الإمام الصادق عليه السلام الجزء ١

الإمام الصادق عليه السلام14%

الإمام الصادق عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 268

الجزء ١
  • البداية
  • السابق
  • 268 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 9441 / تحميل: 2096
الحجم الحجم الحجم
الإمام الصادق عليه السلام

الإمام الصادق عليه السلام الجزء ١

مؤلف:
العربية

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

لا يخفى على أيّ أحد من المسلمين ومن روّاد العلم وغيرهم منزلة ومكانة الامام أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه أفضل الصلاة والسلام بأنّه مشعل الهداية ومصباح الدين الذي انتشر في عصره الاسلام في جميع أرجاء العالم وتشعشعت أضواؤه فى أقصى أنحائه وتخرّجت من مدارسه الرّواة والمحدّثون والمتكلّمون من العامّة والخاصّة ، وليس بإمكاننا التعرّف على هذه الشخصيّة الاسلامية العظيمة حقّ المعرفة مع هذه الألسنة الكالّة والأقلام العاجزة عن فهمها ومعرفتها ، فليس لنا إلاّ المرور الخاطف على حياتهعليه السلام .

ولذلك قامت المؤسّسة ـ ولله الحمد ـ على طبع كتاب للعلاّمة المحقّق الشيخ محمّد الحسين المظفّر وهو يدرس حياة الامام الصادقعليه السلام بصورة موجزة مع اشتماله على كثير من زوايا حياته سلام الله عليه من مدرسته العلمية وتعاليمه ومناظراته وخطبه وأقواله ورواته من العامّة والخاصّة.

نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لنشر الكتب الاسلاميّة وتقديمها لروّاد العلم والحوزات العلميّة ، إنّه وليّ التوفيق.

مؤسّسة النشر الاسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ و ـ إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً و ـ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ.

٤

الإهداء

سيّدي أبا عبد الله :

أرفع بكلتا يديّ هذه الصحائف الوجيزة ، لأهديها إلى رفيع قدسك موقنا أنّي لست ممّن يقوى على الرقي لأمثال هذه المعارج العالية ، أو تنفق بضاعته في مثل هذه السوق الغالية ، غير أنّي مستمسك بعروة هذه العترة الطاهرة ، ومتعلّق بأغصان هذه الشجرة المباركة ، وأرغب جهدي في أن أحسب في عداد من أدركه الحظ بإسداء الخدمة إليهم. وهذا الذي بين يدي ما انتهى إليه عرفاني ، ووصل إليه علمي ، من الجمع والتأليف والتعليق وقيمة كلّ امرئ ما يحسنه ، فإن كانت فيه حسنة فهي منك وإليك ، وإن كانت فيه كبوة فتلك من قلمي الجموح ، ومن أولى منك بالإقالة من العثرات ، وقلّما يسلم منها أحد مثلي ، وما أملي إلاّ أن تمنّ بابتياع هذه البضاعة المزجاة من وليّك ، وثمنها القبول ، وما أغلاه من ثمن.

رقّك

محمّد الحسين المظفّر

٥

الطليعة

لمّا كان الوقوف على حياة هذا الامام يتطلّب درسا لشؤون الدولتين الامويّة والعبّاسيّة اللتين عاصرهما أبو عبد اللهعليه السلام ، وموقف هاتين السلطتين من أهل البيت ، ومعرفة من هم أهل البيت ، ومعرفة ما كان في عهده من المذاهب والنحل ، وما رأته الناس في الإمامة ، حقّ أن نذكر هذه الشؤون في الطليعة ، فإن بها تعرف ما كان من حياته السياسيّة والعلميّة والاجتماعيّة ، والسبب الذي من أجله بثّ العلوم والمعارف ، وندب إلى الأخلاق والمحاسن وحثّ على التكتّم في نشر هذه الفضائل وكتمان نسبتها إلى أهل البيت ، كما منع أولياءهم عن إظهار الولاء لهم والاعلان في التردّد عليهم ، وهو ما نسمّيه بـ « التقيّة ».

فهذه الطليعة يكون القارئ على بصيرة من حياة هذا الامام قبل أن يستعرض تفاصيلها.

* * *

٦

أهل البيت

من هم أهل البيت؟

يأتينا الكتاب الكريم ناطقا مبينا بقوله جلّ شأنه « إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا »(١) إنّها لفضيلة لهم لا يدانيهم فيها أحد من الناس كافّة.

ولا كرامة أنفس من إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم من العيوب كافّة ، ذلك التطهير الذي يريده اللطيف تعالى لهم بعنايته ، وهو غير مقيّد برجس خاصّ ولا من شيء معيّن ، فيدلّ على عموم التطهير من كلّ عيب وذنب.

ويستفاد من هذه الآية الجليلة عصمة أهل البيت النبوي ، لأنّ كلّ ذنب رجس ، وارتكاب الذنوب لا يجتمع مع إذهابها عنهم وطهارتهم منها ، فهم إذن بحكم هذه الآية مطهّرون من الأرجاس والذنوب ، وهل العصمة شيء وراء هذا؟

نعم وإنما الشأن كلّه في المعنيّ بهذه الفضيلة التي امتازوا بها على جميع الامّة. أهم الذين كانوا في البيت حين نزلت هذه الآية الكريمة؟ أم كلّ من يمت إلى الرسول الأطهر بسبب أو نسب؟ فإن قيل بالثاني فالواقع شاهد على خلافه ، لأنّا نجد في نسائه من خالفته وتظاهرت عليه ، ولا رجس أعظم من ذلك. فلا بدّ من أن يكون نساؤه غير معنيّات بها ، واستثناء بعض النساء دون

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣

٧

بعض تحكّم.

هذا فيمن يمت إليه بالسبب ، ونجد البعض ممّن يمت إليه بالنسب يداني الموبقة ، ويقارب الجريمة ، ولا يصحّ أن يريد القدير سبحانه شيئا بالإرادة التكوينيّة(١) ثم لا يقع ، فلمّا كان مستحيلا أن يريد تكوين شيء فلا يكون عرفا أن النساء وعامّة الهاشميّين غير مقصودين من الآية ، لإتيانهنّ وإتيانهم ما ينافي التطهير ، على أنه لم يقل أحد بعصمة نسائه والهاشميّين عامّة.

ولو كان المقصود بها الإرادة التشريعيّة فلا وجه لارادة التطهير من أهل البيت خاصّة ، لأنه تعالى يريده من الناس كافّة ، فاختصاصه بهم على وجه الميزة والفضيلة يدلّنا على تكوينه فيهم ، ثمّ ان الإرادة التشريعيّة إنما تتعلّق بفعل الغير ، ومتعلّقها في الآية فعل الله تعالى نفسه ، ولو كانت الإرادة تشريعيّة لقال : لتذهبوا وتطهروا أنفسكم.

فلا شكّ في أن المعنيّ من الآية هو المعنى الأول ، أعني أن المقصود منها أناس مخصوصون ، وهم الذين كانوا في بيت سيّد الرسلص وقد جلّلهم بكسائه والتحف معهم به ، فنزلت هذه الآية عليهم وفيهم ، وهم عليّ وفاطمة وابناهما: ، وعلى ذلك صحاح الأحاديث من طرق الفريقين(٢) .

ولو لم يكن هناك نقل يدلّ بصراحته على اختصاص هذه الصفوة الكريمة

__________________

(١) الإرادة التكوينيّة هي التي تتعلّق بفعل المريد نفسه وتقابلها الإرادة التشريعيّة التي تتعلّق بفعل الغير على أن يصدر من الغير وهي التي تكون في التكاليف

(٢) انظر مجمع البيان وما رواه القوم في تفسيرها : ٤ / ٣٥٦ وتفسير الشوكاني : ٤ / ٢٧٠ ورواه من عدّة طرق عن أمّ سلمة وعن عائشة وعن غيرهما ، وذكر ابن حجر في الصواعق ص ٨٧ : أن اكثر المفسّرين انها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين: ، الى غيرهم من أهل التفسير والحديث والتاريخ

وحاول الآلوسي في تفسيره روح المعاني بعد أن ذكر الأحاديث الجمّة الواردة في اختصاصها بأهل الكساء أن يعمّم الآية لهم وللنساء وللمؤمنين من بنى هاشم ، وما ذكرناه كاف في ردّه.

٨

بهذه الآية الشريفة لكان من آثارهم اكبر برهان على هذا الاختصاص ، فانّ أفعالهم وأقوالهم ترغمنا على الاعتراف بتلك النزاهة لهم.

وما خفيت هذه الحقيقة الناصعة على أهل البصائر من بدء نزول هذه الآية المحكمة حتى اليوم ، فكان أهل البيت عندهم أهل الكساء ، خاصّة ، الذين حبوا بمكارم لا يأتي عليها الحصر ، وكان منها الطهارة من العيوب ، وذهاب الأرجاس والذنوب.

نعم ربّما استغلّ بعض الهاشميّين ومنهم العبّاسيّون ظاهر عموم كلمة أهل البيت لتحقيق مآربهم والوصول إلى العروش ، فكان الهاشميّون عامّة يدلون على الناس بهذه الآية.

كما كان اسم التشيّع أيضا قد يستغل فيراد به ولاء عليّ وأهل البيت بالمعنى العام ، لا خصوص أصحاب الكساء والأئمة من أولاد الحسين: إلاّ عند الذين لا تجرفهم سيول الرعاع ، ولا يعدل بهم عن الحقّ الصخب أو الضغط ، وما عرفت الناس التشيّع بولاء هؤلاء الأئمة خاصّة إلاّ بعد أن خيّم السكون على الناس بعد الثلث الأوّل من الدولة العبّاسيّة ، حين قرّت شقشقة العلويّين وثوراتهم ، فتمخّض القول وقتذاك بأهل البيت لهؤلاء السادة الأئمة.

