وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى الجزء ٢

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى0%

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى مؤلف:
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الناشر: دار الكتب العلميّة
تصنيف: مكتبة الحديث وعلومه
الصفحات: 282

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى

مؤلف: نور الدين علي بن أحمد السّمهودي
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الناشر: دار الكتب العلميّة
تصنيف:

الصفحات: 282
المشاهدات: 78305
تحميل: 4009


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 282 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 78305 / تحميل: 4009
الحجم الحجم الحجم
وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى الجزء 2

مؤلف:
الناشر: دار الكتب العلميّة
العربية

صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمسجده أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل له ثلاثة أبواب : باب في مؤخره ، وباب عاتكة الذي يدعى باب عاتكة ويقال باب الرحمة ، هذا لفظه. وأطبق على وصفه بذلك من بعده من المؤرخين ، حتى صار في زماننا هو الأغلب عليه ، ومع ذلك فلم أر في كلام أحد بيان السبب في تسميته بذلك ، وسألت عنه من لقيته من المشايخ فلم أجد عند أحد منهم علما من ذلك ، ثم ظهر لي معناه بحمد الله تعالى ، وذلك أن البخاري روى في صحيحه عن أنس بن مالك أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم يخطب ، فاستقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما ، ثم قال : يا رسول الله ، هلكت الأموال ، وانقطعت السبل ، فادع الله يغثنا ، فرفع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يديه ثم قال : اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، قال أنس : ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار ، قال : فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس ، ولما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت ، فلا والله ما رأينا الشمس سبعا ، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة ـ يعني الثانية ـ ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم يخطب ـ الحديث ـ بطوله ، وسنبين في باب زياد ـ وهو الذي يلي هذا ـ أن دار القضاء كان محلها بين باب الرحمة وباب السلام ، وقد تقرر أنه لم يكن للمسجد في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الجهة إلا الباب المعروف بباب الرحمة ؛ فظهر أن هذا الرجل الطالب لإرسال المطر وهو رحمة إنما دخل منه ، وقد أنتج سؤاله حصول الرحمة ، وأنشأ الله السحاب الذي كان سببا فيها من قبله أيضا ؛ لأن سلعا في غربي المسجد ، فسمي والله أعلم بباب الرحمة لذلك ، لكن في رواية البخاري عن أنس أيضا أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ، ومقتضاها أنه دخل من الباب الذي كان في شامي المسجد ؛ لقرب إطلاق مواجهته للمنبر عليه ، لكن ذلك الباب ليس نحو دار القضاء ، فليجمع بين الروايتين بأن الواقعة متعددة كما اقتضاه كلام بعضهم ، أو بأنه وقع التجوز في إطلاق كون ذلك الباب وجاه المنبر ، أو بأن باب الرحمة كان كما قدمناه في آخر جهة المغرب مما يلي الشام ، فجاء ذلك الداخل من جهته ودخل منه ، ثم رأى أن قيامه بين يدي النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على المنبر لا يتم له إلا بتخطي الصفوف ، فعرج إلى الباب الآخر المواجه للمنبر ، لغلب إطلاق باب الرحمة على الباب الذي في جهة مجيئه ؛ لاعتضاده بما تقدم من مجيء السحاب من قبله ، والله أعلم.

باب زياد (باب القضاء)

والثامن عشر : باب كان يعرف بباب زياد وقد سد أيضا عند تجديد الحائط الذي هو فيه وكان بين خوخة أبي بكر الآتي ذكرها وبين الباب الذي قبله وسمي بذلك لما رواه ابن شبة عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن عمه قال : كانت رحبة القضاء لعمر رضي الله

٢٢١

عنه ـ يعني دارا له ـ وأمر حفصة وعبد الله ابنيهرضي‌الله‌عنهما أن يبيعاها عند وفاته في دين كان عليه ، فإن بلغ ثمنها دينه وإلا فاسألوا فيه بني عدي بن كعب حتى تقضوه ، فباعوها من معاوية بن أبي سفيانرضي‌الله‌عنهما ، وكانت تسمى دار القضاء ، قال ابن أبي فديك : فسمعت عمي يقول : إن كانت لتسمى دار قضاء الدين. قال : وكان معاوية اشتراها عند ولايته ، فلم تزل حتى قدم زياد بن عبد الله المدينة سنة ثمان وثلاثين ومائة ، فهدمها وجعلها رحبة للمسجد ، وفتح فيها الباب الذي إلى جنب الخوخة الصغيرة ، وجعل هدمها على أهل السوق ، قال محمد بن إسماعيل بن أبي فديك : فأخذ مني في هدمها أربعة دوانق ، قال ابن أبي فديك : وأخبرني أيضا كما أخبرني عمي عبيد الله بن عمر ابن عبد الله بن عبد الله بن عمر قال : وأشار لي عبيد الله إلى صندوق في بيته وقال : في هذا الصندوق إبرا آت من ذلك الدين. وروى أيضا عن عبد العزيز بن مروان أن دار القضاء كانت لعبد الرحمن بن عوف ، قال : وهي اليوم رحبة لمسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في غربيه مما يلي دار مروان. وروي عن سهلة بنت عاصم أنها إنما سميت دار القضاء لأن عبد الرحمن اعتزل فيها ليالي الشورى حتى قضي الأمر فباعها بنو عبد الرحمن من معاوية ، فصارت بعد في الصوافي ، وكانت الدواوين فيها وبيت المال ، فهدمها أبو العباس أمير المؤمنين وصيّرها رحبة للمسجد ، فهي اليوم كذلك.

وروى ابن زبالة خبر ابن أبي فديك الأول مقتصرا عليه من طريق محمد بن إسماعيل ـ يعني ابن أبي فديك ـ عن ابن عمر أن عمر توفي وترك عليه ثمانية وعشرين ألفا ، فدعا عبد الله وحفصة فقال : إني قد أصبت من مال الله شيئا ، وأنا أحب أن ألقى الله وليس في عنقي منه شيء ، فبيعا فيه حتى تقضياه ، فإن عجز عنه مالي فسلا فيه بني عدي ، فإن بلغ وإلا فلا تعدوا قريشا ، فخرج عبد الله بن عمر إلى معاوية فباع منه دار عمر التي يقال لها دار القضاء ، وباع ماله بالغابة ، فقضى دينه ؛ فكان يقال : «دار قضاء دين عمر» وهي رحبة القضاء.

قال محمد بن إسماعيل : فهدم زياد بن عبيد الله إذ كان واليا لأبي العباس على المدينة في سنة ثمان وثلاثين ومائة دار القضاء ، وكانت تكرى من تجار أهل المدينة ، فهدمها زياد وجعلها رحبة للمسجد ، وفتح الباب الذي إلى جنب الخوخة ـ الخبر المتقدم.

قلت : وما تضمنه هذا الخبر من تاريخ هدم الدار وعمل الباب المذكور فيها ربما يخالف ما ذكره ابن زبالة ويحيى فيما كتبا على أبواب المسجد ، فإنهما قالا : وعلى باب زياد في لوح من ساج مضروب بمسامير مكتوب من خارج ، ثم ذكرا من جملة المكتوب : أمر عبد الله أمير المؤمنين أكرمه الله بعمل مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعمارة هذه الرحبة توسعة لمسجد

٢٢٢

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولمن حضره من المسلمين في سنة إحدى وخمسين ومائة ابتغاء وجه الله والدار الآخرة ، إلى آخر ما ذكراه.

قلت : وزياد هذا هو زياد بن عبيد الله بن عبد المدان الحارثي خال السفاح ، وكانت ولايته على المدينة ومكة من قبل أبي العباس المنصور في سنة ثمان وثلاثين ومائة ؛ فقول ابن أبي فديك في رواية ابن شبة «فلم يزل حتى قدم زياد بن عبيد الله سنة ثمان وثلاثين» مبيّن لتاريخ قدومه فقط ، وقوله «فهدمها» يعني في مدة ولايته ؛ فليس فيه تعرض لأن الهدم كان في ذلك التاريخ ؛ فلا يخالف ما كتب على الباب المذكور ، وليحمل أيضا قوله في رواية ابن زبالة «فهدم زياد بن عبيد الله إذ كان واليا في سنة ثمان وثلاثين ومائة» على أن المراد بيان ابتداء ولايته ، لا تاريخ الهدم ، جمعا بين الكلامين ، والرواية الأولى أقرب إلى التأويل من هذه.

