مرآة العقول الجزء ١٠

مرآة العقول8%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 441

  • البداية
  • السابق
  • 441 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15348 / تحميل: 7684
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء ١٠

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الطعام والمال الذي يباع به الطعام فكذلك لا يخلو عن الحاجة إلى خادم يخدمه ورفيق يعينه وأستاد يعلمه وسلطان يحرسه ، ويدفع عنه ظلم الأشرار ، فحبه أن يكون له في قلب خادمه من المحل ما يدعوه إلى الخدمة ليس بمذموم ، وحبه لأن يكون له في قلب رفيقه من المحل ما يحسن به مرافقته ومعاونته ليس بمذموم ، وحبه لأن يكون في قلب أستاذه من المحل ما يحسن به إرشاده وتعليمه والعناية به ليس بمذموم ، وحبه لأن يكون له من المحل في قلب سلطانه ما يحثه ذلك على دفع الشر عنه ليس بمذموم ، فإن ألجأه وسيلة إلى الأغراض كالمال ، فلا فرق بينهما إلا أن التحقيق في هذا يفضي إلى أن لا يكون المال والجاه في أعيانهما محبوبين بل ينزل ذلك منزلة حب الإنسان أن يكون في داره بيت ماء لأنه يضطر إليه لقضاء حاجته وبوده(١) لو استغنى عن قضاء الحاجة حتى يستغني عن بيت الماء ، وهذا على التحقيق ليس بحب لبيت الماء ، فكل ما يراد به التوصل إلى محبوب فالمحبوب هو المقصود المتوسل إليه ، وتدرك التفرقة بمثال وهو أن الرجل قد يحب زوجته من حيث أنه يدفع بها فضلة الشهوة ، كما يدفع بيت الماء فضلة الطعام ، ولو كفى مؤنة الشهوة لكان يهجر زوجته كما لو كفى قضاء الحاجة لكان لا يدخل بيت الماء ولا يدور به ، وقد يحب زوجته لذاتها حب العشاق ولو كفى الشهوة لبقي مستصحبا لنكاحها ، فهذا هو الحب دون الأول ، فكذلك الجاه والمال قد يحب كل واحد منهما من هذين الوجهين فحبهما لأجل التوسل إلى مهمات البدن غير مذموم ، وحبهما لأعيانهما فيما يجاوز ضرورة البدن وحاجته مذموم ولكنه لا يوصف صاحبه بالفسق والعصيان ما لم يحمله الحب على مباشرة معصية ، وما لم يتوصل إلى اكتسابه بعبادة ، فإن التوصل إلى المال والجاه بالعبادة جناية على الدين وهو حرام ، وإليه يرجع معنى الرياء المخطور كما مر.

__________________

(١) كذا في نسخة المؤلّف (ره) وساير النسخ التي عندنا.

١٢١

فإن قلت : طلب الجاه والمنزلة في قلب أستاذه وخادمه ورفيقه وسلطانه ومن يرتبط به أمره مباح على الإطلاق كيف ما كان ، أو مباح إلى حد مخصوص أو على وجه مخصوص؟.

فأقول : يطلب ذلك على ثلاثة أوجه ، وجهان منها مباح ووجه منها مخطور أما المخطور فهو أن يطلب قيام المنزلة في قلوبهم باعتقادهم فيه صفة هو منفك عنها مثل العلم والورع والنسب فيظهر لهم أنه علوي أو عالم أو ورع ، ولا يكون كذلك فهذا حرام لأنه تلبيس وكذب إما بالقول وإما بالفعل ، وأما المباح فهو أن يطلب المنزلة بصفة هو متصف بها كقول يوسفعليه‌السلام : «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ » فإنه طلب المنزلة في قلبه بكونه حفيظا عليما ، وكان محتاجا إليه ، وكان صادقا فيه ، والثاني أن يطلب إخفاء عيب من عيوبه ومعصية من معاصيه ، حتى لا يعلمه فلا تزول منزلته به ، فهذا أيضا مباح ، لأن حفظ الستر على القبائح جائز ولا يجوز هتك الستر وإظهار القبيح ، فهذا ليس فيه تلبيس بل هو سد لطريق العلم بما لا فائدة في العلم به ، كالذي يخفى عن السلطان أنه يشرب الخمر ولا يلقى إليه أنه ورع ، فإن قوله : إني ورع تلبيس ، وعدم إقراره بالشرب لا يوجب اعتقاده الورع بل يمنع العلم بالشرب.

ومن جملة المخطورات تحسين الصلاة بين يديه لتحسن فيه اعتقاده ، فإن ذلك رياء وهو ملبس إذ يخيل إليه أنه من المخلصين الخاشعين لله ، وهو مرائي بما يفعله فكيف يكون مخلصا ، فطلب الجاه بهذا الطريق حرام ، وكذا بكل معصية ، وذلك يجري مجرى اكتساب المال من غير فرق ، وكما لا يجوز له أن يتملك مال غيره بتلبيس في عوض أو في غيره ، فلا يجوز له أن يتملك قلبه بتزوير وخداع ، فإن ملك القلوب أعظم من ملك الأموال.

١٢٢

٢ ـ عنه ، عن أحمد ، عن سعيد بن جناح ، عن أخيه أبي عامر ، عن رجل ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال من طلب الرئاسة هلك.

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن عبد الله بن مسكان قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون فو الله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك

٤ ـ عنه ، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع وغيره رفعوه قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام ملعون من ترأس ملعون من هم بها ملعون من حدث بها نفسه.

٥ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن أيوب ، عن أبي عقيلة الصيرفي قال حدثنا كرام ، عن أبي حمزة الثمالي قال قال لي أبو عبد الله

الحديث الثاني : مرسل.

الحديث الثالث : صحيح.

وقال الجوهري :رأس فلان القوم يرأس بالفتح رئاسة وهو رئيسهم ، ورأسته أنا ترئيسا فترأس هو وارتأس عليهم ، وقال :خفق الأرض بنعله وكل ضرب بشيء عريض : خفق.

أقول : وهذا أيضا محمول على الجماعة الذين كانوا في أعصار الأئمةعليهم‌السلام ويدعون الرئاسة من غير استحقاق ، أو تحذير عن تسويل النفس وتكبرها واستعلائها باتباع العوام ورجوعهم إليه ، فيهلك بذلك ويهلكهم بإضلالهم وإفتائهم بغير علم ، مع أن زلات علماء الجور مسرية إلى غيرهم ، لأن كل ما يرون منهم يزعمون أنه حسن فيتبعونهم في ذلك ، كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخاف على أمتي زلة عالم.

الحديث الرابع : مرفوع.

« من ترأس » أي ادعى الرئاسة بغير حق ، فإن التفعل غالبا يكون للتكليف.

الحديث الخامس : مجهول إذ في أكثر نسخ الكافي عن أبي عقيل وفي بعضها عنأبي عقيلة ، والظاهر أنه كان أيوب بن أبي غفيلة لأن الشيخ ذكر في الفهرست

١٢٣

عليه‌السلام إياك والرئاسة وإياك أن تطأ أعقاب الرجال قال قلت جعلت فداك أما الرئاسة فقد عرفتها وأما أن أطأ أعقاب الرجال فما ثلثا ما في يدي إلا مما وطئت أعقاب الرجال فقال لي ليس حيث تذهب إياك أن تنصب رجلا دون الحجة فتصدقه في كل ما قال.

٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن أبي الربيع الشامي ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال قال لي ويحك يا أبا الربيع لا تطلبن الرئاسة ولا تكن ذئبا ـ ولا تأكل بنا الناس فيفقرك الله ولا تقل فينا ما لا نقول في أنفسنا فإنك

الحسن بن أيوب بن أبي غفيلة ، وقال النجاشي : له كتاب أصل ، وكون كتابه أصلا ، عندي مدح عظيم فالخبر حسن موثق« إلا مما وطأت أعقاب الرجال. » أي مشيت خلفهم لأخذ الرواية عنهم ، فأجابعليه‌السلام بأنه ليس الغرض النهي عن ذلك ، بل الغرض النهي عن جعل غير الإمام المنصوب من قبل الله تعالى بحيث تصدقه في كل ما يقول ، وقيل : وطؤ العقب كناية عن الاتباع في الفعال ، وتصديق المقال واكتفى في تفسيره بأحدهما لاستلزامه الآخر غالبا.

الحديث السادس : مجهول.

« ولا تكن ذنبا » أي تابعا للجهال والمترئسين وعلماء السوء قال في النهاية : الأذناب الأتباع جمع ذنب كأنهم في مقابل الرؤوس ، وهم المقدمون وفي بعض النسخ ذئبا بالهمز ، فيكون تأكيدا للفقرة السابقة ، فإن رؤساء الباطل ذئاب يفترسون الناس ويهلكونهم من حيث لا يعلمون« ولا تأكل بنا الناس » أي لا تجعل انتسابك إلينا بالتشيع أو العلم أو النسب مثلا وسيلة لأخذ أموال الناس أو إضرارهم ، أو لا تجعل وضع الأخبار فينا وسيلة لأخذ أموال الشيعة« فيفقرك الله » على خلاف مقصودك« ما لا نقول في أنفسنا » كالربوبية والحلول والاتحاد ونسبة خلق العالم إليهم ، أو كونهم أفضل من نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو الأعم منها ومن التقصير في حقهم« فإنك موقوف »

١٢٤

موقوف ومسئول لا محالة فإن كنت صادقا صدقناك وإن كنت كاذبا كذبناك.

٧ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن منصور بن العباس ، عن ابن مياح ، عن أبيه قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول من أراد الرئاسة هلك.

٨ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن العلاء ، عن محمد بن مسلم قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول أترى لا أعرف خياركم من شراركم بلى والله وإن شراركم من أحب أن يوطأ عقبه إنه لا بد من كذاب أو عاجز الرأي.

أي يوم القيامة ومسئول عما قلت فينا لقوله تعالى : «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ »(١) وفي القاموس :لا محالة منه بالفتح لا بد منه.

الحديث السابع : ضعيف.

الحديث الثامن : صحيح.

