ارشاد القلوب الجزء ٢

ارشاد القلوب0%

ارشاد القلوب مؤلف:
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
تصنيف: كتب الأخلاق
ISBN: ( دورة ) 2 ـ 42 ـ 8073 ـ 964
الصفحات: 395

ارشاد القلوب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الحسن بن أبي الحسن محمّد الديلمي
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
تصنيف: ISBN: ( دورة ) 2 ـ 42 ـ 8073 ـ 964
الصفحات: 395
المشاهدات: 26811
تحميل: 9470


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 395 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 26811 / تحميل: 9470
الحجم الحجم الحجم
ارشاد القلوب

ارشاد القلوب الجزء 2

مؤلف:
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
ISBN: ( دورة ) 2 ـ 42 ـ 8073 ـ 964
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إرشاد القلوب (المجلّد الثاني) .

( من أعلام القرن الثامن )

تأليف : الحسن بن أبي الحسن محمّد الديلمي .

تحقيق : سيد هاشم الميلاني .

الناشر : دار الأسوة للطباعة والنشر (التابعة لمنظّمة الأوقاف والشؤون الخيرية) .

المطبعة والتجليد : الأسوة .

الطبعة : الثانية .

تاريخ النشر : ١٤٢٤ هـ ق .

عدد المطبوع : ٢٠٠٠ نسخة .

 ( دورة ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤ ISBN

( ج ٢ ) ٩ ـ ٤٤ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤ ISBN

١

 [ المقدّمة ](١)

للهِ تـحتَ قـبابِ العرشِ طائفةٌ

أخفاهُمُ عن عيونِ الناسِ إجلالا

همُ السلاطينُ في أطمارِ مسكنة

جـرّوا على الفلك الدوّار أذيالا

هذي المكارمُ لا ثوبان من عدن

خـيطا قميصاً فعادا بعدُ اسمالا

هذي المكارم لا قـعبان من لبن

شيـبا بـماء فـعادا بعد أبوالا

مرفوعاً إلى أبي الجارود قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : يا ابن رسول الله ، هل تعرف مودّتي لكم ، وانقطاعي إليكم ، وموالاتي إيّاكم؟ قال: فقال:نعم ، قال: فقلت: إنّي أسألك عن مسألة تجيبني فيها ، فإنّي مكفوف البصر ، قليل المشي ، ولا أستطيع زيارتكم كلّ حين قال:هات حاجتك ، قلت: أخبرني بدينك الذي تدين به أنت وأهل بيتك لأدين الله به ، قال:إن كنت اقتصرت الخطبة فقد أعظمت المسألة والله لأعطينّك

ـــــــــــــــــ

(١) ليست هذه المقدّمة ـ على الظاهر ـ من أصل الكتاب ، لأنّها أوّلاً: لم ترد في نسخة "ج" ، وثانياً: فيها أبيات للحافظ رجب البرسي ، وهو من علماء المائة التاسعة ، فيكون متأخّراً عن المؤلّف رحمه الله ، والظاهر أنّها من إضافة النسّاخ ، والله العالم .

٢

ديني ودين آبائي تدين الله به: "شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ، والإقرار بما جاء من عند الله ، والولاية لوليّنا ، والبراءة من عدوّنا ، والتسليم لأمرنا ، وانتظار قائمنا ، والاجتهاد والورع" (١) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :إنّا نجد الرجل يحدّث ، فلا يخطئ بلام ولا واو ، خطيباً مصعقاً ، وقلبه أشدّ ظلمةً من الليل المظلم ونجد الرجل لا يستطيع يعدّ عمّا في قلبه بلسانه ، وقلبه يزهر كما يزهر المصباح .

مرفوعاً إلى يحيى بن زكريّا الأنصاري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال: من سرّه أن يستكمل الإيمان كلّه فليقل: القول منّي في جميع الأشياء قول آل محمد في جميع ما أسرّوا ، وفيما أعلنوا ، وفيما بلغني عنهم ، وفيما لم يبلغني (٢) .

مرفوعاً إلى جابر قال: قال أبو جعفر عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حديث آل محمد صعب مستصعب ، لا يؤمن به إلاّ ملك مقرّب ، أو نبيّ مرسل ، أو عبد امتحن الله قلبه للايمان فما ورد عليكم من حديث آل محمد فلانت له قلوبكم ، وعرفتموه فاقبلوه وما اشمأزّت منه قلوبكم وأنكرتموه ، فردّوه إلى الله وإلى الرسول وإلى القائم من آل محمد وإنّما الهلاك أن يحدّث أحدكم بشيء فلا يحتمله ، فيقول: والله ما كان هذا ، والله ما كان هذا ، والإنكار هو الكفر (٣) .

مرفوعاً إلى بعض أصحابنا قال: كتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر عليه‌السلام : جعلت فداك ما معنى قول الصادق عليه‌السلام "حديثنا لا يحتمله ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ، ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان" .

فجاء الجواب: إنّما معنى قول الصادق عليه‌السلام : أي لا يحتمله ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ولا مؤمن إنّ الملك لا يحتمله حتّى يخرجه إلى ملك غيره ، والنبي

ـــــــــــــــــ

(١) الكافي ٢: ٢١ ح١٠; عنه البحار ٦٩: ١٤ ح١٥ .

(٢) مختصر بصائر الدرجات: ٩٣; عنه البحار ٢٥: ٣٦٤ ح٢ .

(٣) الكافي ١: ٤٠١ ح١; وبصائر الدرجات: ٤٠ ح١ باب ١١; عنه البحار ٢: ١٨٩ ح٢١ .