وقد ذكر ابن زبالة في روايته المتقدمة عن محمد بن إسماعيل أنه قال : إن زياد بن عبيد الله جعل السّتور على الأبواب الأربعة : باب دار مروان أي المعروف بباب السلام ، والخوخة أي المجعولة في محاذاة خوخة أبي بكر الصديقرضي‌الله‌عنه ، وباب زياد أي المذكور ، وباب السوق أي وهو باب الرحمة كما يؤخذ من كلام يحيى.

وقال المجد في ترجمة دار القضاء : هي دار مروان بن الحكم ، وكانت لعمر بن الخطاب فبيعت في قضاء دينه ، وقد زعم بعضهم أنها دار الإمارة ، وهو محتمل لأنها صارت لأمير المدينة.

قلت : دار مروان هي الآتية في قبلة المسجد ، وليست هذه بلا شك ، ولعل المراد أن مروان ملك دار القضاء فنسبت إليه ، وهو غير معروف ، إلا أن الحافظ بن حجر نقل عن ابن شبة أنها صارت لمروان وهو أمير المدينة ، قال : فلعل ذلك شبهة من قال «إنها دار الإمارة» فلا يكون غلطا ، وقال في المشارق : وقد غلط فيها بعضهم فقال يعني دار الإمارة.

قلت : والذي رأيته في ابن شبة إنما هو صيرورتها لمعاوية كما قدمناه ، مع أن المشهور قديما بدار الإمارة إنما هي دار مروان التي في قبلة المسجد ، وتقدم أن الأمراء كانوا يدخلون من باب منها إلى المقصورة ، وتوهم البرهان ابن فرحون أنها رحبة دار القضاء ، فقال : قال ابن حبيب : وما كان من مضى ـ يعني من القضاة ـ يجلسون في رحاب المسجد ، بل إما عند موضع الجنائز ، يريد خارج باب جبريل ، وإما رحبة دار مروان التي تسمى رحبة القضاء ، وقد جعل ذلك في هذا الوقت ميضأة ، انتهى. وهو وهم ؛ لأن الذي جعل ميضأة هو نفس دار مروان كما سيأتي ، وبالجملة فلا خلاف في كون دار القضاء هي الرحبة التي كانت في غربي المسجد إلى باب مروان.

٢٢٣

ويؤخذ مما تقدم أن هذه الرحبة كانت في محاذاة باب زياد وما بعد ، إلى باب السلام.

ويؤخذ مما سيأتي في الدور المطيفة بالمسجد أنها كانت ممتدة إلى باب الرحبة أيضا ، وهو مقتضى ما أخبر به بعض مشايخ المدينة أنه لم يزل يسمع أنه لم يكن بين باب الرحمة وباب السلام دار تلاصق المسجد.

قلت : فموضع هذه الرحبة اليوم دار الشباك الملاصقة لباب الرحمة ، وما يليها من المدرسة الجوبانية والحصن العتيق.

ودار الشباك أنشأها شيخ الخدام كافور المظفري ، المعروف بالحريري ، بعد السبعمائة ، وجعل لها شباكا إلى المسجد ، وليس حول المسجد دار لها شباك في جدار المسجد إلا هي ، والذي يظهر أن باب زياد كان في موضع شباكها أو إلى جانبه القبلي.

وأما المدرسة الجوبانية فابتناها جوبان أتابك العساكر المغلية في سنة أربع وعشرين وسبعمائة ، وجعل له فيها تربة ملاصقة لجدار المسجد بين دار الشباك والحصن العتيق ، وهي ـ أعني التربة ـ من جملة رحبة القضاء ، واتخذ فيها شباكا في جدار المسجد ، وهو مسدود اليوم ، ولم يدفن فيها بعد أن حمل إليها في تابوت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة من بغداد بأمر السلطان أبي سعيد فدخلوا به مكة وطافوا به حول البيت كما فعل بالجواد الأصفهاني ، وذلك صحبة الحاج العراقي ، فلما وصلوا به المدينة منعهم أميرها من ذلك حتى يشاور السلطان الناصر ، كذا قاله بعضهم ، وقال الصلاح الصفدي : لما بلغ الملك الناصر أمر تجهيزه ليدفن في المدينة جهز الهجن إلى المدينة ، وأمرهم أن لا يمكن من الدفن في تربته ، فدفن في البقيع.

وذكر لي بعض الناس أن علة المنع من دفنه بتربته أنه إذا وضع فيها للقبلة كانت رجلاه إلى الجهة الشريفة ؛ لأن تربته في غربي المسجد ، بخلاف الجواد وغيره ممن دفن في شرقي المسجد ، فإن رءوسهم إلى جهة الأرجل الشريفة ، والله أعلم.

وأما الحصن العتيق فإنه كان منزلا لأمراء المدينة ، ثم انتقل إلى السلطان غياث الدين سلطان بنجالة أبي المظفر أعظم ابن السلطان اسكندر ، وابتناه مدرسة في سنة أربعة عشرة وثمانمائة ، وتوفي في تلك السنة ، ويقال : إن غيره سبقه إلى جعله رباطا قبل ذلك.

ثم اقتضى رأي متولي العمارة بعد الحريق الحادث في زماننا استبدال دار الشباك المذكورة وما يليها من الجوبانية وجميع الحصن العتيق عند هدم ما يلي ذلك من جدار المسجد الغربي ، وعمل ذلك مدرسة ورباطا للسلطان الأشرف فيما بين باب السلام وباب الرحمة كما سبق في الفصل التاسع والعشرين.

واعلم أن المطري زاد هنا بابا بدل الباب الذي أسقطه قبل باب عاتكة فقال : إنه كان

٢٢٤

بين باب عاتكة وخوخة أبي بكر الآتية بابان سدّا عند تجديد الحائط ، وتبعه على ذلك من بعده ، والذي اقتضاه كلام ابن زبالة ويحيى وابن النجار أنه ليس بين باب عاتكة وبين الخوخة سوى باب زياد ، ولهذا لما أسقط ابن النجار ذكر الخوخة من الأبواب وجعل أبواب هذه الجهة سبعة قال : الخامس باب عاتكة ، السادس باب زياد ، السابع باب مروان ، انتهى. وبه يعلم أن الصواب ما قدمناه ، والله أعلم.

خوخة تجاه خوخة أبي بكر

التاسع عشر : الخوخة المجعولة تجاه خوخة أبي بكررضي‌الله‌عنه لما زيد في المسجد ، وهو معنى ما تقدم عن ابن زبالة حيث قال في عدد الأبواب : ومما يلي المغرب ثمانية أبواب ، ومنها الخوخة التي تقابل يمنى خوخة أبي بكر.

قلت : وكانت شارعة في رحبة دار القضاء كما قدمناه من كلام ابن زبالة وقدمنا أيضا في زيادة عمررضي‌الله‌عنه عن أبي غسان قال : أخبرني محمد بن إسماعيل بن أبي فديك أن عمه أخبره أن الخوخة الشارعة في دار القضاء في غربي المسجد خوخة أبي بكر الصديقرضي‌الله‌عنه ، أي : المجعولة في محاذاة خوخته.

قال ابن زبالة في ذكر الكتابة على أبواب المسجد : وليس على الخوخة لا من داخل المسجد ولا من خارجه كتابة ، وقد قدمنا أن لهذه الخوخة اليوم بابا مما يلي المسجد ، وأنه باب حاصل يعرف بحاصل النورة ، وهي معروفة بخوخة أبي بكر ، ويؤخذ مما تقدم أن ذلك الحاصل من دار القضاء ، وبابه اليوم هي الفتحة الثالثة من الفتحات التي على يسار الداخل من باب السلام ، جعل باب في موضع الخوخة يدخل منه للمسجد ، وبعده شباك ، ثم باب يدخل منه للمدرسة الأشرفية.

العشرون : باب مروان ، سمي بذلك لملاصقته لداره التي كانت في قبلة المسجد مما يلي الباب المذكور ، وبعضها ينعطف على المسجد من جهة المغرب ، وفي موضعها اليوم الميضأة التي أنشأها المنصور قلاوون الصالحي عام ست وثمانين وستمائة ، ويعرف الباب المذكور أيضا بباب السلام ، وباب الخشوع ، قاله المطري. وفي رحلة ابن جبير أنه يعرف بباب الخشية ، اه. والزوار غالبا إنما يدخلون منه ؛ لكونه أقصد إلى طريقهم من باب المدينة ، فلا يخفى مناسبة تسميته بذلك كله.

قال المطري : ولم يكن في القبلة حتى إلى اليوم باب إلا خوخة آل عمر ، أو خوخة لمروان عند داره في ركن المسجد الغربي ، شاهدناها عند بناء المنارة الكبيرة المستجدة ، كان يدخل من داره إلى المسجد منها ، وقد انسدت بحائط المنارة الغربي.

