وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى الجزء ٣

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى0%

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى مؤلف:
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
تصنيف: متون حديثية
ISBN: 2-7451-381-8-0
الصفحات: 237

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى

مؤلف: نور الدين علي بن أحمد السّمهودي
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
تصنيف:

ISBN: 2-7451-381-8-0
الصفحات: 237
المشاهدات: 11043
تحميل: 2726


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 11043 / تحميل: 2726
الحجم الحجم الحجم
وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى الجزء 3

مؤلف:
ISBN: 2-7451-381-8-0
العربية

وقول أبي بكر بن موسى «السقيا بئر بالمدينة منها كان يستقى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم » محمول على هذا ؛ لأن الفرع من عمل المدينة ، ثم قال : وأما البئر التي على باب المدينة بينها وبين ثنيّة الوداع أي المدرج بها كما سيأتي عنه فيظنها أهل المدينة أنها هي السقيا المذكورة في الحديث ، قال : والظاهر أنه وهم ، قال : ومما يؤكد ذلك قوله في الحديث «من بيوت السقيا» ولم يكن عند هذا البئر بيوت في وقت ، ولم ينقل ذلك ، وأيضا إنما استعذب لهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الماء من السقيا لما استوخموا مياه آبار المدينة ، قال : وهذه البئر التي ذكرناها ـ أي التي بين المدينة والمدرج ـ كانت لسعد بن أبي وقاص فيما حكاه المطري ، قال يعني المطري : ونقل أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عرض جيش بدر بالسقيا التي كانت لسعد ، وصلى في مسجدها ، ودعا هنالك لأهل المدينة ، وشربصلى‌الله‌عليه‌وسلم من بئرها ، ويقال لأرضها «الفلجان» بضم الفاء والجيم ، وهي اليوم معطّلة ، وكانت مطمومة فأصلمها بعض فقراء العجم ، اه.

قلت : حمله لكلام أبي بكر بن موسى على ما ذكره ونقله ما جاء في السقيا المذكورة عن المطري يقتضي أنه لم يقف على ما قدمناه عن ابن زبالة وابن شبة ، وأنه لا يرى أن بالمدينة نفسها بئرا تسمى بالسقيا ، وهو وهم مردود ، مع أن المعتمد عندي أن السقيا التي جاء حديث الاستعذاب منها إنما هي سقيا المدينة ، وذلك لوجوه :

الأول : إيراد ابن شبة للحديث في ترجمة آبار المدينة التي كان يستقى لهصلى‌الله‌عليه‌وسلم منها.

الثاني : قرنه لذلك بحديث عرض جيش بدر بها ، وإيراد ابن زبالة في سياق آبار المدينة ، والسقيا التي من عمل الفرع ليست من طريق النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بدر ؛ لأن تلك الطريق معروفة ، والسقيا المذكورة معروفة أيضا ، وليست في جهتها كما سيأتي في بيان محلها ، وأيضا ففي حديث جابر المتقدم أنهم اعترضوا بالسقيا عند قتال اليهود بحسيكة مع بيان أن حسيكة بالمدينة نفسها إلى الجرف.

الثالث : ما تقدم أيضا من أنها كانت لبعض بني زريق من الأنصار ، وتحريض والد جابر له على شرائها ، وأن سعدا سبقه لذلك.

الرابع : ما تقدم في رواية الواقدي من أنه كان يستقي لهصلى‌الله‌عليه‌وسلم منها مرة ومن بئر غرس مرة ، ويبعد كلّ البعد قرن السقيا التي هي على يومين بل أيام من المدينة كما سيأتي ببئر غرس التي هي بالمدينة.

الخامس : ما في رواية الواقدي أيضا من أن المتعاطي لذلك أبناء أسماء أنس وهند وحارثة ، ومثل هؤلاء إنما يستقون من المدينة وما حولها ؛ لأن سقيا الفرع تحتاج إلى جمال ورجال.

السادس : ما قدمناه في مسجد السقيا من إيراد الأسدي له في المساجد التي تزار بالمدينة ، ثم ذكر في المساجد التي بين الحرمين مسجد السقيا التي هي من عمل الفرع.

١٤١

السابع : ما قدمناه من الظفر بمسجد بئر السقيا بالمدينة.

الثامن : أن المجد نقل عن الواقدي في ترجمة بقع أنه بضم الموحدة من السقيا التي بنقب بني دينار ، وسنبين في نقب بني دينار أنه الطريق التي في الحرة الغربية إلى العقيق.

وأما قول المجد «إنه لم يكن عند هذه البئر بيوت في وقت ، ولم ينقل ذلك» فمن العجائب ؛ إذ من تأمل ما حول البئر المذكورة وما قرب منها علم أنه كان هناك قرى كثيرة متصلة ، فضلا عن بيوت ، كما يشهد به آثار الأساسات ونقض العمارات ، وليت شعري أين هو من مسجد السقيا الذي أهمله تبعا لغيره ومنّ الله بوجوده بسبب التأمل في تلك الأساسات وآثار العمارات؟ ولما كشف التراب عن محله وجدنا من بنائه ومحرابه نحو نصف ذراع ، وهو مجاور لهذه البئر كما سبق ، وما ذكره من أن الاستعذاب من السقيا إنما كان لما استوخموا آبار المدينة فمردود ، بل هو طلب الماء العذب ، وأيضا أنهم لم يستوخموا كل آبارها. وفي الصحيح في قصة مجيئهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أبي الهيثم بن التيهان قول زوجته «خرج يستعذب لنا الماء» ورواية الواقدي المتقدمة مصرّحة بوقوع الاستعذاب من بئر مالك بن النضر والد أنس ، وكانت بدار أنس كما تقدم بيانه ، كما سيأتي في بئر غرس الاستعذاب منها أيضا. ثم لو سلمنا أن المراد من حديث أبي داود في الاستعذاب العين التي ذكرها قتيبة فهو محمول على أنه كان يستعذب لهصلى‌الله‌عليه‌وسلم منها ، إذا نزل قربها في سفر حجه ونحوه ، أما استعذابه منها إلى المدينة فلا أراه وقع أصلا ، والله أعلم.

بئر العقبة : ـ بالعين المهملة ، ثم القاف ـ قال المجد : ذكرها رزين العبدري في آبار المدينة ، وقال : هي التي أدلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر أرجلهم فيها ، ولم يعين لها موضعا ، والمعروف أن هذه القصة إنما كانت في بئر أريس ، اه.

والذي رأيته في كتاب رزين في تعداد الآبار المعروفة بالمدينة ما لفظه : وبئر العين سقط فيها الخاتم ، وبئر القف التي أدلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر أرجلهم فيها ، انتهى. وقد قدمنا في بئر أريس ما يقتضي تعدد الواقعة.

بئر أبي عتبة : ـ بلفظ واحد العنب ـ قال ابن سيد الناس في خبر نقله عن ابن سعد في غزوة بدر ، ما لفظه : وضرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عسكره على بئر أبي عنبة ، وهي على ميل من المدينة ، فعرض أصحابه ، وردّ من استصغره ، اه.

وهذا مستند ما نقله المطري في الكلام على بئر السقيا حيث قال بعد ذكر عرض جيش بدر بالسقيا : ونقل الحافظ ابن عبد الغني المقدسي أنه عرض جيشه على بئر أبي عنبة بالحرة فوق هذه البئر أي السقيا ، إلى المغرب ، ونقل أنها على ميل من المدينة.

قلت : ولعل العرض وقع أولا عند مرورهم بالسقيا ، ثم لما ضرب عسكره على هذه

١٤٢

البئر أعاد العرض لرد من استصغر ، ولعل هذه البئر هي المعروفة اليوم ببئر ودي ؛ لانطباق الوصف المتقدم عليها ، ولأنها أعذب بئر هناك.

