وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى الجزء ١

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى0%

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى مؤلف:
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الناشر: دار الكتب العلميّة
تصنيف: مكتبة الحديث وعلومه
ISBN: 2-7451-3818-9
الصفحات: 293

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى

مؤلف: نور الدين علي بن أحمد السّمهودي
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الناشر: دار الكتب العلميّة
تصنيف:

ISBN: 2-7451-3818-9
الصفحات: 293
المشاهدات: 8356
تحميل: 4253


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 293 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 8356 / تحميل: 4253
الحجم الحجم الحجم
وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار الكتب العلميّة
ISBN: 2-7451-3818-9
العربية

من خصائصها طيب ريحها ، وللمطر فيها رائحة لا توجد في غيرها ، وما أحسن قول أبي عبد الله العطار :

بطيب رسول الله طاب نسيمها

فما المسك ما الكافور ما المندل الرّطب

ظباب

السادس والأربعون : «ظباب» ذكره ياقوت ، ولم يضبطه ، وهو إما بكسر المهملة أو بفتح المعجمة ؛ فالأول بمعنى القطعة المستطيلة من الأرض ، والثاني من ظبب وظبظب إذا حمّ ؛ لأنها كانت لا يدخلها أحد إلا حمّ ، قاله المجد.

العاصمة

السابع والأربعون : «العاصمة» لأنها عصمت المهاجرين ووقتهم أذى المشركين ، ولما تقدم في «الجنة الحصينة» ويحتمل : أن يكون بمعنى المعصومة لعصمتها قديما بجيوش موسى وداودعليهما‌السلام المبعوث إلى من كان بها من الجبابرة ، وحفظها حديثا نبي الرحمةصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى صارت حرما آمنا ، لا يدخلها الدجال ولا الطاعون ، ومن أرادها بسوء أذابه الله.

العذراء

الثامن والأربعون : «العذراء» بإهمال أوله وإعجام ثانيه ، منقول عن التوراة ، سميت به لحفظها من وطء العدو القاهر في سالف الزمان ، إلى أن تسلمها مالكها الحقيقي سيد الأنام ، مع صعوبتها وامتناعها على الأعداء ، ولذلك سميت البكر بالعذراء.

العرّاء

التاسع والأربعون : «العرّاء» بإهمال أوله وثانيه وتشديده ، بمعنى الذي قبله ، قال أئمة اللغة : العراء الجارية العذراء ، كأنها شبهت بالناقة العراء التي لا سنام لها وصغر سنامها كصغر نهد العذراء أو عدمه ؛ فيجوز أن يكون تسمية المدينة بذلك لعدم ارتفاع أبنيتها في السماء.

العروض

الخمسون : «العروض» كصبور ، وقيل : هو اسم لها ولما حولها ؛ لانخفاض مواضع منها ومسائل أودية فيها ، وقال الخليل : العروض : طريق في عرض الجبل ، وعرض الرجل إذا أتى المدينة ؛ فإن المدينة سميت عروضا لأنها من بلاد نجد ، ونجد كلها على خط مستقيم طولاني والمدينة معترضة عنها ناحية على أنها نجدية.

٢١

الغرّاء

الحادي والخمسون : «الغرّاء» بالغين المعجمة ـ تأنيث الأغر ، وهو ذو الغرة من الخيل : أي : البياض في مقدم وجهه ، والغرة أيضا : خيار كل شيء ، وغرة الإنسان : وجهه ، والأغر : الأبيض من كل شيء ، والذي أخذت اللحية جميع وجهه إلا القليل ، ومن الأيام الشديد الحر ، والرجل الكريم ، والغراء : نبت طيب الرائحة ، والسيدة الكبيرة في قبيلتها ؛ فسميت المدينة بذلك لشرف معالمها ، ووضوح مكارمها ، واشتهارها ، وسطوع نورها ، وبياض نورها ، وطيب رائحتها ، وكثرة نخلها ، وسيادتها على القرى ، وكرم أهلها ، ورفعة محلها.

غلبة

الثاني والخمسون : «غلبة» محركة بمعنى الغلب ؛ لظهورها واستيلائها على سائر البلاد ، وهو اسم قديم جاهلي ، قال ابن زبالة : حدثني داود بن مسكين الأنصاري عن مشيخته قالوا : كانت يثرب في الجاهلية تدعى غلبة ، نزلت اليهود على العماليق فغلبتهم عليها ، ونزلت الأوس والخزرج على اليهود فغلبوهم عليها ، ونزل الأعاجم على المهاجرين فغلبوهم عليها ، كذا في النسخة التي وقفت عليها من كتاب ابن زبالة ، ونقله المجد عن الزبير بن بكار راوي كتاب ابن زبالة ، وقال فيه بدل قوله ونزل الأعاجم : ونزل المهاجرون على الأوس والخزرج فغلبوهم عليها.

الفاضحة

الثالث والخمسون : «الفاضحة» بالفاء والضاد المعجمة والحاء المهملة ـ نقله بعضهم عن كراع ، ومأخذها ما سيأتي في معنى كونها تنفي خبثها من أنها تميزه وتظهره فلا يبطن بها أحد عقيدة فاسدة أو يضمر أمرا إلا ظهر عليه ، وافتضح به ، بخلاف غيرها من البلاد ، وقد شاهدنا ذلك كثيرا بها.

القاصمة

الرابع والخمسون : «القاصمة» بالقاف والصاد المهملة ـ نقل عن التوراة سميت به لقصمها كل جبار عناها(١) ، وكسر كل متمرد أتاها ، ومن أرادها بسوء أذابه الله.

قبة الإسلام

الخامس والخمسون : «قبة الإسلام» لحديث «المدينة قبة الإسلام».

قرية الأنصار

السادس والخمسون : «قرية الأنصار» قال ابن سيدة : القرية ـ بفتح القاف وكسرها ـ

__________________

(١) عناها : أرادها. و ـ قصدها بسوء.

٢٢

المصر الجامع ، من قريت الماء في الحوض ، إذا جمعته ، وقال أبو هلال العسكري : العرب تسمي كل مدينة صغرت أو كبرت قرية ، قلت : وسيأتي في معنى «المدينة» ما يقتضي أنه يعتبر في مسماها زيادتها على القرية ونقصها على المصر ، وقيل : يطلق عليه ، والأنصار : واحدهم ناصر ، سموا بذلك لنصرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيوائهم له وللمهاجرين ، فمدحهم الله بقوله :( وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا ) [الأنفال : ٧٢] فسماهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنصار ، وكان يقال لهم قبل ذلك الأوس والخزرج ، وفي الحديث عن غيلان بن جرير قال : قلت لأنس بن مالك : أرأيتم اسم الأنصار ، كنتم تسمون به أم سماكم الله؟ قال : بل سمانا الله. وسيأتي في حديث «إن الله قد طهر هذه القرية من الشرك» فلك أن تعده اسما آخر.

