سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع) الجزء ٢

سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)11%

سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع) مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
ISBN: 964-493-173-4
الصفحات: 352

  • البداية
  • السابق
  • 352 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 1333 / تحميل: 423
الحجم الحجم الحجم
سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)

سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع) الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
ISBN: ٩٦٤-٤٩٣-١٧٣-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ويحثهم على مكارم الأخلاق ، وينهاهم عن دنيات الأمور ، وكان مجاب الدعوة وترك الأصنام(١) .

وقد ذكرت كتب التاريخ : أن بعض الأصنام قد كانت تماثيل لأشخاص من أهل الخير والصلاح ، فراجع كتاب الأصنام لابن الكلبي ، وسيرة ابن هشام وغير ذلك.

وعن النبي «صلى الله عليه وآله» : يا علي ، إن عبد المطلب كان لا يستقسم بالأزلام ، ولا يعبد الأصنام ، ولا يأكل ما ذبح على النصب ، ويقول : أنا على دين إبراهيم «عليه السلام»(٢) .

وقد بلغ الذروة في إيمانه هذا بعد ولادة حفيده محمد «صلى الله عليه وآله» ، حيث سمع ورأى الكثير من العلامات الدالة علي أنه النبي الخاتم ، والأكمل والأفضل من جميع البشر ، وشهد ، وعاين الكثير من الكرامات والدلالات القطعية فيه.

وبعد كل ما تقدم نقول : إنه لا مانع من أن يكون عبد المطلب قد تلقى الأمر بذبح ولده عبد الله من الله تعالى ، ولا أقل من أنه كان يعتقد بأن له الحق في تصرف كهذا ، ونذر كهذا ولم يكن ذلك مستهجنا لدى العرف آنئذ.

أضف إلى ذلك : أنه لم يثبت عدم جواز نذر كهذا في الشرايع السابقة.

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ١ ص ٤ ، والسيرة النبوية لدحلان (مطبوع بهامش الحلبية) : ج ١ ص ٢١ ، ومسالك الحنفا ص ٤١ ، عن الملل والنحل للشهرستاني ، وراجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٣٧.

(٢) البحار : ج ٧٧ ص ٥٦.

٦١

فقد نذرت امرأة عمران ما في بطنها محررا لخدمة بيوت الله ، وأمر الله تعالى نبيه إبراهيم بذبح ولده إسماعيل.

وأما تسمية أبنائه بما يشير إلى الأصنام ، فلعلها تسميات لحقتهم بعد ظهور شركهم ، وانحرافهم ، وحبهم لتلك الأصنام ، وليس لدينا تاريخ صادق ، وصريح ، وكاف والله العالم بالحقائق.

النسخ في قصة إبراهيم عليه السّلام :

هذا ، وقد ادعى البعض : أن قصة إبراهيم تدل على جواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، وأجيب عن ذلك :

أولا : إن إبراهيم «عليه السلام» لم يؤمر بالذبح الذي هو فري الأوداج ، بل أمر بالمقدمات ، فقد جاء بالتنزيل قوله تعالى :( يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) (١) ولم يقل : إني ذبحتك ، ثم جاء قوله تعالى :( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ) (٢) ؛ ليؤكد على ذلك ولو كان ما فعله بعض المأمور به ، لكان مصدقا لبعض الرؤيا(٣) فلا يصح قوله تعالى :( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ) .

ثانيا : إن وقت الفعل حاضر ؛ فإن إبراهيم قد شرع في التنفيذ فعلا ، فالنشخ لو سلم ، فإنما هو قبل وقوع الفعل ، لا قبل حضور وقت العمل.

ونقول : إن النسخ يمكن أن يكون مع كون الأمر بداعي الامتحان أو

__________________

(١) الآية ١٠٢ من سورة الصافات.

(٢) الآية ١٠٥ من سورة الصافات.

(٣) معالم الدين : ص ٢٠٨ ، وراجع : البحار ج ١٢ ص ١٣٧ ، ومفاتيح الغيب ، ج ٢٥ ص ١٥٥.

٦٢

غيره أولا ، ثم يصدر أمر عن مصلحة واقعية ثانيا فينسخه.

البداء عند الشيعة :

ويتفرع على مسألة النسخ مسألة البداء ؛ التي هي موضع خلاف بين الشيعة وغيرهم ، وقد صارت مصدرا للافتراءات الكثيرة على الشيعة ، ونحن نشير إلى توضيح هذه المسألة بما يسمح به المجال ، فنقول :

قال آية الله الحجة السيد عبد الحسين شرف الدين «رحمه الله» :

«حاصل ما تقوله الشيعة هنا : أن الله عز وجل قد ينقص من الرزق ، وقد يزيد فيه ، وكذا الأجل ، والصحة والمرض ، والسعادة والشقاوة ، والمحن والمصائب ، والإيمان والكفر ، وسائر الأشياء ، كما يقتضيه قوله تعالى :( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) (١) .

وهذا مذهب عمر بن الخطاب ، وأبي وائل ، وقتادة ، وقد رواه جابر عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وكان كثير من السلف يدعون ، ويتضرعون إلى الله أن يجعلهم سعداء لا أشقياء ، وقد تواتر ذلك عن أئمتنا في أدعيتهم المأثورة.

وورد في السنن الكثيرة : أن الصدقة على وجهها ، وبر الوالدين ، واصطناع المعروف ، يحول الشقاء سعادة ، ويزيد في العمر إلخ ..»(٢) .

__________________

(١) الآية ٣٩ من سورة الرعد.

(٢) أجوبة موسى جار الله ص ٨٦ ـ ٨٧. وقد ذكر مصادر ما أشار اليه ثمة ؛ فراجع. ونظير ذلك ما قاله المجلسي أيضا ، فراجع : سفينة البحار : ج ١ ص ٦٢ ، وقد أوضحه أيضا بصورة جيدة.

٦٣

نعم ، هذا هو البداء الذي تعتقد به الشيعة تبعا لأئمتهم «عليهم السلام».

وأما البداء بمعنى ظهور رأي جديد له تعالى بعد أن لم يكن يعلم به أولا ، أو بمعنى أن يعمل تعالى عملا ثم يندم عليه ، حيث ظهر له أن المصلحة كانت في خلاف ذلك ، أما البداء بهذا المعنى فهو محال على الله ، ولم يقل به الشيعة أبدا ، كيف؟! وهم أتباع أمير المؤمنين علي «عليه السلام» منشئ نهج البلاغة المشحون بالمعاني التي يعجز العقل البشري عن إدراكها ؛ علي الذي تعلم الناس منه ومن أبنائه المعصومين تنزيه الله تعالى عن كل نقص ، وأخذوا عنه أدق المعارف حول الله وصفاته سبحانه وتعالى

وقد نقل عن الصادق «عليه السلام» قوله : من زعم أن الله يبدو له في شيء ، ولم يعلمه أمس ، فابرؤوا منه(١) .

وعنه «عليه السلام» : من زعم أن الله بدا له في شيء بداء ندامة ؛ فهو عندنا كافر بالله العظيم(٢) .

