وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى الجزء ٢

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى0%

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى مؤلف:
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الناشر: دار الكتب العلميّة
تصنيف: مكتبة الحديث وعلومه
الصفحات: 282

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى

مؤلف: نور الدين علي بن أحمد السّمهودي
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الناشر: دار الكتب العلميّة
تصنيف:

الصفحات: 282
المشاهدات: 78273
تحميل: 4009


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 282 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 78273 / تحميل: 4009
الحجم الحجم الحجم
وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى الجزء 2

مؤلف:
الناشر: دار الكتب العلميّة
العربية

الفصل الرابع عشر

في زيادة عثمان بن عفانرضي‌الله‌عنه

روينا في صحيح البخاري وسنن أبي داود عن نافع أن عبد الله ـ يعني ابن عمر ـ أخبره أن المسجد كان على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مبنيا باللبن ، وسقفه الجريد ، وعمده خشب النخل ، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا ، وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم باللبن والجريد ، وأعاد عمده خشبا ، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة ، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصّة(١) ، وجعل عمده من حجارة منقوشة ، وسقفه بالساج.

وروى أبو داود أيضا ـ وسكت عليه ـ عن عطية عن ابن عمررضي‌الله‌عنهما قال : إن مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت سواريه على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من جذوع النخل ، أعلاه مظلل بجريد النخل ، ثم إنها نخرت في خلافة أبي بكررضي‌الله‌عنه فبناها بجذوع النخل وبجريد النخل ، ثم إنها نخرّت في خلافة عثمانرضي‌الله‌عنه فبناها بالآجر ، فلم تزل ثابتة حتى الآن ، هكذا رأيته في أصول متعددة معتمدة من السنن ، وأورده المجد بلفظ : ثم إنها نخرت في خلافة عمر ـ بدل أبي بكر ـ ولم أره في شيء من النسخ.

وفي هذا الخبر ما يقتضي أن السبب في بناء عثمان للمسجد كون الجذوع التي هي السواري نخرت ، وأن عثمان بناها بالآجر لا الحجر ، فلعل البعض كان في زمنه مبنيا بالآجر وهو بعيد ، وما تقدم من رواية الصحيح أصح.

وفي صحيح مسلم عن محمود بن لبيد أن عثمان بن عفان أراد بناء المسجد ، فكره الناس ذلك ، وأحبوا أن يدعه على هيئته ، فقال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من بنى «مسجدا لله» بنى الله له في الجنة مثله.

وفيه وفي البخاري عن عبيد الله الخولاني أنه سمع عثمان عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول : إنكم قد أكثرتم ، وإني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من بنى مسجدا للهعزوجل ، الحديث.

وقوله في الرواية الأولى إن عثمان أراد بناء المسجد يبين أن المراد من قوله حين بناء المسجد حين أراد بناءه ، إلا أن يكون ذلك قد تكرر من عثمان لتكرر كلامهم قبل البناء وبعده ، وهو الأقرب ، وقوله «وأحبوا أن يدعه على هيئته» أي بجذوع النخل واللبن كما فعل عمررضي‌الله‌عنه لموافقته لفعلهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا قال البغوي في شرح السنة : لعل الذي كره الصحابة من عثمان بناؤه بالحجارة المنقوشة ، لا مجرد توسيعه ، اه. ويؤيده ما سيأتي من

__________________

(١) القصّ : الجصّ. وسمي موضع قرب المدينة بذي القصّة لأن به الجصّ.

٨١

أن الناس شكوا إليه ضيق المسجد ؛ فقوله : «لما أراد عثمان بناء المسجد» أي : على الهيئة التي بناه عليها ، ويؤخذ من هذا إطلاق البناء المرغّب فيه في حق من جدد ووسع ؛ لأن عثمان لم يبن المسجد كله إنشاء ، وقوله «إنكم أكثرتم» أي : الكلام بالإنكار ونحوه.

وروى يحيى عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال : لما ولي عثمان بن عفان سنة أربع وعشرين كلمه الناس أن يزيد في مسجدهم ، وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة ، حتى إنهم ليصلون في الرحاب ، فشاور فيه عثمان أهل الرأي من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأجمعوا على أن يهدمه ويزيد فيه ، فصلى الظهر بالناس ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ، إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأزيد فيه ، وأشهد لسمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة ، وقد كان لي فيه سلف وإمام سبقني وتقدمني عمر بن الخطاب ، كان قد زاد فيه وبناه ، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأجمعوا على هدمه وبنائه وتوسيعه ، فحسّن الناس يومئذ ذلك ودعوا له ، فأصبح فدعا العمال وباشر ذلك بنفسه ، وكان رجلا يصوم الدهر ويصلي الليل ، وكان لا يخرج من المسجد ، وأمر بالقصّة المنخولة تعمل ببطن نخل ، وكان أول عمله في شهر ربيع الأول من سنة تسع وعشرين ، وفرغ منه حين دخلت السنة لهلال المحرم سنة ثلاثين ، فكان عمله عشرة أشهر.

قلت : قوله أولا «لما ولي عثمان سنة أربع وعشرين» إلى قوله «فأصبح ودعا العمال» يفهم أنه في تلك السنة ، وقوله أخيرا «وكان أول عمله إلى آخره» يأباه ، وما ذكره أخيرا هو الصواب المذكور في كلام غيره ؛ فيحمل ما ذكره أولا على أنه لم يشرع في المشاورة والعمارة عقب كلام الناس له ، بل استمر تلك السنين ، وربما تكرر الكلام فخطبهم في السنة التي وقعت فيها العمارة.

وقد روى رزين الخبر المذكور عن المطلب المذكور بلفظ : لما ولي عثمان وكان سنة أربع من خلافته كلمه الناس أن يزيد في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وشكوا إليه ضيقه ، فشاور عثمان أهل الرأي ، فأشاروا عليه بذلك ، وذكر نحو ما تقدم ، وينبغي حمله أيضا على أن الكلام وقع من الناس سنة أربع من خلافته وتأخرت العمارة إلى سنة تسع وعشرين ـ بتقديم المثناة الفوقية على السين ـ وإلا فهو مخالف لما تقدم ؛ لأن عثمانرضي‌الله‌عنه ولي غرة المحرم افتتاح سنة أربع وعشرين ، فسنة أربع من خلافته هي سنة سبع وعشرين ـ بتقديم السين على الموحدة ـ والأول هو الأصح ؛ فقد روى يحيى وابن زبالة أن عثمان زاد في المسجد قبل أن يقتل بأربع سنين ، وعثمان قتل في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين.

وقال الحافظ ابن حجر : كان بناء عثمان للمسجد سنة ثلاثين على المشهور ، وقيل : في

٨٢

آخر سنة من خلافته ؛ ففي كتاب السير عن الحارث بن مسلم عن ابن وهب : أخبرني مالك أن كعب الأحبار كان يقول عند بنيان عثمان المسجد : لوددت أن هذا المسجد لا ينجز(١) ؛ فإنه إذا فرغ من بنيانه قتل عثمان ، قال مالك : فكان كذلك.

قال الحافظ ابن حجر : ويمكن الجمع بأن الأول كان تاريخ ابتدائه ، والثاني تاريخ انتهائه.

قلت : قد تقدم ما يردّ هذا الجمع ، وأن الفراغ منه كان في سنة ثلاثين ، لكن يمكن أن عثمانرضي‌الله‌عنه أحدث فيه عمارة أخرى آخر سنة من خلافته وقد وصل ابن شبة ما نقله مالك عن كعب ؛ فروى بسنده من طريق الأعمش عن أبي صالح قال : قال كعب ومسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يا بنى : والله لوددت أنه لا يفرغ من برج إلا سقط برج ، فقيل له : يا أبا إسحاق أما كنت تحدثنا أن صلاة فيه أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام ، قال : بلى ، وأنا أقول ذلك الآن ، ولكن فتنة نزلت من السماء ليس بينها وبين أن تقع إلا شبر ، ولو فرغ من بناء هذا المسجد وقعت ، وذلك عند قتل هذا الشيخ عثمان بن عفان ، فقال رجل : وهل قاتله إلا كقاتل عمر ، قال : بل مائة ألف أو يزيدون ، ثم يحل القتل ما بين عدن أبين إلى دروب الروم(٢) .

