وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى الجزء ١
0%
مؤلف: نور الدين علي بن أحمد السّمهودي
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الناشر: دار الكتب العلميّة
تصنيف: مكتبة الحديث وعلومه
ISBN: 2-7451-3818-9
الصفحات: 293
مؤلف: نور الدين علي بن أحمد السّمهودي
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الناشر: دار الكتب العلميّة
تصنيف: مكتبة الحديث وعلومه
ISBN: 2-7451-3818-9
الصفحات: 293
نحن بنات طارق |
نمشي على النمارق |
|
والدر في المخانق |
والمسك في المفارق(١) |
|
إن تقبلوا نعانق |
ونفرش النمارق |
|
أو تدبروا نفارق |
فراق غير وامق |
(٢) يعني تحرضهم بذلك ، قال : فحمل عليها ، فنادت بالصحراء فلم يجبها أحد ، فانصرف عنها ، فقلت له : كل سيفك رأيته فأعجبني غير أنك لم تقتل المرأة ، قال : فإنها نادت فلم يجبها أحد ، فكرهت أن أضرب بسيف رسول اللهصلىاللهعليهوسلم امرأة لا ناصر لها.
وفي الاكتفاء : ذكر الزبيررضياللهعنه أن سيف عبد الله بن جحش انقطع يوم أحد ، فأعطاه رسول اللهصلىاللهعليهوسلم عرجونا ، فعاد في يده سيفا قائمه منه ، فقاتل به ؛ فكان ذلك السيف يسمى العرجون ، ولم يزل بعد يتوارث حتى بيع من بغا التركي بمائتي دينار.
وروى البزار برجال الصحيح عن بريدة أن رجلا قال يوم أحد : اللهم إن كان محمد على الحق فاخسف به ، قال : فخسف به.
وقال ابن إسحاق : قتل أصحاب لواء المشركين وهم تسعة بأحد واحد بعد واحد.
وقال غيره : أحد عشر آخرهم غلام لبني طلحة.
وقال ابن عقبة : وكان صاحب لواء المسلمين مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار ، فبارز طلحة بن عثمان من بني عبد الدار فقتله ، وحمل المسلمون على المشركين حتى أجهضوهم(٣) ، وحملت خيل المشركين فنضحهم الرماة بالنبل ثلاث مرات ، فدخل المسلمون عسكر المشركين فانتهبوه ، فرأى ذلك الرماة ، فتركوا مكانهم ، ودخلوا العسكر ، فأبصر ذلك خالد ومن معه ، فحملوا على المسلمين في الخيل ، فمزقوهم ، وصرخ صارخ : قتل محمد ، أخراكم ، فعطف المسلمون يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون ، وانهزم طائفة منهم وتفرق سائرهم ، ووقع فيهم القتل ، وثبت نبي الله حين انكشفوا عنه وهو يدعوهم في أخراهم ، حتى رجع إليه بعضهم وهو عند المهراس في الشعب ، وتوجه النبيصلىاللهعليهوسلم يلتمس أصحابه ، فاستقبله المشركون فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته ، فمر مصعدا(٤) في الشعب ومعه طلحة والزبير ، وقيل : معه طائفة من الأنصار منهم سهل بن بيضاء والحارث بن الصمة ، واشتغل المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم يقطعون الآذان
__________________
(١) الفرق : الفاصل بين صفين من الشعر. المخنق : العنق ، النحر.
(٢) الوامق : المحب الذي يحب الآخر لغير ريبة.
(٣) أجهضوهم : نحّوهم وأزالوهم.
(٤) صعّد في الشعب : نظر إلى أعلاه وأسفله يتأمله.
والأنوف والفروج ويبقرون البطون ، وهم يظنون أنهم أصابوا النبيصلىاللهعليهوسلم وأشراف أصحابه ، فقال أبو سفيان يفتخر بإلهه : «اعل هبل» فناداه عمر : الله أعلى وأجل ، ورجع المشركون إلى أثقالهم.
الرسول يقتل أبي بن خلف
قال ابن إسحاق : كان أول من عرف رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بعد الهزيمة ، وتحدث الناس بقتله ، كعب بن مالك الأنصاري ، قال : عرفت عينيه يزهران تحت المغفر ، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين ، أبشروا هذا رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فأشار إلي أن أنصت ، فلما عرف المسلمون رسول اللهصلىاللهعليهوسلم نهضوا به ، ونهض معهم نحو الشعب معه أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير والحارث بن الصمة ورهط من المسلمين ، فلما أسند رسول اللهصلىاللهعليهوسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول : أين محمد؟ لا نجوت إن نجا ، فقال القوم : يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا؟ فقال : دعوه ، فلما دنا تناول رسول اللهصلىاللهعليهوسلم الحربة من الحارث بن الصمة ، يقول بعض القوم : فلما أخذها رسول اللهصلىاللهعليهوسلم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها(١) عن فرسه مرارا ، وكان أبي بن خلف يلقى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بمكة فيقول : يا محمد إن عندي العود فرسا أعلفه كل يوم فرقا(٢) من ذرة أقتلك عليه ، فيقول رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : أنا أقتلك إن شاء الله ، فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشا غير كبير فاحتقن الدم ، قال : قتلني والله محمد ، فقالوا : ذهب والله فؤادك ، والله إن يك بأس ، قال : إنه قد كان ، قال بمكة : أنا أقتلك ، فوالله لو بصق علي لقتلني ، فمات عدو الله بسرف وهم قافلون(٣) إلى مكة ، وقد قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فيما قاله يومئذ : اشتد غضب الله على رجل قتله رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فسحقا لأصحاب السعير.
وفي الصحيح عن عائشة قالت : لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة ، فصاح إبليس : أي عباد الله ، أخراكم ، فرجعت أولاهم ، فاجتلدت مع أخراهم ، فنظر حذيفة فإذا هو بأبيه فنادى : أي عباد الله ، أبي أبي ، فقالت : فو الله ما احتجزوا حتى قتلوه ، فقال حذيفة : يغفر الله لكم.
ونقل الأقشهري أن أبا سفيان بن حرب قال يومئذ لبني عبد الدار : إنكم ضيعتم اللواء يوم بدر ، فأصابنا ما رأيتم ، فادفعوا اللواء إلينا نكفكم ، وإنما أراد تحريضهم على القتال
__________________
(١) تدأدأ : تمايل.
(٢) الفرق : مكيال يساوي ثلاثة آصع.
(٣) قافلون : عائدون.
والثبات ، فغضبوا وأغلظوا له ، وأن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم سأل : من يحمل لواء المشركين؟ قيل : عبد الدار ، قال : نحن أحق بالوفاء منهم؟ أين مصعب بن عمير؟ فقال : ها أنا ، قال : خذ اللواء ، فأعطاه اللواء ، وإن حمزةرضياللهعنه حمل على عثمان بن طلحة حامل لواء المشركين فقطع يده وكتفه حتى انتهى إلى مؤتزره(١) ، ثم إن أصحاب اللواء قتلوا واحدا بعد واحد ، فانكشف المشركون منهزمين ، ونساؤهم يدعون بالويل والثبور ، وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح ، ووقفوا يأخذون الغنائم ، فلما رأى الرماة ذلك أقبل جماعة منهم وخلوا الجبل ، فكر خالد بالخيل ، فتبعه عكرمة ، فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم وقتلوا أميرهم عبد الله بن جبير ، وانتقضت صفوف المسلمين ، ونادى إبليس : قتل محمد ، وثبت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ما يزول ، يرمي عن قوسه حتى صارت شظايا ، ويرمي بالحجارة ، وثبت معه عصابة من الصحابة أربعة عشر من المهاجرين فيهم أبو بكر وعمر وسبعة من الأنصار ، اه.