وقد روى ابن زبالة عن إبراهيم بن محمد قال : خرجنا نشيع ابن جريج حين خرج إلى مكة ، فلما كنا عند بئر أبي عنبة قال : ما اسم هذا المكان؟ فأخبرناه ، فقال : إن عندي فيه لحديثا ، ثم ذكر حديث عاصم بن عمر حين اختصم فيه عمر وجدّته إلى أبي بكر ، فقال عمر : يا خليفة رسول الله ، ابني ويستقي لي من بئر أبي عنبة ، فدل على أن الماء كان يستعذب منها ، قال المجد : وقد جاء ذكر هذه البئر في غير ما حديث.

بئر العهن : ـ بكسر العين المهملة ، وسكون الهاء ، ونون ـ ذكر المطري الآبار التي ذكرها ابن النجار ـ وهي : أريس ، والبصّة ، وبضاعة ، ورومة ، والغرس ، وبيرحاء ـ ثم قال : والآبار المذكورة ست ، والسابعة لا تعرف اليوم ، ثم ذكر ما تقدم عنه في بئر جمل.

ثم قال : إلا أني رأيت حاشية بخط الشيخ أمين الدين بن عساكر على نسخة من «الدرة الثمينة ، في أخبار المدينة» للشيخ محب الدين بن النجار ما مثاله : العدد ينقص عن المشهور بئرا واحدة ؛ لأن المثبت ست ، والمأثور المشهور سبع ، والسابعة اسمها «بئر العهن» بالعالية ، يزرع عليها اليوم ، وعندها سدرة ، ولها اسم آخر مشهورة به.

قال المطرطي عقبه : وبئر العهن هذه معروفة بالعوالي ، وهي بئر مليحة جدّا ، منقورة في الجبل ، وعندها سدرة كما ذكر ، ولا تكاد تعرف أبدا ، وقال الزين المراغي عقب نقله ، والسدرة مقطوعة اليوم.

قلت : ولم يذكروا شيئا يتمسك به في فضلها ونسبتها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكن لم يزل الناس يتبركون بها. والذي ظهر لي بعد التأمل أنها بئر اليسرة الآتي ذكرها ، وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل عليها وتوضأ وبصق فيها ؛ لأن اليسرة بئر بني أمية من الأنصار بمنازلهم كما سيأتي ، وبئر العهن عند منازلهم ، وقد أشار ابن عساكر إلى تسميتها باسم آخر ، فأظنه الاسم المذكور ، والله أعلم.

بئر غرس : ـ بضم الغين المعجمة كما رأيته في خط الزين المراغي ، وهو الدائر على ألسنة أهل المدينة ، ويقال «الأغرس» كما يؤخذ مما سيأتي في وادي بطحان أول الفصل الخامس ، وقال المجد : بئر الغرس بفتح الغين وسكون الراء وسين مهملة ، والغرس : الفسيل ، أو الشجر الذي يغرس لينبت ، مصدر غرس الشجر ، قال : وضبطه بعض الناس بالتحريك مثال سحر ، وسمعت كثيرا من أهل المدينة يضمون الغين ، قال : والصواب الذي لا محيد عنه ما قدمته ، أي من الفتح ـ وهي بئر بقباء في شرقي مسجدها ، على نصف ميل إلى جهة الشمال ، وهي بين النخيل ، ويعرف مكانها اليوم وما حولها بالغرس ، قال : وحولها مقابر بني حنظلة.

١٤٣

قلت : وأظنه تصحيفا ، والمذكور في جهتها بنو خطمة ، وقد تقدم في بئر السقيا أن رباحا الأسود عبد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستقي له من بئر غرس مرة ومن بيوت السقيا مرة.

وروى ابن حبان في الثقات عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال : ائتوني بماء من بئر غرس ؛ فإني رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يشرب منها ويتوضأ.

وفي سنن ابن ماجه بسند جيد عن علي رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا أنا متّ فاغسلوني بسبع قرب من بئري بئر غرس» وكانت بقباء ، وكان يشرب منها.

ورواه يحيى عن عليّ بلفظ : أمرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «يا علي ، إذا أنا متّ فاغسلني من بئري بئر غرس بسبع قرب لم تحلل أوكيتهنّ».

وروى ابن سعد في طبقاته برجال الصحيح عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم قال : غسل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث غسلات بماء وسدر ، وغسل في قميص ، وغسل من

بئر يقال لها الغرس لسعد بن خيثمة بقباء ، وكان يشرب منها.

وروى ابن شبة بسند صحيح عنه أيضا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم غسل من بئر سعد بن خيثمة بئر كان يستعذب له منها ، وفي رواية : من بئر سعد بن خيثمة بئر يقال لها الغرس بقباء كان يشرب منها.

وروى أيضا عن سعيد بن رقيش أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ من بئر الأغرس ، وأهراق بقية وضوئه فيها.

وروى ابن زبالة عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش قال : جاءنا أنس بن مالك بقباء فقال : أين بئركم هذه؟ يعني بئر غرس ، فدللناه عليها ، قال : رأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءها ، وإنها لتسنى على حمار ، بسحر ، فدعا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بدلو من مائها ، فتوضّأ منه ثم سكبه فيها ، فما نزفت بعد.

وعن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع مرسلا قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني رأيت الليلة أني أصبحت على بئر من الجنة ، فأصبح على بئر غرس ، فتوضأ منها ، وبزق فيها ، وأهدى له عسل فصبه فيها ، وغسل منها حين توفي.

ورواه ابن النجار من طريق ابن زبالة ، دون قوله «وأهدى له من عسل إلى آخره».

وقال المجد : وفي حديث ابن عمر : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قاعد على شفير غرس : رأيت الليلة كأني جالس على عين من عيون الجنة ، يعني بئر غرس.

قال : وعن عاصم بن سويد عن أبيه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بعسل فشرب منه ، وأخذ منه شيئا فقال : هذا لبئري بئر غرس ، ثم صبّه فيها ، ثم إنه بصق فيها ، وغسل منها حين توفي.

١٤٤

قلت : وسبق في أوائل الفصل العاشر من الباب الرابع ما يقتضي أن هذه البئر عند مسجد قباء ، وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أول مقدمه قباء أناخ على غدة عندها ، وقدمنا أن الظاهر أن تصحيف ؛ لمخالفته لما هو المعروف في محل هذه البئر.

وقال ابن النجار : هذه البئر بينها وبين مسجد قباء نحو نصف ميل ، هي في وسط الصحراء ، وقد حربها السيل وطمّها ، وفيها ماء أخضر ، إلا أنه عذب طيب ، وريحه الغالب عليه الأجون.

قال : وذرعتها فكان طولها سبعة أذرع شافة منها ذراعان ماء وعرضها عشرة أذرع.

قال المطري : وهي اليوم ملك لبعض أهل المدينة ، وكانت قد خربت فجددت بعد السبعمائة ، وهي كثيرة الماء ، وعرضها عشرة أذرع ، وطولها يزيد على ذلك ، وماؤها يغلب عليه الخضرة ، وهو طيب عذب.

قلت : وقد خربت بعد ذلك ، فابتاعها وما حولها صاحبنا الشيخ العلامة المقيد خواجا حسين بن الجواد المحسن الخواجكي الشيخ شهاب الدين أحمد القاواني ، أثابه الله تعالى ، وعمرها وحوط عليها حديقة ، وجعل لها درجة ينزل إليها منها من داخل الحديقة وخارجها ، وأنشأ بجانبها مسجدّا لطيفا ، ووقفها ، تقبّل الله منه ، وذلك في سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة.

بئر القراصة : لم يذكرها وما بعدها ابن النجار ومن بعده ، ولم أر من ضبطها ، ولعلها بالقاف وبالراء كما في بعض النسخ ، وفي بعضها بالعين بدل القاف.

