تحفة العالم في شرح خطبة المعالم الجزء ١

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم 0%

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم مؤلف:
المحقق: أحمد علي مجيد الحلّي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 683

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم

مؤلف: آية الله السيّد جعفر بحر العلوم
المحقق: أحمد علي مجيد الحلّي
تصنيف:

الصفحات: 683
المشاهدات: 3141
تحميل: 214

توضيحات:

الجزء 1
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 683 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 3141 / تحميل: 214
الحجم الحجم الحجم
تحفة العالم في شرح خطبة المعالم

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم الجزء 1

مؤلف:
العربية

أقول : الآية واقعة في أوّل سورة آل عمران ، وأوّلها قوله تعالى : ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ(١) .

الإعراب

ما : نافية غير عاملة لدخولها على الفعل.

يعلم : فعل مضارع مرفوع لتجرُّده ، وعلامة رفعه ضمُّ آخره ، والفاعل مستتر فيه تقديره أحد(٢) .

تأويله : مضاف ومضاف إليه مفعول ليعلم.

إلّا : حرف استثناء.

الله : مستثنى من الفاعل المستتر ـ أعني : أحد فهو مستثنى مفرّغ ـ وإعرابه بحسب ما يقتضيه العامل وهو الرفع.

والراسخون : معطوف على الله على معنى أنّ تأويل المتشابه لا يعلمه إلّا الله والراسخون في العلم ، وقيل : إنّ الواو للاستئناف ، فعلى هذا يكون المتشابه لا يعلمه إلّا الله تعالى ، والوقف عند قوله : ﴿إِلَّا اللَّـهُ ﴾ فتكون جملة ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ ، وما بعدها مبتدأ وخبر.

__________________

(١) سورة آل عمران : من آية ٧.

(٢) الصحيح أن يقال : الفاعل هو ما بعد إلا ؛ لأنَّ الاستثناء مفرغ ، فهو بحسب موقعه من الإعراب. (السيد محمد الطباطبائي)

٢٢١

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام ، قال : «نحن الراسخون في العلم ، ونحن نعلم تأويله »(١) .

[تفسير المحكم والمتشابه]

ثمّ اختلف في تفسير المحكم والمتشابه ، قال الشيخ البهائيرحمه‌الله في شرح الأربعين : (المحكم في اللُّغة : هو المضبوط المتقن ، ويُطلق في الاصطلاح على ما اتّضح معناه ، وظهر لكلّ عاف باللُّغة مغزاه ، وعلى ما كان محفوظاً من النسخ أو التخصيص أو منهما معاً ، وعلى ما كان نظمه مستقيماً خالياً عن الخلل ، وعلى ما لا يحتمل من التأويل إلّا وجهاً واحداً ويقابله لكلّ واحد من هذه المعاني المتشابهة)(٢) .

ثمّ قال [جدّي الفاضل الصالح بعد إيراد الكلام المتقدِّم](٣) : (والمعنى الأوّل وهو أنّ المحكم ما اتّضح معناه وانتفى عنه الاشياء ، والمتشابه نثيضه ، رجّحه الغزالي ؛ لأنّ المحكم اسم مفعول من أحكم ، والإحكام الضبط والإتقان ، ولا شك أنّ ما كان واضح المعنى مضبوطاً متقناً لا اشتباه فيه) ، انتهى(٤) .

وهذا هو مراد من فسّر المحكم بما علم المراد بظاهره من غير قرينة ، والمتشابه ما لم يعلم المراد بظاهره حَتَّى يقترن به ما يدل على المراد منه لالتباسه.

وأمّا المعنى الأخير فهو الَّذي يلوح من كلام الزمخشري في الكشّاف ، وحاصله : أنّ المحكم ما كان محفوظاً من الاحتمال بأن يكون له معنى ، ولا

__________________

(١) الكافي ١ : ٢١٣ ح ١.

(٢) الأربعون حديثاً : ٢٩٣.

(٣) ما بين المعقوفين زيادة منا لبيان من القائل.

(٤) عن شرح اُصول الكافي للمازندراني ٢ : ٣٠٩.

٢٢٢

يكون له احتمال معنى آخر ، والمتشابه ما يكون له معنى ويكون له احتمال معنى آخر(١) .

فاللفظ المفيد للمعنى إن لم يحتمل معنى آخر فهو المحكم ، وإن احتمل فهو المتشابه ، وهو خلاف ما عليه أئمّة الأُصول ، كما صرّح بذلك المحقِّق التفتازاني في حواشي الكشّاف(٢) ، بل هذا الَّذي ذكره في معنى المحكم لا ينطبق على غير النصّ.

حجّية ظواهر الكتاب

إذا عرفت ذلك فنقول : ذمّ الله تعالى في هذه الآية على اتباع المتشابه من القرآن دون المحكم منه ، ولو كان اتّباع المحكم مثله لما كان كذلك ، ومن ذلك صحّ لنا الاستدلال بظاهر القرآن ، بل أطبق السلف وتبعهم الخلف على جواز العمل به كالنصّ.

