• البداية
  • السابق
  • 345 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 4489 / تحميل: 3964
الحجم الحجم الحجم
المدرسة القرآنيّة

المدرسة القرآنيّة

مؤلف:
العربية

بالأشعار التالية :

وأشار في تفسير : «الإثني عشري» ، في ذيل هذه الآية ، إلى علاقة نورانيّة القلب وصفائه ، والأعمال الصّالحة بأكل الحلال(١) .

علاقة التّغذية بالأخلاق في الرّوايات الإسلاميّة :

هذه العلاقة لم ترد في الآيات القرآنية بصورةٍ واضحة ، ولا يوجد لها سوى إشاراتٌ خفيفةٌ ، ولكن هذا الأمر : «علاقة التّغذية بالأخلاق» ، له صدى واسع في الرّوايات ، ونورد منها :

١ ـ نقرأ في الرّوايات الواردة ، أنّ من شروط إستجابة الدّعاء هو الإمتناع عن أكل الحرام ، حيث جاء شخص إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال له :

احِبُّ أنْ يُستَجاب دُعائِي ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «طَهِّرْ مَأَكَلَكَ وَلا تَدْخُلْ بَطْنَكَ الحَرامَ» (٢) .

وجاء في حديثٍ آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال :«مَنْ أَحَبَّ أنْ يُستَجابَ دُعاءهُ فَليُطَيِّبْ مَطْعَمَهُ وَمَكْسَبَهُ» (٣) .

ونقرأ في حديثٍ آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال :«أَنَّ اللهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعاءً بِظَهْرِ قَلبٍ قاسٍ» (٤) .

ويستنتج من ذلك ، أنّ الأكل الحرام يُقسّي القلب ، ولأجله لا يستجاب دعاء آكلي الحرام ، وتتوضح العلاقة الوثيقة بين خبث الباطن وأكل الحرام ، في ما ورد عن الإمام الحسينعليه‌السلام ، في حديثه المعروف في يوم عاشوراء ، ذلك الحديث المليء بالمعاني البليغة ، أمام اولئك القوم

__________________

١ ـ تفسير الإثني عشري ، ج ٩ ، ص ١٤٥.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٩٠ ، ص ٣٧٣.

٣ ـ المصدر السابق ، ص ٣٧٢.

٤ ـ المصدر السابق ، ص ٣٠٥.

١٨١

المعاندين للحقّ من أهل الكوفة ، فعند ما آيس من تحولهم إلى دائرة الحقّ والإيمان ، وإستيقن أنّهم لن يستجيبوا له في خط الرسالة قال لهم : إنّكم لا تسمعون إلى الحق لأنّه قد :«مُلِئَتْ بُطُونُكُم مِنَ الحَرامِ فَطبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِكُم» (١) .

٢ ـ ويبيّن حديث آخر ، علاقة الأكل الحرام بعدم قبول الصّلاة والصّيام والعبادة ، ومنها ما ورد عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله :«مَنْ أَكَلَ لُقْمَةَ حَرامٍ لَنْ تُقْبَلَ لَهُ صلاةُ أَربَعِينَ لَيلَةً ، وَلَمْ تُسْتَجَبْ لَهُ دَعوَةُ أَربَعِينَ صَباحاً ، وَكُلُّ لَحْمٍ يُنٌبِتُهُ الحَرامُ فَالنَّارُ أَولَى بِهِ ، وَإنَّ اللُّقْمَةَ الواحِدَةَ تُنْبِتُ اللَّحْمَ» (٢) .

ومن الطبيعي فإنّ قبول الصّلاة له شروطٌ عديدةٌ ، ومنها : حضور القلب وطهارته من الدّرن والغفلة ، والحرام يسلب منه تلك الطّهارة والصّفاء ، ويخرجه من أجواء النّور والإيمان.

٣ ـ نقل عن الرسول الأكرامصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمّةعليهم‌السلام ، أنّ :«مَنْ تَرَكَ اللَّحْمَ أَربَعِينَ صَباحاً ساءَ خُلُقُهُ» (٣) .

وهذا الحديث يبيّن نصيحة طِبيّةً مهمّةً ، وهي أنّ الإنسان إذا ترك أكل اللّحم ، لمدّة طويلة ، فسيورثه سوء الخلق والإنقباض في النّفس ، في دائرة التّفاعل مع الآخرين ، وورد في مقابله العكس أيضاً ، وهو ذمّ الإفراط في تناول اللّحم والإكثار منه ، فإنّ من شأنه أن يورثه نفس الأعراض والأمراض الخُلقية.

٤ ـ وقد ورد في كتاب : «الأطعمة والأشربة» ، روايات ذكرت العلاقة بين الأطعمة والأخلاق الحسنة والسيئة ومنها :

ما ورد عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :«عَلَيكُم بِالزَّيتِ فإنّهُ يَكْشِفُ المُرَّةَ وَيُحْسِّنُ الخُلُقَ» (٤) .

٥ ـ في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال :«مَنْ سَرَّهُ أنْ يَقِلَّ غَيْظَهُ فَلْيَأكُلْ لَحمَ الدُّراجِ» (٥) .

__________________

١ ـ نقلاً عن كتاب «سخنان عليعليه‌السلام از مدينة تا كربلا» ، ص ٢٣٢.

٢ ـ سفينة البحار ، ج ١ ، مادة الأكل.

٣ ـ وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٢٥ ، الباب ١٢.

٤ ـ المصدر السابق ، ص ١٢.

٥ ـ فروع الكافي ، ج ٦ ، ص ٣١٢.

١٨٢

وهذا الحديث يبيّن بصورة جيدة علاقة الغذاء بالغضب والصّبر.