وروى يحيى عن أفلح بن حميد عن أبيه قال : لما أراد عثمان أن يكلم الناس على المنبر ويشاورهم قال له مروان بن الحكم : فداك أبي وأمي ، هذا أمر خير لو فعلته ولم تذكر لهم ، فقال : ويحك! إني أكره أن يروا أني أستبد عليهم بالأمور ، قال مروان : فهل رأيت عمر حيث بناه وزاد فيه ذكر ذلك لهم؟ قال : اسكت ، إن عمر اشتد عليهم فخافوه ، حتى لو أدخلهم في جحر ضب دخلوا ، وإني لنت لهم حتى أصبحت أخشاهم ، قال مروان بن الحكم : فداك أبي وأمي لا يسمع هذا منك فيجترأ عليك.

وعن عبد الرحمن بن سفينة قال : رأيت القصّة تحمل إلى عثمان وهو يا بني مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من بطن نخل ، رأيته يقوم على رجليه والعمال يعملون فيه حتى تأتي الصلاة فيصلي بهم ، وربما نام ثم رجع ، وربما نام في المسجد.

وعن خارجة بن زيد قال : هدم عثمان بن عفان المسجد وزاد في قبلته ، ولم يزد في شرقيه ، وزاد في غربيه قدر أسطوان ، وبناه بالحجارة المنقوشة والقصة وعسب النخل

__________________

(١) أنجز الشيء : أتمه وقضاه.

(٢) الدروب مفردها الدرب : المضيق بين الجبال. و ـ كل مدخل إلى بلاد الروم.

٨٣

والجريد ، وبيضه بالقصة ، وقدر زيد بن ثابت أساطينه فجعلها على قدر النخل ، وجعل فيه طيقان مما يلي المشرق والمغرب ، وذلك قبل أن يقتل بأربع سنين ، وزاد فيه إلى الشام خمسين ذراعا.

وعن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه قال : زاد عثمان في المسجد قبل أن يقتل بأربع سنين فزاد من القبلة ، فوضع جداره على حد المقصورة اليوم ، وزاد فيه من المغرب أسطوانا بعد المربعة ، وزاد فيه من الشام خمسين ذراعا ، ولم يزد من المشرق شيئا ، وزعم المطري وتبعه المراغي أن المراد بهذه المربعة المربعة المتقدم وصفها في تحديد المسجد النبوي في زيادة عمررضي‌الله‌عنه ، وهي الأولى من المربعتين اللتين يليان القبلة في صف الأسطوان الرابع من المنبر في جهة المغرب ، وجعلا نهاية زيادة عثمان إلى الأسطوانة التي تليها في المغرب المقابلة للطراز المتقدم وصفه ، فقالا : أراد بالمربعة الأسطوانة التي تليها في المغرب التي في القبلة التي رفع أسفلها مربعا قدر الجلسة ، وهي منتهى زيادة عثمان من المغرب ، وقبالة الأسطوانة التي زادها عثمان في الحائط القبلي طرازا آخر من العصابة السفلى إلى سقف المسجد ، وهو حد زيادة عثمان ، انتهى.

ومحصله أن زيادة عثمان هي الرواق الكائن بين الأسطوانتين المذكورتين ، ولم أر من سبقهما لذلك ، وقد قدمنا في تحديد المسجد النبوي ما يقتضي أن الطراز المذكور في موازاة حد المسجد النبوي على الراجح ، وأن زيادة عمر وعثمانرضي‌الله‌عنهما من بعد ذلك في جهة المغرب ، وأن عمررضي‌الله‌عنه جعل المشرق إلى المغرب مائة وعشرين ذراعا ، وأن من المربعة التي ذكرا أنها نهاية زيادته إلى الحجرة الشريفة ينقص عن تسعين ذراعا ، وإلى محاذاة الطراز نحو المائة ؛ فيبقى لعمر في جهة المغرب بعد الطراز رواقان آخران ؛ فيكون نهاية المسجد في زمنه الأسطوانة السابعة من المنبر ، وفي صف السابعة من المنبر أسطوان أسفله مربع لكنه ليس مرتفعا عن الأرض بقدر الجلسة ، بل تربيعه على وجه الأرض ، وقد زال تربيعه في العمارة الحادثة بعد الحريق الثاني ، وليس هو في صف الأساطين التي تلي القبلة ، بل في صف الأساطين التي خلف محراب الحنفية ؛ فالظاهر أن هذه المربعة هي المرادة هنا ؛ فيكون لعثمانرضي‌الله‌عنه في جهة المغرب الرواق الذي بعدها ؛ فيكون نهاية المسجد في زمانه الأسطوانة الثامنة من المنبر في جهة المغرب ، ويدل على صحة ذلك ما سيأتي أن الوليد زاد بعد عثمانرضي‌الله‌عنه في جهة المغرب أسطوانين ، ولم يزد أحد بعد الوليد في جهة المغرب شيئا ، والباقي من الأسطوانة الثامنة من المنبر أسطوانتان فقط في جهة المغرب ، فهما زيادة الوليد ، وهناك أسطوان مربعة مرتفعة قدر الجلسة أيضا أمام الأسطوانة بوجاه الداخل من باب السلام ، الظاهر أنها جعلت علامة لنهاية زيادة عثمانرضي‌الله‌عنه ، وابتداء زيادة

٨٤

الوليد ، وإن قلنا بأن نهاية المسجد النبوي المربعة الأولى التي تلي القبلة كما سبقت الإشارة إليه فحينئذ يكون لعمررضي‌الله‌عنه منها إلى جهة المغرب أسطوانتان فيكون نهاية زيادة الأسطوانة السادسة من المنبر ، وفي صفها أسطوان مربع قدر الجلسة أيضا أمام الأسطوانة المثمنة اليوم ، وتكون زيادة عثمانرضي‌الله‌عنه إلى الأسطوانة التي بعدها في جهة المغرب وهي السابعة ، وتبقى للوليد منها إلى جدار المسجد ثلاثة أساطين ، وسيأتي في عمارته رواية تقتضي ذلك ، على أن الذي أفهمه من كلام متقدمي المؤرخين كما قدمناه في حدود المسجد أن المربعة حيث أطلقت في جهة المغرب فالمراد بها الأسطوانة المقابلة لمربعة القبر في جهة المغرب عند ركن صحن المسجد قبل زيادة الرواقين الآتي بيانهما ، وهي المثمنة اليوم ، وفي ركني الصحن الشاميين أسطوانتان على هيأتها أيضا ، وتثمينها حادث كما تقدم بيانه ، ويعبرون عنها بالمربعة الغربية ، وهي السادسة من المنبر ؛ فيترجح بذلك أنها نهاية زيادة عمر وابتداء زيادة عثمانرضي‌الله‌عنه ، ولو كان كما زعم المطري ومن تبعه لكان بعد نهاية زيادة عثمانرضي‌الله‌عنه في المغرب خمس أساطين ، فيكون كلها للوليد ، ولا قائل بذلك ، وفيما قدمناه في تحديد المسجد النبوي كفاية في رد ما قالاه.

وروى يحيى عن عبد الله بن عطية بن عبد الله بن أنيس قال : بنى عثمان المسجد بالحجارة المنقوشة والقصة ، وجعل عمده حجارة منقوشة ، وبها عمد الحديد فيها الرصاص ، وسقفه ساجا ، وجعل طوله ستين ومائة ذراع ، وعرضه خمسين ومائة ذراع ، وجعل أبوابه ست أبواب على ما كان على عهد عمررضي‌الله‌عنه : باب عاتكة ، أي المعروف بباب الرحمة ، والباب الذي يليه أي يقرب من محاذاته في المشرق ، وهو باب النساء ، وباب مروان : أي المعروف بباب السلام ، والباب الذي يقال له باب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي المعروف بباب جبريل ، وبابين في مؤخر المسجد.

قلت : قوله : «وجعل طوله ستين ومائة ذراع» مخالف لما تقدم من كونه زاد فيه من جهة الشام خمسين ذراعا ؛ لأنه قد تقدم أن عمررضي‌الله‌عنه جعل طول المسجد أربعين ومائة ذراع ، فلو زاد فيه عثمان خمسين ذراعا لكان طوله في زمنه تسعين ومائة ذراع ، على أن الأقرب أن طوله في زمن عثمان كان ستين ومائة ذراع ، لما سيأتي في الزيادة بعده. وقوله «وعرضه خمسين ومائة ذراع» مخالف لما تقدم من كونه لم يزد من جهة المغرب سوى أسطوانة واحدة ، ولم يزد في جهة المشرق شيئا ، بل هذه الرواية خطأ ؛ للاتفاق على أن عثمانرضي‌الله‌عنه لم يزد من جهة المشرق شيئا ؛ فيكون نهايته في زمنه الحجرة الشريفة ، وذرع المسجد اليوم من جداره الغربي إلى جدار الحجرة الشريفة لا يبلغ خمسين ومائة ذراع ، بل ينقص عن ذلك أكثر من سبعة أذرع ، ثم تبقى زيادة الوليد من جهة المغرب ، وهي متفق

٨٥

عليها أيضا ؛ فالصواب أنه لم يزد من المغرب سوى أسطوانة ، وأن عرض المسجد في زمنه نحو مائة وثلاثين ذراعا ، والله أعلم.