وروى ابن زبالة عن جابر بن عبد الله قال : لما استشهد أبي عبد الله بن عمرو بن حرام عرضت على غرمائه القراصة ، وكانت له ، أصلها وثمرها بما عليه من الدين ، فأبوا أن يقبلوا ذلك منه ، إلا أن يقوّموها قيمة ويرجعوا عليه بما بقي من الدين ، قال : فشكا ذلك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : دعهم ، حتى إذا كان جدادها فجدّها في أصولها ، ثم ائتني فأعلمني ، فلما حان جدادها جدّها في أصولها ثم جاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعلمه ، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفر من أصحابه ، فبصق في بئرها ، ودعا الله أن يؤدي عن عبد الله بن عمرو ، وقال : اذهب يا جابر إلى غرماء أبيك فشارطهم على سعر وائت بهم فأوفهم ، فخرج جابر فشارطهم على سعر ، وقال : انطلقوا حتى أوفيكم حقوقكم ، وكان أكبرهم اليهود ، قال : فقال بعضهم لبعض : أما تعجبون من صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وابن صاحبه ، عرض أصله وثمره فأبينا ، ويزعم أنه يوفينا من ثمره ، قال : فجاء بهم حتى أوفاهم حقوقهم ، وفضل منها مثل ما كانوا يجدون كل سنة.

قلت : وهذه البئر غير معروفة اليوم ، إلا أن جهتها جهة مسجد الخربة ، وهي في غربي

١٤٥

مساجد الفتح ؛ لما تقدم فيه من أنه دبر القراصة ، ويؤيده أن أصل حديث جابر في أرضه مذكور في الصحيح بطرق وفي بعضها : وكانت لجابر الأرض التي بطريق رومة ، وهذه الجهة بطريق رومة.

وروى أحمد عن جابر قال : قلت : يا رسول الله ، إن أبي ترك دينا ليهودي فقال : يأتيك يوم السبت إن شاء الله تعالى ، وذلك في زمن التمر مع استجداد النخل ، فلما كان صبيحة يوم السبت جاءني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما دخل عليّ في مالي أتى الربيع فتوضّأ منه ثم قام إلى المسجد فصلى ركعتين ، ثم دنوت به إلى خيمة لي فبسطت له بجادا من شعر ، الحديث ، والله أعلم.

بئر القريصة : لم أر من ضبطها ، وأظنها بالقاف والصاد المهملة مصغرة.

روى ابن زبالة عن سعد بن حرام والحارث بن عبيد الله قالا : توضأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من بئر في القريصة بئر حارثة ، أو شرب ، وبصق فيها ، وسقط فيها خاتمة فنزع.

ثم روى عقبة سقوط الخاتم في بئر أريس.

قلت : وهذه البئر لا تعرف اليوم ، إلا أن في شرقي المدينة بقرب القراصة المتقدمة في مسجد القراصة بئرا تعرف بالقريصة مصغر القرصة ، فإن صح الضبط المتقدم فهي المرادة.

بئر اليسرة : من اليسر ضد العسر.

روى ابن زبالة عن سعيد بن عمرو قال : جاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بني أمية بن زيد ، فوقف على بئر لهم فقال : ما اسمها؟ قالوا : عسرة ، قال : لا ، ولكن اسمها اليسرة ، قال : فبصق فيها وبرّك فيها.

وروى ابن شبة عن محمد بن حارثة الأنصاري عن أبيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سمّى بئر بني أمية من الأنصار اليسرة ، وترّك عليها وتوضأ وبصق فيها.

وروى ابن سعد في طبقاته عن عمر بن سلمة أن أبا سلمة بن عبد الأسد لما مات غسل من اليسرة ، بئر بني أمية بن زيد بالعالية ، وكان ينزل هناك حين تحوّل من قباء ، غسل بين قرني البئر ، وكان اسمها في الجاهلية العسرة ، فسماها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم اليسرة.

قلت : وهذه لبئر غير معروفة اليوم بهذا الاسم ، والذي يظهر أنها بئر العهن ؛ لما قدمناه فيها.

وقد استقصينا هذا الغرض فبلغ كما ترى نحو عشرين بئرا ، وما اقتضاه كلام بعضهم من انحصار المأثور من ذلك في سبع مردود ؛ لكن الذي اشتهر من ذلك سبع ، ولهذا قال في الإحياء : ولذلك تقصد الآبار التي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ منها ويغتسل ويشرب ، وهي سبعة آبار ، طلبا للشفاء ، وتبركا بهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انتهى.

١٤٦

قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء : وهي أي السبعة المشار إليها : بئر أريس ، وبيرحاء ، وبئر رومة ، وبئر غرس ، وبئر بضاعة ، وبئر البصة ، وبئر السقيا ، أو بئر العهن ، أو بئر جمل ؛ فجعل السابعة مترددة بين الآبار الثلاث ، ثم ذكر نحو ما قدمناه في فضائل هذه الآبار إلا العهن فلم يذكر فيها شيئا ؛ لأن الوارد فيها إنما هو باسمها الآخر ولم يشتهر. ثم قال : والمشهور أن الآبار بالمدينة سبعة.

وقد روى الدارمي من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في مرضه ضبّوا عليّ سبع قرب من آبار شتى ، وهو عند البخاري دون قوله «من آبار شتى» انتهى.

قلت : ومن ذلك فلا دلالة فيه على أن تلك الآبار السبعة هي المرادة بذلك ، والمشهور عند أهل المدينة أن السابعة هي العهن ، ولهذا قال أبو اليمن ابن الزين المراغي فيما أنشدنيه عنه أخوه شيخنا العلامة أبو الفرج ناصر الدين المراغي :

إذا رمت آبار النبيّ بطيبة

فعدّتها سبع مقالا بلا وهن

أريس ، وغرس ، رومة ، وبضاعة

كذا بصّة ، قل بيرحاء مع العهن

تتمة

في العين المنسوبة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما يتصل بها من العين الموجودة في زماننا ، وغيرها من العيون.

عين كهف بني حرام

روى ابن شبة عن عبد الملك بن جابر بن عتيك أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ من العين التي عند كهف بني حرام ، قال : وسمعت بعض مشيختنا يقول : قد دخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك الكهف.

وترجم ابن النجار لذكر عين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم روى من طريق محمد بن الحسن وهو عن ابن زبالة عن موسى بن إبراهيم بن بشير عن طلحة بن حراش قال : كانوا أيام الخندق يخرجون برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويخافون البيات ، فيدخلونه كهف بني حرام ، فيبيت فيه ، حتى إذا أصبح هبط ، قال : وبقر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم العيينة التي عند الكهف ، فلم تزل تجري حتى اليوم.

قلت : وهو في كتاب ابن زبالة ، إلا أنه قال فيه : عن طلحة بن حراش عن جابر بن عبد الله ، قال ابن النجار عقبه : وهذه العين في ظاهر المدينة ، وعليها بناء ، وهي في مقابلة المصلى.

قال المطري عقبه : أما الكهف الذي ذكره فمعروف في غربي جبل سلع ، على يمين السالك إلى مسجد الفتح من الطريق القبلية ، وعلى يسار المتوجه إلى المدينة مستقبل القبلة ، يقابله نخل تعرف بالغنيمية ، أي المعروفة اليوم بالنقيبية في بطن وادي بطحان غربي جبل

١٤٧

سلع ، قال : وفي الوادي عين تأتى من عوالي المدينة تسقي ما حول المساجد من المزارع وتعرف بعين الخيف خيف شامي ، وتعرف تلك الناحية بالسيح.

قلت : وقد تقدم في مساجد الفتح إيضاح هذا الكهف ، وأن عنده آثار نقر في الجبل ، وليست عين الخيف التي ذكرها المطري بجارية في زماننا ، بل هي منقطعة ، ومجراها معلوم.

