تحفة العالم في شرح خطبة المعالم الجزء ١

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم 0%

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم مؤلف:
المحقق: أحمد علي مجيد الحلّي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 683

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم

مؤلف: آية الله السيّد جعفر بحر العلوم
المحقق: أحمد علي مجيد الحلّي
تصنيف:

الصفحات: 683
المشاهدات: 3089
تحميل: 214

توضيحات:

الجزء 1
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 683 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 3089 / تحميل: 214
الحجم الحجم الحجم
تحفة العالم في شرح خطبة المعالم

تحفة العالم في شرح خطبة المعالم الجزء 1

مؤلف:
العربية

ولنعم ما قيل في تاريخ وفاته :

غابَ إمامُ العصرِ عنَّا وبانْ

وخُلّدِ اليومَ بأعلى الجنانْ

فَضَعْضَعَ الدينَ وهدَّ الهُدى

وأفجَعَ الإسلامَ إنساً وجانْ

کلٌّ له ينعى ونارُ الأسى

تُضْرَمُ في أحشائِهِ والجنانْ

مَنْ للقضايا بعده والهُدى

مَنْ للمعاني بعدَهُ والبَيانْ

اليومَ قَدْ غابَ إمامُ الهُدی

مصباحُنا المُزهرُ فيه المَكانْ

جَدَّ فنالَ الفَخْرَ في جدِّهِ

وفازَ في الخُلدِ بِحُورٍ حسانْ

مُذْ واحدُ العَصرِ مضى أرّخوا

(قَدْ فَقَدَ المَهديَ هذا الزَّمانْ)(١)

وفي سنة ١٣۰ ٥ جُدِّد بناء هذا المسجد بعد قلعه من أساسه بعناية جدّي العلّامة حسين آل بحر العلوم(٢) ، المتوفّى سنة ١٣۰ ٦ ، لما آذنت جدرانه إلى الانخفاض والسجود ، فرغب بعض أهل الخير والسعادة في تجديد أساسه ، فاُسّس بنيانه على تقوى ، وأملي من أهل الخيرات الراغبين في القربات أن يلفتوا أنظارهم إلى هذا المسجد العظيم ويصلحوا ما فسد من أطرافه اليوم قبل أن يتسع الخرق على الراقع.

__________________

(١) لم أهتد إلى مصدره.

(٢) هو السيِّد حسين ابن السيِّد محمّد رضا ابن السيِّد محمّد مهدي آل بحر العلومرحمه‌الله .

٤٠١

تنبيه : لا ينبغي القدح في من اختار بعض الأقوال التي ذهبت إليها جماعة العامّة ، أو غيرهم من أهل الآراء الفاسدة ، كما سمعت من العلَّامةرحمه‌الله : أن الشيخرحمه‌الله كان يقول أولاً بالوعيد ، ثُمَّ رجع(١) .

القول بالوعيد

والقول بالوعيد هو : اختيار عدم جواز عفو الله عن الكبائر عقلاً من غير توبة. كما عليه جماعة الوعيدية ، مثل : أبي القاسم البلخي وأتباعه ، مع أنه خلاف ما اجتمع عليه الإمامية فإنها متَّفقة : على أنَّ المؤمن الَّذي عمل عملاً صالحاً يدخل الجنَّة خالداً فيها ، وأما الَّذي خلط عملاً صالحاً بغير صالح فاختلفوا فيه(٢) .

فقالت التفضيلية(٣) من أهل السُنّة والإمامية أجمع : أنه لا يجب تعذيبهم ، بل قَدْ يعفو الله عنهم ، أو يشفع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من اُمَّتي »(٤) ، وقد يعاقبه لكن عقاباً منقطعاً ؛ لأنه يستحق الثواب.

قال الصدوقرحمه‌الله في اعتقاداته : (اعتقادنا في الوعد والوعيد : أنَّ من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزه له ، ومن أوعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار فإنْ عذَّبه فعدله ، وإن عفا عنه فبفضله ، وما ربُّك بظلام للعبيد. وقد قال الله تعالى : ﴿إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ). والله أعلم ) ، انتهى)(١) .

__________________

(١) خلاصة الأقوال : ٢٤۹ رقم ٤٧.

(٢) التبيان ١ : ٦١ (المقدمة).

(٣) التفضيلية : هم من يعتقد بعدم خلود مرتكبي الكبائر في جهنم ، فيذهبون إلى أن الشفاعة تشمل المذنبين ، وتؤثر في إسقاط العقاب عنهم ( تفسير الأمثل ١ : ٢۰٧).

(٤) تفسير التبيان ١ : ٢١٣.

(٥) سورة النساء : ٤٨.

٤٠٢

ويدل عليه من الكتاب قوله تعالى : ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّـهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(٢) .

ومن السُنّة ما ورد في (الكافي) و (تفسير العياشي) معاً ، عن الباقرعليه‌السلام في تفسير هذه الآية : «أولئك قوم مؤمنون يحدثون في إيمانهم من الذنوب التي يعيبها المؤمنون ويكرهونها ، فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم »(٣) .

وفي تفسير العياشي خاصّة عنهعليه‌السلام في هذه الآية ، قال : «والعسى من الله واجب ، وإنما نزلت في شيعتنا المذنبين»(٤) .

قلت : ولا شكّ في استحسان صدق الوعد ، وليس كذلك صدق الوعيد ، ولذا لم يكن من أسمائه تعالی صادق الوعيد ، ويقال له : صادق الوعد.

وقال تعالى : ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّـهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ(٥) ، ولم يقل : ووعيده ، بل قال : ويتجاوز عن سيئاته ، مع أنه توعَّد عليها. وأثنى على إسماعيل بأنَّه كان صادق الوعد.

وكتب أرسطا طاليس في كتاب طويل إلى إسكندر بن فیلقوس : (صُنْ وعدَكَ عن الخُلفِ فإنَّه شَيْنٌ ، وشِبْ وعيدَكَ بالعفوِ فإنَّه زَيْنٌ )(٦) .

__________________

(١) الاعتقادات : ٦٧.

(٢) سورة التوبة : ١۰٢.

