تحفة العالم في شرح خطبة المعالم الجزء ١

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم 0%

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم مؤلف:
المحقق: أحمد علي مجيد الحلّي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 683

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم

مؤلف: آية الله السيّد جعفر بحر العلوم
المحقق: أحمد علي مجيد الحلّي
تصنيف:

الصفحات: 683
المشاهدات: 3075
تحميل: 214

توضيحات:

الجزء 1
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 683 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 3075 / تحميل: 214
الحجم الحجم الحجم
تحفة العالم في شرح خطبة المعالم

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم الجزء 1

مؤلف:
العربية

وفي بعض المواضع : (أنه لما خرج من عنده أمير المؤمنينعليه‌السلام ، دخل عليه الشعبي الملعون ـ الَّذي هو رابع أربعة لم يؤمنوا بعلي ـ فسأله عن حاله فشرح له حديث أمير المؤمنين وما قال له ، فقال الشعبي : أما إنَّ حبَّه لا ينفعك ، وبغضَهُ لا يضرك)(١) .

حضور عليعليه‌السلام عند المحتضر

(هداية) : المنقول عن السيِّد المرتضىرحمه‌الله : (أنه أنكر حضور أمير المؤمنينعليه‌السلام حين سؤال النكيرين ؛ نظراً منهرحمه‌الله إلى القواعد الكلاميّة ، أوجبت له الشبهة في ذلك ، فاعترض بأنه إذا مات ألف مؤمن في لحظة واحدة فكيف السبيل؟

وقال : معنى أن المحتضر يري عليعليه‌السلام أنه يعلم صحَّة ولايته ، ويتحقق وجوب إمامته علماً ضرورياً ، والرؤيا هنا بمعنى العلم ، كقوله : ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ(٢) ، أي : ألم تعلم ، انتهى ما نقل منه)(٣) .

__________________

(١) في كتاب اختیار معرفة الرجال ج ١ ص ٢۹۹ ح ١٤٢ في ترجمة الحارث الأعور ما نصّه : عن أبي عمر البزاز ، قال : سمعت الشعبي ، وهو يقول ـ وكان إذا غدا إلى القضاء جلس في مكاني فإذا رجع جلس في مكاني ـ فقال لي ذات يوم : يا أبا عمر إن لك عندي حديثاً أحدثك به؟ قال قلت له : يا أبا عمرو ما زال لي ضالة عندك ، قال ، قال لي : لا أمّ لك فأيّ ضالة تقع لك عندي ، قال ، فأبى أن يحدثني يومئذ. قال : ثُمَّ سالته بعد ، فقلت : يا أبا عمرو حدّثني بالحديث الَّذي قلت لي؟ قال : سمعت الحارث الأمور وهو يقول : أتيت أمير المؤمنين علياًعليه‌السلام ذات ليلة ، فقال : يا أعور ما جاءك؟ قال : فقلت يا أمير المؤمنين جاء بي والله حبك ، قال ،فقال : أما إني سأحدثك لشكرها ، أما إنه لا يموت عبد يحبني فتخرج نفسه حَتَّى يراني حيث يحب ، ولا يموت عبد يبغضني فتخرج نفسه حَتَّى يراني حيث يكره ، قال ، ثُمَّ قال لي الشعبي بعد : أما إن حبه لا ينفعك وبغضه لا يضرك».

(٢) سورة الفجر : آية ٦.

(٣) رسائل المرتضی ١ : ٢۸۰ ، ٣ : ١٣٣ ، تنزيه الأنبياء : ١٧٧.

٢٨١

ولا بد من التعرُّض لذكر ما يزيل هذه الشبهة والارتياب ، ويرفع لك الستر والحجاب ، فأقول : إن من المسلَّم عند الرياضيين تحديد سرعة الفلك الأعلى بمقَدْار ما يقول أحد : واحد ، يتحرك ألفاً وسبعمائة واثنين وثلاثين فرسخاً من مقعَّرِهِ ، أو ألفين وأربعمائة فرسخ على الخلاف ، والله أعلم بما يتحرك من محدَّبِهِ(١) .

فالقادر على تحريك مثل هذا الجسم العظيم بهذه السرعة لقطع هذه المسافة ، هو القادر على تسيير إنسان واحد في آن واحد من المشرق إلى المغرب ، وإن المتشرعة تقول : إن الملك ليسير في طرفة عين ألف سنة.

وقال الدميري في (حياة الحيوان) في البراق ـ أعني الدابة التي ركبها سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة المعراج ـ : (الصحيح أنه دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض ، يضع خطوه عند أقصى طرفه ، ويؤخذ من هذا أنه أخذ من الأرض إلى السماء في خطوة وإلى السموات في سبع خطوات.

قال : وبه يرد على من استبعد من المتكلِّمين إحضار عرش بلقيس في لحظة واحدة ، وقال : إنه اُعدِمَ ثُمَّ أوجد ، وعلَّله بأن المسافة البعيدة لا يمكن قطعها في هذه اللَّحظة ، وهذا أوضح دلیل في الردَّ عليه)(٢) .

وروى الكليني والصدوق رحمهما الله وغيرهما ، في أخبار كادت أن تكون متواترة عن الأئمّة الأطهارعليهم‌السلام : «أنه ما من مؤمن يموت إلّا ويحضره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي عليه‌السلام فإذا رآهما استبشر »(١) .

__________________

(١) بحار الأنوار ٨٥ : ١١١

(٢) حياة الحيوان ١ : ١٤٧ (مادة : البراق).