وبيّن ابن النجار بما يأتي عنه في الخندق أنها تأتي من قباء ، وأصلها فيما يقال معلوم غربي قباء ، وقد شرع في إجرائها متولّي العمارة الجناب الشمسي ابن الزمن ، فتتبّع قناتها إلى أن آل إلى الموضع الذي يقال إنه أصلها ، ثم بالغوا في تنظيفه فلم يجر.

قال المطري : فأما العين التي ذكر ابن النجار أنها مقابلة المصلى فهي عين الأزرق ، وهو مروان بن الحكم ، أجراها بأمر معاوية رضي الله تعالى عنه ، وهو واليه على المدينة ، وأصلها من قباء المعروف من بئر كبيرة غربي مسجد قباء في حديقة نخل ، وتجري إلى المصلى ، وعليها في المصلى قبة كبيرة مقسومة نصفين ، يخرج الماء منها في وجهين مدرجين قبلي وشمالي ، وتخرج العين من جهة المشرق ، ثم تأخذ إلى جهة الشمال.

قال : وأما عين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم التي ذكر ابن النجار فليست تعرف اليوم ، وإن كانت كما قال عند الكهف المذكور فقد دثرت ، وعفا أثرها.

قلت : مراد ابن النجار أن أصلها عند الكهف ، وأنها تجري إلى الموضع الذي عليه البناء في مقابلة المصلى ، وقد وافق ابن النجار على ذلك ابن جبير في رحلته ، فقال : وقبل وصولك سور المدينة من جهة المغرب بمقدار غلوة تلقى الخندق ، وبينه وبين المدينة عن يمين الطريق العين المنسوبة إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليها حلق عظيم ، ومستدير ، ومنبع العين وسط ذلك الحلق كأنه الحوض المستطيل ، وتحته سقايات مستطيلات باستطالة الحلق ، وقد ضرب بين كل سقاية وبين الحوض بجدارين ، وهو يمدّ السقايتين ، ويهبط إليها على أدراج نحو الخمس والعشرين درجة ، وهما لتطهير الناس واستقائهم وغسل أثوابهم ، والحوض المذكور لا يتناول منه لغير الاستسقاء خاصة صونا له ، انتهى.

قال المجد : وبشبه أنه اشتبه عليه عين الأزرق بعين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم .

قلت : اتفاقه هو وابن النجار على ذلك يبعد الاشتباه ، بل يحتمل أن عين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت تحرى إلى هذا الموضع ، وكذا عين الأزرق ، ثم انقطعت الأولى وبقيت الثانية التي هي عين الأزرق.

قال المطري : وقد أخذ الأمير سيف الدين الحسين ابن أبي الهيجاء في حدود الستين وخمسمائة منها شعبة من عند مخرجها من القبة ، فساقها إلى باب المدينة من باب المصلى ، ثم أوصلها إلى الرحبة التي عند مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة باب السلام ، أي المقابلة لباب المدرسة الزمنية ، وبها سوق المدينة اليوم.

١٤٨

قال : وبنى لها هناك منهلا بدرج من تحت الدور ، يستقي منه أهل المدينة ، وجعل لها مصرفا من تحت الأرض بشق وسط المدينة على الموضع المعروف بالبلاط ، أي سوق العطارين اليوم ، وما والاه من منازل الأشراف أمراء المدينة ، يخرج إلى ظاهر المدينة من جهة الشمال شرقي الحصن الذي يسكنه أمير المدينة.

قال : وقد كان جعل منها شعبة صغيرة تدخل إلى صحن المسجد ، وجعل لها منهلا بدرج عليه عقد يخرج الماء إليه من فوّارة يتوضأ منها من يحتاج إلى الوضوء ، وحصل في ذلك انتهاك حرمة المسجد من كشف العورات والاستنجاء في المسجد ، فسدّت لذلك.

قلت : وقد سبق في الفصل الحادي والثلاثين من الباب الخامس عن ابن النجار في ذكر السقايات التي بالمسجد أن الذي عمل هذا المنهل بعض أمراء الشام واسمه شامة.

ثم ذكر المطري وصف مسير العين من القبة التي بالمصلّى إلى جهة الشام فقال : وإذا خرجت العين من القبة التي في المصلّى سارت إلى جهة الشمال ، حتى تصل إلى سور المدينة فتدخل تحته إلى منهل آخر بوجهين مدرجين : أي وهو الذي عند رحبة حصن الأمير ، ثم تخرج إلى خارج المدينة فتصل إلى منهل آخر بوجهين مدرجين عند قبر النفس الزكية ، ثم تخرج من هناك وتجتمع هي وما يتحصّل من مصلها في قناة واحدة إلى البركة التي ينزلها الحجاج ، يعني حجاج الشام ، وهي التي تقدم عنه في الباب الأول في أثرب أن الحجاج يسمونها عيون حمزة ، أي لظنهم أنها عين الشهداء ، وأنها تأتي من جهة مشهد سيدنا حمزة ، وليس كذلك ، إنما تأتي كما قال من قباء من البئر التي في الحديقة المعروفة بالجعفرية ، وإذا جاوزت مشهد النفس الزكية وثنيّة الوداع مرّت من شامي سلع على المسجد المعروف بمسجد الراية ، ولها هناك منهل آخر ، ثم تسير في جهة المغرب فتمر في غربي الجبلين اللذين في غربي مساجد الفتح ، وهكذا حتى تصل إلى مغيضها ، وهو الموضع المسمى بالبركة ، وقد زرع عليها هناك نخيل كثيرة هي اليوم بيد أمراء المدينة ، وفقر قناتها ظاهرة في الأماكن التي أشرنا إليها ، ولا مرور لها بالشهداء أصلا فعين الشهداء غير هذه العين ، وهي المراد بما سبق في سابع فصول الباب الخامس في ذكر قبور الشهداء بأحد من قول جابر : صرخ بنا إلى قتلانا يوم أحد حين أجرى معاوية العين ، وغيره من الأخبار المذكورة هناك ، وحينئذ فكل من العينين المذكورتين تنسب إلى معاوية : عين الشهداء ، وهي دائرة اليوم ، ويحتمل : أنها التي كان مغيضها عند المسجد المعروف بمصرع حمزة رضي الله تعالى عنه المتقدم ذكرها في المساجد ، وأن الأمير وديا كان قد جدّدها ثم دثرت ، لكن أصلها من جهة العالية ، وبعض قطرها ظاهر يشهد بذلك.

وقال البدر بن فرحون في ترجمة نور الدين الشهيد : إنه أجرى العين التي تحت جبل

١٤٩

أحد ، قال : وأظنها عين الشهداء ، فإن العين التي أجراها معاوية رضي الله تعالى عنه مستبطنة الوادي وقد دثرت ، ورسومها موجودة إلى اليوم ، انتهى.

والعين الموجودة اليوم المعروفة بعين الأزرق ، وتسميها العامة الزرقاء ، سميت بذلك لأن مروان الذي أجراها بأمر معاوية كان أزرق العينين فلذلك لقب بالأزرق.

ومن الغرائب العجيبة ما ذكره المنورقي في جزء ألّفه في فضائل الطائف عن الفقيه أبي محمد عبد الله بن حمو البخاري عن شيخ الخدام بالحرم النبوي بدر الشهابي أنه بلغه أن ميضأة وقعت في عين الأزرق بالطائف ، فخرجت في عين الأزرق بالمدينة.