٦ ـ في روايةٍ مفصّلة وردت في تفسير العياشي ، نقلها عن الإمام الصّادقعليه‌السلام ، حيث سئل عن علّة تحريم الدم ، فقالعليه‌السلام :

«وَأَمَّا الدَّمُ فَإَنَّهُ يُورِثُ الكَلَبَ وَقَسْوَةَ القَلبِ وَقِلَّةَ الرَّأفَةِ وَالرَّحمَةِ لا يُؤمِنُ أَنْ يَقْتُلَ وَلَدَهُ وَوالِدَهُ».

وفي القسم الآخر من نفس الرواية ، قالعليه‌السلام :

«وَأَمَّا الخَمْرُ فإنَّه حَرَّمَها لِفِعْلِها وَفَسادِها وَقَالَ إِنَّ مُدْمِنَ الخَمْرِ كَعابِدِ الوَثَنِ ، وَيُورِثُ إِرتِعاشَاً وَيُذْهِبَ بِنُورِهِ وَيَهْدِمَ مُرُوَّتَهُ» (١) .

٧ ـ ونقل في الكافي روايات متعددة ، عن العنب وعلاقته بإزالة الغم ، ومنها ما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال :«شَكى نَبِيٌّ مِنَ الأنبِياءِ إِلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الغَمَّ فَأَمَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَكْلِ العِنَبِ» (٢) .

فنلاحظ تأكيداً أشدّ على علاقة التغذية بالمسائل الأخلاقية ، التي تعكس الحالة النفسية للفرد.

٨ ـ الأحاديث التي وردت في أكل الرمان كثيرة ، وأنّها تنوّر القلب وتدفع وساوس الشيطان ، فجاء عن الإمام الصّادقعليه‌السلام :

«مَنْ أَكَلَ رُمّانَةً عَلَى الرِّيقِ أَنارَتْ قَلْبَهُ أَربَعِينَ يَوماً» (٣) .

٩ ـ وَردت روايات متعددة في باب «الأكل» ، نرى فيها العلاقة المطّردة بين التغذية والمسائل الأخلاقيّة ، في دائرة الصّفات والحالات النفسية ، ومنها الحديث الوارد عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في وصيته لجعفر بن أبي طالب رضى الله عنه ، فقال له :«يا جَعْفِرُ كُلِ السَّفَرجَلَ فَإِنّهُ يُقَوي القَلْبَ وَيُشْجِعُ الجَبَانَ» (٤) .

١٠ ـ ونقل عن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حديث يروي علاقة فضول الطعام بقساوة القلب ،

__________________

١ ـ تفسير البرهان ، ج ١ ، ذيل الآية ٣ ، سورة المائدة ؛ ومستدرك الوسائل ، ج ١٦ ، ص ١٦٣.

٢ ـ الكافي ، ج ٦ ، ص ٣٥١ ، ح ٤.

٣ ـ المصدر السابق ، ص ٣٥٤ ، ح ١١.

٤ ـ المصدر السابق ، ص ٣٥٧ ، ص ٤.

١٨٣

فنقل عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله في كتاب «أعلام الدّين» :

«إِيَّاكُم وَفُضُولَ المَطْعَمِ فَإِنّهُ يَسِمُ القَلْبَ بِالقَسوَةِ وَيُبْطِئ بِالجَوارحِ عَنِ الطّاعَةِ وَيَصُمُّ الهِمَمَ عَنْ سِماعِ المَوعِظَةِ».

«فضول الطعام» : يمكن أن تكون إشارةً لإدخال الطعام على الطعام ، والأكل الزّائد عن الحاجة ، أو أنّها تدل على تناول الطّعام المتبقي من الوجبات السّابقة ، أي بقايا الطعام الفاسد ، وعلى أيّة حال ، فإنّ الحديث يدل على علاقة التّغذية بالمسائل الأخلاقية ، التي تُؤطّر سلوك الإنسان في حركة الحياة.

وورد هذا المعنى أيضاً في بحار الأنوار الذي نقل الحديث عن رواة أهل السنة ، ونقلوه أيضاً عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

ويستفاد من هذا الحديث ثلاثة امور :

١ ـ إنّ الأكل الزائد يُقسّي القلب.

٢ ـ ويقعد الإنسان عن العبادة في دائرة الكسل والاسترخاء.

٣ ـ يُصمّ آذانه في مقابل الوعظ ، فلا تؤثر فيه النّصيحة والموعظة في خطّ التربية ، وهذا الأمر ملموس فعلاً ، فإنّ الإنسان يثقل عند الأكل الكثير ، ولا يكاد أن يؤدّي عبادته من موقع الشّوق والرّغبة ، ولا يبقى لديه نشاط في خطّ العِبادة ، وبالعكس في حالة ما إذا تناول طَعاماً خفيفاً ، فسيكون دائماً على نشاطٍ في حركة الإيمان ، ويؤدّي عباداته ووظائفه في وقتها المعين لها.

وكذلك بالنّسبة للصّيام ، فهو يرقّق القلب ويهيئ الإنسان لقبول المواعظ ، وبالعكس عند ما يكون الإنسان مليء البطن ، فإنّه لا يكاد يفكر في شيءٍ من عوالم الغيب ، ولا يعيش في أجواء المَلكوت.

١١ ـ وقد بيّنت الأحاديث الشريفة أيضاً ، علاقة العسل بصفاء القلب ، فنقل عن أمير

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ١٨٢.

١٨٤

المؤمنينعليه‌السلام ، أنّه قال :«العَسَلُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ داءٍ وَلا داءَ فِيهِ يُقِلُّ البَلْغِمَ وَيُجَلِّي القَلْبَ» (١) .

النّتيجة :

تبيّن ممّا ذكر آنفاً ، العلاقة الوثيقة بين الغذاء والروحيّات والأخلاق ، ونحن لا ندّعي أبداً أنّ الأكل والغذاء هو العلّة التّامة لبلورة الأخلاق ، ولكنّه يمثل عاملاً مُساعداً في ذلك ، بحلاله وحَرامه ، وأنواعه.