وروى يحيى كما في النسخة التي رواها ابنه عن أبي الحسن المدائني أنه قال في حديث ساقه : إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خط لجعفر بن أبي طالب دارا وهو بأرض الحبشة ، فاشترى عثمان نصفها بمائة ألف ، فزادها في المسجد.

قلت : تقدم في زيادة عمررضي‌الله‌عنه نقل مثل ذلك عن فعل عمررضي‌الله‌عنه ؛ فيحتمل أن كلا منهما شرى نصف ذلك وأدخله مرتبا ، والله أعلم.

وروى ابن زبالة عن عبد الله بن عمر بن حفص قال : مدّ عمر بن الخطاب جدار القبلة إلى الأساطين التي إليها المقصورة اليوم ، ثم زاد عثمان بن عفان حتى بلغ جداره اليوم ، قال : فسمعت أبي يقول : لما احتيج إلى بيت حفصة قالت : فكيف بطريقي إلى المسجد؟ فقال لها : نعطيك أوسع من بيتك ، ونجعل لك طريقا مثل طريقك ، فأعطاها دار عبيد الله بن عمر ، وكانت مربدا(١) .

قلت : وهذه العبارة محتملة لأن القائل «نعطيك إلى آخره» عمر أو عثمانرضي‌الله‌عنهما ، ويرجح الثاني أنه أورده في سياق زيادة عثمانرضي‌الله‌عنه ، وأنه روى عقبة عن عبد الرحمن بن سعد عن أشياخه أن عمر قدم جدار القبلة إلى المقصورة ، ثم قدمه عثمان إلى موضعه اليوم ، وأخل بقية دار العباس بن عبد المطلب مما يلي القبلة والشام والمغرب ، وأدخل بعض بيوت حفصة بنت عمر مما يلي القبلة ، فقام المسجد على تلك الحال حتى زاد فيه الوليد.

قلت : تقدم في زيادة عمررضي‌الله‌عنه أن الحافظ ابن حجر نقل عن ابن شبة أن دار أبي بكر التي أذن له في إبقاء الخوخة منها إلى المسجد اشترتها حفصة أم المؤمنين ، فلم تزل في يدها إلى أن أرادوا توسيع المسجد في خلافة عثمان ، فطلبوها منها ليوسع بها في المسجد ، فامتنعت وقالت : كيف بطريقي إلى المسجد؟ فقيل لها : نعطيك دارا أوسع منها ونجعل لك طريقا مثلها ، فسلمت وضيت ، والذي ذكره ابن شبة في علم دور أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما سنذكره عنه في الدور التي كانت حول المسجد من أن حفصة اتخذت دارها التي في قبلة المسجد لها خوخة في المسجد ، فورثها عبد الله بن عمران وذكر ما سيأتي في أصل هذه الدار من كونها كانت مربدا كما سيأتي ، ثم ذكر لحفصة دارا أخرى ، ثم قال : وأخبرني مخبر قال : كان بيت أبي بكر الذي أذن له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في إبقاء خوخته بيد عبد الله بن

__________________

(١) المربد : موقف الإبل ومحبسها ، وبه سمي مربد البصرة. وربد بالمكان : أقام به. و ـ حبس به. و ـ التمر خزنه في المربد. (ج) مرابد.

٨٦

عمر ، وهو البيت الذي على يمينك إذا دخلت دار عبد الله من الخوخة التي في المسجد ، فتلقاك هناك خوخة في جوف الخوخة التي هي الطريق المبوب ، فتلك الخوخة خوخة أبي بكر ، قال : وكانت حفصة ابتاعت ذلك المسكن من أبي بكر ، والدار الذي ذكرت فوق هذه الشارعة على باب دار عبد الله إلى جنب دار هشام ، فباع أبو بكررضي‌الله‌عنه ذلك المسكن وتلك الدار من حفصة بأربعة آلاف درهم ، ونقدها عنها عثمان بن عفان ، وإنما باع ذلك أبو بكر لناس قدموا عليه من بني تميم فسألوه.

ثم قال ابن شبة : حدثنا محمد بن يحيى عن عبد الله بن عمر بن حفص قال : سمعت أبي يقول : لما احتيج إلى بيت حفصة قالت : وكيف طريقي في المسجد؟ فقيل لها : نعطيك أوسع من بيتك ونجعل لك طريقا مثل طريقك ، فأعطاها دار عبد الله بن عمر ، وكانت مربدا ، انتهى. والذي يقتضيه قوله «وأخبرني مخبر» تضعيف هذه الرواية.

وقد روى في ذكر دور بني تيم كما قدمناه أن دار أبي بكر المذكورة كانت شارعة في دار القضاء في غربي المسجد ، وقد صدّر كلامه بأن أصل دار حفصة إنما هو المربد ، وختم كلامه بذلك. وقوله «لما احتيج إلى بيت حفصة» المراد به سكنها ، هو الذي كان شارعا في المسجد في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما سيأتي بيانه ، والله أعلم.

وتقدم في زيادة عمررضي‌الله‌عنه ما رواه يحيى من أن عثمانرضي‌الله‌عنه شرى دار العباس فزادها في المسجد إلا ثلاثة عشر ذراعا أو أربعة عشر ذراعا ، فقال الراوي : لا أدري أكان ابتاع البقية أم لا ، وحملناه على أن المراد بدار العباس ما بقي منها بعد ما زاده عثمانرضي‌الله‌عنه ، والظاهر أن تلك البقية هي التي دخلت في دار مروان. وقد ذكر ابن زبالة ويحيى وابن النجار اتخاذ مروان لداره عقب ذكر زيادة عثمانرضي‌الله‌عنه ؛ فيحتمل أنه اتخذها في حال زيادة عثمانرضي‌الله‌عنه أو بعده ، وهو الظاهر ؛ لأنهم ذكروا أنه اتخذ لها خوخة في المسجد من جهة القبلة ، ثم قال : أخشى أن أمنعها ، فجعل لها بابا عن يمينك حين تدخل ، ثم جعل الباب الثالث الذي على باب المسجد ، كما سيأتي ، والله أعلم.

الفصل الخامس عشر

في المقصورة التي اتخذها عثمانرضي‌الله‌عنه في المسجد

وما كان من أمرها بعده

روى ابن زبالة وابن شبة عن عبد الرحمن بن سعد عن أشياخه أن أول من عمل المقصورة بلبن عثمان بن عفان ، وأنه كانت فيه كوى ينظر الناس منها إلى الإمام ، وأن عمر بن عبد العزيز هو الذي جعلها من ساج حين بنى المسجد.

وروى الأول أيضا عن عيسى بن محمد بن السائب ومحمد بن عمرو بن مسلم بن

٨٧

السائب ابن خباب وعمر بن عثمان بن عبد الرحمن أن عثمان بن عفان أول من وضع المقصورة من لبن ، واستعمل عليها السائب بن خباب ، وكان رزقه دينارين في كل شهر ، فتوفي عن ثلاثة رجال : مسلم ، وبكير ، وعبد الرحمن ، فتواسوا في الديا نارين ، فجريا في الديوان على ثلاثة منهم إلى اليوم ، قال ابن زبالة : وقال مالك بن أنس : لما استخلف عثمان بعد مقتل عمر بن الخطاب عمل عثمان مقصورة من لبن ، فقام يصلي فيها للناس خوفا من الذي أصاب عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه ، وكانت صغيرة.