ويذكر أنه كان بالمدينة وما حولها عيون كثيرة تجددت بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان لمعاوية رضي الله تعالى عنه اهتمام بهذا الباب ، ولهذا كثرت في أيامه الغلال بأراضي المدينة ، فقد نقل الواقدي في كتاب الحرّة أنه كان بالمدينة على زمن معاوية صوافي كثيرة ، وأن معاوية كان يجدّ بالمدينة وأعراضها مائة ألف وسق وخمسين ألف وسق ، ويحصد مائة ألف وسق حنطة.

الفصل الثاني

في صدقاتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما غرسه بيده الشريفة

أصل صدقات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم

روى ابن شبة فيما جاء في أموالهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدقاته عن ابن شهاب قال : كانت صدقات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أموالا لمخيريق اليهودي ، أي بالخاء المعجمة والقاف مصغرا.

قال عبد العزيز ـ يعني ابن عمران ـ بلغني أنه كان من بقايا بني قينقاع ، ثم رجّح حديث ابن شهاب قال : وأوصي مخيريق بأمواله للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشهد أحدا فقتل به ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : مخيريق سابق يهود ، وسلمان سابق فارس ، وبلال سابق الحبشة.

أسماء صدقات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومواضعها

قال : وأسماء أموال مخيريق التي صارت للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : الدلال ، وبرقة ، والأعواف ، والصافية ، والميثب ، وحسنى ، ومشربة أم إبراهيم.

فأما الصافية وبرقة والدلال والميثب فمجاورات لأعلى الصورين من خلف قصر مروان بن الحكم ، ويسقيها مهزور.

وأما مشربة أم إبراهيم فيسقيها مهزور ، فإذا بلغت بيت مدراس اليهود فحيث مال أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة الأسدي فمشربة أم إبراهيم إلى جنبه ، وذكر ما قدمناه عنه في المساجد في سبب تسميتها بمشربة أم إبراهيم.

ثم قال : وأما حسنى فيسقيها مهزور ، وهي من ناحية القف.

١٥٠

وأما الأعواف فيسقيها مهزور ، وهي من أموال بني محمم.

ثم قال : قال أبو غسان : وقد اختلف في الصدقات فقال بعض الناس : هي أموال بني قريظة والنضير.

وروى عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : كانت الدلال لامرأة من بني النضير ، وكان لها سلمان الفارسي ، فكاتبته على أن يحييها لها ، ثم هو حر ، فأعلم بذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج إليها فجلس على فقير ، ثم جعل يحمل إليه الوديّ فيضعه بيده ، فما عدت منها ودية أن طلعت. قال : ثم أفاءها الله على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : والذي يظهر عندنا : أنها من أموال بني النضير ، ومما يدل على ذلك أن مهزورا يسقيها ، ولم يزل يسمع أنه لا يسقى إلا أموال بني النضير.

قلت : فيه نظر ؛ إذ المعروف ببني النضير إنما هو مذينب ، ومهزور لبني قريظة.

ثم قال : وقد سمعنا بعض أهل العلم يقول : إن برقة والميثب للزبير بن باطا ، وهما اللتان غرس سلمان ، وهما مما أفاء الله من أموال بني قريظة. والأعواف : كانت لخنافة اليهودي من بني قريظة ، والله أعلم ما هو الحق من ذلك.

وقف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمواله

ثم قال : قال الواقدي : وقف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الأعواف وبرقة وميثب والدلال وحسني والصافية ومشربة أم إبراهيم سنة سبع من الهجرة ، قال : وقال الواقدي عن الضحاك بن عثمان عن الزهري قال : هذه الحوائط السبعة من أموال بني النّضير : قال : وقال بسنده لعبد الله بن كعب بن مالك قال : قال مخيريق يوم أحد : إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراد الله ، فهي عامة صدقات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم . قال : وقال عن أيوب بن أبي أيوب عن عثمان بن وثاب قال : ما هي إلا من أموال بني النضير ، لقد رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحد ففرّق أموال مخيريق ، اه ما أورده ابن شبة.

وقال المجد : قال الواقدي : كان مخيريق أحد بني النضير حبرا عالما ، فآمن بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعل ماله وهو سبع حوائط لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر الحوائط المتقدمة ، ونقل الذهبي عن الواقدي سوى ذكر الحوائط ، لكن في أوقاف الخصاف : قال الواقدي : مخيريق لم يسلم ، ولكنه قاتل وهو يهودي ، فلما مات دفن في ناحية من مقبرة المسلمين ، ولم يصل عليه.

وروى ابن زبالة عن محمد بن كعب أن صدقات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت أموالا لمخيريق اليهودي ، فلما كان يوم أحد قال لليهود : ألا تنصرون محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؟ فو الله إنكم لتعلمون أن نصرته حق ، قالوا : اليوم السبت ، قال : فلا سبت لكم ، وأخذ سيفه فمضى مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقاتل حتى أثبتته الجراح ، فلما حضرته الوفاة قال : أموالي إلى محمد يضعها حيث يشاء.

١٥١

قال محمد بن طلحة راويه : قال عبد الحميد : وكان ذا مال كثير ، فهي عامة صدقات النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : مخيريق خير اليهود ، قال : وهي الدلال ، وذكر الحوائط المتقدمة ، إلا أنه قال : والعواف بدل الأعواف.

وروى أيضا عن بكر بن أبي ليلى عن مشيخة الأنصار قالوا : كانت أموال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أموال بني النضير حشاشين ومزارع وإبلا ، فغرسها الأمراء بعد ، وعملوها ، وهي سبعة أموال ، وذكر الحوائط المتقدمة.

وعن عثمان بن كعب قال : اختلف الناس في صدقات النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال بعضهم : كانت من أموال بني قريظة والنضير ، قال عثمان بن كعب : وليس فيها من أموال بني النضير شيء ، إنما صارت أموال بني النضير للمهاجرين نفلا ، قال : وكانت برقة والميثب للزبير بن بطا.

وقال بعضهم : كانت الدلال من أموال بني ثعلبة من يهود ، وكانت مشربة أم إبراهيم من أموال بني قريظة ، وكانت الأعواف لخنافة جد ريحانة ، قال : ويقال : كانت الأعواف من أموال بني النضير.

وروى أيضا عن جعفر بن محمد عن أبيه أن سلمان الفارسي كان لناس من بني النضير ، فكاتبوه على أن يغرس لهم كذا وكذا وديّة حتى تبلغ عشر سعفات ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ضع عند كل فقير ودية ، ثم غدا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فوضعه بيده ، ودعا له ، فما عطبت منها ودية ، ثم أفاءوها الله على نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فهي الميثب صدقة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة.

قلت : يتحصّل من مجموع ما تقدم أن نخل سلمان الذي غرسهصلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الدلال ، وقيل : برقة والميثب ، وقيل : الميثب.

وروى أحمد والطبراني برجال الصحيح إلا ابن إسحاق وقد صرح بالسماع عن سلمان الفارسي حديثه الطويل ، وفيه ما يقتضي أنه بالفقير ، وأنه أثمر من عامه ، وأنه ذكر فيه عن سلمان أن يهوديا من بني قريظة ابتاعه من ابن عم له بوادي القرى ، قال : فاحتملني إلى المدينة ، ثم ذكر خبر إسلامه ، وقال : ثم قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : كاتب ، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وأربعين أوقية ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعينوا أخاكم ، فأعانوني بالنخل ، ويعين الرجل بقدر ما عنده ، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية ، فقال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : اذهب يا سلمان ففقّر لها ، فإذا فرغت فائتني أكن أنا أضعها بيدي ، قال : ففقّرت وأعانني أصحابي ، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته ، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم معي إليها ، فجعلنا نقرب إليه الوديّ ويضعه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده حتى فرغنا ، فو الذي نفس سلمان بيدي ما ماتت منها ودية واحدة ، قال : فأدّيت النخل وبقي على المال ، وذكر خبره فيه.