(٣) الكافي ٢ : ٤٠٨ ح ٢ ، تفسير العياشي ٢ : ١۰٦ ح ١۰۹.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ١٠٥ ح ١٠٥.

(٥) سورة إبراهيم : ٤٧.

(٦) شرح الأسماء الحسنی ١ : ۸۹.

٤٠٣

وقال الطبرسي في (المجمع) في تفسير قوله تعالى : ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ(١) . (ويمكن الاستدلال به على بطلان الإحباط ؛ لأنَّ الظاهر يدل على أنه لا يفعل أحد. شيئاً من طاعة أو معصية ، إلا ويجازى عليها ، وما يقع محبطاً لا يجازى عليه. وليس لهم أن يقولوا : إنّ الظاهر بخلاف ما تذهبون إليه في جواز العفو عن مرتكب الكبيرة ، وذلك لأنّ الآية مخصوصة بالإجماع ، فإنّ التائب معفوٍّ عنه بلا خلاف ، وعندهم إنّ من شرط المعصية التي يؤاخذ بها ، أن لا تكون صغيرة. فجاز لنا أيضاً أن نشترط فيها أن لا يكون ممَّا يعفو الله عنه )(٢) .

الفتاوى الغريبة من بعض فقهائنا

وبالجملة فهو ـ أي جواز العفو ـ وإن صار من المسلَّمات عند الإمامية ، إلّا أنّه لم يكن من الأُصول المسلَّمة عند القدماء ، بحيث يوجب عدم القول به قدحاً ، انظر إلى ما ذكره علماء الرجال في ترجمة محمّد بن بشر السوسنجزدي من أنه : كان من عيون أصحابنا وصالحهم ، متكلِّم جيِّد الكلام ، صحيح الاعتقاد ، وكان يقول بالوعيد. كذا في (الخلاصة)(٣) ، وقريب منه في (فهرست النجاشي)(٤) ، ومع فرض كونه من الأُصول فعدم اختياره لا يوجب قدحاً.

فقد ذهب المفيدرحمه‌الله إلى : أن الله تعالى لا يقَدْر على غير مقدور العبد. كما هو مذهب الجبائي.

__________________

(١) سورة الزلزلة : ٧ ـ ۸.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٤١٧.

(٣) خلاصة الأقوال : ٢٦٦ رقم ١٥٦.

(٤) رجال النجاشي : ٣۸١ رقم ١۰٣٥.

٤٠٤

والسيِّد المرتضیرحمه‌الله إلى مذهب البهشمية من أن إرادته تعالى عرض لا في محلّ.

والشيخ الجليل أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت إلى : جواز اللَّذة العقلية عليه سبحانه ، وأن ماهيته تعالی معلومة كوجوده ، وأن ماهيته الوجود المعلوم ، وأن المخالفين يخرجون من النار ولا يدخلون الجنّة.

والصدوق ، وشيخه ابن الوليد ، والطبرسي في (مجمع البيان)(١) ـ والسيِّد الجزائري في (الأنوار) ، والمحقِّق الفيض على ما يظهر من سياق كلامه في (الوافي) ، والطريحي في (مجمع البحرین) في مادة (ي. د. ي) ، إلى : جواز السهو على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

ومحمّد بن أبي عبد الله الأسدي إلى : الجبر والتشبيه(٣) .

وابن جنیدرحمه‌الله فرّق بین علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالشيء ، وبين علم خلفائه بذلك الشيء ، وكان يمنع من شهادة العبد العدل ، وكان يلحق عرق الجنابة من الاحتلام بالجنابة من الحرام ، وكان يقول بالقياس. فلهذا تركت مُصنِّفاته(٤) .

وذهب صاحب الجواهررحمه‌الله في وجه الجمع بين الأخبار الواردة في الكُرّ من حيث المساحة والوزن ، مع ما هو المعلوم من زيادة مقَدْار المساحة على

__________________

(١) معراج الكمال في معرفة الرجال للشيخ سليمان الماحوزي المتوفّی ١١٢١ هـ عنه طرائف المقال ٢ : ٦٠٧ ، رجال الخاقاني : ١٤۹ ، تعليقة على منهج المقال : ٧۸ ، عدا ما بين الشارحتين فإنه من المؤلِّفرحمه‌الله .

(٢) الأنوار النعمانية ٤ : ٣٥ ، مجمع البحرین ٤ : ٥٧١.

(٣) تعليقة على منهج المقال : ٧۹.

(٤) ينظر : الحدائق الناضرة ٥ : ٢٢۰ ، نتائج الأفكار : ٥٩ ، کتاب فتاوى ابن الجنيد للإشتهاردي.

٤٠٥

مقَدْار الوزن إلى منع علم الإمامعليه‌السلام بنقص الوزن دائماً عن المساحة ، قالرحمه‌الله : (ولا غضاضة فيه ؛ لأنَّ علمهم عليه‌السلام ليس كعلم الخالق ، فقد يكون قدَّروه بأذهانهم الشريفة ، وأجرى الله الحكم عليه )(١) .

حَتَّى أنّ العلَّامة الأنصاريرحمه‌الله قال في ردّه : (ولم أجد من دفع الإشكال. نعم ، دفعه بعض بوجه أشكل ، فإنَّ هذا يرجع إلى نسبة الغفلة في الأحكام الشرعية ، بل الجهل المركّب إليهم! وتقرير الله سبحانه إياهم على هذا الخطأ؟! تعالى الله وتعالوا عن ذلك عُلوّاً كبيراً )(٢) .

ونسب إلى هشام بن الحكم ، وابن سالم ، ويونس ما هو أعظم من ذلك ، إلى غير ذلك ممَّا يطول تعداده.

والحكم بعدم عدالة هؤلاء لا يلتزم به موحِّد يؤمن بالله ، والَّذي يظهر من كلمات أصحابنا المتقدّمين وسيرة أساطين المحدثين ، أنّ المخالفة في غير الأُصول الخمسة لا توجب الفسق إلّا أن يستلزم إنکار ضروري الدين كالتجسیم بالحقيقة لا بالتسمية ، وكذا القول بالرؤية بالانطباع والانعکاس ، وأمّا القول بها لا معها فلا ، لأنه لا يبعد حمله على إرادة اليقين التام ، وشدَّة الانكشاف العلمي.