وروى النسائي عن جابر قال : لما ولّى الناس يوم أحد كان النبيصلىاللهعليهوسلم في اثني عشر رجلا من الأنصار فيهم طلحة.
ووقع عند الطبري من طريق السدي قال : تفرق الصحابة فدخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم فوق الجبل ، وثبت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يدعو الناس إلى الله ، فرماه ابن قميئة بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله ، فتراجع إلى النبيصلىاللهعليهوسلم ثلاثون رجلا ، فجعلوا يذبون عنه(٢) ، فحمله منهم طلحة وسهل بن حنيف ، فرمي طلحة بسهم فيبست يده ، وقال بعض من فر إلى الجبل : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي يستأمن لنا من أبي سفيان ، فقال أنس بن النضر : يا قوم إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه ، ثم ذكر قصة قتله ، وقصد رسول اللهصلىاللهعليهوسلم الجبل ، فأراد رجل من أصحابه أن يرميه بسهم ، فقال : أنا رسول الله ، فلما سمعوا ذلك فرحوا به ، واجتمعوا حوله ، وتراجع الناس.
وروى أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال : رأيت عن يمين رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وعن يساره يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال ، ما رأيتهما قبل ولا بعد ، وقد أخرجه الشيخان ، وفي رواية لمسلم : يعني جبريل وميكائيل ، وقول مجاهد : «لم تقاتل الملائكة يومئذ ولا قبله ولا بعده ، إلا يوم بدر». قال البيهقي : أراد به أنهم لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم حين عصوا الرسول ولم يصبروا على ما أمرهم به.
__________________
(١) المؤتزر : النصف الأسفل من البدن. و ـ الموضع الذي يلبس فيه الإزار.
(٢) ذبّ عنه : دافع عنه.
وعن عروة بن الزبير : كان الله وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ، وكان قد فعل ، فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم وتركت الرماة عهده إليهم وأرادوا الدنيا رفع عنهم مدد الملائكة ، وأنزل الله :( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ) [آل عمران : ١٥٢] فصدق الله وعده ، وأراهم الفتح ، فلما عصوا أعقبهم البلاء.
وعند ابن سعد : ثبت معهصلىاللهعليهوسلم سبعة من الأنصار وسبعة من قريش.
وفي مسلم من حديث أنس : أفرد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش طلحة وسعد.
وقال ابن إسحاق : حدثني حميد الطويل عن أنس قال : كسرت رباعية النبيصلىاللهعليهوسلم يوم أحد ، وشج في وجهه ، فجعل يسيل الدم على وجهه ، وجعل يمسح الدم وهو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ فأنزل الله تعالى :( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ) [آل عمران : ١٢٨] الآية.
وروى بن إسحاق من حديث سعد بن أبي وقاص قال : ما حرصت على قتل رجل قط حرصي على قتل أخي عتبة بن أبي وقاص لما صنع برسول اللهصلىاللهعليهوسلم .
وذكر ابن هشام في حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي وقاص أخا سعد هو الذي كسر رباعية النبيصلىاللهعليهوسلم السفلى ، وجرح شفته السفلى ، وأن عبد الله بن شهاب هو الذي شجه في جبهته ، وأن عبد الله بن قميئة جرحه في وجنته ، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته ، وأن مالك بن سنان مص الدم من وجهه ، ثم ازدرده(١) ، فقال له : لن تمسك النار.
وفي الطبراني من حديث أبي أمامة قال : رمى عبد الله بن قميئة رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يوم أحد فشج وجهه ، وكسر رباعيته ، وقال : خذها وأنا بن قميئة ، فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وهو يمسح الدم عن وجهه : ما لك أقمأك الله ، فسلط الله عليه تيس جبل ، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة.
وقال السهيلي : الذي كسر رباعية رسول اللهصلىاللهعليهوسلم عتبة بن أبي وقاص أخو سعد ، لم يولد من نسله ولد فبلغ الحلم إلا وهو أبخر أو أهتم ، يعرف بذلك في عقبه.
وروى ابن الجوزي عن محمد بن يوسف الفريابي قال : لقد بلغنى أن الذين كسروا رباعية النبيصلىاللهعليهوسلم لم يولد لهم صبي فنبتت له رباعية.
وقيل : كان سبب الهزيمة أن ابن قميئة الليثي قتل مصعب بن عمير ، وكان مصعب إذا
__________________
(١) ازدرد اللقمة : ابتلعها.
لبس لأمته يشبه النبيصلىاللهعليهوسلم فلما قتله ظن أنه رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فرجع إلى قريش وقال : قد قتلت محمدا ، فازدادوا جرأة وصاح إبليس من العقبة : قتل محمد ، فلما سمع المسلمون ذلك وهم متفرقون كانت الهزيمة ، فلم يلو أحد على أحد(١) .
والصواب أن السبب مخالفة الرماة للأمر ، وهذا مؤكد له ومتمم ، مع أن الأصل في ذلك ـ مع إرادة الله تعالى ـ ما اتفق ببدر من أخذ الفداء ، فقد أخرج الترمذي والنسائي عن علي أن جبريل هبط فقال : خيّرهم في أسارى بدر القتل أو الفداء على أن يقتل منهم من قابل مثلهم ، قالوا : الفداء ويقتل منا ، وقال الترمذي : حسن ، وذكر غيره له شواهد تقويه ، ولهذا جاء في الصحيح أن النبيصلىاللهعليهوسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة ، وقتلوا سبعين ، وأسروا سبعين. وفيه أيضا أن المشركين أصابوا يوم أحد من المسلمين سبعين ، ولفظه من حديث البراء قال : لقينا المشركين يومئذ ، وأجلس النبيصلىاللهعليهوسلم جيشا من الرماة ، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير ، وقال : لا تبرحوا ، فإن رأيتمونا ظهرنا عليهم(٢) فلا تبرحوا(٣) ، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا ، فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن ، فأخذوا يقولون : الغنيمة الغنيمة ، فقال عبد الله : عهد إلي النبيصلىاللهعليهوسلم ألّا تبرحوا ، فأبوا ، فلما أبوا صرف الله وجوههم ، فأصيب سبعون قتيلا.
ووقع عند مسلم من طريق ابن عباس عن عمر في قصة بدر قال : فلما كان يوم أحد قتل منهم سبعون وفروا ، وكسرت رباعية النبيصلىاللهعليهوسلم وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، فأنزل الله تعالى :( أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها ) [آل عمران : ١٦٥] الآية ، والمراد بكسر الرباعية ـ وهي السن التي تلي الثنية والناب ـ أنها كسرت فذهب منها فلقة ، ولم تقلع من أصلها ، وقوله «وفروا» أي : بعضهم ، أو أطلق ذلك باعتبار تفرقهم ، والواقع أنهم صاروا ثلاث فرق : فرقة استمروا في الهزيمة إلى قرب المدينة ، فما رجعوا حتى انقضى القتال ، وهم قليل ، وهم الذين نزل فيهم :( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ) [آل عمران : ١٥٥] وفرقة صاروا حيارى لما سمعوا أن النبيصلىاللهعليهوسلم قتل ، فصار غاية الواحد منهم أن يذب عن نفسه ، أو يستمر على نصرته في القتال إلى أن يقتل ، وهم أكثرهم ، وفرقة بقيت مع النبيصلىاللهعليهوسلم ثم تراجع إليهم القسم الثاني شيئا فشيئا لما عرفوا أنه حي ، وما ورد من الاختلاف في العدد محمول على تعدد المواطن في القصة.