وشاهدنا على ذلك أن بني العبّاس ما دبّوا دبيب النمل على الصفا لارتقاء عروش الملك وتحطيم دعائم الدولة المروانيّة إلاّ بذلك الاسم ، بزعم أنهم أهل البيت الأقربون إلى صاحب الرسالة ، ليعطفوا بذلك عليهم قلوب الشيعة ويتّخذوا منهم فعلة لبناء الكيان لسلطانهم ، وهدم بناء الدولة الامويّة التي قاومت أهل البيت وشيعتهم طيلة أيامها ، وصبغت وجه الأرض من دمائهم المسفوحة.

٩

وما كان ليتمّ لبني العبّاس ما أملوه لو لا ادعاؤهم ذلك ، ولو لم يكن الذين نهضوا بهم واتخذوا منهم جسرا عبروا عليه إلى مآربهم شيعة لأهل البيت ، من دون تفريق بين العبّاسي والطالبي ، ولا بين العلوي والجعفري والعقيلي ، ولا بين الحسني والحسينى.

وهكذا كانت الدعوة والنهضة من كلّ هاشمي كنهضة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بالكوفة ثمّ بفارس وفيهما أولياء لأهل البيت ، وقد قضى عليه أبو مسلم بعد تفرّق الناس عنه والتجائه إليه ، وما كان من زيد وابنه يحيى من النهضة ، ولا من الأخوين محمّد وإبراهيم من الدعوة إلاّ لأنهم من أهل البيت وأن غاياتهم من الدعوة أخذ التراث من أعداء أهل البيت.

ولكن قد وضح للناس بعد ذلك أنّ بني العبّاس ليسوا من أهل البيت ، حين سلّوا سيف البغي على أهل البيت قربى الرسولص وعرف الناس أنّ الدعوة من بني العبّاس لقلب دولة أميّة باسم الثأر لقتلى الطف وصليب الكناسة والجوز جان وغيرهم كانت سبيلا للوصول إلى أمنيّتهم المقصودة ، لأنه بعد أن بنوا من جماجم اولئك الاغرار من محبّي أهل البيت قواعد سلطانهم ظهرت كوامن صدورهم ، وما قصدوه من الوليجة إلى غاياتهم ، حتى أن محمّدا وإبراهيم اختفيا عند قبض السفّاح عن أعنة الحكم ، وما اختفيا إلاّ لما يعلمانه من سوء نواياه مع الادنين من الرسول ، والشواهد على ذلك من ضغطهم على أهل البيت وشيعتهم اكثر من أن تحصر ، وفي ثنايا الكتاب سيمرّ عليك من هذا القبيل ما فيه مقنع.

* * *

١٠

بنو أميّة

من هم بنو أميّة؟

يفصح القرآن الكريم معلنا بقوله : « وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن »(١) ويحدّثنا التفسير في سبب نزول هذه الآية الكريمة أنّ النبي رأى في المنام أنّ قردة تنزو على منبره فأعلمه جبرئيل أنهم بنو أميّة يتغلّبون على الأمر فيتنازعون على منبره وأنهم هم الشجرة الملعونة ، ثم انّ النبيص لم يستجمع ضاحكا بعد ذلك حتى مات(٢) .

وجاء في ذمّ بني أميّة والطعن فيهم كثير من التنزيل ، انظر الحاكم في حديث علي في قوله « وأحلّوا قومهم دار البوار »(٣) قال : هما الأفجران من قريش بنو أميّة وبنو المغيرة ، وتفسير ابن جرير في قوله : « وجاهدوا في الله حقّ جهاده »(٤) فإنه قال : إن الذين أمر تعالى بجهادهم مخزوم وأميّة(٥) ، إلى غير ذلك.

ثمّ انّ الرسول الصادق الأمينص يتبع القرآن المجيد بقوله : اللهمّ العن بني أميّة قاطبة ، وبأمثال ذلك ، لا سيّما فيما يخصّ أبا سفيان وابنيه

__________________

(١) بني إسرائيل : ٦٠

(٢) مجمع البيان : ٣ / ٤٢٤ ، وشرح النهج : ٣ / ٤٨٨ و ٢ / ٤٦٦ و ٤٦٧ ، وقال الشوكاني في تفسيره أنهم آل أبي العاص خاصّة وعليه روايات

(٣) إبراهيم : ٢٨

(٤) الحج : ٧٨

(٥) تفسير الطبري : ١٧ / ١٤٢

١١

يزيد ومعاوية ، ولا تنس ما جاء عنه في آل أبي العاص ولا سيّما في الحكم وابنه مروان.(١)

أترى لما ذا يمنح الكتاب المبين أهل البيت بذلك الثناء الجزيل ويذكر بني أميّة بذلك السوء والذمّ ، أيكيل العادل تعالى لأولئك المدح جزافا ، ولهؤلاء الذمّ اعتداء ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

نعم إنّ الطاعة هي التي تقرّب الخلق من الخالق ، وإنّ المعصية هي التي تبعد العبيد عن البارىء ، وإلاّ فانّ عباده لديه بالعطف واللطف وبالرحمة للمطيع وبالنقمة على العاصي شرع سواء ، فإنّه يدخل الجنّة من أطاعه وإن كان عبدا حبشيّا ، والنار من عصاه وإن كان سيّدا قرشيّا.

فما كان دنوّ أهل البيت من حظيرة القدس حتى منحهم تعالى بذلك الوسام الأرفع الذي لم يحظ به بشر سواهم إلاّ لتقواهم وامتثالهم لأوامره ، وما كان بعد بني أميّة عن ساحة الرحمة حتى صاروا الشجرة الملعونة في القرآن ، وحتى عمّتهم لعنة الرسولص مرّة ، وخصّت الكثير منهم اخرى ، مشفوعة بالدعاء عليهم ، إلاّ لعصيانهم لجبّار السموات والأرضين ، واستمرارهم على العصيان.

ولو لم يقرئنا التاريخ قدر تلك الطاعة ، التي كان عليها أهل البيت ومبلغ ذلك العصيان الذي استقام عليه الامويّون ، لكفى ذلك التقديس من الجليل في كتابه لأولئك ، وهذا الحظ من هؤلاء ، كاشفا عمّا عليه الآل من الطاعة

__________________

(١) لا يحتاج الخبير في هذا إلى المصادر لكثرتها ، وإن أحببت الوقوف على شيء من ذلك فانظر شرح ابن أبي الحديد في التعليقة الماضية من الجزء والصحيفة و: ١ / ٣٦١ و: ٢ / ١٠٦ و ٤١٠ و ٤ / ١٤٨ والاستيعاب لابن عبد البر في مروان ، والحاكم عن أبي هريرة في آل أبي العاص ومروان وأبيه وبنيه الى غير ذلك

١٢

والانقياد ، وأميّة من التمرّد والابتعاد.

وهذه النتيجة تلمسها من هذه النصوص الفرقانيّة والأحاديث النبويّة من دون شحذ قريحة وغور في التفكير ، نعم لو سبرت السيرة الاموي ة قبل الاسلام وبعده الى انقراض دولتهم ، لعرفت أنّ الله تعالى ورسولهص إنّما كشفا بالكتاب والسنّة عن تلك السيرة والسريرة الفائتتين ، وأنبأ عن الآتيتين ، وما كان ليخفى على الناس حالهما ، ولكنّ كان هذا التصريح قطعا لاعتذار أوليائهم ودحضا لمكابرات مشايعيهم ، ومع هذه الصراحة من الكتاب والحديث ما زال للقوم حتى اليوم أولياء وأشياع ، ومدافعون وأتباع.

ولأجل أن تطمئنّ القلوب بهذه الحقيقة ، نستطرد نبذا من أعمال أميّة وبنيه أخبرنا عنها التاريخ الموثوق به.

مات عبد مناف وترك عدّة بنين ، كان منهم هاشم والمطّلب ونوفل وعبد شمس ، وكان هاشم أرجحهم عقلا وأسماهم فضيلة فاصطلحت قريش على أن تولّيه الرفادة والسقاية(١) وكانتا لأبيه عبد مناف ، فكان هاشم حيث رأت قريش ، وزاد في شرف أبيه أن سنّ الرحلتين رحلة الشتاء إلى اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام ، وقد ذكر هاتين الرحلتين الكتاب الكريم(٢) ، وما كانت غاية هاشم من الرحلتين إلاّ أن يكثر المال في قريش فيقووا به على إطعام الحاجّ ، وهذه فضيلة سامية أرادها هاشم لقومه ، وهذا شأن العظام الذين ينحون بقومهم عظائم الامور ، ومراقي الشرف الرفيعة.

ثمّ تقدم هو في الاطعام ليكون قدوة لقومه ، فأطعم وأجزل حتى غنّت

__________________

(١) الرفادة بالكسر : إطعام الحاج ، والسقاية بالكسر أيضا : سقيهم

(٢) قريش : ٢

١٣

الركبان بجوده ، وحتّى قال شاعره :

عمرو العلى هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنّتون عجاف

في أبيات مشهورة ، فصار يلقب بهاشم لذلك ، وغلب على اسمه عمرو(١) فكان الجود بعض فضائل هاشم التي سوّدته على قريش سادات العرب.

وانشطرت اخوته فصار المطّلب الى جنب هاشم ، وصار نوفل وعبد شمس في جانب ، وهما ينافسانه ويحاولان أن يجارياه في مفاخره ، فيقصر بهما العمل ، فكان هاشم لكرم فعاله وجميل خصاله سيّد البطحاء غير مدافع.