٣

لا يحتمله حتّى يخرجه إلى نبيّ غيره ، والمؤمن لا يحتمله حتّى يخرجه إلى مؤمن غيره ، فهذا معنى قول جدّي عليه‌السلام (١) .

شعراً لبعضهم:

أينشقُ قيصومُ الحجازِ وشيخُه

فتىً لم يكن قد من فيه ينادي

ومن لم يجد يوماً سعاد وحسنها

فيعذر وإن لم يهو حسن سعاد

شعراً لمولانا رجب (رحمه الله) :

همُ القومُ آثار النبوّة منهم

تلوح وأعلام الإمامة تلمع

مهابطُ وحي الله خزّانُ علمه

وعندهم غيب المهيمن مودع

إذا جلسوا للحكم فالكلّ أبكم

وإن نطقوا فالدهر أذن ومسمع

وإن ذكروا فالكون ندّ ومندكّ

له أرج من طيبهم يتضوّع

وإن بادروا فالدهر يخفق قلبه

لسطوتهم والأسد في الغاب تجزع

وإن ذُكِر المعروف والجود في الورى

فبحر نداهم زاخر يتدفّع

أبوهم سماء المجد والأمّ شمسه

نجوم لها برج الجلالة مطلع

وجدّهم خير البريّة أحمد

نبيّ الهدى الطهر الشفيع المشفّع

فيا نسب كالشمس أبيض واضح

ويا شرف من هامة النجم أرفع

فمن مثلهم إن عُدّ في الناس مفخر

أعِدْ نظراً يا صاح إن كنت تسمع

ميامين قوّامون عزّ نظيرهم

ولاة هداة للرسالة منبع

فلا فضل إلاّ حين يذكر فضلهم

ولا علم إلاّ عنهم حين يرفع

ولا عمل ينجي غداً غير حبّهم

إذا قام يوم البعث للخلق مجمع

فيا عترة المختار يا راية الهدى

إليكم غداً في موقفي أتطلّع

مددت يدي بالذلّ في باب عزّكم

فحاشاكم أن تدفعوها وتمنعوا

ـــــــــــــــــ

(١) معاني الأخبار: ١٨٨ ح١; عنه البحار ٢: ١٨٤ ح٦ نحوه .

٤

أتيتكم مستردفاً من نوالكم

بحقّكم يا ساداتي لا تضيّعوا

ووحدة لحدي آنسوها بنوركم

فعبدكم من ظلمة القبر يجزع

ولو أنّ عبداً جاء في الله جاهداً

بغير ولاء آل العبا ليس ينفع

خذوا بيد الأبدال عبد ولائكم

فمَن غيركم يوم القيامة يشفع

جعلتكم يا آل طه وسيلتي

فنعم معاذ في المعاد ومفزع

وكربة موتي فاحضروها وامنعوا

عدوّي أن يغتالني أو يروّع

وإن خفّ ميزاني فإنّي بحبّكم

بني الوحي في رجح الموازين أطمع

عليكم سلام الله يا راية الهدى

فويل لعبد غيرها جاء يتبع

لأبي نواس:

لا تحسبيني هويت الطهر حيدرة

لفضله وعلاه في ذوي النسب

ولا شجاعته في يوم معركة

ولا التلذّد في الجنّات من أرب

ولا البراءة من نار الجحيم ولا

رجوت أنّ ليوم الحشر يشفع بي

لكن عرفت هو السرّ الخفيّ فإنْ

أذعته حلّلوا قتلي وكُفّر بي

يصدّهم عنه داء لا دواء له

كالمسك يعرض عنه صاحب الكلب

وقيل فيه أيضاً:

لا تلمني في ترك مدح عليّ

أنا أدرى بالحال منك وأخبره

رجل ما عرفه إن رمت إلاّ الله

والمصطفى قل الله أكبر

إنَّ أهل السماء والأرض في العجز

سواء عن حصر أوصاف قنبر(١)

ـــــــــــــــــ

(١) إلى هنا تمّت المقدّمة ، والتي نقلناها من "ألف" و "ب" .

٥

[ باب : في فضائلهعليه‌السلام ]

بسم الله الرحمن الرحيم

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: لأخي عليّ بن أبي طالب فضائل لا تحصى كثرة ، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرّاً بها ، غفر الله له ما تقدّم من ذنوبه (١) وما تأخّر ومن كتب فضيلة من فضائله لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لذلك الكتاب رسم ومن استمع إلى فضيلة من فضائله غفرت له ذنوبه التي اكتسبها بالسماع ، ومن نظر إلى فضيلة من فضائله غفرت له ذنوبه التي اكتسبها بالنظر (٢) .

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حبّ عليّ عبادة ، والنظر إلى عليّ عبادة ، ولا يقبل الله إيمان عبد إلاّ بولايته والبراءة من أعدائه (٣) .

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو أنّ الغِيَاض (٤) أقلام ، والبحر مداد ،

ـــــــــــــــــ

(١) في "ج": ذنبه .

(٢) المناقب للخوارزمي: ٣٢ ح٢; عنه كشف الغمة ١: ١٠٩; وفي أمالي الصدوق: ١١٩ ح٩ مجلس ٢٨; عنه البحار ٣٨: ١٩٦ ح٤; وأيضاً في مائة منقبة: ١٥٤ رقم ١٠٠; ونهج الحق: ٢٣١ .

(٣) المناقب للخوارزمي: ٣٢ ذيل حديث ٢; عنه كشف الغمة ١: ١٠٩ .

