظر من جانب الحسن. وعلى ذلك سنجد ضمن ما اشترطه على معاوية بعد توقيع الصلح اعلان العفو العام، لانه لم يشأ أن يدع تلك النخبة(١) من الحزب في مواجهة معاوية دون أية ضمانات.

_____________________

(١) كان من ابرزها : حجر بن عدي الكندي، وقيس بن سعد بن عبادة، وسليمان بن صرد وغيرهم.

٥٣

معاوية وتحويل الخلافة الى ملك وراثي

بعد تنازل الحسن، سقطت آخر معاقل الخلافة الراشدية، وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ الاسلام مختلفة تماماً في أبعادها ومناهجها عن المرحلة السابقة. وغدت دمشق مركز الحكم وعاصمة الخلافة الاموية التى أرسى قواعدها معاوية. ولقد كان هذا الاخير يمتلك طموحاً بعيداً، فانصرف بكل ما أوتي من جهود الى بناء مجتمع جديد، مطبوع بشخصيته المكيافيلية، ومتأثر برواسبه القبلية الى أبعد حدود التأثر.

كانت مشكلة الحكم من أهم ما التفت اليه معاوية، ولم يقعده بلوغ الخلافة وتحقيق أحلامه في السلطة عن التفكير بها ومحاولة الوصول الى حل جذري لها. وقد رأى في تجارب الخلفاء الذين سبقوه، والازمات التي مرت بها الخلافة، مسوغاً لاحداث تغييرات أساسية في نظام الحكم، بتحويله من نظام قائم على الشورى الى ملكي أوتوقراطي أو بمعنى آخر من حكم اسلامي ديني الى سياسي دنيوي(١) .

وكانت أبرز جوانب هذه المشكلة برأي معاوية، ما

_____________________

(١) لويس : العرب في التاريخ ٨٩.

٥٤

يمكن ان يتمخض عن هذه التغييرات من معارضة، ربما تؤدي الى حرب أهلية. فالحسن منافسه لا زال في المدينة ووراؤه حزب كبير، لن يقبل بأي اجراء يجعل من الخلافة ملكاً متوارثاً لبني أمية، فضلاً عن ان ذلك مناقض للمعاهدة التي عقدت بين الحسن ومعاوية(١) . وكذلك فان الاحزاب الاخرى ستنفر من هذه الفكرة وستقابلها بالرفض.

ولكن معاوية لا تقلقه كثيراً هذه التصورات فهو يعرف جيداً ماذا يريد، ولديه من اخلاص جنوده الشاميين ما يدفعه لتنفيذ مخططاته مهما كان السبيل الى ذلك. بدأ أولاً بتصفية الحسن فأزاح بهذا منافساً رئيسياً من طريقه(٢) . وانتشر رجاله في أقاليم الدولة يبشرون بفكرة الوراثة ويمهدون لقبول الناس بيزيد خليفة بعد أبيه. وكانت مهمة صعبة أمام هؤلاء، لم تقتصر على الاقناع بالمبدأ فقط، ولكن أيضاً حول صلاحية الشخصية المرشحة لولاية العهد التي لم تكن بنظر الناس مؤهلة لتولي منصب حساس كالخلافة.

_____________________

(١) كان من بنودها : ان يكون الامر للحسن بعد معاوية. فان حدث شيء للحسن فلأخيه الحسين، وليس لمعاوية ان يعهد به الى احد : صلح الحسن ٢٥٣ - ٢٥٤. خالد محمد خالد : ابناء الرسول في كربلاء ٨٧.

(٢) المسعودي : مروج الذهب ٢/٤٢٧.