قرية رسول الله

السابع والخمسون : «قرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم » لما سيأتي في عصمتها من الدجال من قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثم يسير حتى يأتي المدينة ، ولا يأذن له فيها ؛ فيقول : هذه قرية ذاك الرجل» يعني النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم .

قلب الإيمان

الثامن والخمسون : «قلب الإيمان» أورده ابن الجوزي في الوفاء في حديث «المدينة قبة الإسلام».

المؤمنة

التاسع والخمسون : «المؤمنة» إما لتصديقها بالله حقيقة كذوي العقول ؛ إذ لا بعد في خلق الله تعالى قوة في الجماد قابلة للتصديق والتكذيب ، وقد سمع تسبيح الحصى في كفهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو مجازا لاتصاف أهلها بذلك ، ولانتشار الإيمان منها ، واشتمالها على أوصاف المؤمن من النفع والبركة وعدم الضرر والمسكنة ، وإما لإدخالها أهلها في الأمان من الأعداء ، وأمنهم من الدجال والطاعون ، وروى ابن زبالة في حديث «والذي نفسي بيده إن ترتبها لمؤمنة» وروى «أنها مكتوبة في التوراة مؤمنة».

المباركة

الستون : «المباركة» ؛ لأن الله تعالى بارك فيها بدعائهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لحديث «اللهم اجعل

٢٣

بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة» وغيره من الأحاديث الصحيحة الكثيرة ، وآثار تلك الدعوات من الأمور الظاهرات.

مبوأ الحلال والحرام

الحادي والستون : «مبوّأ الحلال والحرام» رواه الطبراني في حديث «المدينة قبة الإسلام» والتبوؤ : التمكن والاستقرار ، سميت به لأنها محل تمكن هذين الحكمين واستقرارهما ، وفي بعض النسخ «مثوى» بالمثلاثة الساكنة بدل الموحدة ، والأول هو الذي رأيته بخط الحافظ أبي الفتح المراغي.

مبين الحلال والحرام

الثاني والستون : «مبين الحلال والحرام» رواه ابن الجوزي والسيد أبو العباس القرافي في حديث «المدينة قبة الإسلام» بدل الذي قبله ، سميت به لأنها المحل الذي ابتدأ فيه ببيان الحلال والحرام.

المجبورة

الثالث والستون : «المجبورة» بالجيم ـ ذكره في حديث «للمدينة عشرة أسماء» ونقل عن الكتب المتقدمة ، وسميت به لأن الله تعالى جبرها بسكنى نبيه وصفيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حيا وضمها لأعضائه الشريفة ميتا بعد نقل حمّاها ، وتطييب مغناها ، والحث على سكناها ، وتنزل البركات بمدها وصاعها ؛ فهي بهذا السر الشريف مسرورة ، وبهذه المنح العظيمة محبورة ، تسحب ذيل الفخار ، على سائر الأقطار.

المحبة

الرابع والستون : «المحبة» بضم الميم وبالحاء المهملة وتشديد الموحدة ـ نقل عن الكتب المتقدمة.

المحبّبة

الخامس والستون : «المحببة» بزيادة موحدة على ما قبله.

المحبوبة

السادس والستون : «المحبوبة» نقل عن الكتب المتقدمة أيضا ، وهذه ثلاثة مع ما تقدم من اسمها الحبيبة من مادة واحدة ، سميت بذلك لما تقدم من حبهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لها ودعائه بذلك ، وجاء ما يقتضي أنها أحب البقاع إلى الله تعالى ، ويؤيده أنه تعالى اختارها لحبيبهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حيّا وميتا ؛ فهي محبوبة إلى الله تعالى ورسوله وسائر المؤمنين ، ولهذا ترتاح النفوس لذكرها ، وتهيم القلوب لشهود سرها.

٢٤

المحبورة

السابع والستون : «المحبورة» من الحبر ، وهو السرور ، وكذلك الحبر والحبور والحبرة ، لما تقدم في الحبورة ، أو هو من الحبرة بمعنى النعمة ، والحبرة أيضا المبالغة فيما وصف بجميل ، والمحبار من الأرض : السريعة النبات الكثيرة الخيرات.

المحرمة

الثامن والستون : «المحرمة» لما سيأتي في تحريمها.

المحفوفة

التاسع والستون : «المحفوفة» لأنها محفوفة بالبركات ، وملائكة السموات ، محفوظة من المخاوف والأوجال ، وعلى أبوابها وأنقابها(١) الملائكة يحرسونها من الطاعون والدجال ، وسيأتي حديث «المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة ، على كل نقب منها ملك ، لا يدخلها الدجال ولا الطاعون».

المحفوظة

السبعون : «المحفوظة» لأن الله تعالى حفظها من الدجال والطاعون وغيرهما ، وفي حديث «القرى المحفوظة أربع» وذكر المدينة منها ، وفي حديث آخر رويناه في فضائل المدينة للمفضل الجندي «المدينة مشتبكة بالملائكة ، على كل نقب منها ملك يحرسها» فلك أن تسميها المحروسة أيضا.

المختارة

الحادي والسبعون : «المختارة» لأن الله تعالى اختارها للمختار من خلقه في حياته ومماته.

مدخل صدق

الثاني والسبعون : «مدخل صدق» قال الله تعالى :( وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ) [الإسراء : ٨٠] ، قال بعض المفسرين : مدخل صدق : المدينة ، ومخرج صدق : مكة،

__________________

(١) الأنقاب : جمع نقب. الطريق الضيق في الجبل.

٢٥

وسلطانا نصيرا : الأنصار ، وروي ذلك عن زيد بن أسلم ، ويدل له ما رواه الترمذي وصححه في سبب نزول الآية.

المدينة

الثالث والسبعون : «المدينة». الرابع والسبعون : «مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم » من مدن بالمكان إذا أقام ، أو من دان إذا أطاع ، فالميم زائدة ؛ لأن السلطان يسكن المدن فتقام له طاعة فيها ، أو لأن الله تعالى يطاع فيها ، والمدينة : أبيات مجتمعة كثيرة تجاوز حد القرى كثرة وعمارة ، ولم تبلغ حد الأمصار ، وقيل : يقال لكل مصر. والمدينة وإن أطلق على أماكن كثيرة فهو علم مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهجر كونه علما في غيرها ، بحيث إذا أطلق لا يتبادر إلى الفهم غيرها ؛ ولا يستعمل فيها إلا معرفة ، قيل : لأنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سكنها ، وله دانت الأمم ولأمته ، والنكرة اسم لكل مدينة ، وقد نسبوا للكل مديني ، وإلى مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم مدني ، للفرق ، وتسميتها بذلك متكررة في القرآن العظيم ، ونقل عن التوراة.