وروى يحيى هذا كله في زيادة عثمانرضي‌الله‌عنه ، ثم روى في زيادة الوليد عن عبد الحكم بن عبد الله بن حنطب قال : أول من أحدث المقصورة في المسجد مروان بن الحكم ، بناها بالحجارة المنقوشة ، وجعل لها كوى ، وكان بعث ساعيا(١) إلى تهامة ، فظلم رجلا يقال له دب ، فجاء دب إلى مروان ، فقام حيث يريد أن يقوم مروان ، حتى إذا أراد أن يكبر ضربه بسكين فلم يصنع شيئا ، فأخذه مروان فقال : ما حملك على ما صنعت؟ قال : بعثت عاملا فأخذ ذودي بمرة(٢) ، وتركني وعيالي لا يجد شيئا ، فقلت : أذهب إلى الذي بعثك فاقتله ؛ فهو أصل هذا ، فجاء ما ترى ، فحبسه مروان حينا في السجن ، ثم أمر به فاغتيل سرا ، فكانت المقصورة.

ورواه ابن شبة بنحوه ، إلا أنه سمى الرجل في موضع دبا ، وفي آخر ذبابا ، وقال : بعثت عاملك ، فأخذ مني بقرة ، فتركني وعيالي لا نجد شيئا ، وأنا امرؤ خبيث النفس ، فقلت : أذهب إلى الذي بعثه فأقتله فهو أصل هذا ، فجاء ما ترى ، فحبسه مروان في الحبس حينا ، ثم أمر به فاغتيل سرا ، وعمل المقصورة.

قلت : وجزم بذلك في العتبية فيما حكاه ابن رشد في بيانه ، فقال في كتاب الصلاة : مسألة قال مالك : أول من جعل المقصورة مروان بن الحكم حين طعنه اليماني ، قال : فجعل مقصورة من طين ، وجعل فيها تشبيكا ، انتهى. قال ابن رشد في شرح ذلك : وجه قوله هذا الإعلام بأن المقصورة محدثة لم تكن على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا على عهد الخلفاء بعده ، وإنما أحدثها الأمراء للخوف على أنفسهم ، فاتخاذها في الجوامع مكروه انتهى.

وفي شرح مسلم للنووي أن أول من اتخذ المقصورة في المسجد معاويةرضي‌الله‌عنه حين ضربه الخارجي ، انتهى.

__________________

(١) الساعي : عامل الصدقات. (ج) سعاة.

(٢) الذود : القطيع من الإبل بين الثلاث إلى العشر. وفي الحديث : «ليست فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة». وفي المثل : «الذود إلى الذود إبل» : يضرب في اجتماع القليل إلى القليل حتى يؤدّي إلى الكثير.

(خ) أذواد.

٨٨

وأفهم كلام ابن زبالة أنها كانت في زمن عمر بن عبد العزيز مرتفعة عن أرض المسجد ؛ لأنه ذكر في زيادة المهدي أنه أمر بالمقصورة فهدمت وخفضت إلى مستوى المسجد ، وكانت مرتفعة ذراعين عن وجه المسجد ، فأوطأها مع المسجد ، وكأن المراغي فهم أن المراد بذلك سقف المقصورة لا أرضها ، فإنه قال في زيادة المهدي : وخفض سقف المقصورة ، وكانت مرتفعة ذراعين عن وجه المسجد فأوطئوها المسجد ، انتهى.

ورأيت لفظة «سقف» ملحقة بخطه ، والظاهر أن ذلك هو المراد ، وذكر المطري ما يقتضي أن المهدي جعلها من خشب على الرواق القبلي بأجمعه ، وهو مراد ابن جبير بقوله في رحلته ـ بعد أن ذكر أن في الجهة القبلية من المسجد خمس بلاطات ـ يعني أروقة ، قال : والبلاط المتصل بالقبلة من الخمس المذكورة تحويه مقصورة تكنفه طولا من غرب إلى شرق ، والمحراب فيها ، انتهى.

وقد احترقت هذه المقصورة في حريق المسجد الأول ، والله أعلم.

الفصل السادس عشر

في زيادة الوليد بن عبد الملك على يد عمر بن عبد العزيز

نقل رزين أن المسجد بعد أن زاد فيه عثمانرضي‌الله‌عنه لم يزد فيه علي ولا معاويةرضي‌الله‌عنهما ، ولا يزيد ولا مروان ، ولا ابنه عبد الملك شيئا ، حتى كان الوليد بن عبد الملك ـ وكان عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة ومكة ـ بعث الوليد إلى عمر بن عبد العزيز بمال وقال له : من باعك فأعطه ثمنه ، ومن أبي فاهدم عليه وأعطه المال ، فإن أبى أن يأخذه فاصرفه إلى الفقراء ، انتهى.

وقال ابن زبالة : حدثني عبد العزيز بن محمد عن بعض أهل العلم قال : قدم الوليد بن عبد الملك حاجا ، فبينا هو يخطب الناس على منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ حانت منه التفاتة فإذا بحسن بن حسن بن علي بن أبي طالب في بيت فاطمة في يده مرآة ينظر فيها ، فلما نزل أرسل إلى عمر بن عبد العزيز فقال : لا أرى هذا قد بقي بعد ، اشتر هذه المواضع ، وأدخل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد ، واسدده.

وروى يحيى من طريق ابن زبالة وغيره عن عبد العزيز بن محمد بنحوه.

وروى أيضا عن موسى بن جعفر بن أبي كثير قال : بينما الوليد يخطب على المنبر إذ انكشفت الكلة(١) عن بيت فاطمةعليها‌السلام ، وإذا حسن بن حسن يسرّح لحيته ، وهو يخطب على المنبر ، فلما نزل أمر بهدم بيت فاطمةرضي‌الله‌عنها .

__________________

(١) الكلّة : ستر رقيق مثقّب يتوقّى به من البعوض وغيره. (ج) كلل.

٨٩

قال يحيى : وحدثني عبد الله بن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن عليرضي‌الله‌عنهما مثله ، وزاد فيه أن حسن بن حسن وفاطمة بنت الحسين أبوا أن يخرجوا منه ، فأرسل إليهم الوليد بن عبد الملك : إن لم تخرجوا منه هدمته عليكم ، فأبوا أن يخرجوا ، فأمر بهدمه عليهم وهما فيه وولدهما ، فنزع أساس البيت وهم فيه ، فلما نزع أساس البيت قالوا لهم : إن لم تخرجوا قوّضناه(١) عليكم ، فخرجوا منه حتى أتوا دار علي نهارا.

وروى ابن زبالة عن منصور مولى الحسن بن علي قال : كان الوليد بن عبد الملك يبعث كل عام رجلا إلى المدينة يأتيه بأخبار الناس وما يحدث بها ، قال : فأتاه في عام من ذلك ، فسأله ، فقال : لقد رأيت أمرا لا والله ما لك معه سلطان ولا رأيت مثله قط ، قال : وما هو؟ قال : كنت في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا منزل عليه كلة ؛ فلما أقيمت الصلاة رفعت الكلة وصلى صاحبه فيه بصلاة الإمام هو ومن معه ، ثم أرخيت الكلة ، وأتى بالغداء فتغدى هو وأصحابه ، فلما أقيمت الصلاة فعل مل ذلك ، وإذا هو يأخذ المرآة والكحل وأنا أنظر ، فسألت ، فقيل : إن هذا حسن بن حسن ، قال : ويحك! فما أصنع هو بيته وبيت أمه ، فما الحيلة في ذلك؟ قال : تزيد في المسجد وتدخل هذا البيت فيه ، قال : فكتب إلى عمر بن عبد العزيز يأمره بالزيادة في المسجد ويشتري هذا المنزل ، قال : فعرض عليهم أن يبتاع منهم فأبوا ، وقال حسن : والله لا نأكل له ثمنا أبدا ، قال : وأعطاهم به سبعة آلاف دينار أو ثمانية ، فأبوا ، فكتب إلى الوليد بن عبد الملك في ذلك ، فأمره بهدمه وإدخاله ، وطرح الثمن في بيت المال ، ففعل ، وانتقلت منه فاطمة بنت حسين بن علي إلى موضع دارها بالحرة فابتنتها.

قلت : وسيأتي بقية هذا الخبر في ذكر بئرها ، إن شاء الله تعالى.