قال الزين المراغي : وينبغي الاعتراض على من أطلق أن مروان كان يدخل منها

٢٢٥

للمسجد ؛ لأن مروان قتلته زوجته أم خالد بن يزيد آمنة بنت علقمة ، ويقال : فاختة بنت هاشم ، وقيل : مات مطعونا ، وقيل : مطعونا ، في نصف رمضان سنة خمس وستين.

وكانت مدة خلافته تسعة أشهر ، وذلك قبل أن يزيد ولد ولده الوليد بن عبد الملك ابن مروان في المسجد بنحو من ثلاثين سنة ، ولا شك أنها خوخة آل مروان ؛ فالصواب أنه كان يدخل من مثلها ، لا منها ، وكأن هذا الباب هو المراد بقول ابن زبالة : وباب في قبلة المسجد يخرج منه السلطان إلى المقصورة.

قلت : أما ما ذكره المطري من أنه لم يكن في قبلة المسجد باب ـ يعني فيما مضى إلى زمنه ـ إلا خوخة آل عمر ؛ فمردود بما قدمناه عن ابن زبالة ؛ فإنه فصل الأبواب الزائدة على العشرين فجعل منها الباب الذي كان في القبلة يدخل منه الأمراء من ناحية دار مروان ، ثم ذكر البابين اللذين عن يمين القبلة وعن يسارها يدخل منهما إلى المقصورة ، والباب الذي عن يمين القبلة هو هذا الذي أدركه المطري ؛ فلا يصح ما ذكره الزين المراغي من حمل كلام ابن زبالة في الباب الذي ذكره في القبلة عليه ؛ لأنه قد غاير بينهما ، وأما استدراك المراغي على القول بأن مروان كان يدخل من الباب الذي ذكره المطري فصحيح ، وقد تقدم عن ابن زبالة أنه يسمى باب بيت زيت القناديل. والذي يظهر كما قال المراغي أنه جعل في مقابلة باب اتخذه مروان هناك أيضا ؛ لأن ابن زبالة روى أن مروان لما بنى داره جعل لها خوخة في القبلة ، ثم قال : أخشى أن أمنعها ، أي لكونها في القبلة ، فجعل لها بابا على يمينك حين تدخل : أي وهو الباب المتقدم وصفه ، ثم قال : أخشى أن أمنع المسجد ، فجعل الباب الثالث الذي يلي باب المسجد ، يعني الملاصق لباب السلام من خارجه ، وفي موضعه اليوم السقاية المقابلة لباب مدرسة الحصن العتيق ، وهذا سبب المناسبة في تسمية رحبة القضاء برحبة دار مروان ؛ لمقابلتها لبابه هذا.

وروى ابن زبالة عن إسحاق بن مسلم أن عمر بن عبد العزيز لما بنى المسجد أراد أن يجعل في الأبواب حلقا ، ويجعلها في الدروب ؛ لئلا يدخلها الدواب ، فعمل الحلقة التي في باب المسجد مما يلي دار مروان ، ثم بدا له فتركها.

قلت : المراد بذلك السلسلة الحديد المجعولة بجنبتي عقد باب السلام تمنع الدواب من الدخول. وفي باب الرحمة اليوم آثار سلسلة كانت هناك ، وسلسلة باب السلام ترفع في أيام الموسم ؛ لأنه اتفق في سنة أربع وخمسين وثمانمائة ازدحام الناس عندها فهلك جماعة ، وكان أمام باب السلام من داخله درابزين شبيه بالدرابزين الذي كان من داخل باب جبريل ، وكان الناس لا ينزعون نعالهم إلا عنده ، وكذلك كان مثله أمام باب الرحمة من داخله أيضا ؛ فجعل الأمير بردبك المعمار أيام عمارته للظاهر جقمق هذه الأحجار المصفوفة إفريزا عند

٢٢٦

طرف عقد باب السلام مما يلي باب الحصن العتيق ، وجعل ما أمام الباب مما يحاذي العقد المذكور رحبة بالمسجد ، وصار الناس ينزعون النعال عندها ، وعمل عند عقد باب الرحمة مثل ذلك ، ورفع ذلك الدرابزين ، وكان ما بين الدرابزين وباب الرحمة منخفضا عن أرض المسجد فسواه بأرض المسجد كما هو اليوم ، فاحتاج إلى رفع عتبته ، فزاد العتبة المتخذة فوق العتبة الأصلية ، وقصر شيئا من أسفل الباب ، وذلك ظاهر فيه اليوم ، وحصل بذلك صيانة للمسجد ، واتخذ أيضا الرحبة التي أمام باب النساء ، ورفع الدرابزين الذي كان من داخله ، واتخذ لباب جبريل الرحبة التي أمامه ، ولم يرفع الدرابزين ؛ لأن الناس لم يكونوا يمشون بنعالهم إليه ، ثم أزيل درابزينه أيضا عند عمارته بعد الحريق الثاني ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

الفصل الثالث والثلاثون

في خوخة آل عمر رضي الله تعالى عنه المتقدم ذكرها ،

وما يتعين من سدّها في زماننا

تحديد موضع خوخة آل عمر

اعلم أنها اليوم هي التي يتوصّل إليها من الطابق الذي بالرواق الثاني من أروقة القبلة ، وهو الرواق الذي يقف الناس اليوم فيه للزيارة أمام الوجه الشريف بالقرب من الطابق المذكور. والذي يتلخص مما قدمناه في زيادة عثمانرضي‌الله‌عنه والوليد والمهدي أن الأصل في ذلك أنه لما احتيج لدار حفصة ـ يعني حجرتها ـ قالت : كيف بطريقي إلى المسجد ، فقيل لها : نعطيك أوسع من بيتك ، ونجعل لك طريقا مثل طريقك ، فأعطيت دار عبيد الله بن عمر ، أي التي صارت إليه بعد حفصة ، وكانت مربدا ، هذا ما رواه ابن زبالة.

وقد قدمنا في زيادة الوليد من رواية ابن زبالة أن عمر بن عبد العزيز بعث إلى رجال من آل عمر ، وأخبرهم أن أمير المؤمنين كتب إليه أن يبتاع بيت حفصة ، وكان عن يمين الخوخة أي من داخل المسجد ، فقالوا : ما نبيعه بشيء ، قال : إذا أدخله في المسجد ، قالوا : أنت وذاك ، فأما طريقنا فإنا لا نقطعها ، فهدم البيت ، وأعطاهم الطريق ووسّعها لهم.

وقدمنا أيضا ما رواه يحيى عن مالك بن أنس من أن الحجّاج الثقفي هو الذي ساوم عبيد الله بن عبد الله بن عمر في هذا البيت وهدمه. وفي رواية ليحيى أن عمر بن عبد العزيز لما وصل في العمارة إلى دار حفصة قال له عبيد الله : لست أبيع هذا هو حق حفصة ، وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يسكنها ، فقال عمر : ما أنا بتارككم أو أدخلها المسجد ، فلما كثر الكلام بينهما قال لهم عمر : أجعل لكم في المسجد بابا تدخلون منه ، وأعطيكم دار الرقيق ، وما بقي من الدار فهو لكم ، ففعلوا.

٢٢٧

وقال المطري : إن الوليد لما حج وطاف في المسجد رأى هذا الباب في القبلة فقال لعمر : ما هذا الباب؟ فذكر له ما جرى بينه وبين آل عمر في بيت حفصة ، وكان جرى بينه وبينهم فيه كلام كثير ، وجرى الصلح على ذلك ، فقال له الوليد : أراك قد صانعت أخوالك.

وقد قدمنا من رواية ابن زبالة الإشارة إلى هذا ، وقدمنا من روايته أيضا عن عبد العزيز بن محمد أنه كان يسمع عبيد الله بن عمر يقول : لا أماتني الله حتى أراني سدها.

وتقدم أن تلك الخوخة لم تزل طريق آل عمر إلى دارهم حتى عمل المهدي المقصورة على الرواق القبلي.

قال المطري : فمنعوهم الدخول من بابهم ، فجرى في ذلك أيضا كلام كثير تقدمت الإشارة إليه ، اصطلحوا على سدّ الخوخة من أعلاها في جدار المسجد ، وأن يخفضوها في الأرض ويجعلوا على أعلاها في موضع الباب الأول شباك حديد في القبلة ، وحفروها كالسرب ، فتخرج خارج المقصورة في الرواق الثاني من أروقة القبلة ، ولها ثلاث درجات عند بابها في جوف السرب بالمسجد ، وهو الطابق الموجود اليوم ، وعليه قفل من حديد ، ولا يفتح إلا أيام قدوم الحاج للزيارة ، قال المطري : وهي طريق آل عمر إلى دارهم التي تسمى اليوم دار العشرة ، وإنما هي دار آل عبد الله بن عمر ، انتهى.