المرحومة

الخامس والسبعون : «المرحومة» نقل عن التوراة ، سميت به لأنها دار المبعوث رحمة للعالمين ، ومحل تنزيل الرحمة من أرحم الراحمين ، وأول بلد رحمت بسيد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وسلم .

المرزوقة

السادس والسبعون : «المرزوقة» لأن الله تعالى رزقها أفضل الخلق فسكنها ، أو المرزوق أهلها أرزاقا حسية ومعنوية ومن فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ولا يخرج أحد منها رغبة عنها إلا أبدلها الله خيرا منه كما جاء في الحديث.

مسجد الأقصى

السابع والسبعون : «مسجد الأقصى» نقله التادلي في منسكه عن صاحب المطالع.

المسكينة

الثامن والسبعون : «المسكينة» نقل عن التوراة ، وذكر في حديث «للمدينة عشرة أسماء» وروي عن علي يرفعه «إن الله تعالى قال للمدينة : يا طيبة ، يا طابة ، يا مسكينة ، لا تقبلي الكنوز ، أرفع أجاجيرك على أجاجير(١) القرى» عن كعب أنه وجد ذلك في التوراة ،

__________________

(١) الأجاجير : السطوح التي لا سترة عليها.

٢٦

والأجاجير : السطوح ، وأصل المسكنة الخضوع ، فسميت بذلك إما لأن الله تعالى خلق فيها الخضوع والخشوع له ، وإما لأنها مسكن المساكين ، سكنها كل خاضع وخاشع ، وفي الحديث «اللهم أحيني مسكينا ، وأمتني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين».

المسلمة

التاسع والسبعون : «المسلمة» كالمؤمنة ، وقد قدمناه ، والإسلام يطلق على الانقياد والانقطاع إلى الله تعالى ، فسميت بذلك إما لأن الله تعالى خلق فيها الانقياد والانقطاع إليه ، وإما لانقياد أهلها بالطاعة والاستسلام ، وفتح بلدهم بالقرآن ، لا بالسيف والسهام ، وانقطاعهم إلى الله ورسوله ، وتبتلهم لنصره وتحصيل سوله(١) .

مضجع الرسول

الثمانون : «مضجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم » لما سيأتي في حفظ أهلها وإكرامهم من قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «المدينة مهاجري ومضجعي في الأرض».

المطيبة

الحادي والثمانون : «المطيّبة» بضم أوله وفتح ثانيه ـ تقدم مع أخواته في الطيبة.

المقدسة

الثاني والثمانون : «المقدسة» لتنزّهها ولطهارتها من الشرك والخبائث ، ولأنها يتبرك بها ويتطهر عن أرجاس الذنوب والآثام.

المقر

الثالث والثمانون : «المقرّ» بالقاف : من القرار كما رأيته في بعض كتب اللغة وسيأتي في دعائهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لها قوله : «اللهم اجعل لنا بها قرارا ورزقا حسنا».

المكتان

الرابع والثمانون : «المكّتان» قال سعد بن أبي سرح في حصار عثمان :

أرى الأمر لا يزداد إلّا تفاقما

وأنصارنا بالمكّتين قليل

وقال نصر بن حجاج فيما كتب به إلى عمررضي‌الله‌عنه بعد نفيه إياه من المدينة لما سمع امرأة تترنم به في شعرها لجماله :

حقّقت بي الظّنّ الذي ليس بعده

مقام ؛ فما لي بالنّديّ كلام

__________________

(١) سوله : سؤاله. وفي التنزيل الكريم :( قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ) [سورة طه : الآية ٣٦].

٢٧

فأصبحت منفيّا على غير ريبة

وقد كان لي بالمكّتين مقام

والظاهر : أن المراد المدينة ؛ لأن قصة عثمان ونصر بن حجاج كانتا بها ، وأطلق ذلك لانتقال أهل مكة أو غالبهم إليها وانضمامهم إلى أهلها ، وقد ذكر البرهان القيراطي المكتين في أسماء مكة ، قال التقي الفاسي : ولعله أخذه من قول ورقة بن نوفل :

ببطن المكتين على رجائي

قال السهيلي : ثنّى مكة ـ وهي واحدة ـ لأن لها بطاحا وظواهر(١) ، وإنما مقصد العرب في هذه الإشارة إلى جانبي كل بلدة ، أو أعلى البلد وأسفلها ، فيجعلونها اثنين على هذا المعنى ، انتهى. ويحتمل أن تكون التثنية فيما استشهدنا به من قبيل التغليب وأن المراد مكة والمدينة ، فيسقط الاستشهاد به.

المكينة

الخامس والثمانون : «المكينة» لتمكنها في المكانة والمنزلة عند الله تعالى.

مهاجر الرسول

السادس والثمانون : «مهاجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم » ؛ لقوله : «المدينة مهاجري».

الموفية

السابع والثمانون : «الموفّية» بتشديد الفاء ـ من التوفية ، ويجوز تخفيفها ، إذ التوفية والإيفاء بمعنى ؛ سميت به لتوفيتها حق الواردين ، وإحسانها نزل الوافدين حسّا ومعنى ، أو لأن سكانها من الصحابة الموفون بما عاهدوا الله عليه.

الناجية

الثامن والثمانون : «الناجية» بالجيم من نجا إذا خلص أو أسرع ، أو من نجاه وناجاه سارّه ، أو من النّجوة للأرض العالية ، سميت بذلك لنجاتها من العتاة والطاعون والدجال ، ولإسراعها في الخيرات ، وسبقها إلى حيازة السبق بأشرف المخلوقات ، ولارتفاع شأنها بين الورى ، ورفع أجاجيرها على أجاجير القرى.

نبلاء

التاسع والثمانون : «نبلاء» نقل من كراع ، وأظنه بفتح النون وسكون الموحدة ممدودا ، من النبل ـ بالضم والسكون ـ وهو الفضل والنجابة ، ويقال : امرأة نبيلة في الحسن ، بينة النبالة ، وأنبل النخل : أرطب ، والنّبلة ـ بالضم ـ الثواب والجزاء والعطية.

__________________

(١) البطاح : الباطن. الظواهر : الظاهر.

٢٨

النحر

التسعون : «النحر» بفتح النون وسكون الحاء المهملة ـ سميت به إما لشدة حرها ، كما يقال : نحر الظهيرة ، ولذا شاركتها مكة فيه ، وإما لإطلاق النحر على الأصل ، وهما أساس بلاد الإسلام وأصلها.