« أترى » على المعلوم أو المجهول استفهام إنكار« أنه لا بد » قيل : الضمير اسم إن وراجع إلى أن يوطأ ، ولا بد جملة معترضة و« من كذاب » خبر إن ومن للابتداء أو الضمير للشأن ومن كذاب ظرف لغو متعلق بلا بد بتقدير لا بد لنا من كذاب ، وقيل : أي لا بد في الأرض من كذاب يطلب الرئاسة ومن عاجز الرأي يتبعه.

أقول : ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى الموصول ، والتقدير لا بد من أن يكون كذابا أوعاجز الرأي ، لأن الناس يرجعون إليه في المسائل والأمور المشكلة ، فإن أجابهم كان كذابا غالبا وإن لم يجبهم كان ضعيف العقل عندهم أو واقعا لأنه لا يتم ما أراد بذلك.

__________________

(١) سورة الصافّات : ٢٤.

١٢٥

(باب )

(اختتال الدنيا بالدين )

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن سنان ، عن إسماعيل بن جابر ، عن يونس بن ظبيان قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إن الله عز وجل يقول ويل للذين يختلون الدنيا بالدين وويل للذين «يَقْتُلُونَ الَّذِينَ

باب اختتال الدنيا بالدين

الحديث الأول : ضعيف على المشهور ، وعندي صحيح لأن ابن سنان وثقه المفيد وابن طاوس (ره) وابن ظبيان روى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من جامع البزنطي بسند صحيح عن الصادق أنه قال فيهرحمه‌الله : وبنى له بيتا في الجنة كان والله مأمونا على الحديث ، وهو يدل ثقته وجلالته ، والمشهور أنه ضعيف.

« ويل للذين يختلون الدنيا بالدين » أي العذاب والهلاك للذين يطلبون الدنيا بعمل الآخرة بالخديعة والمكر ، قال في النهاية : الويل الحزن والهلاك والمشقة من العذاب ، وقال فيه : من أشراط الساعة أن تعطل السيوف من الجهاد ، والمشقة من العذاب ، وقال فيه : من أشراط الساعة أن تعطل السيوف من الجهاد ، وأن تختل الدنيا بالدين ، أي تطلب الدنيا بعمل الآخرة ، يقال : ختله يختله إذا خدعه وراوغه وختل الذئب الصيد إذا تخفى له ، والختل الخداع ، وفي القاموس : ختله يختله ختلا وختلانا خدعه ، والذئب الصيد تخفى له ، وخاتله خادعه ، وتخاتلوا تخادعوا واختتل تسمع لسر القوم ، انتهى.

وبناء الافتعال المذكور في عنوان الباب لم أره بهذا المعنى في كتب اللغة ، وفي بعض النسخ اختيال بالياء وهو تصحيف« الذين يأمرون بالقسط » أي بالعدل وهم الأئمةعليهم‌السلام وخواص أصحابهم« يسير المؤمن » أن يعيش ويعمل مجازا« أبي

١٢٦

يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ » وويل للذين يسير المؤمن فيهم بالتقية أبي يغترون أم علي يجترءون فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تترك الحليم منهم حيران.

(باب )

(من وصف عدلا وعمل بغيره )

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن يوسف البزاز ، عن معلى بن خنيس ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام [ أنه ] قال إن [ من ] أشد الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ثم عمل بغيره.

يغترون » أي بسبب إمهالي ونعمتي يغفلون عن بطشي وعذابي ، من الاغترار بمعنى الغفلة ، ويحتمل أن يكون من الاغترار بمعنى الوقوع في الغرور والهلاك ، وقال تعالى : «ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ »(١) قال البيضاوي : أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه« يجترئون » بالهمز أو بدونه بقلب الهمزة ياء ثم إسقاط ضمها ثم حذفها لالتقاء الساكنين« لأتيحن » قال في النهاية فيه : فبي حلفت لأتيحنهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا يقال : أتاح الله لفلان كذا أي قدره له وأنزله به ، وتاح له الشيء ، والحليم ذو الحلم والأناة والتثبت في الأمور أو ذو العقل ، وتنوين حيرانا للتناسب وإنما خص بالذكر لأنه بكلي معنييه أبعد من الحيرة ، وذلك لأنه أصبر على الفتن والزلازل ، والحاصل أنه لا يجد العقلاء وذوا التثبت والتدبر في الأمور المخرج من تلك الفتنة.

باب من وصف عدلا وعمل بغيره

الحديث الأول : مختلف فيه.

__________________

(١) سورة الإنفطار : ٦.

١٢٧

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن قتيبة الأعشى ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنه قال إن [ من ] أشد الناس عذابا يوم القيامة من وصف عدلا وعمل بغيره.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال إن من أعظم الناس حسرة يوم القيامة

الحديث الثاني : ضعيف.

« من وصف عدلا » أي بين للناس أمرا حقا موافقا لقانون العدل أو أمرا وسطا غير مائل إلى إفراط أو تفريط ، ولم يعمل به أو وصف دينا حقا ولم يعمل بمقتضاه كما إذا ادعى القول بإمامة الأئمةعليهم‌السلام ولم يتابعهم قولا وفعلا ، ويؤيد الأول قوله تعالى : «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ »(١) وقوله سبحانه : «لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ »(٢) وما روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : مررت ليلة أسري بي بقوم تقرض شفاههم بمقارض من نار ، فقلت : من أنتم؟ قالوا : كنا نأمر بالخير ولا نأتيه وننهى عن الشر ونأتيه ، ومثله كثير.

الحديث الثالث : حسن كالصحيح.

وإنما كانت حسرته أشد لوقوعه في الهلكة مع العلم وهو أشد من الوقوع فيها بدونه ، ولمشاهدته نجاة الغير بقوله وعدم نجاته به ، وكان أشدية العذاب والحسرة بالنسبة إلى من لم يعلم ولم يعمل ولم يأمر ، لا بالنسبة إلى من علم ولم يفعل ولم يأمر ، لأن الهداية وبيان الأحكام وتعليم الجهال والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلها واجبة كما أن العمل واجب ، فإذا تركهما ترك واجبين ، وإذا ترك أحدهما ترك واجبا واحدا ، لكن الظاهر من أكثر الأخبار بل الآيات اشتراط الوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالعمل ، ويشكل التوفيق بينها وبين سائر الآيات والأخبار الدالة على وجوب الهداية والتعليم ، والنهي عن كتمان العلم ، وعلى أي

__________________

(١) سورة البقرة : ٤٤.

(٢) سورة الصفّ : ٢.

١٢٨

من وصف عدلا ثم خالفه إلى غيره.

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن الحسين بن إسحاق ، عن علي بن مهزيار ، عن عبد الله بن يحيى ، عن ابن مسكان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال في قول الله عز وجل «فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ »(١) قال يا أبا بصير هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره.

حال الظاهر أنها لا تشمل ما إذا كان له مانع من الإتيان بالنوافل مثلا ، ويبين للناس فضلها ، وأمثال ذلك وسنعيد الكلام في ذلك في محل آخر إنشاء الله تعالى.

الحديث الرابع : مجهول.

«فَكُبْكِبُوا » أقول : قبلها في الشعراء «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ، وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ » وفسر المفسرون ما كنتم تعبدون بآلهتهم «فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ » قالوا : أي الآلهة وعبدتهم والكبكبة تكرير الكب لتكرير معناه كان من ألقي في النار ينكب مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها ، وقد مر تفسير الآيات في الباب الذي بعد باب أن الإسلام قبل الإيمان.

قوله عليه‌السلام : هم قوم ، أي ضمير « هم » المذكور في الآية راجع إلى قوم ، أو « هم » ضمير راجع إلى مدلول « هم » في الآية ، والمعنى أن المراد بالمعبودين في بطن الآية المطاعون في الباطل كقوله تعالى : «أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ »(٢) وهم قوموصفوا الإسلام ولم يعملوا بمقتضاه كالغاصبين للخلافة حيث ادعوا الإسلام وخالفوا الله ورسوله في نصب الوصي ، وتبعهم جماعة وهم الغاوون أو وصفوا الإيمان وادعوا اتصافهم به ، وخالفوا الأئمة الذين ادعوا الإيمان بهم وغيروا دين الله وأظهروا البدع فيه ، وتبعهم الغاوون ، ويحتمل أن يكون هم راجعا إلى الغاوين ، فهم في الآية راجع إلى عبدة

__________________

(١) سورة الشعراء : ٩٤.

(٢) سورة يس : ٦٠.

١٢٩

٥ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن أبي عمير ، عن علي بن عطية ، عن خيثمة قال قال لي أبو جعفرعليه‌السلام أبلغ شيعتنا أنه لن ينال ما عند الله إلا بعمل وأبلغ شيعتنا أن أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ثم يخالفه إلى غيره.

(باب )

(المراء والخصومة ومعاداة الرجال )

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال أمير المؤمنينعليه‌السلام إياكم والمراء والخصومة فإنهما يمرضان

الأوثان أو معبودهم أيضا ، لكنه بعيد عن سياق الآيات السابقة ، وقال علي بن إبراهيم بعد نقل هذه الرواية مرسلا عن الصادقعليه‌السلام : وفي خبر آخر قال : هم بنو أمية والغاوون بنو فلان أي بنو العباس.

الحديث الخامس : مجهول.

وخيثمة بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء وفتح المثلثة «ما عِنْدَ اللهِ » أي من المثوبات والدرجات والقربات.

باب المراء والخصومة ومعاداة الرجال

الحديث الأول : ضعيف.