قلت : وعلى هذا السرب من خارج المسجد باب في جدار المسجد أيضا ، وأمامه دهليز يتوصل منه إلى شارع فيه دور كثيرة سنشير إلى بعضها في ذكر الدور المطيفة بالمسجد.

اتخاذ بعض الناس بابا وسيلة للتدجيل

وقد اختلقوا لتلك الدور أسماء ، حتى قالوا في بعضها : هو بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعضها نسبوه إلى فاطمة ابنته رضي الله تعالى عنها. ويتخذ بعض أهل تلك الدور على ما بلغني كحلا في نقرة من الجدار ويقولون للحجاج : هذه مكحلة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها ، ويشيرون أيضا إلى رحا عندهم فيقولون : هذه رحا فاطمة الزهراء ، أخبرني بذلك من لبّسوا عليه الأمر وأخبروه بهذه الأكاذيب حتى أعطاهم شيئا. ويجلس عند ذلك الطابق بالمسجد شخص ليس هو اليوم من ذرية آل عمر ؛ لأن من كان بيدهم مفتاح هذا الطابق من آل عمر قد انقرضوا ، وبقيت منهم زوجة هذا الشخص الذي يجلس عند هذا الطابق ، ثم توفيت وتركت أولادا منه ، فاستمر المفتاح بيده ، فيستنيب من يجلس عند هذا الطابق ويفتحه أيام الموسم ، ويقف عنده جماعة يزوّرون الحجاج ويأخذون من الداخلين منه شيئا شبيها بالمكس ؛ فإن الجالس عنده لا يمكن أحدا من الدخول منه إلا ببذل شيء يرضيه ، وما حال

٢٢٨

الحاج الغريب إذا رأى مثل هذا الباب بدرج تحت الأرض في المسجد وقيل له : إنه يصل إلى بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيت ابنته؟

وقد اشتهر ذلك عند أهل المدينة حتى إن أحدا منهم لا يكره ، فيود الغريب المسكين لو بذل روحه في الوصول لذلك ، وربما لم يكن معه شيء ، فيتجشم المشقة في الوصول لذلك ، فقد أخبرني صاحبنا الشيخ المبارك أبو الجود بركات الجيعاني أنه قدم المدينة قديما قبل أن يجاور بها ، قال : فلم أملك نفسي أن دخلت في هذا الطابق فطبقه الجالس عنده على ظهري حتى كاد يقصمه لأنه لم يعطه شيئا. وأخبرني هو وغيره ممن أثق به أنه يقع في أسفله من الازدحام واختلاط النساء بالرجال ما لا يوصف مع ضيقه ، حتى إن الماشي فيه يحتاج إلى الانحناء.

وأخبرني بعضهم : أنه رأى فيه منكرا شنيعا ، وهو أن بعض الأحداث يمشي خلف النساء مع الازدحام ، وكون المشي على تلك الهيئة ؛ فيقع ما لا يرضي الله ولا رسوله بين يديهصلى‌الله‌عليه‌وسلم . وكيف يتمادى الناس على إقرار ذلك الآن؟ وهو ليس إلا لمجرد ما ذكرناه ، فإنه كان بابا لدار ، ولأن من هو بيده لا يملك شيئا من تلك الدور ، ولو كان مالكها فليس وضعه لسوى دخول أهل تلك الدور منه ، فإنه لم يجعل إلا ليدخل منه آل عمر إلى المسجد ، لا لأن يأخذوا فلوسا على من يخرج من المسجد مارا منه ، فقد كانوا منزهين عن ذلك. ثم لو سلمنا أن تلك الدور مستحقة للزيارة فزيارتها متيسرة من خارج المسجد ، وكيف يتخذ المسجد طريقا ، ويخص منه ما يكون بين يدي النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على تلك الحالة المنكرة لأجل شيء خسيس من الدنيا؟ ونحن نفديهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنفسنا فضلا عن أموالنا ، وقد أمرصلى‌الله‌عليه‌وسلم بسد الأبواب التي كانت شارعة في المسجد إلا خوخة أبي بكر وإلا باب علي كما قدمناه ، مع أن أهل تلك الأبواب إنما كان قصدهم بها التوصل إلى المسجد ، فكيف يبقى باب بين يديهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا نفع له إلا أخذ شيء من الحطام على المرور منه؟ هذا ما لا يرضاه مؤمن يرى تعظيم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.

ثم إن هذا الطابق له قفل ، وما حوله من الخشب فيه نوع نتوء ، فقد رأيت من لا أحصيه من الخلق يتعثرون به ، وربما سقط بعضهم لوجهه ، ثم إنه إذا كثر الدوس عليه في ليالي الزيارات كليلة النصف من شعبان ونحوها يرتج تحت الأرجل حتى تزلزل الأرض زلزالها ، وذلك يؤذي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد قدمنا أن عائشةرضي‌الله‌عنها كانت تسمع الوتد يوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بالمسجد فترسل إليهم لا تؤذوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم . قالوا : وما عمل عليّ مصراعي داره إلا بالمناصع ـ وهو متبرز النساء ليلا خارج سور المدينة ـ توقيا لذلك.

٢٢٩

وروى يحيى في كتابه عن محمد بن يحيى بن زيد النوفلي عن أبيه عن الثقة عنده أن عائشةرضي‌الله‌عنها ذكرت أن بعض نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم دعت نجارا فعلّق ضبة لها ، وأن النجار ضرب المسمار في الضبة ضربا شديدا ، وأن عائشةرضي‌الله‌عنها صاحت بالنجار كلمته كلاما شديدا وقالت : ألم تعلم أن حرمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ميتا كحرمته حيّا؟ فقالت الأخرى : وما ذا سمع من هذا؟ قالت : إنه ليؤذي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صوت هذا الضرب اليوم ما يؤذيه لو كان حيا.

حج السلطان قايتباي

ولم أزل منذ قدمت المدينة أنكر هذا الأمر بالقلب واللسان وكتابة البنان ، ولكن لم أجد على ذلك معينا ، لرسوخ الطباع العامية في التمسك بالعوائد الماضية من غير روية ، وقد نبهت على إنكار ذلك في كتابي «الوفا ، بما يجب لحضرة المصطفى»صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم شافهت في أمره مولانا الهمام ، سلطان ممالك الإسلام ، ذا الشجاعة التي شاعت عجائبها ، والشهامة التي ذاعت غرائبها ، سلطان الإسلام والمسلمين ، ووجهة القاصدين والآملين ، السلطان الملك الأشرف قايتباي ، جعل الله الممالك منظومة في سلك ملكه ، وأقطار الأرض جارية في حوزه وملكه ، فإنه لما حج سنة أربع وثمانين وثمانمائة بدأ بالمدينة النبوية لزيارة التربة المصطفوية على الحال بها أفضل الصلوات وأزكى التسليمات ، فقدمها طلوع الفجر من يوم الجمعة الميمون الثاني والعشرين من ذي القعدة الحرام ، فلبس لدخولها حلل التواضع والخشوع ، وتحلى بما يجب لتلك الحضرة النبوية من الهيبة والخضوع ، فترجّل عن جواده عند باب سورها ، ومشى على أقدامه بين رباعها ودورها ، حتى وقف بين يدي الجناب الرفيع ، الحبيب الشفيع ،صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وناجاه بالتسليم ، وفاز من ذلك بالحظ الجسيم ، ثم ثنى بضجيعيه رضي الله تعالى عنهما بعد أن صلّى بالروضة الشريفة التحية ، وعفّر وجهه في ساحتها السنية ، وعرض عليه الدخول إلى المقصورة المستديرة حول جدار القبور الشريفة ، المعروفة اليوم بالحجرة المنيفة ، فتعاظم ذلك ، وقال : لو أمكنني أن أقف في أبعد من هذا الموقف وقفت ، فالجناب عظيم ، ومن ذا الذي يقوم بما يجب له من التعظيم؟ ثم صلّى صبح الجمعة في الصف الأول بين فقراء الروضة عند أسطوان المهاجرين بالقرب من مصلاي ، كان بيني وبينه إمامه شيخ الشيوخ الإمام العلامة نادرة الزمان وعين الأعيان برهان الدين الكركي ، فسح الله في أجله ، وأدام النفع به ، ولم يكن بيني وبينه سابق معرفة ، حتى إني لم أبدأه بسلام ولا كلام ، وكذلك السلطان أعزه الله أنصاره وضاعف اقتداره ، لم أتعرف إليه ، ولم يكن ذلك في خلدي ولا عزمت عليه ، ثم توجه السلطان بجماعته لزيارة عم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حمزة بن عبد المطلب ومن يليه من شهداء أحد رضوان الله عليهم ، فمشى مترجلا