التوضيح والتطبيق :

وتوضيح ذلك : أن الله عز وجل يقدر لزيد من الناس مثلا رزقا معينا ، أو عمرا معينا ، بحسب ما تقتضيه طبيعته وسجيته ، واستعداده الذاتي وفقا للسنن التي أودعها في مخلوقاته لتجري بها الأمور ، ولكنه يعلم أنه سوف

__________________

(١) البحار : ج ٤ ص ١١١ ، والاعتقادات للصدوق ، باب الاعتقاد بالبداء ، وميزان الحكمة ج ١ ص ٣٨٩.

(٢) الاعتقادات للصدوق رحمه الله ـ باب الاعتقاد بالبداء ، وراجع : هامش البحار : ج ٤ ص ١٢٥.

٦٤

يتصدق فيكون ذلك سببا في زيادة رزقه المقدر له أولا بقطع النظر عن هذه الصدقة ، أو سوف يبر بوالديه فيزيد عمره لذلك كذلك ، والله يعلم بذلك كله من أول الأمر.

وقد تقتضي المصلحة أن يطلع الله نبيه «صلى الله عليه وآله» على المقتضي لوجود شيء ، من دون أن يطلعه على ما سوف يجد في المستقبل له من الموانع ، أو ما سوف يفقده من شرائط ، فيخبر النبي «صلى الله عليه وآله» الناس عنه على تلك الصفة.

ثم بعد ذلك يطلع تعالى النبي «صلى الله عليه وآله» على أنه يوجد مانع ، أو أن المقتضيي يحتاج إلى توفر شرائط ومناخات معينة مفقودة فعلا ، مع علم الله سبحانه بكل ذلك أولا وآخرا ؛ فإن لله علما اختص به ، وعلما يطلع عليه نبيه أو يثبته في لوح المحو والإثبات ، وقد أشار إلى هذين العلمين ، في قوله تعالى :( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) (١) فمثلا ، لو بنينا بيتا ، وكان بحسب طبعه صالحا للبقاء مئة سنة مثلا ، ولكنه ربما ترد عليه عواصف ، أو زلازل ، أو سيول ، أو نحوها ؛ تمنع من بقائه هذه المدة ، ويتلاشى في مدة عشر سنوات مثلا.

فلو أخبرنا الناس : أن هذا البيت يبقى مئة سنة ، مع علمنا بأنه سيتلاشى بسبب سيل يأتي من الناحية الفلانية ، يصل إليه بعد عشرة أيام ، ثم أخبرنا ثانيا : بأن البيت سيهدم بعد عشرة أيام ، فإن كلا من الخبرين يكون صحيحا وقد يترتب على إخبارنا الأول مصلحة هامة لا غنى عن تحققها في موطنها.

__________________

(١) الآية ٣٩ من سورة الرعد.

٦٥

وقد يكون من هذا القبيل ما نجده يذكر في علامات الإمام صاحب الزمان «عليه السلام» حيث قد نص الأئمة «عليهم السلام» على أن بعضها : من المحتوم ، وسكتوا عن البعض الآخر ؛ فلربما يتحقق الجميع ، ولربما تفقد بعض الشرائط لبعضها أو توجد بعض الموانع عن تحقق بعضها ، ويكون المخبر إنما أخبر عن السير الطبيعي للأمور بغض النظر عن العوارض والطوارئ ، وقد أوضحنا ذلك في كتابنا دراسة في علامات الظهور ، فراجع الفصل الثاني منه.

ويمكن أن تكون قضية إبراهيم وإسماعيل الذبيح من هذا القبيل أيضا ، حيث إنه تعالى ـ لمصلحة يراها ، كالامتحان والابتلاء ، وغير ذلك مما تقدم ـ قد أمر نبيه إبراهيم بذبح ولده ثم فدى ذلك الذبيح بذبح عظيم.

وقد أخبر تعالى : إبراهيم بأنه قد صدق الرؤيا.

ولعل قضية إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق «عليه السلام» ، كانت من هذا القبيل ، فقد اقتضت المصلحة أن تتوجه الأنظار نحو إسماعيل هذا ، من أجل حفظ نفس الإمام الحق من الأخطار ، ثم يموت إسماعيل ، ويظهر أن الإمام الحقيقي هو أخوه موسى «عليه السلام».

إشكال وجوابه :

الإشكال : أن كلمة «بدا» معناها : ظهر «وليس أظهر». و «بدا لله» لا بد أن يكون معناه ظهر له الأمر وعلم به بعد أن كان يجهله ، وذلك محال عليه تعالى كما قلتم ، فكيف يمكن توجيه قوله «عليه السلام» : «ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل» وغير ذلك من كلمات عبرت ب «بدا له» أو «بدا لله»؟!.

٦٦

والجواب : أن قوله تعالى :( وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ) ، ثم اعتبار قضية إسماعيل ابن الإمام الصادق «عليه السلام» وصرف القتل عنه مرتين بسبب دعاء أبيه «عليه السلام» من البداء ، حيث روي عن الإمام الصادق «عليه السلام» قوله : ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل(١) ـ إن ذلك يشير إلى أن كلمة بدا لم تستعمل في معنى الإظهار أو الظهور.

وإنما استعملت بمعنى : تحقيق وتجسّد ما علم في عالم الكون والوجود ، نظير كلمة : (علم) في قوله تعالى :( ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً ) (٢) .

وقوله تعالى :( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ) (٣) .

وقوله سبحانه :( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) (٤) .

والمقصود : ليتحقق معلومنا ، ويتجسد في عالم الوجود ، هذا بالنسبة للتعبير ب «علم».

وكلمة بدا ، أيضا كذلك ، فبدا له ، أي تحقق ما علمه في الخارج وعلى

__________________

(١) سفينة البحار : ج ١ ص ٦٢.

(٢) الآية ١٢ من سورة الكهف.

(٣) الآية ٣١ من سورة محمد.

(٤) الآية ١٤٣ من سورة البقرة.

٦٧

صفحة الكون ، ولعل قوله تعالى :( وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ) (١) ، قد استعمل في هذا المعنى أيضا : أي تحقق ذلك وتجسد في الخارج.

ولعل هذا المعنى أقرب من حمل «بدا» على معنى : أظهر للغير ، لأن هذا المعنى لا يناسب التعدية باللام لنفس الذات الإلهية ، فلا يصح أن يقال : بدا لله ، ويكون المعنى : أظهر للغير ، بل هذا غلط ظاهر.

اليهود ، والبداء :

وبعد ، فلو أننا لم نقل بالبداء ، لكنا مثل اليهود الذين نعى الله عليهم اعتقادهم الفاسد ، حيث أنكروا البداء.

وقالوا : إن الله قدر الأرزاق والأشياء منذ الأزل ، ولا تغيير ولا تبديل فيما قدر ، فقد «جف القلم».

وقد قال تعالى مقبحا قولهم هذا :

( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) (٢) .

وقال الشهرستاني عن اليهود : «ولم يجيزوا النسخ أصلا ، قالوا : فلا يكون بعده شريعة أصلا ؛ لأن النسخ في الأوامر بداء ولا يجوز البداء على الله تعالى»(٣) .

فالاعتقاد بالبداء : ضرورة إسلامية وعقيدية ، ومن لوازم ومقتضيات تنزيه

__________________

(١) الآية ٤٨ من سورة الزمر.

(٢) الآية ٦٤ من سورة المائدة.

(٣) الملل والنحل : ج ١ ص ٢١١.

٦٨

الله وتوحيده ، وهو كذلك منسجم مع مفاد الآيات القرآنية ، والأحاديث الشريفة.