الهذراء

الحادي والتسعون : «الهذراء» ذكره ابن النجار بدل العذراء نقلا عن التوراة ، وتبعه جماعة كالمطري ؛ فلذلك أثبتناه ، وإن كان الصواب إسقاطه كما بيناه في الأصل ، وقد رويناه في كلام من أثبته بالذال المعجمة ، فالتسمية به لشدة حرها ، يقال : يوم هاذر شديد الحر ، أو لكثرة مياهها وسوانيها المصوّتة عند سوقها ، يقال : هذر في كلامه ، إذا أكثره ، والهذر ـ محركا ـ الكثير الرديء ، ويحتمل أن يكون بالمهملة من «هدر الحمام» إذا صوّت ، والماء انصب وانهمر ، والعشب طال ، وأرض هادرة : كثيرة النبات.

يثرب

الثاني والتسعون : «يثرب» لغة في أثرب ، وقد تقدم الكلام عليه فيه ، وليست المذكورة في قول الشاعر :

وعدت وكان الخلف منك سجيّة

مواعيد عرقوب أخاه بيترب(١)

لأن المجد قال : أجمعوا فيه على تثنية التاء وفتح الراء ، وقال : هي مدينة بحضرموت ، قيل : كان بها عرقوب صاحب المواعيد ، مع أن المجد صحّح أنه من قدماء يهود مدينة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي مشارق عياض قيل : إن يثرب المذكورة في البيت مثل يثرب المدينة النبوية ، وقيل : قرية باليمامة ، وقيل : إنما هي يترب بمثناة فوقية وراء مفتوحة اسم تلك القرية ، وقيل : اسم قرية من بلاد بني سعد من تميم ، كما اختلف في عرقوب هذا ؛ فقيل : رجل من الأوس من أهل المدينة ، وقيل : من العماليق أهل اليمامة ، وقيل : من بني سعد المذكورين اه. وأما قول هند بنت عتبة :

لنهبطنّ يثربه

بغارة منشعبه

فالظاهر أن الهاء فيه للسكت ، فلس اسما آخر.

يندد

الثالث والتسعون : «يندد» ذكره كراع هكذا بالمثناة التحتية ودالين ، وهو إما من النّدّ

__________________

(١) السجيّة : الخلق والطبيعة. (ج) سجايا.

٢٩

وهو الطيب المعروف ، وقيل : العنبر ، أو من النّد للتل المرتفع ، أو من الناد وهو الرزق.

يندر

الرابع والتسعون : «يندر» بإبدال الدال الأخيرة من الاسم قبله راء ، ذكره المجد عند سرد الأسماء ، ولم يتكلم عليه بعد ، لما سنذكره ، وإنباته لوقوعه كذلك في حديث «للمدينة عشرة أسماء» في بعض الكتب ، وفي بعضها بمثناة فوقية ودالين ، وفي بعضها كذلك مع إبدال الدال الأخيرة راء ؛ فتحرر من مجموع ذلك أربعة أسماء : اثنان بالمثناة التحتية ، واثنان بالفوقية ، وذلك المستند في تقديمها في محلها ، وقال المجد : إن ذلك كله تصحيف ، وإن الصواب يندد بالمثناة التحتية ودالين ، وفيه نظر ؛ لأن الزركشي عند ذكر أسماء المدينة جمع بين اثنين من هذه الأربعة وقال : ذكرهما البكري ؛ فيحتمل ثبوت الأخيرين ، وحديث «للمدينة عشرة أسماء» رواه ابن شبة من طريق عبد العزيز بن عمران ، وسردها فيه ثمانية فقط ، ثم روى من طريقه أيضا عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب سمى الله المدينة الدار والإيمان ، قال : وجاء في الحديث الأول ثمانية أسماء ، وجاء في هذا اسمان ، فالله أعلم أهما تمام العشرة أم لا اه. ورواه ابن زبالة كذلك إلا أنه سرد تسعة فزاد اسم الدار ، وأسقط العاشر ، ونقل ابن زبالة أن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال : بلغني أن للمدينة في التوراة أربعين اسما ، والله أعلم.

٣٠

الباب الثاني

في فضائلها ، وبدء شأنها وما يؤول إليه أمرها ، وظهور النار المنذر بها من أرضها ، وانطفائها عند الوصول إلى حرمها ، وفيه ستة عشر فصلا.

الفصل الأول في تفضيلها على غيرها من البلاد

مكة أفضل أم المدينة

قد انعقد الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة ، حتى على الكعبة المنيفة ، وأجمعوا بعد على تفضيل مكة والمدينة على سائر البلاد ، واختلفوا أيهما أفضل ؛ فذهب عمر بن الخطاب وابنه عبد الله ومالك بن أنس وأكثر المدنيين إلى تفضيل المدينة ، وأحسن بعضهم فقال : محل الخلاف في غير الكعبة الشريفة ، فهي أفضل من المدينة ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة إجماعا ، وحكاية الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة نقله القاضي عياض ، وكذا القاضي أبو الوليد الباجي قبله كما قال الخطيب ابن جملة ، وكذا نقله أبو اليمن ابن عساكر وغيرهم ، مع التصريح بالتفضيل على الكعبة الشريفة ، بل نقل التاج السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أن تلك البقعة أفضل من العرش.

وقال التاج الفاكهي : قالوا : لا خلاف أن البقعة التي ضمت الأعضاء الشريفة أفضل بقاع الأرض على الإطلاق حتى موضع الكعبة ، ثم قال : وأقول أنا : أفضل بقاع السموات أيضا ، ولم أر من تعرض لذلك ، والذي أعتقده أن ذلك لو عرض على علماء الأمة لم يختلفوا فيه ، وقد جاء أن السموات تشرفت بمواطئ قدميهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بل لو قال قائل : إن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء شرفها لكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حالّا فيها لم يبعد ، بل هو عندي الظاهر المتعين.

الأرض أفضل أم السماء؟

قلت : وقد صرح بما بحثه من تفضيل الأرض على السماء ابن العماد نقلا عن الشيخ تاج الدين إمام الفاضلية.

قال : وقالوا : إن الأكثرين عليه ؛ لأن الأنبياء خلقوا من الأرض وعبدوا الله فيها ، ودفنوا بها اه.

٣١

وقال النووي : المختار الذي عليه الجمهور أن السموات أفضل من الأرض ، وقيل : إن الأرض أشرف ؛ لأنها مستقر(١) الأنبياء ومدفنهم ، وهو ضعيف.