والمراء بالكسر مصدر باب المفاعلة وقيل : هو الجدال والاعتراض على كلام الغير من غير غرض ديني ، وفي مفردات الراغب : الامتراء والمماراة المحاجة فيما فيه مرية ، وهي التردد في الأمر ، وفي النهاية فيه : لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر ، المراء الجدال والتماري والمماراة المجادلة على مذهب الشك والريبة ، ويقال للمناظرة مماراة ، لأن كل واحد منهما يستخرج

١٣٠

ما عند صاحبه ويمتريه ، كما يمتري الحالب اللبن من الضرع ، قال أبو عبيد : ليس وجه الحديث عندنا على الاختلاف في التأويل ، ولكنه على الاختلاف في اللفظ وهو أن يقول الرجل على حرف فيقول الآخر : ليس هو هكذا ، ولكنه على خلافه وكلاهما منزل مقروء بهما ، فإذا جحد كل واحد منهما قراءة صاحبه لم يؤمن أن يكون يخرجه ذلك إلى الكفر لأنه نفى حرفا أنزله الله على نبيه وقيل : إنما جاء هذا في الجدال والمراء في الآيات التي فيها ذكر القدر ونحوه من المعاني على مذهب أهل الكلام وأصحاب الأهواء والآراء دون ما تضمنت من الأحكام وأبواب الحلال والحرام لأن ذلك قد جرى بين الصحابة ومن بعدهم من العلماء ، وذلك فيما يكون الغرض منه والباعث عليه ظهور الحق ليتبع دون الغلبة والتعجيز والله أعلم.

وقال : فيه : ما أوتي الجدل قوم إلا ضلوا ، الجدل مقابلة الحجة بالحجة والمجادلة المناظرة والمخاصمة والمراد به في الحديث الجدل على الباطل ، وطلب المغالبة به ، فأما المجادلة لإظهار الحق فإن ذلك محمود ، لقوله تعالى : «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ »(١) .

وقال الراغب :الخصم مصدر خصمته أي نازعته خصما يقال : خصمته وخاصمته مخاصمة وخصاما ، وأصل المخاصمة أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر أي جانبه ، وأن يجذب كل واحد خصم الجوالق من جانب.

وأقول : هذه الألفاظ الثلاثة متقاربة المعنى ، وقد ورد النهي عن الجميع في الآيات والأخبار وأكثر ما يستعمل المراء والجدال في المسائل العلمية ، والمخاصمة في الأمور الدنيوية ، وقد يخص المراء بما إذا كان الغرض إظهار الفضل والكمال ،

__________________

(١) سورة النحل : ١٢٥.

١٣١

القلوب على الإخوان وينبت عليهما النفاق

والجدال بما إذا كان الغرض تعجيز الخصم وذلته ، وقيل : الجدل في المسائل العلمية والمراء أعم ، وقيل : لا يكون المراء إلا اعتراضا بخلاف الجدال فإنه يكون ابتداء واعتراضا ، والجدل أخص من الخصومة يقال : جدل الرجل من باب علم فهو جدل إذا اشتدت خصومته ، وجادل مجادلة وجدالا إذا خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب ، والخصومة لا تعتبر فيها الشدة ولا الشغل وقال الغزالي : يندرج في المراء كل ما يخالف قول صاحبه مثل أن يقول هذا حلو فيقول هذا مر ، أو يقول : من كذا إلى كذا فرسخ ، فيقول ليس بفرسخ أو يقول شيئا فتقول أنت أحمق أو أنت كاذب ، ويندرج في الخصومة كل ما يوجب تأذي خاطر الآخر وترداد القول بينهما ، وإذا اجتمعا يمكن تخصيص المراء بالأمور الدينية والخصومة بغيرها أو بالعكس.

« فإنهما يمرضان القلوب على الإخوان » أي يغيرانها بالعداوة والغيظ ، وإنما عبر عنها بالمرض لأنها توجب شغل القلب وتوزع البال وكثرة التفكر وهي من أشد المحن والأمراض ، وأيضا توجب شغل القلب عن ذكر الله وعن حضور القلب في الصلاة ، وعن التفكر في المعارف الإلهية وخلوها عن الصفات الحسنة وتلوثها بالصفات الذميمة وهي أشد الأمراض النفسانية والأدواء الروحانية ، كما قال تعالى : «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ »(١) .

« وينبت عليهما النفاق » أي التفاوت بين ظاهر كل واحد منهما وباطنه بالنسبة إلى صاحبه ، وهذا نفاق ، أو النفاق مع الرب تعالى أيضا إذا كان في المسائل الدينية فإنهما يوجبان حدوث الشكوك والشبهات في النفس والتصلب في الباطل للغلبة على الخصم بل في الأمور الدنيوية أيضا بالإصرار على مخالفة الله تعالى ،

__________________

(١) سورة البقرة : ١٠.

١٣٢

وكل ذلك من دواعي النفاق.

فإن قيل : هذا ينافي ما ورد في الآيات والأخبار من الأمر بهداية الخلق والذب عن الحق ودفع الشبهات عن الدين وقطع حجج المبطلين وقال تعالى : «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ »(١) وقال : «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ »(٢) .

قلت : هذه الأخبار محمولة على ما إذا كان الغرض محض إظهار الفضل أو الغلبة على الخصم أو التعصب وترويج الباطل ، أو على ما إذا كان مع عدم القدرة على الغلبة وإظهار الحق وكشفه ، فيصير سببا لمزيد رسوخ الخصم في الباطل ، أو على ما إذا أراد إبطال الباطل بباطل آخر ، أو مع إمكان الهداية باللين واللطف يتعدى إلى الغلظة والخشونة المثيرتان للفتن أو بترك التقية في زمنها ، وأما مع عدم التقية والقدرة على تبيين الحق فالسعي في إظهار الحق وإحيائه وإماتة الباطل بأوضح الدلائل وبالتي هي أحسن مع تصحيح النية في ذلك من غير رياء ولا مراء فهو من أعظم الطاعات ، لكن للنفس والشيطان في ذلك طرق خفية ينبغي التحرز عنها والسعي في الإخلاص فيه أهم من سائر العبادات.

ويدل على ما ذكرنا ما ذكره الإمام أبو محمد العسكريعليه‌السلام في تفسيره(٣) قال : ذكر عند الصادقعليه‌السلام الجدال في الدين وأن رسول الله والأئمة المعصومينعليهم‌السلام قد نهوا عنه ، فقال الصادقعليه‌السلام : لم ينه عنه مطلقا لكنه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن ، أما تسمعون الله يقول : «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » وقوله تعالى : «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ

__________________

(١) سورة النحل : ١٢٥.

(٢) سورة العنكبوت : ٤٦.

(٣) كتاب التفسير منسوب الى الإمامعليه‌السلام وفي صحة هذا الانتساب أيضا كلام ذكره الأستاد الشعرانى (ره) في مقدّمة تفسير مجمع البيان فراجع.

١٣٣

وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين والجدال بغير التي هي أحسن محرم حرمه الله تعالى على شيعتنا وكيف يحرم الله الجدال جملة وهو يقول : «وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى »(١) قال الله تعالى : «تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » فجعل علم الصدق والإيمان بالبرهان ، وهل يؤتى بالبرهان إلا في الجدال بالتي هي أحسن ، قيل : يا ابن رسول الله فما الجدال بالتي هي أحسن والتي ليست بأحسن؟ قال : أما الجدال بغير التي هي أحسن أن تجادل مبطلا فيورد عليك باطلا فلا ترده بحجة قد نصبها الله تعالى ، ولكن تجحد قوله أو تجحد حقا يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة ، لأنك لا تدري كيف المخلص منه ، فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين ، أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف ما في يده حجة له على باطله ، وأما الضعفاء منكم فتغم قلوبهم لما يرون من ضعف المحق في يد المبطل.

وأما الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى به نبيه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحيائه له فقال الله حاكيا عنه : «وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ »(٢) فقال الله في الرد عليهم : «قُلْ » يا محمد «يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ » فأراد الله من نبيه أن يجادل المبطل الذي قال كيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم؟ فقال الله تعالى «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ » ، أفيعجز من ابتدأ به لا من شيء أن يعيده بعد أن يبلى ، بل ابتداءه

__________________

(١) سورة البقرة : ١١١.

(٢) سورة يس : ٧٨.

١٣٤

أصعب عندكم من إعادته ثم قال : «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً » أي إذا كمن النار الحارة في الشجر الأخضر الرطب يستخرجها فعرفكم أنه على إعادة ما بلى أقدر ، ثم قال : «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ » أي إذا كان خلق السماوات والأرض أعظم وأبعد في أوهامكم وقدركم أن تقدروا عليه من إعادة البالي ، فكيف جوزتم من الله خلق هذا الأعجب عندكم والأصعب لديكم ولم تجوز أما هو أسهل عندكم من إعادة البالي.

قال الصادقعليه‌السلام : فهذا الجدال بالتي هي أحسن ، لأن فيها قطع عذر الكافرين وإزالة شبههم وأما الجدال بغير التي هي أحسن بأن تجحد حقا لا يمكنك أن تفرق بينه وبين باطل من تجادله ، وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحق فهذا هو المحرم لأنك مثله ، جحد هو حقا وجحدت أنت حقا آخر ، فقال : قام إليه رجل فقال : يا ابن رسول الله أفجادل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فقال الصادقعليه‌السلام : مهما ظننت برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من شيء فلا تظن به مخالفة الله أو ليس الله تعالى قال : «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » وقال : «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ » لمن ضرب الله مثلا أفتظن أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خالف ما أمره الله به فلم يجادل بما أمره الله ولم يخبر عن الله بما أمره أن يخبر به.

وروى أبو عمرو الكشي بإسناده عن عبد الأعلى قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام إن الناس يعيبون علي بالكلام وأنا أكلم الناس فقال : أما مثلك من يقع ثم يطير فنعم ، وأما من يقع ثم لا يطير فلا.

وروي أيضا بإسناده عن الطيار قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام بلغني أنك كرهت مناظرة الناس؟ فقال : أما مثلك فلا يكره ، من إذا طار يحسن أن يقع وإن وقع يحسن أن يطير ، فمن كان هكذا لا نكرهه.

١٣٥

٢ ـ وبإسناده قال قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاث من لقي الله عز وجل بهن دخل الجنة من أي باب شاء من حسن خلقه وخشي الله في المغيب والمحضر وترك المراء وإن كان محقا.

وبإسناده أيضا عن هشام بن الحكم قال : قال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام : ما فعل ابن الطيار؟ قال : قلت : مات ، قال :رحمه‌الله ولقاه نضرة وسرورا فقد كان شديد الخصومة عنا أهل البيت.