وعن الإمامين الصادق والباقر «عليهما السلام» ، قال : ما عبد الله تعالى بشيء مثل البداء(١) .

هذا وقد أورد المجلسي «رحمه الله» للبداء حكما جليلة ، وفوائد جميلة : فليراجعها من أراد(٢) .

__________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٦١.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٦٢.

٦٩
٧٠

الفصل الثاني :

بحوث تسبق السيرة

٧١
٧٢

البحث الأول

إيمان آباء النبي صلى الله عليه وآله إلى آدم عليه السّلام :

قالوا : إن كلمة الإمامية قد اتفقت على أن آباء النبي «صلى الله عليه وآله» ، من آدم إلى عبد الله كلهم مؤمنون موحدون(١) ، بل ويضيف المجلسي قوله :

«.. بل كانوا من الصديقين ، إما أنبياء مرسلين ، أو أوصياء معصومين ، ولعل بعضهم لم يظهر الإسلام ، لتقية ، أو لمصلحة دينية»(٢) .

ويضيف الصدوق هنا : أن أم النبي «صلى الله عليه وآله» آمنة بنت وهب كانت مسلمة أيضا(٣) .

ومعنى ذلك : هو أنه ليس في آباء الرسول «صلى الله عليه وآله» إلا الاستقامة على جادة الحق ، والخير والبركة ، وهذا هو ما ورثه الرسول

__________________

(١) راجع : أوائل المقالات ص ١٢ ، وتصحيح الاعتقاد ص ٦٧ ، وتفسير الرازي ج ٢٤ ص ١٧٣ ط دار الكتب العلمية بطهران وفي طبعة أخرى ج ٤ ص ١٠٣ ، والبحار ج ١٥ ص ١١٧ ، ومجمع البيان ج ٤ ص ٣٢٢ ، وليراجع البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٨١.

(٢) البحار ج ١٥ ص ١١٧.

(٣) نفس المصدر.

٧٣

عنهم ، ويتأكد بذلك طهارته «صلى الله عليه وآله» من الأرجاس ، والرذائل ، حتى ما يكون عن طريق الوراثة ، والناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، وهو ما أثبته العلم الحديث أيضا ، حيث لم يبق ثمة أية شبهة في تأثير عامل الوراثة في تكوين شخصية الإنسان ، وفي خصاله ومزاياه.

قال أبو حيان الأندلسي : «ذهبت الرافضة إلى أن آباء النبي «صلى الله عليه وآله» كانوا مؤمنين»(١) .

أما غير الإمامية ، فذهب أكثرهم إلى كفر والدي النبي وغيرهما من آبائه «صلى الله عليه وآله» ، وذهب بعضهم إلى إيمانهم.

وممن صرح بإيمان عبد المطلب ، وغيره من آبائه «صلى الله عليه وآله» ، المسعودي ، واليعقوبي ، وهو ظاهر كلام الماوردي ، والرازي في كتابه أسرار التنزيل ، والسنوسي ، والتلمساني محشي الشفاء ، والسيوطي ، وقد ألف هذا الأخير عدة رسائل لإثبات ذلك(٢) .

__________________

(١) تفسير البحر المحيط ج ٧ ص ٤٧.

(٢) رسائل السيوطي ، هي التالية :

١ ـ مسالك الحنفا

٢ ـ الدرج المنيفة في الآباء الشريفة

٣ ـ المقامة السندسية في النسبة المصطفوية

٤ ـ التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الجنة

٥ ـ السبل الجلية في الآباء العلية

٦ ـ نشر العلمين المنيفين في إثبات عدم وضع حديث إحياء أبويه «صلى الله عليه وآله» وإسلامهما على يديه «صلى الله عليه وآله».

٧٤

وفي المقابل قد ألف بعضهم رسائل لإثبات كفرهم ، مثل إبراهيم الحلبي ، وعلي القاري الذي فصّل ذلك في شرح الفقه الأكبر ، واتهموا السيوطي بأنه متساهل ، لا عبرة بكلامه ، ما لم يوافقه كلام الأئمة النقاد.

وسيأتي في آخر هذا البحث إن شاء الله تعالى ما يشير إلى السبب في الإصرار على كفر آباء النبي «صلى الله عليه وآله» وأعمامه.

بعض الأدلة على إيمانهم :

وقد قال الإمامية :

إن ثمة روايات كثيرة تدل على إيمان آبائه «صلى الله عليه وآله» ، بالإضافة إلى إجماع الطائفة المحقة ، ومستند ذلك هو الأخبار ، والإحاطة بجميعها متعسر ، إن لم يكن متعذرا(١) . وهذا هو الدليل المعتمد.

وقد استدلوا على ذلك أيضا :

١ ـ بقوله «صلى الله عليه وآله» : «لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات ، حتى أخرجني في عالمكم ، ولم يدنسني بدنس الجاهلية»(٢) .

__________________

(١) ذكر طائفة منها العلامة المجلسي رحمه الله في البحار : ج ١٥ ، والسيوطي في رسائله المشار إليها ، فراجع رسالة السبل الجلية : ص ١٠ فما بعدها ، وراجع أيضا : السيرة الحلبية ، وغير ذلك وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٣٤ فما بعدها.

(٢) مجمع البيان ج ٤ ص ٣٢٢ ، والبحار ج ١٥ ص ١١٧ و ١١٨ وتفسير الرازي ج ٢٤ ص ١٧٤ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٣٠ ، والدر المنثور ج ٥ ص ٩٨ ، وسيرة دحلان ج ١ ص ١٨ وتصحيح الاعتقاد ص ٦٧ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٣٤ وتفسير البحر المحيط ج ٧ ص ٤٧.

٧٥

ولو كان في آبائه ، أو أمهاته «صلى الله عليه وآله» كافر ، لم يصفهم كلهم بالطهارة ، مع أن الله تعالى يقول :( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (١)(٢) .

إلا أن يكون المقصود هو الطهارة من العهر ، أو من الأرجاس والرذائل ، وهو لا يلازم الكفر.

ويرد عليه : أنه تخصيص بلا مخصص ، ولا شاهد ، بل إن قوله :

«ولم يدنسني بدنس الجاهلية» شامل بإطلاقه لكل دنس ، والكفر من جملة هذه الأدناس.

٢ ـ واستدلوا على ذلك أيضا بقوله تعالى :( الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) (٣) .

لما روي عن ابن عباس ، وأبي جعفر ، وأبي عبد الله «عليهما السلام» : أنه «صلى الله عليه وآله» لم يزل ينقل من صلب نبي إلى نبي ، ولا يجب أن يكونوا أنبياء مبعوثين فلعل أكثرهم كان نبيا لنفسه أو لبيته

ويمكن المناقشة في ذلك أيضا : بأن الآية تقول : إنه تعالى يراه حال عبادته وسجوده ؛ فهو «صلى الله عليه وآله» في جملة الساجدين الموجودين فعلا ، وغيرهم.

لا أنه يراه وهو يتقلب في أصلاب الأنبياء. لكن الرواية بينت المراد ، أو

__________________

(١) الآية ٢٨ من سورة التوبة.

(٢) راجع : المصادر المتقدمة.

(٣) الشعراء ٢١٨ ـ ٢١٩ وراجع تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٣٤ و ٢٣٥ وتفسير البحر المحيط ج ٧ ص ٤٧.