٢٣٠

كعادته ، حتى خرج من باب المدينة ، ولم يزل ذلك دأبه ، فلم يركب بالمدينة جوادا حتى خرج منها ، فلما كان وقت صلاة الجمعة حضر في ذلك المصلى فكان بيني وبينه إمامه المشار إليه أيضا ، ثم قرأ شخص على شيخ المحدثين العلامة شمس الدين ابن شيخنا أبي الفرج العثماني مجلس ختم البخاري ، وكأن الإمام المشار إليه تفرّس فيّ الاتصاف بطلب العلم ، ففاتحني الكلام في بعض المسائل العلمية المتعلقة بذلك ، فجاريته فيها ، فرأيت كماله واضح البرهان ، وفضله ظاهر العنوان ، مع كمال الإنصاف في البحث ، فانتسجت المودة حينئذ ، ثم قام الإمام المشار إليه ، واستمر السلطان جالسا ، ثم بدأنا بالملاطفة ، وشرفنا بالمحادثة ، وخاض في شيء من العلم ، فرأيت من تواضعه وحلمه وثقوب فهمه ما فاق الوصف ، فأنشدته قول بعضهم :

كانت مساءلة الركبان تخبرني

عن أحمد بن سعيد أطيب الخبر

ثم التقينا ، فلا والله ما سمعت

أذني بأحسن مما قد رأى بصري

وأنهيت إليه أمر الطابق المذكور ، وقلت في نفسي : لعل الله تعالى أرسل هذا السلطان المسعود وجمعني به من غير قصد ليفوز بتنزيه الحضرة الشريفة من ذلك ، ويكون ذلك في صحائفه ، وقد قدمنا ما حاوله الملوك الماضون من سدّه مع أن المفاسد التي قدمناها لم تكن موجودة في زمنهم ، وإنما تركوه كما قدمناه لمانع ، ولا مانع من سده اليوم بحمد الله تعالى ، فوعد بذلك. ثم وقع الاجتماع بالإمام المشار إليه فكلمته في ذلك ، وقلت له : بلغني أن من بيده مفتاح الطابق المذكور يجتمع له في كل سنة نحو عشرة دنانير من هذا الطابق ، ولي معلوم في جهة هذا قدره في كل سنة ، فأنا أنزل عنه لمن بيده ذلك المفتاح تطييبا لخاطره ، فذكر ذلك للسلطان ، فقال : نحن نرضيه من عندنا ، ثم إنه نصره الله تعالى حضر لصلاة المغرب ، فتفضل بالبداءة بالكلام ، ولم يكن إمامه حاضرا ، ولكنه سبق منه التربية التامة عنده ، فسألني عن الآية المنقوشة في المصلى الشريف ، وهي قوله تعالى :( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ) [البقرة : ١٤٤] الآية هل نزلت قبل المعراج وفرض الصلاة أم بعد ذلك؟ وكيف كان الاستقبال قبل نزولها؟ فشرعت في الجواب ، فأقيمت الصلاة في أثناء ذلك ، فلما قضى صلاته تنفل بست ركعات ، ثم أقبل عليّ طالبا للجواب ، فذكرت له تاريخ نزولها بالمدينة ، وما فيه من الخلاف ، وأن فرض الصلاة ليلة في المعراج كان بمكة ، وما ذكروه في أمر استقبال بيت المقدس ، وما حكي من الخلاف في تعدد نسخ القبلة ، وصلاتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة بين الركنين اليمانيين جاعلا الكعبة بينه وبين بيت المقدس ، إلى غير ذلك من الفوائد التي قدمناها في محلها من كتابنا هذا ، واستمريت معه كذلك حتى صلينا العشاء الآخرة ، فحصل منه في ذلك المجلس من الإكرام ما أرجو له به كمال المجازاة من صاحب الحضرة الحبيب الشفيع صلوات الله وسلامه عليه.

٢٣١

وفرق بالمدينة الشريفة مالا جزيلا ستة آلاف دينار أو أكثر ، ودفع إليّ على يد إمامه المشار إليه من ذلك جزءا وافرا ، وتكلمات معه في رفع مكوس المدينة وتعويض أميرها عن ذلك شيئا ، فأفهم الوعد به ، وسألني عن أمر دار العباس التي اشتريت له ، وكانت سببا في قتل القضائي الزكوي تغمده الله تعالى برحمته لعدم السياسة في أخذها ، فأخبرته بحقيقة الحال ، فقال : لم لم تكتب إليّ بهذا؟ فاعتذرت له بعذر قبله ، وتبرأ من جميع ما فعلوا فيها ، ووعد بما يكون فيه صلاح أمرها ، ثم وفى بذلك بعد عوده ، فزادهم مبلغا كثيرا رضوا به ، وتفضل بالتشريف بطلب الكتابة إليه بما يكون فيه صلاح أحوال المدينة والتنبيه على من يردها من المحتاجين.

ثم توجه في الرابع والعشرين من الشهر المذكور مصحوبا بالسلامة إلى مكة المشرفة ماشيا على أقدامه بين فقراء المدينة وفقهائها حتى خرج من باب المدينة ، فوقف هناك ، وقرأنا له الفاتحة ، ثم ركب جواده ، أدام الله تأييده وحرسه من الردى ، وأنار له طرق الحق والهدى.

ثم قدمت مكة صحبة الحاج الشامي فوجدته قد سلك بها مسلك التواضع أيضا ، وتصدق فيها بمال جزيل أكثر مما تصدق بالمدينة الشريفة.

ولما اجتمعت بإمامه المشار إليه بمكة المشرفة تذاكرنا الصدقة الشريفة بالمدينة الشريفة وعمومها ، وما حصل بها من النفع ، فذكرت له أن أربعة من فقراء المغاربة لم يأخذوا شيئا لملازمتهم لرباطهم ، وعدم إتيانهم لمن كان يفرق ، وأن شخصا آخر مستحقا كنت أود لو حصل له أكثر مما دفع له ، فبلغ ذلك السلطان ، فلما كان في أوسط أيام منى توجهت لوداع الإمام المشار إليه ، فأشار بموادعة السلطان ، فقلت له : أخشى أن يتوهم أن المجيء لقصد آخر ، فقال : لا بد من موادعته ، فتوجهنا إليه فحصل منه من الإكرام ما أطلب له الجزاء عليه من أكرم الأكرمين ، ثم قال : أنتم ذكرتم للإمام كيت وكيت ، فلم ينس ما تقدم ذكره من أمر جماعة الفقراء ، فقلت له : نعم ، فأمر لهم بمائة دينار أقسمها عليهم لكل واحد عشرون دينارا ، ثم قال : هل بقي أحد؟ فقلت له : ما أستحضر أحدا ، ورأيت له اهتماما تاما بتعميم جيران الحضرة الشريفة ، ووادعني قائما وسأل عن أمر الطابق المذكور لما قدمنا مكة ، وأمر بأن لا يفتح ، وأن يسد بعد ذلك ، فلما بلغ شيخ الخدام بالمدينة الشريفة منع من فتحه عند قدوم الحاج المصري في هذا العام ، ولكن بقي سده ، فإن الطريق في قطع الشر قلع أصوله ، وقد وعد بسده.

وقف السلطان قايتباي لأهل المدينة المنورة

ثم إن السلطان أيده الله تعالى رجع إلى مصر مصحوبا بتأييد الله ونصره ، فبلغنا أنه

٢٣٢

أبرز بعد وصوله ستين ألف دينار ليشتري بها أماكن تكون أوقافا يحمل ريعها إلى الحضرة الشريفة ، ويعمل بها سماط كسماط الخليلعليه‌السلام ، وهذا أمر لم يسبقه إليه أحد من ملوك الإسلام ، والمسئول من الله تعالى أن ييسر له ذلك.