(٤) الغِيَاض: جمع غَيْضة ، وهي الشجر الملتفّ (لسان العرب) .

٦

والجنّ حُسّاب ، والإنس كُتّاب ، ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (١) .

ولا شك أنّ فضائله وحاله في الشرف والكمال ، لا يعرفه إلاّ الله سبحانه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : "ما عرفك يا علي حقّ معرفتك إلاّ الله وأنا" ؛ ولهذا السبب سمّي النبيّ وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام بالخمسة الأشباح ، لأنّ الناس لا يعرفون ماهيّتهم وصفاتهم لجلال شأنهم ، وارتفاع منازلهم ، كالشبح الذي لا تُعرف حقيقته .

وقال بعض الفضلاء ـ وقد سئل عن علي عليه‌السلام ـ فقال: ما أقول في شخص أخفى فضائله أعداؤه حسداً له ، وأخفى أولياؤه فضائله خوفاً وحذراً على أنفسهم ، وظهر فيما بين هذين فضائل طبقت الشرق والغرب ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (٢) .

وقد اشتهرت فضائله (عليه الصلاة والسلام) حتّى رواها المخالف والمؤالف (٣) ، وقد أحببت أن أورد هذه الفضائل من طريقهم مع أنّها مشهورة من طريقنا ، لتأكيد الحجّة عليهم ، وكما قال:

ومليحة شهدت بها ضرّاتها

والحسنُ ما شهدت به الضرّات (٤)

ـــــــــــــــــ

(١) المناقب للخوارزمي: ٣٢ ح١; عنه كشف الغمة ١: ١٠٩; وفي كنز الفوائد: ١٢٨ و١٢٩; عنه البحار ٤٠: ٧٠ ح١٠٥; وابن شاذان في المائة منقبة: ١٥٣ رقم ٩٩ .

(٢) التوبة: ٣٢ .

(٣) ولنعم ما قيل:

ما زلتَ في درجات المجد مرتقياً

تسمو وينمي بك الفرعان من مضرا

حتّى بهرت فلا تخفى على أحد

إلاّ على أحد لا يبصر القمرا

وكما قيل:

أعد ذكر نعمان لنا إنَّ ذكره

هو المسك ما كرّرته يتضوّع

(٤)

هو الفتى إن تصف أدنى خلائقه

فيا لها قصة في شرحها طول

٧

[ومناقب شهد العدو بفضلها

والفضل ما شهدت به الأعداء](١)

وقد روي عن أخطب خوارزم ـ وهو من أعظم مشايخ أهل السنّة ـ عن عبد الله بن مسعود ، قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لمّا خلق الله تعالى آدم ونفخ فيه من روحه عطس فقال: الحمد لله ، فأوحى الله تعالى: حمدني عبدي ، وعزّتي وجلالي لولا عبدان أُريد أن أخلقهما في دار الدنيا ما خلقتك قال: إلهي فيكونان منّي ؟ قال: نعم يا آدم ، ارفع رأسك وانظر فرفع رأسه فإذا مكتوب على العرش: "لا إله إلاّ الله ، محمد نبيّ الرحمة ، وعليّ مقيم الحجة ، من عرف حق عليّ زكى وطاب ، ومن أنكر حقّه لُعن وخاب أقسمت بعزّتي وجلالي أن أُُدخل الجنّة من أطاعه وإن عصاني ، وأقسمت بعزّتي وجلالي أن أُدخل النار من عصاه وإن أطاعني" (٢) .

وروي أيضاً عن أخطب خوارزم ، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عبد الله أتاني ملك فقال : يا محمد ، سل من أرسلنا قبلك من رسلنا على ما بعثوا ، قال: قلت : على ما بعثوا ؟ قال: على ولايتك وولاية عليّ بن أبي طالب (٣) .

وروى أيضاً بإسناده إلى ابن عباس قال: سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه ، قال: سأله بحقّ محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلاّ تبت عليّ ، فتاب عليه (٤) .

ومن كتاب المناقب لأهل السنّة قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كنت أنا وعليّ نوراً بين يدي الله (عَزَّ وجَلَّ) من قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف

ـــــــــــــــــ

(١) أثبتناه من "ج" .

(٢) المناقب للخوارزمي: ٣١٨ ح٣٢٠; عنه كشف اليقين: ٧; وفي البحار ٢٧: ١٠ ح٢٢ .

(٣) المناقب للخوارزمي: ٣١٢ ح٣١٢; عنه كشف اليقين: ٦; وفي البحار ٢٦: ٣٠٧ ح٧٠ .

(٤) عنه كشف اليقين: ١٤; ومناقب ابن المغازلي: ٦٣ ح٨٩; وفي البحار ٢٤: ١٨٣ ح٢٠; ينابيع المودّة: ٢٨٣ .

٨

سنة ، فلمّا خلق الله آدم سلك ذلك النور في صلبه ، فلم يزل الله (عَزَّ وجَلَّ) ينقله من صلب إلى صلب حتّى أقرّه في صلب عبد المطلب ، ثمّ أخرجه من صلب عبد المطلب وقسّمه قسمين ، قسم في صلب عبد الله وقسم في صلب أبي طالب فعليّ منّي وأنا منه ، لحمه لحمي ، ودمه دمي ، فمن أحبّه فيحبّني ، ومن أبغضه فيبغضني وأبغضه (١) .

