وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى الجزء ١
0%
مؤلف: نور الدين علي بن أحمد السّمهودي
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الناشر: دار الكتب العلميّة
تصنيف: مكتبة الحديث وعلومه
ISBN: 2-7451-3818-9
الصفحات: 293
مؤلف: نور الدين علي بن أحمد السّمهودي
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الناشر: دار الكتب العلميّة
تصنيف: مكتبة الحديث وعلومه
ISBN: 2-7451-3818-9
الصفحات: 293
موضع يقال له قارع الهيلاء على قرب من مساكن قريظة شرقي قباء ، فهي بين قريظة وموضع يقال له أحيليين ، فثارت من هذا القاع ، ثم امتدت فيه آخذة في الشرق إلى قريب من أحيليين ، ثم عرجت واستقبلت الشام سائلة إلى أن وصلت إلى موضع يقال له قرين الأرنب بقرب من أحد ، فوقفت وانطفت وانصرفت ، انتهى.
من فوائد هذه النار
قال المؤرخون : واستمرت هذه النار مدة ظهورها تأكل الأحجار والجبال ، وتسيل سيلا ذريعا في واد يكون طوله مقدار أربعة فراسخ وعرضه أربعة أميال وعمقه قامة ونصف ، وهي تجري على وجه الأرض والصخر يذوب حتى يبقى مثل الآنك(١) ، فإذا خمد اسودّ بعد أن كان أحمر ، ولم يزل يجتمع من هذه الحجارة المذابة في آخر الوادي عند منتهى الحرة حتى قطعت في وسط وادي الشظاة إلى جهة جبل وعيرة ، فسدت الوادي المذكور بسد عظيم من الحجر المسبوك بالنار ولا كسد ذي القرنين ، يعجز عن وصفه الواصف ، ولا مسلك لإنسان فيه ولا دابة.
قلت : وهذا من فوائد إرسال هذه النار ؛ فإن تلك الجهة كثيرا ما يطرق منها المفسدون لكثرة الأعراب بها ؛ فصار السلوك إلى المدينة متعسّرا عليهم جدّا.
قال القسطلاني : أخبرني جمع ممن أركن إلى قولهم إن النار تركت على الأرض من الحجر ارتفاع رمح طويل على الأرض الأصلية.
قال المؤرّخون : وانقطع وادي الشظاة بسبب ذلك ، وصار السيل إذا سال ينحبس خلف السد المذكور حتى يصير بحرا مد البصر عرضا وطولا ، فانخرق من تحته في سنة تسعين وستمائة لتكاثر الماء من خلفه ، فجرى في الوادي المذكور سنتين كاملتين ، أما السنة الأولى فكان قد ملأ ما بين جانبي الوادي ، وأما الثانية فدون ذلك ، ثم انخرق مرة أخرى في العشر الأول بعد السبعمائة فجرى سنة كاملة أو أزيد ، ثم انخرق في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة وكان ذلك بعد تواتر أمطار عظيمة في الحجاز ، فكثر الماء وعلا من جانبي السد ومن دونه مما يلي جبل وعيرة وتلك النواحي ، فجاء سيل طام لا يوصف ، ولو زاد مقدار ذراع في الارتفاع وصل إلى المدينة ، وكان أهل المدينة يقفون خارج باب البقيع على التل الذي هناك فيشاهدونه ويسمعون خريرا توجل القلوب دونه ، فسبحان القادر على ما يشاء!
__________________
(١) الآنك : الرصاص.
النذر الحادثة في عام النار والذي يليه
ومن العجائب أن في السنة التي ظهرت فيها هذه النار احترق المسجد الشريف النبوي بعد انطفائها كما سيأتي ، وزادت دجلة زيادة عظيمة فغرق أكثر بغداد وتهدمت دار الوزير ، وكان ذلك إنذارا لهم ، وليتهم اتعظوا.
ثم في أول السنة التي تلي هذه السنة وقعت الطامة الكبرى ، وهي أخذ التتار لبغداد وقتل الخليفة المستعصم وبعده المسلمون ، وبذل السيف ببغداد نيفا وثلاثين يوما ، وأخرجت الكتب فألقيت تحت أرجل الدواب ، وشوهد بالمدرسة المستنصرية معالف الدواب مبنية بالكتب موضع اللبن(١) ، وخلت بغداد من أهلها ، واستولى عليها الحريق على ما ذكره سعيد الذهلي ، واحترقت دار الخلافة ، وعم الحريق أكثر الأماكن حتى القصور البرانية وترب الرصافة مدفن ولاة الخلافة ، وشوهد على بعض حيطان منها مكتوب :
إن ترد عبرة فهذا بنو |
العباس دارت عليهم الدائرات |
|
استبيح الحريم إذ قتل الأحي |
اء منهم وأحرق الأموات |
ثم كثر الموت والفناء ببغداد ، وطوى بساط الخلافة منها من ذلك الزمان ، فلله الخلق والأمر!
وقد نظم بعضهم خروج هذه النار وغرق بغداد ، وأصلحه أبو شامة منبها على أن الأمرين في سنة بقوله :
سبحان من أصبحت مشيئته |
جارية في الورى بمقدار |
|
في سنة أغرق العراق ، وقد |
أحرق أرض الحجاز بالنار |
بعض ما يناسب هذه النار
قال المجد : ومما يناسب هذه النار ويضاهيها ما حكاه ابن جبير أنه رأى من أخبره أن في بحر رومية جزيرتين يخرج منهما النار دائما ، قال : وأبصرنا الدخان صاعدا منهما ، وتظهر بالليل نار حمراء ذات ألسن تصعد في الجو ، قال : وأعلمنا أن خروجها من جبلين يصعد منهما نفس ناري شديد ، وربما قذف فيها الحجر فتلقى به مسودا إلى الهواء بقوة ذلك النفس ، وتمنعه من الانتهاء إلى القعر ، قال : وأما الجبل الشامخ الذي بالجزيرة المعروف بجبل النار فشأنه أيضا عجيب ، وذلك أن نارا تخرج منه في بعض السنين كالسيل
__________________
(١) اللّبن : المضروب من الطين النيئ يا بنى به دون أن يطبخ.
العرم ؛ فلا تمر بشيء إلا أحرقته ، حتى تنتهي إلى البحر فتركب ثبجه(١) طائرة على صفحته حتى تغوص فيه.
شأن خالد بن سنان العبسي
قلت : وأقرب من ذلك في مناسبة هذه النار ما ذكره ابن شبة في أخبار المدينة ـ عند ذكر خالد بن سنان العبسي الذي قال النبيصلىاللهعليهوسلم لما جاءته بنته «هذه ابنة نبي ضيعه قومه» ـ فروى ابن شبة في خبره من طرق ما ملخصه أنه كان بأرض الحجاز نار يقال لها نار الحدثان (حرة بأرض بني عبس) تعشى الإبل(٢) بضوئها من مسيرة ثماني ليال ، وربما خرج منها العنق فذهب في الأرض فلا يبقي شيئا إلا أكله ، ثم يرجع حتى يعود إلى مكانه ، وإن الله تعالى أرسل إليها خالد بن سنان ، فقال لقومه : يا قوم ، إن الله أمرني أن أطفئ هذه النار التي قد أضرت بكم فليقم معي من كل بطن رجل ، فخرج بهم حتى انتهى إلى النار فخط عليهم خطا ثم قال : إياكم أن يخرج أحد منكم من هذا الخط فيحترق ، ولا ينوهن باسمي فأهلك ، وجعل يضرب النار ويقول : بدا بدا(٣) كل هدي لله مودا ، حتى عادت من حيث جاءت ، وخرج يتبعها حتى ألجأها في بئر في وسط الحرة منها تخرج النار ، فانحدر فيها خالد. وفي درة الغواص : فإذا هو بكلاب تحتها فرضهن بالحجارة ، وضرب النار حتى أطفأها الله على يده ، ومعهم ابن عم له ، فجعل يقول : هلك خالد ، فخرج وعليه بردان ينطفان(٤) من العرق وهو يقول : كذب ابن رايعة المعزى لأخرجنّ منها وثيابي تندى ، فسموا بني ذلك الرجل «بني راعية المعزى» إلى اليوم ، وفي رواية أن قومه سالت عليهم نار من حرة النار في ناحية خبير ، والناس في وسطها ، وهي تأتي من ناحيتين جميعا ، فخافها الناس خوفا شديدا. وفي رواية : وهي تخرج من شق جبل من حرة يقال لها حرة أشجع ، فقال لهم خالد بن سنان : ابعثوا معي إنسانا حتى أطفئها من أصلها ، فخرج معه راعي غنم ، وهو ابن راعية ، حتى جاء غارا تخرج منه النار. وفي رواية : أنها كانت تخرج من بئر ، ثم قال خالد للراعي : أمسك ثوبي ، ثم دخل في الغار ، وفي رواية : أنه انطلق في ناس من قومه حتى أتوها ، وقال لهم : إن أبطأت عنكم فلا تدعوني باسمي ، فخرجت كأنها خيل شقر يتبع بعضها بعضا ، فاستقبلها خالد فجعل يضربها بعصاه ويقول :هديا هديا ، كل نهب مودى ، زعم ابن راعية المعزى ، أني لا أخرج منها وثيابي تندى ،
__________________
(١) ثبج البحر : وسطه (ج) أثباج وثبوج.