__________________
(١) لا يلو أحد على أحد : لا يقيم عليه ولا ينتظره.
(٢) ظهر على عدوه : غلبه.
(٣) برح مكانه : زال عنه وغادره.
ووقع عند أبي يعلى في حديث عمر المتقدم : فلما كان عام أحد عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء ، فقتل منهم سبعون.
وفي الاكتفاء : أنه لما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم اللواء علي بن أبي طالب ، فقاتل في رجال من المسلمين ، ولما اشتد القتال جلس رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يومئذ تحت راية الأنصار ، وأرسل إلى علي أن قدم الراية ، فتقدم فقال : أنا أبو القصم ، فناداه أبو سعد بن أبي طلحة : هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة؟ قال : نعم ، فبرزا بين الصفين ، فاختلفا ضربتين : فضربه علي فصرعه ، ثم انصرف ولم يجهز عليه(١) ، فقال له أصحابه : أفلا أجهزت عليه؟ فقال : إنه استقبلني بعورته ، فعطفتني عليه الرحم ، وعرفت أن الله قد قتله.
وقد قيل : إن سعد بن أبي وقاص هو الذي قتل أبا سعد هذا.
وروى الطبراني برجال الصحيح عن ابن عباس قال : دخل علي بن أبي طالب على فاطمة يوم أحد فقال : خذي هذا السيف غير ذميم ، فقال النبيصلىاللهعليهوسلم : لئن كنت أحسنت القتال فقد أحسنه سهل بن حنيف وأبو دجانة بن خرشة.
وذكر في الاكتفاء دخول الحلقتين من حلق المغفر في وجنتهصلىاللهعليهوسلم وأنه وقع في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر الراهب ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون ، فأخذ علي بيده ، ورفعه طلحة حتى استوى قائما ، ومص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجهه ، ونزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجههصلىاللهعليهوسلم فسقطت ثنيته ، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى ، ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال سعد : فلقد رأيته يناولني النبل ويقول : «ارم فداك أبي وأمي» ، وأصيب يومئذ عين قتادة بن النعمان فردها رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بيده ، فكانت أحسن عينيه ، وأصيب فم عبد الرحمن بن عوف فهتم ، وجرح عشرين جراحة أو أكثر أصابه بعضها في رجله فعرج ، فلما انتهى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم إلى الشعب ومعه أولئك النفر من أصحابه ، فبينا هم في الشعب إذ علت عالية من قريش : الجبل ، فقال : اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا ، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل ، ونهض رسول اللهصلىاللهعليهوسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها فلم يستطع ، وقد كان بدّن(٢) وظاهر بين درعين(٣) ، فجلس تحته طلحة بن
__________________
(١) أجهز على الجريح : أسرع في قتله وتمم عليه.
(٢) بدن : سمن و ـ ضخم.
(٣) ظاهر بين الدرعين : طابق بينهما.
عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها ، فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «أوجب طلحة»(١) وصلى النبيصلىاللهعليهوسلم يومئذ الظهر قاعدا من الجراح التي أصابته ، وصلّى المسلمون خلفه قعودا.
وفي الصحيح من حديث البراء أن أبا سفيان ـ حين أراد الانصراف ـ قال : «لنا العزى ولا عزى لكم» فقال النبيصلىاللهعليهوسلم : أجيبوه ، قالوا : ما نقول؟ قال : «قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم».
وفيه أيضا أن أبا سفيان أشرف يوم أحد فقال : أفي القوم محمد؟ فقال : لا تجيبوه ، فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال : لا تجيبوه ، قال : أفي القوم ابن الخطاب؟ فلما لم يجبه أحد قال : إن هؤلاء قتلوا ، ولو كانوا أحياء لأجابوا ، فلم يملك عمر نفسه فقال : كذبت يا عدو الله ، قد أبقى الله لك ما يخزيك.
قال ابن إسحاق : فلما أجاب عمر أبا سفيان قال له : هلم إلي يا عمر ، فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم لعمر : ائته فانظر ما شأنه ، فجاء ، فقال له أبو سفيان : أنشدك بالله يا عمر أقتلنا محمدا ، فقال عمر : اللهم لا ، وإنه ليسمع كلامك الآن ، قال : أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر ، ثم نادى أبو سفيان : إنه قد كان في قتلاكم مثل ، والله ما رضيت وما سخطت ، وما أمرت وما نهيت ، ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى : إن موعدكم بدر العام القابل ، فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم لرجل من أصحابه : «قل : نعم ، هو بيننا وبينكم موعد» ثم بعث رسول اللهصلىاللهعليهوسلم علي بن أبي طالب فقال : اخرج في آثار القوم فانظر ما ذا يصنعون وما ذا يريدون ، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة ، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة ، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم ، فخرج علي فرآهم قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة ، وفزع الناس لقتلاهم ، وانتشروا يبتغونهم ، وسيأتي خبرهم وتعيينهم إن شاء الله تعالى في الفصل السادس من الباب الخامس ، وبكى المسلمون يومئذ على قتلاهم ، فسر المنافقون ، وظهر غش اليهود ، وفارت المدينة بالنفاق.
الحكم التي في قصة أحد
قال العلماء : وكان في قصة أحد من الحكم والفوائد أشياء عظيمة.
منها : تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية ، وشؤم ارتكاب النهي ؛ لما وقع من الرماة.
ومنها : أن عادة الرسل أن تبتلى وتكون لها العاقبة.
__________________
(١) أوجب : استحق الجنة الثواب.
ومنها : إظهار أهل النفاق حتى عرف المسلمون أن لهم عدوا بين أظهرهم.
ومنها : أن في تأخير النصر هضما للنفس.
ومنها : أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم ، فسبب لهم ذلك ليبلغوها.
ومنها : أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء ، فساقها لهم بين يدي الرسول ليكون شهيدا عليهم.
قال ابن إسحاق : وفي شأن أحد أنزل الله ستين آية من آل عمران.
وروى ابن أبي حاتم من طريق المسور بن مخرمة قال : قلت لعبد الرحمن بن عوف : أخبرني عن قصتكم يوم أحد ، قال : اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجدها :( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ ) إلى قوله :( أَمَنَةً نُعاساً ) [آل عمران : ١٢١ ـ ١٥٤].
أبو عزة الجمحي ومقتله
ثم خرج رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بعد الوقعة مرهبا لعدوه حتى انتهى إلى حمراء الأسد ، فأخذ في وجهه ذلك أبا عزّة الجمحي ، وكان النبيصلىاللهعليهوسلم قد منّ عليه يوم بدر بغير فداء ، وأخذ عليه أن لا يظاهر(١) عليه أحدا ، وكان شاعرا ، فقال له صفوان بن أمية : إنك امرؤ شاعر فأعنّا بلسانك ، ولم يزل به حتى خرج معهم ، فلما أخذه النبيصلىاللهعليهوسلم قال : يا رسول الله أقلني فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول : خدعت محمدا مرتين ، اضرب عنقه يا زبير ، فضرب عنقه.