قال ابن زبالة : وحدثني غير واحد من أهل العلم منهم : إبراهيم بن محمد الزهري عن أبيه عن عبد الرحمن بن حميد ، ومحمد بن إسماعيل عن محمد بن عمار عن جده ، ومحمد بن عبد الله عن عبيد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمر بن حفص وعبد العزيز بن محمد عن عبيد الله ابن عمر بن حفص ، وسليمان بن محمد بن أبي سبرة ومحمد بن طلحة عن عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان ، وبعضهم يزيد على بعض ، أن عمر بن عبد العزيز لما جاءه كتاب الوليد بهدم المسجد والزيادة فيه بعث إلى رجال من آل عمر ، فقال : إن أمير المؤمنين كتب إلى أن أبتاع بيت حفصة ، وكان عن يمين الخوخة : أي خوخة آل عمر ، وكان بينه وبين منزل عائشة الذي فيه قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم طريق ، وكانتا يتهاديان الكلام وهما في منزليهما من قرب ما بينهما ، فلما دعاهم قال : إن أمير المؤمنين قد أمرني أن أبتاع هذا المنزل وأدخله في

__________________

(١) قوّضناه عليكم : هدمناه عليكم. و ـ انقاض الجدار أو الكثيب : تهدم وانهال.

٩٠

المسجد ، قالوا : ما نبيعه بشيء ، قال : إذا أدخله في المسجد ، قالوا : أنت وذاك ، أنت وذاك ، فأما طريقنا فإنا لا نقطعها ، فهدم البيت وأعطاهم الطريق ووسعها لهم حتى انتهى بها إلى الأسطوان ، وكانت قبل ذلك ضيقة قدر ما يمر الرجل منحرفا.

قال عبد العزيز بن محمد : فكنت أسمع عبيد الله بن عمر يقول : لا أخرجني الله من الدنيا حتى أراها قد سدت ،

إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا يلقى الصور الصور.

قلت : وسنورد بقية هذا الخبر.

وروى يحيى في قصة هذه الدار عن مالك بن أنس في جملة خبر أن الحجاج قال لعبيد الله ابن عبد الله بن عمر : بعني منزل حفصة ، قال : لا والله ما كنت لآخذ لبيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمنا أبدا ، قال : إذا والله أهدمه ، قال : والله لا تهدمه إلا على ظهري ، فأمر الحجاج صائحا صاح الناس بالعتل(١) والمساحي والفوس ، فقام عبد الله فدخل بيت حفصة ، وجاء الغوغاء بالعتل والفوس ، فأمرهم الحجاج بهدمه ، فصعدوا ليهدموه وعبيد الله فيه ، فجاءت بنو عدي إلى عبيد الله فقالوا له : ما أضعفك! هو يتأسف على قتل أبيك ويزع عن قتلك ، فأخرجوه ، فهدمه الحجاج ، وكتب إلى الوليد يعلمه ما صنع ، وامتناع عبيد الله من الثمن ، فكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يأمره يعرض على عبيد الله الثمن ، فإن أبى جعل له مكرمة بدله في المسجد ، فجعل له عمر الخوخة التي في قبلة المسجد التي إلى دار حفصة اليوم ، وهو يقتضي أن الذي هدم دار حفصة هو الحجاج.

وعن جعفر بن وردان عن أبيه قال : لما استعمل الوليد عمر بن عبد العزيز على المدينة أمره بالزيادة في المسجد وبنيانه واشتراء ما حوله من المشرق والمغرب والشام ، فلما خلص إلى القبلة قال له عبيد الله بن عبد الله بن عمر : لست أبيع هذا ، هو من حق حفصة ، وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يسكنها ، فقال له عمر : ما أنا بتارككم أو أدخلها المسجد ، فلما كثر الكلام بينهما قال له عمر : أجعل لكم في المسجد بابا تدخلون منه ، وأعطيكم دار الدقيق مكان هذا الطريق ، وما بقي من الدار فهو لكم ، ففعلوا ، وأخرج بابهم في المسجد وهو الخوخة التي في المسجد تخرج في دار حفصة بنت عمر ، وأعطاهم دار الدقيق ، وقدّم الجدار في موضعه اليوم ، وزاد في المشرق ما بين الأسطوان المربعة إلى جدار المسجد اليوم ، ومعه عشرة أساطين من مربعة القبر إلى الرحبة إلى الشام ، ومده في المغرب أسطوانين ، وأدخل فيه حجرات أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأدخل فيه دور عبد الرحمن بن عوف الثلاث التي كان يقال لها القرائن اللاتي يقول فيهن أبو قطيفة بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط :

__________________

(١) العتلة : عمود قصير من الحديد له رأس عريض يهدم به الحائط. ويقلع به الشجر والحجر. (ج) عتل.

٩١

ألا ليت شعري هل تغير بعدنا

بقيع المصلّى أو كعهدي القرائن

وقد سمعنا من يقول : القرائن كانت جنابذ ثلاثا لعبد الرحمن بن عوف ، انتهى.

قلت : وأخبار المؤرخين متطابقة على أن حجر أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أدخلت في المسجد بأمر الوليد ، وقد قدمنا في الفصل التاسع قول عطاء الخراساني : أدركت حجرات أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من جريد على أبوابها المسوح من شعر أسود ، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ يأمر بإدخال حجر أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما رأيت يوما كان أكثر باكيا من ذلك اليوم ، قال عطاء : فسمعت سعيد بن المسيب يقول : والله لوددت أنهم تركوها على حالها ، لكن نقل الزين المراغي عن السهيلي أنه نقل أن الحجر والبيوت خلطت بالمسجد في زمن عبد الملك بن مروان ، قال : ويرده تصريح رزين وغيره بضد ذلك.

قلت : ولعل مراد من نسب ذلك إلى عبد الملك أنه جعلها للمسلمين يصلون فيها لضيق المسجد من غير هدم لها ، وقد كان الناس يصلون فيها قبل إدخالها في المسجد في يوم الجمعة ، فقد نقل مالكرحمه‌الله عن الثقة عنده أن الناس كانوا يدخلون حجر أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلون فيها يوم الجمعة بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان المسجد يضيق عن أهله ، قال : وحجر أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليست من المسجد ، ولكن أبوابها شارعة في المسجد ، انتهى.

وأما بقية خبر ابن زبالة المتقدم فقد قال عقب ذلك : ثم سام(١) عمر بن عبد العزيز بني عبد الرحمن بن عوف بدارهم ، فأبوا ، فهدمها عليهم وأدخلها في المسجد ، قال عبد الرحمن بن حميد : فذهب لنا متاع في هدمهم ، وأدخل حجرات أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يلى المشرق ومن الشام ، وأخل القرائن دور عبد الرحمن بن عوف وأدخل دار عبد الله بن مسعود التي يقال لها دار القراء ، وأبيات هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وأدخل فيه من المغرب دارا كانت لطلحة بن عبيد الله ، ودارا كانت لأبي سبرة بن أبي رهم كانت في موضع المربعة التي في غربي المسجد ، ودارا لعمار بن ياسر كانت إلى جنب دار أبي سبرة ، وبعض دار العباس بن عبد المطلب ، فأعلم ما دخل منها في المسجد ، فجعل منابر سواريها التي تلي السقف أعظم من غيرها من سواري المسجد ، وأدخل دارا كانت لمخارق مولى العباس بن عبد المطلب.

قلت : قوله «وأدخل إلى آخره» وإن كان مبنيا لما لم يسم فاعله ، لكن إيراده هنا يقتضي أن ذلك كله في زيادة الوليد المذكورة ، وفيه نظر ؛ لما تقدم من أن عثمانرضي‌الله‌عنه زاد

__________________

(١) سام : ساوم ، مساومة وسواما : فاوضه في البيع والابتياع. و ـ البائع بالسلعة : غالى بها.

٩٢

في المسجد أسطوانا بعد المربعة ، فيكون زيادة الوليد بعد ذلك في جهة المغرب ، فلا يصح إدخاله لدار أبي سبرة ؛ لقوله إنها كانت في موضع المربعة ، إلا أن يريد بالمربعة هنا الأسطوانة التي عن يمينك إذا دخلت من الباب الذي يلي دار مروان ، وهو باب السلام ، وهي الثانية من الباب المذكور ، فإنها أول زيادة الوليد ؛ لقوله في رواية يحيى المتقدمة «ومده في المغرب أسطوانين» لكن قال ابن شبة نقلا عن ابن أبي يحيى : إنه كانت لأبي سبرة بن أبي رهم دار موضعها عند الأسطوان المربعة التي في المسجد اليمانية الغربية ، وكانت جديدة ، وكانت هناك دار لعمار بن ياسر ، فأدخلتا في المسجد ، انتهى. وهو ظاهر في أن المراد بالمربعة الأسطوان المثمنة اليوم التي قدمنا وصفها في زيادة عثمانرضي‌الله‌عنه ، وقوله «وبعض دار العباس بن عبد المطلب» ظاهر أيضا في أن الوليد أدخل من دار العباس شيئا ، ولعله مما كان بقي منها وأدخله مروان في داره ، فيستفاد منه أن الوليد أدخل بعض دار مروان وهو ظاهر ؛ لما قدمناه من أن دار مروان كانت ملاصقة للمسجد في جهة المغرب ولها خوخة فيه ، ولا شك أنه اتخذها قبل زيادة الوليد ، فإن وفاة مروان كانت في سنة خمس وستين بعد أن أقام في الخلافة عشرة أشهر.