٥٥

على أن ولاية العهد رغم ما أثارته من استهجان في أوساط المسلمين، فقد تمكن معاوية بواسطة أجهزته من أخذ البيعة ليزيد بغير صعوبة فيما عدا اقليمين كان يعرف هو سلفا موقفهما وهما : العراق والحجاز. الاول لرفضه الخلافة الاموية أساساً والتزامه بقضايا مختلفة تماماً، تحركها عوامل سياسية واقليمية واضحة. والثاني كانت لديه نفس الاعتبارات تقريباً مع فارق واحد يعطي له أهمية خاصة بالنسبة لمعاوية. فهو مهد الاسلام ومركز العاصمة الاولى للخلافة وملتقى كبار رجالات الاسلام الذين تمتعوا بالاحترام والتأييد الشعبي الواسع.

واذا كان العراق الذي افتقر حينئذ الى القيادات الفعلية، قد أرغم بمعظمه على البيعة تحت وطأة السلطة الحديدية التي كان على رأسها زياد بن أبيه، فان الحجاز كان له موقفاً أشد صلابة عندما رفض ثلاثة من زعمائه الكبار البيعة ليزيد وهم : الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير(١) .

كان هؤلاء - وهم جميعاً أبناء صحابيين كبار، تولى اثنان منهم (عمر وعلي) الخلافة والثالث (الزبير) نازع علياً عليها وقتل في معركة الجمل - يحظون بمكانة عالية

_____________________

(١) ابن الاثير : ٢/٢٥٢.

٥٦

في الحجاز لا سيما الحسين الذي كان اكثرهم قدرة على تحريك الناس ضد معاوية والامويين. ومن أجل ذلك قرر معاوية أن يجابه الموقف بنفسه في الحجاز ويخوض معركة ولاية العهد مباشرة، فذهب الى المدينة على رأس ألفي فارس وألقى في مسجدها خطبة أشاد فيها بشخصية يزيد المؤهلة - بنظره - لتولي الخلافة، ثم غادرها الى مكة حيث انتقل اليها الزعماء الثلاثة ليبحث معهم مسألة ولاية العهد وليأخذ البيعة منهم طوعاً أو كرهاً. وكان هؤلاء قد كلفوا ابن الزبير محاورته باسمهم فرد عليه وأنكر محاولاته في خرق الشرعية والخروج على سنة الأوائل من الخلفاء. وكان معاوية حاداً في جوابه لابن الزبير اذ قال له مهدداً «أقسم باللّه لئن رد علي أحد منكم كلمة في مقالي هذا لا ترجع اليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى رأسه فلا يبقين رجل الا على نفسه»(١) . وكان أيضاً مناوراً كعادته حيث جمع الناس في المسجد وخطب فيهم : «ان هؤلاء - ويقصد بهم الثلاثة الممتنعين - قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا على اسم الله»(٢) .

وكانت مداهمة معاوية لهؤلاء الزعماء واحراجهم

_____________________

(١) الخضري : محاضرات في تاريخ الامم الاسلامية ١/٨٩.

(٢) ابن الأثير : ٢/٢٥٢.

٥٧

باعلان بيعتهم دون أن يأخذ منهم تصريحاً بذلك نهاية المطاف بالنسبة للجدل الذي أثير حول ولاية العهد. ولم يكن أمام زعماء الحجاز الا التسلح بالصبر والانضمام الى فريق الساخطين الذي أخذ حجمه يزداد يوماً بعد آخر، بانتظار الظروف الملائمة للتعبير بالوسائل السلبية عن الرفض المطلق لنظام الوراثة في الحكم الذي ابتدعه معاوية.

الاحوال السياسية داخل العراق

لنعد الى الوراء قليلاً، الى بدايات التحرك الشيعي في العراق بعد استسلام هذا الأخير الى معاوية. وهو استسلام لم يكن في جوهره أكثر من استجابة للامر الواقع واعتراف اكراهي بالخلافة الاموية. فقد كانت هذه التغييرات السياسية تحمل في صميمها، الكارثة للعراقيين الذين التزموا مصيرياً بالقضية العلوية ووقفوا الى جانب علي الذي جعل من عراقهم مركز الحكم في الاسلام، بما يعنيه ذلك من أهمية سياسية واقتصادية وما يعكسه من شعور بالتفوق، أصبح الآن أكثر وضوحاً من قبل.