ولمّا مات عبد شمس وظهر أميّة حاول أن يلحق بهاشم في شأنه بما عجز عنه أبوه من قبل ، وأين أميّة من هاشم في سنّه وشأنه ، وما ساد هاشم إلاّ لأنّه مجمع الفضائل ، ولم يكن لأميّة ما يسود به الفتى خلا المال والولد ولا يكفيان للسيادة اذا لم تكن الأعمال تلحقه بالمعارج السامية.

وطمع أميّة يوما أن ينافر هاشما ، وذلك إقدام لم يرتقب من مثله لمثل هاشم ؛ ولا نعرف سببا في قناعة هاشم بهذه المنافرة ـ وهو سيد الأبطح وشيخ قريش ـ سوى علمه بأنه سوف ينفر أميّة ، وبذلك كبح لجماع أميّة وإذلال لنفسه المتطلّعة لما ليس له كما كان ذلك ، فإنّه قد نفره هاشم فأخرجه من مكّة عشر سنين ، ولعلّ أميّة كان يعتقد أن هاشما سيّد الأبطح لا محالة ينفره ، إلاّ انّه قنع من الشرف أن يقال ان أميّة نافر سيّد الحرم وجرى في مضماره.

ولمّا نبغ عبد المطّلب بعد أبيه هاشم وعمّه المطّلب ، علا على شرف أهله ومفاخر آبائه ، فانبطّ ماء زمزم ولم يتوفّق لها قرشي من قبل ، فحسدته قريش

__________________

(١) شرح النهج : ٣ / ٤٥٧

١٤

وراموا أن يشاركوه في هذه الكرامة والسقاية منها ، فأبى عليهم ، وطلبوا محاكمته عند كاهنة هذيل في الشام ، وعند ما رأوا منه الكرامات في طريقهم الى الشام عدلوا عن محاكمته ، وتركوا له زمزما وسقاية الحاج.

وهو الذي أنذر أبرهة ـ قائد الأحباش والأمير على اليمن من قبل النجاشي ملك الحبشة ـ حين جاء من اليمن بجيش كثيف قاصدا هدم البيت ليتحوّل العرب عن الحجّ إليه ، ولم يخرج عبد المطّلب من البيت كما خرجت قريش هاربة من سطوة الأحباش ، فكان آخر أمر الأحباش الدمار ، كما أفصح عن ذلك الكتاب المجيد(١) فجاء الحال وفقا لما أنذرهم به سيّد الأبطح.

فكانت قريش تحسده لهذه المفاخر ، وصاحب الفضيلة محسود ، وما اكتفى أميّة بما لقيه من منافرة هاشم حتّى حاول منافسة عبد المطّلب ، فحمل أميّة عبد المطّلب على المسابقة ، فسبقه عبد المطّلب واستعبده عشر سنين.

وكان حرب بن أميّة أيضا يفاخر عبد المطّلب بوفره وبأهله ، تجاهلا منه بأن الشرف إنّما هو بالفضيلة ، والأعمال الجليلة ، حتى طلب منافرة عبد المطّلب ، وتلك جرأة كبرى يدفعه إليها الحسد والغرور ، وإن علم يقينا أنه لا يشقّ غبار شيخ قريش ، غير انّا نحسبه انّه كان يعتقد أن المنافرة وحدها تجعل له المكانة العالية وإن نفره عبد المطّلب ، ولقد تعجّب النافر من طمع حرب في منافرة شيخ البطحاء ، والأعمال وجدها كافلة بخسران حرب ، فقال النافر لحرب :

أبوك معاهر وأبوه عفّ

وذاد الفيل عن بلد حرام

وهذا شاهد على ما كان عليه عبد المطّلب وأهله ، وحرب وآباؤه من خلّتين شهيرتين دعت وجوه الناس على الحكم لهاشم وولده في كلّ منافرة ومنافسة.

__________________

(١) سورة الفيل

١٥

ولا تنس حلف الفضول الذي هو خير حلف عقدته قريش بل العرب كلّها ، لردّ عادية الظلم ، والانتصار للمظلوم ، قد دخل فيه الرسول ـ عليه وعلى آله السلام ـ وذلك قبل الاسلام ، وقال فيه بعد ذلك : « لو دعيت إلى مثله لأجبت ». ذلك حلف هدّد بالهتاف به الحسين ـعليه السلام ـ معاوية بن أبي سفيان ، ووقف للطغاة الغاصبين بالمرصاد. فكم ردّ من مال نهب ، وعرض غصب ، وكان السبب فيه الزبير بن عبد المطّلب ، ولم يدخل فيه النوفليّون والعبشميّون ، ويحقّ للسائل أن يسأل عن سبب امتناعهم عن الدخول فيه ، ألأنّ سببه الهاشميّون؟ أم لأنه فضيلة سامية؟ أم لما ذا؟

هذه حال أميّة لو استطردت بعضها قبل بزوغ شمس الاسلام. وأمّا لو نظرت الى مواقفهم بعد بزوغ تلك الشمس النيّرة ، لأيقنت كيف كانت هذه الشجرة جديرة بنزول ذلك الكتاب الكريم ، لا لأنّ الايمان لم يدخل أعماق قلوبهم فحسب ، لأنهم لم يتركوا ذريعة لستر ذلك النور الساطع إلاّ توسّلوا بها ، ولا معولا لهدم بنائه الشامخ إلاّ حملوه ، سوى ما كان منهم من أعمال يأباها العدل والمروءة ويمقتها الشرف والفضيلة.

وهل ينسى أحد ما قام به أبو سفيان من إيذاء الرسول قبل الهجرة ، وما ألّبه عليه بعدها ، هذه أحد والأحزاب والحديبيّة وما سواها من أعمال خلّدها التاريخ تنبئك عن حاله ، ومن صاحب العير وصاحب النفير غيره وغير بني أبيه العبشميّين ، وكيف ينسى ابن الاسلام تلك الوقائع والتاريخ يذكره بها كلّ حين ، وما دخل أبو سفيان وابنه معاوية في الاسلام إلاّ حين أخذ الاسلام منهما بالخناق ، ولم يجدا مفرّا منه ، وقد ألفهما النبيّ الحكيم بعد الفتح بالعطاء الوفر من غنائم حنين ، فأعان الطمع الخوف على ذلك التظاهر والقلوب منطوية على وثنيّتها القديمة وعلى الحسد والحقد وانتهاز الفرصة للوثبة وأخذ تراث الأبناء

١٦

والأخوال والأجداد ، الذين فرت أوداجهم سيوف الاسلام الصارمة.

ولم يطلق أبو سفيان أن يكتم تلك الضغائن النفسية ، فكانت تطفح على فلتات لسانه ، وكان اكثرها أيام عثمان(١) لأمانه من المؤاخذة على كلامه ، ومن أمن العقوبة أساء الأدب ، وكيف لا يأمن والأمر بأيدي صبيانهم على حدّ تعبيره حين ركل قبر حمزة بن عبد المطّلب برجله.

وأما ابنه معاوية(٢) فانه عند ما رأى الاسلام قد ضرب بجرانه الأرض ، ووشجت أصوله ، وبسقت فروعه ، تذرع به إلى اقتلاع جذوره وقد ملك معاوية ناصية البلاد والاسلام غضّ جديد ، فخالف كلّ شريعة من شرائعه ، وناصب كلّ حكم من أحكامه ، سوى أنّه لم يخلع عند الظاهر ربقة الاسلام ، وكيف يخلعها وهي الوسيلة لنيله ذلك الملك الفسيح الأرجاء ، الملك الذي ما كان يحلم به صخر بن حرب بل ولا أميّة من قبل ، وما كان يضرّه من تلك الظاهرة إذا كانت الذريعة لاقتناص مآربه الواسعة ، ولتحطيم قواعد الاسلام الرفيعة.

وكفى من حربه لسيّد الرسل حربه لأمير المؤمنينعليه السلام وقد قال فيه الرسولص : « سلمك سلمي وحربك حربي »(٣) وقال فيه :

__________________

(١) الأغاني : ٦ / ٩٠ ـ ٩٦

(٢) جاء في معاوية عن الرسولص الشيء الكثير ، وإن شئت أن تلمس بعضه فدونك الأحاديث القائلة « يا عمّار تقتلك الفئة الباغية بصفّين » وعدّه السيوطي في الأخبار المتواترة ، ودونك الأحاديث القائلة « إن عليّا يحارب القاسطين وهم معاوية وجنده » ودونك شرح النّهج : ١ / ٣٤٧ و: ٣ / ٤٤٣ و: ١ / ٢٥٤ و: ٢ / ٣٦٣ و: ٢ / ١٠٢ و: ١ / ٣٧٢ ، ٣٦١ ، ٣٥٥ ، ٣٧٣ ، ١١٣ ، وانظر فيها رأي الناس في معاوية و: ١ / ٤٦٣ واقرأ فيها ما يقوله الناس عن معاوية وبني أميّة و: ٣ / ١٥ و ٤ / ١٩٢ ودونك الاستيعاب في معاوية

(٣) مسند أحمد بن حنبل : ٢ / ٤٤٢ واسد الغابة : ٣ / ١١

١٧

« تحارب من بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين »(١) ولو كان القصد من حربه لأبي الحسن ـعليه السلام ـ الطلب بقتلة عثمان لما أغضى عنهم حين انتهى الأمر إليه ، ولا أدري كيف كان معاوية وليّ عثمان والمرتضى هو أمير المؤمنين ووليّهم.