وبعبارة اُخرى أطبقوا على حجّية ظواهر الكتاب ، حَتَّى أنّ الشيخرحمه‌الله قَدْ طرح الرواية في مقابل العام الكتابي ، محتجّاً بما ورد عنهمعليهم‌السلام ممَّا لا خلاف فيه : «إذا جاءكم عنّا حديث فاعرضوه على كتاب الله ، فإن وافق كتاب الله فخذوه ، وإلّا فردوه واضربوا به عرض الحائط »(٣) .

نعم ، خالف في ذلك أصحابنا الأخباريون ، فإنَّهم اقتصروا على العمل بنصّه ، والدليل لنا على ذلك ما عرفت من الإجماع من وجهين.

__________________

(١) الكشّاف عن حقائق التنزيل ١ : ٣٢٢ بتفاوت يسير.

(٢) حاشية التفتازاني على الكشّاف : مخطوط.

(٣) عدة الأُصول ١ : ٣٥٠.

٢٢٣

الوجه الأول : الآيات القرآنية منها :

[أ] ـ قوله تعالى : ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(١) ذم الله تعالى على ترك تدبّره ، والإضراب عن التفكر فيه ، ولا ريب أنّ المراد من ذلك الحث على العمل بمقتضاها ؛ إذ الشيء إنّما يكون مطلوباً لغايته.

[ب] ـ ومنها قوله تعالى : ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ(٢) ، ومن المعلوم أنّ الغرض وصفه بوضوح المعنى.

[ج] ـ ومنها قوله تعالى : ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ(٣) ، فأثبت للعلماء استنباطاً ، ومعلوم أنّه وراء المسموع منهمعليهم‌السلام .

[د] ـ ومنها قوله تعالى : ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ الآية(٤) ، بالتقريب المتقدّم.

[هـ] ـ ومنها قوله تعالى : ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ(٥) . والردّ إلى الله هو الردّ إلى محكم كتابه كما جاءت به الرواية ، لا يقال : يتطرّق القدح إلى الاستدلال بهاتين الآيتين بأن أقصى ما فيهما الدلالة على وجوب اتّباع المحكم وذمِّ اتّباع المتشابه.

__________________

(١) سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله : ٢٤.

(٢) سورة الشعراء : ١٩٥.

(٣) سورة النساء : من آية ٨٣.

(٤) سورة آل عمران : من آية ٧.

(٥) سورة النساء : من آية ٥٩.

٢٢٤

ونحن في شبهة من دخول الظاهر تحت المحكم لإمكان أنّه المتشابه ، بل ربّما صرَّح بذلك فلا يتم التقريب إلّا ببيان كونه من المحكم ومن غير المتشابه لأنّا نقول : يدل على ذلك أمران :

الأول : لو لم يكن الظاهر من المحكم لوجب أن يكون من المتشابه ، لكنَّ اللازم باطل فالملزوم مثله.

بيان : الملازمة امتناع كون أنّ الشيء لا قسماً ولا قسيماً.

وبيان بطلان اللازم أنّ المتشابه لغةً وعرفاً : المتمايل الَّذي لا يمتاز عن صاحبه إلّا في يسير من المخالفة ، وبه صرّح أهل التفسير في قوله تعالى : ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا(١) . ومن المعلوم أن لا تماثل ولا اشتباه بين المعنى الظاهر من اللفظ وغيره ؛ إذ أحدهما راجح والآخر مرجوح فكيف الاشتباه ، لا يقال : لعلّه حاصل من جهة الإرادة خصوصاً في العام ؛ لما اشتهر من أنّه ما من عام إلّا وقد خُصّ ، لأنّا نقول : يجب الفحص عن المخصّص ، ومع عدم الظفر به يترجح انتفاؤه فيعمل بالراجح ، لا يقال : لعل التمسُّك بالعام مشروط بالقطع بعدم المخصّص ، وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ؛ لأنّا نقول اللازم من ذلك تعطيل أكثر الأدلّة من العمومات وغيرها من الكتاب وغيره.

الثاني : إنّ أقصى ما قيل في معنى المحكم : هو ما يلوح من كلام الزمخشري في الكشّاف(٢) ـ حسب ما تقدّم نقله ـ من أنّه لا يحتمل من التأويل

__________________

(١) سورة البقرة : من آية ٢٥.

(٢) الكشّاف عن حقائق التنزيل ١ : ٣٢٢ بتفاوت يسير.