تحريم الخمر السنة الرابعة من الهجرة غزوة الرجيع غزوة بني النضير.
وفي رواية أنه قال له : «إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ، اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت» فضرب عنقه.
تحريم الخمر
وفي هذه السنة أيضا حرمت الخمر ، ويقال : في التي بعدها ، وقال الحافظ ابن حجر : الذي يظهر أن تحريمها كان عام الفتح سنة ثمان ، واستدل بشيء فيه نظر.
وتزوج النبيصلىاللهعليهوسلم حفصة بنت عمر بن الخطابرضياللهعنهما في شعبان على الأصح ، وقيل : في التي قبلها ، وزينب بنت خزيمة أم المساكين في رمضان ، فمكثت عنده شهرين أو ثلاثة ، وقيل : ثمانية أشهر ، وماتت ، وولد الحسن بن علي في منتصف رمضان ،
__________________
(١) لا يظاهر أحدا عليه : لا يساعد أحدا عليه.
وعلقت أمه بالحسين بعد خمسين ليلة ، وتزوج عثمان أم كلثوم بنت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم والله أعلم.
السنة الرابعة من الهجرة
السنة الرابعة : وكانت بئر معونة أولها في المحرّم.
قلت : في الصحيح من رواية أنس قال : إن النبيصلىاللهعليهوسلم أتاه رعل وذكوان وعصية وبنو لحيان ، فزعموا أنهم قد أسلموا ، واستمدوه على قومهم ، فأمدهم النبيصلىاللهعليهوسلم بسبعين من الأنصار ، قال أنس : كنا نسميهم القراء ، يحطبون بالنهار ويصلون بالليل ، فانطلقوا بهم حتى بلغوا بئر معونة غدروا بهم وقتلوهم ، فقنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وبني لحيان ، وفي بعض الروايات ما يقتضي أن الذين استمدوا لم يظهروا الإسلام ، بل كان بينهم وبين النبيصلىاللهعليهوسلم عهد ، وأنهم غير الذين قتلوا القراء لكنهم من قومهم ، وهو الذي في كتب السير وقد بين ابن إسحاق في المغازي وكذلك موسى بن عقبة عن ابن شهاب أسماء الطائفتين ، وأن أصحاب العهد هم بنو عامر ورأسهم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ، المعروف بملاعب الأسنة ، وأن الطائفة الأخرى من بني سليم ، وأن عامر بن أخي ملاعب الأسنة أراد الغدر بأصحاب النبيصلىاللهعليهوسلم فدعا بني عامر إلى قتالهم ، فامتنعوا وقالوا : لا نخفر(١) ذمة أبي براء ، فاستصرخ عليهم عصية وذكوان من بني سليم ، فأطاعوه وقتلوهم ، قالوا : ومات أبو براء بعد ذلك آسفا على ما صنع به عامر بن الطفيل ، وقيل : أسلم أبو براء عند ذلك ، وقاتل حتى قتل ، وعاش عامر بن الطفيل حتى مات كافرا بدعاء النبيصلىاللهعليهوسلم أصابته غدة كغدة البعير(٢) ، ولم يكن القراء المذكورون كلهم من الأنصار ، بل كان بعضهم من المهاجرين مثل عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ونافع بن ورقاء الخزاعي وغيرهما ، كما يؤخذ من الصحيح أيضا ، والله أعلم.
ثم كانت غزوة الرجيع في صفر.
غزوة الرجيع
قلت : ذكرها ابن إسحاق في الثالثة قبل بئر معونة ، والرجيع : موضع ببلاد هذيل ، والله أعلم.
ثم كانت غزوة بني النضير.
__________________
(١) لا نخفر العهد : لا ننقض العهد ولا نغدر به.
(٢) غدة البعير : طاعون الإبل.
غزوة بني النضير
قلت : ذكرها بعضهم في الثالثة قبل أحد ، وقال الزهري : كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أحد ، وذكرها ابن إسحاق في الرابعة بعد بئر معونة وأن سببها أن النبيصلىاللهعليهوسلم جاءهم يستعينهم في دية ، وجلس إلى جنب جدار لهم ، فخلا بعضهم ببعض ، وأمروا عمرو بن جحاش أن يرقى فيلقي عليه صخرة ، فأتاه الخبر من السماء ، فقام مظهرا أن يقضي حاجة ، وقال لأصحابه : لا تبرحوا ، ورجع مسرعا إلى المدينة ، فأمر بحربهم والمسير إليهم ، وأمر بقطع النخل والتحريق ، قال : وحاصرهم ست ليال ، فسألوا أن يجلوا من أرضهم على أن لهم ما حملت الإبل ، فصولحوا على ذلك ، فاحتملوا إلى خيبر وإلى الشام ؛ فكانت أموالهم لهصلىاللهعليهوسلم خاصة ، ووافق ابن إسحاق على ذلك جل أهل المغازي ، وأصح منه ما رواه ابن مردويه بسند صحيح أنهم أجمعوا على الغدر ، فبعثوا إلى النبيصلىاللهعليهوسلم : اخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك ويلقاك ثلاثة من علمائنا ، فإن آمنوا بك اتبعناك ، فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر ، فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار مسلم تخبره بأمر بني النضير ، فأخبر أخوها النبيصلىاللهعليهوسلم بأمر بني النضير قبل أن يصل إليهم ، فرجع وصبّحهم بالكتائب ، فحصرهم يومه ، ثم غدا على بني قريظة فحاصرهم ، فعاهدوه ، فانصرف عنهم إلى بني النضير فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل(١) إلا السلاح ، فاحتملوا أبواب بيوتهم ؛ فكانوا يخربون بيوتهم فيهدمونها ويحملون ما يوافقهم من خشبها ، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشام.
ورواه أيضا عبد بن حميد في تفسيره ، وروى أيضا من طريق عكرمة أن غزوتهم كانت صبيحة قتل كعب بن الأشرف ، وروى أن قريشا كتبوا لبني النضير يحثونهم على حرب رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فأضمروا الغدر بالنبيصلىاللهعليهوسلم ولما حرق رسول اللهصلىاللهعليهوسلم نخلهم قال حسانرضياللهعنه يعير قريشا من أبيات :
وهان على سراة بني لؤي |
حريق بالبويرة مستطير |
فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، ولم يكن أسلم حينئذ :
أدام الله ذلك من صنيع |
وحرق في نواحيها السعير |
|
ستعلم أيّنا منها بنزه |
وتعلم أي أرضينا تضير |
أي : ستعلم أينا منها ببعد ، وأي الأرضين أرضنا أو أرضكم يحصل لها الضير : أي الضرر ؛ لأن بني النضير إذا خربت أضرت بما جاورها وهو أرض الأنصار لا أرض
__________________
(١) ما أقلت الإبل : ما نقلته.
قريش ، ونقل ابن سيد الناس عن أبي عمرو الشيباني أن الذي قال البيت المتقدم المنسوب لحسان هو أبو سفيان بن الحارث ، وأنه لما قال :
وعزّ على سراة بني لؤي
بدل «هان» قال : ويروى «بالبويلة» بدل «بالبويرة» وأن المجيب له بالبيتين المتقدمين هو حسان ، وما قدمناه هو رواية البخاري.
قال ابن سيد الناس : وما ذكره الشيباني أشبه.
قلت : كأنه استبعد أن يدعو أبو سفيان في حالة كفره على أرض بني النضير ، وقد قدمنا وجهه ، وكان أشراف بني النضير بنو الحقيق وحيي بن أخطب ، فكانوا في من سار إلى خيبر ، فدان(١) لهم أهلها ، وأسلم منهم يامين بن عمير وأبو أسعد بن وهب ، فأحرزا أموالهما.