قلت : وكأن وجه تضعيفه للثاني أن الكلام عن مطلق الأرض ، ولا يلزم من تفضيل بعضها لكونها مدفن الأنبياء تفضيل كلها ، وضعف أيضا بأن أرواح الأنبياء في السموات والأرواح أفضل من الأجساد ، وجوابه ما سنحققه إن شاء الله تعالى من حياة الأنبياء في قبورهم ، صلوات الله وسلامه عليهم.

وقال شيخنا المحقق ابن إمام الكاملية في تفسير سورة الصف : والحق أن مواضع الأنبياء وأرواحهم أشرف من كل ما سواها من الأرض والسماء ، ومحل الخلاف في غير ذلك كما كان يقرره شيخ الإسلام البلقيني.

قال الزركشي : وتفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة للمجاورة ، ولهذا يحرم للمحدث مس جلد المصحف.

عود لتفضيل مكة أو المدينة

قال القرافي : ولما خفي هذا المعنى على بعض الفضلاء أنكر حكاية الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة ، وقال : التفضيل إنما هو بكثرة الثواب على الأعمال ، والعمل على قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم محرم ، قال : ولم يعلم أن أسباب التفضيل أعم من الثواب ، والإجماع منعقد على التفضيل بهذا الوجه لا بكثرة الثواب ، ويلزمه أن لا يكون جلد المصحف ـ بل ولا المصحف نفسه ـ أفضل من غيره لتعذر العمل فيه ، وهو خرق للإجماع.

قلت : وما ذكره من التفضيل بالمجاورة مسلّم ، لكن ما اقتضاه من عدم التفضيل لكثرة الثواب في ذلك ممنوع لما سنحققه.

كلام للعز بن عبد السلام

وأصل الإشكال لابن عبد السلام فإنه قال في أماليه : تفضيل مكة على المدينة أو عكسه معناه أن الله يرتب على العمل في إحداهما من الثواب أكثر مما يرتبه على العمل في الأخرى ؛ فيشكل قول القاضي عياض : أجمعت الأمة على أن موضع القبر الشريف أفضل ؛ إذ لا يمكن أحد أن يعبد الله فيه.

__________________

(١) مستقر الأنبياء : موطن دعوتهم في حياتهم ، ومدفنهم بها بعد وفاتهم.

٣٢

كلام للتقي السبكي

قال التقي السبكي : وقد رأيت جماعة يستشكلون نقل هذا الإجماع ، وقال لي قاضي القضاة السروجي الحنفي : طالعت في مذهبنا خمسين تصنيفا فلم أجد فيها تعرضا لذلك ، قال السبكي : وقد وقفت على ما ذكره ابن عبد السلام من أن الأزمان والأماكن كلها متساوية ، ويفضلان بما يقع فيهما ، لا بصفات قائمة بها ، ويرجع تفضيلها إلى ما ينيل الله العباد فيهما ، وأن التفضيل الذي فيهما أن الله يجود على عباده بتفضيل أجر العاملين فيهما ، قال السبكي : وأنا أقول : قد يكون التفضيل لذلك ، وقد يكون لأمر آخر فيهما ، وإن لم يكن عمل ؛ فإن القبر الشريف ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة ، وله عند الله من المحبة ، ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه ، وليس ذلك لمكان غيره ، فكيف لا يكون أفضل الأماكن؟ وليس محل عمل لنا ، فهذا معنى غير تضعيف الأعمال فيه ، وأيضا فباعتبار ما قيل : إن كل أحد يدفن بالموضع الذي خلق منه ، وأيضا فقد تكون الأعمال مضاعفة فيها باعتبار أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حي ، وأن أعماله مضاعفة أكثر من كل أحد ؛ فلا يختص التضعيف بأعمالنا نحن.

قلت : وهذا من النفاسة بمكان ، على أني أقول : الرحمات والبركات النازلة بذلك المحل يعم فيضها الأمة ، وهي غير متناهية ؛ لدوام ترقياته عليه الصلاة والسلام ، وما تناله الأمة بسبب نبيها هو الغاية في الفضل ، ولذا كانت خير أمة بسبب كون نبيها خير الأنبياء ، فكيف لا يكون القبر الشريف أفضل البقاع مع كونه منبع فيض الخيرات؟ ألا ترى أن الكعبة على رأي من منع الصلاة فيها ليست محل عملنا ، أفيقول عاقل بتفضيل المسجد حولها عليها لأنه محل العمل مع أن الكعبة هي السبب في إنالة تلك الخيرات؟ وأيضا فاهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمر أمته معلوم ، وإقبال الله عليه دائم ، وهو بهذا المحل الشريف ، فتكثر شفاعته فيه لأمته وأمداده إياهم ، وقد ورد في حديث «وفاتي خير لكم» وجاء بيان ذلك بأن «أعمالكم تعرض عليّ ؛ فإن رأيت خيرا حمدت الله ، وإن رأيت غير ذلك استغفرت لكم» وفي رواية «استوهبت الله ذنوبكم» وله شواهد تقويه ، وسيأتي في الباب الثامن أن المجيء المذكور في قوله تعالى :( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ ) [النساء : ٦٤] الآية حاصل بالمجيء إلى قبره الشريف أيضا ، فزيارته والمجاورة عنده من أفضل القربات ، وعنده تجاب الدعوات ، وتحصل الطلبات ، فقد جعله الله تعالى سببا في ذلك أيضا ، فهو روضة من رياض الجنة ، بل أفضل رياضها ، وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقاب قوس

٣٣

أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» بل لو تعلق متعلق بما قررناه من كون القبر الشريف منبع جميع الخيرات وهو بالمدينة فتكون هي أفضل لكان له وجه.

وقد قال الحكيم الترمذي في نوادره : سمعت الزبير بن بكار يقول : صنّف بعض أهل المدينة في المدينة كتابا ، وصنف بعض أهل مكة في مكة كتابا ، فلم يزل كل واحد منهما يذكر بقعته بفضيلة ، يريد كل واحد منهما أن يبرز على صاحبه بها ، حتى برز المدني على المكي في خلّة واحدة عجز عنها المكي ، وأن المدني قال : إذ كل نفس إنما خلقت من تربته التي يدفن فيها بعد الموت ، وكان نفس الرسول إنما خلقت من تربة المدينة ؛ فحينئذ تلك التربة لها فضيلة بارزة على سائر الأرض.