٧٦

طبقت الآية على المورد ، فلا بد من الأخذ بها ، وقد يقال :

ولو ثبتت الرواية ، فيمكن القول بأنها لا تدل على استغراق ذلك لجميع آبائه ؛ فلعله يرى تقلبه في أصلاب الأنبياء من آبائه ، كما يرى تقلبه في أصلاب غير الأنبياء.

ويجاب عن هذا : بأن كلمة لم يزل ينقلني ظاهرة في استغراق هذا النقل إلى أصلاب أناس موصوفين بالنبوّة جميعا.

فإن قلت : إن من الصعب جدا إثبات نبوة كل واحد من آبائه «صلى الله عليه وآله» إلى آدم «عليه السلام».

فإننا نقول : إن هذا لا يعني عدم ثبوت ذلك بهذه الروايات وأمثالها

وأما أدلة غير الإمامية فقد استقصاها السيوطي في رسائله المشار إليها ، ولكن استعراضها والاستقصاء فيها نقضا وإبراما يحتاج إلى وقت طويل ، وتأليف مستقل.

٣ ـ ويمكن أن يستدل على إيمان آبائه «صلى الله عليه وآله» إلى إبراهيم بقوله تعالى ، حكاية لقول إبراهيم وإسماعيل :

( وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا ) (١) ، مع قوله تعالى :( وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) (٢) .

أي في عقب إبراهيم ، فيدل على أنه لا بد أن تبقى كلمة الله في ذرية إبراهيم ، ولو في واحد واحد ، على سبيل التسلسل المستمر فيبقى أناس

__________________

(١) الآية ١٢٨ من سورة البقرة.

(٢) الآية ٢٨ من سورة الزخرف.

٧٧

منهم على الفطرة ، يعبدون الله تعالى حتى تقوم الساعة ، ولعل ذلك استجابة منه تعالى لدعاء إبراهيم «عليه السلام» الذي قال :

( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) (١) وقوله :( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) (٢) .

وواضح أنه : لو أنه تعالى قد استجاب لإبراهيم في جميع ذريته لما كان أبو لهب من أعظم المشركين ، وأشدهم على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وهذا ما يفسر الإتيان بمن التبعيضية في قوله :( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) .

ولا يصح القول : بأنه كما خرج أبو لهب فلعل بعض آباء النبي «صلى الله عليه وآله» قد خرج أيضا.

وذلك لأن كلمة( باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) تفيد الاتصال ، والاستمرار من دون انقطاع ، أما خروج أبي لهب فهو لا يقطع هذا الاتصال.

إستغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه :

وقد اعترض على القائلين بإيمان جميع آبائه «صلى الله عليه وآله» إلى آدم ، بأن القرآن الكريم ينص على كفر آزر أبي إبراهيم ، قال تعالى :( وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) (٣) .

__________________

(١) الآية ٣٥ من سورة إبراهيم.

(٢) الآية ٤ من سورة إبراهيم.

(٣) الآية ١١٤ من سورة التوبة.

٧٨

وأجابوا :

أولا : إن ابن حجر يدعي إجماع المؤرخين على أن آزر لم يكن أبا لإبراهيم ، وإنما كان عمه ، أو جده لأمه ، على اختلاف النقل(١) وإسم أبيه الحقيقي : تارخ(٢) ، وإنما أطلق عليه لفظ الأب توسعا ، وتجوزا. وهذا كقوله تعالى :( أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ) (٣) ، ثم عد فيهم إسماعيل مقدما له على أبيه الحقيقي إسحاق ، مع أن إسماعيل ليس من آبائه ؛ ولكنه عمه.

وقد ذكر بعض العلماء : أن اسم «آزر» لم يذكر في القرآن إلا مرة واحدة في أول الأمر ، ثم لم يتكرر اسمه في غير ذلك المورد ، تنبيها على أن المراد بالأب : «آزر».

ثانيا : إن استغفار إبراهيم لأبيه قد كان في أول عهده وفي شبابه ، مع أننا نجد أن إبراهيم حين شيخوخته ، وبعد أن رزق أولادا ، وبلغ من الكبر عتيا يستغفر لوالديه ، قال تعالى حكاية عنه :( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ ) (٤) .

__________________

(١) راجع : السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٣٧ ، وراجع : الدر المنثور للعاملي : ج ١ ص ١٦٠.

(٢) الدر المنثور للعاملي : ج ١ ص ١٦٠ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٣٥ و ٢٣٦.

(٣) الآية ١٣٣ من سورة البقرة.

(٤) الآية ٤١ من سورة إبراهيم.

٧٩

قال هذا بعد أن وهب الله له على الكبر إسماعيل وإسحاق حسب نص الآيات الشريفة(١) ، مع أن الآية تفيد : أن الاستغفار الأول قد تبعه التبرّؤ مباشرة.

ولكن من الواضح : أن بين الوالد والأب فرقا ، فإن الأب يطلق على المربي ، وعلى العم والجد ، أما «الوالد» فإنما يخص الوالد بلا واسطة ، فالاستغفار الثاني إنما كان للوالد ، أما الأول فكان للأب.

ثالثا : إنه يمكن أن يكون ذلك الذي استغفر له ، وتبرأ منه ، قد عاد إلى الإيمان ، فعاد هو إلى الاستغفار له.

هذا ، ولكن بعض الأعلام (٢) يرى : أن إجماع المؤرخين على أن أبا إبراهيم ليس «آزر» منشؤه التوراة ، التي تذكر أن اسم أبي إبراهيم هو : «تارخ» ، ثم ذكر أن من الممكن أن يكون نفس والد إبراهيم قد كان مشركا يجادله في الإيمان بالله ، فوعده بالاستغفار له ، ووفى بوعده ، ثم عاد فآمن بعد ذلك فكان يدعو له بعد ذلك أيضا حتى في أواخر حياته هو كما أسلفنا.

وهذا الاحتمال وإن كان واردا من حيث لا ملزم لحمل الأب في القرآن والوالد على المجاز.

إلا أنه ينافي الإجماع والأخبار ؛ فلا محيص عن الالتزام بما ذكرناه آنفا من أن المراد بالأب هو العم والمربي ، لا الوالد على الحقيقة ، مع عدم قبولنا منه قوله : إن استعمال الأب في العم المربي ، يكون مجازا.

__________________

(١) راجع : تفسير الميزان ج ١٢ ص ٧٨ ـ ٧٩.

(٢) هو العلامة المحقق السيد مهدي الروحاني.

٨٠

إن أبي وأباك في النار :

روى مسلم وغيره : أن رجلا سأل النبي «صلى الله عليه وآله» : أين أبي؟

فقال : في النار ، فلما قفا دعاه ، وقال له : إن أبي وأباك في النار(١) .

ونقول :

إن هذا لا يصح :

أولا : لما تقدم. مما يدل على إيمان جميع آبائه «صلى الله عليه وآله».

ثانيا : لقد روى هذه الرواية حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس.

مع أننا نجد : أن معمرا قد روى نفس هذا الحديث عن ثابت عن أنس ، ولكن بنحو آخر لا يدل على كفر أبيه «صلى الله عليه وآله» ، فقد قال له «صلى الله عليه وآله» : «حيثما ـ أو إذا ـ مررت بقبر كافر فبشره بالنار»(٢) .