وروى ابن شبة عن الكلبي قال : لما ظهر النبيصلىاللهعليهوسلم على أموال بني النضير قال للأنصار : إن إخوانكم من المهاجرين ليست لهم أموال ، فإن شئتم قسمت هذه الأموال بينهم وبينكم جميعا ، وإن شئتم أمسكتم أموالكم فقسمت هذه فيهم ، قالوا : بل اقسم هذه فيهم واقسم لهم من أموالنا ما شئت ، فنزلت :( وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ) [الحشر : ٩]. وقال ابن إسحاق : قسمهاصلىاللهعليهوسلم في المهاجرين إلا سهل بن حنيف وأبو دجانة ، ذكرا فقرا فأعطاهما منها ، والله أعلم.
ثم ولد الحسين بن علي.
قلت : المشهور في ولادته أنها في الثالثة كما قدمناه ، والله أعلم.
ثم كانت بدر الموعود.
قلت : هي بدر الثالثة لما تقدم ، والله أعلم.
ثم كان مقتل سلام بن مشكم أي أبي رافع ، ويقال : عبد الله بن أبي الحقيق وهي سرية عبيد الله بن عتيك. ثم رجم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم اليهوديين اللذين كان يحني أحدهما على الآخر.
زواج أم سلمة هند بنت أبي أمية
قلت : وفيها في شوال تزوج رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أم سلمة هند ـ وقيل : رملة ـ بنت أبي
__________________
(١) دان لهم أهلها : خضع لهم أهلها وأطاعوهم.
أمية ، وهي أول من هاجر مع زوجها أبي سلمة إلى الحبشة ثم هاجرت إلى المدينة ، كذا ذكر بعض أهل السير ، وقال أبو عمر : تزوجهاصلىاللهعليهوسلم سنة اثنتين بعد بدر في شوال.
غزوة ذات الرقاع
وفيها غزوة ذات الرقاع بعد بني النضير بشهرين عند ابن إسحاق ، وقيل : في الخامسة ، وذكرها البخاري بعد خيبر لما في الصحيح من حضور أبي موسى الأشعري فيها ، وهو من أصحاب السفينة ، ولا مانع من التعدد ، والله أعلم.
السنة الخامسة من الهجرة
السنة الخامسة : ثم فك رسول اللهصلىاللهعليهوسلم سلمان من الرق ، ثم خرج إلى دومة الجندل ، فرجع ولم يلق كيدا. ثم توفيت أم سعد بن عبادة.
ثم كسف القمر في جمادى الآخرة ؛ فصلى بهم كصلاة كسوف الشمس.
قلت : وجعلت اليهود يضربون بالطساس ، ويقولون : سحر القمر. وروى ابن حبان في صحيحه أنهصلىاللهعليهوسلم صلّى لكسوف القمر ، والله أعلم.
ثم أصابت قريشا شدة ، فبعث إليهم بفضة يتألفهم بها. ثم وفد بلال بن الحارث المزني ، فكان أول وافد مسلم إلى المدينة. ثم قدم ضمام بن ثعلبة ، ثم غزا المريسيع في شعبان ، وفيها أنزلت آية التيمم بسبب عقد عائشةرضياللهعنها .
قلت : وسيأتي أن الأشبه أن بني المصطلق هي هذه ، والله أعلم.
ثم غزوة الخندق.
غزوة الخندق
قلت : هكذا ذكره ابن إسحاق ، وهو المعتمد ، وقال موسى بن عقبة : كانت في شوال سنة أربع ، وصححه النووي في الروضة ، مع قوله بأن بني قريظة في الخامسة ، وهو عجيب ؛ لما سيأتي من أنها كانت عقيب الخندق ، سميت بذلك لحفر النبيصلىاللهعليهوسلم الخندق بإشارة سلمان الفارسي ، وتسمى بالأحزاب لاجتماع طوائف من المشركين فيها على الحرب ، وهم الذين سماهم الله تعالى الأحزاب ، وأنزل الله في ذلك صدر سورة الأحزاب ، وذلك أن حيي بن أخطب في نفر من بني النضير خرجوا من خيبر إلى مكة ، فحرضوا قريشا على الحرب ، وخرج كنانة بن أبي الحقيق يسعى في بني غطفان ويحضهم على قتال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم على أن لهم نصف ثمر خيبر ، فأجابه عيينة بن حصن الفزاري ، وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد فأقبل إليهم طليحة بن خويلد فيمن أطاعه ، وخرج أبو سفيان بن حرب بقريش ، فنزلوا مر الظهران ، فجاءهم من أجابهم من بني سليم ، وكانوا قد استمدوهم فصاروا في جمع عظيم ـ ذكر ابن إسحاق بأسانيد أن عدتهم عشرة آلاف ، قال :
وكان المسلمون ثلاثة آلاف ـ وقيل : كان المسلمون ألفا ، والمشركون أربعة آلاف ـ وذكر موسى بن عقبة أن مدة الحصار كانت عشرين يوما ، ونزلت قريش بمجتمع السيول من رومة بني الجرف وزغابة ، وغطفان ومن تبعهم من أهل نجد بذنب نقمى إلى جانب أحد.
وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس : ونزل عيينة في غطفان ومن معهم من أهل نجد إلى جانب أحد بباب نعمان ، وخرج رسول اللهصلىاللهعليهوسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع ، والخندق بينه وبين القوم ، وجعل النساء والذراري في الآطام.
وقال ابن إسحاق : نزلت قريش بمجتمع السيول في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وتهامة ، ونزل عيينة في غطفان ، وذكر ما تقدم من رواية ابن عباس المذكورة.
وروى الطبراني ورجاله ثقات عن رافع بن خديج قال : لم يكن حصن أحصن من حصن بني حارثة ، فجعل النبيصلىاللهعليهوسلم النساء والصبيان والذراري فيه ، وقال : إن لم يكن أحد فالمعن بالسيف ، فجاءهن رجل من بني ثعلبة بن سعد يقال له «نجدان» أحد بني جحاش على فرس حتى كان في أصل الحصن ، ثم جعل يقول للنساء : أنزلن إلي خير لكن ، فحركن السيف ، فأبصره أصحاب رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فابتدر الحصن(١) قوم فيهم رجل من بني حارثة يقال له : ظفر بن رافع ، فقال : يا نجدان ابرز ، فبرز إليه ، فحمل عليه فقتله ، وأخذ رأسه فذهب به إلى النبيصلىاللهعليهوسلم .
وروى البزار بإسناد ضعيف عن الزبير بن العوامرضياللهعنه أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم لما خرج للخندق جعل نساءه وعمته صفية في أطم يقال له «فارع» وجعل معهم حسان بن ثابت ، فرقي يهودي حتى أشرف على نساء رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وعلى عمته ، فقالت صفية : يا حسان قم إليه حتى تقتله ، قال : لا ، والله ما ذاك فيّ ، ولو كان في لخرجت مع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قالت صفية : فاربط
السيف على ذراعي ، ثم تقدمت إليه حتى قتلته ، وقطعت رأسه ، فقالت له : خذ الرأس فارم به على اليهود ، قال : ما ذاك فيّ ، فأخذت هي الرأس فرمت به على اليهود ، فقالت اليهود : قد علمنا أن لم يك يترك أهله خلوفا ليس معهم أحد ، فتفرقوا وذهبوا.