واذ ينقلب الموقف وتتحطم الاحلام وتنهار المكاسب، كان لا بد من تقويم لما جرى ووضع الامور في نصابها. وفي غمرة ذلك وجد العراقيون أنفسهم يتحملون وزر هذا المصير الذي آلوا اليه، ويتتبعون بأسى الصورة القاتمة

٥٨

لمستقبلهم السياسي في ظل السيادة الاموية. ولم يكن هنالك ادنى ريب في أن أية مقارنة بين النظام السابق والنظام الجديد ليست في بال على الاطلاق. فمعاوية ما كاد يستتب له الامر في العراق، حتى انهارت تلك الصورة الزائفة التي اقترنت بها شخصيته، القائمة على الحنكة والدهاء.. فاذا به في العراق انساناً آخراً ونموذجاً مختلفاً.

وكان معاوية يعرف جيداً أن أقلية ضئيلة فقط بايعته ربما على قناعة أو سعياً وراء مصلحة خاصة. أما الغالبية فقد بايعته مكرهة وتحت التهديد. وكان يعرف أيضاً أن هذه الفئة الرافضة بمختلف فصائلها ستنقلب عليه، ان لم يكن اليوم فغداً.

أخذت ملامح السياسة الجديدة للخليفة الاموي، القائمة على التحدي والاستفزاز والمبادرة بالعنف، تتبلور بالنسبة للعراق وتوحي بأن أحداثاً خطيرة سيشهدها هذا الاقليم. فقد أرسل معاوية أحد البارزين في نظامه وهو المغيرة بن شعبة، والياً على الكوفة ومعه صلاحيات مطلقة، وتوجيهات بشتم علي من فوق منبر المسجد، ومراقبة تحركات زعماء الشيعة وملاحقة المتحمسين منهم للقضية العلوية(١) . ولقد نفذ المغيرة باخلاص تعليمات سيده،

_____________________

(١) فلهوزن : الخوارج والشيعة ١٤٩.

٥٩

ولكن بأسلوبه المرن الذي عرف عنه. فشغل الكوفيين بحرب الخوارج ودفع بصفوة زعمائهم الى أتونها، ليصرفهم عن مقارعة السلطة واثارة المشاكل ضدها. وقد لاقت سياسته نجاحاً نسبياً في هذا المجال، ولكن التجرؤ على مهاجمة الخليفة الراشدي لم يستسغه الكوفيون ووجدوا فيه اهانة صريحة لهم وانتهاكاً لقيمهم ومعتقداتهم. وكان أن اصطدم المغيرة بعدد من زعمائهم كحجر بن عدي أحد أبرز رجالات قبيلة كندة الشهيرة وأول من ثار بشدة على سياسة التجريح بالخليفة السابق، وصعصعة بن صوحان من بني عبد القيس(١) الذي نفي بأمر من المغيرة - بعد أن ضاق بمعارضته - ومات في منفاه(٢) .

ورغم ما أظهره المغيرة من براعة في حكم مدينة تعج بالمتطرفين من أعداء النظام الذي يمثله، فان ذلك لم يعجب معاوية، الذي أخذ عليه تساهله مع العلويين وبشكل خاص موقفه ازاء حجر بن عدي(٣) . ويحلل المغيرة هذا الموقف أمام منتقديه من أقاربه وامام معاوية(٤) بأنه تقدم في السن ولا يجب أن يبتدأ عمله في الكوفة بسفك دماء رجالها وقتل زعمائها(٥) .

_____________________

(١) الطبري : ٦/١٠٦.

(٢) ثابت الراوي : العراق في العصر الاموي ١٤٠.

(٣) الدينوري : الاخبار الطوال ٢٣٦.

(٤) فلهوزن : الخوارج والشيعة ١٤٩ - ١٥٠.

(٥) الطبري : ٦/١٤٢.

٦٠