وروى صاحب كتاب بشائر المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عن يزيد (٢) بن قعنب ، قال: كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب ، وفريق من بني عبد العزى بإزاء بيت الله الحرام ، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكانت حاملاً به تسعة أشهر ، فأخذها الطلق ، فقالت: يا ربّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب ، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وإنّه بنى البيت العتيق ، فبحقّ الذي بنى هذا البيت ، والمولود الذي في بطني إلاّ ما يسّرت عليّ ولادتي قال يزيد بن قعنب: فرأيت البيت قد انشقّ من ظهره ، فدخلت وغابت عن أبصارنا ، وعاد إلى حاله ، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح ، فعلمنا أنّ ذلك من أمر الله تعالى ثمّ خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ثمّ قالت : إنّي فُضّلت على من تقدمني من النساء ؛ لأنّ آسية بنت مزاحم عبدت الله سرّاً في موضع لا يحب الله أن يُعبد فيه إلاّ اضطراراً ، وإنّ مريم بنت عمران هزّت النخلة اليابسة بيدها حتّى أكلت منها رطباً جنيّاً ، وإنّي دخلت بيت

ـــــــــــــــــ

(١) المناقب للخوارزمي: ١٤٥ ح١٧٠; عنه كشف اليقين: ١١; ونحوه كفاية الطالب: ٣١٥; وفي البحار ٣٥: ٣٣ ح٣٠ .

(٢) هكذا في المصادر ونسخة "ج" ، وفي "ألف" و "ب": زيد .

٩

الله الحرام ، فأكلت من ثمار الجنّة وأرزاقها ، فلمّا أردت أن أخرج هتف بي هاتف: يا فاطمة ، سمّيه عليّاً ، فهو عليّ والله العليّ الأعلى يقول: شققت اسمه من اسمي ، وأدّبته بأدبي ، وأوقفته على غامض علمي ، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي ، ويؤذّن فوق ظهر بيتي ، ويقدّسني ويمجّدني ، فطوبى لمن أحبّه وأطاعه ، وويل لمن أبغضه وعصاه (١) .

قال: فولدت عليّاً عليه‌السلام يوم الجمعة الثالث عشر من رجب ، سنة ثلاثين من عام الفيل ، ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت الله الحرام سواه ، إكراماً له من الله عزّ اسمه ، وإجلالاً لمحلّه في التعظيم .

وكان يومئذٍ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العمر ثلاثين سنة ، فأحبّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حبّاً شديداً ، وقال لها: اجعلي مهده بقرب فراشي ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتولّى أكثر تربيته ، وكان يطهّر عليّاً في وقت غسله ، ويوجره اللبن عند شربه ، ويحرّك مهده عند نومه ، ويناغيه في يقظته ، ويحمله على صدره ، ويقول: هذا أخي ووليّي وناصري وصفيّي وخليفتي وكهفي وظهري ووصيّي وزوج كريمتي ، وأميني على وصيّتي ، وكان يحمله على كتفه دائماً ، ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها .

واعلم أنّ هذه الفضائل التي حصلت له قبل الولادة وحين الولادة وأمّا الفضائل التي حصلت له بعد ولادته إلى حين وفاته ، فلا يمكن حصرها ولا التعبير عنها ؛ لأنّها غير متناهية ، فلابد أن نذكر منها شيئاً يسيراً ، وتقرير ذلك أن نقول:

قد ثبت عند العلماء أن أصول الفضائل أربعة: العلم ، والعفّة ، والشجاعة ، والعدالة وأمير المؤمنين عليه‌السلام بلغ في هذه الأصول الغاية ، وتجاوز النهاية :

ـــــــــــــــــ

(١) بشارة المصطفى: ٧و٨; عنه كشف اليقين: ١٨; وكشف الغمة ١: ٦١; ونحوه في روضة الواعظين: ٧٦; ومعاني الأخبار: ٦٢ ح١; وأمالي الصدوق: ١١٤ ح٩ مجلس ٢٧; عنه البحار ٣٥: ٨ ح١١ .

١٠

أمّا العلم : فوصل إليه حيث قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا مدينة العلم وعليّ بابها (١) .

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قسّمت الحكمة عشرة أجزاء ، فأعطي عليّ تسعة والناس جزءاً واحداً (٢) .

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أقضاكم عليّ (٣) . والقضاء يستدعي العلم .

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في حقّ نفسه: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً (٤) .

وقال عليه‌السلام : اندمجت على مكنون علم لو بُحت به لاضطربتم اضطراب الأرْشِيَة في الطوى (٥) البعيدة (٦) .

وقال عليه‌السلام : والله لو كسرت (٧) لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم (٨) .

وهذا يدلّ على أنّه بلغ في كمال العلم إلى أقصى ما تبلغ إليه القوّة البشرية ، واختصاصه بعلوم ليس في قوى غيره من الصحابة الوصول إليها ، وقوله عليه‌السلام : إنّ هاهنا لعلماً جمّاً لا أجد له حملة وهذا يدلّ على وصوله في العلم إلى مرتبة لا يمكن لأحد من المخلوقات من

ـــــــــــــــــ

(١) اُنظر صحيح الترمذي ٥: ٦٣٧ ح٣٧٢٣; وكفاية الطالب: ٢٢٠; وكنز العمال ١١: ٦١٤ ح٣٢٩٧٨; وكشف الغمة ١: ١١١ .

(٢) المناقب للخوارزمي: ٨٢ ح٦٧; عنه كشف الغمة ١: ١١١ .

(٣) المناقب للخوارزمي: ٨١ ح٦٦; عنه كشف الغمة ١: ١١٠ .