وبإسناده أيضا عن أبي جعفر الأحول عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : قال : ما فعل ابن الطيار؟ فقلت : توفي ، فقال :رحمه‌الله أدخل الله عليه الرحمة والنضرة فإنه كان يخاصم عنا أهل البيت.

وبإسناده أيضا عن نضر بن الصباح قال : كان أبو عبد اللهعليه‌السلام يقول لعبد الرحمن ابن الحجاج : يا عبد الرحمن كلم أهل المدينة فإني أحب أن يرى في رجال الشيعة مثلك.

وبإسناده أيضا عن محمد بن حكيم قال : ذكر لأبي الحسنعليه‌السلام أصحاب الكلام ، فقال : أما ابن حكيم فدعوه.

فهذه الأخبار كلها مع كون أكثرها من الصحاح تدل على تجويز الجدال والخصومة في الدين على بعض الوجوه ولبعض العلماء ، ويؤيد بعض الوجوه التي ذكرناها في الجمع.

الحديث الثاني : كالأول.

« من لقي الله بهن » أي كن معه إلى الموت أو في المحشر« من أي باب شاء » كأنه مبالغة في إباحة الجنة له ، وعدم منعه منها بوجه« في المغيب والمحضر » أي يظهر فيه آثار خشية الله بترك المعاصي في حال حضور الناس وغيبتهم ، وقيل : أي عدم ذكر الناس بالشر في الحضور والغيبة والأول أظهر« وإن كان محقا »

١٣٦

٣ ـ وبإسناده قال من نصب الله غرضا للخصومات أوشك أن يكثر الانتقال.

قد مر أنه لا ينافي وجوب إظهار الحق في الدين ولا ينافي أيضا جواز المخاصمة لأخذ الحق الدنيوي لكن بدون التعصب وطلب الغلبة ، وترك المداراة بل يكتفي بأقل ما ينفع في المقامين بدون إضرار وإهانة وإلقاء باطل كما عرفت.

الحديث الثالث : كالسابق أيضا.

« من نصب الله » النصب الإقامة ، والغرض بالتحريك الهدف ، قال في المصباح :الغرض الهدف الذي يرمي إليه ، والجمع أغراض ، وقولهم : غرضه كذا على التشبيه بذلك ، أي مرماه الذي يقصده ، انتهى.

وهنا كناية عن كثرة المخاصمة في ذات الله سبحانه وصفاته فإن العقول قاصرة عن إدراكها ، ولذا نهى عن التفكر فيها كما مر في كتاب التوحيد ، وكثرة التفكر والخصومة فيها يقرب الإنسان من كثرة الانتقال من رأي إلى رأي لحيرة العقول فيها وعجزها عن إدراكها ، كما ترى من الحكماء والمتكلمين المتصدين لذلك ، فإنهم سلكوا مسالك شتى ، والاكتفاء بما ورد في الكتاب والسنة وترك الخوض فيها أحوط وأولى ، ويحتمل أن يكون المراد الانتقال من الحق إلى الباطل ، ومن الإيمان إلى الكفر ، فإن الجدال في الله والخوض في ذاته وكنه صفاته يورثان الشكوك والشبه ، قال الله تعالى : «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ »(١) وقال جل شأنه «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ »(٢) . «إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ » إلى غير ذلك من الآيات في ذلك.

وأوشك من أفعل المقاربة بمعنى القرب والدنو ، ومنهم من ذهب هنا إلى ما يترتب على مطلق الخصومة مع الخلق وقال :الانتقال التحول من حال إلى

__________________

(١) سورة : الحجّ ٨.

(٢) سورة الأنعام : ٦٨.

١٣٧

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن صالح بن السندي ، عن جعفر بن بشير ، عن عمار بن مروان قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام لا تمارين حليما ولا سفيها فإن الحليم يقليك والسفيه يؤذيك.

٥ ـ علي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن الحسن بن عطية ، عن عمر بن يزيد ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما كاد جبرئيلعليه‌السلام يأتيني

جال ، كالتحول من الخير إلى الشر ومن حسن الأفعال إلى قبح الأعمال المقتضية لفساد النظام ، وزوال الألفة والالتئام ، وقيل : المراد كثرة الحلف بالله في الدعاوي والخصومات فإنه أوشك أن ينتقل مما حلف عليه إلى ضده ، خوفا من العقاب فيفتضح بذلك ولا يخفى ما فيهما.

الحديث الرابع : مجهول.

والحليم يحتمل المعنيين المتقدمين أي العاقل ، والمتثبت المتأني في الأمور والسفيه يحتمل مقابليهما ، والمعنيان متلازمان غالبا وكذا مقابلاهما ، والحاصل أن العاقل الحازم المتأني في الأمور لا يتصدى للمعارضة ، ويصير ذلك سببا لأن يبطن في قلبه العداوة ، والأحمق المتهتك يعارض ويؤذي ، في القاموسقلاه كرماه ورضيه قلى وقلاء ومقلية ، أبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه ، أو قلاه في الهجر وقليه في البغض.

الحديث الخامس : حسن كالصحيح.

« ما كاد » في القاموس كاد يفعل كذا : قارب وهم ، وفي بعض النسخ ما كان وفي الأول المبالغة أكثر أي لم يقرب إتيانه إلا قال ، والشحناء بالفتح البغضاء والعداوة ، والإضافة إلى المفعول أي العداوة مع الرجال ، ويحتمل الفاعل أيضا أي العداوة الشائعة بين الرجال والأول أظهر ، وعداوتهم تأكيد ، أو المراد بالأول فعل ما يوجب العداوة أو إظهارها قال في المصباح : الشحناء العداوة والبغضاء ، وشحنت عليه شحنا من

١٣٨

إلا قال يا محمد اتق شحناء الرجال وعداوتهم.

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن الحسن بن الحسين الكندي ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال جبرئيلعليه‌السلام ـ للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إياك وملاحاة الرجال.

٧ ـ عنه ، عن عثمان بن عيسى ، عن عبد الرحمن بن سيابة ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال إياكم والمشارة فإنها تورث المعرة وتظهر المعورة.

٨ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن محبوب ، عن عنبسة

باب تعب حقدت وأظهرت العداوة ومن باب نفع لغة.

الحديث السادس : صحيح.

وقال في النهاية : فيه نهيت عنملاحاة الرجال أي مقاولتهم ومخاصمتهم ، يقال : لحيت الرجل ألحاه إذا لمته وعذلته ، ولاحيته ملاحاة ولحاء إذا نازعته.

الحديث السابع : مجهول.

وفي النهاية : فيه :لا تشار أخاك هو تفاعل من الشر أي لا تفعل به شرا يحوجه إلى أن يفعل بك مثله ، ويروى بالتخفيف وفي الصحاح المشارة المخاصمة.

« فإنها تورث المعرة » قال في القاموس : المعرة الإثم والأذى والغرم والدية والخيانة« تظهر العورة » أي العيوب المستورة ، وقال الجوهري : العورة سوءة الإنسان وكل ما يستحيي منه ، وفي بعض النسخ المعورة اسم فاعل من أعور الشيء إذا صار ذا عوار أو ذا عورة وهي العيب والقبيح وكل شيء يستره الإنسان أنفه أو حياءا فهو عورة ، والمراد بها هنا القبيح من الأخلاق والأفعال ، وعلى النسختين المراد ظهور قبائحه وعيوبه أما نفسه فإنه عند المشاجرة والغضب لا يملكها فيبدو منه ما كان يخفيه أو من خصمه فإن الخصومة سبب لإظهار الخصم قبح خصمه لينتقص منه ويضع قدره بين الناس.

الحديث الثامن : صحيح.

١٣٩

العابد ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال إياكم والخصومة فإنها تشغل القلب وتورث النفاق وتكسب الضغائن.

٩ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن الحسن بن عطية ، عن عمر بن يزيد ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما كاد جبرئيلعليه‌السلام يأتيني إلا قال يا محمد اتق شحناء الرجال وعداوتهم.

١٠ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن مهران ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما أتاني جبرئيلعليه‌السلام قط إلا وعظني فآخر قوله لي إياك ومشارة الناس فإنها تكشف العورة وتذهب بالعز.

« فإنها تشغل القلب » عن ذكر الله وبالتفكر في الشبه والشكوك والحيل لدفع الخصم ، وبالغم والهم أيضا ، والضغائن جمع الضغينة وهي الحقد ، وتضاغنوا انطووا على الأحقاد.

الحديث التاسع : حسن كالصحيح وقد مر بعينه سندا ومتنا وكأنه من النساخ.

الحديث العاشر : مجهول.

وروى الشيخ في مجالسه عن الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إياكم ومشارة الناس فإنها تظهر العرة وتدفن الغرة ، الأولى بالعين المهملة والثانية بالمعجمة وكلاهما مضمومتان ، وروت العامة أيضا من طرقهم هكذا ، قال في النهاية فيه إياكم ومشارة الناس فإنها تدفن الغرة وتظهر العرة ،الغرة هيهنا الحسن والعمل الصالح شبهه بغرة الفرس وكل شيء ترفع قيمته فهو غرة ، والعرة هي القذر وعذرة الناس فاستعير للمساوئ والمثالب.

١٤٠

١١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ومحمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان جميعا ، عن ابن أبي عمير ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن الوليد بن صبيح قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما عهد إلي جبرئيلعليه‌السلام في شيء ما عهد إلي في معاداة الرجال.

١٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن بعض أصحابه رفعه قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام من زرع العداوة حصد ما بذر.

(باب الغضب )

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل.

الحديث الحادي عشر : حسن أو موثق.

وكلمة« ما » في الأولى نافية وفي الثانية مصدرية والمصدر مفعول مطلق للنوع ، والمراد هنا المداراة مع المنافقين من أصحابه كما فعلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو مع الكفار أيضا قبل الأمر بالجهاد ، أو الغرض بيان ذلك للناس.

الحديث الثاني عشر : مرفوع.

« حصد ما بذر » في الصحاح بذرت البذر زرعته أي العداوة مع الناس كالبذر يحصد منه مثله وهو عداوة الناس له.