١٥٢

وذكر ابن عبد البر في خبر سلمان أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم اشتراه من قوم من اليهود بكذا وكذا درهما ، وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل ، يعمل فيها سلمان حتى يدرك ، فغرس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم النخل كله إلا نخلة غرسها عمر فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من غرسها؟ قالوا : عمر ، فقلعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وغرسها فأطعمت من عامها ، وفي رواية أن تلك الودية التي لم تثمر غرسها سلمان.

قلت : والفقير اسم الحديقة بالعالية قرب بني قريظة ، وقد خفي ذلك على بعضهم فقال كما نقله ابن سيد الناس : قوله «بالفقير» الوجه إنما هو بالعفير ، انتهى. والصواب أنه اسم لموضع ، وليس هو من صدقات النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد ذكر ابن شبة في كتاب صدقة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه الذي كان بيد الحسن بن زيد ما لفظه : والفقير لي كما قد علمتم صدقة في سبيل الله ، لكنه سماه قبل ذلك في أخبار صدقاته بالفقيرين ، مثنّى ، فقال : وكان لي صدقات بالمدينة الفقيرين بالعالية وبئر الملك بقناة ، فالظاهر أنه يسمى بكل من اسمين ، وأهل المدينة اليوم ينطقون به مفردا بضم الفاء تصغير الفقير ضد الغني.

وقد ذكره ابن زبالة مفردا فيما رواه عن محمد بن كعب القرظي قال : كانت بئر غاضر والبرزتان قبضها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأضيافه ، وكانت لكعب بن أسد ، وكان الفقير لعمر بن سعد ، وصار لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.

قال : وسمعت من يقول : كانت بئر غاضر والبرزتان من طعم أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أموال بني النضير.

قلت : وبئر غاضر اليوم غير معروفة ، وأما البرزتان فحديقتان بالعالية متجاورتان يقال لإحداهما البرزة وللأخرى البريزة مصغرة ، ووقع في النسخة التي وقفت عليها من كتاب ابن شبة : قال أبو غسان سمعت من يقول : كانت بئر غاضر والنويرتين من طعمه أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهما من أموال بني قريظة بعالية المدينة ، وقد قيل في ذلك إن بئر غاضر مما دخلت في صدقة عثمان في بئر أريس ، انتهى. وأظن قوله «النويرتين» تصحيفا ، وصوابه البرزتان كما في كتاب ابن زبالة لما قدمناه.

تحديد مواضع الصدقات والمعروف منها

وأما بيان مواضع صدقات النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم المذكورة فقد تقدم أن الصافية وبرقة والدلال والميثب متجاورات بأعلى الصورين ؛ فالصافية معروفة هناك اليوم ، قال الزين المراغي : هي في شرقي المدينة الشريفة بجزع زهرة ، ورأيته ضبط بخطه زهيرة بضم الزاي مصغرة زهرة لاشتهاره في زمنه بذلك ، وإنما هو زهرة مكبر لما سيأتي في ترجمتها ، وبرقة معروفة أيضا في قبلة المدينة مما يلي المشرق ، ولناحيتها شهرة بها كما قال المراغي.

١٥٣

والدلال : جزع معروف أيضا قبلي الصافة بقرب المليكي ، وقف فقهاء المدرسة الشهابية كما قاله الزين المراغي أيضا.

والميثب : غير معروف اليوم ، ويؤخذ من وصف هذه الأربعة بكونها متجاورات قربها من الأماكن المذكورة ، ولعله بقرب برقة لما سبق من أنهما اللذان غرسهما سلمان ، وكانا لشخص واحد.

والأعواف : جزع معروف بالعالية بقرب المربوع ، كما تقدم بيانه في بئر الأعواف من الفصل قبله.

ومشربة أم إبراهيم : معروفة بالعالية كما تقدم بيانه في المساجد.

وحسنى ـ ضبطها الزين المراغي كما في خطه بالقلم بضم الحاء وسكون السين المهملتين ثم نون مفتوحة ـ قال : وروايته كذلك في ابن زبالة بالسين بعد الحاء ، قال : ولا يعرف اليوم ، ولعله تصحيف من الحناء بالنون بعد الحاء ، وهو معروف اليوم.

قلت : حمل ذلك على التصحيف المذكور متعذر ؛ لأني رأيته بحاء ثم سين ثم نون في عدة مواضع من كتاب ابن شبة ومن كتاب ابن زبالة وغيرهما ، وإن أراد أن أهل زمانه صحّفوه بالحناء فلا يصح أيضا ؛ لأن الموضع المعروف اليوم بالحناء في شرقي الماجشونية ، لا يشرب بمهزور ، وقد تقدم أن حسنى يسقيها مهزور ، وأنها بالقف ، وسيأتي في بيان القف ما يقتضي أنه ليس بجهة الحناء. والذي يظهر أن حسني هو الموضع المعروف اليوم بالحسينيات بقرب الدلال ، فإنه بجهة القف ، ويشرب بمهزور ، وسيأتي في القف ما يؤيده.

وهذه الأماكن السبعة هي صدقاتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم أقف على أصل ما قاله رزين العبدري من أن الموضع المعروف بالبويرة بقباء صدقة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من النخل ، قال : ولم تزل معروفة للمساكين ، محبوسة عليهم ، وعلى من مرّ بها إلى عهد قريب من تاريخ الخمسمائة كالعشرين سنة ونحوها ، فتغلّب عليها بعض ولاة المدينة لنفسه ، قال : وبها حصن النضير وحصون قريظة ، انتهى.

وهو مردود من وجهين :

أحدهما : أن الأئمة المتقدم ذكرهم مع اعتنائهم بهذا الباب لم يذكروا هذا الموضع في صدقاتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم .

والثاني : أن ما ذكره من أن بهذا الموضع حصون قريظة والنضير مردود بما قدمناه في منازلهما ، والموضع الذي ذكره في جهة قبلة المسجد إلى جهة المغرب من منازلهما ، وسنبين في ترجمة البويرة أن هذا الموضع ليس هو البويرة المنسوبة لبني النضير ، وكأن منشأ ما وقع له تسمية هذا الموضع بالبويرة ، وأن صدقة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أموال النضير أو قريظة ، على ما سبق من الخلاف ، وظن أنه المراد.

١٥٤

طلب فاطمة من أبي بكر صدقات أبيها

وهذه الصدقات مما طلبته فاطمة رضي الله تعالى عنها من أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، وكذلك سهمهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بخيبر وفدك.

وفي الصحيح عن عروة بن الزبير أن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها أخبرته أن فاطمة ابنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مما أفاء الله عليه ، فقال لها أبو بكر رضي الله تعالى عنه : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا نورث ، ما تركنا صدقة» فغضبت فاطمة ، فهجرت أبا بكر ، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت ، وعاشت بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ستة أشهر ، قال : وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك. وقال : لست تاركا شيئا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يعمل به إلا إذا عملت به ، فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ ، فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس ، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر ، وقال : هما صدقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانتا لحقوقه التي تعروه.

ورواه ابن شبة ، ولفظه : أن فاطمة رضي الله تعالى عنها أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مما أفاء الله على رسوله ، وفاطمة حينئذ تطلب صدقة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا نورث ، ما تركنا صدقة ، إنما يأكل آل محمد من هذا المال» وإني والله لا أغير شيئا من صدقات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأعملنّ فيها بما عمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك ، فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت ، وعاشت بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ستة أشهر ، فلما توفيت دفنها علي ليلا ، ولم يؤذن بها أبا بكر ، رضي الله تعالى عنهم.