يخلق الإنسان من تربة الأرض التي يدفن فيها

قلت : ويدل لما ذكر من أن النفس تخلق من تربة الدفن ما رواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح وله شواهد صحيحة عن أبي سعيد ، قال : «مرّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عند قبر ، فقال : قبر من هذا؟ فقالوا : فلان الحبشي يا رسول الله ، فقال : لا إله إلا الله ، سيق من أرضه وسمائه إلى التربة التي منها خلق» ورواه الحكيم الترمذي بنحوه عن أبي هريرة ، ورواه البزار عن أبي سعيد بنحوه ، وفيه عبد الله والد ابن المديني وهو ضعيف ، وروى الطبراني في الأوسط نحوه عن أبي الدرداء ، وفيه الأحوص بن حكيم ، وثّقه العجلي ، وضعفه الجمهور ، وروي في الكبير أيضا نحوه عن ابن عمر ، وقال الذهبي في بعض رواته :ضعفوه ، وأسند ابن الجوزي في الوفاء عن كعب الأحبار : لما أراد اللهعزوجل أن يخلق محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر جبريل فأتاه بالقبضة البيضاء التي هي موضع قبرهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعجنت بماء التسنيم ، ثم غمست في أنهار الجنة ، وطيف بها في السموات والأرض ، فعرفت الملائكة محمدا وفضله قبل أن تعرف آدمعليه‌السلام ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سرد خصائصها.

وقال الحكيم الترمذي في حديث : «إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة" : إنما صار أجله هناك لأنه خلق من تلك البقعة ، وقد قال الله تعالى :( مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ ) [طه : ٥٥] الآية ، قال : فإنما يعاد المرء من حيث بدئ منه ، قال : وروي أن الأرض عجّت(١) إلى ربها لما أخذت تربة آدمعليه‌السلام ، فقال لها : سأردها إليك ، فإذا مات دفن في البقعة التي منها تربته.

وعن يزيد الجريري قال : سمعت ابن سيرين يقول : لو حلفت حلفت صادقا بارّا غير شاك ولا مستثن أن الله تعالى ما خلق نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أبا بكر ولا عمر إلا من طينة واحدة ثم ردهم إلى تلك الطينة.

__________________

(١) عجّ ، عجا وعجّة : رفع صوته وصاح. ويقال : عجّ إلى الله بالدعاء.

٣٤

وروى ابن الجوزي في الوفاء عن عائشة قالت : لما قبض النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم اختلفوا في دفنه ؛ فقالوا : أين يدفن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؟ فقال علي : إنه ليس في الأرض بقعة أكرم على الله من بقعة قبض فيها نفس نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى يحيى أن عليا قال لما اختلفوا : لا يدفن إلا حيث توفاه اللهعزوجل ، وأنهم رضوا بذلك.

قلت : ويؤخذ مما قاله على مستند نقل الإجماع السابق على تفضيل القبر الشريف ؛ لسكوتهم عليه ، ورجوعهم إلى الدفن به.

ولما قال الناس لأبي بكررضي‌الله‌عنه : يا صاحب رسول الله ، أين يدفن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؟ قال : في المكان الذي قبض الله تعالى روحه فيه ؛ فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب ، رواه الترمذي في شمائله ، والنسائي في الكبرى ، وإسناده صحيح ، ورواه أبو يعلى الموصلي ، ولفظه : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يقبض النبي إلا في أحب الأمكنة إليه».

قلت : وأحبها إليه أحبها إلى ربه ؛ لأن حبه تابع لحب ربه إلا أن يكون حبه عن هوى نفس ، وما كان أحب إلى الله ورسوله كيف لا يكون أفضل ، ولهذا أخذت تفضيل المدينة على مكة من قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في الصحيح : «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد» أي بل أشد ، أو وأشد ، كما روي به ، ومن إجابة دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحرك دابته إذا رآها من حبها.

وقد روى الحاكم في مستدركه حديث : «اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي ، فأسكنّي في أحب البقاع إليك» وفي بعض طرقه أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله حين خرج من مكة ، وفي بعضها أنه وقف بالحزورة(١) ، وفي بعضها بالحجون(٢) فقاله ، وقد ضعفه ابن عبد البر.

قيل : ولو سلمت صحته فالمراد أحب البقاع إليك بعد مكة ؛ لحديث : «إن مكة خير بلاد الله» وفي رواية : «أحب أرض الله إلى الله» ولأنه قد صح لمسجد مكة من المضاعفة زيادة على ما صح لمسجد المدينة كما سيأتي.

قلت : فيما قدمناه من دعائهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بحبها أشد من حب مكة مع ما أشرنا إليه من إجابة دعائهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن أنه تعالى لا يجعلها أحب إلى نبيه إلا بعد جعلها أحب إليه تعالى غنية عن صحة هذا الحديث ، وكون المراد منه ما ذكر خلاف الظاهر ، وما ذكر لا يصلح مستندا في

__________________

(١) الحزورة : الرابية الصغيرة.

(٢) الحجون : جبل بمكة.

٣٥

الصرف عن الظاهر ؛ لأنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قصد به الدعاء للدار التي تكون هجرته إليها ، فطلب من الله أن يصيرها أحب البقاع إليه تعالى ، والحب من الله تعالى إنالة الخير والتعظيم للمحبوب ، وهذا يمكن تجدده بعد أن لم يكن ، وقوله : «إن مكة خير بلاد الله وأحبها إليه» محمول على أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله في بدء الأمر قبل ثبوت الفضل للمدينة ، فلما طالت إقامتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة وأظهر الله دينه ، وتجدد لها ما سيأتي من الفضائل حتى عاد نفعها على مكة ، فافتتحها الله وسائر بلاد الإسلام منها ؛ فقد أنالها الله تعالى وأنال بها من الخير ما لم ينله غيرها من البلاد ، وظهر إجابة الدعوة الكريمة ، وأنها صارت خير أرض الله وأحبها إليه بعد ذلك ، ولهذا لم يعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكة بعد فتحها.

فإن قيل : إنما لم يعد إليها لأن الله افترض عليه المقام بدار هجرته.

قلنا : لم يكن الله ليفترض عليه المقام بها إلا وهي أفضل ؛ لكرامته عنده ، وقد حثّصلى‌الله‌عليه‌وسلم على الاقتداء به في سكناها والإقامة بها ، وقال : «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون».

فإن قيل : قال التقي الفاسي : ظن بعض أهل عصرنا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن مكة خير بلاد الله» حين خرج من مكة للهجرة ، وليس كذلك ؛ لأن في بعض طرق الحديث أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك وهو على راحلته بالحزورة ، وهو لم يكن بهذه الصفة حين هاجر ؛ لأن الأخبار تقتضي أنه خرج من مكة مستخفيا ، ولو ركب بالموضع المشار إليه ـ وهو الذي يقول له عوام مكة عزوة ـ لأشعر ذلك بسفره.