وأمّا تجويز إدراك اللَّذة العقلية عليه تعالى مع تفسيرها بإدراك الكمال من حيث إنه کمال ، فلا يوجب فسقاً.

ونسب ابن طاووس ، والخواجة نصير الدين الطوسي ، وابن فهد ، والشهید ، وشيخنا البهائيرحمه‌الله ، وجدّنا التقي المجلسي الأول ، وغيرهم من الأجلّة إلى

__________________

(١) جواهر الكلام ١ : ١۸٤.

(٢) كتاب الطهارة ١ : ١٩١.

٤٠٦

التصوُّف ، وغير خفي أنَّ ضرر التصوُّف إنَّما هو فساد الاعتقاد من القول بالحلول ، والوحدة في الوجود ، أو الاتحاد ، أو فساد الأعمال ، كالأعمال المخالفة للشرع ، والتي يرتكبها كثير من المتصوِّفة في مقام الرياضة والعبادة. وغير خفيّ على المطَّلعين على أحوال هؤلاء الأجلّة ، أنَّهم منزّهون عن كلا الفسادَینِ قطعاً(١) .

وبالجملة أكثر الأجلّة ليسوا بخالصين عن أمثال ما أشرنا إليه ، ومن هنا يظهر التأمُّل في ثبوت الغلوّ والفساد للمذهب بمجرد رمي علماء الرجال من دون ظهور الحال.

ولا ريب في أنَّ من بذل وسعه في تحصيل الدليل ، ولم يهتد إليه ، ولم يقف عليه ، فهو معذور عقلاً ونقلاً. ولذا لمّا سئل المحقِّق القمیرحمه‌الله عن بيانات صاحب الوافي وتأوّلاته ، وأنها حقة أم باطلة؟ أجاب : (بأنَّ هذه التأويلات توجب الإضلال عن الدين ، وانحراف القاصرين ، ولولا احتمال الشبهة في حقِّ صاحب هذه التأويلات فهو مظنَّة التكفير. فتراه قَدْ جعل الشبهة عذراً)(٢) .

والمنقول عن شيخنا البهائيرحمه‌الله : (أن المكلَّف إذا بذل جهده في تحصيل الدليل فليس عليه شيء إذا كان مخطئاً في اعتقاده ، ولا يخلد في النار ، وإن كان بخلاف أهل الحق)(٣) .

وهذا هو السرُّ الواقعي في عدم وجوب القضاء على المخالف إذا استبصر مع إتيانه على وفق مذهبه. فإنَّه فاعل في نفسه ما يراد منه ، ولا يلزم أن يكون

__________________

(١) رجال الخاقاني : ١٤٩ نقله بطوله عن صاحب معراج الكمال.

(٢) لم أهتد إلى مصدر قوله.

(٣) الرسائل الرجالية للكلباسي ٢ : ٥۰٧ ، ونسب القول في أعيان الشيعة ٩ : ٢٤٣ عن الشيخ عبد الله البحرانی.

٤٠٧

علماء أهل الضلال ورؤساء الكفَّار غیر مخلِّدين في النار إذا أوصلتهم شبههم وأفكارهم الفاسدة إلى ذلك ، من غير اتِّباع لأهل الحق.

وكأبي حنيفة وأحزابه ؛ إذ يمكن أن يقال : لا نسلِّم أن علماء الضلال قَدْ بذلوا جهدهم في طلب الحق ، ولم يقفوا عليه ، حَتَّى يتمَّ الإيراد بأمثال هؤلاء ، ولاسيَّما مع قوله تعالى : ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا(١) ، فيجوز أن يكون منهم من لم يبذل جهده ، وإنَّما بذل الجهد على مذهب الأسلاف عصبية ، ومنهم من بذل الجهد وظهر له الحقّ ، ولكن لحبّ الجاه والدولة والسلطان ، ينقاد إلى الشقاوة ، وقد خالف العامّة جملة من السنن النبوية المروية من طرقهم ؛ لأنّ الشيعة ملازمة لها كمسألة تسطيح القبور ، ونحوها.

وأمّا حديث سهو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الشائع ذكره في أخبار الأئمةعليهم‌السلام حسب ما يستفاد من كلام الصدوقرحمه‌الله في الفقيه(٢) ، فيمكن الجواب عنه :

بأنّ ذلك وارد عنهمعليهم‌السلام ، ولكن لا يلزم وقوع ذلك من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لإمكان حمل ما ورد عنهمعليهم‌السلام على التقنيَّة ؛ نظراً إلى شیوع ذلك عند العامّة بحيث يعدّ من المسلَّمات عندهم.

ففي مصابيح البغوي ومشكوة الطبي : (أنه من المتَّفق على روايته ، كما في صحيح البخاري ، ومسلم ، عن أبي هريرة ، قال : صلّى بنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله صلاة العصر ، فسلّم في رکعتین ....) الحديث(٣) .

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٦٩.

(٢) من لا يحضره الفقیه ١ : ٣٥۸.

(٣) صحيح البخاري ٢ : ٦٦ ، صحیح مسلم ٢ : ۸٧.

٤٠٨

سبب مهاجرة الشيخ من بغداد

وأما الفتنة التي أوجبت مهاجرة الشيخ من بغداد إلى النَّجف ، فظنّي أنها هي التي ذكرها ابنُ الأثير في حوادث سنة ٤٤٣ ، ولعلّها خمدت ثُمَّ استجدت في سنة ٤٤٨ ؛ لأنه ذكر زيادتها في أول سنة ٤٤٥ ، فمن المحتمل قوياً استمرارها إلى ذلك التاريخ. ولم استحضر ـ حالَ التحریر ـ تاریخ ابن کثير لأنظر ما فيه(١) .

والمنقول عنه أنه : (وكان سبب هذه الفتنة أن أهل الكرخ شرعوا في عمل باب المساكين وأهل القلائين في عمل ما بقي من باب مسعود ، ففزع أهل الكرخ وعملوا أبراجاً كتبوا عليها بالذهب : (محمّد وعلي خير البشر).