لعمر الحق ما كان شأن معاوية خافيا لندلّل ونأتي بالشواهد عليه ، ولو لم يكن حربا للاسلام ولرسوله لما سنّ الشفرة للقضاء على آل الرسول ، والقرآن يهتف باحترامهم ومودّتهم ، والرسول يدعو إلى ولائهم والتمسك بهم ، وما ذنبهم لدى معاوية إلاّ أنّهم عترة الرسول ورهطه ، ورعاة الدين ودعاته ، ولو صافحهم أو صفح عنهم لم ينل مأربه من الزعامة ، ومقصده من حرب الرسول وشريعته.(٢)

ولم يهلك معاوية مستوفيا لأمانيه من محاربة الرسول والرسالة حتى أرجأ ذلك إلى دعيّه يزيد ، غير أن يزيد لم يكن لديه دهاء أبيه معاوية فيدسّ السمّ بالدسم لكيد الاسلام ، فمن ثمّ برزت نواياه على صفحات أعماله واضحة من دون غشاء ولا غطاء ، فما أصبح إلاّ وأوقع بالحسين سبط الرسول وريحانته وسيّد شباب أهل الجنّة ، وبرهطه صفوة الناس في الصلاح والفضيلة ، وما أمسى إلاّ وتحكّم ما يشاء في دار الهجرة وبقايا الصحابة ، من دون أن يحول عن العبث بها دين أو مروّة أو عفاف ، وما عتم إلاّ وهو محاصر للبيت ترميه حجارته وتفتك بأهليه ورمايته.

وأيّ رهط أذب عن الاسلام وأحمى لحوزته من الحسين وأهله؟ وأيّ بلد

__________________

(١) معاني الأخبار : ٢٠٤ وسنن ابن ماجه : ٨ ح ٣٩٥٠

(٢) شرح النّهج : ١ / ٤٦٣ ، ومروج الذهب : ١ / ٣٤١ فيما يرويانه عن المغيرة بن شعبة في تكفيره لمعاوية وهو المغيرة فكيف إذن معاوية ، ويل لمن كفره النمرود

١٨

أظهر في اتباع الاسلام من الحرمين يوم ذاك؟ وهل أبقى ابن ميسون شيئا من مقدوره في مبارزة الاسلام لم يصنعه ، ومحاربة النبيص وعترته وصحابته لم يفعله؟! ولو أردنا استقصاء أعمال أميّة التي حاربت بها الشريعة وصاحبها الأمين لكثر عليك العدّ ، وخرجنا عن القصد ، أجل لا ضير لو أوردنا نتفا أشار إليها المقريزي صاحب الخطط في رسالته « النزاع والتخاصم » والجاحظ في رسالته التي ضربها مثلا للمفاخرة بين بني أميّة وبني هاشم ، فكان مما أورداه :

إنّ بني أميّة كانوا يختمون أعناق الصحابة ، وينقشون أكفّ المسلمين علامة استعبادهم ، وجعلوا الرسول دون الخليفة ، ووطئوا المسلمات في دار الاسلام بالسباء ، وأخّروا الصلاة تشاغلا بالخطبة ، وكانوا يأكلون ويشربون على منبر النبيّص ويبيعون الرجل في الدين يلزمه(١) .

وهذا بعض ما ذكراه من المنكر منهم ومخالفتهم للشريعة ، وهل يا ترى خفي عليهم الدين وحدوده ، وأنظمته وقيوده ، وكفى من تلك الحرب الشعواء التي أقاموها لمنازلة الشريعة الأحمديّة زيادة على ما سبق أنهم اعتبروا الرسالة ملكا تلعب به هاشم ، وجعلوا الكتاب غرضا للنبال ، وجاهدوا أن يحوّلوا الحجّ إلى بيت المقدس ثمّ إلى المسجد الذي بنوه بدمشق ، ورميهم من على المجانق البيت الحرام.

ولا تسل عمّا لقيته العترة الطاهرة الأحمديّة منهم ، فمن صليب الكناسة وصليب الجوزجان زيد وابنه يحيى إلى قتيل بالسمّ كالحسن والسجّاد والباقر: وأبي هاشم بن الحنفيّة وإبراهيم بن محمّد أخ السفّاح ،

__________________

(١) شرح النهج : ٣ / ٤٦٩ ، ٤٧٠

١٩

ونظائرهم. هذا سوى المشرّدين في الآفاق ، والمغيّبين في قعر السجون.

وكان خيرة القوم في سيرته عمر بن عبد العزيز ، فانّه عرف ما عليه الناس من بغضهم لأهله ، فحاول أنّ يغيّر الرأي فيهم ، والقول عنهم.(١)

ولا غرابة لو رضي الناس بحكومة هؤلاء القوم ، لأن الناس إلى أمثالهم أميل وبأشباههم أرغب.

إنّ الدين يتطلّب من الناس التقوى سرّا وإعلانا ، والسيرة العادلة فى القريب والبعيد ، كما يتطلّب الانتهاء عن الفحشاء ما ظهر منها وما بطن ، والكفّ عن الاعتداء في الرضى والغضب ، وما أبعد الناس عمّا يتطلّبه منهم الدين ، وأين من تقوده نفسه ـ والنفس أمّارة بالسوء ـ إلى اتباع الشريعة وإن ضيّقت عليه سبل الشهوات وحرّمت عليه الظلم والاعتداء.

ولو أراد الناس الهدى لما خفي عليهم الرعاة أرباب العدل والحقّ والايمان والصدق ، ولما ارتضى منهم أولئك الرعاة غير هذه الخلال الكريمة ، وإنّ الناس لتبتعد عن هذه الفضائل العلويّة ابتعاد الوحش من الملائك ، والحصباء من نجوم السماء.

ولو سبرت أحوال الناس لأيقنت بصدق تلك الكلمة النبويّة الخالدة : « كيفما تكونون يولّى عليكم »(٢) ، وهل يرتضي ذو العلم أن يحكمه الجاهل ، والعادل أن يقوده الفاسق.

__________________

(١) ولقد استوفى القاضي أبو حنيفة النعمان المصري في كتابه ( المناقب والمثالب ) ما للهاشميّين من المناقب وللامويّين من المثالب ، ولو قرأت هذا الكتاب لعرفت ما كان عليه بنو أميّة من شنيع الأعمال ولو أردنا الاستقصاء لذكرنا أضعاف ما أوردناه وبما ذكرناه يحصل المطلوب ، والكتاب المذكور ما زال مخطوطا لم يطبع ورأيت منه نسخة في بعض مكتبات النجف

(٢) مسند أحمد بن حنبل : ٤ / ٤٣٧

٢٠

ولو لم يجد رعاة الجهل والجور والفجور أعضادا من أمثالهم وسكوتا عن أعمالهم ، لم تطمع نفوسهم بالانقياد إلى الهوى ، والاسترسال مع الشهوات ، ولم تطمح إلى الغضّ من كرامة الرسولص ومنابذة رسالته ومحاربة عترته.

إنّ درس نفسيّات اولئك الأقوام وسبر أعمالهم تجسّم لك الغدر والخيانة والتحزّب للضلال على الهدى ، وللباطل على الحقّ ، حتى لتكاد أن تعجب كيف لم يندرس الحق ، وتنطمس أعلام الهداية إلى اليوم ، ما دام أنصار الحقّ في كلّ عصر ومصر قليلين جدّا « وقليل من عبادي الشكور ».(١)

وأين تغيب عن هذه الحقيقة ، ونظرة واحدة في عصرنا الحاضر تريك كيف تتمثل المنافسة بين الباطل والحقّ ، وتغلّب الأول بأنصاره على الثاني وأعوانه ، وليس الغريب ذلك إنّما الغريب أن يتّفق انتصار أرباب الحقّ في بعض الأعصار وينخذل الباطل ، ولو انتصر أبو الحسن والحسن على معاوية ، والحسين على يزيد لكان بدعا في الزمن دون العكس في الحال ، وما كان انتصار الرسولص بعد تلك الحروب الدامية إلاّ إقامة للحجّة ، « ليحيى من حيّ عن بيّنة ، ويهلك من هلك عن بيّنة »(٢) ولو غلب الكفر على الاسلام لم يتمّ نوره ، ولا قامت حجّته.

إنّ الرسول الأمين جاء للناس بكلّ فضيلة وسعادة وخلق كريم وقد وقفوا دون أداء رسالته ، وتنفيذ دعوته ، وما رسالته إلاّ لخيرهم ، وما دعوته إلاّ لسعادتهم ، ولأيّ شيء أبت نفوسهم عن الاستسلام لتلك الفضائل غير مخالفتهم لها في السيرة والسريرة دأب البشر في كلّ عصر ، وهل خضع الناس لقبول تلك

__________________

(١) سبأ : ١٣

(٢) الأنفال : ٤٢

٢١

السعادة إلاّ بعد أن علا رءوسهم بالسيف ، وضرب خراطيمهم بالسوط ، وما أسرع ما انقلبوا على الاعقاب بعد انتقاله إلى حظيرة القدس ناكصين عن سنن الطريق ، حين وجدوا مناصا للعدول « وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا »(١) .

بيد أن الأمويّة مخّضت عن أفذاذ ثبت الايمان في قلوبهم ، ونهضوا مع الحقّ حربا للباطل ، ولا عجب فإنه تعالى : « يخرج الحيّ من الميت »(٢) ولا شكّ أن اللعن لا يعمّهم ، والكتاب الكريم يقول : « لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم »(٣) « ولا تزر وازرة وزر اخرى »(٤) « من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها »(٥) « ما على المحسنين من سبيل »(٦) .