وقد ألحقنا في الفصل التاسع والعشرين ما برزت به المراسيم الشريفة من إبطال المكوس ، وتعويض أمير المدينة الشريفة عنها ، وأنه وقف أماكن كثيرة يتحصل منها نحو سبعة آلاف وخمسمائة إردب من الحب كل سنة لعمل السماط المذكور ، وليصرف من ذلك كفاية أرباب البيوت بالمدينة الشريفة ، ثم وصول البهائي أبي البقاء بن الجيعان عظم الله شأنه بجملة من ذلك والصرف والتقرير وعمل السماط على الوجه السابق ، والمرجو من الله تعالى دوام ذلك له ؛ فإن الله تعالى قد أجرى على يديه من الخيرات ما لم يجتمع لأحد من الملوك قبله فمن ذلك ما تقدم من العمارة بالمسجد النبوي والحجرة الشريفة ، وإبطال هذا الطابق المتقدم وصفه ، ومن العجب أن من كان بيده هذا الطابق توجه إليه بمصر وسأل أن يمكّن من فتحه ، فلم يجبه لذلك ، وقرر له في الذخيرة بضعة عشر دينارا كل سنة عوضا عما كان يحصل له منه ، ثم وردت المراسيم الشريفة بالإخبار بذلك ، والأمر بسده ، ولكن شق على بعض أهل الحظوظ النفسية تمام هذا الأمر والمتسبب فيه الفقير الحقير ، فتسبب في تأخيره ، فمات شيخ الخدام إينال الإسحاقي ولم يسده ، فلما قدمت مصر عام سبع وثمانين وثمانمائة أنهيت للسلطان أن الطابق لم يسد ، وخشيت أن يغضب بسبب ذلك على بعض الناس ، فاعتذرت بأن موجب التأخير وفاة شيخ الحرم ، فبرزت مراسيمه الشريفة لشيخ الحرم ومتولي العمارة الشمس بن الزمن بسده بالبناء ، بحيث لا يفتح أبدا ، وكان المعاكس في هذا الغرض قد أمال متولي العمارة إليه مع ما سبق في الفصل الثامن والعشرين من إيغار صدره مني ، وكان هذا الطابق قد احترق وارتدم بعد أمر السلطان بسده في حريق سنة ست وثمانين وثمانمائة ، وأثرت النار في قبره تأثيرا عظيما ، فأعاده متولي العمارة وأحكمه ، وجعل له بابا ، فلما وردت عليه المراسيم الشريفة بما سبق على يديّ أجاب بأنه يراجع السلطان في ذلك لأن تلك الدور صارت له.

ثم إن شيخ الحرم أنهى إلى السلطان ذلك ، فبرزت المراسيم الشريفة بسده واللوم على تأخيره مع تكرر الأمر بذلك ، فأمره متولي العمارة بتأخير ذلك ليراجع السلطان فيه ، وقال : إنه يجعل تلك الدور مزارات ليتم له ما أراده من بقاء ذلك الطابق ، وتعجب الناس من إقدامه عليه ، ثم بلغ السلطان ذلك مع أمور يطول شرحها ؛ فغضب غضبا شديدا وبرز مرسومه بسده والوعيد التام على تأخيره ، فسده شيخ الحرم بالبناء المحكم من خارج المسجد ، ونزع باب طابقه ، وردمه بالأتربة حتى ساوى أرض المسجد ، ولم يبق له أثر ، وذلك في رابع

٢٣٣

ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وثمانمائة ، وسرّ أهل الخير بذلك ، وتضاعفت أدعيتهم للسلطان نصره الله تعالى ، وهذا من أعظم محاسنه.

من آثار قايتباي بالحرمين الشريفين

ومن ذلك إجراء عين خليص بعد انقطاعها مرة بعد أخرى ، وهي من أحسن مناهل الحج وأعذبها ، وكذلك بركة الروحاء.

ومن ذلك عمارة مسجد الخيف بعد أن تهدم بأجمعه ، وإنشاء المنارة والسبيل اللذين عند بابه ، وإجراء المعلوم لمن يؤذّن بتلك المنارة ولمن يؤم بالمسجد المذكور.

ومن ذلك إحداث الظل بمقدم مسجد نمرة المنسوب لإبراهيم الخليل ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، وقد كان الحجاج يقاسون به شدة من حر الشمس في ذلك اليوم ، فالله تعالى يظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.

ومن ذلك إجراء عين عرفة من بطن نعمان ، بعد أن دثرت وانمحت معالمها واندرست ، وعمارة بركها ومجاريها ، حتى فاضت الأنهار بأقاصيها وأدانيها ، وأوصلها إلى مسجد نمرة ، وأنشأ به صهريجا يجتمع فيه الماء ، فأذهب بذلك عن الحج الأعظم الظمأ ، وقد كنت أرى الفقراء في كل سنة في ذلك اليوم لا يسألون غالبا إلا الماء ، وكان من أعز الأشياء هناك ، فلم يبق له طالب ، ولله الحمد ، سقاه الله بذلك من حوض الكوثر.

ومن ذلك المدرسة والرباط اللذان عمر هما بمكة المشرفة ، ولا نظير لهما فيها.

ومن ذلك حجه في هذا العام ، فإن ذلك لم يقع لأحد من ملوك مصر من نحو مائة وخمسين سنة ، وكان آخر من حج منهم الملك الناصر محمد بن قلاوون ، حج ثلاث حجات : أولاها سنة عشر وسبعمائة ، وثانيتها سنة عشرين ، وثالثتها سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة ، ولم يحج أحد بعد ذلك من سلاطين مصر ، وأرجو أن يفسح الله في أجل سلطاننا هذا حتى يدرك ذلك ، ويتم له ما نواه من الخير بالحضرة النبوية.

وقد أنشأ بثغر اسكندرية برجا عظيما لم يسبق إليه ، وشحنه بالأسلحة والجند.

ولما توجهت إلى زيادة بيت المقدس رأيت له فيه وفيما بين مصر وبينه من الآثار العظيمة ما لم أره من غيره من الملوك من المدارس والمساجد والقناطر ، وهذا المحل لا يحتمل بسط ذلك ، وإنما ذكرنا من آثاره الجميلة ما يتعلق بالحجاز لأنه محل الغرض.

وهو ملك مطاع ، محظوظ ، صبور ، غير عجل ، كثير الحياء والوقار والمهابة ، إذا حاول أمرا لا يسرع فيه ، بل يتأنى كثيرا ، ويعظم أهل العلم ويجلهم.

وإنما أمتعنا بذكر ذلك هنا ليكون سببا في حث الواقف على ذلك على الدعاء لهذا الملك السعيد بإنجاح المطالب ، ونيل المآرب ، ولتنبعث همة من جاء بعده من الملوك على أن

٢٣٤

يقتدي به في الخير فيصنع مثل ما صنعه ، ونسأل الله تعالى أن يفسح في أجله ، فقلّ أن يأتي بعده مثله.

الفصل الرابع والثلاثون

فيما كان مطيفا بالمسجد الشريف من الدور ، وما كان من خبرها ، وجلّ ذلك

من منازل المهاجرين رضي الله تعالى عنهم

رسول الله يخط دور المدينة

روى ابن سعد في طبقاته عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خطّ الدور بالمدينة ، فخط لبني زهرة في ناحية مؤخر المسجد ، فكان لعبد الرحمن بن عوف الحش ، والحش : نخل صغار لا يسقى.

وعنه أيضا أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خط الدور ؛ فخط لبني زهرة في ناحية مؤخر المسجد ؛ فجعل لعبد الله وعتبة ابني مسعود هذه الخطة عند المسجد.

وقال ياقوت : لما قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مهاجرا إلى المدينة أقطع الناس الدور والرّباع ؛ فخط لنبي زهرة في ناحية من مؤخر المسجد ، وكان لعبد الرحمن بن عوف الحش المعروف به ، وجعل لعبد الله وعتبة ابني مسعود الهذليّين الخطة المشهورة بهم عند المسجد ، وأقطع الزبير ابن العوام بقيعا واسعا ، وجعل لطلحة بن عبيد الله موضع دوره ، ولأبي بكر الصديق موضع داره عند المسجد ، وأقطع كل واحد من عثمان بن عفان وخالد بن الوليد والمقداد وغيرهم مواضع درهم ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقطع أصحابه هذه القطائع ، فما كان في عفائن الأرض فإنه أقطعهم إياه ، وما كان من الخطط المسكونة العامرة فإن الأنصار وهبوه له فكان يقطع من ذلك ما شاء ، وكان أول من وهب له خططه ومنازله حارثة بن النعمان وهب له ذلك وأقطعهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انتهى.