باب الغضب

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

« كما يفسد الخل العسل » أي إذا أدخل الخل العسل ذهبت حلاوته وخاصيته وصار المجموع شيئا آخر ، فكذا الإيمان إذا دخله الغضب فسد ولم يبق على صرافته

١٤١

وتغيرت آثاره ، فلا يسمى إيمانا حقيقة ، أو المعنى أنه إذا كان طعم العسل في الذائقة فشرب الخل ذهبت تلك الحلاوة بالكلية فلا يجد طعم العسل ، فكذا الغضب إذا ورد على صاحب الإيمان لم يجد حلاوته وذهبت فوائده ، قال بعض المحققين : الغضب شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة إلا أنها لا تطلع إلا على الأفئدة وأنها لمستكنة في طي الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد ، ويستخرجها الكبر الدفين من قلب كل جبار عنيد ، كما يستخرج الحجر النار من الحديد ، وقد انكشف للناظرين بنور اليقين أن الإنسان ينزع منه عرق إلى الشيطان اللعين فمن أسعرته نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان ، حيث قال : «خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » فمن شأن الطين السكون والوقار ، ومن شأن النار التلظي والاستعار ، والحركة والاضطراب والاصطهار ، ومنه قوله تعالى : «يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ »(١) ومن نتائج الغضب الحقد والحسد ، وبهما هلك من هلك وفسد من فسد.

ثم قال : اعلم أن الله تعالى لما خلق الإنسان معرضا للفساد والموتان بأسباب خارجة منه أنعم عليه بما يحميه الفساد ويدفع عنه الهلاك إلى أجل معلوم سماه في كتابه ، أما السبب الداخل فإنه ركبه من الرطوبة والحرارة ، وجعل بين الحرارة والرطوبة عداوة ومضادة ، فلا تزال الحرارة تحلل الرطوبة وتجففها وتبخرها حتى يتفشى أجزاؤها بخارا يتصاعد منها ، فلو لم يتصل بالرطوبة مدد من الغذاء بجبر ما انحل وتبخر من أجزائها لفسد الحيوان ، فخلق الله الغذاء الموافق لبدن الحيوان وخلق في الحيوان شهوة تبعثه على تناول الغذاء كالموكل به في جبر ما انكسر وسد ما انثلم ليكون حافظا له من الهلاك بهذا الأسباب ، وأما الأسباب الخارجة التي يتعرض لها الإنسان فكالسيف والسنان وسائر المهلكات التي يقصد بها ، فافتقر إلى

__________________

(١) سورة الحجّ : ٢٠.

١٤٢

قوة وحمية تثور من باطنه ، فيدفع المهلكات عنه فخلق الله الغضب من النار ، وغرزه في الإنسان وعجنه بطينته ، فمهما قصد في غرض من أغراضه ومقصود من مقاصده اشتعلت نار الغضب وثارت ثورانا يغلي به دم القلب ، وينتشر في العروق ، ويرتفع إلى أعالي البدن كما يرتفع النار ، وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر ، ولذلك ينصب إلى الوجه فيحمر الوجه والعين ، والبشرة بصفائها تحكي لون ما ورائها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها ، وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه ، فإن صدر الغضب على من هو فوقه وكان معه يأس من الانتقام تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب ، وصار حزنا ، ولذلك يصفر اللون وإن كان الغضب على نظير يشك فيه تولد منه تردد بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ويضطرب.

وبالجملة فقوة الغضب محلها القلب ومعناها غليان دم القلب لطلب الانتقام ، وإنما يتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها ، وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها ، والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها ، وفيه لذتها ولا تسكن إلا به.

ثم الناس في هذه القوة على درجات ثلاث في أول الفطرة وبحسب ما يطرء عليها من الأمور الخارجة من التفريط والإفراط والاعتدال ، أما التفريط فبفقد هذه القوة أو ضعفها بأن لا يستعملها فيما هو محمود عقلا وشرعا ، مثل دفع الضرر عن نفسه على وجه سائغ ، والجهاد مع الأعداء والبطش عليهم وإقامة الحدود على الوجه المعتبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فتحصل فيه ملكة الجبن بل ينتهي إلى عدم الغيرة على حرمه وأشباه ذلك.

وهذا مذموم معدود من الرذائل النفسانية وقد وصف الله تعالى الصحابة

١٤٣

٢ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن ابن فضال ، عن علي بن عقبة ، عن أبيه ، عن ميسر قال ذكر الغضب عند أبي جعفرعليه‌السلام فقال إن الرجل ليغضب فما يرضى أبدا حتى يدخل النار فأيما رجل غضب على قوم وهو قائم

بالشدة والحمية فقال : «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ »(١) وقال تعالى : «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ »(٢) وإنما الغلظة والشدة من آثار قوة الحمية وهو الغضب وأما الإفراط فهو الإقدام على ما ليس بجميل واستعمالها فيما هو مذموم عقلا وشرعا مثل الضرب والبطش والشتم والنهب والقتل والقذف وأمثال ذلك فيما لا يجوزه العقل والشرع.

وأما الاعتدال فهو غضب ينتظر إشارة العقل والدين فينبعث حيث تجب الحمية وينطفئ حيث يحسن الحلم ، وحفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله تعالى بها عباده ، وهو الوسط الذي وصفه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : خير الأمور أوساطها ، فمن مال غضبه إلى الفتور حتى أحس نفسه ضعف الغيرة وخمسة النفس واحتمال الذل والضيم في غير محله فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه ، ومن مال غضبه إلى الإفراط حتى جره إلى التهور واقتحام الفواحش فينبغي أن يعالج نفسه ليسكن من ثورة الغضب ويقف على الوسط الحق بين الطرفين ، فهو الصراط المستقيم وهو أدق من الشعر وأحد من السيف ، فينبغي أن يسعى في ذلك بحسب جهده ويتوسل إلى الله تعالى في أن يوفقه لذلك.

الحديث الثاني : حسن.

« فيما يرضى أبدا » فيه تنبيه على أنه ينبغي أن لا يغضب وإن غضب لا يستمر عليه بل يعالجه قريبا بالسعي في الرضا عنه إذ لو استمر عليه اشتد غضبه آنا فآنا وشيئا فشيئا إلى أن يصدر عنه ما يوجب دخوله النار كالقتل والجرح وأمثالهما ، أو

__________________

(١) سورة الفتح : ٢٩.

(٢) سورة التوبة. ٧٣.

١٤٤

فليجلس من فوره ذلك فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان وأيما رجل غضب على ذي رحم فليدن منه فليمسه فإن الرحم إذا مست سكنت.

يصير الغضب له عادة وخلقا فلا يمكنه تركه حتى يدخل بسببه النار.

واعلم أن علاج الغضب أمران : علمي وفعلي أما العلمي فبأن يتفكر في الآيات والروايات التي وردت في ذم الغضب ومدح كظم الغيظ والعفو والحلم ويتفكر في توقعه عفو الله عن ذنبه وكف غضبه عنه ، وأما الفعلي فذكرعليه‌السلام هنا أمران : الأولقوله « فأيما رجل » ما زائدة« من فوره » كان من بمعنى في ، وقال الراغب : الفور شدة الغليان ، ويقال ذلك في النار نفسها إذا هاجت وفي القدر وفي الغضب ويقال فعلت كذا من فوري أي في غليان الحال وقبل سكون الأمر.

وقال البيضاوي في قوله تعالى : «وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا »(١) أي من ساعتهم هذه ، وهو في الأصل مصدر فارت القدر إذا غلت فاستعير للسرعة ثم أطلق للحال التي لا ريث فيها ولا تراخي ، والمعنى أن يأتوكم في الحال ، وقال في المصباح : فار الماء يفور فورا نبع وجرى ، وفارت القدر فورا وفورانا ، وقولهم الشفعة على الفور من هذا ، أي على الوقت الحاضر الذي لا تأخير فيه ثم استعمل في الحالة التي لا بطؤ فيها يقال : جاء فلان في حاجته ثم رجع من فوره أي حركته التي وصل فيها ولم يسكن بعدها ، وحقيقته أن يصل ما بعد المجيء بما قبله من غير لبث ، انتهى.

وضمير فوره للرجل ، وقيل : للغضب والأول أنسب بالآية ، و« ذلك » صفة فوره« فإنه سيذهب » كيمنع والرجز فاعله ، أو على بناء الأفعال والضمير المستتر فاعله وراجع إلى مصدر فليجلس والرجز مفعوله ، وفي النهاية الرجز بكسر الراء العذاب والإثم والذنب ، ورجز الشيطان وساوسه ، انتهى.

وذهاب ذلك بالجلوس مجرب كما أن من جلس عند حملة الكلب وجده ساكنا لا يحوم حوله ، وفيه سر لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم ، وربما

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٢٥.

١٤٥

يقال : السر فيه هو الإشعار بأنه من التراب وعبد ذليل لا يليق به الغضب ، أو التوسل بسكون الأرض وثبوتها ، وأقول : كأنه لقلة دواعيه إلى المشي للقتل والضرب وأشباههما ، أو للانتقال من حال إلى حال أخرى ، والاشتغال بأمر آخر فإنهما مما يذهل عن الغضب في الجملة ، ولذا ألحق بعض العلماء الاضطجاع والقيام إذا كان جالسا والوضوء بالماء البارد وشربه ، الجلوس في ذهاب الرجز.

وأقول : يؤيده ما رواه الصدوق في مجالسه عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن فضال عن علي بن عقبة عن أبي بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام عن أبيهعليهما‌السلام أنه ذكر عنده الغضب فقال : إن الرجل ليغضب حتى ما يرضى أبدا ويدخل بذلك النار ، وأيما رجل غضب وهو قائم فليجلس فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان وإن كان جالسا فليقم وأيما رجل غضب على ذي رحمه فليقم إليه وليدن منه وليمسه فإن الرحم إذا مست الرحم سكنت ، وما رواه العامة عن أبي هريرة قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا غضب وهو قائم جلس وإذا غضب وهو جالس اضطجع فيذهب غيظه.