(٢) عشا بصره : ساء بصره ليلا.
(٣) بدا بدا : تبدّدي وتفرّقي.
(٤) نطف ـ نطفانا : جهد حتى نطف عرقه.
حتى دخل معها الشعب ، فأبطأ عليهم ، فقال بعضهم : لو كان حيّا لخرج إليكم ، فقالوا : إنه قد نهاها أن ندعوه باسمه ، قال : ادعوه باسمه ، فو الله لو كان حيّا لخرج إليكم بعد ، فدعوه باسمه ، فخرج وهو آخذ برأسه ؛ فقال : ألم أنهكم أن تدعوني باسمي؟ قد والله قتلتموني ، احملوني وادفنوني ، فإذا مرت بكم حمر معها حمار أبتر ، وفي رواية فإذا دفنتموني وأتى عليّ ثلاثة أيام فأتوا قبري ، فإذا عرضت لكم عانة(١) من حمر وحش وبين يديها عير فانبشوني فإني أقوم فأخبركم ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فأتوا القبر بعد ثلاث وسنحت لهم الحمر ، فأرادوا نبشه ، فمنعهم قوم من أهل بيته ، وقالوا : لا ندعكم تنبشون صاحبنا فنعير بذلك ، وفي رواية : فيكون سبة علينا ، فتركوه.
وفي رواية لابن القعقاع بن خليد العبسي عن أبيه عن جده ، قال : بعث الله خالد بن سنان نبيا إلى بني عبس ، فدعاهم فكذبوه ، فقال قيس بن زهير : إن دعوت فأسيل علينا هذه الحرة نارا اتبعناك ؛ فإنك تخوفنا بالنار ، وإن لم تسل نارا كذبناك ، قال : فذلك بيني وبينكم؟
قالوا : نعم ، قال : فتوضأ ثم قال : اللهم إن قومي كذّبوني ولم يؤمنوا برسالتي إلا أن تسيل عليهم هذه الحرة نارا ، فأسلها عليهم نارا ، قال : فطلع مثل رأس الحريش(٢) ، ثم عظمت حتى عرضت أكثر من ميل ، فسالت عليهم ، فقالوا : يا خالد ارددها فإنا مؤمنون بك ، فتناول عصا ثم استقبلها بعد ثلاث ليال فدخل فيها فضربها بالعصا ، فلم يزل يضربها حتى رجعت ، قال : فرأيتنا نعشى الإبل على ضوء نارها ضلعا الربذة وبين ذلك ثلاث ليال.
قف على كرامة لتميم الداري
وروى له ابن شبة أخبارا أخرى مع قومه ، وروى البيهقي في دلائل النبوة في باب «ما جاء في الكرامة التي ظهرت على تميم الداري شرفا للمصطفىصلىاللهعليهوسلم وتنويها باسم من آمن به ، عن معاوية بن حرمل ، وذكر خبرا في قدومه المدينة ، وقول عمر له : اذهب إلى خير المؤمنين فانزل عليه ، ثم قال : فبينا نحن ذات يوم إذ خرجت نار بالحرة ، فجاء عمررضياللهعنه إلى تميم الداريرضياللهعنه ، فقال : قم إلى هذه النار ، فقال : يا أمير المؤمنين ومن أنا؟ قال : فلم يزل به حتى قام معه ، قال : وتبعتهما فانطلقا إلى النار ، فجعل تميم يحوشها(٣) بيده حتى دخلت الشعب ، ودخل تميم خلفها ، فجعل عمر يقول : ليس من رأى كمن لم ير ، قالها ثلاثا ، والله أعلم.
__________________
(١) العانة : القطيع من حمر الوحش. العير : الحمار.
(٢) الحريش : جنس حيوانات من كثيرات الأرجل الشفوية.
(٣) حاش ـ الدواب ـ حوشا : ساقها وجمعها.
الباب الثالث
في أخبار سكانها في سالف الزمان ، ومقدمهصلىاللهعليهوسلم إليها ،
وما كان من أمره بها في سنين الهجرة ، وفيه اثنا عشر فصلا
الفصل الأول
في سكانها بعد الطوفان ، وما ذكر في سبب نزول اليهود بها ، وبيان منازلهم
نزول عبيل بيثرب
أسند الكلبي عن ابن عباس أن مخرج الناس من السفينة نزلوا طرف بابل ، وكانوا ثمانين نفسا ، فسمى الموضع سوق الثمانين ، قال : وطول بابل مسيرة عشرة أيام واثني عشر فرسخا ، فمكثوا بها حتى كثروا ، وصار ملكهم نمروذ بن كنعان بن حام ، فلما كفروا بلبلوا ، فتفرقت ألسنتهم على اثنين وسبعين لسانا ، ففهّم الله العربية منهم عمليق وطسم ابني لوذا بن سام ، وعادا وعبيل ابني عوص بن أرم بن سام ، وثمود وجديس ابني جاثق بن أرم بن سام ، وقنطور بن عابر بن شالخ بن أرفحشذ بن سام ، فنزلت عبيل يثرب ، ويثرب اسم ابن عبيل ، ثم أخرجوا منها فنزلوا الجحفة ، فجاءهم سيل أجحفهم فيه ، فلهذا سميت جحفة ، فرثاهم رجل منهم فقال :
عين جودي على عبيل وهل ير |
جع من فات بيضها بالسحام؟ |
|
عمروا يثربا وليس بها شف |
ر ولا صارخ ولا ذو سنام |
|
غرسوا لينها بمجرى معين |
ثم حفوا النخيل بالآجام |
أول من سكن يثرب
وقال أبو القاسم الزجاجي : أول من سكن المدينة عند التفرق يثرب بن قاينة ابن مهلائيل بن أرم بن عبيل بن عوص بن أرم بن سام بن نوحعليهالسلام ، وبه سميت يثرب ، وروي عن ابن عباس ما يدل له.
سكنى العماليق المدينة
وقال ياقوت : كان أول من زرع بالمدينة ، واتخذ بها النخل ، وعمر بها الدور والآطام ، واتخذ بها الضياع ، العماليق ، وهم بنو عملاق بن أرفخشذ بن سام بن نوح ،
وكانت العماليق ممن انبسط في البلاد ، فأخذوا ما بين البحرين وعمان والحجاز كله إلى الشام ومصر ، وجبابرة الشام وفراعنة مصر منهم ، وكان منهم بالبحرين وعمان أمة يسمون جاسم ، وكان ساكن المدينة منهم بنو هف وبنو مطرويل ، وكان ملكهم بالحجاز الأرقم بن أبي الأرقم.