ولنرجع إلى تكميل خبر ابن زبالة المتقدم ، قال : قالوا : وكتب الوليد بن عبد الملك إلى ملك الروم «إنا نريد أن نعمر مسجد نبينا الأعظم ، فأعنّا فيه بعمال وفسيفساء» ، قالوا : فبعث إليه بأحمال من فسيفساء وبضعة وعشرين عاملا ، وقال بعضهم : بعشرة عمال ، وقال : قد بعثت إليك بعشرة يعدلون مائة ، وبثمانين ألف دينار عونا له.

قلت : روى ذلك يحيى أيضا ، وذكر في رواية أخرى عن قدامة بن موسى أن ملك الروم ، بعث إليه بأربعين. يعني عاملا سمن الروم ، وبأربعين من القبط ، وبأربعين ألف مثقال ذهب. وفي رواية لرزين : فبعث إليه ثلاثين عاملا ، وأربعين من الروم ، ومثلهم من القبط ، وبثمانين ألف مثقال ، وبأحمال من الفسيفساء ، وبأحمال من سلاسل القناديل ، انتهى.

ولنرجع إلى تكميل خبر ابن زبالة له أيضا ، قال عقب ما تقدم : وبعث بهذه السلاسل التي فيها القناديل ، قالوا : وهدمه عمر بن عبد العزيز سنة إحدى وتسعين ـ أي بتقديم التاء الفوقية على السين ـ وبناه بالحجارة المنقوشة المطابقة وقصّة بطن نخل ، وعمله بالفسيفساء والمرمر ، وعمل سقفه بالساج وماء الذهب ، وهدم حجر أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأدخلها في المسجد ، ونقل لبن المسجد ولبن الحجرات فبنى به داره التي بالحرة فهو فيها اليوم له بياض على اللبن ، قال : فبينما أولئك العمال يعملون في المسجد إذ خلا لهم المسجد فقال بعض أولئك العمال من الروم : ألا أبول على قبر نبيهم ، فتهيأ لذلك فنهاه أصحابه ، فلما همّ أن

٩٣

يفعل اقتلع فألقى على رأسه ، فانتثر دماغه ، فأسلم بعض أولئك النصارى ، وعمل أحد أولئك الروم على رأس خمس طاقات في جدار القبلة في صحن المسجد صورة خنزير ، فظهر عليه عمر بن عبد العزيز فامر به فضربت عنقه ، وقال بعض أولئك العمال الذين عملوا الفسيفساء : إنا عملناه على ما وجدنا من صور شجر الجنة وقصورها ، انتهى خبر ابن زبالة.

وفي خبر يحيى المتقدم عن قدامة بن موسى أن عمر بن عبد العزيز أخمر النورة التي تعمل بها الفسيفساء سنة ، وحملوا القصة من بطن نخل منخولة ، وعمل الأساس بالحجارة والجدار بالحجارة المطابقة والقصة ، وجعل عمد المسجد من حجارة حشوها عمد الحديد والرصاص ، وكان طوله مائتي ذراع وعرضه في مقدمته مائتين وفي مؤخره ثمانين ومائة ، وهو من قبل كان مقدمه أعرض ، انتهى.

وما ذكره في ذرع عرض المسجد غير صحيح ؛ لما سيأتي عن ابن زبالة في الفصل الحادي والثلاثين أنه ذكر في موضع آخر أن عرض المسجد من مقدمه في زمنه مائة وخمسة وستون ذراعا ، وعرضه من مؤخره مائة وثلاثون ذراعا ، وسيأتي أيضا أن الذي حررناه أن عرضه اليوم من مقدمه في جهة القبلة مائة ذراع وسبعة وستون ذراعا ونصف ، وأن عرضه من مؤخره في جهة الشام مائة وخمسة وثلاثون ذراعا ، ولا شك أن المسجد لم ينقص من عرضه شيء ، فهذا الذرع المذكور في هذه الرواية غير صحيح ، وقد نقله ابن النجار عن أهل السير ، وتعقبه المطري بنحو ما ذكرناه.

وروى ابن زبالة عن محمد بن عمار عن جده قال : لما صار عمر بن عبد العزيز إلى جدار القبلة دعا مشيخة من أهل المدينة من قريش والأنصار والعرب والموالي فقال لهم : تعالوا أحضروا بنيان قبلتكم ، لا تقولوا غير عمر قبلتنا ، فجعل لا ينزع حجرا إلا وضع مكانه حجرا ، فكانت زيادة الوليد بن عبد الملك من المشرق إلى المغرب ستة أساطين ، وزاد إلى الشام من الأسطوان المربعة التي في القبر أربع عشر أسطوانا منها عشر في الرحبة وأربع في السقائف الأولى التي كانت قبل ، وزاد من الأسطوان التي دون المربعة إلى المشرق أربع أساطين في السقائف ، فدخل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد ، وبقي ثلاث أساطين في السقائف.

قلت : فاستفدنا من ذلك أن الستة أساطين التي زادها في المشرق والمغرب ليس منها في جهة المغرب سوى اثنتين ، وأن أربعة منها في جهة المشرق ؛ فيكون ابتداء زيادته في

٩٤

المشرق من الأسطوان الاصق اليوم بالشباك الدائر حول الحجرة الشريفة على ما قدمناه في تحديد المسجد النبوي ، وذلك هو المراد بقوله «من الأسطوان التي دون المربعة إلى المشرق» وقوله «وبقي ثلاث أساطين» أي من الأربعة المذكورة «في السقائف» أي المسقف الشرقي كما هو اليوم ، لكن في رواية يحيى المتقدمة أنه زاد في المشرق ما بين الأسطوان المربعة أي مربعة القبر إلى جدار المسجد يعني الشرقي ؛ فعلى هذا يكون له في المشرق ثلاثة أساطين فقط ؛ فيحتمل أن يكون له في المغرب ثلاث أيضا ، وقوله «وزاد إلى الشام من الأسطوان المربعة التي في القبر ـ إلى آخره» معناه أنه لما أحدث المسقف الشرقي جعل ابتداءه مما يلي رحبة المسجد مربعة القبر ، وجعل في صفها إلى جهة الشام أربع عشر أسطوانا منها عشر في الرحبة وأربع في السقائف التي كانت قبل : أي في المسقف الشامي ، فيكون قد صيّر المسقف الشامي رحبة ، وجعل المسقف الشامي بعد أربع عشر أسطوانا ، فهذا معنى زيادته لهذا العدد.

ويستفاد منه : أن جدار المسجد من جهة الشام في زمنه كان بعد ثمان عشرة أسطوانة ، من مربعة القبر ؛ لأنك إذا ضممت أربع أساطين للسقائف التي أحدثها بدل الأولى إلى الأربع عشرة المذكورة بلغ ذلك ، فيكون محل الجدار المذكور قريبا مما يوازي الأسطوان التي قبل المسقف الشامي بأسطوان فيما يليه من الرحبة ، وذلك موافق لما تقدم من أنه جعل طوله ـ يعني من القبلة إلى الشام ـ مائتي ذراع ، فيتحرر من ذلك أن زيادته من جهة الشام على ما ذكر من الذرع في زمن عثمانرضي‌الله‌عنه أربعون ذراعا ، ويحتمل أن يكون معنى قوله «وزاد إلى الشام من الأسطوان المربعة التي في القبر أربع عشرة أسطوانة» أن المسجد ينتهي في جهة الشام في زمنه بعد أربع عشرة أسطوانا من المربعة إلى جهة الشام ؛ فيكون الجدار الشامي في موازاة الأسطوانة الخامسة من طرف الدكاك التي هي المسقف الشامي ، وهناك أسطوان في الصف الأوسط من المسقف الشرقي مربع أسفله قدر الجلسة ؛ فعلى هذا يكون علامة لذلك ، لكنه مخالف لما تقدم من أنه جعل طوله مائتي ذراع ، بل يكون طوله على هذا التقدير نحو مائة وستين ذراعا ، وذلك هو ما تقدم في طوله زمن عثمانرضي‌الله‌عنه ، فيكون هذا الاحتمال مردودا ، ولكن سيأتي في زيادة المهدي ما يقتضيه ، والله أعلم.