* * *

__________________

(١) آل عمران : ١٤٤

(٢) الأنعام : ٩٥

(٣) المائدة : ١٠٥

(٤) الأنعام : ١٦٤

(٥) فصّلت : ٤٦

(٦) التوبة : ٩١

٢٢

بنو العبّاس

ساد ظلم الأمويّين الناس عامّة ، وما اختصّ بالأبرار ، ولا بعترة المختارص فمقتهم آخر الأمر أهل السوء كما أبغضهم أهل الصلاح ، فقام الباكيان باك يبكي على دينه وباك يبكي على دنياه ، وصار الناس تتطلّب المهرب من جورهم ، وتريد الخلاص من حكمهم ، كانت أميّة تهدّد بلاد الاسلام كافّة بأهل الشام ، لأن الشام جندهم الطيّع الذي لا يحيد عن رأيهم ، ولا يتخلّف عن أمرهم ، وبأهل الشام واجتماعهم ملك معاوية مصر والعراق والحجاز ، مع ما في الحجاز والعراق من رجال الرأي والشجاعة الذين كان افتراقهم مطمعا للشام باجتماعهم ، وما ساق ابن زياد الكوفة على ابن الرسولص بغير الوعيد بأجناد دمشق والوعد بالمال ، وما تغلّب عبد الملك على العراقين والحرمين واستلبها من آل الزبير إلاّ بتلك الأجناد ، كانت الشام لا تعرف غير أميّة للملك بل للخلافة ، بل لكلّ دعوة وطاعة وما زالت أميّة مهيمنة على البلاد الوسيعة.

حتى إذا اختلف بنو أميّة بينهم وصار بعضهم يقتل بعضا اختلف أهل الشام باختلافهم ، وافترقت كلمتهم لافتراق القادة الذين ضلّلوهم وأضلّوا بهم.

ولمّا اختلفت كلمة الأمويّين اشرأبّت الأعناق لسلطانهم ، وطمعت

٢٣

النفوس في بلادهم ، ولكن من الذي يجهر بتلك الأماني والرعب من الشام آخذ بالقلوب ، وكيف ينسى الناس تلك القسوة والسطوة وجندهم أهل الشام ولم يطل العهد على حادثة الطف التي أظهر فيها الأمويّون فنون الارهاب وضروب اللؤم والانتقام ، ولا على واقعة الحرّة التي أبانوا فيها غرائب الخسّة والدعارة والهتك للحرمات والمحارم والسفك للدماء البريئة ، ولا على حصار البيت من يزيد مرّة ، ومن عبد الملك أخرى حتى رمته المجانيق وأضرموا فيه النار فهدموه ، ولا على قتل زيد وصلبه وإحراقه ، وقتل يحيى وصلبه ، والحوادث المثيرة التي أنزلوها بالناس ، من دون أن يجدوا حرمة لحريم ولا رادعا عن محرم ، فكأن النفوس والنفائس والأعراض والعروض لم تكن إلاّ طعمة لهم ، ومنفذا لشهواتهم ، فكيف والحال هذه يجهر ابن حرّة بعداء بني أميّة ، أو يتظاهر بالكيد لدولتهم.

نعم لم تأمل الناس من أحد أن ينتزع منهم التيجان ، ويسلبهم السلطان غير بني هاشم ، لأنهم أرباب ذلك العرش ، سواء كانت الخلافة بالنصّ أو القربى أو الفضيلة فصارت الناس تستنهضهم سرّا ، وتحثهم على الوثبة همسا.

غير أن في الهاشميّين رجالا كثيرة تصلح للرئاسة ، وتقوى على التدبير والسياسة ، أفيثب بهم ربّ الخلافة وربيب الامامة أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق8 ، أم عبد الله بن الحسن فاضل بني الحسن وشيخهم أم ابنه محمّد من جمع من المكارم كلّ خلّة ، أم أخوه ابراهيم أبي الضيم ، أم ابراهيم بن محمّد العبّاسي ، أم أخواه السفّاح والمنصور ، أرباب الهمم والشمم ، أم عبد الله بن معاوية الجعفري الذي أهّلته المفاخر والمكارم لذلك المقام ، أم سواهم وهم عدّة كاملة ، لو رشّح نفسه كلّ فرد منهم لتلك الزعامة لزانها بجميل خصاله.

٢٤

بيد أن الصادقعليه السلام لو تقدم لها لم يسبقه إليها أحد ، لفضله وكثرة شيعته ، ولكنه كان يدافع من يستحثّه ، ولا يجيب من يستنهضه.

ولمّا لم يجدوا عنده أملا للنهوض عدلوا عنه إلى غيره ، فتارة يبايعون محمّدا وفي طليعتهم أبوه وأخوه وينو الحسن وبنو العبّاس ، وأخرى يدعو أبو مسلم في خراسان للعبّاسيّين وأبو سلمة الخلاّل بالكوفة للرضا من آل محمّدص وطورا يثب ابن جعفر في كوفان فلا يتمّ له أمر ، وتارة يظهر في فارس فلا يستقيم له شأن ، فيهرب إلى أبي مسلم في خراسان ، فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار ، لأنّ حتفه كان على يديه ، ولم تمض برهة طويلة على تلك الأعاصير الهائجة ، والأجواء المضطربة ، حتى استقرّ الأمر في بني العبّاس.

تلك الأقدار هي التي طوحت بالأمر حتى جعلته في أحضان السفّاح والمنصور ، وإلاّ فمن الذي كان يحتسب أن الأخوين اللذين كانا يتنقّلان فى الأحياء يرويان للناس فضائل أبي الحسن ذريعة للاستعطاف والاستجداء واللذين بايعا ابن الحسن يوم اجتماعهم بالأبواء من دون تلكّؤ وأمل بالملك واللذين كانا تحت راية ابن جعفر وفي جنده يوم ظهر في فارس ينيلهما من وفره ، هما اللذين يتواليان على دسّت الحكم ، ويكونان السالبين لعروش أميّة ، ومن الذي كان يخال أن ابن جعفر فارس الوثبة يكون قتيل داعيتهما أبي مسلم ، وما هما إلاّ بعض جنده ، ومن الذي كان يظنّ أن ابن الحسن الذي أمّل نفسه وأمّلته الناس بالخلافة وبايعته على الموت يصبح وأخوه إبراهيم صريعين بسيف المنصور.

شاءت الأقدار ـ ومن يغلب القدر ـ أن يثب على كرسيّ الحكم بنو العبّاس ، وتصبح الدولة الامويّة أثرا بعد عين ، وخبرا بعد حسّ ، فلا أسف على من فات ، ولا فرح بالآت ، تذهب أمة فاجرة وتأتي دولة جائرة.

٢٥

ارتقى السفّاح منصّة الحكم فضحكت له الدنيا بعد تقطيب وأقبلت عليه بعد إدبار ، ولكن هل يسلم المرء ـ وإن أقبلت عليه الدنيا بأسرها ـ من نوازل الهم؟ أصبح ابن عبّاس بين همّين همّ تطهير البلاد من الأمويّين لتخلص له الأمّة ، وهمّ المنافسة على العرش من بني علي ، العرش الذي لم ترسخ أسسه بعد ، ولم تثبت قوائمه ، وما أسرع ما يميد إذا عصفت أعاصير الوثبات عليه ، ولم يسترح بعد من همّه الأوّل حتى أقلقه الثاني ، وكيف يأمن من العلويّين ، وأبو عبد الله الصادقعليه السلام إمام مفترض الطاعة عند شطر من هذه الامّة ، وعند كثير من أجنادهم الذين قلبوا بهم عروش بني مروان ، وهل قتلوا أبا سلمة الخلاّل إلاّ لأنهم أحسّوا منه أنه يريدها لبني علي ، وأن البيعة للسفّاح كانت بالغلبة عليه وإعجاله عليها.

وكيف يأمن ألاّ ينافسه العلويّون ومحمّد بن الحسن كانت له البيعة يوم الأبواء ، وهو الذي صفّق السفّاح والمنصور بيديهما على يده ، وهو الذي كان المؤهّل للعرش الذي وثبوا عليه ، وما زالت تلك الأماني تخالج نفسه ولأيّ شيء اختفى يوم ظهر السفّاح؟ أليس الليث قد يربض للوثبة؟

حاول ابن عبّاس أن يستريح من هذا الهمّ فأرسل خلف الصادقعليه السلام إلى الحيرة ليوقع به وإن لم يظهر ما يتخوّفه على سلطانهم ، فلما وصلها ضيّق عليه ، ولكن لمّا لم يجد عنده هاتيك المخاوف سرّحه إلى المدينة راجعا والهواجس تساوره.

ثمّ صار يتطلّب ابني عبد الله بن الحسن ، وهما مختفيان خوفا من بطشه وكلّما جدّ في العثور عليهما جدّا في الاختفاء.

انقضى دور السفّاح القصير والصادقعليه السلام وادع في المدينة وابنا الحسن خلف ستور الخفاء ، وما جاءت أيام المنصور إلاّ واشتدّ على العلويّين ،

٢٦

فما ترك الصادق يقرّ في دار الهجرة بل صار يجلبه إليه مرّة بعد أخرى ويلاقيه بالاساءة عند كلّ جيئة ، ويهمّ بقتله في كل مرّة ، وما زال معه على هذه الحال إلى أن قضى عليه بالسمّ.

وأما محمّد وإبراهيم فكان يفحص عنهما بكلّ ما أوتي من حول وحيلة فكان يعلن بالأمان لهما مرّة ، ويشتدّ على أبيهما وبني الحسن اخرى ، فلم تنفعه هذه الوسائل للوصول إليهما ، والعثور عليهما ، ثم حمل بني الحسن إلى العراق ، واستودعهم غياهب السجون ، حتى قضى أكثرهم بأشنع قتلة وما فتئ أن فوجئ بوثبة محمّد بالمدينة والبصرة ، وهذا ما كان يرقبه ويتذرّع بالوسائل لصدّه ، ويتخوّف عقباه ، غير أن القضاء غالب.

ملك بنو العبّاس فظهر مكرهم وغدرهم ، بايعوا ابن الحسن ثمّ جدّوا في طلبه وطلب أخيه للقضاء عليهما ، حاول ابن عبّاس أن يضعا يديهما بيده استسلاما ، وكيف يستسلمان وفي النفوس إباء وعزّة وآمال تؤيّدها الناس في طلب الوثبة ، وإن خمدت فيهما تلك الروح الوثّابة استفزّها الناس بالحثّ على النهضة ، فما زالوا بهما حتى وثبا بعد ذاك الاختفاء الطويل.