وأسند ابن زبالة عن زيد بن أسلم أن ضبعا رؤيت وأولادها رابضة في حجاج عين رجل من العماليق ـ والحجاج ، بكسر أوله وفتحه : العظم الذي ينبت عليه الحاجب ـ قال زيد بن أسلم : وكان تمضي أربعمائة سنة وما يسمع بجنازة.
قوم من اليهود ينزلون المدينة
وأسند رزين عن أبي المنذر الشرقي قال : سمعت حديث تأسيس المدينة من سليمان بن عبيد الله بن حنظلة الغسيل ، قال : وسمعت أيضا بعض ذلك من رجل من قريش عن أبي عبيدة بن عبد الله بن عمار بن ياسر ، قال : فجمعت حديثهما لكثرة اتفاقه وقلة اختلافه ، قالا : بلغنا أنه لما حج موسى صلوات الله عليه حج معه أناس من بني إسرائيل ، فلما كان في انصرافهم أتوا على المدينة ، فرأوا موضعها صفة بلد نبي يجدون وصفه في التوراة بأنه خاتم النبيّين ، فاشتورت طائفة منهم على أن يتخلفوا به ، فنزلوا في موضع بني قينقاع ، ثم تألفت إليهم أناس من العرب فرجعوا على دينهم ، فكانوا أول من سكن موضع المدينة.
وذكر بعض أهل التواريخ أن قوما من العمالقة سكنوه قبلهم ، قلت : وهو الأرجح.
داود النبي يغزو سكان المدينة
وأسند ابن زبالة مصدّرا به كتابة في بدء من سكنها عن مشيخة من أهل المدينة قالوا : كان ساكن المدينة في سالف الزمان صعل وفالج ، فغزاهم داود النبي عليه الصلاة والسلام ، وأخذ منهم مائة ألف عذراء ، قالوا : وسلط الله عليهم الدود في أعناقهم فهلكوا ، فقبورهم هذه التي في السهل والجبل ، وهي التي بناحية الجرف ، وبقيت امرأة منهم تعرف بزهرة ، وكانت تسكن بها ، فاكترت من رجل وأرادت الخروج إلى بعض تلك البلاد ، فلما دنت لتركب غشيها الدود ، فقيل لها : إنا لنرى دودا يغشاك ، فقالت : بهذا هلك قومي ، ثم قالت : ربّ جسد مصون ، ومال مدفون ، بين زهرة ورانون ، قالوا : وقتلها الدود.
قلت : وداود بعد موسىعليهماالسلام ، وكان يدعو إلى شريعته.
وقد عبّر ابن النجار عما سبق بقوله : قال أهل السير : أول من نزل المدينة بعد غرق قوم نوح قوم يقال لهم صعل وفالج ، وذكر قصة داود ملخصة ، ثم قال : قالوا : وكان قوم من الأمم يقال لهم : بنو هف وبنو مطر وبنو الأزرق فيما بين مخيض إلى غراب الضائلة إلى القصاصين إلى طرف أحد ؛ فتلك آثارهم هنالك.
وروى ابن زبالة عند ذكر جماء أم خالد بوادي العقيق عن عثمان بن عبد الرحمن قال : وجد قبر في الجماء عليه حجر مكتوب فيه فهبط بالحجر فقرأه رجل من أهل اليمن ، فإذا فيه : أنا عبد الله رسول رسول اللهصلىاللهعليهوسلم سليمان بن داود إلى أهل يثرب ، وأنا يومئذ على الشمال.
وروى أيضا عن عمر بن سليم الزرقي قال : رقينا الجماء فوجدنا قبرا إرميا على رأسها عنده حجران مكتوبان لا تقرأ كتابتهما ، فحملناهما ، فثقل علينا أحدهما فرميناه في الجماء ، وأخذت الآخر ، فكان عندي ، فعرضته على أهل التوراة من يهود فلم يعرفوه ، ثم عرضته على أهل الإنجيل من النصارى فلم يعرفوه ، فأقام عندي حتى دخل المدينة رجلان من أهل ماه ، فسألتهما : هل كان لكم كتاب؟ قالا : نعم ، فأخرجت إليهما الحجر ، فقرآه فإذا فيه : أنا عبد الله الأسود رسول رسول الله عيسى بن مريم إلى أهل قرى عرينة ، وقالا : نحن كنا أهل هذه القرية في أس(١) الدهر ، وسيأتي بقية ما جاء في ذلك في رابع فصول الباب السابع.
مهلك العماليق بالحجاز
وأسند ابن زبالة أيضا عن عروة بن الزبير قال : كانت العماليق قد انتشروا في البلاد ، فسكنوا مكة والمدينة والحجاز كله ، وعتوا عتوّا كبيرا ، فلما أظهر الله موسىعليهالسلام على فرعون وطئ الشام وأهلك من بها ، يعني من الكنعانيين وقيل : بعث إليهم بعثا ، فأهلك من كان بها منهم ، ثم بعث بعثا آخر إلى الحجاز للعماليق ، وأمرهم أن لا يستبقوا أحدا منهم بلغ الحلم ، فقدموا عليهم ، فأظهرهم الله فقتلوهم ، حتى انتهوا إلى ملكهم الأرقم بن أبي الأرقم فقتلوه ، وأصابوا ابنا له ـ وكان شابا من أحسن الناس ـ فضنوا به عن القتل ، وقالوا : نستحييه حتى نقدم به على نبي الله موسىعليهالسلام فيرى فيه رأيه ، فأقبلوا وهو معهم ، فقبض الله موسى قبل قدوم الجيش ، فلما سمع بهم الناس تلقوهم فسألوهم فأخبروهم بالفتح ، وقالوا : لم نستبق منهم إلا هذا الفتى ، فإنا لم نر شابا أحسن
__________________
(١) الأس : الأساس. و ـ من الدهر : قدمه.
منه ، فتركناه حتى نقدم به على نبي الله موسىعليهالسلام فيرى فيه رأيه ، فقالت لهم بنو إسرائيل : إن هذه لمعصية منكم لما خالفتم أمر نبيكم ، لا والله لا تدخلون علينا بلادنا أبدا ، فقال الجيش : ما بلد إذ منعتم بلادكم بخير من البلد الذي خرجتم منه ، وكان الحجاز إذ ذاك أشجر بلاد الله وأظهره ماء ، قال : وكان هذا أول سكنى اليهود الحجاز بعد العماليق.
سبب نزول اليهود المدينة
وفي الروض الأنف عن أبي الفرج الأصبهاني أن السبب في كون اليهود بالمدينة ـ وهي وسط أرض العرب ـ أن بني إسرائيل كانت تغير عليهم العماليق من أرض الحجاز ، وكانت منازلهم يثرب والجحفة إلى مكة ، فشكت بنو إسرائيل ذلك إلى موسى ، فوجه إليهم جيشا ، وذكر نحو ما تقدم ، ثم قال : وأصح من هذا ما ذكره الطبري أن نزول بني إسرائيل بالحجاز كان حين وطئ بختنصر بلادهم بالشام وخرب بيت المقدس ، انتهى.
وحكى ابن النجار عن بعض العلماء أن سببه أن علماءهم كانوا يجدون صفة رسول اللهصلىاللهعليهوسلم في التوراة ، وأنه يهاجر إلى بلد فيه نخل بين حرتين ، فأقبلوا من الشام يطلبون الصفة ، فلما رأوا تيماء وفيها النخل نزلها طائفة منهم ، وظن طائفة أنها خيبر فنزلوها ، ومضى أشرفهم وأكثرهم فلما رأوا يثرب سبخة وحرة وفيها النخل قالوا : هذه البلد التي تكون مهاجر النبي العربي عليه الصلاة والسلام ، فنزل النضير بطحان ، ثم حكى ما سيأتي من نزول قريظة والنضير بمذينيب ومهزور.