وروى أحمد بإسناد قوي عن عبد الله بن الزبير قال : كانت صفية في حصن حسان بن ثابت يوم الخندق ، أي : وهو المسمى بفارع ، فذكر الحديث في قتلها اليهودي وقولها لحسان : انزل فاسلبه(٢) ، فقال : ما لي بسلبه حاجة.
__________________
(١) ابتدر الحصن قوم : أسرع إليه جماعة.
(٢) سلب القتيل : ما يؤخذ من القتيل من ثياب وسلاح ودابة.
وروى الطبراني هذه القصة عن صفيةرضياللهعنها في غزوة أحد ، وفي إسناده اثنان ، قال الهيثمي : لم أعرفهما ، وبقية إسناده ثقات ، والمذكور في كتب السير أن هذه القصة في الخندق ، وأن بعضهم كان بحصن بني حارثة وبعضهم بفارع ، وأن صفيةرضياللهعنها لما فرغت من قتل اليهودي ورجعت إلى الحصن قالت لحسان : انزل فاسلبه ، فإني لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل ، قال : ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب.
قال السهيلي : محمل هذا الحديث عند الناس أن حسان كان جبانا شديد الجبن ، وقد دفع بعض العلماء هذا وأنكره ، وقال : لو صح هذا لهجي حسان به ، فإنه كان يهاجي الشعراء ، وكانوا يردون عليه فما عيّره أحد بجبن ، وإن صح فلعل حسان كان معتلا في ذلك اليوم بعلة منعته من شهود القتال ، انتهى.
وروى الطبراني برجال الصحيح عن عروة مرسلا أن النبيصلىاللهعليهوسلم أدخل نساءه يوم الأحزاب أطما من آطام المدينة ، وكان حسان بن ثابت رجلا جبانا ، فأدخله مع النساء ، فأغلق الباب ، وذكر القصة.
وممن ذكر القصة في الخندق ابن إسحاق ، ويؤيده أن اليهود إنما غدروا في الخندق ، وذلك أن حيي بن أخطب توجه إلى بني قريظة ، فلم يزل بهم حتى غدروا ، وبلغ المسلمين غدرهم ، فاشتد بهم البلاء والحصار حتى تكلم معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف وأوس بن قيظي أخو بني حارثة وغيرهما من المنافقين بالنفاق ، وأنزل الله تعالى :( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ) [الأحزاب : ١٢] الآيات. قال ابن عباس : وكان الذين جاءوهم من فوقهم بنو قريظة ، ومن أسفل منهم قريش وغطفان ، وكان حيي بن أخطب أتى كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وعهدهم ، فأغلق باب حصنه دونه ، وقال : لم أر من محمد إلا وفاء وصدقا ، فقال له : إني جئتك بعز الدهر ، جئتك بقريش وغطفان على قادتهما وسادتهما قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه ، فقال له كعب : جئتني والله بذلّ الدهر ، وبجهام قد هراق(١) ماءه فهو يرعد ويبرق وليس فيه شيء ، فلم يزل حتى نقض كعب عهده وبرئ مما كان بينه وبين محمدصلىاللهعليهوسلم فاشتد الخوف بالمسلمين.
قال ابن إسحاق : ولم يقع بينهم حرب إلا مراماة بالنبل ، ولكن كان عمرو بن عبد ود العامري اقتحم هو ونفر معهم خيولهم من ناحية ضيقة من الخندق ، فبارزه علي فقتله ، وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي ، فبارزه الزبير فقتله ، ويقال : قتله علي ،
__________________
(١) الجهام : السحاب لا ماء فيه. هراق : أفرغ.
ورجعت بقية الخيول منهزمة ، وقيل : اقتتلوا ثلاثة أيام قتالا شديدا حتى يحجز الليل بينهم ، سيما في اليوم الثالث ، حتى شغلهم القتال عن صلاة العصر والمغرب ـ وقيل : والظهر ـ وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى :( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً ) [البقرة : ٢٣٩] قال مالك : ولم يستشهد يوم الخندق إلا أربعة أو خمسة ، وذكر غيره ستة ، وهم : سعد بن معاذ كما سيأتي ، وأنس بن أوس بن عتيك ، وعبد الله بن سهيل ، وهم من بني عبد الأشهل ، وثعلبة بن غنمة ، والطفيل بن النعمان ، وهما من بني سلمة ، وكعب بن زيد من بني دينار بن النجار.
وكان من المناوشات بين الفريقين أن مات بعض بني عمرو بن عوف من أهل قباء ، فاستأذن أقرباؤه رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ليدفنوه ، فأذن لهم ، فلما خرجوا إلى الصحراء لدفن ميتهم وافقوا ضرار بن الخطاب وجماعة من المشركين بعثهم أبو سفيان ليمتاروا له من قريظة على إبل له ، فحملوا على بعضها قمحا ، وعلى بعضها شعيرا ، وعلى بعضها تمرا وتبنا للعلف ، فلما رجعوا وبلغوا ساحة قباء وافقوا الذين كانوا يدفنون ميتهم ، فناهضهم المسلمون وغلبوهم ، فجرح ضرار جراحات ، فهرب هو وأصحابه ، وساق المسلمون الإبل بما عليها إلى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وكان للمسلمين في ذلك سعة من النفقة.
إسلام نعيم بن مسعود الأشجعي
ثم أتى نعيم بن مسعود الأشجعي إلى النبيصلىاللهعليهوسلم مسلما ، ولم يعلم به قومه ، فقال له : خذل عنا(١) ، فمضى إلى بني قريظة ، وكان نديما لهم ، فقال : قد عرفتم محبتي ، قالوا : نعم ، فقال : إن قريشا وغطفان ليست هذه بلادهم ، وإنهم إن رأوا فرصة انتهزوها ، وإلا رجعوا إلى بلادهم وتركوكم في البلاد مع محمد ، ولا طاقة لكم به ، قالوا : فما ترى؟ قال : لا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهنا ، فقبلوا رأيه ، فتوجه إلى قريش فقال لهم : إن اليهود ندموا على الغدر بمحمد ، فراسلوه في الرجوع إليه ، فراسلهم بأنا لا نرضى حتى تبعثوا إلى قريش فتأخذوا منهم رهنا فأقتلهم ، ثم جاء غطفان بنحو ذلك ، فلما أصبح أبو سفيان بعث عكرمة بن أبي جهل إلى بني قريظة بأنا قد ضاق بنا المنزل ، ولم نجد مرعى ، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ، فأجابوهم إن اليوم يوم السبت ، ولا نعمل فيه شيئا ، ولا بد لنا من الرهن منكم لئلا تغدروا بنا ، فقالت قريش : هذا ما حذركم نعيم ، فراسلوهم ثانيا : إنا لا نعطيكم رهنا ، فإن شئتم أن تخرجوا فافعلوا ، فقالت قريظة : هذا ما أخبرنا نعيم ، ثم بعث الله عليهم الريح فما تركت لهم بناء إلا هدمته ، ولا إناء إلا أكفته ، لا تقر
__________________
(١) خذّلهم : احملهم على الفشل وترك القتال.
لهم قرارا ولا نارا ولا بناء ، فقام أبو سفيان فقال : يا معشر قريش ، والله ما أصبحتم بدار مقام(١) ، لقد هلك الكراع والخف ، وأخلفتنا بنو قريظة ، ولقينا من شدة الريح ما ترون ، فارتحلوا فإني مرتحل ، فتحملت قريش وإن الريح لتغلبهم على بعض أمتعتهم ، وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا(٢) راجعين إلى بلادهم ، وقالصلىاللهعليهوسلم : «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا».