وروى يحيى عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عمن يثق به من مشايخ البلد أن عمر بن عبد العزيز أمر حين بنى المسجد بأسفل الأساطين فجعل قدر سترة اثنين يصليان إليها وقدر مجلس اثنين يتساندان إليها.

وعن صالح بن كيسان قال : لما جاء كتاب الوليد من دمشق لهدم المسجد سار خمس عشرة ، فجرد في ذلك عمر بن عبد العزيز ، قال صالح : واستعملني على هدمه وبنائه ،

٩٥

فهدمناه بعمال المدينة فبدأنا بهدم بيوت أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى قدم علينا الفعلة الذين بعث بهم الوليد ، وقال ابن زبالة فيما رواه عن محمد بن عمار عن جده : وكان في موضع الجنائز ـ أي شرقي المسجد في زمان الوليد بن عبد الملك ـ نخلتان إذا أتى بالموتى وضعوا عندهما فيصلي عليهم ، فأراد عمر بن عبد العزيز قطعهما حين ولي عمل المسجد للوليد بن عبد الملك ، وذلك في سنة ثمان وثمانين ، فاقتتلت فيهما بنو النجار من الأنصار ، فابتاعهما عمر بن عبد العزيز فقطعهما.

قلت : ولا ينافي ذلك ما تقدم من أن عمر هدم المسجد في سنة إحدى وتسعين ، لجواز أن يكون ولايته لذلك سنة ثمان وثمانين ، واستمر في تحصيل الأهبة وشراء الأماكن وتخمير النورة(١) إلى سنة إحدى وتسعين.

وفيما رواه يحيى عن حفص بن مروان عن أبيه أن عمر مكث في بنائه ثلاث سنين.

قلت : فعلى هذا يكون قد فرغ منه في آخر سنة ثلاث وتسعين ، وهي السنة التي عزل فيها عمر عن المدينة ، وفيه رد لقول من زعم أن هدمه كان في سنة ثلاث وتسعين ، لكن في رواية لابن زبالة ما يقتضي أن البداءة في هدم المسجد وعمارته كانت في سنة ثمان وثمانين ؛ فإنه قال فيها : وابتدأ عمر بن عبد العزيز بناء المسجد سنة ثمان وثمانين ، وفرغ سنة إحدى وتسعين ، وفيها حج الوليد.

قال : ولما فرغ عمر بن عبد العزيز من بنيان المسجد أرسل إلى أبان بن عثمان ، فحمل في كساء خز حتى انتهى به إليه ، فقال : أين هذا البناء من بنيانكم؟ فقال : بنيناه بناء المساجد وبنيتموه بناء الكنائس ، قال : وقال الوليد حين رأى خوخة آل عمر : صانعتهم لمكان الخوخة ، هكذا في النسخة التي وقعت لنا ، ولعلها لمكان الخؤلة ؛ لأن المطري قال : إن الوليد قال له : صانعت أخوالك ، وقد كانت أم عمر بن عبد العزيز منهم.

وروى يحيى عن جعفر بن وردان عن أبيه ما يقتضي أن المخاطب لأبان بن عثمان هو الوليد ؛ فإنه قال : فلما قدم الوليد حاجا جعل يطوف في المسجد وينظر إليه ويصيح بعمر : هاهنا ، ومعه أبان بن عثمان ، فلم استنفد الوليد النظر إلى المسجد التفت إلى أبان وقال : أين بناؤنا من بنائكم؟ قال أبان : إنا بنيناه بناء المساجد وبنيتموه بناء الكنائس.

قلت : وكان قد اعتنى عمر بتحسينه ؛ فقد روى يحيى عن النضر بن أنس قال : كان عمر ابن عبد العزيز إذا عمل العامل الشجرة الكبيرة من الفسيفساء فأحسن عملها نفّله(٢)

__________________

(١) النورة : حجر الكلس.

(٢) نفّله : أعطاه زيادة على نصيبه الواجب له.

٩٦

عمر ثلاثين درهما ، وذكر هو وابن زبالة ما كان فيه من الكتابات داخله وخارجه وعلى أبوابه فتركناه لزواله.

وروى ابن زبالة عن إبراهيم بن محمد الزهري عن أبيه قال : ولما قدم الوليد بن عبد الملك المدينة حاجا بعد فراغ عمر بن عبد العزيز من المسجد جعل يطوف في المسجد وينظر إلى بنيانه ، فقال لعمر بن عبد العزيز حين رأى سقف المقصورة : ألا عملت السقف كله مثل هذا ، قال : إذا يا أمير المؤمنين تعظم النفقة جدا ، قال : وإن ، قال : وكان نفقته في ذلك أربعين ألف دينار.

وروى ابن النجار هذا الخبر عن أهل السير بهذا اللفظ ، إلا أنه قال : فقال : يا أمير المؤمنين إذا تعظم النفقة جدا ، قال : وإن ، قال : أتدري كم أنفقت على عمل جدار القبلة وما بين السقفين؟ قال : وكم ، قال : خمسة وأربعون ألف دينار ، وقال بعضهم : أربعون ألف دينار ، قال : والله لكأنك أنفقتها من مالك ، وقيل : كانت النفقة في ذلك أربعين ألف مثقال ، انتهى.

وذكر يحيى رواية ابن زبالة المتقدمة من غير طريقه ، وقال عقب قوله : «وكانت النفقة في ذلك أربعين ألف دينار» قال : ثم انتهى إلى القبر فقال ابن الوليد لعمر بن عبد العزيز : من هذا في القبر؟ قال : رسول الله وأبو بكر وعمر ، قال : فأين أمير المؤمنين عثمان؟ قال : فأعرض عنه ، فألح عليه ، فقال : دفن في حال تشاغل من الناس وقد أسيء أدبك.

وروى ذلك ابن زبالة أيضا ، وزاد فقال : وسمعت بعض أهل العلم يقول : السائل بكار بن عبد الملك ، وكان ضعيفا.

وقال ابن شبة : حدثنا أيوب بن عمر بن أبي عمرو ، قال : أخبرني موسى بن عبد العزيز قال : قال عمر بن عبد العزيز لي : اتكأ الوليد على يدي حين قدم المدينة ، فجعل يطوف المسجد ينظر إلى بنائه ، ثم أتى بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فوقف عليه ، ثم أقبل علي فقال : أمعه أبو بكر وعمر؟ قلت : نعم ، قال : فأين أمير المؤمنين عثمان؟ قال : فالله أعلم إني لظننت أنه لا يبرح حتى يخرجهما ، فقلت : يا أمير المؤمنين إن الناس كانوا حين قتل عثمان في فتنة وشغل فذاك الذي منعهم من أن يدفنوه معهم ، فسكت.

وروى يحيى أنه جعل المقصورة من ساج ، قال : وكانت قبل من حجارة ، وأن الواقدي قال : حدثني عبد الله بن يزيد قال : كان عمل القبط مقدم المسجد ، وكانت الروم تعمل ما خرج من السقف جوانبه ومؤخره ، فسمعت سعيد بن المسيب يقول : عمل هؤلاء أحكم ، يعني القبط.

٩٧

الفصل السابع عشر

فيما اتخذه عمر في المسجد في زيادة الوليد من المحراب والشّرفات والمنائر ،

واتخاذ الحرس ، ومنعهم من الصلاة على الجنائز فيه

أول من أحدث المحراب والشرفات

أسند يحيى عن عبد المهيمن بن عباس عن أبيه قال : مات عثمان وليس في المسجد شرفات ولا محراب ، فأول من أحدث المحراب والشرفات عمر بن عبد العزيز ، وعن القاسم وسالم أنهما نظرا إلى شرفات المسجد فقالا : إنها من زينة المسجد ، وأسند أيضا من طريق ابن زبالة ورأيته فيه أن عمر بن عبد العزيز هو الذي عمل الرصاص على طنف(١) المسجد والميازيب التي من الرصاص ، فلم يبق من الميازيب التي عمل عمر بن عبد العزيز غير ميزابين : أحدهما في موضع الجنائز ، والآخر على الباب الذي يدخل منه أهل السوق الذي يقال له باب عاتكة ، ولم يكن للمسجد شرفات حتى عملها عبد الواحد بن عبد الله النصري ، وهو وال على المدينة ، سنة أربع ومائة ، انتهى.