٢٨٢

ولحسن بن سليمان الحِلّي تلميذ الشهيدرحمه‌الله كتاب سماه (المحتضر) ـ بالمهملة والضاد المعجمة ـ في تحقيق معاينة المحتضر النبيّ والأئمّة وقت الاحتضار ، وهو غير كتابه (المختصر) بالخاء المعجمة والصاد المهملة(٢) .

وفي (الخرائج) عن أبي الحسن موسی بن جعفرعليه‌السلام ، قال : «أعظم الناس ذنباً ، وأكثرهم إثماً على لسان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : الطاعن على عالم آلِ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمكذّب ناطقهم ، والجاحد معجزاتهم ».

ثمّ قال : «إن من أنكر المعجزات لعلي وأولاده الأحد عشرعليهم‌السلام مع إثباتها للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنه جاهل بالقرآن ، وقَدْ أخبرنا الله سبحانه عن آصف بن برخیا وصي سليمان عما أتی به من المعجزات من عرش ملكة اليمن ، وكان سليمان يومئذ في بيت المقَدْس ، فقال وصيه هذا : ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ(٣) .

وارتداد الطرف لا يتوهم فيه ذهاب زمان ، ولا قطع مسافة ، وبين بيت المقَدْس والموضع الَّذي فيه العرش باليمن مسير خمسمائة فرسخ ذاهباً وخمسمائة فرسخ راجعاً فأتاه به من هذه المسافة قبل ارتداد الطرف(٤) .

فإذا كان آصف وصي سليمانعليه‌السلام بهذا المنزلة مع أنه ما كان يعلم إلّا

__________________

(١) الكافي : ٣ : ١٣٣ ح ٦ ، من لا يحضره الفقيه : ١ : ١٣٥ ح ٣٦١.

(٢) الشيخ الفقيه العلّامة عزّ الدين أبو محمّد الحسن بن سليمان بن محمّد الحلّي الَّذي كان حياً سنة ۸۰٣ هـ وهو من تلامذة الشهيد الأول ، وكتابه (المختصر) هو مختصر لبصائر الدرجات معروف ومطبوع أكثر من مرة.

(٣) سورة النمل : من آية ٤٠.

(٤) الخرائج والجرائح : ١ : ١٧ باختلاف يسير.

٢٨٣

اسماً واحداً من الأسماء العظام ؛ فكيف بأمير المؤمنينعليه‌السلام الَّذي هو وصي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم النبيين وكان يعلم اثنين وسبعين اسماً من الأسماء العظام ، بل هو الاسم الأعظم»(١) .

وفي (الخرائج) أيضاً عن صفوان بن يحيى قال : «قال لي العبدي : قالت لي أهلي : قَدْ طال عهدنا بالصادقعليه‌السلام فلو حججنا وجدَّدنا به العهد.

فقلت لها : والله ما عندي شيء أحتجُّ به.

فقالت : عندنا كسوة وحُلِيّ ، فبع ذلك وتجهز به ، ففعلت ، فلمَّاصرنا قرب المدينة مرَضت مرضاً شديداً حَتَّى أشرفت على الموت ، فلمَّا دخلنا المدينة خرجت من عندها وأنا آيس منها فأتيت الصادقعليه‌السلام ، وعليه ثوبان ممصَّران ، فسلَّمت عليه ، فأجابني وسألني عنها ، فعرفته خبرها.

فقلت : إني خرجت منها وقَدْ آيست منها ، فأطرق ملياً ثُمَّ قال لي : يا عبدي أنت حزين بسببها؟ قلت : نعم.

قال : لا بأس عليها ، فقد دعوت الله لها بالعافية ، فارجع إليها فإنك تجدها قَدْ أفاقت وهي قاعدة ، والخادمة تلقمها الطبرزد(٢) .

__________________

(١) في الكافي ج ١ ص ٢٣۰ ح ١ ، ما نصّه : (عن جابر ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : إن اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفاً وإنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلّم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حَتَّى تناول السرير بيده ثُمَّ عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين ونحن عندنا من الاسم الأعظم اثنان وسبعون حرفاً ، وحرف واحد عند الله تعالى استأثر به في علم الغيب عنده ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».

(٢) الطبرزد : السكر الأبيض. (مجمع البحرين ٣ : ٣٦).

٢٨٤

قال : فخرجت إليها مبادراً فوجدتها قَدْ أفاقت وهي قاعدة والخادمة تلقمها الطبرزد ، فقلت : ما حالك؟ قالت : قَدْ صبّ الله عليَّ العافية صبّاً ، وقَدْ اشتهيت هذا السكر.

فقلت : قَدْ خرجت من عندك آيساً ، فقد سألتي الصادقعليه‌السلام عنك فأخبرته بحالك ، فقال : لا بأس عليها ، ارجع إليها فهي تأكل السكَّر.

قالت : خرجت من عندي وأنا أجود بنفسي ، فدخل رجل وعليه ثوبان ممصِّران. قال : مالك؟ قلت : أنا ميِّتة وهذا ملك الموت قَدْ جاء لقبض روحي.

فقال : يا ملك الموت؟ قال : لبَّيك أيُّها الإمام.

قال : ألست اُمرت بالسمع والطاعة لنا؟ قال : بلى.

قال : فإني آمرك أن تؤخّر أمرها عشرين سنة ، قال السمع والطاعة.

قال : فخرج هو وملك الموت من عندي فأفقت من ساعتي»(١) .

وفي رجال ميرزا محمّد الكبير يسند عن حفص التمّار ، قال : دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام أيام طلب المعلَّى بن خنيس ، فقال لي : «یا حفص! إني أمرت المعلَّى فخالفني فابتلى بالحديد ، إني نظرت إليه يوماً وهو كئيب حزين فقلت : يا معلَّى! كأنك ذكرت أهلك وعيالك؟ قال : أجل.