(٤) المناقب لابن شهرآشوب ٢: ٣٨; والبحار ٤٠: ١٥٣ ح٥٤ .

(٥) الأرشية: جمع رشاء بمعنى الحبل ، والطوى: جمع طويّة وهي البئر ، والبئر البعيدة: العميقة .

(٦) نهج البلاغة: الخطبة رقم ٥ .

(٧) في "ج": ثنيت .

(٨) راجع البحار ٣٥: ٣٩١ ح١٤ .

١١

الملائكة والبشر الوصول إليها سوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكونه نفسه بآية المباهلة ، فإنّ الله تعالى جعل فيها نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفس عليّ عليه‌السلام حيث قال: ( وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ) (١) ، والمراد به نفس عليّ عليه‌السلام كما نقله جمهور المفسّرين .

وليس المراد الحقيقة ؛ لأنّ الاتحاد محال ، فيحمل على أقرب المعاني ، وهو المواساة له في جميع الوجوه الممكنة وثبت له عليه‌السلام حينئذٍ جميع ما ثبت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الفضائل العلمية والعملية ما خلا النبوّة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : "لا نبيّ بعدي" ، وكفى بهذه الآية دليلاً واضحاً ، وبرهاناً لائحاً على فضائله عليه‌السلام .

وقد روى المخالف والمؤالف ما ظهر عنه عليه‌السلام من الفتاوى المشكلة ، والقضايا الصعبة التي عجز عنها كلّ من عاصره ، وراجعوه في أكثر الأحكام ، وقضوا بقوله ، وعملوا بفتواه .

فمن ذلك أن عمر أتي بامرأة قد زنت وهي حامل فأمر برجمها ، فقال له عليّ عليه‌السلام : إن كان لك عليها سلطان فليس لك سلطان على ما في بطنها ، فأمر بتركها وقال: لولا عليّ لهلك عمر (٢) .

ومنها أنّه أتي بامرأة قد زنت وهي مجنونة فأمر برجمها ، فقال له علي عليه‌السلام : رفع القلم عن ثلاثة: المجنون حتّى يفيق ، والنائم حتّى يستيقظ ، والغلام حتّى يحتلم ، فقال: لولا عليّ لهلك عمر (٣) .

ومنها أنّه أرسل إلى امرأة فخافت منه فأجهضت ، فاستفتى الناس فكلّ قال له: ليس عليك بأس ، فسأل علياً عليه‌السلام فقال: أرى أنّ الدية على عاقلتك ،

ـــــــــــــــــ

(١) آل عمران: ٦١ .

(٢) كشف الغمة ١: ١١٠ نحوه .

(٣) مناقب الخوارزمي: ٨٠ ح٦٤; عنه كشف الغمة ١: ١١٠; والبحار ٣٠: ٦٨١ نحوه .

١٢

فقبل فعمل بقوله (١) .

ومنها أنّه أتي بامرأة قد ولدت لستّة أشهر فأمر برجمها ، فنهاه عليه‌السلام وتلا قوله تعالى: ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً ) (٢) مع قوله تعالى: ( وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ) (٣) فأمر بتخليتها (٤) .

ومنها أنّه لم يعرفوا حدّ المسكر حتّى قال هو عليه‌السلام : إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وإذا افترى فاجلدوه حد المفتري ، فجلدوه ثمانين جلدة وتعديد قضاياه العجيبة ، وفتاويه الصعبة الغريبة أكثر من أن تحصى .

ولا شك أنّ أهل العلم كافة ينسبون إليه : أمّا علم الكلام فأصله أبو هاشم بن محمد بن الحنفية الذي استفاده منه عليه‌السلام وأمّا علم الأدب فهو الذي قسّم الكلام إلى ثلاثة أضرب ، وأمر أبا الأسود بوضعه بعد أن نبّهه على أصله وأمّا علم التفسير فأصله ابن عباس تلميذ عليّ عليه‌السلام وأمّا علم الفصاحة ، فهو عليه‌السلام علّم الناس الخطب والكلام الفصيح وأمّا الفقه ، فانتساب الشيعة إليه ظاهر ، وأبو حنيفة كان تلميذ الصادق عليه‌السلام ، والشافعي قرأ على محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة ، وأحمد تلميذ الكاظم عليه‌السلام ، ومالك قرأ على ربيعة الرأي ، وربيعة الرأي قرأ على عكرمة ، وعكرمة قرأ على ابن عباس تلميذ عليّ عليه‌السلام .

فقد روى المخالف والمؤالف والخاص والعام قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ـــــــــــــــــ

(١) البحار ٤٠: ٢٥٠ ح٢٥ باختلاف .

(٢) الأحقاف: ١٥ .

(٣) لقمان: ١٤ .

(٤) المناقب لابن شهرآشوب ٢: ٣٦٥; عنه البحار ٤٠: ٢٣٢ ح١٢ نحوه ، وتوضيح ذلك: أن أقلّ الحمل أربعون يوماً وهو زمن انعقاد النطفة ، وأقلّه لخروج الولد حيّاً ستّة أشهر ، وذلك لأنّ النطفة تبقى في الرحم أربعين يوماً ، ثمّ تصير علقة أربعين يوماً ، ثمّ تصير مضغة أربعين يوماً ، ثمّ تتصوّر في أربعين يوماً ، وتلجها الروح في عشرين يوماً ، فذلك ستة أشهر ، فيكون الفطام في أربعة وشهراً ، فيكون الحمل في ستة أشهر .