وقال بعضهم : علاج الغضب أن تقول بلسانك أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، هكذا أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقال عند الغيظ ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا غضبت عائشة أخذ بأنفها وقال : يا عويش قولي : اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن ، ويستحب أن تقول ذلك ، وإن لم يزل بذلك فاجلس إن كنت قائما واضطجع إن كنت جالسا ، وأقرب من الأرض التي منها خلقت لتعرف بذلك ذل نفسك ، واطلب بالجلوس والاضطجاع السكون فإن سبب الغضب الحرارة وسبب الحرارة الحركة ، إذ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الغضب جمرة تتوقد ألم تر إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه ، فإن وجد أحدكم من ذلك شيئا فإن كان قائما فليجلس

١٤٦

وإن كان جالسا فلينم ، فإن لم يزل ذلك فليتوضأ بالماء البارد وليغتسل ، فإن النار لا يطفئها إلا الماء ، وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا غضب أحدكم فليتوضأ وليغتسل فإن الغضب من النار ، وفي رواية أن الغضب من الشيطان وأن الشيطان خلق من النار ، وإنما يطفئ النار الماء ، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ، وقال ابن عباس قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا غضبت فاسكت ، وقال أبو سعيد الخدري : قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه ، فمن وجد من ذلك شيئا فليلصق خده بالأرض ، وكان هذا إشارة إلى السجود وهو تمكين أعز الأعضاء من أذل المواضع وهو التراب ليستشعر به النفس الذل وتزايل به العزة والزهو الذي هو سبب الغضب.

وأما العلاج الثاني فهو خاص بذي الرحم حيث قال : وأيما رجل غضب على ذي رحمفليدن منه أي الغاضب من ذي رحمه« إذا مست » على بناء المجهول أي بمثلها ويحتمل المعلوم أي مثلها ، وما في رواية المجالس المتقدم ذكره أظهر ويظهر منها أنه سقط من رواية الكتاب بعض الفقرات متنا وسندا فتفطن ، إذ هي عين هذه الرواية والظاهر أنسكنت على بناء المعلوم المجرد ، ويحتمل المجهول من بناء التفعيل.

وقيل : ضمير فليدن راجع إلى ذي الرحم وضمير منه إلى الرجل وهو بعيد هنا وإن كان له شواهد من بعض الأخبار ، منها ما رواه الصدوق (ره) في كتاب عيون أخبار الرضاعليه‌السلام بإسناده عن موسى بن جعفرعليهما‌السلام قال : لما دخلت على الرشيد سلمت عليه فرد على السلام ثم قال : يا موسى بن جعفر خليفتين يجبي إليهما الخراج؟ فقلت : يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تبوأ بإثمي وإثمك وتقبل الباطل من أعدائنا علينا فقد علمت أنه قد كذب علينا منذ قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٤٧

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن داود بن فرقد قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام الغضب مفتاح كل شر.

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن النضر بن سويد ، عن القاسم بن سليمان ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال سمعت أبيعليه‌السلام يقول أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رجل بدوي فقال إني أسكن البادية فعلمني جوامع الكلام

بما علم ذلك عندك ، فإن رأيت بقرابتك من رسول الله أن تأذن لي أحدثك بحديث أخبرني به أبي عن آبائه عن جدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : إن الرحم إذا مست الرحم تحركت واضطربت ، فناولني يدك جعلني الله فداك(١) فقال : ادن فدنوت منه فأخذ بيدي ثم جذبني إلى نفسه وعانقني طويلا ثم تركني ، وقال : اجلس يا موسى فليس عليك بأس فنظرت إليه فإذا أنه قد دمعت عيناه فرجعت إلى نفسي فقال : صدقت وصدق جدك ، لقد تحرك دمي واضطربت عروقي حتى غلبت على الرقة وفاضت عيناي ، إلى آخر الخبر.

وأقول : هذا لا يعين حمل خبر المتن على دنو الغاضب فإنه يدنو كل من يريد تسكين الغضب ، فإنه إذا أراد الغاضب تسكين غضبه يدنو من المغضوب وإذا أراد المغضوب تسكين غضب الغاضب يدنو منه.

الحديث الثالث : صحيح.

« مفتاح كل شر » إذ يتولد منه الحقد والحسد والشماتة والتحقير ، والأقوال الفاحشة وهتك الأستار والسخرية والطرد والضرب والقتل والنهب ، ومنع الحقوق ، إلى غير ذلك مما لا يحصى.

الحديث الرابع : مجهول.

وقال في النهاية : فيه« أوتيت جوامع الكلم » يعني القرآن جمع الله بلطفه

__________________

(١) هذا اما من اضافات الراوي واما دليل على ضعف الرواية وعدم صدوره من المعصومعليه‌السلام ، والرواية مرفوعة ، راجع المصدر.

١٤٨

فقال آمرك أن لا تغضب فأعاد عليه الأعرابي المسألة ثلاث مرات حتى رجع الرجل إلى نفسه فقال لا أسأل عن شيء بعد هذا ما أمرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلا بالخير قال وكان أبي يقول أي شيء أشد من الغضب إن الرجل ليغضب فيقتل «النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ » ويقذف المحصنة.

٥ ـ عنه ، عن ابن فضال ، عن إبراهيم بن محمد الأشعري ، عن عبد الأعلى قال قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام علمني عظة أتعظ بها فقال إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أتاه رجل فقال له يا رسول الله علمني عظة أتعظ بها فقال له انطلق ولا تغضب ثم أعاد إليه فقال له انطلق ولا تغضب ثلاث مرات.

في الألفاظ اليسيرة منه معاني كثيرة واحدها جامعة أي كلمة جامعة ومنه الحديث في صفته : أنه كان يتكلم بجوامع الكلم أي أنه كان كثير المعاني قليل الألفاظ« فأعاد عليه الأعرابي المسألة ثلاث مرات » كان أصل السؤال كان ثلاث مرات فالإعادة مرتان أطلقت على الثلاث تغليبا ، والمعنى أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل ذلك يجيبه بمثل الجواب الأول« حتى رجع الرجل » أي تفكر في أن تكرار السؤال بعد اكتفائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجواب واحد غير مستحسن ، فأمسك وعلم أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجيبه بما أجابه إلا لعلمه بفوائد هذه النصيحة وأنها تكفيه أو تفكر في مفاسد الغضب فعلم أن تخصيصهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغضب بالذكر لتلك الأمور« فيقتل النفس » أي إحدى ثمرات الغضب قتل النفس مثلا وهو يوجب القصاص في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة ، والأخرى قذف المحصنة وهي العفيفة وهو يوجب الحد في الدنيا والعقاب العظيم في الآخرة.

الحديث الخامس : مجهول كالحسن.

وقال في المصباح : وعظه يعظه وعظا وعظة أمره بالطاعة ووصاه بها« فاتعظ » أي ائتمر وكف نفسه ، وقال بعض المتقدمين : الوعظ تذكير مشتمل على زجر وتخويف وحمل على طاعة الله بلفظ يرق له القلب والاسم الموعظة.

١٤٩

٦ ـ عنه ، عن إسماعيل بن مهران ، عن سيف بن عميرة عمن سمع أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول من كف غضبه ستر الله عورته.

٧ ـ عنه ، عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن حبيب السجستاني ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال مكتوب في التوراة فيما ناجى الله عز وجل به موسىعليه‌السلام يا موسى أمسك غضبك عمن ملكتك عليه أكف عنك غضبي.

الحديث السادس : مرسل.

« ستر الله عورته » أي عيوبه وذنوبه في الدنيا فلا يفضحه بها ، أو في الآخرة فيكون كفارة عنها أو الأعم منهما ، وقيل : لأنه إذا لم يغضب لا يقول فيه الناس ما يفضحه ، واختلفوا في أن من كان شديد الغضب وكف غضبه ومن لا يغضب أصلا لكونه حليما بحسب الخلقة ، أيهما أفضل ، فقيل : الأول لأن الأجر على قدر المشقة وفيه جهاد النفس وهو أفضل من جهاد العدو ، وغضب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشهور إلا أن غضبه لم يكن من مس الشيطان ورجزه ، وإنما كان من بواعث الدين ، وقيل : الثاني لأن الأخلاق الحسنة من الفضائل النفسانية وصاحب الخلق الحسن بمنزلة الصائم القائم.

الحديث السابع : مجهول أو حسن.

لأن الكشي روى في حبيب أنه كان شاربا ثم دخل في هذا المذهب ، قال : وكان من أصحاب الباقر والصادقعليهما‌السلام منقطعا إليهما وكفى بهذا مدحا ، ويقال :ناجيته أي ساررته« عمن ملكتك عليه » أي من العبيد والإماء أو الرعية أو الأعم وهو أولى ، وغضب الخلق ثوران النفس وحركتها بسبب تصور المؤذي والضار إلى الانتقام والمدافعة ، وغضب الخالق عقابه التابع لعلمه بمخالفة أوامره ونواهيه وغيرهما ، وفيه إشارة إلى نوع من معالجة الغضب وهو أن يذكر الإنسان عند غضبه على الغير غضبه تعالى عليه ، فإن ذلك يبعثه على الرضا والعفو طلبا لرضاه سبحانه وعفوه لنفسه.

١٥٠

٨ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن عبد الحميد ، عن يحيى بن عمرو ، عن عبد الله بن سنان قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام أوحى الله عز وجل إلى بعض أنبيائه يا ابن آدم اذكرني في غضبك أذكرك في غضبي لا أمحقك فيمن أمحق ـ وارض بي منتصرا فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك.

٩ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن ابن فضال ، عن علي بن عقبة ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام مثله وزاد فيه وإذا ظلمت بمظلمة

الحديث الثامن : مجهول.