وأنكر السُنّة ذلك وادعوا : أن المكتوب : (محمّد وعلي خير البشر ، فمن رضي فقد شكر ، ومن أبى فقد كفر).

وأنكر أهل الكرخ الزيادة وقالوا : ما تجاوزنا ما جرت به عادتنا فيما نكتبه علی مساجدنا ، فأرسل الخليفة القائم بأمر الله أبا تمام نقيب العبَّاسيين ، ونقيب العلويين ،

__________________

(١) في البداية والنهاية ١٢ : ٧۹ ، ما نصّه : (ثُمّ دخلت سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة في صفر منها وقع الحرب بين الروافض والسُنّة ، فقتل من الفريقين خلق كثير ، وذلك أن الروافض نصبوا أبراجاً وكتبوا عليها بالذهب : محمّد وعلي خير البشر ، فمن رضي فقد شكر ، ومن أبى فقد كفر. فأنكرت السُنّة إقران علي مع محمّد صلی الله عليه وسلم في هذا ، فتشبت الحرب بينهم ، واستمر القتال بينهم إلى ربيع الأول ، فقتل رجل هاشمي فدفن عند الإمام أحمد ، ورجع السُنّة من دفنه فنهبوا مشهد موسی بن جعفر وأحرقوا من ضريح موسى ومحمّد الجواد ، وقبور بني بويه ، وقبور من هناك من الوزراء وأحرق قبر جعفر بن المنصور ، ومحمّد الأمين ، وأمّه زبيدة ، وقبور كثيرة جداً ، وانتشرت الفتنة وتجاوزوا الحدود ، وقد قابلهم أولئك الرافضة أيضاً بمفاسد كثيرة ، وبعثروا قبورا قديمة ، وأحرقوا من فيها من الصالحين ، حَتَّى همّوا بقبر الامام أحمد ، فمنعهم النقيب ، وخاف من غائلة ذلك ، وتسلّط على الرافضة عيّار يقال له : القطيعي ، وكان يتبع رؤوسهم وكبارهم فيقتلهم جهاراً وغيلة ، وعظمت المحنة بسببه جداً ، ولم يقدر عليه أحد ، وكان في غاية الشجاعة والبأس والمكر ، ولما بلغ ذلك دبيس بن علي بن مزید ـ وكان رافضياً ـ قطع خطبة الخليفة ، ثُمَّ روسل فأعادها).

٤٠٩

وهو : عدنان ابن الرضي(١) ؛ لكشف الحال وإنهائه ، فكتبا بتصديق قول الكرخيين ، فأمر حينئذ الخليفة ونواب الرحيم بكفّ القتال ، فلم يقبلوا ، وانتدب ابن المذهب القاض والزهيري وغيرهما من الحنابلة أصحاب عبد الصمد بحمل العامّة على الإغراق في الفتنة ، فأمسك الملك الرحيم عن كفّهم غيظاً من رئيس الرؤساء لميله إلى الحنابلة ، ومنع هذه السنة من حمل الماء من دجلة إلى الكرخ ، وكان نهر عیسی قَدْ انفتح بثقه(٢) فعظم الأمر عليهم. وانتدب جماعة منهم وقصدوا دجلة ، وحملوا الماء وجعلوه في الظروف وصبّوا عليه ماء الورد ونادوا : الماء للسبيل. فأغروا به السُنّة.

وتشدد رئيس الرؤساء على الشيعة(٣) فمحوا : (خير البشر) وكتبوا : (عليهما‌السلام ). فقالت السُنّة : لا نرضى إلا أن يقلع الآجر الَّذي عليه محمّد وعلي ، وأن لا يؤذن : (حيَّ على خير العمل) ، وامتنع الشيعة من ذلك ، ودام القتال [من أول صفر](٤) إلى ثالث ربيع الأول ، وقتل فيه رجل هاشمي من السُنّة ، فحمله أهله على نعش وطافوا به في الحربية وباب البصرة وسائر محال السُنّة. واستنفروا الناس للأخذ بثأره ، ثُمَّ دفنوه عند أحمد بن حنبل وقد اجتمع معهم خلق كثير أضعاف ما تقدَّم.

__________________

(١) الشريف عدنان هو ابن الشريف الرضي ، ولي النقابة بعد وفاة عمّه الشريف المرتضي. واستمر إلى أن توفي ببغداد سنة ٤٤٩ هـ.

(٢) انفتح بثقه : أي كسر سده. بثق السيل : أي خرق وشق. (العين ٥ : ١٣۹).

(٣) أبو القاسم ابن المسلمة علي بن الحسن بن أحمد وزير القائم بأمر الله مکث في الوزارة اثنتي عشرة سنة وشهراً ، قتله البساسیري سنة ٤٥٠. قال ابن كثير في تاريخه ١٢ : ٦٨ ما نصّه : (كان كثير الأذية للرافضة ، ألزم الروافض بترك الأذان بحي على خير العمل ، وأمروا أن ينادي مؤذنهم في أذان الصبح بعد حي على الفلاح : الصلاة خير من النوم. مرتين. وأزيل ما كان على أبواب المساجد وماجدهم من كتابة : محمّد وعلي خير البشر. وأمر رئيس الرؤساء بقتل أبي عبد الله بن الجلاب شيخ الروافض لما كان تظاهر به من الرفض والغلو فيه نقتل على باب دكانه ، وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره).

(٤) ما بين المعقوفين من المصدر.

٤١٠

فلمَّا رجعوا من دفنه ، قصدوا باب مشهد التبن(١) [أي مشهد الإمامین الكاظمينعليهما‌السلام ](٢) فأغلق بابه فنقّبوا في سورها وتهدّدوا البوّاب فخافهم وفتح الباب فدخلوا ونهبوا ما في المشهد من قناديل ومحاريب ذهب وفضة وستور وغير ذلك. وأدركهم الليل فعادوا ، فلمَّا كان الغد كثر الجمع فقصدوا المشهد وأحرقوا جميع الترب والآزاج ، واحترق ضریح موسى وضریح ابن ابنه محمّد بن علي ، والجوار والقبتان الساج اللّتان عليهما ، واحترق ما يقابلهما ويجاورهما من قبور ملوك بني بويه معز الدولة وجلال الدولة ومن قبور الوزراء والرؤساء ، وقبر جعفر بن أبي جعفر المنصور ، وقير الأمين محمّد ابن الرشيد ، وقبر اُمّه زبيدة ، وجرى من الأمر الفظيع ما لم يجر في الدنيا مثله.