ويقول علماء العصر الحاضر ، أنّ السّلوكيات الأخلاقية عند الإنسان ، تنطلق من خلال ترشّح بعض الهرمونات من الغدد الموجودة في جسم الإنسان ، والغُدد بدورها ، تتأثر مباشرةً بما يأكله الإنسان ، وعلى هذا الأساس ، فإنّ لحومَ ، الحيوانات تحمل نفس الصّفات النفسيّة الموجودة في الحيوان ، فالضّواري تفعّل فِعْلَ عناصر التّوحش في الإنسان ، والخنزير يذهب بالغيرة عند الإنسان ، وهكذا فإنّ لحم أيّ حيوان ، يخلف بصماته على روح آكله مباشرةً ، وينقل إليه صفاته.

هذا من الناحية الماديّة الطبيعيّة ، وأمّا من الناحيّة المعنويّة ، فإنّ أكل الحرام يُظلم الروح والقلب ، ويُضعف الفضائل الأخلاقيّة كما تقدم.

وأخيراً نختم هذا البحث ، بنقل قصّةٍ تاريخيةٍ نقلها المسعودي في مروجه ، فقال :

نقل عن الفضل بن الرّبيع أنّ «شريك بن عبد الله» ، دخل يوماً على «المهدي» ، الخليفة العبّاسي في وقتها فقال له المهدي العباسي : «أي شريك» ، أعرض عليك ثلاثة امور ، عليك أن تختار إحداها ، فقال ما هي؟ ، فقال له : إمّا أن تقبل منصب القضاء ، أو أن تعلّم إبني ، أو تأكل معنا على مائدتنا ، ففكّر شريك قليلاً ، وقال إنّ الأخيرة أسهلها ، فحجزه المهدي ، وقال لطبّاخه ، حضّر له أنواعاً من أطباق أمخاخ الحيوانات ، المخلوطة بالسّكر والعسل.

فعند ما أكلَ شريك من ذلك الطعام اللّذيذ ، «وطبعاً الحرام» ، قال الطبّاخ للمهدي ، إنّ هذا الشّيخ لن يُفلح أبداً بعد هذا الطّعام ، فقال الرّبيع : وفعلاً قد صدقت نبوءة الطبّاخ ، فإنّ شريك

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٣ ، ص ٣٩٤.

١٨٥

بعدها قبل منصب القضاء ، وعلّم أبناء المهدي أيضاً(١) .

الصفات والأعمال الأخلاقيّة :

من المعلوم أنّ كلّ فعلٍ يفعله الإنسان له أصلٌ وأساس في باطنه ومحتواه الدّاخلي ، أو بعبارةٍ اخرى ، إنّ الأعمال هي مرآة باطن الإنسان ، فإحداهما بمنزلة الجذر ، والاخرى بمنزلة السّاق والأوراق والّثمر.

وبناءً عليه : فإنّ الأعمال الأخلاقيّة ، لا تنفك عن الصّفات الأخلاقيّة ، فمثلاً النّفاق ، له جذوره في روح الإنسان ، ويحكي عن إزدواجيّة ذلك الشّخص ، وعدم توحيده في دائرة الإيمان ، فهذه الصّفة الباطنيّة تحثّ الإنسان على سلوك طريق النّفاق والرّياء مع الغير.

الحسد أيضاً من الصّفات الباطنيّة السلبيّة ، حيث يتمنى معه الشّخص الحاسد ، زوال النّعم التي أعطاها الباري تعالى لغيره ، وتتجلى هذه الصّفة الذّميمة في أعماله وأفعاله ، التي يريد بها التّصدي لسعادةِ ذلك المحَسود من موقع العداوة والخصومة.

الكِبَر والغُرور ، هي صفاتٌ باطنيّة كذلك ، نشأت من جهل الإنسان لقدره ومقامه ، وهي ناشئةٌ من عدم تحمل الإنسان لثقل المواهب الإلهيّة ، التي يُعطيها الباري له ، ويتبيّن هذا الأمر من تصرفاته ، وعدم إعتنائه بالغير ، وبذاءة لسانه وتحقيره للآخرين.

ورُبّما ، ولأجل ذلك لم يفرق علماء الأخلاق بين هذين الإثنين في كتبهم الأخلاقيّة ، فمرّةً يعرّجون على الصّفات الداخلية للإنسان ، واخرى يتطرّقون للأعمال الخارجيّة ، التي تستمد مقوّماتها من عالم الصّفات الباطنيّة ، فيطلق على الأول : «الصّفات الأخلاقية» ، وعلى الثاني : «الأعمال الأخلاقيّة».

وطبعاً الأعمال الأخلاقية ، هي موضوع المباحث الفقهيّة لدى الفُقهاء ، ولكن ومع ذلك ، فإنّ علماء الأخلاق قد تناولوها بالبحث في دائرة السّلوك الأخلاقي للفرد ، ومن الطّبيعي فإنّ نظرة عالِم الأخلاق ، تختلف عن نظرة الفقيه ، فالفقيه يبحث المسألة في إطار الأحكام الخمسة :

__________________

١ ـ سفينة البحار ، مادة «شريك» ؛ ومروج الذهب ، ج ٣ ، ص ٣١٠.

١٨٦

(الحُرمة ، الوُجوب ، والإستحباب ، والكراهة ، والإباحة) ، ولربّما تطرّق للثواب والعقاب ، للأعمال في نطاق الحياة الآخرة ، ولكن عالِم الأخلاق ينظر إليها من منظار كمال الرّوح والنّفس ، أو إنحطاطها وتسافلها في خطّ الإنحراف ، وبهذا يتبيّن الفرق بين الصّفات والأفعال الأخلاقية ، ويتمّ من خلالها تمييز نظر الفقيه عن نظر عالِم الأخلاق.