قلت : ادنُ منّي ، فدنا منّي فمسحت على وجهه ، فقلت : أين تراك؟ فقال : أراني في أهل بيتي ، وهذه زوجتي ، وهذا ولدي. قال : فتركته حَتَّى تملّى منهم

__________________

(١) الخرائج والجرائح : ١ : ٢۹٤ ح ٢ باختلاف يسير.

٢٨٥

[واستترت منه] ، حَتَّى نال ما يقال الرجل من أهله ، ثُمَّ قلت : ادنُ منّي ، فدنا منّي ، فمسحت وجهه ، فقلت : أين تراك؟ فقال : أراني معك في المدينة.

قال : قلت : يا معلَّى! إن لنا حديثاً من حفظه علينا حفظه الله على دينه ودنياه ، يا معلَّى! لا تكونوا اُسراءَ في أيدي الناس بحديثنا ، إن شاءوا أمَنوا عليكم ، وإن شاؤوا قتلوكم الحديث»(١) .

وفيه أيضاً نقلاً عن الكشي : «أنه وجد في كتاب محمّد بن شاذان بن نعيم بخطه ، رُوي عن حمران بن أعين ، أنه قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يحدِّث عن أبيه ، عن أبائهعليهم‌السلام : أنّ رجلاً كان من شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام مريضاً شديد الحمّى ، فعاده الحسين بن عليعليه‌السلام ، فلمَّا دخل من باب الدار طارت الحمّى من الرجل. فقال له : قَدْ رضيت بما أوتيتم به حقاً حقاً ، والحمّى لتهرب منكم.

فقالعليه‌السلام : والله ما خلق الله شيئاً إلا أمره بالطاعة لنا ، يا كناسة! قال : فإذا نحن نسمع الصوت ولا نرى الشخص يقول : لبيك.

قال : أليس أمرك أمير المؤمنينعليه‌السلام أن لا تقربي إلّا عدواً أو مذنباً ؛ لكي يكون كفارة لذنوبه؟ فما بال هذا؟ وكان الرجل المريض عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي»(٢) .

وفيه أيضاً في ترجمة زيد بن علي بن الحسين بن زید : روی محمّد بن علي ، قال : «أخبرني زيد بن علي بن الحسين بن زيد ، فقال : مرضت فدخل

__________________

(١) منهج المقال : ٣٣٨ ، بصائر الدرجات :٤٢٣ ، الاختصاص : ٣٢١ ، اختيار معرفة الرجال : ٢ : ٦٧٦ ح ٧٠٩ ، نوادر المعجزات: ١٥٠ ح ١٨ باختلاف يسير ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) منهج المقال : ٢۰٥ ، اختيار معرفة الرجال : ٢٩٨ ح ١٤١ باختلاف يسير.

٢٨٦

الطبيب عليَّ ليلاً ، ووصف لي دواء آخذه في السَّحر كذا وكذا يوماً ، فلم يمكنّي تحصيله من الليل ، وخرج الطبيب من الباب ، وورد صاحب أبي الحسنعليه‌السلام في الحال ، ومعه صرَّة فيها ذلك الدواء بعينه ، فقال لي : أبو الحسنعليه‌السلام يقرئك السلام ، ويقول : خذ هذا الدواء كذا وكذا يوماً ، فأخذته ، فشربت وبرئت.

قال محمّد بن علي : فقال لي زيد بن علي : يا محمّد! أين الغلاة من هذا الحديث ، قاله المفيد في (الإرشاد)» ، انتهى(١) .

ومن المسلّم عندنا أن إمامنا الجوادعليه‌السلام قام بأمر الإمامة وهو ابن ستّ سنين(٢) ، وفي أوّل سنة إمامته حجّ بيت الله الحرام ، وقَدْ اجتمعت عليه الشيعة من الأطراف ؛ لأجل التشرُّف بخدمته ، وكان أكثرهم من الفضلاء المشهورين ، وفي ثلاثة أيام منى وردت عليه ثلاثون ألف مسألة كلامية وغير كلامية ، وأجاب عنها على نهج الحقّ بحيث حارت عقولهم ، فأقروا بفضله وإمامته(٣) .

والحجّة صلوات الله وسلامه عليه وعجل الله تعالى فرجه تلبّس بالإمامة وهو ابن خمس سنين أو أربع سنين أو ثلاث سنين.

__________________

(١) منهج المقال : ١٥٣ ، الكافي : ١ : ٥۰٢ ح ۹ ، الإرشاد : ٢ : ٣۰۸.

(٢) دلائل الإمامة : ٣۸۸.

(٣) ينظر الكافي ١ : ٤٩٦ ح ٧ ، وكان عمره حين أجاب عشر سنين بمقتضى النصّ الوارد فيه.

٢٨٧

وفي غيبته الصغرى كانت السُّفراء تتشرَّف بخدمته ، وتأخذ منه الأحكام ، وتظهر منه المعجزات ، ومن أوّل إمامته إلى آخر غيبته الصغرى أربعٌ وسبعون سنة ، وفي سنة ٣٢۹ توفّي علي بن محمّد السيمري(١) ، فوقعت الغيبة الكبرى.