فلمَّا كان الغد ، خامس الشهر ، عادوا وحفروا قبر موسی بن جعفر ومحمّد بن علي لينقلوهما إلى مقبرة أحمد بن حنبل فحال الهدم بينهم وبين معرفة القبر فجاء الحفر إلى جانبه ، وسمع أبو تمّام نقيب العبَّاسيين وغيره من الهاشميين والسُنّة الخبر ، جاؤوا ومنعوا عن ذلك.

وقصد أهل الكرخ إلى خان الفقهاء الحنفيين فنهبوه وقتلوا مدرِّس الحنفية أبا سعد السرخسی ، وأحرقوا الخان ودور الفقهاء ، وتعدَّت الفتنة إلى الجانب الشرقي فاقتتل أهل باب الطاق وسوق بج والأساكفة وغيرهم ، ولما انتهى خبر إحراق المشهد إلى نور الدولة دبيس بن مزيد ، عظم عليه واشتد وبلغ منه كلَّ مبلغ ، لأنه وأهل بيته وسائر أعماله من النيل كلهم شيعة. فقطعت في أعماله خطبة الإمام القائم بأمر الله

__________________

(١) باب التبن : اسم محلة كبيرة ببغداد على الخندق وبها قبر عبد الله بن أحمد بن حنبل ويلصق هذا الموضع في مقابر قريش التي فيها قبر موسی الکاظم ، ويعرف قبره بمشهد باب التبن. (معجم البلدان ١ : ٣٠٦).

(٢) ما بين المعقوفين زيادة منا لإتمام المعنى.

٤١١

فروسل في ذلك وعوتب فاعتذر بأن أهل ولايته شيعة ، واتّفقوا على ذلك ، فلی أن يشق عليهم ، كما أن الخليفة لم يمكنه كف السفهاء عما فعلوا بالمشهد ما فعلوا) ، انتهى(١) .

الشيخ المفيد

وأمّا المفيد : فقد كان كثير المحاسن ، جم المناقب ، حديد الخاطر ، دقت الفطنة ، مُتَضلِّعاً بالرجال والأخبار والأشعار ، وأوثق أهل زمانه في الحديث. صاحب التوقيعات المعروفة المهدوية ، على موقِّعها آلاف الثناء والتحيِّة.

وقَدْ ذكر [النجاشي](٢) نسبه هكذا : (أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان بن عبد السلام بن جابر بن النعمان بن سعید بن جبیر بن وهيب بن هلال بن أوس بن سعيد بن سنان بن عبد الدار بن الريان بن قطر بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن کعب بن علة بن خلد بن مالك بن أدد بن زید بن يشجب بن عريب بن زید بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان).

وفي رجال النجاشي : (شيخنا واُستاذنارضي‌الله‌عنه ، فضله أشهر من أن يوصف في الفقه ، والكلام ، والرواية ، والثقة ، والعلم. ثُمَّ عدَّ مؤلفاته وقال : ماترحمه‌الله ليلة الجمعة الثلاث ليال خلون من شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ، وكان مولده يوم الحادي عشر من ذي القعدة سنة ست وثلاثين وثلثمائة ، وصلَّي عليه الشريف المرتضى : أبو القاسم علي بن الحسين بميدان الأشنان ، وضاق على الناس مع كبره ، ودفن في داره سنين ، ونقل إلى مقابر قريش بالقرب من السيِّد أبي جعفرعليه‌السلام ـ عند

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٩ : ٥٧٥ ، حوادث سنة ٤٤٣ ، كما وذكرها ابن الجوزي في المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ۹ : ٣٥٧ ، والعماد في شذرات الذهب ٣ : ٢٧۰ ، فليراجع.

(٢) ما بين المعقوفين زيادة منا لإتمام المعني.

٤١٢

الرجلين إلى جنب قبر شيخه الصدوق : أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولویه ـ وقيل مولده سنة ٣٣۸)(١) .

وفي الفهرست للشيخ الطوسيرحمه‌الله : (يكنّى أبا عبد الله ، المعروف بابن المعلِّم ، من جملة متكلِّمي الإمامية. انتهت إليه رئاسة الإمامية في وقته ، وكان مقدماً في العلم وصناعة الكلام ، وكان فقيهاً متقدِّماً فيه ، حسن الخاطر ، دقیق الفطنة ، حاضر الجواب. وله قريب من مائتي مصنَّف كبار وصغار .

قال رحمه‌الله : وكان يوم وفاته يوماً عظيماً لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه ، وكثرة البكاء ، من المخالف والموافق )(٢) .

وعن تاريخ اليافعي المسمّى بمرآة الجنان عند ذکر سنة ٤ ١٣ : ( وفيها توفّي عالم الشيعة ، وإمام الرافضة ، صاحب التصانيف الكثيرة ، شيخهم المعروف بالمفيد وبابن المعلَّم ، البارع في الكلام والفقه والجدل ، وكان يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية.

قال ابن أبي طيّ : وكان كثير الصدقات ، عظيم الخشوع ، كثير الصلاة والصوم ، خشن اللِّباس.

وقال غيره : كان عضد الدولة وربما زار الشيخ المفيد ـ ولمَّا فاق في بحث الإمامة على عبد الجبار المعتزلي ، أهدى إليه السلطان المذكور فرساً مقلَّدة بالذهب ، وخلعه بنفائس الخلع ، واقتطع له جملة من القرى التي حول بغداد ـ وكان شيخاً ،

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣۹۹ رقم ١۰٦٧ ، وما بين الشارحتين من المؤلِّفرحمه‌الله .