وقد نص علماء الجرح والتعديل ـ من أصحاب هؤلاء الرواة ـ : على أن معمرا أثبت من حماد ، وأن الناس قد تكلموا في حفظ حماد ، ووقع في أحاديثه مناكير ، دسها ربيعة في كتبه ، وكان حماد لا يحفظ ، فحدث بها ، فوهم فيها(٣) .

__________________

(١) راجع بالإضافة إلى صحيح مسلم : صفة الصفوة ج ١ ص ١٧٢ عن مسلم والإصابة ج ١ ص ٣٣٧ عن ابن خزيمة ، وسنن أبي داود المطبوع مع عون المعبود ج ١٢ ص ٤٩٤ ، والبداية والنهاية ج ٢ ص ٢٨٠ عن مسلم ومسالك الحنفا ص ٥٤ عن مسلم وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٣٢.

(٢) السيرة الحلبية ج ١ ص ٥٠ ـ ٥١ ، ومسالك الحنفا ص ٥٤ ـ ٥٥.

(٣) السيرة الحلبية ج ١ ص ٥١ ، ومقدمة فتح الباري ص ٣٩٧ ، وتهذيب التهذيب ج ٣ ص ١٢ ـ ١٥. ومسالك الحنفا ص ٥٥.

٨١

ثالثا : لقد رويت هذه الرواية بسند صحيح على شرط الشيخين عن سعد بن أبي وقاص ، وجاء فيها :

حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار(١) ، وكذا أيضا روي عن الزهري ، بسند صحيح أيضا(٢) .

رابعا : كيف يكون أبواه «صلى الله عليه وآله» ، وأبو طالب ، وعبد المطلب ، وغيرهم في النار حسب إصرار هؤلاء ، ثم يكون ورقة بن نوفل ، الذي أدرك البعثة ، ولم يسلم ، في الجنة عليه ثياب السندس(٣) .

وكذلك فإن زيد بن عمرو بن نفيل ـ ابن عم عمر بن الخطاب ـ في الجنة يسحب ذيولا ، مع أنه مثل ورقة الآنف الذكر(٤) ، كما أن أمية بن أبي الصلت كاد يسلم في شعره ، وهكذا؟!(٥) .

وكيف تطرح كل تلك الأحاديث والتواريخ المتضافرة ، المتواترة الدالة على إيمان أولئك ، ويتشبث لإيمان هؤلاء ببيت شعر ، أو بكلمة عابرة ، لم يتبعها إلا التصميم على النهج الأول؟!.

نعم ، وكيف لا يكون لهؤلاء نجاة ويكونون في النار(٦) ، ثم يدخل

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ١ ص ٥١ عن البزار ، والطبراني ، والبيهقي ، والبداية والنهاية ج ٢ ص ٢٨٠ عن البيهقي ، ومسالك الحنفا ص ٥٥ عنهم وص ٥٦ عن ابن ماجة.

(٢) مصنف الحافظ عبد الرزاق ج ١٠ ص ٤٥٤.

(٣) سيأتي بعض الحديث عن ورقة حين الكلام على روايات بدء الوحي فانتظر.

(٤) السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٣٩ و ١٦٨ والبداية والنهاية ج ٢ ص ٢٣٧ ـ ٢٤١.

(٥) الأغاني (ط ساسي) ج ٣ ص ١٩٠.

(٦) عون المعبود ج ١٢ ص ٤٩٤ ، والبداية والنهاية ج ٢ ص ٢٨١ عن دلائل النبوة للبيهقي.

٨٢

المشركون الذين عاشوا في زمن الفترة الجنة؟!

فقد ذكر الحلبي ودحلان وغيرهما : أن أهل الفترة لا عذاب عليهم إلا على قول ضعيف ، مبني على وجوب الإيمان والتوحيد بالعقل ، والذي عليه أكثر أهل السنة والجماعة : أنه لا يجب ذلك إلا بإرسال الرسل.

وأطبق الأشاعرة في الأصول ، والشافعية في الفقه على أن من مات ولم تبلغه الدعوة مات ناجيا ، ويدخل الجنة ؛ فعليه :

أهل الفترة من العرب لا تعذيب عليهم ، وإن غيّروا ، أو بدلوا ، أو عبدوا الأصنام ، والأحاديث الواردة بتعذيب من ذكر مؤولة(١) ، وبهذا ، وبالأحاديث المتواترة يرد ما زعموه من أنه «صلى الله عليه وآله» قد منع من الاستغفار لأمه رضوان الله تعالى عليها ، وإن كنا نحن نعتقد أن أهل الفترة يعذبون إذا قامت عليهم الحجة العقلية أو النقلية إلا القاصرين منهم ؛ فإن التوحيد يثبت بالعقل لا بإرسال الرسل ، وإلا ، لم يمكن إثبات شيء على الإطلاق ، لا التوحيد ، ولا النبوة ، ولا الدين من الأساس.

غريبة :

ومن غريب الأمر هنا : أن نجد البعض يوجه رواية : إن أبي وأباك في النار ، بأن المقصود هو عمه أبو طالب ؛ لأن العرب تسمي العم أبا ، وقد كان

__________________

(١) السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٣٢ ـ ٣٣ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٠٦ و ١٠٧ ، وهذا هو رأي ابن حجر الهيثمي ، والمناوي ، والسيوطي.

٨٣

«صلى الله عليه وآله» ينسب بالبنوة إلى أبي طالب(١) .

ولا ندري لماذا ترك عمه أبا لهب لعنه الله تعالى ، فإن كفره مسلم ومقطوع به ، وتمسك بالمدافع عنه ، والمناصح له ، والباذل مهجته في سبيل نبيه ودينه.

وسوف يأتي إن شاء الله أن إيمان أبي طالب هو المسلم والمقطوع به. بل هو كالنار على المنار ، وكالشمس في رابعة النهار.

ويكفي أن نذكر أن العظيم آبادي قد قال هنا : «وهذا أيضا كلام ضعيف باطل»(٢) .

ملاحظة :

ويلاحظ هنا : أن في قول الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» : «حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار» تورية لطيفة ؛ حيث إن عبارته هذه قد خففت من تأثر السائل ، وهي في نفس الوقت صادقة المضمون ، ولا تدل على كفر أبيه «صلى الله عليه وآله» ؛ إذ إن من الطبيعي أن الكافر مبشر بالنار ، وأما أن أباه «صلى الله عليه وآله» كافر أو لا ؛ فذلك مسكوت عنه.

والغريب هنا : أنه قد روي أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد قال ذلك عن أمه «رحمها الله» ، فقد قال لرجلين : أمي وأمكما في النار.

ونحن لا نزيد على أن نذكر هنا أن الذهبي قد حلف على عدم صحة

__________________

(١) عون المعبود ج ١٢ ص ٤٩٤ ـ ٤٩٥ عن السندي ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ٥١ ، ومسالك الحنفا ص ٥٨.

(٢) عون المعبود ج ١٢ ص ٤٩٥.

٨٤

هذا الحديث ، يعني حديث كون أمه وأمهما في النار(١) .