وفي الذيل على أخبار المدينة لابن النجار لصاحبه العراقي عن الكلبي أنه قال : إن الملائكة اتبعوا الأحزاب حتى بلغوا الروحاء يكرون في أدبارهم ، فهربوا لا يلوون على شيء(٣) ، والله أعلم.
ثم كانت غزوة بني قريظة.
غزوة بني قريظة
قلت : قال أبو الربيع الكلاعي في الاكتفاء : ولما أصبح رسول اللهصلىاللهعليهوسلم انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة ومعه المسلمون ، فلما كانت الظهر أتاه جبريل ـ ويقولون فيما ذكر ابن عقبة أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم كان في المغتسل عند ما جاءه جبريل ، وهو يرجّل رأسه(٤) ، قد رجّل أحد شقيه ، فجاءه جبريل على فرس عليه اللأمة وأثر الغبار ، حتى وقف بباب المسجد عند موضع الجنائز ، فخرج إليه رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فقال له جبريل : غفر الله لك! قد وضعتم السلاح؟ قال : نعم ، قال جبريل : ما وضعت الملائكة السلاح بعد ، وما رجعت إلا من طلب القوم ، إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة ، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم ، اه.
وفي رواية أخرى أنه قال : انهض إليهم فلأضعضعنهم ، فأدبر جبريل ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم من الأنصار ، وأصله في البخاري في باب مرجع النبيصلىاللهعليهوسلم من الأحزاب من رواية أنس ، قال : كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في سكة بني غنم من موكب جبريل.
ورواه ابن سعد من طريق حميد بن هلال مطولا ، لكن ليس فيه أنس ، وأوله : كان بين النبيصلىاللهعليهوسلم وبين بني قريظة عهد ، فلما جاءت الأحزاب نقضوه وظاهروهم ، فلما هزم الله الأحزاب تحصنوا ، فجاء جبريل فقال : يا رسول الله ، انهض إلى بني قريظة ، فقال : إن
__________________
(١) دار المقام : مكان الإقامة.
(٢) انشمروا راجعين : انكفأوا عائدين أدراجهم.
(٣) لا يلوون على شيء : لا يهتمون لشيء.
(٤) رجّل رأسه : سوّى شعره وزيّنه.
في أصحابي جهدا ، قال : انهض إليهم فلأضعضعنهم ، قال : فأدبر جبريل ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم من الأنصار.
قلت : زقاقهم هو عند موضع الجنائز في شرقي المسجد ، كما علم من ذكر منازلهم.
وفي رواية : لما انصرف رسول اللهصلىاللهعليهوسلم من الخندق والمسلمون ، ووضعوا السلاح ، أتى جبريل رسول اللهصلىاللهعليهوسلم معتجرا بعمامة(١) من استبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج ، فقال : أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال : نعم ، فقال : ما وضعت الملائكة السلاح بعد ، وما رجعت إلا من طلب القوم ، إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة ، فأمر النبيصلىاللهعليهوسلم بلالا فأذن في الناس : من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ، وقدم علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة ، وابتدرها الناس ، وحاصرهم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم خمسا وعشرين ليلة في رواية ، وفي أخرى خمس عشرة ، وعند ابن سعد عشرة ، حتى أجهدهم الحصار ، وقذف في قلوبهم الرعب ، فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد وقال لهم : إما أن تؤمنوا بمحمد فو الله إنه نبي أو تقتلوا نساءكم وأبناءكم وتخرجوا مستقتلين ليس وراءكم ثقل(٢) وتبيتوا المسلمين ليلة السبت ، فقالوا : لا نؤمن ولا نستحل السبت ، وأي عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا؟ وأرسلوا إلى أبي لبابة بن عبد المنذر أخي بني عمرو بن عوف من الأوس ، وكانوا حلفاءهم ، فاستشاروه في النزول على حكم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فأشار إلى حلقه ، يعني الذبح ، ثم ندم ، فتوجه إلى المسجد النبوي ، وارتبط بسارية تعرف به اليوم حتى تاب الله عليه ، واستشهد من المسلمين خلاد بن سويد من بني الحارث بن الخزرج ، طرحت عليه امرأة من بني قريظة رحى فقتلته ، وأمرصلىاللهعليهوسلم بقتلها بعد ذلك ، ومات في الحصار أبو سنان بن محصن الأسدي أخو عكاشة بن محصن ، فدفنه رسول اللهصلىاللهعليهوسلم في مقبرة بني قريظة التي تدافن فيها المسلمون لما سكنوها ، ولم يصب غير هذين ، فلما اشتد بهم الحصار أذعنوا(٣) أن ينزلوا على حكم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فقال الأوس : قد فعلت في موالي الخزرج ـ أي : بني قينقاع ـ ما علمت ، قال : ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا : بلى ، قال : فذلك إلى سعد بن معاذ ، وكان سعد قد أصابه سهم في أكحله(٤) يوم الخندق ، فأتاه قومه ، فحملوه على حمار ، ثم أقبلوا معه يقولون : يا أبا عمرو ، أحسن في مواليك فإن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم ، فلما أكثروا
__________________
(١) اعتجر بالعمامة : لفّها على رأسه وردّ طرفها على وجهه.
(٢) الثقل : الحمل الثقيل. و ـ متاع المسافر.
(٣) أذعنوا : انقادوا وأقروا.
(٤) الأكحل : وريد في وسط الذراع يفصد أو يحقن.
قال : لقد آن لسعد ألّا تأخذه في الله لومة لائم ، فجاء سعد فرد رسول اللهصلىاللهعليهوسلم الحكم إليه ، فقال سعد : فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال ، وتقسم الأموال ، وتسبى الذراري والنساء ، فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : قد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة : سماوات ، ثم استنزلوا ، فحبسهم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم في المدينة ، ثم خرجصلىاللهعليهوسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق ، ثم بعث إليهم ، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق وفيهم عدو الله حيي بن أخطب ؛ فإنه كان قد عاهد كعب بن أسد لئن رجعت قريش وغطفان لأدخلن معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك ، فلما رجعت الأحزاب دخل معه في حصنه ، فكان ذلك ، فأمر رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بقتل من أنبت منهم ، ومن لم ينبت استحياه ، ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة كانت طرحت رحى على خلاد بن سويد كما سبق.
وعند ابن سعد من مرسل حميد بن هلال : أن سعد بن معاذ حكم أيضا أن يكون دارهم للمهاجرين دون الأنصار ، فلامه الأنصار ، فقال : أحببت أن يستغنوا عن دوركم.
واختلف في عدتهم ؛ فعند ابن إسحاق كانوا ستمائة ، وعند ابن عائذ من مرسل قتادة كانوا سبعمائة ، وقال السهيلي : المكثر يقول : إنهم ما بين الثمانمائة إلى السبعمائة ، وفي النسائي وابن ماجه بإسناد صحيح أنهم كانوا أربعمائة مقاتل ، وكان الزبير بن باطا القرظي قد مر على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بعاث ، فجاءه ثابت لما قتل بنو قريظة وهو شيخ كبير ، وذكّره بذلك ، ثم ذهب فاستوهبه من رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فوهبه إياه ، فأتاه فقال : شيخ كبير لا أهل له ولا ولد ، فما يصنع بالحياة؟ فاستوهب له امرأته وولده ، فقال : أهل بيت بالحجاز لا مال لهم ، فما بقاؤهم؟ فاستوهب له ماله ، فأتاه فأعلمه ، فقال : أي ثابت ما فعل فلان وفلان ، وصار يذكر قومه ويصفهم ، فقال له : قتلوا ، قال : فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم ، فو الله ما في العيش بعد هؤلاء من خير ، فقدمه ثابت فضرب عنقه.