١٨٧
١٨٨

١٢

الخُطى العمليّة في طريق التّهذيب الأخلاقي

نتطرّق في هذا الفصل للعوامل الّتي تساعد على تربية ، ونمو «الفضائل الأخلاقيّة» ، وتقرّب الإنسان من الله تعالى خطوةً خطوة ، وهذا البحث ، غاية الأهميّة في علم الأخلاق ، ويتناول اموراً عديدة :

الخطوة الاولى : التّوبة

يقول كثير من علماء الأخلاق ، إنّ الخطوة الاولى لتهذيب الأخلاق والسّير إلى الله ، هي «التّوبة» ، التّوبة التي تمحو الذّنوب من القلب وتبيّض صفحته وتجعله يتحرك في دائرة النور ، وتنقله من دائرة الظّلمة ، وتخفف ثقل الذّنوب من خزينه النّفساني ، ورصيده الباطني ، وتمهّد الطّريق للسّير والسّلوك إلى الله تعالى ، في خط الإيمان وتهذيب النّفس.

يقول المرحوم : «الفيض الكاشاني» ، في بداية الجزء السابع من كتابه : «المحجّة البيضاء» ، الذي هو في الواقع ، بداية الأبحاث الأخلاقيّة :

(فإنّ التّوبة من الذنوب ، والرّجوع إلى ستار العُيوب وعلّام الغيوب ، مبدأ طريق السّالكين ، ورأس مال الفائزين ، وأوّل إقدام المريدين ، ومفتاح إستقامة المائلين ومطلع الإصطفاء والاجتباء للمقرّبين!).

١٨٩

وبعدها يشير إلى حقيقةٍ مهمّةٍ ، وهي أنّ أغلب بني آدم يتورطون غالباً بالمعاصي ، ويشير إلى معصية آدم : (التي هي في الواقع ، من ترك الأولى) ، وتوبته منها ، ويقول : «وما أجدر بالأولاد الإقتداء بالآباء والأجداد ، فلا غرو إن أذنب الآدمي وإجترم ، فهي شنشنةٌ يعرفها من أخزم ، ومن أشبه أباه ، فما ظَلم ، ولكنّ الأب إذا جبر بعد كسر ، وعمّر بعد أن هدم ، فليكن النزوع إليه في كلا طرفي ، النّفي والإثبات والوجود والعدم ، ولقد قلع آدم سنّ النّدم ، وتندّم على ما سبق منه وتقدّم ، فمن إتّخذه قدوةً في الذنب دون التّوبة فقد زلّت به القدم ، بل التجرد لمحض الخير دأب الملائكة المقرّبين ، والتجرُّد للشرّ دون التّلافي ، سجيّة الشّياطين ، والرّجوع إلى الخير بعد الوقوع في الشرّ ضرورة الآدميين ، فالمتجرّد للخير ملك مقرّب ، عند الملك الدّيان ، والمتجرّد للشرّ شيطان ، والمتلافي للشرّ بالرجوع إلى الخير بالحقيقة إنسان.

والمصرّ على الطّغيان ، مسجّل على نفسه بنسب الشّيطان ، فأمّا تصحيح النّسب بالتجرّد لمحض الخير إلى الملائكة ، فخارج عن حيّز الإمكان ، فإنّ الشرّ معجون مع الخير ، في طينة آدم ، عجناً محكماً لا يخلّصه إلّا إلى إحدى النارين : نار الندم أو نار جهنم»(١) .

أو بعبارة اخرى : أنّ الإنسان غالباً ما يُخطيء ، وخصوصاً في بداية سيره إلى الله تعالى ، فإذا ما وجد أنّ أبواب العودة موصدةٌ في وجهه ، فسيورثه اليأس الكامل ، ويبقى يُرواح في مكانه ، ولذلك فإنّ التّوبة تعتبر من الاصول المهمّة في الإسلام ، فهي تدعو كلَّ المذنبين إلى العمل لإصلاح أنفسهم ، والدّخول في دائرة الرّحمة الإلهيّة ، والسّعي لجبران ما مضى.

وقد بيّن الإمام السّجادعليه‌السلام ، في مناجاته : «مناجاة التائبين» أفضل وأحلى صورة لها ، فقال :

«إِلَهي أَنْتَ الّذِي فَتَحْتَ لِعبادِكَ باباً إِلى عَفْوِكَ سَمَّيْتَهُ التَّوبَةَ فَقُلْتَ تُوبُوا إِلى اللهِ تَوبَةً نَصُوحاً ، فَما عُذْرُ مِنْ أَغْفَلَ دُخُولَ البابِ بَعْدَ فَتْحِهِ» (٢) .

والجدير بالذكر أنّ الباري تعالى يحبّ التّائبين ، لأنّ التّوبة تعتبر الخطوة الاولى لكي

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٧ ، ص ٦ و ٧ ، مع التلخيص.

٢ ـ المناجاة الخمسة عشر للإمام السجادعليه‌السلام ، المناجاة الاولى ؛ بحار الأنوار ، ج ٩٤ ، ص ١٤٢.

١٩٠

يعيش الإنسان في أجواء السّعادة والحياة الكريمة.

وقد ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام :«إِنّ اللهَ تَعالى أشَدُّ فَرَحاً بِتَوبَةِ عَبْدِهِ ، مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ راحِلَتَهُ وَزادَهُ ، فِي لَيلَةٍ ظَلْماءَ فَوَجَدها» (١) .

فهذا الحديث مزج بكنايات خاصة وعبارات جذابة ، ليبيّن أنّ التّوبة في الواقع ، الزّاد والرّاحلة لعبور الإنسان من وادي الظّلمات ، ليصل إلى معدن النّور والرّحمة ، ويعيش حالات الكرامة في الصفات الإنسانيّة.

وعلى أيّة حال ، فإنّ ما يطرح في مبحث التّوبة امورٌ عديدةٌ ، أهمّها هي :

١ ـ حقيقة التّوبة.