والمرادبذكره له تعالى ذكر قدرته سبحانه عليه وعقابه ، وبذكر الله له ذكر عفوه عن أخيه فيعفو عن زلاته ومعاصيه جزاء بما صنع ، وقوله : لا أمحقك ، بالجزم بدل من أذكرك ، والمحق هنا إبطال عمله وتعذيبه ومحو ذكره أو إحراقه ، في القاموس : محقة كمنعه أبطله ومحاه كمحقه فتمحق وامتحق وأمحق كافتعل ، والله الشيء ذهب ببركته ، والحر الشيء : أحرقه ، وفي النهاية : المحق النقص والمحو والإبطال ، والانتصار الانتقام ، ولما كان الغرض من إمضاء الغضب غالبا هو الانتقام من الظالم ، رغب سبحانه في تركه بأني منتقم من الظالم لك وانتقامي خير من انتقامك ، والخيرية من وجوه شتى ، الأول : أن انتقامه على قدر قدرته وانتقامه سبحانه أشد وأبقى ، الثاني : أن انتقامه يفوت ثوابه وانتقامه تعالى لا يفوته ، الثالث : أن انتقامه يمكن أن يتعدى إلى ما لا يستحقه فيعاقب عليه ، الرابع : أن انتقامه يؤدي غالبا إلى المفاسد الكلية والجزئية بانتهاض الخصم للمعاداة بخلاف انتقامه تعالى.

الحديث التاسع : موثق كالصحيح.

وفي هذا الخبر وقعقوله وإذا ظلمت بمظلمة فارض بانتصاري لك مكان قوله في الخبر السابق وأرض بي منتصرا ، ومفادهما واحد ، ولما كان هذا في اللفظ أطول أطلق عليه لفظ الزيادة. وإنما ذكر ما بعدها مع كونه مشتركا بينهما للعلم بموضع الزيادة ، وفي المصباح الظلم اسم من ظلمه ظلما من باب ضرب ،

١٥١

فارض بانتصاري لك فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك.

١٠ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن محبوب ، عن إسحاق بن عمار قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول إن في التوراة مكتوبا يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك عند غضبي فلا أمحقك فيمن أمحق وإذا ظلمت بمظلمة فارض بانتصاري لك فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك.

١١ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد وعلي بن محمد ، عن صالح بن أبي حماد جميعا ، عن الوشاء ، عن أحمد بن عائذ ، عن أبي خديجة ، عن معلى بن خنيس ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رجل للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يا رسول الله علمني قال اذهب ولا تغضب فقال الرجل قد اكتفيت بذاك فمضى إلى أهله فإذا بين قومه حرب قد قاموا صفوفا ولبسوا السلاح فلما رأى ذلك لبس سلاحه ثم قام معهم ثم ذكر قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا تغضب فرمى السلاح ثم جاء يمشي إلى القوم الذين هم عدو قومه فقال يا هؤلاء ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضرب ليس فيه أثر فعلي في مالي أنا أوفيكموه فقال القوم فما كان فهو لكم نحن أولى بذلك منكم قال فاصطلح القوم وذهب الغضب.

ومظلمة بفتح الميم وكسر اللام ويجعل المظلمة اسما لما يطلبه عند الظالم كالظلامة بالضم.

الحديث العاشر : موثق وقد مر.

الحديث الحادي عشر : ضعيف على المشهور.

« ليس فيه أثر » أي علامة جراحة لتصح مقابلته للجراحة ، والأثر بالتحريك بقية الشيء وعلامته ، وبالضم وبضمتين أثر الجراحة يبقى بعد البرء« فعلى في مالي » أي لا أبسطه على القبيلة ليكون فيه مضايقة أو تأخير ، و« أنا » إما تأكيد للضمير المجرور لأنهم جوزوا تأكيده بالمرفوع المنفصل ،أو مبتدأ وخبره

١٥٢

١٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد وعلي بن إبراهيم ، عن أبيه جميعا ، عن ابن محبوب ، عن ابن رئاب ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال إن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم وإن أحدكم إذا غضب احمرت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض فإن رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك.

١٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن بعض أصحابه رفعه قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام الغضب ممحقة لقلب الحكيم وقال من لم يملك غضبه لم يملك عقله.

« أوفيكموه » على بناء الأفعال أو التفعيل ، والضمير راجع إلى الموصول أي على دية ما ذكر ، والإيفاء والتوفية إعطاء الحق تاما.

الحديث الثاني عشر : حسن كالصحيح.

والجمرة القطعة الملتهبة من النار شبه بها الغضب في الإحراق والإهلاك ، ونسبها إلىالشيطان لأن بنفخ نزعاته ووساوسه تحدث وتشتدوتوقد في قلب ابن آدم وتلتهب التهابا عظيما ويغلي بها دم القلب غليانا شديدا كغلي الحميم فيحدث منه دخان بتحليل الرطوبات وينتشر في العروق ويرتفع إلى أعالي البدن ، والدماغ والوجه كما يرتفع الماء والدخان في القدر ، فلذلك تحمر العين والوجه والبشرة وتنتفخ الأوداج والعروق وحينئذ يتسلط عليه الشيطان كمال التسلط ويدخل فيه ويحمله على ما يريد ، فيصدر منه أفعال شبيهة بأفعال المجانين ولزوم الأرض يشمل الجلوس والاضطجاع والسجود كما عرفت.

الحديث الثالث عشر : مرفوع.

والمحقة مفعلة من المحق وهو النقص والمحو والإبطال ، أي مظنة له وإنما خصقلب الحكيم بالذكر لأن المحق الذي هو إزالة النور إنما يتعلق بقلب له نور وقلب غير الحكيم يعلم بالأولوية وإذا عرفت أن الغضب يمحق قلب الحكيم

١٥٣

يعني عقله ظهر لك حقيقةقوله : من لم يملك غضبه لم يملك عقله.

قال بعض المحققين : مهما اشتدت نار الغضب وقوي اضطرامها أعمى صاحبه وأصمه عن كل موعظة ، فإذا وعظ لم يسمع بل تزيده الموعظة غيظا ، وإن أراد أن يستضيء بنور عقله وراجع نفسه لم يقدر على ذلك ، إذ ينطفئ نور العقل وينمحي في الحال بدخان الغضب ، فإن معدن الفكر الدماغ ويتصاعد عند شدة الغضب من غليان دم القلب دخان إلى الدماغ مظلم مستولي على معادن الفكر ، وربما يتعدى إلى معادن الحس فيظلم عينه حتى لا يرى بعينه ويسود عليه الدنيا بأسرها ويكون دماغه على مثال كهف أضرمت فيه نار ، فاسود جوه وحمى مستقره وامتلاء بالدخان جوانبه ، وكان فيه سراج ضعيف فانطفأ وانمحى نوره فلا يثبت فيه قدم ولا يسمع فيه كلام ، ولا ترى فيه صورة ، ولا يقدر على إطفائه لا من داخل ولا من خارج ، بل ينبغي أن يصبر إلى أن يحترق جميع ما يقبل الاحتراق ، فكذلك يفعل الغضب بالقلب والدماغ ، وربما يقوى نار الغضب فتفنى الرطوبة التي بها حياة القلب فيموت صاحبه غيظا كما يقوى النار في الكهف فيتشقق وتنهد أعاليه على أسافله ، وذلك لإبطال النار ما في جوانبه من القوة الممسكة الجامعة لأجزائه ، فهكذا حال القلب مع الغضب.

ومن آثار هذا الغضب في الظاهر تغير اللون وشدة الرعدة في الأطراف ، وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام ، واضطراب الحركة والكلام ، حتى يظهر الزبد على الأشداق وتحمر الأحداق وتنقلب المناخر وتستحيل الخلقة ، ولو رأى الغضبان في حال غضبه قبح صورته لسكن غضبه حياء من قبح صورته ، واستحالة خلقته ، وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره فإن الظاهر عنوان الباطن ، وإنما قبحت صورة الباطن أولا ثم انتشر قبحها إلى الظاهر ثانيا فهذا أثره في الجسد ، وأما

١٥٤

١٤ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من كف نفسه

أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش وقبيح الكلام الذي يستحيي منه ذوو العقول ، ويستحيي منه قائله عند فتور الغضب وذلك مع تخبط النظم واضطراب اللفظ ، وأما أثره على الأعضاء فالضرب والتهجم والتمزيق والقتل والجرح عند التمكن من غير مبالاة ، فإن هرب منه المغضوب عليه أو فاته بسبب وعجز عن التشفي رجع الغضب على صاحبه فيمزق ثوب نفسه ويلطم وجهه وقد يضرب يده على الأرض ويعدو عدو الواله السكران ، والمدهوش المتحير ، وربما سقط صريعا لا يطيق العدو والنهوض لشدة الغضب ، ويعتريه مثل الغشية ، وربما يضرب الجمادات والحيوانات فيضرب القصعة على الأرض وقد تكسر وتراق المائدة إذا غضب عليها وقد يتعاطى أفعال المجانين فليشتم البهيمة والجماد ، ويخاطبه ويقول : إلى متى منك كذا ويا كيت وكيت كأنه يخاطب عاقلا حتى ربما رفسته دابة فيرفسها ويقابلها به ، وأما أثره في القلب مع المغضوب عليه فالحقد والحسد وإظهار السوء والشماتة بالمساءة والحزن بالسرور ، والعزم على إفشاء السر وهتك الأستار والاستهزاء وغير ذلك من القبائح ، فهذه ثمرة الغضب المفرط وقد أشير إليها في تلك الأخبار.

الحديث الرابع عشر : ضعيف على المشهور.

والأعراض جمع العرض بالكسر وفي القاموس : العرض بالكسر الحسد وكل موضع يعرق منه ورائحته طيبة كانت أو خبيثة و

النفس ، وجانب الرجل يصونه من نفسه وحسبه أن يتنقص ويثلب ، أو سواء كان في نفسه أو في سلفه أو من يلزمه أمره أو موضع المدح والذم منه ، أو ما يفتخر به من حسب وشرف ، وقال : النفس الروح والدم والجسد والعظمة والعزة والهمة والأنفة والعيب والعقوبة.

وقوله عليه‌السلام : من كف نفسه عن أعراض الناس ، أي عن هتك عرضهم بالغيبة

١٥٥

عن أعراض الناس أقال الله نفسه يوم القيامة ومن كف غضبه عن الناس كف الله تبارك وتعالى عنه عذاب يوم القيامة.

١٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال من كف غضبه عن الناس كف الله عنه عذاب يوم القيامة.