وما كانت تلك الغدرة من بني العبّاس ببني الحسن الوحيدة في سلطانهم ، غدر المنصور بأبي مسلم باني كيان دولتهم ، وقتلوا أبا سلمة الخلاّل وحبسوا يعقوب بن داود ، وقتلوا الفضل بن سهل ، وما سوى هؤلاء وكم همّوا بعليّ بن يقطين وجعفر بن محمّد الأشعث الوزيرين.

وغدر المنصور أيضا بعيسى بن موسى العبّاسي وعزله عن ولاية العهد وولّى مكانه ابنه المهدي ، وكانت الولاية لعيسى جعلها له المنصور بدلا عن بلائه في حرب محمّد وإبراهيم وقضائه عليهما وعلى نهضتها ، تلك النهضة التي أقلقت المنصور وجعلته يعتقد بزوال سلطانه.

٢٧

وغدر الرشيد بوزرائه البرامكة وبيحيى الحسني بعد الأمان ، وغدر الأمين بأخيه المأمون حين عزله عن العهد ، والمأمون بالرضاعليه السلام حين سمّه بعد بيعته بولاية عهده ، إلى ما لا يحصى ممّا كان منهم من غدرة وفجرة وإن أعظم غدر منهم ما كان مع بني الحسينعليه السلام ، كانت شيعة بني علي جند بني العبّاس في إزالة دولة بني مروان كما تقدم ، وكان شعارهم الطلب بثأر القتلى من أهل البيت ، وهل قتل بسيف الأمويّين غير الطالبيين؟ وهل لقى الشدّة والضيق من الامويين غير العلويين؟ ولئن لاقى سواهم من الهاشميّين شيئا من ذلك فلا يشبه ما حلّ بآل أبى طالب.

ندب العبّاسيّون الناس لطلب الثأر بل ندبهم الناس إليه ، وكانت هذه أمضى وسيلة لنيل إربهم ، فما استقرّت أقدامهم في حظيرة الملك إلاّ وراحوا يتتبعون آل الرسولص فكأن العترة هم الذين جنوا في تلك الحوادث القاسية يوم الطفّ ، وسبوا عقائل النبوة ، وأنزلوا بزيد ويحيى وغيرهما هاتيك الفظائع المؤلمة ، وكأنّما القتلى والأسرى كانت من بني العبّاس والجناة عليهم العلويّون ، وكأن لم يكن العلويّون هم الذين نهض الناس انتقاما لهم ، وللأخذ بتراتهم.

ما انجلت الحوادث عن طرد الأمويّين إلاّ وأهل البيت صرعى تلك الحوادث بدلا من أن ينالوا العطف من بني العبّاس لما حلّ بهم من فواجع دامية من الأمويّين ، ولما ناله العبّاسيّون أنفسهم من الملك الفسيح بهم.

هكذا انجلت الغبرة بعد استلام العبّاسيّين أزمة الحكم ، فما نسيت الناس حوادث أهل البيت من الأمويّين حتى كانت المقارع على رءوسهم من بني العبّاس يتبع بعضها بعضا من دون رحمة ، ولا هوادة ، ولا فترة ، لما ذا هذا كلّه ، ولما ذا كان أهل البيت دون غيرهم بيت المصائب والنوائب؟ فلنبحث عن السبب في الفصل الآتي :

٢٨

ما جناية أهل البيت؟

هتف القرآن المجيد بآيات كثيرة في شأن أهل البيت ، آمرا بمودّتهم مخبرا عن طهارتهم ، حاثّا على الاعتصام بهم ، حاضّا على طاعتهم ، معلنا عمّا لهم من جزيل الفضل وعظيم المنزلة.

وأتبعه الرسولص طيلة حياته كاشفا عمّا جمعه آله من الفضائل ، وحبوا به من المفاخر ، يوجب تارة طاعتهم واتّباعهم ، ويلزم أخرى بمودّتهم ويعطف طورا للقلوب عليهم ويستميل مرّة النفوس إليهم إلى ما سوى ذلك.(١)

وما كان ذلك إلاّ لسعادة الناس أنفسهم ليأخذوا الدين من أهله والعلم من معدنه ، فكان الحقّ على الناس احترامهم ، والانقطاع إليهم والانصراف عن غيرهم.

كان أهل البيت ـ أعني عليّا والزهراء وابنيهما وأبناء الحسين: ـ مثالا للنبيص في شمائله وفضائله وخصاله وفعاله ، فمن أراد علم الرسول كانوا باب مدينته ، ومن أراد منطقه كانوا مظهر فصاحته وبلاغته ، ومن أراد خلقه وجدهم أمثلة سيرته ، ومن أراد دينه وجدهم مصابيح شريعته ،

__________________

(١) ذكرنا في كتابنا « الشيعة وسلسلة عصورها » بعض ما جاء في الكتاب والسنّة في شأن أهل البيت وفضلهم والدعوة الى ولائهم

٢٩

ومن أراد زهده وجد فيهم منهاج طريقته ، ومن أراد البرّ بعترته كانوا صفوة ذرّيته ، ومن أراد النظر إليه كانوا جمال صورته ، هكذا كان أهل البيت إن قستهم إلى صاحب البيت ، وهذا بعض ما كانوا فيه مثالا لشخصيّته الكريمةص .

ومن كانت له عند الرسولص ترة فمنهم الأخذ بترته ، أو كان له مع الاسلام عداء فهم للاسلام أقوم عدّته ، أو كان له مع الدين غضاضته فإنهم للدين أوقى جنّته ، أو كان له مع المعروف حرب فهم للمعروف أبناء دعوته أو كان له مع المنكر ولاء فهم أعداء خطّته.

وإن ذكر الخير كانوا أدلاّءه ، أو سار الفضل كانوا لواءه ، أو نشر العدل كانوا أخلاّءه ، أو خاض الناس في المفاخر كانوا أبعدهم قعرا وأثمنهم درّا ، أو تسابق أهل الفخر إلى المكارم كانوا أسبقهم جولة ، وأبعدهم شوطا ، وإن تنافسوا في الشرف كان عندهم الوقوف والاحجام ، فما من فضيلة إلاّ وإليهم مآلها ، ومنهم انتقالها.

فاذا كان أهل البيت كما وصفنا فكيف لا يقف معهم بنو أميّة موقف العدوّ اللدود ، والخصم العنود ، ألم يكن النبيص قد قتل منهم في الله من قتل ، فمتى يأخذون منه تراتهم ، ولو أغضوا عن حماة الاسلام ، ودعاة الدين لعاد النبيّ بدعوته ، كأنه لم يمت ولم يمت ذكره ، ولسار الاسلام وأحكامه ونظامه كما أراده الجليل تعالى والرسولص ، ولو وقفوا معهم موقف المحايد لعرف الناس فضل أهل البيت وبأن للعالم حقّهم ، ولما بقيت عندئذ لأميّة وسيلة لارتقاء منابر الاسلام ، وذريعة للاستيلاء على البلاد واسترقاق العباد.

ما برحت أميّة تظهر وتضمر العدل للرسول الأطهرص فلا

٣٠

بدع لو كانت مواقفهم مع آل الرسالة تلك المواقف المشهودة ولو كانوا على غير ما عرفته الأيام منهم لكان ذلك بدعا من خلائقهم وأخلاقهم.

وأما بنو العبّاس ، فإنهم حين ملكوا الأمر ، وعبروا الجسر إلى مآربهم ، الجسر الذي أقاموه على أكتاف الشيعة ، ورفعوا أعمدته من جماجم أولئك السذّج ، عرفوا أن الحال إن هدأت سوف يحاسبهم الناس على الحقّ وموضعه والخلافة وأهلها ، لأنهم لم ينهضوا معهم إلاّ لهدم عروش أميّة ، وللأخذ بترات الدماء الزكيّة التي أريقت من غير جرم ، ولبناء خلافة الرضا من آل محمّدص وما قاموا وقاوموا لأن يقيموا عرشا لبني العبّاس دون بني علي فارتأى العبّاسيّون أن يفتكوا بالرجال الذين عبّدوا لهم السبل ، ووطّدوا لهم الطريق لاعتلاء أسرّة الحكم ، كأبي سلمة الخلاّل وغيره ، حذرا من ذلك الحساب ورأوا أن يضيّقوا على أبناء علي ، ويضعوا عليهم العيون والرصد ، خوفا من تلك النزعات التي تخالج نفوسهم أو يحملهم عليها الناس ، ورأوا أن يكمّوا أفواه الشيعة بالإرهاب خشية من ذلك السؤال والحساب.

فما كانت جناية أبناء عليّ لديهم إلاّ أنّهم أهل الحقّ والمقام ، وأهل البيعة والخلافة ، بالقرابة أو بالنصّ أو بالفضيلة.

ولم يكن شيء يدعوهم لإنزال الضربات بالعلويّين سوى أن العلويّين أجدر بالخلافة التي غلب عليها العبّاسيّون ، وأن العبّاسيّين لا يأمنون من وثباتهم ما برح لأبناء عليّ مكانة سامية بين الناس ، وما برح فيهم قروم تطمح إليهم الأنظار وتهوى إليهم القلوب ، فاتخذ العبّاسيّون الغضّ من كرامة آل الرسولص والفتك باولئك القروم ذريعة لميل النفوس وانكفاء الأهواء عنهم ، ولو حذرا من الفتك والبطش ، كما كان دأبهم الإرغام لمعاطس شيعة أهل البيت والتنكيل بهم ، لئلاّ تكون لهم قوّة وشوكة يستعين بها أهل البيت على النهضة.