(٢) الفهرست للطوسي : ٢٣۸ رقم ٧١١ / ١٢٦، مع اختصار لبعض الألفاظ.

٤١٣

ربعة ، نحيفاً أسمر ، عاش ستاً وسبعين سنة ، وله أكثر من مائة مصنف ، وكانت جنازته مشهودةّ ، شيَّعهُ ثمانون ألفاً من الرافضة والشيعة ، وأراح الله منه)(١) .

وعن تاريخ ابن کثیر الشامي أنه قال فيه : (محمّد بن محمّد بن النعمان ، أبو عبد الله ، المعروف بابن المعلِّم ، شيخ الإمامية الروافض ، والمصنَّف لهم ، والمحامي عن حوزتهم ، كانت له وجاهة عند ملوك الأطراف لميل كثير من أهل ذلك الزَّمان إلى التشيُّع ، وكان مجلسه يحضره خلق كثير من العلماء من سائر الطوائف)(٢) .

وقال جدّي بحر العلومرحمه‌الله : (وحكي عن الشيخ يحيى بن بطريق الحلِّي صاحب كتاب (العمدة) وغيره ، أنَّه : ذكر في رسالة نهج العلوم لتزكية الشيخ المفيدرحمه‌الله طريقين : إحداهما ما يشترك بينه وبين غيره من أصحابنا الثقات).

الرؤية في الغيبة الكبرى

وثانيهما : ما يختص به ، وهو ما ترويه كافة الشيعة وتتلقّاه بالقبول من أنّ مولانا صاحب الأمر. صلوات الله عليه وعلى آبائه ـ كتب إليه ثلاثة كتب ، في كلّ سنة كتاباً ، وكان نسخة عنوان الكتاب : للأخ السديد والوليّ الرشيد الشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان أدام الله إعزازه.

ثُمَّ قال : وهذا أوفى مدح وتزكية ، وأزکی ثناء وتطرية ، يقول إمام الأُمَّة وخلف الأئمّةعليه‌السلام .

ثُمَّ قالرحمه‌الله : وقد يشكل أمر هذا التوقيع بوقوعه في الغيبة الكبرى مع جهالة حال المبلّغ ودعواه المشاهدة المنفيّة بعد الغيبة الصغرى.

__________________

(١) مرآة الجنان ٣ : ٢٢ ، سوى ما بين الشارحتين.

(٢) البداية والنهاية ١٢: ١۹.

٤١٤

ويمكن دفعه باحتمال حصول العلم بمقتضى القرائن واشتمال التوقيع علی الملاحم والأخبار عن الغيب الَّذي لا يطَّلع عليه إلّا الله وأوليائه بإظهاره لهم ، وإنّ المشاهدة المنفيّة : أن بشاهد الإمام ويعلم أنّه الحجّةعليه‌السلام حال مشاهدته له ، ولم يعلم من المبلغ ادعاؤه ذلك.

وقد يمنع أيضاً امتناعها في شأن الخواص ، وإن اقتضاه ظاهر النصوص بشهادة الاعتبار ، ودلالة بعض الآثار(١) .

وقالرحمه‌الله في فوائده الأُصوليّة في بحث الإجماع بعد اشتراط دخول كل من لا تعرفه ممَّن يحتمل كونه الإمامعليه‌السلام : (وربّما يحصل لبعض حفظة الأسرار من العلماء الأبرار العلم بقول الإمامعليه‌السلام بعينه على وجه لا ينافي امتناع الرؤية في مدّة الغيبة ، فلا يسعه التصريح بنسبة القول إليهعليه‌السلام فيبرزه في صورة الإجماع جمعاً بين الأمر بإظهار الحق والنهي عن إذاعة مثله بقول مطلق ، لكنَّ هذا على تقديره طریق آخر بعيد الوقوع ، مختص بالأوحدي من الناس ، وذلك في بعض المسائل الدينيّة بحسب العناية الربَّانيّة) ، انتهى(٢) .

فتراهرحمه‌الله معترفاً بإمكان الرؤية في مثل هذه الأزمنة التي هي زمن الغيبة الكبرى ، وإنّي أعتقد أنّه عنى بقوله : (مختص بالأوحدي من الناس ) نفسه القدسيّة ؛ فإنّ وقوع مثل ذلك له ممَّا هو مسلّم عند كافة من تأخَّر عنه(٣) .

__________________

(١) الفوائد الرجالية ٣ : ٣٢۰.

(٢) فوائد الأُصول : ۸٢ ضمن فائدة ٢٣.

(٣) ويؤيد هذا القول ما ذكره الشيخ النوريقدس‌سره عنه في كتابه جنّة المأوى فإنه نقل أربع حکایات تضمّنت لقاء السيِّد بحر العلوم بالإمام المهدي عجل الله فرجه.

٤١٥

وقال السيِّد المرتضیرحمه‌الله في تنزيه الأنبياء : (فإن قيل : فإذا كان الإمام عليه‌السلام غائباً بحيث لا يصل إليه أحد من الخلق ولا يُنتفع به ، فما الفرق بين وجوده وعدمه؟ إلى أن قال : الجواب : قلنا : أوّل ما نقوله إنّا غير قاطعين على أنّ الإمام عليه‌السلام لا يصل إليه أحد ولا يلقاه عليه‌السلام بشر ، فهو أمر غير معلوم ولا سبيل إلى القطع إليه ) ، انتهى(١) .

وقال المحقِّق الشيخ أسد الله التستريعليه‌السلام في رسالة كشف القناع : (الثاني عشر من وجوه الإجماع وهو ملحق بها صورة : أن يحصل لبعض حملة أسرار الأئمّة العلم بقول الإمام الغائب بعينه ، بنقل أحد سفرائه وخَدَمته سرّاً على وجه يفيد اليقين ، أو بتوقيعه ومكاتبته ، كذلك ، أو بسماعه منه مشافهة على وجه لا ينافي في امتناع الرؤية في زمن الغيبة ).