٢ ـ وجوب التّوبة.

٣ ـ عمومية التّوبة.

٤ ـ أركان التّوبة.

٥ ـ قبول التّوبة ، هل عقلي أو نقلي؟

٦ ـ تقسيم التّوبة وتجزئتها.

٧ ـ دوام التّوبة.

٨ ـ مراتب التّوبة.

٩ ـ معطيات وبركات التّوبة.

١ ـ حقيقة التّوبة

«التوبة» في الأصل ، هي الرجوع عن الذّنب «هذا إذا ما نسبت للمذنبين» ، ولكن الآيات القرآنية والرّوايات نسبتها إلى الباري تعالى ، وعليه فيصبح معناها : الرجوع إلى الرّحمة

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، باب التوبة ، ص ٤٣٥ ، ح ٨.

١٩١

الإلهيّة ، تلك الرحمة التي سُلبت من الإنسان إثر إرتكابه للمعصية والذّنب ، فبعد عودته لموقع العبودية والعبادة ، تمتد إليه الرّحمة الإلهيّة من جديد ، وبناءاً على ذلك فإنّ أحد أسماء الباري تعالى ، هو (التواب).

و «التّوبة» في الحقيقة : هي مشترك لفظي أو معنوي بين الله وعباده ، (ولكن إذا ما نُسبت للعبد ، تتعدى بكلمة «إلى» ، وإذا ما نُسبت للباري تعالى ، فهي تتعدى بكلمة «على»)(١) .

وورد في «المحجّة البيضاء» ، عن حقيقة التّوبة فقال : «إعلم أنّ التّوبة عبارةٌ عن معنى ينتظم ويلتئم ، من ثلاثة امورٍ مرتّبةٍ : علم وحال وفعل ، فالعلم أوّل والحال ثان والفعل ثالث ، أمّا العلم فهو معرفة عِظم ضرر الذنوب ، وكونها حجاباً بين العبد وبين كلّ محبوب ، فإذا عرفت ذلك معرفةً محقّقةً بيقينٍ غالب على قلبه ، ثار من هذه المعرفة ، تألّمٌ للقلب بسبب فوات المحبوب ، فإنّ القلب مهما شعر بفوات محبوبه تألّم ، فإن كان فواته بفعله تأسّف على الفعل المفوّت ، فيسمّى تألّمه بسبب فعله المفوّت لمحبوبه ندماً ، فإذا غلب هذا الألم على القلب وإستولى ؛ إنبعث من هذا الألم في القلب ، حالةً اخرىً تسمّي إرادةً وقصداً إلى فعلٍ له تعلّق بالحال وبالماضي والإستقبال.

فثمر نور هذا الإيمان مهما أشرق على القلب ، نار الندم فيتألّم به القلب ، حيث يبصر بإشراق نور الإيمان أن صار محجوباً عن محبوبه»(٢) .

وهو الشّيء الذي يدعوه البعض : بالثّورة الروحيّة والنفسيّة ، ويعتبرون التّوبة نوعاً من الإنقلاب الرّوحي ، في باطن الإنسان على كلّ شيء ، وتحثّه هذه الحالة على إتخاذ موقف جديد ، حيال أعماله وبرامجه الآتية ، من موقع الوضوح في الرّؤية لعناصر الخير والشرّ.

٢ ـ وجوب التّوبة

إتّفق علماء الإسلام على وجوب التّوبة ، وكذلك فإنّ القرآن قد صرّح بها في الآية (٨)

__________________

١ ـ تفسير الفخر الرازي وتفسير الصّافي ، ذيل الآية ٣٧ من سورة البقرة.

٢ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٧ ، ص ٥.

١٩٢

من سورة التّحريم :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) .

إنّ كلّ الأنبياء عند ما يتقلدّون أعباء الرّسالة ، فأوّل شيء يدعون إليه هو التّوبة ، لأنّه بدون التّوبة وتنقية القلب ، لا يوجد مكان للتّوحيد والفضائل في أجواء النّفس وواقع الإنسان.

فالنّبي هودعليه‌السلام ، أوّل ما دعى قومه : إلى التّوبة والإستغفار ، فقال تعالى :( وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) (١)

وكذلك النّبي صالحعليه‌السلام ، جعل التّوبة أساساً لعمله ودعوته ، فقال تعالى :( فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) (٢) .

ثم النّبيّ شعيبعليه‌السلام ، الذي تحرك في دعوته من هذا المنطلق ، فقال تعالى :( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) (٣) .

ودعمت الروايات ذلك الأمر ، وأكّدت على وجوب التّوبة الفوريّة ، ومنها :

١ ـ وصية الإمام عليعليه‌السلام لإبنه الإمام الحسنعليه‌السلام :

«وَإِنْ قَارَفْتَ سَيِّئَةً فَعَجِّلْ مَحوَها بِالتَّوبَةِ» (٤) .

طبعاً حاشا للإمام أن يقترف الذّنوب ، ولكن قصد الإمام عليعليه‌السلام هنا ، تنبيه الآخرين إلى هذا المعنى.

٢ ـ قال الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لإبن مسعود :

«يا بنَ مَسْعُودَ لا تُقَدِّمِ الذَّنْبَ وَلا تُؤَخِرِ التَّوبَةَ ، وَلَكِنْ قَدِّمِ التَّوبَةَ وَأَخِّرِ الذَّنْبَ» (٥) .

٣ ـ وفي حديثٍ آخر ، قال الإمام عليعليه‌السلام :«مُسَوِّفُ نَفْسِهِ بِالتَّوبَةِ مِنْ هُجُومِ الأَجَلَ عَلَى أعْظَمِ الخَطَرِ». (٦)

__________________

١ ـ سورة هود ، الآية ٥٢.

٢ ـ سورة هود ، الآية ٦١.

٣ ـ سورة هود ، الآية ٩٠.

٤ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ٢٠٨.