١٣

"أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ انّه لا نبيّ بعدي" فإنّه يدلّ على أنّه كلّما كان لرسول الله من الفضائل والكمالات فإنّها ثابتة لعليّ عليه‌السلام سوى درجة النبوّة ، وهذا كلّه دليل على إمامته لقوله تعالى: ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ) (١) .

وأمّا العفّة : فقد كان فيها الآية الكبرى ، والمنزلة العظمى ، ويكفيه في التنبيه على حاله مطالعة كلامه في نهج البلاغة ، نحو كتابه إلى عثمان بن حنيف الأنصاري عامله بالبصرة ، وقد بلغه أنّه دُعي إلى وليمة قوم فأجاب إليها ، وقوله فيه:

"فانظر يا ابن حنيف إلى ما تقضمه (٢) من هذا المطعم (٣) ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجهه فنل (٤) منه ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه ، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه (٥) ، ومن مطعمه بقرصيه ، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد (٦) .

وقوله عليه‌السلام : ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القزّ (٧) ، ولكن هيهات هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع ، أأقنع [من نفسي] (٨) بأن يقال: أمير المؤمنين ،

ـــــــــــــــــ

(١) الزمر: ٩ .

(٢) قَضِمَ ـ كسمع ـ: أكل بطرف أسنانه ، والمراد الأكل مطلقاً .

(٣) في المصدر: المقضم ، وهو المأكل .

(٤) في "ب": فكل .

(٥) الطِمر ـ بالكسر ـ: الثوب الخلق البالي .

(٦) نهج البلاغة: الكتاب ٤٥; عنه البحار ٤٠: ٣٤٠ ح٢٧ .

(٧) القزّ: الحرير .

(٨) أثبتناه من المصدر .

١٤

ولا أشاركهم في مكاره الدهر ، وجشوبة (١) العيش (٢) .

وقوله عليه‌السلام فيه: وأيم الله يميناً أستثني فيها بمشيّة الله لأُروضنّ نفسي رياضة تهش معها إلى القرص مطعوماً ، وتقنع بالملح مأدوماً (٣) إلى غير ذلك من كلامه عليه‌السلام .

ولا شك أنّه عليه‌السلام كان أزهد الناس ، لم يشبع من طعام قط ، وكان يلبس الخشن ، ويأكل جريش الشعير ، وإذا ائتدم فبالملح ، فإن ترقّى فبنبات الأرض ، فإن ترقّى فباللبن روي عن سويد بن غفلة ، قال: دخلت على عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فوجدته جالساً وبين يديه إناء فيه لبن أجد ريح حموضته ، وفي يديه رغيف أرى قشار الشعير في وجهه ، وهو يكسره بيده ويطرحه فيه ، فقال: اُدن فأصب من طعامنا ، فقلت: إنّي صائم فقال عليه‌السلام : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: من منعه الصيام من طعام يشتهيه كان حقّاً على الله تعالى أن يطعمه من طعام الجنّة ، ويسقيه من شرابها قال: فقلت لفضّة وهي قريب منه قائمة: ويحك يا فضة ألا تتّقين الله في هذا الشيخ بنخل (٤) هذا الطعام من نخاله التي فيه قالت: قد تقدّم إلينا أن لا ننخل له طعام ، قال: ما قلت لها؟ فأخبرته ، فقال: بأبي وأمي من لم ينخل له طعام ولم يشبع من خبز البر ثلاثة أيام حتّى قبضه الله تعالى (٥) .

وروي عن عدي بن ثابت قال: أوتي أمير المؤمنين عليه‌السلام بفالوذج ،

ـــــــــــــــــ

(١) في المصدر: أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش ، والجشوبة: الخشونة .

(٢) نهج البلاغة: كتاب ٤٥; عنه البحار ٤٠: ٣٤٠ ح٢٧ .

(٣) المصدر نفسه .

(٤) في "ج": ألا تنخلين .

(٥) المناقب للخوارزمي: ١١٧ ح١٢٩; عنه كشف الغمة ١: ١٦٢; وفي البحار ٤٠: ٣٣٠ ح١٣ .

١٥

فأبى أن يأكل منه وقال: شيء لم يأكل منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا أحبُّ أن آكل منه (١) .

وكان عليه‌السلام يجعل جريش الشعير في وعاء ويختم عليه ، فقيل له في ذلك ، فقال عليه‌السلام : أخاف هذين الولدين أن يجعلا فيه شيئاً من زيت أو سمن (٢) .

فانظر أيّها المنصف إلى شدّة زهده وقناعته ، فإنّ إيراده الحديث وقوله: "من منع نفسه من طعام يشتهيه" دليل على رضاه بمطعمه ، وكونه عنده طعاماً مشتهى يرغب فيه من يراه ، وقد طلّق الدنيا ثلاثاً وقال لها: غرّي غيري لا حاجة لي فيك ، قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك (٣) فدلّ ذلك على أنّه أزهد الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا كان أزهد الناس كان أفضلهم ، فدلّ ذلك أيضاً على أنّه هو الإمام ، لقبح تقديم المفضول على الفاضل .

وأمّا الشجاعة : فإنّه لا خلاف بين المسلمين وغيرهم أنّ علياً عليه‌السلام كان أشجع الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأعظمهم بلاء في الحروب ، تعجَّبت من حملاته ملائكة السماء ، وبسبب جهاده ثبتت قواعد الإسلام ، وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضربته لعمرو بن عبدود العامري يوم الخندق أفضل من أعمال أمته إلى يوم القيامة (٤) .