وحكى ياقوت عن بعض علماء الحجاز من يهود أن سبب نزولهم الحجاز أن ملك الروم حين ظهر على بني إسرائيل وملك الشام خطب إلى بني هرون ، وفي دينهم أن لا يزوجوا النصارى ، فخافوه وأنعموا له ، وسألوه أن يشرفهم بإتيانه إليهم ، فأتاهم ، ففتكوا به وبمن معه ، ثم هربوا حتى لحقوا بالحجاز فأقاموا بها ، وزعم بنو قريظة أن الروم لما غلبوا على الشام خرج قريظة والنضير وهدل هاربين من الشام يريدون من كان بالحجاز من بني إسرائيل ، فوجه ملك الروم في طلبهم ؛ فأعجزوا رسله ، وانتهى الرسل إلى ثمد(١) بين الحجاز والشام فماتوا عنده عطشا ، فسمي الموضع «ثمد الروم» وهو معروف بذلك ، والله أعلم أي ذلك كان.
وروى بعض أهل السير عن أبي هريرةرضياللهعنه ، قال : بلغني أن بني إسرائيل لما أصابهم ما أصابهم من ظهور بخت نصر عليهم وفرقتهم وذلتهم تفرقوا ، وكانوا يجدون
__________________
(١) الثمد : الماء القليل الذي ليس له مدد. و ـ المكان يجتمع فيه الماء.
محمداصلىاللهعليهوسلم منعوتا في كتابهم ، وأنه يظهر في بعض هذه القرى العربية في قرية ذات نخل ، ولما خرجوا من أرض الشام كانوا يعبرون كل قرية من تلك القرى العربية بين الشام واليمن يجدون نعتها نعت يثرب ، فينزل بها طائفة منهم ، ويرجون أن يلقوا محمدا فيتبعونه ، حتى نزل من بني هرون ممن حمل التوراة بيثرب منهم طائفة ، فمات أولئك الآباء وهم يؤمنون بمحمدصلىاللهعليهوسلم أنه جاء ، ويحثون أبناءهم على اتباعه إذا جاء ، فأدركه من أبنائهم فكفروا به وهم يعرفونه : أي حسدا للأنصار حيث سبقوهم إليه.
وقال ابن زبالة عقب ما قدمناه عنه من عود الجيش من بني إسرائيل إلى الحجاز وسكناهم المدينة : فركحوا منها حيث شاءوا ـ أي : تفسحوا وتبوؤوا ـ فكان جميعهم بزهرة ، وكانت لهم الأموال بالسافلة ، وزهرة ثبرة ـ أي أرض سهلة بين الحرة والسافلة مما يلي القف ـ ونزل جمهورهم بمكان يقال له يثرب بمجتمع السيول مما يلي زغابة ، قالوا : وكانت يثرب سقيفة طويلة فيها بغايا يضرب إليهن من البلدان ، وكانوا يروحون في قرية يثرب ثمانين جملا جونا(١) سوى سائر الألوان.
ثم أسند عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : وخرجت قريظة وإخوانهم بنو هدل وعمرو أبناء الخزرج بن الصريح بن السبط بن اليسع بن سعد بن لاوى بن جبر بن النحام بن عازر بن عيرز بن هرون بن عمرانعليهالسلام والنضير بن النحام بن الخزرج بن الصريح بعد هؤلاء ، فتبعوا آثارهم ، فنزلوا بالعالية على واديين يقال لهما مذينيب ومهزور ، فنزلت بنو النضير على مذينيب واتخذوا عليه الأموال فكانوا أول من احتفر بها ـ أي بالعالية ـ الآبار وغرس الأموال ، قال : ونزل عليهم بعض قبائل العرب فكانوا معهم ، فاتخذوا الأموال ، وابتنوا الآطام والمنازل.
وأسند هو وابن شبة أيضا عن جابر مرفوعا : أقبل موسى وهارون حاجّين فمرا بالمدينة ، فخافا من يهود ، فخرجا مستخفيين ، فنزلا أحدا ، فغشى هارون الموت ، فقام موسى فحفر له ولحد ، ثم قال : يا أخي إنك تموت ، فقام هارون فدخل في لحده ، فقبض(٢) عليه موسى التراب.
__________________
(١) الجون : الأسود تخالطه الحمرة.
(٢) حثا عليه التراب : أهال عليه التراب.
قلت : وإسناد ابن شبة لا بأس به ، غير أن فيه رجلا لم يسمّ ، وسماه ابن زبالة ، وذلك المسمى لا بأس به أيضا ، لكن ابن زبالة لا يعتمد عليه في ذلك ، وهو دال على أن اليهود نزلوا المدينة في زمن موسىعليهالسلام ، وطالت مدتهم بها في حياته ، حتى وقع منهم ما يقتضي خوفه منهم عند مروره ، وهو إنما يتأتى على ما قدمناه من أنه لما حج ومعه ناس من بني إسرائيل فرأوا موضع المدينة صفة بلد خاتم النبيين ، فاشتورت طائفة منهم على أن يتخلفوا به ، ويكون ما اتفق لموسى وهارونعليهماالسلام في حجة أخرى بعد ذلك ، وسيأتي في مسجد عرق الظبية بالروحاء حديث «ولقد مر به موسى بن عمران حاجّا ومعتمرا في سبعين ألفا من بني إسرائيل» ومن الغريب ما نقل الحافظ ابن حجر عن كتاب الأنواء لعبد الملك بن يوسف قال : إن قريظة كانوا يزعمون أنهم من ذرية شعيب نبي اللهعليهالسلام ، وإن ذلك محتمل ؛ فإن شعيبا كان من بني جذام القبيلة المشهورة ـ قال الحافظ ابن حجر : وهو بعيد جدّا ـ ونقل ابن زبالة ما حاصله : أن ممن كان من العرب مع يهود قبل الأنصار بنو أنيف حي من بلي ، ويقال : إنهم بقية من العماليق ، وبنو مريد حي من بلى ، وبنو معاوية بن الحارث بن بهثة بن سليم ، وبنو الجذماء حي من اليمن ، وكانت الآطام عزّ أهل المدينة ومنعتهم التي كانوا يتحصنون فيها من عدوهم ، وروى حديث النهي عن هدم آطام المدينة ، قال : وكان لبني أنيف بقباء : الأجش عند البئر التي يقال لها لاوة ، وأطمان فيما بين المال الذي يقال لها الماثة والمال الذي يقال له القائم ، وآطام عند بئر عذق وغيرها ، قال شاعرهم فيها :
ولو نطقت يوما قباء لخبرت |
بأنّا نزلنا قبل عاد وتبّع |
|
وآطامنا عاديّة مشمخرّة |
تلوح فتنكى من نعادي وتمنع |
بقايا اليهود بالمدينة
وكان ممن بقي من اليهود ـ حين نزلت عليهم الأوس والخزرج ـ جماعات منها بنو القصيص وبنو ناغصة كانوا مع بني أنيف بقباء ، وكان بقباء رجل من اليهود يقال «إنه من بني النضير» كان له أطم يقال له «عاصم» كان في دار ثوبة بن حسين بن السائب بن أبي لبابة ، وفيه البئر الذي يقال لها قباء ، وقيل : إن بني ناغصة حي من اليمن كانت منازلهم في شعب بني حرام حتى نقلهم عمر بن الخطاب إلى مسجد الفتح ، ومنها بنو قريظة في دارهم المعروفة بهم اليوم ، وكان لهم بها آطام : من ذلك أطم الزبير بن باطا القرظي ، كان موضعه في موضع مسجد بني قريظة ، وأطم كعب بن أسد يقال له بلحان بالمال الذي يقال له الشجر ، وله يقول الشاعر :
من سره رطب وماء بارد |
فليأت أهل المجد من بلحان |
وكان مع قريظة في دارهم إخوتهم بنو هدل وبنو عمرو المقدم ذكرهم ، وإنما سمي هدلا بهدل كان في شفته ، ومن ولده ثعلبة وأسد ابنا سعيّة وأسد بن عبيد ورفاعة بن سموأل وسخيت ومنبه ابنا هدل ، ومنها بنو النضير في النواعم ، ومنهم كعب بن الأشرف ، وكان لهم عامة أطم في المال الذي يقال له فاضجة ، وأطم في زقاق الحارث دبر قصر ابن هشام دون بني أمية بن زيد كان لعمر بن جحاش ، وأطم البويلة ، وغير ذلك ، هذا ما ذكره ابن زبالة.