ثُمَّ ساق كلامه إلى أن قال : (ولا ريب أن حصول العلم لبعض الخواص يقول الإمامعليه‌السلام على نحو ما ذكر أمر يمكن في نفسه ، ولوقوعه شواهد من الأخبار والآثار ، ويجوز له التوسل في إظهار الحق بما قلناه ، حيث لم يكن مأموراً بستره مطلقاً ، ولا يمنع الأمر بستره عن الأعداء ، أو عمّن لا يحمل ذلك كما لا يخفى ، فيكون حجّة على نفسه لكونه من السنّة ، وعلى غيره بعد إبرازه ـ على نحو ما ذكر ـ لكونه من الإجماع ، وربما يكون هذا هو الأصل في كثير من الزيارات والآداب والأعمال المعروفة التي تداولت بين الإمامية ولا مستند لها ظاهراً من أخبارهم ، ولا من كتب قدمائهم الواقفين على آثار الأئمّةعليهم‌السلام وأسرارهم ، ولا إمارة تشهد بأن منشأها أخبار مطلقة ، أو وجوه اعتبارية مستحسنة ، هي التي دعتهم إلى إنشائها وترتيبها ، والاعتناء بجمعها ، وتدوينها ، كما هو الظاهر في جملة منها.

__________________

(١) تنزيه الأنبياء : ٢٣٥.

٤١٦

کما روی والد العلّامة ، وابن طاووس طاب ثراهما ، عن السيِّد الكبير رضي الدین محمّد بن محمّد الأوي الحسيني المجاور بالمشهد المقدس الغروي قدس الله روحه ـ عن صاحب الزَّمان صلوات الله عليه في طريق الاستخارة بالسبحة ، وغيره أيضاً على ما يظهر من كلام الشهيدرحمه‌الله ، وكما هو مروي عنه في قصة الجزيرة الخضراء المعروفة المذكورة في البحار ، وتفسير الأئمة وغيرهما ، وكما سمعه منهعليه‌السلام ابن طاووس في السرداب الشريف ، وكما علّمهعليه‌السلام محمّد بن علي العلوي الحسيني المصري في حائر الحسين وهو بين النائم واليقظان ، وقَدْ أتاه الإمامعليه‌السلام مکرّراً وعلمه إلى أن تعلّمه في خمس ليال وحفظه ثُمَّ دعا به واستجيب دعاؤه ، وهو دعاء العلوي ، المصري ، المعروف ، وغير ذلك ممَّا يقف عليه المتتبع ، ويحتمل أن يكون هو الأصل أيضاً في كثير من الأقوال المجهولة القائل). انتهى(١) .

وإنّما آثرنا نقل كلامه بطوله لوفور فوائده ، وغزارة محصوله.

وقال شيخنا البهائي في شرح الحديث السادس والثلاثين من كتاب شرح الأربعين عند قول أمير المؤمنینعليه‌السلام : «اللهُمَّ بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجية ، إما ظاهر مشهور ، أو خائف مستور »(٢) ، أي : (مستتر غير متظاهر بالدعوى إلّا للخواص ، كما كان من حاله عليه‌السلام في أيام خلافة من تقدم عليه ، وكما كان من حال الأئمة عليه‌السلام من ولده ، وكما هو في هذا الزَّمان من حال مولانا وإمامنا الحجّة المنتظر محمّد بن الحسن المهدي سلام الله عليه وعلى آبائه الطاهرين )(٣) .

__________________

(١) کشف القناع : ٢٣۰.

(٢) في المصدر : (خائف مغمور).

(٣) الأربعون حديثاً للبهائي : ٤٢۹.

٤١٧

وقال المجلسي في (غيبة البحار) عند بيان وجه تشبيههعليه‌السلام بالشمس : (إنّ الشمس قَدْ تخرج من السحاب وينظر إليه واحد دون واحد ، فكذلك يمكن أن يظهر عليه‌السلام في أيام غيبته لبعض الخلق دون بعض )(١) .

وقال أيضاً في باب (إنهعليه‌السلام يشهد ويرى الناس ولا يرونه) : (لعلَّه محمول على من يدّعي المشاهدة مع النيابة وإيصال الأخبار من جانبه عليه‌السلام إلى الشيعة ، على مثال السُّفراء ، لئلّا ينافي الأخبار التي مضت. وستأتي فيمن رآه عليه‌السلام ). انتهى(٢) .

ولعلّ المراد بالآثار التي ادعوا شهادتها على المدّعي ، الوقائع المذكور أغلبها في البحار في الباب الَّذي جعله لخصوص من ادّعى الرؤية في الغيبة الكبرى(٣) ، وزاد على ذلك العلّامة النوري في رسالته (جنّة المأوى)(٤) وكتاب (دار السلام) من الحكايات الصادقة والأحاديث الرائقة في حقّ الفائزين بشرف حضورهعليه‌السلام ، وقد بلغت في حد الكثرة والتواتر ما لا يسع أحداً إنكاره ، أو

__________________

(١) بحار الأنوار ٥٢ : ۹٤.

(٢) بحار الأنوار ٥٢ : ١٥١.

(٣) بحار الأنوار ٥٢ : ١٥١ ـ ١٥٩ باب (من ادّعى الرؤية في الغيبة الكبرى وإنهعليه‌السلام يشهد ويرى الناس ولا يرونه) وفيه واحد وعشرون حديثاً ، وص ١٥۹ ـ ١۸١ باب نادر (في ذكر من رآه في الغيبة الكبرى قريباً من زماننا) وفيه ست حکایات.

(٤) (جنة المأوى : فيمن فاز بلقاء الحجة ومعجزاته في الغيبة الكبرى ، للحاج میرزا حسین بن محمّد تقي النوري الطبرسي المتوفّى ليلة الأربعاء (٢٧ ـ ج ٢ ـ ١٣٢۰ هـ) ، مستدرك لباب من رأى الحجة من المجلد الثالث عشر من البحار ، جمع فيه من لم يذكره العلامة المجلسي أو من كان بعده ، أورد فيه تسعاً وخمسين حكاية ، وفرغ منه في (١٣۰٢ هـ) وطبعه الحاج محمّد حسن الأصفهاني أمين دار الضرب في آخر المجلد الثالث عشر وطبع ثانياً في طهران في (١٣٣٣ هـ)).