ونزل جبرئيل عليه‌السلام يوم بدر وسمعه المسلمون كافة وهو يقول: "لا سيف إلاّ ذو الفقار ، ولا فتى إلاّ علي" ، ووقائعه مشهورة عند الخاص والعام في زمن

ـــــــــــــــــ

(١) المناقب للخوارزمي: ١١٩ ح١٣١; عنه كشف الغمة ١: ١٦٣ .

(٢) عنه البحار ٦٦: ٣٢٢ ضمن حديث ١ .

لها أحاديث من ذكراك يشغلها

عن الشراب ويلهيها عن الزاد

(٣) نهج البلاغة: قصار الحكم ٧٧; عنه البحار ٤٠: ٣٤٥ ح٢٨ .

(٤) قال ابن شهر آشوب في المناقب ٢: ٢٩٨ ، تحت عنوان "معجزاته في نفسه": ويروى وثبته أربعون ذراعاً إلى عمرو ، ورجوعه إلى خلف عشرون ذراعاً ، وذلك خارج عن العادة .

١٦

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده في حرب الجمل وصفين والنهروان .

روى الخوارزمي قال: كان أبطال المشركين إذا نظروا إلى عليّ عليه‌السلام في الحرب عهد بعضهم إلى بعض (١) .

وبالجملة فشجاعته مشهورة عند جميع الناس حتّى صارت تضرب بها الأمثال ، وإذا كان أشجع الناس كان أفضلهم لقوله تعالى: ( وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) (٢) فيكون هو الإمام لقبح تقديم المفضول على الفاضل .

وأمّا العدالة : فقد بلغ فيها الغاية القصوى ، ويكفيك في التنبيه عليها كلامه في نهج البلاغة أيضاً لأخيه عقيل الذي لم يكن عنده أحد أحبّ إليه منه ، وهو قوله عليه‌السلام : والله ، لئن أبيت على حَسَك السعدان مسهّداً (٣) ، واُجَرُّ في الأغلال مصفّداً (٤) ، أحبّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله ظالماً لبعض العباد ، أو غاصباً لشيء من الحطام ، وكيف أظلم أحداً لنفس تسرع إلى البلاء قفولها ، ويطول في الثرى حلولها والله ، لقد رأيت عقيلا ً وقد أملق (٥) حتّى استماحني من برّكم صاعاً ، ورأيت صبيانه شعث الألوان من فقرهم كأنّما سوّدت وجوههم بالعِظلم (٦) ، وعاودني مؤكّداً ، وكرّر عليّ مردداً ، فأصغيت إليه سمعي ، فظنّ أني أبيعه ديني ، وأتبع قياده مفارقاً طريقتي .

ـــــــــــــــــ

(١) عنه كشف اليقين: ٨٤; وفي المناقب لابن المغازلي: ٧٢ ح١٠٦; وقال الراغب في محاضرات الأدباء (٣: ١٣٨) : قيل: كانت قريش إذا رأت أمير المؤمنين في كتيبة تواصت خوفاً منه .

(٢) النساء: ٩٥ .

(٣) كأنّهعليه‌السلام يريد من الحسك الشوك ، والسعدان: نبت ترعاه الإبل له شوك تشبّه به حلمة الثدي ، والمسهّد ـ من سهّده ـ: إذا أسهره .

(٤) المصفّد: المقيّد .

(٥) أملق: افتقر أشدّ الفقر .

(٦) العِظْلِم: سواد يُصبغ به .

١٧

فأحميت له حديدة ثمّ أدنيتها من جسمه ليعتبر ، فضجّ ضجيج ذي دنفٍ من ألمها ، وكاد أن يحترق من ميسمها ، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل ، أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه ، وتجرّني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه ، أتئنّ من الأذى ولا أئنّ من لظى .

وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها (١) ، ومعجونة قد شنئتُها (٢) كأنّها عجنت بريق حيّة أو قيئها ، فقلت: أصلة أم زكاة أم صدقة ، فذلك محرّم علينا أهل البيت ، قال: لا ذا ولا ذا ، ولكنّها هدية .

فقلت: هبلتك الهوابل (٣) ، أعن دين الله أتيتني لتخدعني ، أمختبط أنت ، أم ذي جنّة ، أم تهجر والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته ، وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعليّ ونعيم يفنى ، ولذّة لا تبقى ، نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل ، وبه نستعين (٤) .

فهذه أصول الفضائل وأمّا فروع الفضائل التي له عليه‌السلام ، فغير متناهية روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في تقواه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب (٥) فأثبت له ما تفرّق فيهم من الفضل والكمال الذي هو المراد من كلّ واحد منهم ، وروى ذلك البيهقي أيضاً في كتابه بإسناده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

ـــــــــــــــــ

(١) الملفوفة: نوع من الحلواء ، أهداها الأشعث بن قيس إلى عليعليه‌السلام .

(٢) شنئتها: كرهتها .

(٣) في المصدر و "ج": الهبول .

(٤) نهج البلاغة: الخطبة ٢٢٤; عنه البحار ٤١: ١٦٢ ح٥٧ .

(٥) كشف الغمة ١: ١١١ عن فضائل الصحابة للبيهقي; ومناقب الخوارزمي: ٨٣ ح٧٠ .

١٨

فجلّ من أنعم عليه بالعلم والخلق والعُلى ، وجميع ما تشتت في الورى .