ونقل ابن عساكر عن الواقدي أنه قال : كانت منازل بني النضير بناحية الغرس.
قلت : والظاهر أنهم كانوا بالنواعم ، وتمتد منازلهم وأموالهم إلى ناحية الغرس وإلى ناحية الصافية وما معها من صدقات النبيصلىاللهعليهوسلم وبعض منازلهم كانت بجفاف ؛ لأن فاضجة به ، ورأيت بالحرة في شرقي النواعم آثار حصون وقرية بقرب مذينيب يظهر أنها من جملة منازلهم ، وأن ما في قبلة ذلك في شرقي العهن من منازل بني أمية بن زيد كما سيأتي ، ومنها بنو مريد في بني خطمة وناعمة إبراهيم بن هشام ، وكان لهم أطم يعرف بهم فيه بئر ، ومنها بنو معاوية في بني أمية بن زيد ، ومنها بنو ماسكة بقرب صدقة مروان بن الحكم مما يلي صدقة النبيصلىاللهعليهوسلم وكان لهم الأطمان اللذان في القف في القرية ، ومنها بنو محمم في المكان الذي يقال له بنو محمم ، وكان لهم المال الذي يقال له خناقة ، معروف اليوم ، وكان رجل منهم قطع يد رجل في الجاهلية فقال المقطوع : أعطني خناقة عقلا بيدي ، فأبى ، وحفر للذي قطعه كوة في خناقة ، ثم أخرج يده منها من وراء الحائط وقال : اقطع ، فقطع يده ، فقال حين قطع يده :
الآن قد طابت ذرى خنافة |
طابت فلا جوع ولا مخافة |
ومنها بنو زعورا عند مشربة أم إبراهيم بن النبيصلىاللهعليهوسلم ولهم الأطم الذي عندها ، وكان الأطم الذي في مال جحاف لبعض من كان هناك من اليهود ، ومنها بنو زيد اللات ، قال ابن زبالة : وهم رهط عبد الله بن سلام ، كانوا قريبا من بني غصينة ، ومنها بنو قينقاع عند منتهى جسر بطحان مما يلي العالية ، وكان هناك سوق من أسواق المدينة ، وكان لهم الأطمان اللذان عند منقطع الجسر على يمينك وأنت ذاهب من المدينة إلى العالية إذا سلكت الجسر ، وغير ذلك ، وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن بني قينقاع هم رهط عبد الله بن سلام ، خلاف ما تقدم عن ابن زبالة ، قال الحافظ ابن حجر : وهم من ذرية يوسف الصديقعليهالسلام ، ومنها بنو حجر عند المشربة التي عند الجسر ، ولهم أطم يعرف بهم ، ومنها بنو ثعلبة وأهل زهرة بزهرة ، وهم رهط الفطيون ، وهو ملكهم الذي كان يفتض نساء أهل المدينة قبل أن يدخلن على أزواجهن ، وكان لهم الأطمان اللذان على
طريق العريض حين يهبط من الحرة ، وكانت بزهرة جماع من اليهود وكانت من أعظم قرى المدينة ، وقد بادوا ، ومنها ناس كانوا بالجوانية ـ بفتح الجيم وتشديد الواو والياء المثناة من تحت : موضع بقرب أحد في شمالي المدينة كما سيأتي ـ ولهم أطمان صارا لبني حارثة بن الحارث وهما صرار والريان ، ولذلك يقول نهيك بن سياف :
لعل صرارا أن تعيش بياره |
ويسمع بالريان تبنى مشاربه |
وكانت بنو الحذماء المتقدم ذكرهم ـ وهم حي من اليمين ـ ما بين مقبرة بني عبد الأشهل وبين قصر ابن عراك ، ثم انتقلوا إلى راتج ، ومنها بنو عكوة في يماني بني حارثة ، ومنها بنو مرابة في شامي بني حارثة ، ولهم الأطم الذي يقال له الشبعان في ثمغ صدقة عمر بن الخطابرضياللهعنه ، ومنها ناس براتج ، وهو أطم سميت به الناحية ، وهو الذي يقول له قيس بن الخطيم :
ألا إن بين الشرعبيّ وراتج |
ضرابا كتخديم السبال المعضد |
ومنها ناس بالشوط والعنابس والوالج وزبالة إلى عين فاطمة حيث كان يطبخ الآجر لمسجد الرسولصلىاللهعليهوسلم وكان لأهل الشوط الأطم الذي يقال له الشرعبي ، وهو الأطم الذي دون ذباب ، وقد صار لبني جشم بن الحارث بن الخزرج أي الأصغر يعني إخوة بني عبد الأشهل ، وكان لأهل الوالج أطم بطرفه مما يلي قناة ، وكان لبعض من هناك من اليهود الأطمان اللذان يقال لهما الشيخان بمفضاهما المسجد الذي صلّى فيه رسول اللهصلىاللهعليهوسلم حين سار إلى أحد ، وكان لأهل زبالة الأطمان عند كومة أبي الحمراء الرابض والذي دونهما ، ومنها أهل يثرب ، وكانوا جماعا من اليهود بها وقد بادوا فلم يبق منهم أحد.
قلت : ونقل رزين عن الشرقي أن يهود كانوا نيفا وعشرين قبيلة ، وقال ابن النجار : إن آطامهم كانت تسعة خمسين أطما ، وللعرب النازلين عليهم قبل الأنصار ثلاثة عشر أطما ، وقد ذكر ابن زبالة أسماء كثير منها حذفناه لعدم معرفته في زماننا.
فهذا علم من سكن المدينة بعد الطوفان إلى قدوم الأوس والخزرج.