٥ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٤ ، ص ١٠٤.

٦ ـ مستدرك الوسائل ، ج ١٢ ، ص ١٣٠.

١٩٣

٤ ـ وقال الإمام الرضاعليه‌السلام نقلاً عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله :

«لَيسَ شَيءٌ أَحَبُّ إلَى اللهِ مِنْ مُؤمِنٍ تائِبٍ أو مُؤمِنَةٍ تائِبَةٍ» (١) .

ويمكن أن يكون هذا الحديث دليلاً على وجوب التّوبة ، لأنّها أحبّ الأشياء إلى الله تعالى في دائرة السّلوك البشري.

مضافاً إلى ذلك ، هناك دليلٌ عقلي على وجوب التّوبة ، وهو أنّ العقل يحكم ، بوجوب دفع الضّرر المحتمل أو المتيقن ، وتحضير وسائل للنجاة من العذاب الإلهي ، وبما أنّ التّوبة هي أفضل وسيلةٍ للنجاة من العذاب ، فلذلك يحكم العقل السليم بوجوبها ، فالعاصين أنّى لهم الخلاص ، من العذاب الدّنيوي والاخروي ، ولمّا يتوبوا بعد؟!

نعم ، فإنّ التّوبة واجبةٌ ، بدليل القرآن والرّوايات والعقل ، إضافةً إلى قبول المسلمين لها أجمع ، وبناءً عليه فإنّ الأدلّة الأربعة تحكم بوجوب التّوبة ، ووجوبها فوري ، وقد تطرق علم الاصول لهذا الأمر ، على أساس أنّ الأوامر كلّها ظاهرةٌ في الوجوب ما لم يثبت العكس.

٣ ـ عموميّة التوبة

لا تختص التّوبة بذنبٍ من الذنوب ، أو شخص من الأشخاص ، ولا تتحدّد بزمانٍ ولا مكانٍ ولا عمرٍ محدد.

وعليه فإنّ التّوبة تشمل جميع الذّنوب وتستوعب كلّ فردٍ في أي مكانٍ أو زمانٍ كان ، وإذا ما إحتوت على كلّ الشّروط ، فستُقبل من قبل الباري تعالى ، والاستثناء الوحيد الذي لا تُقبل فيه التّوبة ، والذي أشار إلى القرآن الكريم ، هو : التّوبة عند حضور الموت ، أو نزول العذاب الإلهي ، (كما تاب فرعون في آخر لَحَظات عمره) ، فعندها لن تُقبل توبته ، لأنّ التّوبة عندها ليست توبةً حقيقيّةً ، ولا هي صادرةٌ من الشّخص من موقع الإختيار ، فيقول الباري تعالى :

( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ

__________________

١ ـ مستدرك الوسائل ، ج ١٢ ، ص ١٢٥.

١٩٤

الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) »(١) .

ونقرأ في قصّة فرعون : عند ما إنفلق البحر لموسىعليه‌السلام ، وتبعه فرعون وجنوده ، واغرِق فرعون ، فقال :( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (٢) .

ولكنّه سمع الجواب مباشرةً ، فقال تعالى :( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) (٣) .

وأمّا بالنسبة للُامم السّابقة ، فقال تعالى :( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ) .

فأجابهم القرآن الكريم :( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ ) (٤)

وكذلك بالنّسبة للحدود الإلهيّة ، عند ما يقع المجرم في أيدي العدالة ، فلن تقبل توبته ، لأنّه لم يتب واقعاً بل خوفاً من العقاب لا غير.

فالتّوبة التي لا تقبل من الباري تعالى ، هي التّوبة التي تخرج من شكلها الإختياري في مسيرة الإنسان.

وقال البعض : توجد ثلاثة موارد اخرى لا تقبل فيها التوبة :

الأول : «الشّرك» ، حيث يقول القرآن الكريم :( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) (٥) .

ولكن هذا الأمر يبتعد عن الصّواب والصّحة ، بل أنّ الآية لم تتكلم عن التّوبة ، ولكنّها تحدثت عن العفو عن المشرك من دون توبةٍ ، وإلّا فانّ كلّ الأشخاص قبل الإسلام ، تابوا من شركهم وقبلت توبتهم ، وكذلك كلّ من يدخل في الإسلام في عصرنا الحاضر ، فتوبته مقبولةٌ

__________________

١ ـ سورة النّساء ، الآية ١٨.

٢ ـ سورة يونس ، الآية ٩٠.

٣ ـ سورة يونس ، الآية ٩١.

٤ ـ سورة غافر ، الآية ٨٤ و ٨٥.

٥ ـ سورة النّساء ، الآية ٤٨.

١٩٥

عند جميع علماء المسلمين ، ولكن إذا مات المُشرك وهو على شِركه ، فلن يتوب الله تعالى عليه ، أمّا في حالة أن يموت على التّوحيد ، ولكنّه قد إرتكب ذنوباً في سالف حياته ، فمن الممكن أن يعفو عنه الله تعالى ، وهذا ما نستوحيه من مفهوم الآية الكريمة.

وخلاصة القول ، أنّ المشركين لن يشملهم العفو الإلهي المنفتح على الخلق ، بل هو للمؤمنين الموحّدين ، والتّوبة تغفر كلّ الذنوب حتى الشّرك.

ثانياً وثالثاً : يجب أن تكون التّوبة مُباشرةً بعد الذنب ، ولا تؤخّر إلى وقتٍ بعيدٍ ، وكذلك يجب أن يكون إرتكاب الذنب عن جهالةٍ لا عن عنادٍ ، ونقرأ في الآية (١٧) من سورة النساء :( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ) .