٢٢٥

إلّا وجهاً واحداً ، والظاهر كذلك احتمال غيره من جهة الإرادة لا من جهة الدلالة ، لا يقال : المحكم على ما صرّح به الشيخ البهائيرحمه‌الله هو المضبوط المتقن(١) ، ولا شيء من الألفاظ كذلك سوى النصّ ، فيكون المحكم منحصراً به ؛ لأنّا نقول : الواجب في كلام الشارع حمله على المعاني الشرعية ، فمخالفة المعنى اللُّغوي غير قادحة ، مضافاً إلّا أنّه إنّ اُريد من ذلك ما لا يمكن تطرق التغيير إليه في الدلالة ، وإنّ تغيَّر بالنسخ لزم كون المنسوخ محكماً وهو باطل إجماعاً ، وإلّا لوجب العمل به. وإنَّ اُريد منه ما لم يتطرق في دلالته تغيير أصلاً مع إمكان التطرق ، وجب شموله الظاهر المحفوظ من النسخ المطابق للحق ، لا يقال : ردُّ المتشابه إلى المحكم إنّما يكون بالتأويل ، والتأويل فيه يختص علمه بالله على قراءة من يقف على ﴿إِلَّا اللَّـهُ(٢) من قوله تعالى : ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ ﴾ ، ويبتدئ بقوله : ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ ، أو يختص بالأئمةعليهم‌السلام على القراءة المشهورة لما ورد عنهمعليهم‌السلام في جملة من الروايات من أنّهم : «هم الراسخون في العلم ».

وقد تقدّم عن الكافي رواية ذلك عن الصادقعليه‌السلام ؛ لأنّا نقول : المستفاد من كلامهم : أنّ الصواب كون (الراسخون) عطفاً لا استئنافاً ، ويحمل قولهم : «نحن الراسخون » على كمال الرسوخ فيه ، كما في قوله تعالى : ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا

__________________

(١) الأربعون حديثاً : ٢٩٣.

(٢) الوقف في هذه ال آية فيه ثلاثة مذاهب : ١ ـ الوقف على ﴿إِلَّا اللَّـهُ ﴾ ، ٢ ـ الوقف على ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ ، ٣ ـ جوّز الأمرين كثير من الأئمة. (ينظر : حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي ٣ / ٢٦ ، ودقائق التفسير ١ / ٣٢٩).

٢٢٦

ذُكِرَ اللَّـهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ(١) ، لا يقال هو مجاز ؛ لأنّا نقول : يدل عليه أمرهمعليهم‌السلام بردّ المتشابه إلى المحكم ، ويؤيِّده ما روي عنهمعليهم‌السلام : «يرفع الله بهذا القرآن والعلم بتأويله ، وبموالاتنا أهل البيت ، والتبرِّي من أعدائنا أقواماً »(٢) .

الوجه الثاني : ممَّا يدل على ظاهر الكتاب الأخبار الواردة المتضمّنة للأمر بالأخذ به ، فمنها ما رواه في الكافي بسنده إلى محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن عيسى ، عن صفوان بن يحيى ، عن داود بن الحصين ، عن عمر بن حنظلة ، قال : سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين ـ أو ميراث ـ إلى أن قال : «ينظر ، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسُنّة وخالف العامّة فيؤخذ به »(٣) ، حيث أمر الأخذ به على الإطلاق ، خرج منه المتشابه بالإجماع ، وبقي ما عدا تحت وجوب الأخذ فيشمل الظاهر أيضاً.

فإن قلت : في سند هذا الحديث ضعف ؛ لما قاله الشهيدرحمه‌الله في شرح مقدمة الدراية : (من أنّه إنّما وسموه بالمقبول ؛ لأنّ في طريقه محمّد بن عيسى ، وداود بن الحصين ، وهما : ضعيفان.

وعمر بن حنظلة : لم ينص الأصحاب فيه بجرح ولا تعديل)(٤) .

قلت : أمّا محمّد بن عيسى فقد ظن فيه التضعيف لاستثناء محمّد بن الحسن بن الوليد إياه في رجال نوادر الحكمة ، ولا دلالة في ذلك على الضعف ، وله عدّة

__________________

(١) سورة الأنفال : من آية ٢.

(٢) التفسير المنسوب للإمام العسكريعليه‌السلام : ١٥ ح ٢.

(٣) الكافي ١ : ٦٧ ح ١٠.

(٤) الرعاية في علم الدراية : ١٣١.

٢٢٧

دلائل ناهضة بتوثيقه ، كما صرّح به في الرواشح(١) ، وانتظر لشرح حاله مفصَّلاً في فصول الأخبار وشرح ما يتعلّق بها.

[داود بن الحصين]

وأمّا داود بن الحصين بالحاء المهملة المضمومة ، والصاد المفتوحة فقد ذكر الشيخ وابن عقدة : أنّه واقفي(٢) .

وتوقَّف العلّامةرحمه‌الله في الخلاصة في روايته(٣) .

ولكن يكفينا قول النجاشي فيه : (أنه ثقة)(٤) ، فإن قول النجاشي فيه : (ثقة) لا يعارضه قول الشيخ وغيره بأنّه واقفي ؛ لأنّ الضعف بالمعنى المصطلح لا ينفي الصحَّة عند القدماء حَتَّى عند الشيخ نفسه ؛ لدعواه الإجماع على عمل الفرقة بما يرويه ثقاة الواقفية والفطحية(٥) ، مع أن المعهود من سيرة النجاشي على ما يشهد به ا لتتبع ، ونص عليه بعض من لا يجازف في الكلام من الأجلّة الأعلام : أنّه إذا كان فيمن يذكره طعن يورده لا محالة في ترجمته أو في ترجمة غيره ، وعدم تعرضه لذلك آية سلامة المذكور عنده من كلّ طعن ، بل الظاهر تقديم قوله ولو كان ظاهراً على قول غيره من أئمّة الرجال في مقام المعارضة في الجرح والتعديل ولو كان نصّاً.