فهذا يقتضي أن عمر بن عبد العزيز لم يحدث الشرفات في زيادة الوليد ، بل ولا في زمن خلافته بعده ، لأن وفاته كانت في رجب سنة إحدى ومائة.

وفي سنن البيهقي عن أنس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ابنوا المساجد واتخذوها جماء» وعن ابن عمر : نهانا ـ أو نهينا ـ أن نصلي في مسجد مشرف.

قال أبو عبيد : الجم التي لا شرف لها ، حكاه في شرح المهذب.

قال الزين المراغي : وليس للمسجد شرفات منذ حريقه ، وقد جددت له شرفات سنة سبع وستين وسبعمائة في أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد صاحب مصر ، انتهى.

والمراد بالشرفات المذكورة ما على ما أحاط بجدرات صحن المسجد من جوانبه الأربعة ، وبينها فرج شبه طاقات الشباك ، وهي المرادة فيما حكاه البدر بن فرحون عن القاضي فخر الدين بن مسكين الفقيه الشافعي أنه كان يجلس في مصلاه حتى تطلع الشمس فيصلي الضحى ، وأنه رأى الناس يرتقبون بصلاتهم الشيخ أبا عبد الله بن فرحون ولد البدر ، قال : وكان يقوم إذا وصلت الشمس في الحائط الغربي إلى تحت الشبابيك الصغار ، قال : فاجتمعت به ، وكنت به جاهلا ، فقلت له : رأيتك تقوم للضحى قبل وقتها ، وقد نهى النبي

__________________

(١) الطنف : ما برز من الجبل ونحوه ، وكأنه جناح. و ـ السقيفة تشرع وتبنى فوق باب الدار ونحوها للوقاية من المطر. و ـ إفريز الحائط. و ـ ما أشرف خارجا عن البناء.

٩٨

صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها حتى ترتفع الشمس وتبيض ، فالتفت إليّ وقال : بعد اليوم نؤخر كما قلت ، وسكت عني.

قلت : وإنما ذكرت ذلك لأن كثيرا من الناس اليوم يشرعون في الصلاة عند وقوع الشمس على رءوس الشراريف ، وذلك قبل ارتفاع الشمس كرمح ، والله أعلم.

المنارات التي عملها عمر بن عبد العزيز

وروى ابن زبالة ويحيى من طريقه عن محمد بن عمار عن جده ، قال : جعل عمر بن عبد العزيز لمسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بناه أربع منارات في كل زاوية منه منارة.

قال كثير بن حفص : وكانت المنارة الرابعة مطلة على دار مروان ، فلما حج سليمان بن عبد الملك أذن المؤذن ، فأطل عليه ، فأمر سليمان بتلك المنارة فهدمت إلى ظهر المسجد ، وبابها على باب المسجد ، وفي نسخة يحيى «وبابها على المسجد مما يلي دار مروان من قبل المسجد».

قلت : فكان المسجد بعد ذلك له ثلاث منارات فقط ، وهو المراد من قول ابن زبالة في موضع آخر : ولمسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث منارات طول كل منارة ستون ذراعا ، وقال في موضع آخر : وطول المنارة الشرقية اليمانية في السماء خمس وخمسون ذراعا ، والمنارة الشرقية الشامية خمس وخمسون ، والمنارة الغربية الشامية ثلاث وخمسون ، وعرض المنارات ثمان أذرع في ثمان أذرع ، اه.

وذكر ابن جبير في رحلته ما يقتضي أن المنارتين الشاميتين كانتا صغيرتين ، بخلاف الشرقية اليمانية ، فإنه قال : وللمسجد المبارك ثلاث صوامع إحداها في الركن الشرقي المتصل بالقبلة ، والاثنتان في ركني الجهة الجوفية صغيرتان كأنهما على هيئة برجين ، والصومعة الأولى المذكورة على هيئة الصوامع.

قلت : فكأن الشاميتين غيرتا بعد ابن جبير ؛ فإنهما اليوم على هيئة الشرقية اليمانية المعروفة اليوم بالرئيسية ؛ لاختصاص الرئيس بها ، وكان طول المنارة الرئيسية في زماننا أولا من رأس هلالها إلى أسفلها خارج المسجد بالبلاط سبعة وسبعين ذراعا ، بتقديم السين ، ثم سقط منها نحو ثلثها بسبب الصاعقة التي نشأ عنها حريق المسجد الثاني كما سيأتي ، فاقتضى الحال هدم جميعها ، ثم أعيدت فكان طولها اليوم أزيد من مائة ذراع ، فصارت أطول المنارات ، ثم ظهر منها خلل بعد ، فبعث السلطان الأشرف الشجاعي شاهين الجمالي وأمره بهدمها ، فهدمها غير محكم ، فحفر أساسها إلى الملك ، وأعادها متقنة جدا في عرض جدارها الشرقي من موضع الجنائز شرقي المسجد ، وزاد في ارتفاعها أيضا حتى بلغ زيادة عن مائة وعشرين ذراعا ، وطول المنارة الشرقية الشامية وهي المعروفة بالسنجارية تسعة ـ بتقديم التاء

٩٩

على السين ـ وسبعون ذراعا ، وطول الشامية الغربية المعروفة بالخشبية اثنان وسبعون ذراعا ـ بتقديم السين فيهما ـ كل ذلك من أعلى الهلال إلى الأرض الخارجة عن المسجد ، وبه يعلم أن المنارات التي كانت في زمن ابن زبالة ليست هي الموجودة اليوم.

قال المطري : ولم يزل المسجد على ثلاث منارات إلى أن جددت المنارة الرابعة ، وذكر في موضع آخر تجديدها ، فقال بعد ذكر خوخة مروان المتقدم ذكرها في ركن المسجد الغربي : إنه شاهد الخوخة المذكورة عند بناء المنارة الكبيرة المتجددة في سنة ست وسبعمائة ، أمر بإنشائها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون.

قال المطري : وكان باب الخوخة عليها ، وهو من ساج ، فلم يبل إلى هذا التاريخ ، كان مروان يدخل من داره إلى المسجد منها ، وقد انسدت ـ يعني الخوخة ـ بحائط المنارة الغربي اه.

قلت : وقد ذكر البدر بن فرحون بناء هذه المنارة فإنه أدرك ذلك ، وذكر أنه لم يوجد عند الحفر أثر لما ذكر من وجود منارة قبلها ، فقال ما ملخصه ؛ إنه لما حج سلار وبيبرس كلمهما شيخ الخدام شبل الدولة كافور المظفري المعروف بالحريري في بناء المنارة التي بباب السلام اليوم ، فأنعما(١) ، ثم خشي أنهما يشتغلان عن ذلك ويستثقلان النفقة ، فقال : أنا لا أطلب منكم مالا ، عندي من قناديل الذهب والفضة ما يقوم بها وزيادة ، فأنعما له بإرسال الصناع ، وأمر بالحفر لها في مكانها اليوم ، فلم ينزلوا إلا قليلا إذ وجدوا باب مروان ابن الحكم أسفل من أرض المسجد بقدر قامة ، ثم وجدوا تحصيب المسجد في أيام مروان بالرمل الأسود يشبه أن يكون من جبل سلع ، ثم نزلوا في الأساس حتى بلغوا الماء ، ثم أمر الحريري من كان بالمدينة يتعانى البناية كالشيخ إبراهيم البنا والشيخ علي الفراش الحجار وغيرهما ممن ليس له في البناية كبير قدم ، فدكوا الأساس ، فلما حضر الصناع في الموسم قال مقدمهم للشيخ : لا تبنى حتى تنقض ذلك ، فإنّا لا نأمن عاقبته ، فامتنع الشيخ ، فرجع إلى مصر من حينه ، فقال الشيخ لمن كان معه من المعلمين : اعملوا أنتم ، فعملوها على ما هي عليه اليوم ، وعمّ نفعها ؛ لأنها متوسطة المدينة حتى إن رئيس المؤذنين محمد بن إبراهيم قال لي : لو تركت لي هذه المأذنة لكفيت المدينة ، وهو حق ؛ فإن امتداد المدينة وقوة عمارتها من جهة المغرب ، يعني في محاذاة المنارة المذكورة.

قال : وكان بعض المؤرخين يذكر أنه كان هناك مأذنة مشرفة على دار مروان ، فهدمها

__________________

(١) أنعم فلان : أحسن وزاد. و ـ صار في النعيم.

١٠٠