قلنا : جاء في رواية لابن زبالة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أمره الله بالخروج قال : «اللهم إنك أخرجتني» الحديث ، وقد وقع في رواية لابن حبان في حديث الهجرة «فركبا ـ يعني هو وأبو بكر ـ حتى أتيا الغار ـ وهو ثور ـ فتواريا فيه» وسيأتي في أحاديث الهجرة ما يقتضي أنهما توجها إلى الغار ليلا بعد أن ذرّصلى‌الله‌عليه‌وسلم ترابا على رءوس جماعة من الكفار كانوا يرصدونه ، وقرأ أوائل يس يستتر بها منهم ، فلم يروه ، فلا يمتنع أن يكون راكبا في هذا الموضع.

وأما أمر مزيد المضاعفة لمسجد مكة ، فجوابه أن أسباب التفضيل لا تنحصر في المضاعفة ، ألا ترى أن فعل الصلوات الخمسة للمتوجه إلى عرفات وظهر يوم النحر بمنى أفضل من فعلها بمسجد مكة ، وإن اشتمل فعلها بالمسجد على المضاعفة إذ في الاتّباع ما يربو عليها ، ولهذا قال عمررضي‌الله‌عنه بمزيد المضاعفة لمسجد مكة كما سيأتي مع قوله بتفضيل المدينة ، وغايته أن للمفضول مزية ليست للفاضل ، ويؤيد ذلك ما سيأتي مع أن المضاعفة تعم الفرض والنفل ، وأن النفل بالبيت أفضل ، على أنه إن أريد بالمسجد الحرام في حديث المضاعفة الكعبة فقط كما ستأتي الإشارة إليه ، فالجواب أن الكلام فيما

٣٦

عداها ، مع أن دعاءهصلى‌الله‌عليه‌وسلم للمدينة بضعفي ما بمكة من البركة ، ومع البركة بركتين شامل للأمور الدينية والدنيوية ، وقد يبارك في العدد القليل فيربو نفعه على الكثير ، ولهذا استدل به على تفضيل المدينة لأكثرية المدعو به لها من البركة الشاملة.

ولا يرد على ما قررناه ما جاء في فضل الكعبة الشريفة ؛ إذ الكلام فيما عداها ، ولهذا روى مالك في الموطأ أن عمررضي‌الله‌عنه قال لعبد الله بن عياش المخزومي : أنت القائل لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد الله : هي حرم الله وأمنه ، وفيها بيته ، فقال عمر : لا أقول في حرم الله ولا في بيت الله شيئا ، ثم قال عمر : أنت القائل لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد الله : هي حرم الله وأمنه ، وفيها بيته ، فقال عمر : لا أقول في حرم الله ولا في بيت الله شيئا ، ثم انصرف ، وفي رواية لرزين : فاشتد على ابن عياش ، فانصرف.

ولا يرد أيضا ما بمكة من مواضع النسك ؛ لتعلق النسك بالكعبة ، وأيضا فقد عوّض الله المدينة عن العمرة ما سيأتي في مسجد قباء ، وعن الحج ما سيأتي مرفوعا : «من خرج لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة» ، وهذا أعظم ؛ لكونه أيسر ، ويتكرر في اليوم والليلة مرارا ، والحج لا يتكرر ، ويؤخذ منه أنه يضاف إلى ما جاء في المضاعفة بمسجدها الحجة لمن أخلص قصده للصلاة.

ولا يرد أيضا كونهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أقام بمكة بعد النبوة أكثر من إقامته بالمدينة ، على الخلاف فيه ؛ لأن إقامته بالمدينة كان سببا في إعزاز دين الله وإظهاره ، وبها تقررت الشرائع ، وفرضت غالب الفرائض ، وأكمل الله الدين ، واستقر بهاصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قيام الساعة.

وقد ثبت في محبتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم للمدينة ما لم يثبت مثله لمكة ، وحثّ على الإقامة والموت بها ، والصبر على لأوائها وشدتها ، كما ستقف عليه ، وسيأتي حديث : «اللهم لا تجعل منايانا بمكة» وحديث : «ما على الأرض بقعة أحب إلي من أن يكون قبري بها منها» يعني المدينة ، قالها ثلاث مرات.

وقد شرع الله لنا أن نحب ما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبه ، وأن نعظم ما كان يعظمه ، وإذا ثبت تفضيل الموت بالمدينة ثبت تفضيل سكناها ، لأنه طريقه هذا ، وقد روى الطبراني في الكبير والمفضل الجندي في فضائل المدينة وغيرهما عن رافع بن خديجرضي‌الله‌عنه قال : أشهد سمعت ـ وفي رواية «لسمعت» ـ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «المدينة خير من مكة» ، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن الرداد ، وقد ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : كان يخطئ ، وقال أبو حاتم : ليس بقوي ، وقال أبو زرعة : ليّن ، وقال الأزدي : لا يكتب حديثه ، وقال ابن عدي : روايته ليست محفوظة ، ولهذا قال ابن عبد البر : هو حديث ضعيف ، وفيما قدمناه غنية عنه.

٣٧

وفي الصحيحين حديث : «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» ويأرز كمسجد أي : ينقبض ويجتمع وينضم ويلتجئ ، وقد رأينا كل مؤمن له من نفسه سائق إلى المدينة لحبه في النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيشمل ذلك جميع الأزمنة ؛ لأنه في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم للتعلم منه ، وفي زمن الصحابة والتابعين للاقتداء بهم ، ومن بعد ذلك لزيارته ، وفضل بلده ، والتبرك بمشاهدة آثاره ، والاتباع له في سكناها.

وروينا في فضائل المدينة للجندي حديث : «يوشك الإيمان أن يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» يعني : يرجع إليها الإيمان.

وأسند ابن زبالة حديث : «لا تقوم الساعة حتى يحاز الإيمان إلى المدينة كما يحوز السيل الدّمن».

وقد تقدم في الأسماء حديث الصحيحين : «أمرت بقرية تأكل القرى ، يقولون يثرب وهي المدينة» قال ابن المنذر : يحتمل أن يكون المراد بأكلها القرى غلبة فضلها على فضل غيرها ؛ فمعناه أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى تكاد تكون عدما ، وهذا أبلغ من تسمية مكة «أم القرى» ؛ لأن الأمومة لا تنمحي معها ما هي له أم ، لكن يكون لها حق الأمومة ، انتهى.

وجزم القاضي عبد الوهاب بهذا الاحتمال.