٣١

والفرق بين الأمويّين والعبّاسيّين هو أن الذي دعا الأمويّين لحرب الهاشميّين شيئان : الانتقام من الرسول ، والتسلّق للزعامة ، والذي دعا العبّاسيّين : نيل العروش والذبّ عنها فقط ، دون أن يكون منهم حرب مع النبيّ وشريعته بقصد ، وإن كان حربهم لعلماء الشريعة حربا للشريعة وللصّادع بها.

ولو ألقيت نظرة مستعجلة على ما لقيه أهل البيت من أجل تقمّصهم بالفضائل لعرفت كيف تحارب الدنيا الدين ، وكيف انطبع الناس على حبّ الدنيا وحلفائها ، وعلى عداء الدين وحلفائه ، ولأبصرت أن بني العبّاس جروا في مضمار بني أميّة ، وإن سبقوهم شوطا بعيدا في حرب أهل البيت.

قتل بنو أميّة الحسين بن علي8 في الطفّ ومعه صفوة زاكية من أهل بيته ، ونخبة صالحة من أصحابه ، حين وثب منكرا عليهم تلاعبهم بالدين حسب الأهواء ، وقتل بنو العبّاس الحسين بن علي بفخّ ومعه غرانيق من العلويّين عزّ على وجه الأرض نظيرهم ، حين نهض منكرا عليهم ما ارتكبوه من الأعمال التي أغضبوا بها الدين وأهله.

سمّ بنو أميّة من الأئمة ثلاثة : الحسن والسجّاد والباقر: ، وسمّ بنو العبّاس منهم ستة : الصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري: .

أرسل هشام بن عبد الملك على الباقر والصادق8 إلى الشام لينال منهما سوء فحين حلاّ بالشام لم يجد بدّا من إكرامهما وتسريحهما إلى المدينة حذرا من أن يفتتن بهما الناس ، وأمّا بنو العبّاس فلم يتركوا إماما يقرّ في بيته ، أرسل السفّاح خلف الصادق ، وأرسل المنصور أيضا خلفه مرّات عديدة ، وأرسل الرشيد خلف الكاظم وحبسه ثمّ أطلقه ، ولم يطل العهد حتّى أرسل عليه مرّة أخرى ، فما خرج من الحبس إلاّ وهو قتيل السمّ ، ولا تسل عمّا ارتكبه معه حين

٣٢

إخراجه من السجن والنداء عليه على الجسر ، وأرسل المأمون خلف الرضا إلى طوس ، فما عاد إلى أهله بل عاجله بالسمّ وهو في خراسان ، وأرسل خلف الجواد ثمّ سرّحه من دون أن يأتي إليه بسوء ، وما قبض المعتصم زمام الأمر إلاّ وأرسل خلف أبي جعفر الجوادعليه السلام وحبسه ، وما أطلقه من السجن حتّى دبّر الحيلة في قتله بالسمّ ، وأرسل المتوكّل خلف أبي الحسن الهاديعليه السلام وجدّ في النيل من كرامته إلى أن هلك ، وما زال يلاقي من ملوك العبّاسيّين ضروب الأذى والتضييق ، يسجن مرّة ويطلق أخرى إلى أن سقاه المعتز السمّ ، وبقى ولده أبو محمّد الحسنعليه السلام في سامراء ، لا يأذنون له بالإياب إلى المدينة ، ولا يتركونه قارّا في بيته ، بل يحبسونه مرّة ويطلقونه أخرى ، إلى أن قضي بسمّ المعتمد ، وصار يفحص عن ابنه أبي القاسم حين علم أن له ولدا ابن خمس يريد أن يقبضه ليقضي عليه ، فتغيّب هاربا من جورهم وفتكهم حتى اليوم.

أباد الامويّون جماعة من العلويّين بالسمّ والحبس والقتل والصلب أمثال زيد ويحيى وفئة أخرى يوم الحرّة ، وعبد الله أبي هاشم بن محمّد بن الحنفيّة على قول وغيرهم ، وأين هؤلاء من تلك العدّة التي أبادها العبّاسيّون وكفى منهم قتلى فخ والعصابة التي قضوا في قعر السجون ، وما ارتقى العرش عبّاسي إلاّ وقتل جماعة من العلويّين.

هرب من جور الامويّين أمثال يحيى وعبد الله الجعفري وعدّة أخرى ولكن أنّى تقاس كثرة بالذين هربوا واختفوا خوفا من العبّاسيّين ، وأين أنت عن القاسم وأحمد ابني الامام الكاظمعليه السلام وعيسى بن زيد وغيرهم ، بل لم ينتشر العلويّون فى الأقطار النائية كالهند وايران إلاّ هربا من بني العبّاس وحذرا من بطشهم ، وكان الكثير منهم يخفي نسبه حذرا من ولاتهم.

٣٣

ولئن غدر الامويّون ببعض العلويّين والعبّاسيّين فقتلوهم سمّا فلا تسل عمّن غدر به العبّاسيّون من العلويّين ، ولو تصفّحت « مقاتل الطالبيّين » لعرفت ما ارتكبه منهم بنو العبّاس.

ولئن أحرق الامويّون بيوت أبناء الرسالة يوم الطف ، فلقد أحرق العبّاسيّون دار الصادق عليه وعلى عياله ، حتّى خرج الصادق إليها فأطفأها وقد سرت في الدهليز.

ولئن سلب الأمويّون بنات الرسالة يوم الطف ، فلقد أرسل الرشيد قائده الجلودي إلى المدينة ليسلب ما على الطالبيّات من حليّ وحلل ، فكان الجلودي أقسى من الجلمد في إمضاء ما أراده فلم يترك لعلويّة ولا طالبيّة حلّة ولا حلية.

وسيّر هشام بعد حادثة زيد كلّ علوي من العراق إلى المدينة وأقام لهم الكفلاء ألاّ يخرجوا منها ، وسيّر موسى الهادي بعد حدثة فخ كلّ علوي من المدينة إلى بغداد حتى الأطفال فأدخلوا عليه وقد علتهم الصفرة ممّا شاهدوه من الرعب والتعب والأحداث.

وهكذا لو أردنا أن نقايس بين أعمال الدولتين ، فلا نجد للامويّين حدثا في الإساءة لأهل البيت إلاّ وللعبّاسيّين مثله مضاعفا ، فكأنما اتخذوا تلك الخطّة مثالا لهم يسيرون عليها ، وزاد العبّاسيّون أن اختصّوا بأشياء من فوادحهم مع العلويّين لم يكن للامويّين مثلها ، كجعلهم العلويّين بالأبنية والاسطوانات حتّى جعل المنصور أساس بغداد عليهم ، ولا تنسل عمّن وضعه الرشيد في تلك المباني من الفتية العلوية البهاليل.

وقطع الرشيد شجرة عند قبر الحسينعليه السلام كان يستظلّ بها زائروه ، وهدم المتوكّل قبره وما حوله من الأبنية والبيوت ، وحرث أرض كربلاء وزرعها ليخفي القبر وتنطمس آثاره ، حتّى قيل في ذلك :

٣٤

تالله إن كانت أميّة قد أتت

قتل ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقد أتته بنو أبيه بمثله

فغدا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا على ألاّ يكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميما

ولقد كانت أيام بني أميّة ألف شهر وقد قتلوا فيها الأماثل من العلويّين ولو حسبت من بدء أيام بني العبّاس إلى ألف شهر لوجدت إن العبّاسيّين قد قتلوا من العلويين أضعاف ما قتله الأمويّون ، وما قتلوهم إلاّ وهم عالمون بما لهم من فضل وقربى ، وهذا موسى بن عيسى الذي حارب أهل فخ يقول عن الحسين صاحب فخ وأصحابه : هم والله أكرم خلق الله وأحقّ بما في أيدينا منّا ولكنّ الملك عقيم ، لو أنّ صاحب هذا القبر ـ يعني النبيص ـ نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف.(١)

على أن هذا الآثم الجريء اعترف بذنبه ، ولكنه لم يذكر الحقيقة كلّها لأن رسول اللهص والصفوة من آله لم يطلبوا الملك للملك ، وإنّما يطلبونه للدين وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولإزالة البدع والضلالات ولو طلبوا الملك للملك لما رشقنا الامويّين والعبّاسيّين بنبال اللوم على ما جنوه مع الطالبيّين ، وهل يلام الظافر بقرينه إذا تجالدا على السلطان.

أترى أن الحسين في نهضته ، وزيدا في وثبته ، ويحيى في جهاده ، والحسين بفخّ في دفاعه ، وأمثالهم من الطالبيّين أهل الدين والبصائر ، كانوا يضحّون بالنفس والنفائس لأجل السلطان ، وكيف يتطلّبون الدنيا محضا وهم دعاة الدين ، وأدلاّء الهدى ، ومصابيح الرشاد ، وكيف يتطلّبون الملك وهم يعلمون أن ما لديهم من قوّة لا يفوز بها الناهض بالظفر والنصر ، نعم ضحّوا بتلك النفوس

__________________

(١) مقاتل الطالبيّين في مقتل الحسين بن علي صاحب فخ

٣٥

الثمينة والنفائس لما عرفوه من أن الدين أنفس من نفوسهم ، ومن استغلى الثمن هان عليه البيع ، وهل عرف الناس الحقّ صراحا ، والدين يقينا ، إلاّ بعد تلك القرابين ، وهل ظهر الحقّ على الباطل في الحجّة والبرهان إلاّ بعد ذلك الفداء.