وفي رواية له أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر ، وذكره مختصرا كما في رواية الصحيح أيضا ، وقال فيه : فهجرته فاطمة فلم تكلمه في ذلك المال حتى ماتت ، وكذا نقل الترمذي عن بعض مشايخه أن معنى قول فاطمة لأبي بكر وعمر «لا أكلمكما» أي في هذا الميراث ، ولا يرده قوله «فهجرته» إذ ليس المراد الهجر الحرام ، بل تركها للقائه ، والمدة قصيرة ، وقد اشتغلت فيها بحزنها ثم بمرضها ، ويؤيد ذلك ما رواه البيهقي بإسناد صحيح إلى الشعبي مرسلا أن أبا بكر عاد فاطمة فقال لها علي : هذا أبو بكر يستأذن عليك ، قالت : أتحبّ أن آذن له؟ قال : نعم ، فأذنت له ، فدخل عليها فرضّاها حتى رضيت عليه.

أما سبب غضبها مع احتجاج أبي بكر بما سبق فلاعتقادها تأويله ، قال الحافظ ابن حجر : كأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله «لا نورث» ورأت أن المنافع لكل ما خلفه

١٥٥

من أرض وعقار لا يمنع أن يورث ، وتمسك أبو بكر بالعموم ، فلما صمم على ذلك انقطعت عنه.

قلت : بقي لذلك تتمة ، وهي أنها فهمت من قوله «ما تركنا صدقة» الوقف ورأت أن حق النظر على الوقف وقبض نمائه والتصرف فيه يورث ، ولهذا طالبت بنصيبها من صدقته بالمدينة ، فكانت ترى أن الحق في الاستيلاء عليها لها وللعباس رضي الله تعالى عنهما ، وكان العباس وعلي رضي الله تعالى عنهما يعتقدان ما ذهبت إليه ، وأبو بكر يرى الأمر في ذلك إنما هو للإمام ، والدليل على ذلك أن عليا والعباس جاءا إلى عمر يطلبان منه ما طلبت فاطمة من أبي بكر ، مع اعترافهما له بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا نورث ، ما تركنا صدقة» لما في الصحيح من قصة دخولهما على عمر يختصمان فيما أفاء الله على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من مال بني النضير ، وقد دفع إليهما ذلك ليعملا فيه بما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يعمل به وأبو بكر بعده ، وذلك بحضور عثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد والزبير ، قال في الصحيح : فقال الرّهط عثمان وأصحابه : يا أمير المؤمنين اقص بينهما وأرح أحدهما من الآخر ، فقال عمر : على تيدكم ، أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا نورث ، ما تركنا صدقة» يعني نفسه؟ فقال الرهط : قد قال ذلك ، فأقبل عمر على العباس وعلى عليّ فقال : أنشد كما بالله هل تعلمان أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قال ذلك؟ قالا : قد قال ذلك ، قال عمر : فإني أحدثكم عن هذا الأمر ، إن اللهعزوجل قد خصّ رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره ، ثم قرأ( وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ ) إلى قوله( قَدِيرٌ ) [الحشر : ٦] فكانت هذه خاصة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله ما احتازها دونكم ولا استأثرها عليكم ، قد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله ، فعمل به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك حياته ، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك؟ قالوا : نعم ، ثم قال لعلي وعباس : أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك؟ قالا : نعم ، قال عمر : ثم توفى الله نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو بكر : أنا وليّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقبضها أبو بكر ، فعمل فيها بما عمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله يعلم إنه فيها لصادق بارّ راشد تابع للحق ، ثم توفى الله أبا بكر فكنت أنا وليّ أبي بكر فقبضتها سنتين من إمارتي ، والله يعلم إني فيها لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم جئتماني تكلماني وكلمتكما وحدة وأمركما واحد ، جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك وجاءني هذا ـ يريد عليا ـ يسألني نصيب امرأته من أبيها ، فقلت لكما : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا نورث ، ما تركنا صدقة» فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت : إن شئتما دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما عمل فيها

١٥٦

أبو بكر وبما عملت فيها منذ وليتها ، فقلتما : ادفعها إلينا ، فبذلك دفعتها إليكما ، فأنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك؟ قال الرهط : نعم ، الحديث من رواية مالك بن أوس ، وهو صريح في مطالبتهما مع اعترافهما بحديث «لا نورث» فليس محله إلا ما تقدم من أنهما فهما أن ذلك من قبيل الوقف ، وأن ورثة الواقف أولى بالنظر على الموقوف ، سيما وما قبضاه من أموال بني النضير هو صدقة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، ولهذا زاد شعيب في آخر الحديث المذكور : قال ابن شهاب : فحدثت بهذا الحديث عروة ، فقال : صدق مالك بن أوس ، أنا سمعت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول ، فذكر حديثها ، قال : وكانت هذه الصدقة بيد علي منعها العباس فغلبه عليها ، ثم كانت بيد الحسن ، ثم بيد الحسين ، ثم بيد علي بن حسين والحسن بن الحسن ، ثم بيد زيد بن الحسن ، وهي صدقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حقا.

وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري مثله ، وزاد : قال معمر : ثم كانت بيد عبد الله بن حسن حتى ولي هؤلاء ، يعني بني العباس ، فقبضوها ، وزاد إسماعيل القاضي أن إعراض العباس عنها كان في خلافة عثمان.

وفي سنن أبي داود عن رجل من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر قصة بني النضير ، وقال في آخرها : فكانت نخل بني النضير لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، أعطاها الله إياه ، فقال( وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ) [الحشر : ٦] الآية ، قال : فأعطى أكثرها للمهاجرين ، وبقي منها صدقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم التي في أيدي بني فاطمة.

وقال ابن شبة : قال أبو غسان : صدقات النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم اليوم بيد الخليفة : يولى عليها ، ويعزل عنها ، ويقسم ثمرها وغلتها في أهل الحاجة من أهل المدينة على قدر ما يرى من هي في يده.

قال الحافظ ابن حجر ، بعد نقل نحو ذلك عنه : وكان ذلك على رأس المائتين ، ثم تغيرت الأمور ، والله المستعان.

قلت : قال الشافعي فيما نقله البيهقي : وصدقه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بأبي هو وأمي ـ قائمة عندنا ، وصدقة الزبير قريب منها ، وصدقة عمر بن الخطاب قائمة ، وصدقة عثمان ، وصدقة عليّ ، وصدقة فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصدقة من لا أحصي من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة وأعراضها.

وذكر المجد في ترجمة فدك ما يقتضي أن الذي دفعه عمر إلى علي والعباس رضي الله تعالى عنهم ووقعت الخصومة فيه هو فدك ، فإنه قال فيها : وهي التي قالت فاطمة رضي الله تعالى عنها : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم نحلنيها ، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : أريد بذلك شهودا ، فشهد لها عليّ ، فطلب شاهدا آخر ، فشهدت لها أم يمن ، فقال : قد علمت يا بنت

١٥٧

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا يجوز إلا شهادة رجل وامرأتين ، وانصرفت ، ثم أدّى اجتهاد عمر لما ولي وفتحت الفتوح ، وكان علي يقول : إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جعلها في حياته لفاطمة ، وكان العباس يأبى ذلك ، فكانا يختصمان إلى عمر ، فيأبى أن يحكم بينهما ، ويقول : أنتما أعرف بشأنكما ، فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إلى عامله بالمدينة يأمره برد فدك إلى ولد فاطمة ، فكانت في أيديهم أيامه ، فلما ولي يزيد بن عبد الملك قبضها ، فلم تزل في بني أمية حتى ولي أبو العباس السفاح الخلافة ، فدفعها إلى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، فكان هو القيم عليها يفرقها في ولد علي ، فلما ولي المنصور وخرج عليه بنو حسن قبضها عنهم ، فلما ولي ابنه المهدي أعادها عليهم ، ثم قبضها موسى بن الهادي ومن بعده إلى أيام المأمون ، فجاءه رسول بني عليّ فطالب بها ، فأمر أن يسجّل لهم بها ، فكتب السجل وقرئ على المأمون ، فقام دعبل وأنشد :