وروى البزار عن عليرضي‌الله‌عنه حديث : «إن الشياطين قد يئست أن تعبد ببلدي هذا» يعني : المدينة «وبجزيرة العرب ، ولكن التحريش بينهم» وله أصل في صحيح مسلم من حديث جابر.

وروى أبو يعلى بسند فيه من اختلف في توثيقه وبقية رجاله ثقات عن العباسرضي‌الله‌عنه قال : خرجت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة فالتفت إليها وقال : «إن الله قد برأ هذه الجزيرة من الشرك» وفي رواية : «إن الله قد طهّر هذه القرية من الشرك ، إن لم تضلّهم النجوم ، قال : ينزل الله الغيث ، فيقولون : مطرنا بنوء(١) كذا وكذا» وقد تقدم في الأسماء تسميتها بالمؤمنة والمسلمة ، وأنه لا مانع من إجرائه على ظاهره فهو مقتض للتفضيل ، سيما وسببه ما سبق من كونهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خلق من تربتها.

وقد استدل أبو بكر الأبهري من المالكية على تفضيلها على مكة بما سبقت الإشارة إليه من أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مخلوق من تراب المدينة ، وهو أفضل البشر ، فكانت تربته أفضل الترب. قال الحافظ ابن حجر : وكون تربته أفضل الترب لا نزاع فيه ، وإنما النزاع هل يلزم من ذلك أن تكون المدينة أفضل من مكة؟ لأن المجاور للشيء لو ثبت له جميع مزاياه

__________________

(١) النوء : المطر الشديد. و ـ النجم إذا مال للغروب.

٣٨

لكان لجار ذلك المجاور نحو ذلك ؛ فيلزم أن يكون ما جاور المدينة أفضل من مكة ، وليس كذلك اتفاقا ، كذا أجاب به بعض المتقدمين ، وفيه نظر ، انتهى.

قلت : لم يبين وجه النظر ، ولعل وجهه أن الأفضل لقوة أصالته في الفضل يفيد مجاوره الأفضلية لمزية هذه المجاورة الخاصة ، وهي منتفية عن مجاور المجاور ، ألا ترى أن جلد المصحف قد ثبت له مزية التعظيم للمجاورة ، ولم يلزم من ذلك ثبوت نحوها لمجاوره ، وأيضا فالمقتضى لتفضيل المدينة خلقهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من تربتها ، وهذا لا يوجد لمجاورها ، والله أعلم.

الفصل الثاني

وعد من صبر على شدها

في الحث على الإقامة بها ، والصبر على لأوائها وشدتها ، وكونها تنفي الخبث والذنوب ، ووعيد من أرادها وأهلها بسوء أو أحدث بها حدثا أو آوى محدثا.

روينا في الصحيحين حديث «من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة».

وفي صحيح مسلم عن سعيد مولى المهري أنه جاء إلى أبي سعيد الخدري ليالي الحرة ، فاستشاره في الجلاء من المدينة ، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله ، وأخبره أن لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها ، فقال : ويحك! لا آمرك بذلك ، إني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يصبر» وفي رواية «لا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» وفي رواية «فقال أبو سعيد : لا تفعل ، الزم المدينة» وذكر الحديث بزيادة قصة.

وفي مسلم وفي الموطأ والترمذي عن يحنّس مولى مصعب بن الزبير أنه كان جالسا عند ابن عمر في الفتنة ، فأتته مولاة له تسلم عليه ، فقالت : إني أردت الخروج يا أبا عبد الرحمن ، اشتد علينا الزمان ، فقال لها عبد الله : اقعدي لكاع(١) ، ولفظ الترمذي : اصبري لكاع. فإني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة».

فإن قيل : ما معنى التردد في قوله : «شفيعا أو شهيدا»؟ وما معنى هذه الشفاعة مع عموم شفاعتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؟

__________________

(١) لكاع : يقال في سبّ المرأة بالحمق : يا لكاع.

٣٩

قلنا : ذكر عياض ما ملخصه أن بعض مشايخه جعل «أو» للشك من الراوي ، وأن الظاهر خلافه لكثرة رواته بذلك ، بل الظاهر أنه من لفظهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا ، وإما أن تكون «أو» للتقسيم ، ويكون شفيعا للعاصين وشهيدا للمطيعين ، أو شهيدا لمن مات في حياته وشفيعا لمن مات بعده ، قال : وهذه الشفاعة أو الشهادة زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعاملين في القيامة وعلى شهادته على جميع الأمم ، فيكون لتخصيصهم بذلك مزية وزيادة منزلة وحظوة قال : ويحتمل أن يكون «أو» بمعنى الواو. قلت : ويدل له ما رواه البزار برجال الصحيح عن عمررضي‌الله‌عنه بلفظ : «فمن صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة» وأسنده ابن النجار بلفظ : «كنت له شفيعا وكنت له شهيدا يوم القيامة» وأسنده المفضل الجندي في فضائل المدينة عن أبي هريرة أيضا بلفظ : «لا يصبر أحد على لأواء المدينة» وفي نسخة : «وحرها إلا كنت له شفيعا وشهيدا» قال القاضي : وإذا جعلنا «أو» للشك فإن كانت اللفظة شهيدا فالشهادة أمر زائد على الشفاعة المجردة المدخرة لغيرهم من الأمة ، وإن كانت اللفظة شفيعا فهذه شفاعة غير العامة تكون لأهل المدينة بزيادة الدرجات أو تخفيف الحساب أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامات كإيوائهم في ظل العرش أو كونهم في روح(١) وعلى منابر أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات. قلت : ويحتمل : أن يجمع لهم ببركة شفاعتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو شهادته الخاصة بين ذلك كله ؛ فالجاه عظيم ، والكرم واسع ، وتأيد الوصية بالجار يؤيد ذلك ، ويحتمل أيضا : أن يكون المراد مع ذلك البشرى بموتهم على الإسلام ؛ لأن شفاعته وشهادتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المذكورة خاصة بالمسلمين ، وكفى بذلك نعمة ومزية ، وسيأتي الإشارة إلى نحو ذلك في أول الباب الثامن.

وفي الموطأ والصحيحين حديث : «تفتح اليمن فيأتي قوم يبسّون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» الحديث.

وقوله «يبسون» بفتح المثناة التحتية أوله وضم الباء الموحدة وكسرها ، ويقال أيضا بضم المثناة وكسر الموحدة ـ يسوقون بهائمهم سوقا شديدا ، وقيل : البسّ : سرعة الذهاب.

المدينة تنفي الخبث

وفي مسلم حديث «يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه أو قريبه : هلم إلى الرخاء ، هلم إلى الرخاء ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، والذي نفسي بيده لا يخرج

__________________

(١) كونهم في روح : في راحة.

٤٠