الفصل الثاني
في سبب سكنى الأنصار بها
قصة مأرب وسيل العرم غسان
نقل ابن زبالة وغيره أن اليهود لم تزل هي الغالبة بالمدينة ، الظاهرة عليها ، حتى كان من أمر سيل العرم ما كان وما قص الله من قصته في مائه يعني قصة أهل مأرب ، ومأرب مهموز : أرض سبأ المعنية بقوله تعالى :( بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ ) [سبأ : ١٥] عن ابن عباس أنها كانت أخصب البلاد وأطيبها ، تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيديها أي بمغزلها وتسير
بين ذلك الشجر ، فيمتلئ مما يتساقط فيه من الثمر ، فطغوا ، وقيل : بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيّا يدعونهم إلى الله ، ويذكرونهم نعمة الله عليهم ، فكذبوهم ، وقالوا : ما نعرف لله نعمة ، قال المسعودي : وكان طول بلدهم أكثر من شهرين للراكب المجد ، وكذلك عرضها ، وكان أهلها في غاية الكثرة مع اجتماع الكلمة والقوة ، وكانوا كما قص الله من خبرهم بقوله :( وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها ) يعني : قرى الشام( قُرىً ظاهِرَةً ) [سبأ : ١٨] يعني متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها ، فكانوا آمنين في بلادهم ، تخرج المرأة لا تتزود شيئا ، تبيت في قرية ، وتقيل في أخرى حتى تأتي الشام ، فقالوا :( رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ) [سبأ : ١٩] لأنهم بطروا النعمة وملوها ، وقالوا : لو كان جني جناتنا أبعد كان أجدر أن نشتهيه ، وتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد ، فجعل الله لهم الإجابة كما قال :( فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ) [سبأ : ١٩] وعن الضحاك أنهم كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، فسلط عليهم سيل العرم ، قيل : العرم : المطر الشديد ، وقيل : جرذ أعمى فنقب عليهم السد ، وكان فرسخا في فرسخ بناه لقمان الأكبر العادي ، وكان بناه للدهر على زعمه ، وكان يجتمع إليه مياه اليمن ثم تتفرق في مجاري على قدر حاجة جنانهم ، وقيل : بناه سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وساق إليه سبعين واديا ، ومات قبل أن يكمله فأكمله بعده ملوك حمير ، وكان أولاد حمير بن سبأ وأولاد كهلان بن سبأ سادة اليمن في ذلك الزمان ، وكان كبيرهم وسيدهم جد الأنصار عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد ، ويقال : الأسد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، ذكر نسبه كذلك ابن هشام وابن حزم وابن الكلبي فيما نقله عنه ابن عبد البر ، ونقل غيره عنه أنه جعل ثعلبة بين حارثة وبين امرئ القيس ، وكانت الأنصار تقول : سمى عمرو مزيقياء لأنه كان يلبس في كل يوم حلتين ثم يمزقهما لئلا يلبسهما أحد بعده ، وقيل لأبيه «ماء السماء» لجوده وقيامه عند الجدب مقام الغيث ، وكان لعمرو مزيقياء أخ كاهن لم يعقب يسمى عمران ، وكانت زوجة عمرو مزيقياء يقال لها طريفة من حمير ، وكانت كاهنة ، فولدت له ثلاثة عشر رجلا ، ولدت ثعلبة وهو الذي أخرج جرهم من مكة هو وأخواته ، ومن انخرع معه من الأزد على ما نقله رزين ، ونقل أن والد ثعلبة ـ وهو عمرو بن عامر ـ توفي قبل
غلبة ثعلبة لجرهم ، وثعلبة أبو الأوس والخزرج ، وولدت له أيضا حارثة والد خزاعة على ما سيأتي ، وقيل : غير ذلك ، وولدت له أيضا جفنة والد غسان ، سموا باسم ماء نزلوا عليه يقال له : غسان ، والأشهر أنهم بنو مازن بن الأزد بن الغوث ، وولدت له أيضا وداعة ، وأبا حارثة ، والحارث ، وعوفا ، وكعبا ، ومالكا ، وعمران ، هؤلاء أعقبوا كلهم ، والثلاثة الباقون لم يعقبوا.
غسان
وقال ابن حزم : إن غسان هم بنو الحارث وجفنة ومالك وكعب بني عمرو مزيقياء ، شربوا كلهم من ماء غسان ، بخلاف بقية ولد عمرو مزيقياء فلم يشربوا من ذلك الماء ، فليسوا غسان ، وكان لعمرو بن عامر بمأرب من القصور والأموال ما لم يكن لأحد.
أول خبر سيل العرم
ونقل رزين أنه كان أول شيء وقع بمأرب من أمر سيل العرم أن عمران بن عامر رأى في كهانته أن قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم ، وأن بلادهم ستخرب ، فذكر ذلك لأخيه عمرو بن عامر ؛ فكان بين التصديق والتكذيب ، فبينا طريفة امرأته ذات يوم نائمة إذ رأت فيما يرى النائم أن سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت ، فذعرت ذعرا شديدا ، فسكّنوها ، فقالت : يا عمرو بن عامر ، الذي رأيت في الغيم ، أذهب عني النوم ، رأيت غيما أرعد وأبرق ، طويلا ثم أصعق ، فما وقع على شيء إلا احترق ؛ فما بعده إلا الفرق(١) ، فلما رأوا ما بها خفضوها(٢) حتى سكنت ، ثم إن عمرو بن عامر دخل حديقة ومعه جاريتان له ، فبلغ ذلك طريفة خرجت نحوه ، فلما خرجت من بيتها عارضها ثلاث مناجذ ـ وهي دواب تشبه اليرابيع ـ منتصبات على أرجلهن واضعات أيديهن على أعينهن ، فلما رأتهن طريفة وضعت يدها على عينها وقعدت على الأرض ، فلما ذهبت المناجذ خرجت مسرعة ، فلما عارضها خليج الحديقة التي فيها عمرو وثبت من الماء سلحفاة فوقعت في الطريق على ظهرها ، وجعلت تروم(٣) الانقلاب وتستعين بيدها فلا تستطيع ، فتحذف التراب على نفسها ، وتقذف بالبول من تحتها ، فلما رأت طريفة ذلك جلست على الأرض حتى عادت السلحفاة إلى الماء ، ثم مضت طريفة حتى دخلت الحديقة التي فيها عمرو بن عامر حين انتصف النهار في ساعة شديد حرها ، وإذا الشجرة من غير ريح تتكفأ ،
__________________
(١) الفرق : الجزع وشدة الخوف.
(٢) خفضوها : سكّنوا قلبها وهدّؤوا روعها.
(٣) رام الشيء ـ روما ومراما : طلبه.
فمرت حتى دخلت على عمرو ، فلما رآها قال : هلمي يا طريفة ، فقالت : والنور والظلماء ، والأرض والسماء ، إن الماء لغائر ، وإن الشجر لهالك ، فقال عمرو : ومن أخبرك بذلك؟ قالت : أخبرتني المناجذ ، بسنين شدائد ، يقطع فيها الولد الوالد ، وسلحفاة تحذف بالتراب حذفا ، وتقذف بالبول قذفا ، ورأيت الشجر من غير ريح ولا مطر تكفأ ، قال : وما ترين ذلك؟ قالت : داهية وكيمة(١) ، وأمور جسيمة ، قال : أما إن كان ذلك فلك الويل. قالت : أجل وما لعمرو فيها من نيل ، مما يجيء به السيل ، فألقى بنفسه على الفراش وقال : ما هذا الذي تقولين إلا أمر جليل ، وخلف قليل ، وأخذ القليل خير من تركه ، قال عمرو : وما علامة ما تذكرين؟ قالت : إذا رأيت جرذا يكثر في السد الحفر ، ويقلب منه بيديه الصخر ، فاعلم أن قد وقع الأمر. فانطلق عمرو إلى السد ينظر فإذا جرذ يقلب بيديه ورجليه الصخرة ما يقلها خمسون رجلا من أسد ، فرجع إلى طريفة فأخبرها. ثم رأى عمرو رؤيا أنه لا بد من سيل العرم ، وقيل : إن آية ذلك أن ترى الحصى قد ظهر في شرب النخل ، فذهب فرأى ذلك ، فعرف أن ذلك واقع ، وأن بلادهم ستخرب ، فكتم ذلك وأخفاه ، وأجمع على أن يبيع كل شيء له بأرض سبأ ويخرج منها هو وولده ، فخشي أن يستنكر الناس ذلك ، فاحتال في الأمر ، فأمر بإبل فنحرت ، وبغنم فذبحت ، وصنع طعاما واسعا ، وبعث إلى أهل مأرب بأجمعهم ، وكان فيمن دعا يتيم كان رباه وأنكحه ، وقال له فيما بينه وبينه : إذا أنا جلست أطعم الناس فاجلس بجنبي ثم نازعني الحديث واردد عليّ مثل ما أقول لك ، وافعل بي مثل ما أفعل بك ، فكلمه عمرو في شيء ، فرد عليه ، فضرب عمرو وجهه وشتمه ، ففعل اليتيم به مثله ، فصاح عمرو : وا ذلاه ، اليوم ذهب فخر عمرو ومجده ، فحلف ليقتلنه ، فلم يزالوا به حتى تركه ، وقال : والله لا أقيم ببلدة صنع بي هذا فيه أبدا ، ولأبيعن أموالي كلها وأرحل عنكم ، فاغتنم الناس غضبه واشتروا منه أمواله ، فباع جميع عقاره ، وتبعه ناس من الأزد فباعوا أموالهم ، ولما كثر البيع استنكر الناس ذلك ، فأمسكوا ، فلما اجتمع عند عمرو بن عامر أثمان أمواله أخبر الناس بأمر سيل العرم ، فخرج من مأرب ناس كثير ، وأقام بها من قضي عليه بالهلاك ، هذا ما نقله رزين في تاريخه وقد اقتفيت أثره في ذلك في كتابي.