وأخيرا :

فإننا نكاد نصدق مقولة : أن السبب في تكفير آباء رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأعمامه هو مشاركة علي «عليه السلام» له فيهم ، أو أنهم يريدون أن لا يكون آباء الخلفاء من بني أمية ومن غيرهم ، وآباء رجالات الحكم وأعوانه كفارا ، ويكون آباء النبي وأهل بيت النبي «صلى الله عليه وآله» مؤمنين ، فلا بد من سلب هذه الفضيلة عنه «صلى الله عليه وآله» ليستوي هو وغيره في هذا الأمر.

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ١ ص ١٠٦ ومسالك الحنفا ص ٥٢.

٨٥
٨٦

البحث الثاني

بماذا كان يدين النبي صلى الله عليه وآله قبل البعثة؟!

إن إيمان النبي «صلى الله عليه وآله» وتوحيده قبل بعثته يعتبر من المسلمات ، ولكن يبقى :

أنهم قد اختلفوا في أنه «صلى الله عليه وآله» هل كان متعبدا بشرع أحد من الأنبياء قبله أو لا ، فهل هو متعبد بشرع نوح ، أو إبراهيم ، أو عيسى ، أو بما ثبت أنه شرع ، أو لم يكن متعبدا بشرع أحد؟ ذهب إلى كل فريق(١) .

وتوقف عبد الجبار ، والغزالي ، والسيد المرتضى.

وذهب المجلسي إلى أنه «صلى الله عليه وآله» حسبما صرحت به الروايات :

كان قبل البعثة ، مذ أكمل الله عقله في بدو سنه نبيا ، مؤيدا بروح القدس(٢) ، يكلمه الملك ، ويسمع الصوت ، ويرى في المنام ، ثم بعد أربعين

__________________

(١) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٥٤.

(٢) وكان عيسى أيضا مؤيدا بروح القدس ؛ قال تعالى :( وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) ولو لم يكن نبينا «صلى الله عليه وآله» مؤيدا بروح القدس ، لكان يحيى وعيسى أفضل منه «صلى الله عليه وآله».

٨٧

سنة صار رسولا ، وكلمه الملك معاينة ، ونزل عليه القرآن ، وأمر بالتبليغ.

وقال المجلسي : إن ذلك ظهر له من الآثار المعتبرة ، والأخبار المستفيضة(١)

وقد استدلوا على نبوّته «صلى الله عليه وآله» منذ صغره بأن الله تعالى قد قال حكاية عن عيسى :

( قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ، وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ) (٢) .

ويقول تعالى عن يحيى «عليه السلام» :( وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) (٣) فإذا أضفنا إلى ذلك : أنه قد ورد في أخبار كثيرة بعضها صحيح ، كما في رواية يزيد الكناسي في الكافي :

إن الله لم يعط نبيّا فضيلة ، ولا كرامة ، ولا معجزة ، إلا أعطاها نبينا الأكرم «صلى الله عليه وآله».

فإن النتيجة تكون : هي أن الله تعالى قد أعطى نبينا محمدا «صلى الله عليه وآله» الحكم والنبوة منذ صغره ، أو فقل منذ ولد(٤) ؛ ثم أرسله للناس كافة ، حينما بلغ الأربعين من عمره وقد أيد المجلسي هذا الدليل بوجوه كثيرة(٥) .

__________________

(١) البحار ج ١٨ ص ٢٧٧.

(٢) الآيتان ٣٠ و ٣١ من سورة مريم.

(٣) الآية ١٢ من سورة مريم.

(٤) راجع : البحار ج ١٨ ص ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

(٥) راجع : البحار : ج ١٨ ص ٢٧٧ ـ ٢٨١.

٨٨

ويمكن المناقشة في ذلك بأن إعطاءه «صلى الله عليه وآله» فضائل الأنبياء ومعجزاتهم في الرواية لا يستلزم ما يراد إثباته هنا ؛ فإن بعض معجزاتهم كمعجزة العصا التي تلقف ما يأفكون ، لم يكن ثمة حاجة إليها في زمانه «صلى الله عليه وآله».

نعم ، هي واقعة تحت اختياره «صلى الله عليه وآله» ، ولو احتاجها لاستفاد منها جميعا.

وأما الفضائل فقد كان «صلى الله عليه وآله» هو الجامع لها على النحو الأكمل والأشمل في جميعها ، حتى إنه إذا كان أيوب قد امتاز على غيره من الأنبياء بالصبر ، فإن صبر نبينا «صلى الله عليه وآله» كان أكمل من صبر أيوب ، وهكذا بالنسبة لسائر الأنبياء ، وامتيازاتهم في الفضائل ، ومكارم الأخلاق.

وما أكرمهم الله تعالى به من ألطاف ظهرت بها كرامتهم عند الله ، غير أن مما لا شك فيه : أن النبوة في الصغر كرامة ومعجزة ، وفضيلة له «صلى الله عليه وآله»

فلا بد من أن يكون الله تعالى قد أكرمه بها كما أكرم عيسى «عليه السلام» ، حسبما دلت عليه هذه الأخبار ، وبذلك يثبت المطلوب.

كما ويثبت أيضا سر روايات كثيرة أخرى تلمح وتصرح بنبوته «صلى الله عليه وآله» قبل بعثته ، أشار إليها المجلسي كما قلنا ، وأشار العلامة الأميني أيضا إلى حديث : إنه «صلى الله عليه وآله» كان نبيا وآدم بين الروح والجسد ، ورواه عن العديد من المصادر من غير الشيعة(١) .

__________________

(١) راجع : الغدير : ج ٩ ص ٢٨٧.

٨٩

فإذا ثبتت هذه الروايات بعد التأكد من أسانيدها ودلالتها ، فما علينا إذا اعتقدنا بما دلت عليه من حرج.

وفي جميع الأحوال نقول : إن مما لا ريب فيه أنه «صلى الله عليه وآله» كان مؤمنا موحدا ، يعبد الله ، ويلتزم بما ثبت له أنه شرع الله تعالى مما هو من دين الحنيفية شريعة إبراهيم «عليه السلام» ، وبما يؤدي إليه عقله الفطري السليم ، وأنه كان مؤيدا ومسددا ، وأنه كان أفضل الخلق وأكملهم خلقا ، وخلقا وعقلا ، وكان الملك يعلمه ، ويدله على محاسن الأخلاق.

هذا فضلا عن أننا نجدهم ينقلون عنه «صلى الله عليه وآله» : أنه كان يلتزم بأمور لا تعرف إلا من قبل الشرع وكان لا يأكل الميتة ، ويلتزم بالتسمية والتحميد ، إلى غير ذلك مما يجده المتتبع لسيرته «صلى الله عليه وآله».

ملة أبيكم إبراهيم :

بل إننا نقول : إن هناك آيات ودلائل تشير إلى أن إبراهيم الخليل «عليه السلام» ونبينا الأكرم «صلى الله عليه وآله» ، هما اللذان كان لديهما شريعة عالمية ، وقد بعثا إلى الناس كافة.

أما موسى وعيسى «عليهما السلام» فإنما بعثا إلى بني إسرائيل ، وربما يمكن القول : بأن جميع الأنبياء «عليهم السلام» ، منذ آدم وإلى النبي الخاتم «صلى الله عليه وآله» كانوا يعرفون جميع أحكام الشريعة ، ويعملون بها في أنفسهم ، وإن كانت دعوتهم للناس ليس لها هذا الشمول والسعة.