والجدير بالملاحظة ، أنّ كثيراً من المفسّرين ، حملوا هذه الآية على التّوبة الكاملة ، لأنّه من الطّبيعي ، عند ما يُذنب الإنسان من موقع العناد والغيّ ، ثم يتوجّه لحقيقة الحال ، ويندم على أفعاله السّابقة ، فإنّ الباري تعالى يتوب عليه ، وقد حدّثنا التأريخ عن نماذج كثيرةً وأفراداً كانوا في صفوف المُعاندين والأعداء ، ثم رجعوا عن غيّهم وتابوا ، وعادوا إلى حضيرة الإيمان والصّلاح.

ومن المعلوم حتماً ، لو أنّ الإنسان أمضى عمره بالذّنوب والعصيان ، ولكن تاب بعدها توبةً نصوحاً ، وتحول من دائرة المعصية والإثم ، إلى دائرة الطّاعة والإيمان ، فإنّ الله تعالى سيقبل توبته لا محالة.

ونقرأ في الحديث المشهور عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال :

«مَنْ تابَ إِلى اللهِ قَبْلَ مَوتِهِ بِسَنَةٍ تابَ اللهُ عَليهِ ، وَقَالَ : ألا وَسنَةُ كَثِيرَ ، مَنْ تابَ إِلى اللهِ قَبْلَ مَوتِهِ بِشَهْرٍ تابَ اللهُ عَلَيهِ ، وَقَالَ : شَهْرُ كَثِيرٌ ، مَنْ تابَ إِلى اللهِ قَبْلَ مَوتِهِ بِجُمْعَةٍ تابَ اللهُ عَلَيهِ ، قَالَ : وَجُمْعَةُ كَثيرٌ ، مَنْ تابَ إِلى اللهِ قَبْلَ مَوتِهِ بِساعَةٍ تابَ اللهُ عَلَيهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَساعَةُ كَثِيرٌ ، مَنْ تابَ إِلى اللهِ قَبْلَ أنْ يُغَرغِرَ بِالمَوتِ تابَ اللهُ عَلَيهِ» (١) .

__________________

(١) مستدرك الوسائل ، ج ١٢ ، ص ١٤٥ ، (باب صحة التوبة في آخر العمر ، ح ٥).

١٩٦

وطبعاً القصد منه ، التّوبة بجميع شرائطها ، فمثلاً إذا كان في عنقه حقوق الناس فعليه أن يوصي بها لمن هو بعده ، ثم يتوب بعدها.

وتوجد آياتٌ كثيرةٌ ، تدلّ على شمولية التوبة لجميع الذّنوب ، ومنها :

١ ـ نقرأ في الآية (٥٣) من سورة الزمر :( قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

٢ ـ نقرأ في الآية (٣٩) من سورة المائدة :( فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

٣ ـ نقرأ في الآية (٥٤) من سورة الأنعام :( أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

ففي هذه الآية نرى ، أنّ سوء العمل مطلقٌ ويشمل كلّ الذّنوب ، ومع ذلك فلا تُحجب عنه التّوبة وطريق العودة.

٤ ـ نقرأ في الآية (١٣٥) من سورة آل عمران :( وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .

وهنا الظّلم أيضاً يشمل جميع الذنوب ، لأنّ الظلم مرّة يقع على الغير واخرى على النفس ، ووعدت هذه الآية ، جميع المذنبين بالتّوبة عن جميع ذنوبهم وآثامهم ، في أطار الذّكر والإستغفار.

٥ ـ نقرأ في الآية (٣١) من سورة النّور ، حيث خاطبت جميع المؤمنين :( وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .

فكلمة «جميعاً» تدعو جميع المذنبين للتوبة ، ولو لا شموليّة وعموميّة التّوبة ، لما صحّت هذه الدّعوة القرآنية.

والجدير بالملاحظة ، أنّ الآيات المذكورة آنفاً ، مرّةً تؤكّد على الإسراف ، واخرى على الظّلم ، ومرّةً على سوء العمل ، والوعد الإلهي بالمغفرة لجميع هذه العناوين ، في حال إنضوائها

١٩٧

تحت عنوان التّوبة ، عن كل سوءٍ وظلمٍ وإسرافٍ يقترفه الإنسان ويتوب منه ، فإنّ الله تعالى سيتوب عليه.

ووردت رواياتٌ كثيرةٌ في هذا المجال ، في مصادر الفريقين ، السّنة والشّيعة ، وأنّ باب التّوبة مفتوح حتى اللّحظات الأخيرة من العُمر ، ما لم يرى الإنسان الموت بعينه.

ويمكن الرجوع إلى الرّوايات في كتبٍ ، مثل : بحار الأنوار(١) ، واصول الكافي(٢) ، والدرّ المنثور(٣) ، وكنز العمّال(٤) ، وتفسير الفخر الرازي(٥) ، وتفسير القُرطبي(٦) ، وتفسير روح البيان(٧) ، وتفسير روح المعاني(٨) . وكتب اخرى ، ويمكن القول أنّ هذا الحديث هو من الأحاديث المتواترة.

٤ ـ أركان التّوبة

كما نعلم ، أنّ حقيقة التّوبة هو الرّجوع إلى ساحة الباري تعالى ، والإقلاع عن العِصيان ، في ما لو كان ناشئاً من النّدم على ما سبق من الأعمال السّيئة ، ولازم النّدم هو العلم بأنّ الذنب يحيل بين المذنب والمحبوب الحقيقي ، ويترتب عليه العزم والتّصميم على عَدم العودة ، وعلى التّحرك لجبران ما فات ، ومحو آثار الذنوب السّابقة من باطن وجوده وخارجه ، ويتحرّك كذلك في دائرة إعادة الحقوق الباقية في ذمّته ، وأكّد القرآن الكريم ، في كثير من الآيات على هذا المعنى ، وجعل التّوبة مقارنةً للإصلاح :

١ ـ الآية (١٦٠) من سورة البقرة ، وبعد الإشارة إلى ذنب كتمان الآيات الإلهيّة وو العقاب الذي يترتب على ذلك قالت :( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ١٩ وج ٢ ، ص ٤٤٠.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٤٠.