وذكر ابن هشام في سيرته نحوه ، وقال : إن الأسد ـ يعني الأزد ـ قالوا : لا نتخلف عن عمرو بن عامر ، فباعوا أموالهم وخرجوا معه ، وقيل : كانت طريفة زوجة ثعلبة ، وإنه صاحب القصة والمحتال في بيع ماله.
__________________
(١) وكيمة داهية : مصيبة محزنة.
وقال ياقوت : إن عمرو بن عامر مات قبل سيل العرم ، وصارت الرئاسة إلى أخيه عمران بن عامر الكاهن ، وكان عاقرا لا يولد له ، وإنه صاحب القصة مع طريفة الكاهنة ، وإنها أقبلت عليه يوما وقالت : والظلمة والضياء ، والأرض والسماء ، ليقبلن إليكم الماء ، كالبحر إذا طما ، فيدع أرضكم فلا يسفى عليها الصبا ، وذكر القصة ، وأنه احتال لبيع أمواله بأن قال لحارثة أحد أولاد أخيه عمرو بن عامر إذا اجتمع الناس إليّ فإني سآمرك بأمر فأظهر فيه العصيان فإذا ضربت رأسك بالعصا فقم إليّ والطمني ، فقال : وكيف يلطم الرجل عمه؟ فقال : افعل يا بني فإن في ذلك صلاحك وصلاح قومك ، وذكر القصة ، قال : فجاء بعد رحيلهم بمديدة السيل وقد خرب الجرذ السد فلم يجد مانعا ، فغرق البلاد حتى لم يبق من جميع الأرضين والكروم إلا ما كان في رءوس الجبال والأمكنة البعيدة مثل ذمار(١) وحضرموت وعدن ، وذهبت الضياع والحدائق والجنان ، وجاء السيل بالرمل وطمّها ، فمضى على ذلك إلى اليوم ، وباعد الله بين أسفارهم كما سألوا.
عمرو بن عامر يصف البلاد لقومه
ونقل رزين أن عمرو بن عامر الكاهن قال لهم عند خروجهم : سأصف لكم البلاد ، فقال : من كان منكم ذا همّ بعيد ، وجمل شديد ، ومراد حديد ، فليلحق بقصر عمان المشيد ؛ فسكنها أزدعمان. قال : ومن كان منكم ذا هم غير بعيد ، وجمل غير شديد ، ومراد غير حديد ؛ فليلحق بالشعب من كرود ـ وهي من أرض همدان ـ فكان الذين سكنوه وداعة بن عمرو بن عامر فانتسبوا في همدان. قال : ومن كان منكم ذا هم مدن ، وجمل معن ، فليلحق بالثنى من شن ، وهو بالسراة ، فسكنه أزدشنوءة. قال : ومن كان منكم ذا جلد وبصر ، وله صبر على أزمات الدهر ، فليلحق ببطن مر ، فسكنته خزاعة. قال : ومن كان منكم يريد الراسخات في الوحل ، المطعمات في المحل ، فليلحق بالحرة ذات النخل ؛ فكان الذين سكنوها الأوس والخزرج. قال : ومن كان يريد الخمر والخمير ، والديباج والحرير ، والأمر والتأمير ، فليلحق ببصرى وسدير ـ وهما من أرض الشام ـ فكان الذين سكنوه آل جفنة بن غسان. قال : ومن كان يريد الثياب الرقاق ، والخيول العتاق ، والكنوز من الأرزاق ، فليلحق بالعراق ؛ فكان الذين لحقوا بالعراق جذيمة الأبرش ومن كان بالحيرة من غسان.
قلت : وقيل : إن الذي سجع لهم بذلك طريفة الكاهنة ، وإنها قالت : ومن كان منكم يريد الراسخات في الوحل ، المطعمات في المحل ، فليلحق بيثرب ذات النخل.
__________________
(١) ذمار : قرية بالقرب من صنعاء.
وروى ابن زبالة سجع عمرو بن عامر في المدينة بلفظ : من كان يريد الراسيات في الوحل ، المطعمات في المحل ، المدركات بالذحل(١) ، فليلحق بيثرب ذات النخل ؛ فلما سمعوا ذلك القول خرج عمرو بن عامر بجميع ولده ومن معه من الأزد يريد أرضا يقيمون بها ، ففارقهم وداعة بن عامر فسكن همدان ، ثم سار عمرو حتى إذا كان بين السراة ومكة أقام هنالك ناس من الأزد ، وأقام معهم عمران بن عمرو بن عامر ، ثم سار عمرو في باقي ولده وفي ناس من بني مازن من الأزد حتى نزلوا ماء يقال له غسان ، وغلب عليهم اسمه حتى قال شاعرهم :
إمّا سألت فإنّا معشر نجب |
الأزد نسبتها والماء غسان |
نزول خزاعة في مكة
قال أبو المنذر الشرقي : ومن ماء غسان انخزع لحيّ ـ واسمه ربيعة بن حارثة بن عمرو بن حارثة ـ فأتى مكة فتزوج بنت عامر الجرهمي ملك جرهم ، فولدت له عمرو بن لحي الذي غيّر دين إبراهيم ، فسمى ولده خزاعة لأن أباهم انخزع من غسان.
وقال غيره ما يخالف ذلك ؛ فروى الأزرقي أن عمرو بن عامر سار هو وقومه لا يطؤون بلدا إلا غلبوا عليه ، فلما انتهوا إلى مكة ـ وأهلها جرهم قد قهروا الناس وحازوا ولاية البيت على بني إسماعيل وغيرهم ـ أرسل إليهم ثعلبة بن عمرو بن عامر يقول : يا قوم إنا خرجنا من بلادنا ، فلم ننزل بلدا إلا فسح أهله لنا فنقيم معهم حتى نرسل روّادنا إلى الشام والمشرق ، فحيث ما قيل لنا إنه أمثل لحقنا به ، فأبت جرهم ذلك ، فأرسل إليهم ثعلبة : إنه لا بد لي من المقام ، فإن تركتموني نزلت وحمدتكم وواسيتكم في الماء والمرعى ، وإن أبيتم أقمت على كرهكم ثم لم ترتعوا معي إلا فضلا ولا تشربوا إلا رنقا ـ يعنى الكدر ـ فإن قاتلتموني قاتلتكم ، ثم إن ظهرت عليكم سبيت النساء وقتلت الرجال ، ولم أترك أحدا منكم ينزل الحرم أبدا ، فأبت جرهم ، فاقتتلوا ثلاثة أيام ، ثم انهزمت جرهم ، فلم ينفلت منهم إلا الشريد ، وأقام ثعلبة بمكة وما حولها بعساكره حولا ، فأصابتهم الحمى ، وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحمى ، فدعوا طريفة الكاهنة فشكوا إليها الذي أصابهم ، فقالت : قد أصابني الذي تشكون ، ثم ذكر الأزرقي سجعها في أمر الدلالة على البلاد في هذا المحل وهو غى سجع عمران بن عامر عند تفرقهم من سبأ ، ثم ذكر لحوق كل فرقة منهم ببلدها على النحو الذي قدمناه ، وأن الأوس والخزرج ابني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر ـ وهم الأنصار ـ نزلوا بالمدينة ، ثم قال : وانخزعت خزاعة بمكة ،
__________________
(١) الذحل : الحقد و ـ الثأر.
فأقام بها ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وهو لحيّ ، فولي أمر مكة ، فهذا يقتضي أنهم إنما افترقوا من مكة ، ولا شك أن منها افترق الذين وصلوا إليها.