ثم قسم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين ، وأسهم للخيل ، فكان أول فيء وقعت فيه السهمان(١) ، وأخرج منه الخمس ، واصطفى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة ، فكانت عنده حتى توفي ، وكان يحرص عليها أن يتزوجها ، فقالت : تتركني في ملكك فهو أحق علي وعليك ، فتركها ، وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام ، فوجد رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بذلك من أمرها ، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال : إن هذا لثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة ، فكان كذلك ، وقيل : إن النبيصلىاللهعليهوسلم أعتقها وتزوجها ، وإنها ماتت
__________________
(١) السّهمان : القرعة. و ـ النصيب.
في حياته مرجعه من حجة الوداع ، وهذا الأثبت عند الواقدي ، وبعضهم يقول : هي من بني النضير.
ولما انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ فمات شهيدا.
وفي البخاري ما يقتضي أن قريظة كانوا قد حاربوا قبل ذلك مع بني النضير ، وأن النبيصلىاللهعليهوسلم منّ عليهم ، ولم أر التصريح بذلك ، ولم يتعرض له الحافظ ابن حجر في شرحه ، وقد قدمنا في بني النضير من رواية ابن مروديه ما يشهد له ، ولفظ البخاري : عن ابن عمر قال : حاربت النضير وقريظة ، فأجلى بني النضير ، وأقر قريظة ومنّ عليهم ، حتى حاربت قريظة ، فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأموالهم وأولادهم بين المسلمين ، إلا بعضهم لحقوا بالنبيصلىاللهعليهوسلم فأمنهم وأسلموا ، وأجلى يهود المدينة كلهم : بني قينقاع وهم رهط عبد الله بن سلام ، ويهود بني حارثة ، وكل يهودي بالمدينة ، اه.
ورواه أبو داود بنحوه ، إلا أنه قال : حتى حاربت قريظة بعد ذلك ، يعني بعد محاربتهم الأولى وتقريرهم ، ويؤخذ من ذلك أن إجلاء من بقي من طوائف اليهود بالمدينة كان بعد قتل قريظة.
وفي البخاري أيضا من حديث أبي هريرةرضياللهعنه قال : بينما نحن في المسجد خرج النبيصلىاللهعليهوسلم فقال : انطلقوا إلى يهود ، فخرجنا حتى إذا جئنا بيت المدراس(١) قال :أسلموا تسلموا ، واعلموا أن الأرض لله ولرسوله وأني أريد أن أجليكم من هذه الأرض ، فمن يجد منكم بما له شيئا فليبعه ، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ولرسوله ، وهو مقتض لأن ذلك كان بعد خيبر ؛ لأن إسلام أبي هريرة بها في السنة السابعة ، والله أعلم.
ثم كانت سرية عبيد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد الهذلي ثم اللحياني بعرنة(٢) ، وفيها سقط رسول اللهصلىاللهعليهوسلم عن فرسه(٣) فجحش ، وفيها دفت دافة العرب(٤) ، فنهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث.
قلت : وتزوج زينب بنت جحش ، وهي بنت عمته أميمة ، وقيل : في الثالثة ، وبسبها نزلت آية الحجاب ، وأسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص ، والله أعلم.
السنة السادسة من الهجرة
السنة السادسة : في أولها أتى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بثمامة بن أثال أسيرا ، ثم كسفت الشمس ثانية بعد الكسوف الذي كان يوم مات ابنه إبراهيم.
__________________
(١) المدراس : موضع يدرس فيه كتاب الله ، ومنه مدارس اليهود.
(٢) العرنة : موقف بعرفات.
(٣) جحش شقه : انخدش جلده.
(٤) دفت الدافة : جماعة من الناس تقبل من بلد إلى بلد.
قلت : لعل في النسخة خللا لما سنذكره من ولادة إبراهيم في الثامنة ووفاته في العاشرة ، فالكسوف في السادسة هو الكسوف الأول ، وفيها نزل حكم الظهار ، والله أعلم.
وفيها قتل المشركون سرية محمد بن مسلمة ولم يفلت منهم غيره ، وكانوا عشرة ، ثم كانت سرية علي بن أبي طالب إلى فدك في مائة رجل ، ثم كانت سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل ، فظهر عليهم ، فزوجه رسول اللهصلىاللهعليهوسلم تماضر بنت الأصبغ بن عمرو الكلبي وهو ملكهم ، ثم أجدب الناس فاستسقى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم في رمضان في موضع المصلى فسقوا ، ثم أرسل زيد بن حارثة في سرية ، فسبى سلمة بن الأكوع في تلك السرية بنت مالك بن حذيفة ، ثم كانت الحديبية ، ثم أغار عيينة بن حصن الفزاري على لقاح رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فاستنقذها.
قلت : قد قدمنا في حدود الحرم أن لقاحهصلىاللهعليهوسلم كانت ترعى بالغابة وما حولها ، فأغار عليها عيينة يوم ذي قرد ، وهو الموضع الذي كان فيه القتال ، سميت الغزوة به ، وتسمى أيضا غزوة الغابة.
قال ابن إسحاق : لما قدم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم من غزوة بني لحيان وكان في شعبان سنة ست ، لم يقم إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينة في خيل من غطفان على لقاح رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بالغابة ، وفيها رجل من بني غفار وامرأته ، فقتلوا الرجل ، واحتملوا المرأة في اللقاح ، وكان أول من نذر بهم سلمة بن الأكوع ، غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ونبله حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم ، فأشرف في ناحية سلع ، ثم صرخ : وا صباحاه ، ثم خرج يشتد في آثار القوم حتى لحقهم ، فجعل يردهم بالنبل ويقول إذا رمى : خذها وأنا ابن الأكوع ، واليوم يوم الرضّع ، فإذا وجهت الخيل نحوه هرب ، ثم عارضهم ، وهكذا ، وبلغ رسول اللهصلىاللهعليهوسلم صياحه ، فصرخ بالمدينة : الفزع ، الفزع ، فترامت الخيل إليه ، فلما اجتمعوا أمّر عليهم سعد بن زيد الأشهلي ، وقال : اخرج في طلب القوم حتى ألحقك في الناس ، فقتل أبو قتادةرضياللهعنه حبيب بن عيينة بن حصن وغشاه برده ، وأقبل رسول اللهصلىاللهعليهوسلم في المسلمين ، فإذا حبيب مسجى ببرد أبي قتادة ولكنه قتيل ، فظنوه هو ، فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : ليس بأبي قتادة ولكنه قتيل له ، وأدرك عكاشة بن محصنرضياللهعنه أوبارا وابنه عمر بن أوبار ، وهما على بعير واحد ، فانتظمهما بالرمح ، فقتلهما جميعا ، واستنقذوا بعض اللقاح ، وسار رسول اللهصلىاللهعليهوسلم حتى نزل بالخيل من ذي قرد ، وتلاحق به الناس ، وأقام عليه يوما وليلة ، وقال له سلمة : يا رسول الله لو سرّحتني في مائة رجل لاستنقذت