كما إننا نلاحظ : أن الآيات القرآنية العديدة قد حرصت على ربط هذه الأمة بإبراهيم «عليه السلام» فلاحظ قوله تعالى :

( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ

٩٠

الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) (١) .

وقال تعالى :

( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ) (٢) .

وقال سبحانه :( قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ) (٣) .

وقال جل وعلا :( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) (٤) .

وقال تعالى :( وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (٥) .

ثم نجد القرآن يصرح أيضا أن النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» شخصيا كان مأمورا أيضا باتباع ملة إبراهيم «عليه السلام» ، فقد قال سبحانه :

( ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (٦) .

وقال في موضع آخر :

__________________

(١) الآية ٧٨ من سورة الحج.

(٢) الآية ١٢٥ من سورة النساء.

(٣) الآية ٩٥ من سورة آل عمران.

(٤) الآية ٦٨ من سورة آل عمران.

(٥) الآية ١٣٥ من سورة البقرة.

(٦) الآية ١٢٣ من سورة النحل.

٩١

( قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (١) .

وهذا ، وإن كان ظاهره : أنه «صلى الله عليه وآله» قد أمر بذلك بعد البعثة وبعد نزول الوحي عليه ، لكنه يثبت أيضا :

أنه لا مانع من تعبده «صلى الله عليه وآله» قبل بعثته بما ثبت له أنه من دين الحنيفية ، ومن شرع إبراهيم «عليه السلام» ، وليس في ذلك أية غضاضة ، ولا يلزم من ذلك أن يكون نبي الله إبراهيم أفضل من نبينا «صلى الله عليه وآله» ، فإن التفاضل إنما هو في ما هو أبعد من ذلك.

هذا كله ، لو لم نقتنع بالأدلة الدالة على نبوته «صلى الله عليه وآله» منذ صغره.

ووجدك ضالا فهدى :

وبعد ما تقدم نقول : إن قوله تعالى : ( ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ) (٢) وقوله سبحانه :( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ) (٣) لا يدل على وجود ضلالة فعلية ولا على وجود جهل فعلي قبل النبوة.

بل غاية ما يدل عليه هو أنه «صلى الله عليه وآله» لو لا هداية الله له لكان ضالا ولو لا تعليم الله له لكان جاهلا ، أي لو أن الله أوكله إلى نفسه ، فإنه بما له من قدرات ذاتية ، وبغض النظر عن الألطاف الإلهية ، والعنايات

__________________

(١) الآية ١٦١ من سورة الأنعام.

(٢) الآية ٥٢ من سورة الشورى.

(٣) الآية ٧ من سورة الضحى.

٩٢

الربانية ضال قطعا ، وجاهل بلا ريب.

فهو من قبيل ما روي عن أمير المؤمنين «عليه السلام» : ما أنا في نفسي بفوق أن أخطئ ، إلا أن يكفي الله بلطف منه.

وهذا معناه : أنه لا هداية لو لا لطف الله وعصمته وتوفيقه ، لكن بعد أن كان لطف الله حاصلا من أول الأمر ، فإن العصمة تكون حاصلة بالضرورة من أول الأمر أيضا.

على أن وجدان الله محتاجا إلى الهدايات كان من حين خلقه له ، وقد جاءت الهدايات فور وجدانه له كذلك فلا يوجد فاصل زمني بين هذا وذاك ، وذلك ، وقد شرحنا هذا الأمر في كتابنا مختصر مفيد(١) .

أولو العزم :

وبعد ، فقد نجد في قوله تعالى حكاية عن آدم «عليه السلام» :( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (٢) ، حتى وإن كانت ناظرة إلى نسيان الميثاق الذي أخذه الله في عالم الذر ، ثم في قوله :( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) (٣) .

وغير ذلك من شواهد ودلائل ما يشجعنا على القول : بأن المراد من إطلاق هذه الصفة على بعض الأنبياء «عليهم السلام» هو العزم الذي ينتج ذلك الصبر الذي فعله أولئك الرسل الذين أشير إليهم في الآية ، فإن جميع الأنبياء معصومون ابتداء من آدم «عليه السلام» ، لكن عزم بعضهم أقوى

__________________

(١) راجع : مختصر مفيد ج ١ ص ١٧٩.

(٢) الآية ١١٥ من سورة طه.

(٣) الآية ٣٥ من سورة الأحقاف.

٩٣

من عزم البعض الآخر ، الأمر الذي يشير إلى مدى رسوخ قدمهم ، وعمق درجة العصمة فيهم ، وقدرتهم الكبيرة على التحمل في مواجهة أعظم التحديات مع الطواغيت والجبارين ، وتحمل المسؤوليات الجسام ، والمشاق العظام في نطاق الدعوة إلى الله سبحانه.

وقد يكون بعض أولي العزم ، حتى مثل موسى وعيسى «عليهما السلام» لم يبعث للناس كافة ، وإنما لخصوص بني إسرائيل ، الذين ربما يحتاجون إلى بعض التشريعات الاستثنائية الخاصة بهم ، مع كون العمل في المسار العام إنما هو شريعة إبراهيم «عليه الصلاة والسلام».

وهذا بحث يحتاج إلى توفر تام ، وجهد مستقل ، نأمل أن يوفقنا الله لهما في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.

من الأساطير :

وبعد كل ما تقدم نعلم : أن كل ما يذكر عنه «صلى الله عليه وآله» من أمور تتنافى مع التسديد ، ومع شرع الله تعالى ، لا أساس له من الصحة.

ونذكر هنا على سبيل المثال : ما رواه البخاري وغيره ، من أنه قد قدّم لزيد بن عمرو بن نفيل سفرة فيها شاة ذبحت لغير الله تعالى ، (وعند البخاري أنها قدمت للنبي «صلى الله عليه وآله» ؛ فأبى زيد أن يأكل منها ، وقال : أنا لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه).

وفي رواية أحمد : إن زيدا مر على النبي «صلى الله عليه وآله» وهو يأكل مع سفيان بن الحرث من سفرة لهما ، فدعواه إلى الطعام فرفض ، وقال إلخ

قال : فما رؤي النبي «صلى الله عليه وآله» من يومه ذاك يأكل مما ذبح

٩٤

على النصب حتى بعث.

ويذكرون أيضا : أن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول إلخ(١) .

وعليه ، فزيد بن عمرو بن نفيل كان أعقل من النبي «صلى الله عليه وآله» وأعرف منه ـ والعياذ بالله ـ لأنه أدرك وعرف قبح أكل ما ذبح على النصب ، ولم يذكر اسم الله عليه ، أو بلغه ذلك ، ولكن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يستطع أن يدرك ذلك ، ولا كان على قرب من مصادر المعرفة ، فكان يأكل منه ؛ مع أنه «صلى الله عليه وآله» أعقل الكل وفوق الكل ، ومع أنه قد تربى في حجر عبد المطلب ، الذي ترك الأصنام ، وابتعد عنها حسبما تقدم ، ثم في حجر عمه أبي طالب ، وبيتهم كان أرفع بيت في العرب ، وهم أعرف الناس بتعاليم الحنيفية.

نعم ، لقد أدرك زيد ذلك برأيه ، حسبما يرجحه العسقلاني(٢) ، ولم يستطع النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» أن يدركه ، لقد كانت النبوة بزيد قريب عمر بن الخطاب(٣) أجدر منها بمحمد ، نعوذ بالله من الزلل في القول والعمل.