ليس من الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

فصل : [في عبادته وزهده]

واعلم انّه إذا نظرت إلى العبادة وجدته أعبد الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منه تعلّم الناس صلاة الليل والتهجّد والأدعية المأثورة ، ولقد كان يُفرش له بين الصفَّين والسهام تتساقط حوله ، وهو لا يلتفت عن ربّه ولا يغيّر عادته [ولا يفتر عن عبادته] (١) .

وكان إذا توجّه إلى الله تعالى توجّه بكلّيته ، وانقطع من الدنيا نظره وما فيها حتّى لا يبقى يدرك الألم ، لأنّهم كانوا إذا أرادوا إخراج الحديد والنشاب من جسده الشريف تركوه حتّى يصلّي ، فإذا اشتغل بالصلاة وأقبل على الله تعالى أخرجوا الحديد من جسده ولم يحسّ به ، فإذا فرغ من صلاته يرى ذلك فيقول لولده الحسن عليه‌السلام : إن هي إلاّ فعلتك يا حسن .

ولم يترك صلاة الليل قط حتّى في ليلة الهرير ، وكان عليه‌السلام يوماً في حرب صفّين مشتغلاً بالحرب والقتال وهو مع ذلك بين الصفَّين يراقب الشمس ، فقال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين ما هذا الفعل؟ قال (عليه الصلاة والسلام) : أنظر إلى الزوال حتّى نصلّي (٢) فقال له ابن عباس : وهل هذا وقت صلاة؟ إنّ عندنا لشغلاً بالقتال عن الصلاة ، فقال عليه‌السلام : على ما نقاتلهم؟ إنّما نقاتلهم على

ـــــــــــــــــ

(١) أثبتناه من "ج" .

(٢) في "ب": اُصلّي .

١٩

الصلاة (١) .

وبالجملة إن العبادات الخمس: الصلاة والزكاة والصوم والحجّ والجهاد ، فقد أتى بها جميعاً ، وبلغ الغاية في كلّ واحد منها ، ومقاماته العظيمة في التهجّد والخشوع والخوف من الله تعالى لم يسبقه إليها سوى رسول الله (٢) ، حتّى إنّه عليه‌السلام قال:

ـــــــــــــــــ

(١) عنه البحار ٨٣: ٢٣ ح٤٣ .

ولله درّ القائل:

يسقي ويشرب لا تلهيه نشوته

عن النديم ولا يلهو عن الكأس

أطاعه سكره حتّى تمكّن من

فعل الصحاة فهذا أفضل الناس

(٢) روى المجلسي في البحار ٤١: ١١ ح١ ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير قال: كنّا جلوساً في مجلس في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتذاكرنا أعمال أهل بدر وبيعة الرضوان ، فقال أبو الدرداء: يا قوم ، ألا أخبركم بأقلّ القوم مالاً ، وأكثرهم ورعاً ، وأشدّهم اجتهاداً في العبادة؟ فقالوا: من؟ قال: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال: فوالله إن كان في جماعة أهل المجلس إلاّ معرض عنه بوجهه ، ثمّ انتدب له رجل من الأنصار فقال له: يا عويمر لقد تكلّمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها ، فقال أبو الدرداء: يا قوم إنّي قائل ما رأيت وليقل كلّ قوم منكم ما رأوا : شهدت عليّ بن أبي طالب بشويحطات النجار وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممّن يليه ، واستتر بمغيلات النخل ، فافتقدته وبَعُدَ عليّ مكانه ، فقلت: لحق بمنزله ، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجيّ وهو يقول: "إلهي إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي ، فما أنا مؤمّل غير غفرانك ، ولا أنا براج غير رضوانك" فشغلني الصوت واقتفيت الأثر ، فإذا هو عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بعينه ، فاستترت له وأخملت الحركة ، فركع ركعات في جوف الليل الغابر ، ثمّ فرغ إلى الدعاء والبكاء والبثّ والشكوى ، فكان ممّا به الله ناجاه أن قال: "إلهي أفكر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي ، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليّتي" ، ثمّ قال: "آه إن أنا قرأت في الصحف سيّئة أنا ناسيها وأنت محصيها فتقول: خذوه ، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته ، ولا تنفعه قبيلته ، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء" ثمّ قال: "آه من نار تنضج الأكباد والكلى ، آه من نار نزّاعة للشوى ، آه من غمرة ملهبات لظى" .

قال: ثمّ أنعم في البكاء ، فلم أسمع له حسّاً ولا حركة ، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر ، أوقظه لصلاة الفجر ، قال أبو الدرداء: فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة ، فحرّكته فلم يتحرّك ، وزويته فلم ينزو ، فقلت: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون" مات والله عليّ بن أبي طالب ، قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم ، فقالت فاطمةعليها‌السلام : يا أبا الدرداء ، ما كان من شأنه ومن قصّته؟ فأخبرتها الخبر ، فقالت: هي والله يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله ثمّ أتوه بماء فنضحوه على وجهه حتّى أفاق ونظر إليّ وأنا أبكي ، فقال: ممّا بكاؤك يا أبا الدرداء؟ فقلت: ممّا أراه تنزله بنفسك ، فقال: يا أبا الدرداء ، فكيف لو رأيتني ودُعي بي إلى الحساب ، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب ، واحتوشتني ملائكة غلاظ ، وزبانية فظاظ ، فوقفت بين يدي الملك الجبّار ، قد أسلمني الأحبّاء ، ورحمني أهل الدنيا ، لكنت أشدّ رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية ، فقال أبو الدرداء: فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٠