نزول ثعلبة بن عمرو في المدينة
وقال ياقوت : إنهم لما ساروا من اليمن عطف ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السما بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن الراد بن الغوث نحو الحجاز ، فأقام ما بين الثعلبية إلى ذي قار ، وباسمه سميت الثعلبية ، فنزلها بأهله وولده ومن تبعه ، فأقام هناك يتبع مواقع القطر ، فلما كثر ولده وقوي ركنه سار بهم نحو المدينة وبها يهود فاستوطنوها ؛ فأقاموا بها بين قريظة والنضير وخيبر وتيماء ووادي القرى ، ونزل أكثرهم بالمدينة.
الفصل الثالث
في نسبهم
قد قدمنا انتسابهم إلى عمرو مزيقياء ، وانتساب عمرو إلى قحطان.
نسب قحطان
وقال ابن رزين نقلا عن الشرقي : أصل الأنصار الأوس والخزرج وهما من ولد ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يعرب بن قحطان ، وكأنه سقط من النسخة بعد الغوث «بن نبت» فإنه بين مالك والغوث كما قدمناه ، وجماع قبائل اليمن تنتهي إلى قحطان ، وقحطان اختلف في نسبه ، فالأكثرون قالوا : إنه عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ، وقيل : هو من ولد هود نفسه ، وقيل : ابن أخيه ، ويقال : قحطان أول من تكلم بالعربية ، وهو والد العرب المتعربة ، وأما إسماعيل فهو والد العرب المستعربة ، وأما العرب العاربة فكانوا قبل ذلك كعاد وثمود وطسم وجديس وعمليق وغيرهم ، وقيل : إن قحطان أول من قيل له : أبيت اللّعن(١) ، وعم صباحا. وذهب الزبير بن بكار إلى أن قحطان من ذرية إسماعيلعليهالسلام ، وأنه قحطان بن الهميسع بن تيم بن نبت بن إسماعيلعليهالسلام ، ويدل له تبويب البخاري بأن نسبة اليمن إلى إسماعيل ، وأورد فيه الحديث المتضمن لمخاطبة النبيصلىاللهعليهوسلم بني أسلم بأنهم من بني إسماعيل ، وأسلم هو ابن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس صاحب النسب المتقدم ، فدل على أن اليمن بني قحطان من بني
__________________
(١) أبيت اللّعن : أن تأتي ما تلعن به وعليه.
إسماعيل ، وهو ظاهر قول أبي هريرة في الصحيحين في قصة هاجر «فتلك أمكم يا بني ماء السماء» يخاطب الأنصار ؛ لأن جدهم عامرا والد عمرو كان يلقب بذلك ، كما تقدم ، أو أراد أبو هريرةرضياللهعنه العرب كلهم ؛ لكثرة ملازمتهم الفلوات التي بها مواقع القطر ، وهذا متمسّك من ذهب إلى أن جميع العرب من ولد إسماعيلعليهالسلام .
قال ابن حبان في صحيحه : كل من كان من ولد إسماعيل يقال له «ابن ماء السماء» لأن إسماعيل ولد هاجر ، وقد ربي بماء زمزم وهي من ماء السماء ، ورجح عياض أن مراد أبي هريرة الأنصار خاصة ، ونسبتهم إلى جدهم المعروف بماء السماء ، انتهى. ودلالته على أن قبائل اليمن كلها من ولد إسماعيل ظاهرة.
قال الحافظ ابن حجر : وهو الذي يترجح في نقدي ، وقد ذكر ابن عبد البر من طريق القعقاع بن أبي حدرد أن النبيصلىاللهعليهوسلم «مرّ بناس من أسلم وخزاعة وهم يتناضلون فقال : ارموا بني إسماعيل» وأسلم وخزاعة قد تقدم نسبهما في قبائل اليمن التي جماع نسبتها قحطان ، ومما يؤيد ذلك قول المنذر بن عمرو جد حسان بن ثابت الأنصاري :
ورثنا من البهلول عمرو بن عامر |
وحارثة الغطريف مجدا مؤثّلا |
|
مآثر من آل ابن نبت بن مالك |
ونبت بن إسماعيل ما إن تحوّلا |
وأول ذلك كله المخالفون بتأويلات بعيدة ، بل الذي أميل إليه أن العرب كلهم من ولد إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه ، وإن لم يتم ذلك فالعرب الذين لهم الشرف بالتقديم في الكفاءة وغيرها شرعا هم بنو إسماعيل ، ويدل له قول بعض أصحابنا في الإمامة : إذا لم يوجد قرشي مستجمع للشروط نصب كناني ، فإن لم يكن فرجل من ولد إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه ، فإن تعذر انتقلنا إلى العجم ، ولم يقولوا انتقلنا إلى بقية العرب ، لكن في التتمة للمتولي : فإن لم يوجد من ولد إسماعيلعليهالسلام يولّى جرهمي ، وجرهم أصل العرب ، فإن لم يوجد فرجل من ولد إسحاقعليهالسلام ، اه. وهو مخالف لقول البغوي في التهذيب : فإن لم يوجد ولد إسماعيل فمن العجم ، وأيضا فالمتولي جعل جرهما متأخرين عن ولد إسماعيل ، وجعل لهم فضلا في الجملة على العجم ، كذا قدم بعض العجم على بعض ، وإسماعيل أبو العرب الذين شرف نسبهم بمشاركة نسبة أشرف الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ، وهو الأسّ في ذلك ،
وعربي اللسان لا عبرة به ، على أن في مستدرك الحاكم من حديث ابن عباس «أول من نطق بالعربية إسماعيل» لكن في الصحيح أن إسماعيل تعلم العربية من جرهم الذين نزلوا مع أمه.
أول من تكلم بالعربية
قال ابن إسحاق : وكان جرهم وأخوه قطورا ابنا قحطان أول من تكلم بالعربية عند تبلبل الألسن.
قلت : وهو جار على رأي من يقول : إن العرب كلها ليست من ولد إسماعيل.
وروى الزبير بن بكار في النسب من حديث علي بإسناد حسن قال : أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل ؛ فبهذا القيد يجمع بين الخبر المتقدم وبين ما في الصحيح ، فيكون أوليته في ذلك بحسب الزيادة في البيان ، لا الأولية المطلقة ، فيكون بعد تعلم أصل العربية من جرهم ألهمه الله العربية الفصيحة المبينة ؛ فعلى تقدير تسليم أن العرب كلهم ليسوا من ولد إسماعيل فالمستحق للشرف إنما هو عربية إسماعيل ، فيمتاز بنوه بما تقدم.
وقال ابن دريد في الوشاح : أول من نطق بالعربية يعرب بن قحطان ، ثم إسماعيل ، ونقل ابن هشام عن الشرقي أن عربية إسماعيل كانت أفصح من عربية يعرب بن قحطان وبقايا حمير وجرهم ، وكله جار على خلاف ما قدمناه من أن العرب كلها من ولد إسماعيل ، والله أعلم.
أم الأنصار ونسبها
وأم الأنصار في قول الكلبي : قيلة بنت عمرو بن جفنة ، وقال ابن حزم : هي بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة بن عمرو مزيقياء ، ويقال : بنت كاهل بن عذرة من قضاعة ، وقضاعة من حمير عند الأكثر ، واشتهرت الأنصار ببني قيلة ولهم يقول القائل :
بهاليل من أولاد قيلة ، لم يجد |
عليهم خليط من مخالطة عتبا |
|
مطاعيم في المقري ، مطاعين في الوغى |
يرون عليهم فعل آبائهم نحبا |
(١) وذكر رزين عن الشرقي عقب ما قدمناه عنه من أن الأنصار أصلهم الأوس والخزرج وهما من ولد ثعلبة بن عمرو ، فقال : فولد لثعلبة بن عمرو بن حارثة الأوس والخزرج ، وأمهما قيلة ؛ فولد الأوس مالكا ، ومن مالك قبائل الأوس كلها ، فولد لمالك عمرو وعوف ومرة ، ويقال لهم أوس الله ، وهم الجعادرة ، سموا بذلك لقصر فيهم.
__________________
(١) المقري : الذي يقري الضيف. نحبا : نذرا.