__________________

(١) الرواشح السماوية : ١٦٥.

(٢) رجال الطوسي : ٣٣٦ رقم ٥٠٠٧ / ٥.

(٣) خلاصة الأقوال : ٣٤٥ الفصل ٨ باب ١ رقم ١.

(٤) رجال النجاشي : ١٥٩ رقم ٤٢١.

(٥) عدة الأُصول ١ : ١٣٣.

٢٢٨

قال الشهيد الثانيرحمه‌الله في المسالك : (وظاهر حال النجاشي أنّه أضبط الجماعة ، وأعرفهم بحال الرجال )(١) .

وقال الشيخ محمّد في شرح الاستبصار بعد كلام النجاشي والشيخ في شماعة : (والنجاشي يقدّم على الشيخ في هذه المقامات كما يعلم بالممارسة )(٢) .

وقال الميرزا محمّد [الاسترابادي](٣) في ترجمة سليمان بن صالح : (ولا يخفى تخالف ما بين طريقي الشيخ والنجاشي ، ولعلّ النجاشي أضبط )(٤) .

وقال جدّي العلّامة بحر العلوم طاب ثراه : (وبتقديمه ـ أي النجاشي ـ صرّح جماعة من الأصحاب ، نظراً إلى كتابه الَّذي لا نظير له في هذا الباب ، والظاهر أنّه الصواب )(٥) .

وقال الأغا البهبهانيرحمه‌الله في تعليقة الرجال : (ويروي عنه ـ أي عن داود ـ صفوان بن يحيى ، وجعفر بن بشير ، وابن أبي نصر ، وكلّ واحد منها (٦) أمارة الوثاقة ، ورواية الأجلّاء أمارة الجلالة )(٧) .

__________________

(١) مسالك الأفهام ٧ : ٤٦٧.

(٢) عن خاتمة المستدرك ٣ : ١٤٧ ، وهو للشيخ محمّد بن جمال الدين أبي منصور ابن الشهيد الثانيرحمه‌الله واسم كتابه استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار وهو مخطوط.

(٣) ما بين المعقوفين زيادة منا لإتمام المعنى.

(٤) منهج المقال : ١٧٤.

(٥) الفوائد الرجالية ٢ : ٤٦.

(٦) كذا والسياق يقتضي : (منهم).

(٧) تعليقة على منهج المقال : ١٦٩.

٢٢٩

وهذا يرجَّح كلام النجاشي مع أنّه أضبط من الشيخ ، ولعلّه لذلك لكّه قال في الرواشح : (وأمّا داود بن الحصين الأسدي فموثَّق اتفاقاً ، نعم ، قَدْ قيل فيه بالوقف ولم يثبت)(١) .

وقال في موضع آخر : (لم يثبت عندي وقفه ، بل الراجح جلالته عن كلّ غميزة وشائبة)(٢) . (مع أنّه إذا تعارض الجرح والتعديل فالأحق بالاعتبار في الجارح والمعدِّل قوة التمهُّر ، وشدة التبصُّر ، وتعود التمرُّن على استقصاء الفحص ، وإنفاق المجهود ، وما يقال : إنّ الجرح أولى بالاعتبار لكونه شهادة بأمر وجودي بخلاف التعديل ضعيف ؛ إذ التعديل أيضاً شهادة بحصول ملكة وجودية هي العدالة ، إلّا أن يكتفي في العدالة بعدم الفسق من دون ملكة إلى الكفّ والتنزُّه)(٣) . وهو كما ترى.

[عمر بن حنظلة]

وأمّا عمر بن حنظلة فيكفي في قبول روايته قول المحقّق الداماد في الرواشح من أنّ المقبول : (هو الَّذي تلقَّوه بالقبول ، وساروا على العمل بمضمونه من غير التفات إلى صحَّة الطريق وعدمها صحيحاً كان ، أو حسناً ، أو موثوقاً ، أو قوياً ، أو ضعيفاً ، ومقبولات الأصحاب كثيرة ، منها : مقبولة عمر بن حنظلة التي هي الأصل عند أصحابنا في استنباط أحكام الاجتهاد ، وكون المجتهد العارف بالأحكام منصوباً من قبلهم عليهم‌السلام ، وستعرف ذلك حيث يحين حينه )(٤) .

__________________

(١) الرواشح السماوية : ١٦٥.

(٢) الرواشح السماوية : ١٦٣ ـ ١٦٥ بحث المقبول بتصرف.

(٣) الرواشح السماوية : ١٠٤.

(٤) الرواشح السماوية : ١٦٤.