والبهتان والشتم وكشف عيوبهم وأمثال ذلك« أقال الله نفسه » قيل : المراد بالنفس هنا العيب ، وأقول : يمكن أن يكون المراد بالنفس هنا أيضا المعنى الشائع ، لأن الإقالة وإن كان الغالب نسبتها إلى العثرات والذنوب ، لكن يمكن نسبتها إلى النفس أيضا ، فإن الإقالة في الأصل هو أن يشتري الرجل متاعا فيندم فيأتي البائع فيقول له : أقلني أي اترك ما جرى بيني وبينك ، ورد علي ثمني وخذ متاعك ، واستعمل في غفران الذنوب لأنه بمنزلة معاوضة بينه وبين الرب تعالى ، فكأنه أعطى الذنب وأخذ العقوبة ، والنفس مرهونة في تلك المعاملة يقتص منها ، فكما يمكن نسبة الإقالة إلى الذنب يمكن نسبتها إلى النفس أيضا ، بل هو أنسب لأنه يريد أن يفك نفسه عن العقوبة كما قال تعالى : «كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ »(١) وقال سبحانه «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ »(٢) وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم ، مع أنه يمكن تقدير مضاف أي عثرة نفسه.

الحديث الخامس عشر : ضعيف على المشهور.

__________________

(١) سورة الطور : ٢١.

(٢) سورة المدّثّر : ٣٨.

١٥٦

(باب الحسد )

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم قال قال أبو جعفرعليه‌السلام إن الرجل ليأتي بأي بادرة فيكفر وإن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب.

باب الحسد

الحديث الأول : صحيح ، وفي القاموس :البادرة ما يبدر من حدتك في الغضب من قول أو فعل ، وفي النهاية : البادرة من الكلام الذي يسبق من الإنسان في الغضب وإذا عرفت هذا فهذه الفقرة تحتمل وجوها :

الأول : أن يكون المعنى أن عدم منع النفس عن البوادر وعدم إزالة مواد الغضب عن النفس وإرخاء عنان النفس فيها ينجر إلى الكفر أحيانا أو غالبا كما ترى من كثير من الناس يصدر منهم عند الغضب التلفظ بما يوجب الكفر من سب الله سبحانه ، وسب الأنبياء والأئمةعليهم‌السلام أو ارتكاب أعمال يوجب الارتداد ، كوطي المصحف الكريم بالرجل ، ورميه.

الثاني : أن يراد به الحث على ترك البوادر مطلقا ، فإن كل بادرة تصير سببا لنوع من أنواع الكفر المقابل للإيمان الكامل.

الثالث : أن يقرأ فتكفر على بناء المجهول من باب التفعيل ، أي البوادر عند الغضب مكفرة غالبا لعذر الإنسان فيه في الجملة ، لا سيما إذا تعقبتها ندامة وقلما لم تتعقبها بخلاف الحسد ، فإنها صفة راسخة في النفس تأكل الإيمان ، ويمكن حملها حينئذ على ما إذا غلب عليه الغضب بحيث ارتفع عنه القصد ، ويمكن أن يقرأ بالياء كما في النسخ على هذا البناء أيضا أي ينسب إلى الكفر وإن كان معذورا عند الله لرفع الاختيار فيكون ذكر البعض مفاسد البادرة ، في النهاية : الحسد أن يرى الرجل

١٥٧

لأخيه نعمة فيتمنى زوالها عنه ، وتكون له دونه ، والغبطة أن يتمنى أن يكون له مثلها ولا يتمنى زوالها عنه ، انتهى.

واعلم أنه لا حسد إلا على نعمة ، فإذا أنعم الله على أخيك نعمة فلك فيها حالتان أحدهما أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها ، سواء أردت وصولها إليك أم لا ، فهذه الحالة تسمى حسدا ، والثانية أن لا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها ولكنك تشتهي لنفسك مثلها ، وهذه تسمى غبطة ، وقد يخص باسم المنافسة ، فأما الأول فهو حرام مطلقا كما هو المشهور ، أو إظهارها كما يظهر من بعض الأخبار إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر وهو يستعين بها على تهييج الفتنة وإفساد ذات البين وإيذاء الخلق فلا يضرك كراهتك لها ومحبتك لزوالها ، فإنك لا تحب زوالها من حيث إنها نغمة بل من حيث هي آلة الفساد ، ولو آمنت فساده لم تغمك تنعمه.

وأما الحسد المذموم فمع قطع النظر عن الآيات الكثيرة والأخبار المتواترة الواردة في ذمها والنهي عنها ، وصريح العقل أيضا يحكم بقبحها فإنه سخط لقضاء الله في تفضيل بعض عباده على بعض ، وأي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك فيها مضرة وسيأتي ذكر بعض مفاسدها.

وأما المنافسة فليست بحرام بل هي إما واجبة أو مندوبة أو مباحة ، كما قال تعالى : «وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ »(١) وقال سبحانه : «سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ »(٢) فأما الواجبة فهي ما إذا كانت في نعمه دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة ، فإنه إن لم يحب أن يكون له مثل ذلك يكون راضيا بالمعصية وهو حرام ، والمندوبة فيما إذا كانت النعمة من الفضائل كإنفاق الأموال في المكارم والصدقات ، والمباحة فيما إذا كانت لغيره نعمة مباحة يتنعم فيها على وجه مباح ، فيتمنى أن

__________________

(١) سورة المطفّفين : ٢٦.

(٢) سورة الحديد : ٢١.

١٥٨

يكون له مثلها يتنعم بها من غير أن يريد زوالها عنه في الجميع.

وأقول : يمكن أن يفرض فيها فرد حرام كان يتمنى منصبا حراما أو مالا حراما أو مالا حلالا ليصرفها في الحرام ، بل مكروه أيضا كان يتمنى مال شبهة أو مالا حلالا ليصرفها في المصارف المكروهة.

وقيل : للحسد أسباب كثيرة يحصر جملتها سبعة : العداوة والتعزز والكبر ، والتعجب ، والخوف من فوت المقاصد المحبوبة ، وحب الرئاسة ، وخبث النفس وبخلها ، فإنه إنما يكره النعمة عليه إما لأنه عدوه فلا يريد له الخير ، وإما أن يكون من حيث يعلم أنه يستكبر بالنعمة عليه ، وهو لا يطيق احتمال كبره وتفاخره لعزة نفسه وهو المراد بالتعزز ، وإما أن يكون في طبعه أن يتكبر على المحسود ويمتنع ذلك عليه بنعمته ، وهو المراد بالتكبر ، وإما أن تكون النعمة عظيمة والمنصب كبيرا فيتعجب من فوز مثله بمثل تلك النعمة كما أخبر الله تعالى عن الأمم الماضية إذ قالوا «ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا » ، وقالوا «أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا » ، وأمثال ذلك كثيرة ، فتعجبوا من أن يفوز برتبة الرسالة والوحي والقرب من الله بشر مثلهم فحسدوهم وهو المراد بالتعجب ، وإما أن يخاف من فوات مقاصده بسبب نعمته بأن يتوصل بها إلى مزاحمته في أغراضه ، وإما أن يكون بحب الرئاسة التي يبتني على الاختصاص بنعمة لا يساوي فيها ، وإما أن لا يكون بسبب من هذه الأسباب بل لخبث النفس وشحها بالخير لعباد الله.

فهذه أسباب الحسد وقد يجتمع بعض هذه الأسباب أو أكثرها أو جميعها في شخص واحد ، فيعظم الحسد لذلك ويقوى قوة لا يقدر معها على الإخفاء والمجاملة ، بل يهتك حجاب المجاملة ويظهر العداوة بالمكاشفة ، وأكثر المحاسدات يجتمع فيها جملة من هذه الأسباب.

واعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل ، والعلم المنافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقا أن الحسد

١٥٩

ضرر عليك في الدنيا والدين ، وأنه لا ضرر به على المحسود في الدين والدنيا ، بل ينتفع بها في الدنيا والدين ، ومهما عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدو نفسك وصديق عدوك فارقت الحسد لا محالة ، أما كونه ضررا عليك في الدين فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى ، وكرهت نعمته التي قسمها لعباده ، وعدله الذي أقامه في ملكه تخفى حكمته ، واستنكرت ذلك واستبشعته ، وهذه جناية على حدقة التوحيد ، وقذى في عين الإيمان ، وناهيك بها جناية على الدين ، وقد انضاف إليه أنك غششت رجلا من المؤمنين وتركت نصيحته وفارقت أولياء الله وأنبيائه في حبهم الخير لعباد الله ، وشاركت إبليس وسائر الكفار في حبهم للمؤمنين البلايا وزوال النعم ، وهذه خبائث في القلب تأكل حسنات القلب والإيمان فيه. والحاصل أن الحسد مع كونه في نفسه صفة منافية للإيمان يستلزم عقائد فاسدة كلها منافية لكمال الإيمان واليقين ، وأيضا لاشتغال النفس بالتفكر في أمر المحسود والتدبير لدفعه يمنعها عن تحصيل الكمالات والتوجه إلى العبادات ، وحضور القلب فيها ، وتولد في النفس صفاتا ذميمة كلها توجب نقص الإيمان ، وأيضا يوجب عللا في البدن وضعفا فيها يمنع الإتيان بالطاعات على وجهها ، فينقص بل يفسد الإيمان على أي معنى كان ، ولذا قالعليه‌السلام : يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب.

وأما كونه ضررا في الدنيا عليك ، فهو أنه تتألم بحسدك وتتعذب به ، ولا تزال في كد وغم إذ أعداؤك لا يخليهم الله عن نعم يفيضها عليهم ، فلا تزال تتعذب بكل نعمة تراها عليهم وتتأذى وتتألم بكل بلية تنصرف عنهم ، فتبقى مغموما محزونا متشعب القلب ضيق النفس كما تشتهيه لأعدائك ، وكما يشتهي أعداؤك لك ، فقد كنت تريد المحنة لعدوك فتنجزت في الحال محنتك وغمك نقدا ، كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : لله در الحسد حيث بدء بصاحبه فقتله ، ولا تزول النعمة على

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441