وبالجملة فالمستفاد من مجموع هذه الأخبار ، وسائر ما لم نذكره : أنه ينبغي أن نعتقَدْ في أئمّتناعليهم‌السلام أن أجسامهم كأجسامنا ولا نقيس أطوارهم وأحوالهم بأنفسنا ، وما أحسن من قال :

کار باکان را قياس ازخود مگير

گر چه با شد در نوشتن شير شبر

هست يك شيري کآدم ميخورد

شير ديگر هست کآدم ميخورد

وفي الأخبار الكثيرة ما يدلّ على تفويض بعض الشرائع إليهم ، بمعنی كونهم نوّاباً عن الله تعالى فيه بحسب ما تقتضيه عقولهم المقَدْسة ، بل ربّما ظهر من كثير منها عموم التفويض حَتَّى من غير الشرائع أيضاً كما صحّ : أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام قسيم الجنة والنار(٢) ، بل قاسم الأرزاق بين العباد ، كما ورد ذلك في بعض الملائكة أيضاً(٣) .

وليس هذا من التفويض الَّذي تقوله (المفوِّضة) لعنهم الله ، فإنّهم يقولون : (إنّ الله خلق محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله وفوّض إليه أمر خلق الدنيا ، وهو الخلّاق لما فيها ، وبعض منهم يقول : فوّض ذلك إلى عليّعليه‌السلام ، بل ربّما نَسب بعضهم ذلك إلى سائر الأئمّة أيضاً)(٤) .

__________________

(١) كذا ضبط في بعض المصادر كجامع الرواة والمشهور : (السمري) ، فتأمّل.

(٢) ينظر : بصائر الدرجات : ٤٣٤ ففيه بابٌ خاصٌ لهذا الحديث.

(٣) ينظر : بحار الأنوار ٥٦ : ٢٠٤.

(٤) تعليقة على منهج المقال للبهبهاني : ٤٠٠ في معنى المفوضة.

٢٨٨

وربّما اُشير إلى ما ذكرنا بما ورد في الحديث : أنّ أمرنا صعب مستصعب ، لا يحتمله إلّا عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان ، ولا يعي حديثنا إلّا صدور أمينة ، وأحلام رزينة(١) .

تنمية السيِّدرحمه‌الله الَّذي يقول :لا يمكن حلول جسم واحد في مكانين ترتفع حديث العبدي المتقَدْم ، وأمثال هذه الأحاديث المعتبرة كثيرة لا يسعها شرحنا.

الجسد المثالي

هذا وإذا قال السيِّدرحمه‌الله إن ما ذكر في الأخبار كلّها معجزات لهمعليهم‌السلام .

قلنا : تعلُّق أرواحهم بأبدان متعددة ، أو تكوين أبدان متعددة في آن واحد أيضاً من معجزاتهم ، وقَدْ ذكرنا فيما تقَدْم في بحث (التنجيم) رواية (الخصال) عن علي بن الحسينعليه‌السلام وإخباره المنجّم بأنهعليه‌السلام قَدْ دخل أربعة عشر عالماً ولم يتحرَّك من مكانه(٢) .

وفي (الخرائج) أيضاً : أنه لما حضرت الولادة لخديجة دخل عليها ثلاث نسوة ، فارتاعت ، فقلن : لا تخافي ولا تحزني نحن رُسُلُ اللهِ إليك ، هذه : حواء أم البشر ، وهذه : مريم بنت عمران ، وأنا : آسيا بنت مزاحم؟ جئنا لنعينك على أمرك(٣) .

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ : ١٢۹.

(٢) لم يرد في الخصال كما تقَدْم ذكره في محله ، وهو في بصائر الدرجات ٤٢٠ ح ١٣ ، الاختصاص : ٣١٩ ، دلائل الإمامة : ٢١٠ ح ١٣٣ / ٢٣.

(٣) الخرائج والجرائم ٢ : ٥٢٤ باختصار ، وفيه أن النسوة أربع وهن : سارة وآسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران وكلثم بنت عمران.

٢٨٩

فأين كانت حواء ومریم وآسیا وهنَّ في أماكن شتّى ، وليس إلا ظهور الأرواح الإلهية في القوالب البرزخية.

وروى ابن طاووسرحمه‌الله : (أن رجلاً من أصحاب عمر بن سعد ـ لعنه الله ـ رأى في الليلة التي قُتل فيها الحسين عليه‌السلام : أن أبواب السماء فتحت ونزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه الملائكة حَتَّى نزل آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، فأين كان الأنبياء حَتَّى نزلوا بكربلاء (١) ، وقَدْ دفنوا في بقاع شتّى وأجسادهم مودعة في قبورهم إلى يوم القيامة ).

وعن الحسن بن عليعليه‌السلام أن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال له وللحسين : «إذا وضعتماني في الضريح فصليا عليَّ ركعتين قبل أن تهيلا عليَّ التراب وانظرا ما يكون.

فلمَّا وضعاه في الضريح وفعلا ما أمرهما ، فإذا الضريح مغطى بثوب من سندس ، فكشف الحسنعليه‌السلام ممَّا يلي الوجه فوجد : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وآدم وإبراهيم يتحدثون مع أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكشف الحسينعليه‌السلام ممَّا يلي رجليه فوجد : الزهراءعليها‌السلام ومریم وحوّاء وآسيا ينحن على أمير المؤمنين ويندبنه»(٢) .

فأين كان محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وإبراهيم في نجف الكوفة.

وروى ابن عبَّاس : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى علياً وفاطمة والحسن عليه‌السلام والحسين عليه‌السلام في السماء ، وسلّم عليهم وقَدْ فارقهم في الأرض »(٣) .

__________________

(١) الملهوف في قتلی الطفوف : ١۰۰ باختصار ، وفيه أنَّ حادثة الرؤيا وقعت في طريق السير إلى الشام.