دار آل عمر بن الخطاب

فأول الدور الشوارع حول المسجد من القبلة دار عبد الله بن عمر بن الخطاب التي فيها الخوخة المتقدم وصفها ، وليست الدار المذكورة اليوم بيد أحد من آل عمر كما قدمناه ، وقدمنا أن موضع هذه الدار كان مربدا أعطيته حفصة رضي الله تعالى عنها بدل حجرتها لما احتيج إلى إدخالها في المسجد ، وفي رواية أن آل عمر أعطوا بدلها دار الرقيق وما بقي منها.

وقال ابن غسان ، فيما نقله ابن شبة : وأخبرني مخبر أن تلك الدار ـ يعني دار آل عمر ـ كانت مربدا يتوضأ فيه أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما توفي استخلصته حفصةرضي‌الله‌عنها

٢٣٥

بثلاثين ألف درهم ، فورثها عنها عبد الله بن عمر ؛ فهي التي قال فيها عبد الله في كتاب صدقته : وتصدق عبد الله بداره التي عند المسجد التي ورث من حفصة.

بيت لأبي بكر الصديق صار لآل عمر

قال : وأخبرني مخبر قال : كان بيت أبي بكر الذي قال فيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سدوا عني هذه الأبواب ـ الحديث» بيد عبد الله بن عمر ، وهو البيت الذي على يمينك إذا دخلت دار عبد الله من الخوخة التي في المسجد ، فتلقاك هناك خوخة في جوف الخوخة التي هي الطريق مبوّبة ، فتلك الخوخة خوخة أبي بكر.

قال : وكانت حفصة ابتاعت ذلك المسكن من أبي بكر مع الدار التي فوق هذه ، أي التي في قبلتها كما سنبينه ، قال : وتصدقت بتلك الدار على ولد عمر.

قلت : هذه الرواية الأخيرة ضعيفة كما قدمناه ؛ ولذلك لم يبين قائلها ، ولأنه في دور بني تيم لما ذكر دار أبي بكر التي ورد فيها الحديث المذكور لم يذكر هذه الرواية ، بل اقتصر على الرواية المشهورة في أنها في غربي المسجد ؛ فإن الخوخة الواردة فيها الحديث هي الشارعة في رحبة دار القضاء ، ولذلك لما زادوا في المسجد أرادوا محاكاتها ، فجعلوها خوخة شارعة هناك ، ولم يجعلوها كبقية أبواب المسجد ، ولأنه جزم في دور أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن عائشةرضي‌الله‌عنها اتخذت الدار التي يقال لها دار عائشة بين دار الرقيق وبين دار أسماء بنت أبي بكر فتصدقت بها.

قلت : فإن كانت دار الرقيق هي بيت حفصة فبيت عائشة إلى جنبه ، والمعروف عند الناس أن البيت الذي على يمين الخارج من خوخة آل عمر المذكورة هو بيت عائشةرضي‌الله‌عنها ، فلعل الاشتباه في نسبته إلى أبي بكررضي‌الله‌عنه نشأ من ذلك ، مع أن الذي اقتضاه كلام المؤرخين أن البيت المذكور عن يمين الخوخة هو بيت آل عمر ، وأن دار عائشة ليست في هذا المحل ، وهذه الدار المذكورة ـ أعني التي على يمين الداخل من الخوخة ـ وقف ناظره شيخ الخدام ، وبلغني أن واقفها اشترط أن لا يسكنها متزوج ، وبابها اليوم شارع في القبلة ، ولها شباك عن يمين الخوخة لعله كان في موضع بابها الأول لما كانت الخوخة شارعة في الدار المذكورة ، وأما البيت الذي عن يسار الخوخة فوقفة أيضا ناظره شيخ الخدام ، وبابه ليس شارعا عند الخوخة ، بل بعيد منها في المغرب ، وهو آخر الدور الآتي ذكرها ، ومقتضى ما سيأتي عن ابن شبة وابن زبالة أن الدار المعروفة اليوم بدار عائشة والدارين اللتين إلى جانبها الغربي في قبلة المسجد من جملة دار آل عمر ؛ لأنهما قالا : في الدور الشوارع من القبلة دار عبد الله بن عمر ، ثم دار مروان الآتي ذكرها ، وأما الدار الثانية التي تقدمت الإشارة إليها في كلام أبي غسان من دور حفصة فوق هذه فقد ذكرها بقوله : وكانت لحفصة

٢٣٦

الدار التي بين زقاق عبد العزيز بن مروان الذي أدخل في دار مروان دار الإمارة وبين زقاق عاصم بن عمر بابها شارع قبالة دير أطم بني النجار الذي يدعى فويرعا ، فتصدقت بها على ولد عمر ؛ فهي بأيديهم صدقة منها.

قلت : وهذا الوصف منطبق اليوم على دار قاضي الشافعية أبي الفتح بن صالح وما لاصقها من جهة الشام ؛ لأن زقاق عاصم هو الزقاق الشارع باب هذه الدار فيه الآخذ منها إلى جهة القبلة والميضأة ، ولأن فويرعا كان فيما بينها وبين المدرسة الشهابية كما سيأتي بيانه ، وعلى هذا فزقاق عاصم هو الذي في شاميها ، دخل بعضه فيما حاذى دار مروان ، وبقي منه ما يفرق بين دار آل عمر هذه والدار التي لها الخوخة ، والله أعلم.

دار مروان بن الحكم

ثم يلي دار عبد الله بن عمر ذات الخوخة في قبلة المسجد من غربيها دار مروان بن الحكم ، قال ابن زبالة : وكان بعضها للنحام ـ يعني نعيم بن عبد الله من بني عدي ـ وبعضها من دار العباس بن عبد المطلب ، فابتاعها مروان فبناها وجعل فيها دارا لابنه عبد العزيز بن مروان ، ثم ذكر خبر أبوابها المتقدم ذكره في أبواب المسجد.

وروى ابن زبالة في ذيل زيادة عثمان بن عفانرضي‌الله‌عنه في المسجد ، عن غير واحد منهم محمد بن إسماعيل عن أبيه أنه كانت فيها نخلات ، فابتاع مروان من آل النحام كل نخلة وموضعها بألف درهم ، وكن ثمانيا أو اثنتي عشرة ، فرأى الناس أن مروان قد أغلى ، فلما وجب له البيع عقرهن وبناها دارا فغبطه الناس.

ونقل ابن شبة عن بعضهم أن دار مروان بن الحكم التي ينزلها الولاة إلى جنب المسجد ـ يعني الدار المذكورة ـ كانت مربدا لدار العباس التي دخلت في المسجد ، فابتاعها مروان ، فسمعت من يقول : كانت القبة التي كانت في دار مروان وحجرتها التي تلي المسجد عن يسار من دخل الدار للنحام أخي بني عدي بن كعب ، وكانت فيها نخلات ، فابتاعها مروان من النحام بثلاثمائة ألف درهم ، وأدخلها في داره ، فذلك الموضع ليس من المربد الذي ابتاع من العباس.

وذكر ابن شبة في موضع آخر أن دار مروان صارت في الصّوافي ، أي : لبيت المال.

قلت : وفي موضعها اليوم كما قدمناه الميضأة التي في قبلة المسجد عند باب السلام ، وما في شرقيها إلى دور آل عمر ، قال ابن زبالة وابن شبة : وإلى جنبها ـ يعني : دار مروان ـ في المغرب دار يزيد بن عبد الملك التي صارت لزبيدة ، وكان في موضعها دار لآل أبي سفيان ابن حرب ، كانت أشرف دار بالمدينة بناء وأذهبه في السماء. ودار كانت لآل أبي أمية بن المغيرة ، فابتاعها يزيد ، وأدخلها في داره ، وهدمها ، وكان بعض أهل المدينة وفد على

٢٣٧

يزيد ابن عبد الملك وقد فرغوا من بناء داره ، فسأله عنها ، فقال : ما أعرف لك أصلحك الله بالمدينة دارا ، فلما رأى ما في وجهه قال : يا أمير المؤمنين ، إنها ليست بدار ، ولكنها مدينة ، فأعجب ذلك يزيد.

دار رباح ودار المقداد

قلت : وفي موضع هذه الدار اليوم ما يقابل الميضأة في المغرب من دار الأشراف العباسا والدار الملاصقة لها في المغرب المشتراتين للسلطان ، وقد أضافوا إليهما ما في قبلتهما من الدور.