٢٣٠

قال الماتنرحمه‌الله : (أنه وجد بخط والده الشهيد رحمه‌الله ما صورته : عمر بن حنظلة غير مذكور بجرح ولا تعديل ، ولكنَّ الأقوى عندي أنّه ثقة لقول الصادق عليه‌السلام في حديث الوقت «إذاً لا يكذب علينا »)(١) .

وقال العلّامة المجلسيرحمه‌الله في مرآة العقول : (إنّ هذا الحديث ـ يعني حديث عمر بن حنظلة ـ موثَّق تلقاه الأصحاب بالقبول )(٢) .

وبذلك كلّه يظهر جبران ضعف الرواية بما لا مزيد عليه.

[رواية ابن حنظلة بتمامها]

وهذا أوان الشروع في ذكر الرواية بتمامها حَتَّى نشير إلى ما يستفاد منها من الفوائد المهمّة والأحكام الجمّة.

قال عمر بن حنظلة : «سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة ، أيحل ذلك؟

قال : من تحاكم إليهم في حقٍّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتاً وإن كان حقّه ثابتاً له ؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يكفر به. قال الله تعالى : ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ(٣) .قلت : فكيف يصنعان؟ قال : ينظران من كان منكم ممَّن قَدْ روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً ،

__________________

(١) منتقى الجمان ١ : ١٩.

(٢) مرآة العقول ١ : ٢٢١.

(٣) سورة النساء : من آية ٦٠.

٢٣١

فإنّي قَدْ جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخفَّ بحكم الله ، وعلينا ردَّ ، والرادُّ علينا الرادُّ على الله ، وهو على حدٍّ الشرك بالله. قلت : فإن كان كلُّ رجل يختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، واختلفا فيهما حكماً ، ما حُكمهما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال : قلت : فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر؟ قال : فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الَّذي حكما به ، المجمع عليه من أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الَّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الأُمور ثلاثة : أمر بيّنٌ رشدُه فيتَّبع ، وأمر بيّنٌ غيُّه فيُجتنب ، وأمر مشكل يُردّ علمه إلى الله وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرَّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرَّمات وهلك من حيث لا يعلم. قال : قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قَدْ رواهما الثقات عنكم؟ قال : فما وافق حكمه حكم الكتاب والسُنّة وخالف أهل العامَّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكم الكتاب والسُنّة ووافق العامّة؟ قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسُنّة ، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامَّة ، والآخر مخالفاً لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟ قال : ما خالف أهل العامّة ففيه رشاد. فقلت : جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال : ينظر إلى ما هم إليه أميل حكَّامهم وقضاتُهم فيترك ويؤخذ بالآخر. قلت : فإن وافق حكَّامهم الخبرين جميعاً؟ قال : فإذا كان كذلك

٢٣٢

فارجه حَتَّى تلقى إمامك ، فإنَّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات »(١) .

ما يستفاد منها من الأحكام

وفوائد هذا الخبر الشريف كثيرة ومهمّة جداً :

الأُولى : دلّ الخبر على المنع في الجملة من التحاكم إلى سلاطين الجور من العامّة وقضاتهم ، وأنّ ما يؤخذ بحكمهم فهو حرام وسحت ، وعليه قَدْ دلّت الآية الشريفة : ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ(٢) ، وقد صرّح جملة من الأصحاب بانسحاب الحكم أيضاً إلى فسقة الشيعة ممن يأخذ الرُّشا على الأحكام ونحوه ، بل غير المأذون من جهتهمعليهم‌السلام مطلقاً ، ويدل عليه ما ورد عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : «كلّ حاكم يحكم بغير قولنا أهل البيت فهو طاغوت»(٣) .

الثانية : ظاهر المحقِّق الأردبيليرحمه‌الله تخصيص التحريم في الخبر المذكور بالتحاكم في الدَّين دون العين ، وهو المنقول عن الشيخ الحر(٤) ، وهذا خلاف ظاهر قولهعليه‌السلام في الخبر : «فإنّما يأخذه سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً » فإنّه بظاهره يفيد عدم الفرق بين الدَّين والعين ، وإن كان ربّما يفرق بينهما بأن المأخوذ عوضاً عن الدين مال للمنكر انتقل إلى المدعي بحكم الطاغوت فلا يجوز له الأخذ ولا

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ ح ١٠.

(٢) سورة النساء : من آية ٦٠.

(٣) دعائم الإسلام ٢ : ٥٣٠ ح ١٨٨٣.

(٤) مجمع الفائدة ١٢ : ١٠.

٢٣٣

التصرُّف فيه ، بخلاف العين فإنّها مال للمدَّعي وحقٌ له وإن حرم عليه أخذها بحكم الطاغوت ، لكن يجوز له التصرُّف فيها فلا يحرَّم المأخوذ.

وبعبارة اُخرى : إنّ الدَّين أمر كلي ثابت في الذمة لا يتشخَّص في عين مخصوصة إلّا برضا صاحبه ، أو جبر الحاكم الشرعي وتعيينه ، وهما منفيان في المقام.