(٢) بحار الأنوار ٤٢ : ٣٠١ عن مشارق الأنوار.

(٣) مائة منقبة : ٣٣ ، أمالي الصدوق : ٥٧ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٦٠

٢٩٠

وهذه الصور بأسرها في العوالم المثالية التي تبقى بها الأرواح بعد خلع الأجساد العنصرية ، فإن كل ميّت مات فإنه لا يقوم بهذا الجسد إلّا يوم القيامة ويوم قيام القائمعليه‌السلام ، وقَدْ ورد بهذا المضمون جملة من الأخبار.

ورُوي في (الكافي) بإسناده عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : قلت له : جعلت فداك ، يروون أنَّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش؟ فقالعليه‌السلام : «لا ، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، ولكن في أبدان كأبدانهم »(١) .

قال خالنا العلامة المجلسيرحمه‌الله في الجزء الثالث من كتاب (مرآة العقول) في ما يقع على الإنسان بعد الموت في القبر وعالم البرزخ : (ثُمَّ تتعلق الروح بالأجساد المثالية اللطيفة الشبيهة بأجسام الجن والملائكة المضاهية في الصورة للأبدان الأصلية لسبب تعلق الروح بها ، كبيتٍ كان لرجل وخرج منه وخرب ، فإنَّ له تعلُّقاً ما بذلك البيت ويتألَّم بما يقع عليه.

وبذلك يستقیم جميع ما ورد في ثواب القبر وعذابه واتّساع القبر وضيقه ، وحركة الروح وطيرانه في الهواء ، وزيارته لأهله ، ورؤية الأئمةعليهم‌السلام بأشكالهم وصورهم ، ومشاهدة أعدائهم معذِّبين وسائر ما ورد في أمثال ذلك ، وهذا يتمُّ على تجسُّم الروح وتجرُّده) ، انتهى(٢) .

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٤٤ ح ٤٧٣٦ / ١.

(٢) مرآة العقول ١٤ : ٢١٥.

٢٩١

التناسخ الباطل

وقال عند بيان تعلُّق الروح بالأبدان المثالية عند شرح ما يتعلَّق برواية الكافي) المتقَدْمة ما لفظه ـ بعد حكمه بحسن الحديث ـ : ( ويدل على انتقال الأرواح بعد الموت إلى الأحساء المثالية وبه نستقيم كثير من الآيات والأخبار الواردة في أحوال الروح بعد البدن ، وقَدْ وردت به أخبار مستفيضة لا محيص عن القول به ، وليس هذا من التناسخ الباطل في شيء ؛ إذ التناسخ لم يتم دلیل عقلي علی امتناعه وأكثرها عليلة مدخولة ، ولو تمَّت أكثرها فيما نحن فيه كما لا يخفى على من تدبّر فيها ، والعمدة في نفيه : إجماع المسلمين وضرورة الدين ، ومعلوم أنَّ هذا غير داخل فيما انعقَدْ الإجماع والضرورة على نفيه ، كيف وقَدْ قال به كثير من المسلمین کشيخنا المفيد وغيره من المتكلِّمين والمحدِّثين بل لا يبعد القول بتعلَّق الروح بالأجساد المثالية عند النوم أيضاً كما يشهد به ما يرى في المنام ، وقَدْ وقع في الأخبار تشبیه حالة البرزخ وما يجري فيها بحالة الرؤيا وما يشاهد فيها) ، انتهى(١) .

وقال شيخنا البهائيرحمه‌الله في شرح الأربعين : (قَدْ يتوهم أنّ القول بتعلق الأرواح بعد مفارقة أبدانها العنصرية بأشباح اُخَر كما دلَّت عليه الأحاديث قول بالتناسخ.

وهذا توهُّم سخيف ؛ لأنَّ التناسخ الَّذي أطبق المسلمون على بطلاته هو تعلّق الأرواح بعد خراب أجسادها بأجساد أخرى في هذا العالم وأمّا القول بتعلُّقها في عالم آخر بأبدان مثالية مدَّة البرزخ إلى أن تقوم قيامتها الكبرى ، فتعود إلى أبدانها

__________________

(١) مرآة العقول ١٤ : ٢٢١.

٢٩٢

الأولية بإذن مبدعها إمّا بجمع أجزائها المتشتّتة ، أو بإيجادها من كتم العدم كما أنشأها أوّل مرة ، فليس من التناسخ في شيء) ، انتهى(١) .

وقال الإمام الفخر الرازي في ما نقل عنه من كتابه (نهاية العقول) : (إنّ المسلمين يقولون بحدوث الأرواح وردها إلى الأبدان لا في هذا العالم ، والتناسخية يقولون : بقدمها وردها إليها في هذا العالم ، وينكرون الآخرة والجنَّة والنار ، وإنَّما كفروا من أجل هذا الإنكار ) ، انتهى(٢) .

ولو أردنا أن نسرد عليك أمثال هذه العبارات من كتب المحقِّقين لطال عليك المقام ، وفيما أوردناه كفاية لما رمنا إثباته ، فاغتنم.