وقد ذكر ابن شبة أن رباحا مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم اتخذ دارا على زاوية دار يزيد بن عبد الملك الغربية اليمانية ، وأن المقداد بن الأسود حليف بني زهرة اتخذ دارا بين بيت رباح مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين زقاق عاصم ، فتكون هذه الدار على زاوية دار يزيد الشرقية اليمانية ، فهما من جملة ما اشترى للسلطان اليوم. وبين الميضأة وبين هذه الدور زقاق لعله متصل بزقاق عاصم بن عمر ، إلا أن ابن زبالة وابن شبة لم يذكراه ، قالا : ثم وجاه دار يزيد دار أويس بن سعد بن أبي سرح العامري. قال ابن شبة في هذه الدار : أخبرت أنها كانت لمطيع بن الأسود فناقل بها العباس إلى الدار التي بالبلاط يقال لها دار مطيع ، وزاده عشرة آلاف درهم ، ثم باعها العباس من عبد الله بن سعد بن أبي سرح بثلاثين ألف درهم ، فسكنها بنو أخيه ؛ فهي الدار التي يقال لها دار أويس عند دار يزيد بن عبد الملك بالبلاط ، وقد سمعنا من يذكر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أقطع مطيعا داره تلك ، فالله أعلم أي ذلك كان.

قلت : وموضع دار أويس اليوم المدرسة الباسطية التي أنشأها القاضي عبد الباسط سنة بضع وأربعين وثمانمائة ، وما في شرقيها من مؤخر المدرسة المعروفة اليوم بالحصن العتيق المتقدم ذكرها ، فذلك كله يواجه دار يزيد المذكورة ، ويفصل بينهما بلاط باب السلام.

دار مطيع بن الأسود

قالا : ثم إلى جنب دار أويس ـ أي في المغرب ـ دار مطيع بن الأسود العدوي ، أي المتقدم ذكر قصتها وأنها كانت للعباس رضي الله تعالى عنه ، قال ابن شبة : أي : المتقدم ذكر قصتها وأنها كانت للعباس رضي الله تعالى عنه ، قال ابن شبة : ويقال لها دار أبي مطيع ، وعندها أصحاب الفاكهة ، وزاد في قصتها أنه بلغه أيضا أن حكيم بن حزام ابتاعها هي وداره التي من ورائها بمائة ألف درهم ، فشركه ابن مطيع ، فقاومه حكيم ، فأخذ ابن مطيع داره بالثمن كله وبقيت دار حكيم في يده ربحا ، فقيل لحكيم : خدعك ، فقال : دار بدار ومائة ألف درهم ، وكان يقال لدار أبي مطيع العنقاء ، قال لها الشاعر :

إلى العنقاء دار أبي مطيع

٢٣٨

وبين يدي دار أبي مطيع أبيات ليزيد بن عبد الملك فيها الغسالون ، يقال : إن يزيد كان ساوم آل مطيع بدارهم ، فأبوا أن يبيعوها ، فأحدث عليهم تلك البيوت ، فسدّ وجه دارهم ، فهي تدعى أبيات الضّرار ، وهي مما صار للخيزران.

قلت : وموضع دار أبي مطيع اليوم الدار التي في غربي المدرسة الباسطية التي اشتراها وكيل الخواجا ابن الزمن ، وفي غربيها سوق المدينة اليوم ، وهو من البلاط ، وموضعه عندها هو المراد بقول ابن شبة : وعندها أصحاب الفاكهة ، فكأن الفاكهة كانت تباع فيه حينئذ.

دار حكيم بن حزام

وأما دار حكيم التي ذكر أنها من ورائها فمحلها اليوم الدار التي في شامي هذه الدور التي عندها درج العين بالسوق المذكور ، قال ابن شبة في دور بني أسد : واتخذ حكيم بن حزام داره الشارعة على البلاط إلى جنب دار مطيع بن الأسود ، بينها وبين دار معاوية بن أبي سفيان ، يحجز بينها وبين دار معاوية الطريق ، ومراده بالبلاط الموضع الذي به سوق المدينة اليوم أمام المدرسة الزمنية الممتد منها إلى الشام.

وقوله «يحجز بينها ـ أي : دار حكيم ودار مطيع ـ وبين دار معاوية الطريق» أي : البلاط المذكور ؛ فالظاهر : أن دار معاوية هذه هي المقابلة لها بين الدارين في المغرب ، وهناك في مقابلتها اليوم رباط جدد أنشأه الفخر ناظر الجيوش بمصر سنة تسع عشرة وسبعمائة بابه شارع في سوق المدينة اليوم ودار خربة.

وقال ابن شبة أيضا في دور بني عدي بن كعب : اتخذ النعمان بن عدي داره التي صارت لمحمد بن خالد بن برمك وبناها ، وفي الشارعة عند الخياطين بالبلاط عند أصحاب الفاكهة ابتاعها من آل النحام وآل أبي جهم ، وكانت صارت لهم مواريث ، انتهى.

دار عبد الله بن مكمل

ومحل هذه الدار إما الدار الخربة التي إلى جانب الرباط الشارع في السوق ، أو المدرسة الزمنية ، والله أعلم.

ولنرجع إلى ذكر الدور المطيفة بالمسجد.

قال ابن شبة : وفي غربي المسجد دار عبد الله بن مكمل الشارعة في رحبة القضاء ، وهي مما يتشاءم به ، وذلك مما نشأ عن بنائها.

وقال في دور بني زهرة : كان عبد الرحمن بن عوف وهبها لابن مكمل ، فباعها آله من المهدي ؛ فهي بأيدي ولده اليوم خراب إلى جنب المسجد ، أي قبل أن تبنى رحبة القضاء.

قال : وهي التي يقولون : إن أهلها قالوا : يا رسول الله ، اشتريناها ونحن جميع فتفرقنا ، وأغنياء فافتقرنا ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : اتركوها فهي ذميمة.

٢٣٩

وقال ابن زبالة : هي التي يجلس إلى ركحها(١) صاحب الشرط ، وإليها أصحاب الفاكهة ، وهم يهابون بناءها ويتشاءمون بها ؛ فهي على حال ما اشتريت عليه.

وقد ترجم في الموطأ لما يتقى من الشؤم ، وروى فيه عن يحيى بن سعيد أن امرأة جاءت إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ، دار سكناها والعدد كثير والمال وافر فقلّ العدد وذهب المال ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعوها ذميمة» ورواه البزار بنحوه عن ابن عمر ، إلا أنه قال فيه : إن قوما جاءوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وزاد فيه : فقالوا : يا رسول الله كيف ندعها؟ قال : «بيعوها أو هبوها».

وقال البزار : أخطأ فيه صالح بن أبي الأخضر ، والصواب أنه من مرسلات عبد الله بن شداد ، وروى الطبراني نحوه عن سهل بن حارثة الأنصاري ، وفيه يعقوب بن حميد بن كاسب وثقه ابن حبان وغيره وضعفه جماعة.

قلت : وفي موضع دار ابن مكمل اليوم المدرسة المعروفة بالجوبانية من بابها إلى آخر رباطها الذي في غربيها ، بل يؤخذ مما سبق عن ابن زبالة من جلوس أصحاب الفاكهة إليها أنها كانت تمتد إلى سوق الصواغين اليوم ؛ لما تقدم من بيان أصحاب الفاكهة ، ولما سيأتي في الدار التي بعدها.

دار النحام

وفي المغرب أيضا دار النحام العدوي. وعبارة ابن زبالة وابن شبة : وفي غربي المسجد دار ابن مكمل ودار النحام ، الطريق بينهما قدر ستة أذرع.

وقال ابن شبة في دور بني عدي : واتخذ النحام نعيم بن عبد الله داره التي بابها وجاه زاوية رحبة دار القضاء ، وشرقيها الدار التي قبضت عن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك التي كانت بيت عاتكة بنت يزيد بن معاوية فهي بيد ولده على حوز الصدقة.

قال : وأخبرني مخبر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حازها له قطيعة منه.

قلت : ودار جعفر المذكورة هي المواجهة لباب الرحمة ؛ فعلم بذلك أن دار النحام هذه كانت في مقابلة باب المدرسة الجوبانية المتقدم ذكرها في بيان رحبة القضاء عند ذكر باب زياد ، وأن الطريق التي بين دار النحام ودار ابن مكمل هي البلاط الآخذ من باب الرحمة إلى السوق ، وعلم بذلك أن رحبة القضاء كانت تمتد من جهة باب الرحمة إلى باب الجوبانية.

دار جعفر بن يحيى

ثم إلى جنب دار النحام دار جعفر بن يحيى التي دخل فيها بيت عاتكة بنت يزيد بن معاوية. وأطم حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه المسمى بفارع.

__________________

(١) الرّكح : الرّكن. والناحية والجانب. و ـ الساحة والفناء. (ج) أركاح وركوح.

٢٤٠