وأمّا العين فهي مستحقة لصاحبها لا يحتاج في تعيينها إلى من هي بيده ، ولا إلى حاكم شرعي فيجوز لصاحبها أخذها متى تمكَّن منها ، والتوصُّل إلى أخذها بحكم الجائر ، وهذا هو المشهور ، وفيه أنّ الرواية صريحة في ذكر الميراث وهو أعم كما لا يخفى.

فالأحوط ـ حينئذ ـ أن يقصد التقاصّ فيما لو كان المتنازع دَيناً ، وربّما قيل : بجواز التوصل بهم إلى أخذ الحق المعلوم اضطراراً مع عدم إمكان الترافع إلى الفقيه العدل ، ويجوز الاستعانة بهم في إجراء حكم الفقيه وأيّد ذلك بقوله تعالى : ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا(١) .

فإن الترافع على وجه الاضطرار ليس تحاكماً على الإرادة ، ولا يخلو عن الوجه ، ولا سيّما بملاحظة أدلة العسر والحرج ؛ فإنّ حرمة الأخذ مع انحصار الطريق حكم حرجي مرفوع في الدين.

الثالثة : ظاهر الإضافة في قولهعليه‌السلام : «روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا » ، هو العموم ، فيقتضي أن يكون النائب عنهمعليهم‌السلام

__________________

(١) سورة النساء : من آية ٦٠.

٢٣٤

مطّلعاً على جميع أخبارهم ، عارفاً بجميع أحكامهم إلّا أنّه لما كان ذلك ممَّا يتعذَّر غالباً ، فالظاهر أنّ المراد ما تيسر بحسب الإمكان ، أو القدر الوافي منها ، أو ما يتعلق بتلك الواقعة ، ويؤيده ما في رواية أبي خديجة ، وقوله فيها : «يعلم شيئاً من قضايانا »(١) .

وعلى كل حال فالمراد من المعرفة إمّا الفعلية أو القوَّة القريبة منها. وهذا هو المعبّر عنه بالفقيه الجامع لشرائط الفتوى والحكومة بين الناس. ولا يجوز لمن نزل عن هذه ال مرتبة التصدّي للحكومة ، وإن اطّلع على فتوى الفقهاء بلا خلافٍ ممَّن يعتبر بكلامه ، عدا بعض المتقدِّمين ، كالشيخ في المبسوط ، وبعض المتأخّرين كالسيد الجزائري ، والمحقِّق القمي ، وصاحب الجواهر(٢) .

قال السيِّد الجزائري في الأنوار : (وقولهعليه‌السلام : «فإنّي قَدْ جعلته عليكم حاكماً فليرضوا به » ، ممَّا استدل به الأصحاب على أنّ المجتهدين منصّبون من قبلهعليه‌السلام للقضاء ، فهم وكلاؤه والمعبِّرون عنه في هذه الأعصار».

ثُمَّ قال : (أقول : بل فيه دلالة أيضاً على أنّ من روى الأحاديث ، وعرف مواقعها كان له منصب القضاء ، وإن لم يكن مجتهداً بالمعنى الجديد للمجتهد ، فإنّ المعنى المعروف منه في الصدر السالف هو من بذل جهده وطاقته في دراية الأحكام

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ : ٢١٩ ح ٥١٦ / ٨ ، وإليك تمام الخبر : عن أبي خديجة قال : قال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام : «إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قَدْ جعلته قاضياً فتحاكموا إليه».

(٢) المبسوط ٨ : ٩٩ ـ ١٠١ ، جامع الشتات : فارسي عنه كتاب القضاء للكلبايكاني معرباً ١ : ٢٦ ، القضاء ، الأنوار النعمانية ٣ : ٥٤ ، جواهر الكلام ٤٠ : ١٥ ـ ٢٠.

٢٣٥

والاطلاع عليها ، حَتَّى إنّ أقوال الحلبيين بوجوب الاجتهاد عيناً يرجع إلى هذا الاجتهاد لا الاصطلاحي ، كما لا يخفى ) انتهى(١) .

ولو أردت الزيادة فعليك بمراجعة الجواهر(٢) .

الرابعة : قولهعليه‌السلام : «الحكم ما حكم به أعدلهما ، وأفقههما ، وأصدقهما ، وأورعهما ». يدل على أنّه لا بد للحاكم من أن يتصف بالعدالة ، والفقاهة ، والصدق ، والورع.

فمن اتَّصف بهذه الصفات الأربع فهو أهل للحكومة ، ومنصوب من قبلهمعليهم‌السلام . ومن لم يتَّصف بشيء منها ، أو بعضها لا يجوز له الحكم بين الناس. وإن تعدَّد المتصف بها ووقع الاختلاف بينهما في الحكم أو المستند ، فظاهر هذا الخبر يفيد تقديم من اتّصف بالزيادة في جميعها ، وتقديم من اتّصف بالزيادة في بعضها على من اتصف بالنقصان في ذلك البعض بعينه مع تساويهما في الباقي ؛ لأنّ مناط الحكم هو غلبة الظن به ، وهي في المتَّصف بالزيادة أقوى وبه يثبت وجوب تقليد الأعلم.