بقية ترجمة والد البهائي

فلنرجع إلى ترجمة صاحب العنوان الَّذي هو المقصود بالبيان فنقول : وحسبه منقبة وفضلاً ما هو المنقول عن الشهيد الثاني في إجازته له من قولهرحمه‌الله : (إن الأخ في الله المصطفى في الأُخوَّة ، المختار في الدين ، والمترقّي عن حضيض التقليد إلى أوج اليقين ، الشيخ الإمام العالم الأوحد ذا النفس الطاهرة الزكية والهمة الباهرة العليَّة ، والأخلاق الزاهرة الإنسية ، عضد الإسلام والمسلمين ، عزّ الدنيا والدين : حسين ابن الشيخ الصالح ، العالم العامل ، المتقن المتفنن ، خلاصة الأخيار ، الشيخ عبد الصمد ابن الشيخ الإمام شمس الدين محمّد الشهير بالجبعي الحارثي الهمداني ، أسعد الله جَدَّه ، وجدَّد سعدَه وكَبتَ عدوَّه وضدَّه ، ووفَّقه للعروج على معارج العاملين وسلوك مسالك المتقين ممن انقطع بِكُلَيتِهِ إلى طلب المعالي ووصل يقظة الأيام

__________________

(١) الأربعون حديثا : ٥٠٥ ضمن شرح حديث الأربعين.

(٢) عنه مجمع البحرین ٤ : ٣۰٣ ، بحار الأنوار ٦ : ٢٧۸ ، شرح أصول الكافي للمازندراني ١٢ : ٣١٥.

٢٩٣

بإحياء الليالي ، حَتَّى أحرز نصب السبق في مجاری میدانه ، وحصل بفضله السبق على سائر أترابه وأقرانه ، وصرف برهة من زمانه في تحصيل هذا العلم ، وحصل منه على أكمل نصيب وأوفر سهم ، فقرأ على هذا الضعيف كتباً كثيرة في الفقه ، والأُصول ، والمنطق وغيرها إلى آخر ما قَدْ فصله فيها)(١) .

وکانرحمه‌الله مطَّلعاً على التواریخ ، ماهراً في اللُّغات ، مستحضراً للنوادر والأمثال ، وكانرحمه‌الله ممن جدد قراءة كتب الأحاديث في بلاد العجم ، وله مؤلفات جليلة ورسائل جميلة منها : (شرح القواعد) ، و ( حاشية الإرشاد) لم يتم، و (شرح الألفية) لم يعمل مثله ، وكتاب (وصول الأخيار إلى اُصول الأخبار) و (درايته في الحديث) ، وكتاب (الأربعين) ، و (الرسالة الطهماسية في بعض المسائل الفقهية) ، ورسالتي (الرضاعية) و (الوسواسية) ، وله أيضاً (تعليقات) كثيرة على كتب الرياضي ، ورسالة سمّاها (تحفة أهل الإيمان في قبلة عراق العجم وخراسان) ردَّ فيها على الشيخ علي الكركي حيث أمرهم أن يجعلوا الجدي ما بين الكتفين وغيّر محاريب كثيرة ، سافر إلى خراسان ، وأقام بهراة ثُمَّ انتقل إلى البحرين فمات بها ودفن ، وكان تولده أوّل شهر محرم الحرام سنة ٩١٨ ووفاته سنة ۹۸ ٤ ثامن ربيع الأول وعمره ستاً وستين سنة(٢) .

ومن نثره ما كتبه للشهيد الثاني في سفره لبلاد العجم ، وهي رسالة عجيبة في نهاية الحسن والبلاغة ، منها قوله : ولطالما كانت تصفح على نشوة الإقبال والقبول ، ويهزني مرة الوصول إلى المأمول ، فأترنم بأبيات يكشف عندها الهواء ،

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠٥ : ١٤٦.

(٢) تكملة أمل الآمل : ١۸٢ رقم ١٤٥.

٢٩٤

وتقف لديها الأهواء وأثبتها في رسالتي هذه ليلثم شمسها ببدرها ، ويمتزج عذل زهرها بفوائض بحرها ، وتتشرف بنظرك ومجلسك الرحيب ، ويثبت لها قَدْم صدق عند كل لبيب ، وهي هذه :

ومرسِلِ صِدغٍ قَدْ دعا الناس للهوى

جهاراً فآمنّا وإن لم يدع أمنَّا

أرانا هوى يولي هوانا لذي النهى

ولم يولنا يمناً بيسرى ولا يمنى

وأسلَمَنا للموت عمداً ولم يَكُنْ

ليحيي بالحُسنى وقَدْ ملك الحسنى

أقول وقَدْ أبدى من الشعر منطقاً

بوعدٍ وما هنّا غرامي ولا هنّا

يُمنِّي بوصل لا يمنُّ ببذله

بنفسي مَنْ منَّى زمانا ولا منَّا

نعِمْنا به لكِن مُنعْنا من المُنى

وإذ صدَّ عنَّا قبلَ نيلِ المني عنَّا

وسل لدينا الموت إذ سلَّ جفنه

فيا حُسْنَ ما سلّا ویا حُسْنَ ما سنّا

نسيمُ الهوى إن أنّ من لوعَةِ الهوى

فلا تعجبوا أنّي أئِنُّ وقَدْ أنَّا

وليلُ الجفا والصدُّ جنّا وأظلما

فلا بد إذْ جنّا لمثلي إذ جُنَّا

وأسقمنا ذاكَ الجفا بل أماتَنا

فيا ليلتي عودي فإنْ عدتُما عُدنا

ويا قومَ لُبنى لا بَعدتُم فإنَّنا

إلى قريِكُم اُبنا وإن بَعُدَت لبنى(١)

وله أيضاً من المؤلفات سوى ما ذُكِر : رسالة في (الرحلة) يذكر فيها وقائع ما اتفق له في أسفاره ، ورسالة في (مناظرته مع بعض علماء حلب) في مسألة الإمامة ، و (شرح آخر على ألفية الشهيد) كما عن (الرياض)(٢) يناقش فيه مع

__________________

(١) لم أهتد إلى مصدره.