كانت واقعة الطفّ وتضحيات العلويّين مثالا لأرباب الدين وتعليما لرجال الحقّ عند المنافسة بين الهدى والضلال ، والحقّ والباطل ، ولم تدع عذرا لدعاة الدين عن الفداء في سبيل النصرة ، فإنهم بأعمالهم علّموهم كيف يكون الانتصار في هذه التضحية ، وكيف تكون الحياة في هذا الممات ، وإنّ تلك التجارب للجام الأفواه عن العذر بالعجز ، إذ ليس النصر لفوز العاجل وإلاّ فإن يوم الحسين وأيام العلويّين كانت أيام الظفر لأعدائهم ، ولكن ما عرف النّاس إلاّ بعد حين أن الظفر والفوز كانا لأولئك العلويين الناهضين الذين بذلوا ما لديهم في سبيل الدين ، وأن الخسران في الدنيا والدين لأعدائهم الظافرين في يومهم.

وبتلك الحوادث بانّ للعالم ما كان عليه أهل البيت من الدين والجهاد في إحياء الشريعة ، وما كان عليه أعداؤهم من الدنيا والحرب للدين ، واتضحت نوايا الفريقين ، وبانت أقصى غاياتهم من أعمالهم هاتيك ، وإلاّ فأيّ ذنب للطفل الرضيع وقد جفّ لبنه وذبلت شفتاه عطشا أن يقتل على صدر أبيه ، حتّى يتركه السهم يرفرف كالطير المذبوح.

وأيّ ذنب للأطفال الذين لم يحملوا السلاح ، ولم يلجوا حومة الحرب أن يذبحوا صبرا ، أو يداسوا بالخيل قسرا.

وأيّ ذنب للنساء عقائل الرسولص أن تسبى على الهزل بعد السلب والسبّ الضرب ، ولما ذا تحمل من بلد لآخر كما تساق الإماء.

ولو أن الحسين ورهطه قد حاربوا طلبا للسلطان لما استحقّ بعد القتل أن

٣٦

يداس جسمه ويرفع على القناة رأسه ، وتسبى على المهازيل أهله ، أترى أن قطع الرءوس ، ورضّ الصدور والظهور بسنابك الخيل ، وسلب الجثث وتركها عارية ، وإبقاءها بالعراء بلا دفن ، وأخذ النساء أسارى ممّا يجازى به القتيل الناهض للملك والسلطان.

إنّ الذي يذر الملح على الجرح ، وينكأ القرحة ، ويزيد في النكبة أن القوم لم يفعلوا بالحسين وأهله تلك الفعلة النكراء الفظيعة عن جهل بمقامه ، واعتقاد بخروجه عن الدين ، بل إنهم ليعلمون أنه صاحب الدين ، وربّ الخلافة والامامة ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، وريحانة الرسول ، بل يعلمون بكل ما له من سابقة وفضل.

وهكذا لو فتّشت عن الأمر في غير الحسينعليه السلام فإنك لتجد الحال في زيد ويحيى وأهل فخ ، وما سواهم من أمثال أهل البيت الذين كانوا طعمة للسيوف ، ومنتجعا للسمّ ، ووقفا على الحبوس ، كالحال في الحسين في المعرفة بهم والعمد على ظلمهم.

فلا بدع إذن لو وضح للعالم من تلك المواقف المشهودة ، والمشاهد المعلومة ، أن الحرب بين أهل البيت وبين أعدائهم من نوع حرب الفضيلة والرذيلة ، وأن الذين يريدون العروش لا يستطيعون نيلها إلاّ بمحاربة أهل البيت ومحوهم من صفحة الوجود ، لأنهم يعتقدون أنهم لا يصلون إلى الغاية ولأهل البيت شبح قائم ، وظلّ يتفيّؤه الناس ، فما كانت جناية أهل البيت إذن لدى الناس إلاّ أنهم أهل الدين ، وأرباب الفضائل ، فلا ترتقي الناس أرائك الخلافة وأهل البيت أكفاؤها الذين خلقت لهم وخلقوا لها تعرفهم الأمّة قياما بين أبناء الاسلام.

* * *

٣٧

المذاهب والنحل

كانت أيام أبي عبد الله الصادقعليه السلام أيام نحل ومذاهب ، وآراء وأهواء ، وكلام وبحث ، وبدع وأضاليل ، وشبه وشكوك ، ونحن الآن نذكر أصول تلك الفرق والمذاهب موجزا ، جريا على السنن الذي درجنا فيه ، لأن التبسّط في البحث يخرجنا عن خطّة الكتاب ، وفي كتب الملل والنحل المعدّة لهذا الشأن بعض الاغناء.

اصول الفرق الإسلاميّة :

إنّ الأمّة الاسلاميّة قد افترقت ثلاث وسبعين فرقة كما أنبأ عن ذلك نبيّنا الصادق الأمينص بقوله : ستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة(١) ، وتلك من أعلام نبوّته وما أكثرها.

والذي نريد أن نبحث عنه في هذا الفصل هو ما كان من الفرق في عصر الصادق بارزا يعرف ، ونخصّ البحث في الأصول التي ترجع إليها الفرق المتشعّبة ، وقد نشير إلى بعض تلك الشعب بعد ذكر الأصل ، وذلك أقرب للقصد ، وأمسّ بالخطّة.

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٣٢١

٣٨

إن جميع أصول الفرق الاسلاميّة ، التي إليها المرجع والمآل أربعة : المرجئة ، المعتزلة ، الشيعة ، الخوارج(١) فإن كلّ فرقة تنتمي إلى أحد هذه الأصول ، وأما الغلاة وإن رمتهم الفرق الأخرى بالكفر إلاّ أنهم أيضا من شعب هذه الأصول ـ ولو بزعمهم ـ فالكلام في هذه الأصول الأربعة عنوان البحث.

١ ـ المرجئة :

يمكننا أن نقول : إن المرجئة اليوم يقصد منها الأشاعرة فحسب ، وهم عامّة أهل السنّة في الاعتقاد في هذه الآونة ، إذ لم يبق على مذهب أهل الاعتزال في هذه الأزمنة أحد معروف.

كانت المرجئة قبل الأشعري فرقا متكثّرة ، وكلّها قسم من أهل السنّة المقابل للشيعة والخوارج ، غير أنه لمّا حدث مذهب الأشعري في الاعتقاد أصبح عنوان المرجئة عنوانا آخر لأهل السنّة ، أو للمذهب الأشعري بوجه عامّ ، قال الشهرستاني في الملل والنحل(٢) : « وقيل الارجاء تأخير عليعليه السلام عن الدرجة الأولى إلى الرابعة » انتهى. وهذا كما ترى هو ما عليه أهل السنّة أجمع.

وليس من قصدنا أن نبحث عن جهة اجتماع هذه العناوين في المذهب الأشعري أو افتراقها عنه ، وإنما القصد الأوّلي أن نعرف ما كان عليه المرجئة في ذلك اليوم ، وليس من شكّ بأن المرجئة في ذلك العهد كانت فرقا ومذاهب يجمعها قولهم بالاكتفاء في الايمان بالقول وإن لم يكن عمل ، حتّى لو ارتكب مدّعي الايمان من الجرائم والمآثم كلّ موبقة لما أخرجه ذلك عندهم عن ربقة

__________________

(١) فرق الشيعة لابي محمّد الحسن النوبختي : ١٧ ، وذكر ابن حزم في الفصل : ٢ / ٨٨ أنها خمسة بجعل أهل السنّة فرقة في قبال المرجئة والمعتزلة

(٢) المطبوع في هامش الفصل : ١ / ١٤٥

٣٩

الايمان ، بل كان على ايمان جبرئيل وميكائيل ، ورجوا لهؤلاء مرتكبي الكبائر المغفرة ، ولعلّه من هنا سمّوا المرجئة أو من جهة أنّ الله تعالى أرجأ تعذيبهم ، من الارجاء ـ التأخير ـ أو لتأخيرهم عليّاعليه السلام عن الدرجة الأولى إلى الرابعة ، كما ينقله الشهرستاني.

إن أقصى ما يمكن استفادته في القول الجامع لفرق المرجئة هو ما أشرنا إليه ، وهو الذي تفيده كتب الفريقين ، التي تذكر اجتماع الفرق وافتراق النحل.

وهل كان أبو حنيفة ونظراؤه من المرجئة الماصريّة(١) وهم مرجئة أهل العراق ، والشافعي والثوري ومالك بن أنس وابن أبي ليلى وشريك بن عبد الله ونظراؤهم من المرجئة الذين يسمّون الشكاك ، أو البتريّة ، وهم أهل الحشو والجمهور العظيم المسمّون بالحشويّة؟ ذلك ما لا نستطيع البتّ به ، لأن كتب الفرق اختلفت في تلك النسب ، ولم تستند في تحقيق ما تقوله إلى مصدر صريح لنتعرّف صحّة الأقاويل ، فإن تعصّب أولئك المؤلّفين لنحلهم ومذاهبهم يجعل النحل الأخرى هدفا لهم ، وساعد على هذه الجناية رجال السلطات الزمنيّة في تلك العصور ، لأنهم إذا حاولوا ترويج فرقة أو محاربة أخرى استأجروا لهذا الغرض أقلاما ومحابر ، وخطباء ومنابر ، فمن هنا قد تضيع الحقيقة على من لا دراية له وتتبّع.

ولربما أوقعت تلك المؤلّفات كثيرا من الكتّاب في أشراك الخبط والخلط وصفوة القول ان الاعتماد على تلك الكتب في صحّة النسب ليس بالسهل ،

__________________

(١) الملل والنحل في هامش الفصل : ١ / ١٤٧ في كلامه على المرجئة الغسّانية ، وص ١٥١ في كلامه على رجال المرجئة ، وقد جاء في بعض المناظرات التي جرت مع أبي حنيفة خطابهم له بقولهم : بلغنا عنكم أيها المرجئة ، فلم ينكر أبو حنيفة هذه النسبة إليه ، انظر في ذلك تأريخ الخطيب : ١٣ / ٣٧٠ وما بعدها فإنك تجد فيها تفصيل نسبته إلى الارجاء

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268