(ينظر : الذريعة ٥ : ١٥۹ رقم ٦٧٥).

(٥) (دار السلام فيما يتعلق بالرؤيا والمنام : للعلّامة النوري فرغ من تأليفه في (١٢۹٢ هـ) وهي السنة الثانية من نزوله بسامراء ، وطبع بطهران کلا مجلديه في (١٣۰٥ هـ) ضمن مجلد ضخم كبير أودع في أول مجلد به مطالب متعلقة بالمنام من حقيقته وسببه وعوارضه من أحكامه وآدابه في الشرع وما يتعلق بالرؤيا وأنواعه وتعبير الرؤيا وذكر بعض المنامات وغيرها

٤١٨

خصوص ما رواه في (الكافي) و (الغيبة) للنعماني ، والشيخ الطوسي بأسانید معتبرة عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنه قال : «لا بد لصاحب هذا الأمر من غيبة ، ولا بد له في غيبته من عزلة ، وما بثلاثين من وحشة »(١) .

وظاهر الخبر كما صرّح به شرّاح الحديث أنهعليه‌السلام : يستأنس بثلاثين من أوليائه في غيبته ، ومن المعلوم أنّ هذا العدد من الرجال يتبادلون في كل قرن لعدم التقدير لعمرهم ، مثل ما قَدْر لهعليه‌السلام وعليه(٢) .

فما في بعض الأخبار كما في غيبة الشيخ الطوسي ، واحتجاج الطبرسي ، بل وإكمال الدين للصدوق ، أنه خرج التوقيع إلى أبي الحسن السيمري(٣) : «يا علي بن محمّد السيمري : اسمع ، أعظم الله أجر إخوانك فيك ، فإنك ميّت ما بينك وبين ستة أيام ، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة التامّة ، فلا ظهور إلّا بعد إذن الله تعالى ذكره ، وذلك بعد طول الأمد ، وقسوة القلوب ، وامتلاء الأرض جوراً ، وسيأتي من شيعتي من يدعي

__________________

وأما مجلده الثاني فلقد رتّب فيه مكارم الأخلاق على الحروف الهجائية لتسهيل التناول وأورد في كل واحد منها الأحاديث الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام في مدحه أو ذم نقيضه). (ينظر : الذريعة ٢۰۸ رقم ١٥).

ويوجد كتاب آخر متعلق برؤيته عليه‌السلام ، أيضاً وبنفس الاسم وهو دار السلام فيمن فاز بسلام الإمام ـ أي صاحب الزَّمان عليه‌السلام ـ : للشيخ محمود بن جعفر الميثمي العراقي نزيل طهران والمتوفّر بها حدود (١٣١۰ هأ) فارسي ، وكأنه ترجمة ومستدرك لباب من رأى الحجة عليه‌السلام من الجزء الثالث عشر من كتاب البحار ، رتبه على مقدمة وخمسة أبواب وخاتمة فرغ منه (١٣۰١) وطبع بطهران (١٣۰٣ هـ). (ينظر : الأربعة ۸ : ٢۰ رقم ١۸).

(١) الكافي ١ : ٣٤٠ ح ١٦ ، الغيبة للنعماني : ١۸۸ ح ٤١ ، الغيبة للطوسي : ١٦٢ ح ١٢١ بتفاوت يسير.

(٢) بحار الأنوار ٥٣ : ٣٢۰ والشارح له هو العلامة المجلسيرحمه‌الله .

(٣) كذا ذكره المؤلِّفرحمه‌الله ، وهو في بعض الكتب المتأخرة كخلاصة الأقوال وجامع الرواة وكشف الغطاء ، بينما ضبط في الكثير من الكتب الرجالية وكتب الغيبية المتقدمة بـ(السمري) ، فلاحظ.

٤١٩

المشاهدة ؛ ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني ، والصيحة فهو كذّاب مفتر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»(١) .

لعلّه محمول على من يدّعي المشاهدة مع النيابة وإيصال الأخبار من جانبهعليه‌السلام إلى الشيعة على مثال السُّفراء ، كما وقع ذلك في أثناء الغيبة الصغرى من جماعة من المذمومين الَّذين ادّعوا البابية والسفارة كذباً وافتراء ، كأبي محمّد الحسن الشريعي : فإنه أوّل من ادّعی مقاماً لم يجعله الله فيه ، ولم يكن أهلاً له ، وكذّب على الله وعلى حججهعليهم‌السلام ، ونسب إليهم ما لا يليق بهم ، وما هم منه ابراء. فلعنه الشيعة وتبرأت منه ، وخرج التوقيع من الإمامعليه‌السلام بلعنه والبراءة منه.

المدّعون المشاهدة مع النيابة

ثم تبعه في الدعوى من بعده : محمّد بن نُصَير ـ بالنون المضمومة ، والصاد المهملة المفتوحة ـ النُّميري ، وأبو طاهر محمّد بن علي بن بلال ، والحسين بن منصور الحلّاج ، وابن أبي العزاقر محمّد ، المعروف بالشلمغاني(٢) .

وقَدْ خرج التوقيع بلعنهم والبراءة منهم جميعاً على يد الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح نسخته : «عرّفك الله الخير ، أطال الله بقاءك ، وعرَّفك الخير كلَّه ، وختم به عملك ـ من تثق بدينه وتسكن إلى نيّته من إخواننا أسعدكم الله ـ وقال ابن داود : أدام الله سعادتكم من تسكن إلى دينه وتثق بنيّته ـ بأن محمّد بن علي المعروف بالشلمغاني ، عجّل الله له النقمة ولا أمهله قَدْ ارتدّ عن الإسلام وفارقه ، وألحد في دين الله وادّعي ما كفر معه بالخالق جلّ وتعالى ،

__________________

(١) الغيبة للطوسي : ٣٩٥ ح ٣٦٥ ، الاحتجاج ٢ : ٢۹٧ ، کمال الدین : ٥١٦ ح ٤٤.

(٢) ينظر ذكرهم في : الغيبة للطوسي : ٣۹٧ ـ ٤١٥ ، باب ذكر المذمومين الَّذين ادّعوا البابية.

٤٢٠