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمون هاشم فدكا

قلت : ورواية الصحيح السابقة عن عائشة ترد ما ذكره من دفع عمر فدك لعلي وعباس واختصامهما فيها ؛ لقول عائشة رضي الله تعالى عنها : وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر ، وكذلك ما ذكره من أن عمر بن عبد العزيز رد فدك إلى ولد فاطمة موافق لما نقله هو عن ياقوت من أن عمر بن عبد العزيز لما ولي خطب الناس ، وقص قصة فدك وخلوصها لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنفاقه منها ووضع الفضل في أبناء السبيل ، وأن أبا بكر وعمر وعثمان وعليّا رضوان الله عليهم فعلوا كفعله ، فلما ولي معاوية أقطعها مروان بن الحكم ، وأن مروان وهبها لعبد العزيز وعبد الملك ابنيه ، قال : ثم صارت لي وللوليد وسليمان ، وأنه لما ولي الوليد سألته فوهبها لي وسألت سليمان حصّته فوهبها لي ، فاستجمعتها ، وأنه ما كان لي مال أحبّ إليّ منها ، وإني أشهدكم أني رددتها على ما كانت في أيام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والأربعة بعده ، فكان يأخذ مالها هو ومن بعده فيخرجه في أبناء السبيل.

قلت : وقيل إن الذي أقطع فدك لمروان عثمان رضي الله تعالى عنه ، قال الحافظ ابن حجر : إنما أقطع عثمان فدك لمروان ؛ لأنه تأول أن الذي يختص بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يكون للخليفة بعده ، فاستغنى عثمان عنها بأمواله ، فوصل بها بعض قرابته.

وأما ما ذكره المجد من أن فاطمة رضي الله تعالى عنها ادّعت نحل فدك فروى ابن شبة ما يشهد له عن النمير بن حسان قال : قلت لزيد بن علي وأنا أريد أن أهجّن أمر أبي بكر : إن أبا بكر انتزع من فاطمة رضي الله تعالى عنها فدك فقال : إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان رجلا رحيما ، وكان يكره أن يغير شيئا تركه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتته فاطمة رضي الله تعالى عنها فقالت : إن رسول الله أعطاني فدك ، فقال لها : هل لك على هذا بينة؟ فجاءت

١٥٨

بعلي رضي الله تعالى عنه ، فشهد لها ، ثم جاءت بأم أيمن ، فقالت : أليس تشهد أني من أهل الجنة؟ قال : بلى ، قالت : فأشهد أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطاها فدك : فقال أبو بكر : فبرجل وامرأة تستحقينها أو تستحقين لها القضية؟ قال زيد بن علي : وأيم الله لو رجع لي الأمر لقضيت فيها بقضاء أبي بكر رضي الله تعالى عنه.

وروى ابن شبة أيضا عن كثير النواء قال : قلت لأبي جعفر : جعلني الله فداءك أرأيت أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما هل ظلماكم من حقكم شيئا أو ذهبا به؟ قال : لا والذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ما ظلمانا من حقنا مثقال حبة من خردل ، قال : جعلت فداءك فأتولاهما؟ قال : نعم ، ويحك! تولهما في الدنيا والآخرة ، وما أصابك ففي عنقي ، ثم قال : فعل الله بالمغيرة وبكيان فإنهما كذبا علينا أهل البيت.

قلت : وبذلك الكذب تعلقت الرّوافض ، ولم يفهموا الأحاديث المتقدمة على وجهها ، والله أعلم.

الفصل الثالث

فيما ينسب إليه ص من المساجد التي بين مكة والمدينة ،

بالطريق التي كان يسلكهاصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

وهي تفارق طريق الناس اليوم من قرب مسجد الغزالة كما سيأتي ، فلا تمر بالخيف ولا بالصفراء ، بل تمر بالحي وثنية هرشى ثم الجحفة كما سيتضح لك ، ويكون طريق الناس اليوم على يمين السالك في هذا الطريق ، فتمر على رابغ أسفل من الجحفة ، ثم تلتقي مع هذه الطريق فوق الجحفة قرب طريق قديد.

وفي الأخبار أن من أدب الزائر إلى المساجد التي بين الحرمين أن يصلي فيها ، وهي عشرون موضعا.

قلت : وهذا بالنسبة إلى هذه الطريق ، مع أن أبا عبد الله الأسدي قد ذكر فيها أزيد من ذلك ، وقد أضفنا إليه ما وجدناه في كلام غيره ، وأوردناها على ترتيبها من المدينة إلى مكة ، زادهما الله شرفا.

مسجد الشجرة (ذي الحليفة)

فمنها مسجد الشّجرة ، ويعرف بمسجد ذي الحليفة أيضا ، والحليفة : الميقات المدني ، ويعرف اليوم ببئر علي.

روينا في صحيح مسلم عن ابن عمر قال : بات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بذي الحليفة مبدأه ، وصلى في مسجدها.

وروى يحيى عنه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا خرج إلى مكة صلّى في مسجد الشجرة.

١٥٩

وروى ابن زبالة عنه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر ، وفي حجته حين حج ، تحت سمرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة.

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسجد الشجرة إلى الأسطوانة الوسطى ، استقبلها ، وكانت موضع الشجرة التي كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي إليها.

وعن أنس بن مالك قال : صليت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة الظهر أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين.

وعن ابن عمر أيضا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة وصلى بها.

قلت : المعنيّ بذلك موضع المسجد المذكور ، فإنه كان موضع نزولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبنى في موضع الشجرة التي كانت هناك ، وبها سمي «مسجد الشجرة» وهي السّمرة التي ذكر في حديث ابن عمر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينزل تحتها بذي الحليفة كما في الصحيح.

وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهلّ فقال : لبّيك اللهم لبيك ، الحديث.

وفي رواية له : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين ، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهلّ بهؤلاء الكلمات.

ويتحصل من صحيح الروايات أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج لحجته نهارا ، وبات بذي الحليفة ، وأحرم في اليوم الثاني من عند المسجد ، فيظهر أن صلواتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك المدة كانت كلها به ، ولم أقف على اغتسالهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لإحرامه بذي الحليفة.

وفي باب «ما يلبس المحرم» من البخاري عن ابن عباس قال : انطلق النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة بعد ما ترجّل وادّهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه الحديث ، وليس فيه تصريح بالاغتسال ، لكن في طبقات ابن سعد أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج في حجة الوداع من المدينة مغتسلا متدهنا مترجّلا متجرّدا في ثوبين سحاريين إزار ورداء ، وذلك يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة.

وفي كتاب التنبيهات للقاضي عياض : ظاهر المذهب أن المستحب الاغتسال بالمدينة ، ثم يسير من فوره ، وبذلك فسّره سحنون وابن الماجشون ، وهو الذي فعله النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما استحب أن يلبس حينئذ ثياب إحرامه ، وكذلك فعل عليه الصلاة والسلام ، انتهى.

قلت : ولم يتعرض أصحابنا لذلك ، لكن قالوا : إن من اغتسل في التنعيم في الإحرام أجزأه عن الغسل لدخول مكة للقرب ، فيؤخذ منه اعتبار القرب ، وهو مناف لظاهر ما نقل عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ لم يحرم من ذي الحليفة إلا في اليوم الثاني ، فيحتمل أنه أعاد الغسل حينئذ بذي الحليفة. أما لو كان الإحرام عقب الوضوء إلى ذي الحليفة ونحوه فلا يبعد القول به عندنا ، كما ذكروا في الغسل للجمعة من الفجر ، وعدم اشتراطهم لاتصاله بالرّواح.

١٦٠