وأمّا إذا اتّصف أحدهما بالزيادة في بعض والآخر بالزيادة في بعض آخر ، ففيه إشكال لتعارض الرجحان وتقابل الزيادة والنقصان ، ولا دلالة فيه على تقديم أحدهما على الآخر حَتَّى قيل بالتخيير ، واستظهره بعض محقِّقي المتأخّرين(٣) .

__________________

(١) الأنوار النعمانية ٣ : ٥٤.

(٢) جواهر الكلام ٤٠ : ١٥ ـ ٢٠.

(٣) المستظهر لهذا القول هو الفاضل المازندراني في كتابه شرح اُصول الكافي ٢ : ٣٣٨.

٢٣٦

الأقوى عندي هنا : تقديم الأفقه على الأعدل ، وإن كان الأوّل مظنون الأفقهية والثاني مقطوع الأعدلية ، بعد أن كان الظن بالأفقهية معتبراً ولو من باب العسر والحرج ؛ لاشتراكهما حينئذ في أصل العدالة المانعة من المحارم. وتبقى زيادة الفقاهة الموجبة لزيادة غلبة الظن خالية من المعارض ، وهو اختيار بعض الأصحاب ، ومع تساويهما في الفقاهة يقدم الأعدل ؛ لثبوت الرجحان له كما هو اختيار سيّدنا الأُستاذ طاب ثراه في العروة ، بل وهو الأشهر(١) . ولأنَّ اشتراكهم في أصل الأهليَّة بالنظر إلى أنفسهم لا يقتضي تساويهم بالنظر إلى الغير ، ولأنّ الظنَّ يقول ذي المزيّة أقوى ، وهو ظاهر الحديث ونظائره ، المراد من الأعلم : الأعلم بالشرعيات والأحاديث لا غيرهما كما هو ظاهر.

ويستفاد أيضاً من رواية داود بن حصين ، حيث قال الإمامعليه‌السلام : «ينظر إلى أفقههما ، وأعلمهما بأحاديثنا ».

الخامسة : إنَّ هذا الخبر حجّة لمن ذهب من الأُصوليين والفقهاء إلى أنّ الشهرة حجّة عند تعارض الدليلين ، واستدل به بعض العلماء على حجية الإجماع ، وفيه أن النزاع في جعل الإجماع دليلاً مستقلاً ، وهذا الخبر لا يدلُّ عليه.

السادسة : دل هذا الخبر على أنّ المراد بالشبهات المشكل ـ أعني : ما لا يظهر وجه حلّيّته ، ولا وجه حرمته ـ كما هو مقتضى قوله ، وشبهات بين ذلك ، لا المتنازع فيه مطلقاً كما زعم.

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ٨٠١ مسألة ١٨ في شرائط إمامة الجماعة.

٢٣٧

السابعة : مقتضى قوله : «من أخذ بالشبهات ارتكب المحرَّمات وهلك » ، هو وجوب الاحتياط.

الثامنة : دل هذا الخبر بمقتضى قوله : «فما وافق حكم الكتاب » على حجّية ظواهر الكتاب ، وهو المقصود بالاستدلال بهذا الخبر فيما نحن فيه ، ولا يخفى أنّ هذا القسم من الترجيح في غاية الصعوبة ؛ لتوقُّفه على العلم بسرائر الكتاب وخفيَّاته وعمومه وخصوصه.

التاسعة : مقتضى قوله : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما » ، أنّه يجب تقليد الأعلم إذا خالف رأيه رأي غير الأعلم ، وأمّا مع العلم بالموافقة أو الشك في الموافقة والمخالفة فيجوز تقليد غير الأعلم ، ولكنَّ الأحوط وجوب تقليد الأعلم مطلقاً ؛ لأنّ العمدة في دليل هذه المسألة ـ أعني : وجوب تقليد الأعلم ـ هو عدم العموم أو الإطلاق في الأدلة الدالة على حجّية قول المجتهد مطلقاً ، بل القدر المتيقّن من ذلك هو قول الأعلم ، وقول غير الأعلم مشكوك الحجِّية ، والشك في الحجية كاف في عدم الحجِّية. نعم ، مع العلم بالموافقة غالباً لا أثر لقول الأعلم وهو مطلب آخر.

وعليك بالتأمل في هذا الحديث لعلَّك تستفيد منه ما لم نستفد منه.

ومنها : ما رواه الصدوقرحمه‌الله في الفقيه عن الصادقعليه‌السلام في جواب من قال له : «إنّ لي جيراناً ولهم جوار يتغنين ويضربن بالعود فربّما دخلت المخرج فأطيل الجلوس استماعاً منِّي لهُنَّ؟ فقال له الصادقعليه‌السلام : لا تفعل ، فقال : والله ما هو شيء آتيه برجلي إنّما هو سماع أسمعه باُذني ، فقال الصادقعليه‌السلام : تا لله

٢٣٨

أنت ، أما سمعت الله عزَّ وجلَّ يقول : ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا(١) »(٢) .