٣ ـ الدرّ المنثور ، ج ٢ ، ص ١٣١.

٤ ـ كنز العمّال ، ح ١٠١٨٧ و ١٠٢٦٤.

٥ ـ تفسير الفخر الرازي ، ج ١٠ ، ص ٧ ، في ذيل الآية أعلاه.

٦ ـ تفسير القرطبي ، ج ٣ ، ص ١٦٦ ، في ذيل الآية أعلاه.

٧ ـ تفسير روح البيان ، ج ٢ ، ص ١٧٨ ، ذيل الآية أعلاه.

٨ ـ تفسير روح المعاني ، ج ٤ ، ص ٢٣٣.

١٩٨

٢ ـ الآية (٨٩) من سورة آل عمران ، وبعد إشارتها لمسألة الإرتداد وعقابها ، يقول تعالى :( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )

٣ ـ الآية (١٤٦) من سورة النساء ، وبعد إشارتها للمنافقين ، وعاقبة أمرهم السّيئة ، تذكر :( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ ) .

٤ ـ وفي الآية (٥) من سورة النّور ، وبعد ذكرها للعقوبة الشّديدة المترتبّة على القَذَف ، في الدنيا والآخرة ، ذكرت :( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

٥ ـ وبالتالي نرى عنصر التّوبة ، بمثابة قانون كلّي يستوعب في نطاقه جميع الذّنوب ، فقال تعالى في الآية (١١٩) من سورة النحل :( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

٦ ـ ورد شبيه لهذا المعنى ، في الآية (٨٢) من سورة طه :( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) .

وأشارت الآية الكريمة هنا ، بالإضافة إلى رُكني التّوبة الأساسييّن ، وهما : العودة إلى الله ، والعمل الصالح ، وجُبران الماضي ، ذكرت مسألة الإيمان والهداية.

والحقيقة أنّ الذنوب تقلل نور الإيمان في قلب الإنسان ، وتحرفه عن الطّريق ، وعليه فإنّه بالتّوبة يجدّد إيمانه وهدايته ، في نطاق إصلاح الباطن.

٧ ـ وورد في سورة الأنعام ، الآية (٤٥) ، معنى مشابه أيضاً :( أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وممّا ذكر من الآيات الآنفة ، تتضح لنا مسألة التّوبة بصورةٍ كاملةٍ ، فالتّوبة الحقيقيّةُ ليست بلفظ الإستغفار وحده ، والنّدم على ما مضى ، والإقلاع عنه في المستقبل ، بل تتعدّى إلى دائرة الإنفتاح على العمل ، لإصلاح كلّ التّقصيرات والمفاسد الّتي صدرت منه في السّالف ، ومحو آثارها من نفسه وروحه ومن المجتمع ، لتحصيل الطّهارة الكاملة في واقع الإنسان والحياة ، وطبعاً بالقدر الممكن.

فهذه هي التّوبة الحقيقيّة ، وليس الإستغفار وحده!.

١٩٩

والجدير بالذّكر أنّ كلمة «الإصلاح» ، ورد ذكرها دائماً بعد ذكر التّوبة ، كالآيات الآنفة الذّكر ، ومعناها واسعٌ يشمل كلّ ما فات ، من قصورٍ وتقصيرِ يُبعد الإنسان عن خطّ الإيمان ، ومنها :

١ ـ التّائب يجب أن يُؤدّي جميع الحقوق لُمستحقيها ، فإنّ كانوا أحياء فَبِها ، وإلّا فلورثتهم.

٢ ـ إذا كان قد تعامل مع الآخرين ، من موقع الإهانة والغيبة ، وغيرها من الامور السلبية في دائرة السلوك ، فيجب عليه طلب الحلية منهَ ورَدّ إعتباره ما دام الآخر يعيش في هذه الدنيا ، وإن كان قد وافاه الأجل ، فعليه أن يتحرّك على مستوى إرسال الثّواب لروحه ، كي ترضى.

٣ ـ أن يَقْضي ما فاته من العبادات : كالصّلاة والصّيام ودفع الكفارات.

٤ ـ نعلم أنّ ممارسة الخطيئة والوقوع في منحدر الذنوب ، يُظلم الرّوح ويسوّد القلب ، فعلى التّائب السّعي لتنوير قلبه بالطّاعة والعّبادة ، لتنفتح روحه على الله تعالى ، في أجواء الإيمان.

وأفضل وأكمل تفسير ورد لمعنى الإستغفار ، هو ما ورد عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، في كلماته القصار في نهج البلاغة :

قالعليه‌السلام لقائلٍ قال بحضرته :«أَسْتَغْفِرُ اللهَ» ـ وكان الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يعرف سوابقه وأعماله ـ«ثَكَلَتْكَ امُّكَ أَتدرِي مَا الاسْتِغْفارُ؟ الإسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ العِلِّيينَ ، وَهوَ إسمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعانٍ».

أَوَّلُها النَّدمُ عَلى مَا مَضى.

والثَّانِي العَزْمُ عَلَى تَرْكِ العَودِ إِلَيهِ أَبَداً.

والثَّالِثُ أنْ تُؤَدِّي إِلَى الَمخْلُوقِينَ حُقُوقَهُم حَتَّى تَلقَى اللهَ أَمْلَسَ لَيسَ عَلَيكَ تَبِعَةٌ.

الرّابِعُ أنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيكَ ضَيَّعْتَها فَتُؤَدِّيَ حَقَّها.

الخَامِسَ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالأحزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ الجِلْدَ بِالعَظمِ ، وَيَنْشَأَ بَينَهُما لَحْمٌ جَدِيدٌ.

والسَّادِسَ أَن تُذِيقَ الجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاوَةَ المَعْصِيَةِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ : «أَسْتَغْفِرُ اللهَ» (١) .

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٤١٧.

٢٠٠