(٢) رياض العلماء ٢ : ١١٥.

٢٩٥

الشهيد الكركي ، ورسالة في (عينية الجمعة) ، ورسالة في (الاعتقادات الحقّة) وتعليقات له على (الصحيفة الكاملة) ، و (خلاصة الرجال) للعلَّامة ، وكثير من كتب الحديث والفقه ، وكتاب (الغرر والدرر) ، بل (ديوان شعر) كبير.

الشهيد الثاني

وأمّا زين الدين : فهو علي بن أحمد بن محمّد بن علي بن جمال الدین تقي بن صالح الجبعيّ ، العامليّ الشاميّ ، ويعرف بابن الحجّة ، المشتهر بالشهيد الثاني.

جلالة قدره أجل من أن يوصف ، روى عن جماعة كثيرة من الفريقين في الشام ومصر ، وبغداد وقسطنطينة وغيرها ، وآباؤه الكرام من الأعلام وكذلك أبناؤه الفخام.

وقد صنَّف تلميذه الشيخ محمّد بن علي بن الحسن العودي الجزّيني العاملي في أحوال شيخه وأستاذه تاريخاً سمّاه (بغية المريد من الكشف عن أحوال الشيخ زين الدين الشهيد)(١) ، وقال في مقدمته التي جعلها في وصفه بالكمال على الإطلاق ، وما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق : حاز من خصال الكمال محاسنها ومآثرها ، وتردّي من أصنافها بأنواع مفاخرها ، كانت له نفس عليَّة تزهي بها الجوانح والضلوع ، وسجية سنيّة يفوح منها الفضل ويضوع ، كان شيخ الإمامية وفتاها ، ومبدأ الفضائل ومنتهاها.

ملك من العلوم زماما ، وجعل العكوف عليها إلزاما ، فأحيا رسمها وأعلى اسمها ، ولم يصرف لحظة من عمره إلا في اكتساب فضيلة ، ووزع أوقاته على ما

__________________

(١) أدرج هذه الرسالة الشيخ علي حفيد الشهيد الثاني في كتابه الدر المنثور المطبوع.

٢٩٦

يعود على نفسه نفعه في اليوم والليلة ، أمّا النهار في تدريس ومطالعة وتصنيف ومراجعة ، وأمّا الليل قله فيه استعداد کامل لتحصيل ما يبتغيه من الفضائل.

هذا مع غاية اجتهاده في التوجّه إلى مولاه ، وقيامه بأوراد العبادة حَتَّى تكلَّ قدماه ، وهو مع ذلك قائم بالنظر في أحوال معيشته على أحسن نظام ، وقضاء حوائج المحتاجين بأتمَّ قیام ، يلقى الأضياف بوجه مسفر عن کرم کانسجام الأمطار [وبشاشة تكشف عن شمم كالنسيم المعطار] ، یکاد يبرح بالروح وترتاح إليه النفوس كالغصن المروح(١) ، إن رآه الناظر على اُسلوبٍ ظنَّ أنه ما يعاطي سواه ، ولم يعلم أنه بلغ من كل فنٍّ منتهاه ، ووصل منه إلى غاية أقصاه ، فجاء نظامه أرق من النسيم للعليل ، وآنق من الروض البليل.

أمّا الأدب فإليه كان منتهاه ، ورقي فيه حَتَّى بلغ سما سهاه ، وأمّا الفقه فقد كان قطب مداره وفلك شموسه(٢) وأقماره ، وكأنه هوی نجم سعوده في داره.

وأمّا الحديث فقد مد فيه باعاً طويلا ، وذلل صعاب معانيه تذليلاً ، وشعشع القول فيه وروقه ، ومد في ميدان الإعجاز مطلقه ، حَتَّى صار نصب عينيه عياناً ، وجعل للسالكين في طرقه تبياناً ، أدأب نفسه في تصحيحه وإبرازه للناس حَتَّى فشا ، وجعل ورده في ذلك غالباً فيما بين المغرب والعشاء ، وما ذاك إلا لأنه ضبط أوقاته بتمامها ، وكانت هذه الفترة بغير ورد فزيّن الأوراد بختامها.

__________________

(١) المروح : المطيب بالمسك. (لسان العرب ٢ : ٤٥۸).

(٢) في الأصل : (قلك شموسه)

٢٩٧

وأمّا المعقول فقد أتى فيه من الإبداع ما أراد وسبق فيه الأنداد والأفراد ، إن تكلم في علم الأوائل بهج الأذهان والألباب وولج منها كل باب.

وأمّا علوم القرآن العزيز وتفاسيره من البسيط والوجيز فقد حصل على فوائدها وحازها ، وعرف حقائقها ومجازها ، وعلم إطالتها وإيجازها.

وأمّا الهيئة والهندسة والحساب والميقات فقد كانت له فيها يد لا تقصر عن الآيات.

وأمّا السلوك والتصوف فقد كان له فيه تصرف وأي تصرف.

وبالجملة فهو عالم الأوان ومصنّفه ، ومقرظ البيان ومشنّفه ، بتآليف كأنَّها الخرائد ، وتصانيف أبهى من القلائد ، صنعها في فنون مختلفة وأنواع ، وأقطعها ما شاء من الإتقان والإبداع ، وسلك فيها مسلك المدقِّقين ، وهجر طريق المتشدِّقين ، إن نطق رأيت البيان متسرباً من لسانه ، وإن أحسن رأيت الإحسان منتسباً إلى إحسانه.