فإنّه ظاهر في التوبيخ على ترك العمل بظاهر القرآن.

ومنها : ما رواه الصدوقرحمه‌الله أيضاً بسندٍ صحيح عن زرارة ، قال : «قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : ألا تخبرني من أين علمت وقلت : إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحكعليه‌السلام وقال : يا زرارة قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونزل به الكتاب من الله عزَّ وجلَّ ، قال : ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ﴾. فعرفنا أنَّ الوجه كله ينبغي أن يغسل ، ثُمَّ قال : ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ﴾ فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه ، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين ، ثُمَّ فصل بين الكلامين فقال : ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ﴾ فعرفنا حين قال : ﴿بِرُءُوسِكُمْ﴾ أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء. ثُمَّ وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه ، فقال : ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ(٣) فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما ، ثُمَّ فسر ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للناس فضيَّعوهُ».

وهذا الحديث وقع في الكافي والتهذيب ومن لا يحضره الفقيه(٤) .

__________________

(١) سورة الإسراء : من آية ٣٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ٨٠ ح ١٧٧ ، وإليك ذيل الحديث : «فقال الرجل : كأنني لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله عزَّ وجلَّ من عربي ولا عجمي ، لا جرم أنّي قَدْ تركتها ، وأنا أستغفر الله تعالى ، فقال له الصادق عليه‌السلام : قم فاغتسل وصلِّ ما بدا لك ، فلقد كنت مقيماً على أمر عظيم ما كان أسوأ حالك لو مُتَّ على ذلك! استغفر الله تعالى واسأله التوبة من كل ما يكره فإنّه لا يكره إلّا ال قبيح والقبيح دعه لأهله فإنّ ل كلٍّ أهلاً ».

(٣) سورة المائدة : من آية ٦.

(٤) الكافي ٣ : ٣٠ ح ٤ ، تهذيب الأحكام ١ : ٦١ ح ١٦٨ / ١٧ ، من لا يحضره الفقيه ١ : ١٠٣ ح ٢١٢.

٢٣٩

مجيء الباء للتبعيض

واعلم أنّ الرازي قال : (إن دخلت الباء على فعل غير متعدٍ بنفسه أفادت الإلصاق ، وإن دخلت على فعل متعدٍ بنفسه أفادت التبعيض كقوله تعالى : ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ﴾ أمّا الأوّل فللإتفاق عليه ، وأمّا الثاني فللفرق بين : (مسحت يدي بالمنديل وبالحائط) وبين : (مسحت المنديل والحائط) فإنّه يستفاد التبعيض في الأوّل ، والشمول في الثاني) ، انتهى(١) .

وقال العلّامة في التهذيب : (إنّ سيبويه أنكر كونها للتبعيض في سبعة عشر موضعاً من كتابه)(٢) . ـ مع تقدمه في علم الأدب ، ومعرفته بلغة العرب ـ ويؤكد ذلك قول ابن جني : (كون الباء للتبعيض شيء لا يعرفه أهل اللُّغة)(٣) .

وأجاب عن حُجّة فخر الدين بأنّ : (المسح المقرون بالباء يجعل المنديل والحائط آلة في المسح ، والعاري عنها يجعلها ممسوحين لا ما ذكره. فإنّ الأوّل : عين المتنازع فيه ، فيكون مصادرة على المطلوب. والثاني : ممنوع.

وأيضاً الفعل مع المفعول الأوّل وهو : (يدي) لا يتعدّى بنفسه إلى المنديل ، وهو خارج عن المتنازع فيه ، ولو حذف لفظ يدي وجعل المنديل ممسوحاً منعنا الفرق) ، انتهى(٤) .

__________________

(١) المحصول ١ : ٣٧٩.

(٢) تهذيب الأُصول : ١٨.

(٣) عن المحصول ١ : ١ : ٣٨٠ ، منتهى المطلب ٢ : ٤٠ وغيرها. (وينظر : رأي ابن جني في سر صناعة الأعراب ١ : ١٢٣).

(٤) بما أنَّ المؤلِّفرحمه‌الله ذكر ملخص ما نصّه فخر الدين محمّد بن عمر الرازي في كتابه المحصول ج ١ ص ٣٧٩ رأيت من الفائدة أن أذكر تمامه وهو كما يأتي : (المسألة الخامسة : الباء إذا دخلت على فعل يتعدى بنفسه كقوله تعالى : ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ تقتضي التبعيض خلافاً للحنفيّة ، وأجمعنا على أنّها إذا دخلت على فعل لا يتعدى بنفسه كقولك : (كتبت بالقلم) و (مررت يزيد) فإنها لا تقتضي إلّا مجرد الإلصاق لنا أنا نعلم بالضرورة الفرق بين أن يقال :

٢٤٠