جدَّد شعائر السنن الحنيفية بعد إخلاقها ، وأصلح للأُمَّة ما فسد من أخلاقها ، وبه اقتدی من رام تحصيل الفضائل ، واهتدى بهداه من تحلَّى بالوصف الكامل ، عمّر مساجد الله وأشاد بنيانها ، ورتّب وظائف الطاعات فيها ، وعظَّم شأنها ، كم أمر بالمعروف ونهی عن المنكر؟ وكم أرشد من صلّى وصام وحجّ واعتمر؟

كان لأبواب الخيرات مفتاحاً ، ولظلمة عتمى الأُمَّة مصباحا ، منه تعلَّم الكرم کلُّ کريم ، وبه استشفى من الجهالة كلُّ سقيم ، واقتفى أثره في الاستقامة كلُّ مستقيم ، لم تأخذه في الله لومة لائم ، ولم يثن عزمه عن المجاهدة في تحصيل العلوم الصوارم ، أخلص لله أعماله فأثّرت في القلوب أقواله.

٢٩٨

أعزّ ما صرف همّته فيه خدمة العلم وأهله ، فحاز الحظ الوافر لما توجَّه إليه بكلّه ، ولقد كان مع علو رتبته وسمو منزلته على غاية من التواضع ولين الجانب ، ويبذل جهده مع کل وارد في تحصيل ما يبتغيه من المطالب ، إذا اجتمع الأصحاب عدّ نفسه كواحد منهم ، ولم تمل نفسه التميُّز بشيء عنهم ، حَتَّى كأنه يتعرض إلى ما يقتضيه الحال من الاشتغال من غير نظر إلى حال من الأحوال ، ولا ارتقاب لمن يباشر عنه ما يحتاج إليه من الأعمال

ولقد شاهدت منه سنة ورودي إلى خدمته أنه كان ينقل الحطب على حمار في الليل لعياله ، ويصلّي الصبح في المسجد ، ويشتغل بالتدريس بقية نهاره ، فلمَّا أشعرت منه بذلك كنت أذهب معه بغير اختياره ، وكنت استفيد من فضائله ، وأرى من حسن شمائله ما يجعلني على حبّ ملازمته ، وعدم مفارقته.

وكان يصلّي العشاء جماعة ، ويذهب لحفظ الكرم ، ويصلّي الصبح في المسجد ، ويجلس للتدريس والبحث كالبحر الزاخر ، ويأتي بمباحث يعجز عنها الأوائل والأواخر.

ولعمري قَدْ اشتمل على فضيلة جميلة ومنقبة جليلة ، تفرَّد بها عن أبناء جنسه ، وحباه الله بها تزكية لنفسه ، وهي : أنه من المعلوم البيّن أنّ العلماء (رحمهم الله) لم يقدروا على أن يروّجوا اُمور العلم ، وينظّموا أحواله ، ويفرغوه في قالب التصنيف والترصيف ، حَتَّى يتفق لهم من يقوم بجميع المهمات ويكفيهم كل ما يحتاجون من التعلُّقات ، ويقطع عنهم جميع العلائق ، ويزيل عنهم جميع الموانع والعوائق : إمّا من ذي سلطان يسخره الله لهم ، أوذي مروَّة وأهل خير يُلقي الله في قلبه قضاء مهمّاتهم ؛ لِئلّا يحصل الإخلال باللطف العظيم ، ويتعطل السلوك إلى

٢٩٩

المنهج القويم ، ومع ذلك كانوا في راحة من الخوف بالأمان ، وفي دعة من حوادث الزَّمان ، ولكل منهم وکلاء قوامون بمصالح معيشتهم ونظام دنیاهم ، بحيث لا يعرفون إلاّ العلم وممارسته ، ولم يبرز عنهم من المصنفات في الزَّمان الطويل إلا القليل ، ومن التحقيقات إلّا اليسير ، وإن كان بعضهم خارجاً عمّا ذكرنا ، فلا غرو مع ما كان فيه من تمام التوفيق الموصل إلى غاية مدارك التحقيق.

وكان شيخنا المذكور ـ روَّح الله روحه ـ مع ما عرفت ، يتعاطى جميع مهماته بقلبه وبدنه ، حَتَّى لو لم تكن إلّا مهمّات الواردين عليه ومصالح الضيوف المتردّدين إليه ، مضافا إلى القيام بأحوال الأهل والعيال ونظام المعيشة ، وإتقان أسبابها من غير وكيل ولا مساعد يقوم بها ، حَتَّى أنه ما كان يعجبه تدابير أحد في اُموره ، ولا يقع على خاطره ترتیب مرتّب لقصوره عمّا في ضميره.

ومع ذلك كلّه فقد كان غالب الزَّمان في الخوف الموجب لإتلاف النفس والتستر والاختفاء الَّذي لا يسع الإنسان معه أن يفكّر في مسألة من الضروريات البديهية ، ولا يحسن أن يعلّق شيئاً يقف عليه من بعده من ذوي الفطن النبيهة.

وسيأتي ـ إن شاء الله ـ في عدّ تصانيفه ما ظهر عنه في زمن الخوف من غزارة العلوم المشبهة بنفائس الجوهر المنظوم ، وقد برز عنه مع ذلك من التصنيفات والأبحاث والتحقيقات والكتابات والتعليقات ما هو ناشٍ عن عين فکر صافٍ ، وغارف من بحار علم وافٍ ، بحيث إذا فكّر مِنْ تفكَّر في الجمع بين هذا وبين ما ذكرنا تحيّر ، وهذه فضيلة يشهد له بها كلُّ من كان له به أدنى مخالطة ، ولا يمكن لأحد فيها مغالطة.

٣٠٠