__________________

(١) راجع : صحيح البخاري ط مشكول المصرية ج ٥ ص ٥٠ وج ٧ ص ١١٨ باب ما ذبح على النصب والأصنام ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٢ ، ومسند أحمد ج ١ ص ١٨٩ وراجع فتح الباري ج ٧ ص ١٠٨ و ١٠٩ والروض الأنف ج ١ ص ٢٥٦ والبداية والنهاية ج ٢ ص ٢٣٨ و ٢٣٩ و ٢٤٠ وراجع ص ٢٣٧.

(٢) فتح الباري ج ٧ ص ١٠٩.

(٣) البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٣٧.

٩٥

واحتمال أن يكون زيد قد أخذ ذلك عن بعض النصارى أو اليهود ، كما احتمله البعض يحتاج إلى إثبات : أن النصارى كانوا يحرمون أكل ما ذبح على النصب ، أو ما لم يذكر اسم الله عليه.

أما اليهود فما كانوا يهتمون بدخول غيرهم في دينهم ، وإذا كان ذلك شائعا عنهم ؛ فلماذا لم يعرف به غير زيد؟

على أن هناك نصا يقول : إن النبي «صلى الله عليه وآله» : «كان لم يأكل مما ذبح على النصب»(١) .

ومهما يكن من أمر ، فقد قال السهيلي : «كيف وفق الله زيدا إلى ترك ما ذبح على النصب ، وما لم يذكر اسم الله عليه ، ورسوله «صلى الله عليه وآله» كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهلية ؛ لما ثبت من عصمة الله تعالى له»؟

ثم أجاب عن ذلك : بأنه ليس في الرواية : أنه «صلى الله عليه وآله» قد أكل من السفرة ، وبأن شرع إبراهيم إنما جاء بتحريم الميتة ، لا بتحريم ما ذبح لغير الله تعالى ، فزيد امتنع عن أكل ما ذبح لغير الله برأي رآه لا بشرع متقدم(٢) .

ولكنه جواب بارد حقا.

فإن إدراك زيد لهذا الأمر الذي وافق فيه نظر الشرع ، وعدم إدراكه هو «صلى الله عليه وآله» له مما لا يمكن قبوله ، أو الالتزام به.

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٥٤.

(٢) الروض الأنف ج ١ ص ٢٥٦ ، وراجع : السيرة الحلبية ج ١ ص ١٢٣ عنه ، وفتح الباري ج ٧ ص ١٠٩.

٩٦

هذا ولماذا يسدد الله تعالى نبيه حينما كشف عن عورته حين بناء البيت ، ويمنعه عن ذلك ـ حسبما يدعون ـ ثم تبغض إليه الأصنام ، والشعر ، ولا يسدده الله ، ويحفظه من أكل ما ذبح لغير الله تعالى؟! الذي يدرك بعض الناس أنه ليس محبوبا لله تعالى؟!

إستلام الأصنام :

ومن أساطيرهم أيضا : ما ذكروه من أنه «صلى الله عليه وآله» كان يستلم الأصنام ، بل لقد ذكر البعض : أنه «صلى الله عليه وآله» قال : «أهديت للعزى شاة عفراء وأنا على دين قومي»(١) .

مع أنهم يذكرون : أن زيدا المتقدم وعمر بن الحويرث ، وأبا قيس بن هرمة ، وقس بن ساعدة ، وأسعد بن كريب ، وعبيد الله بن جحش ، ورباب بن البراء وغيرهم ، لم يسجدوا لصنم قط ، وحرموا عبادة الأوثان.

فلماذا أدركوا هم ذلك دونه؟!.

وأيضا فقد سئل «صلى الله عليه وآله» : هل عبدت وثنا قط؟

قال : لا.

وقال ابن حجر : إن الناس قد أنكروا حديث استلامه الأصنام.

وقال أحمد بن حنبل ـ على ما في الشفاء ـ : إنه حديث موضوع(٢) .

وعلى كل حال ؛ فإن هناك تفاهات كثيرة ، وأكاذيب عديدة عليه «صلى

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ج ١ ص ٨٦.

(٢) راجع السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٥٠ ـ ٥١ والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٢٥ و ٢٧٠.

٩٧

الله عليه وآله» ، سواء بالنسبة إلى الفترة التي سبقت البعثة ، أو التي تلتها.

وسيأتي بعض من ذلك ، ولكن لا بد من الاعتراف : بأن استقصاءها متعسر بل متعذر ؛ ولذا فلا بد من الاقتصار على ما يسعه المجال ، ثم الانصراف إلى ما هو أهم ، وأجدر ، وأولى.

٩٨

البحث الثالث

شروط النهضة :

هناك عدة أمور تعتبر ضرورية وحتمية في بناء الحضارة ، وحصول النهضة لأي شعب كان ، وأية أمة كانت ، ونود أن نشير إلى بعض مقومات وعناصر ذلك عموما.

ثم وبمقارنة بسيطة وموجزة ، نستطيع أن نتعرف على جانب من عظمة الإسلام وسموّه ، وأصالته.

ومن أجل تسهيل تصور ما نريد عرضه على القارئ ، نقوم بمقارنة محدودة بين واقع وظروف عرب شمال الجزيرة العربية ، وهم أهل الحجاز ، وبين واقع وظروف عرب جنوبها ، وهم أهل اليمن.

فنقول :

ألف : لقد عاش اليمنيون في منطقة غنية وثرية ، وتستطيع إذا ما اشتغل أهلها بزراعتها : أن توفر لهم لقمة العيش ، وهي بالإضافة إلى ذلك أرض جبلية ، صعبة المسالك ، فهي إذن تستطيع في كثير من الأحيان أن توفر لهم حماية طبيعية ، وقدرة على مقاومة الأعداء.

وإذا كان اليمنيون يشتغلون بزراعة أرضهم ، ويستفيدون منها ،

٩٩

ويعتبرونها المصدر الأول والأساس لحياتهم ، واستمرار وجودهم ؛ فمن الطبيعي أن يتولد فيهم لذلك شعور مبهم بمحبة هذه الأرض ، والتمسك بها ، والحنين إليها.

وهذا بالطبع هو المهم عادة في حب الناس لأوطانهم ، وحنينهم إليها ، حتى إنهم قد يبذلون كل غال ونفيس حتى دماءهم في سبيل الدفاع عنها ، بل وحتى عن شبر واحد منها ؛ فمحبة الوطن تنشأ غالبا من محبة الأرض ، ومحبة الأرض تنشأ (عموما) من الشعور بأنها تعطيه كل مقومات الحياة ، وبأنها تحفظ له استمرار بقائه ووجوده ، بالشكل المرضي له ، والمقبول عنده.

ب : وكان في اليمن أيضا حكومة مركزية مهيمنة تفرض النظام والقانون ، وتهتم بإشاعة الطمأنينة ، والأمن والسلام.

وإذا كان الإنسان يشعر بالأمن ، ويعيش في ظل القانون ، ولا يتخوف من أي عدو يتربص به الغوائل ، فإنه يجد الفرصة للتفكير في تغيير الوضع الحياتي الذي يعيشه ، إلى وضع أفضل وأكمل.

ج : ثم تتاح الفرصة لآمال وتطلعات هذا الإنسان للتعبير عن نفسها ، وفرض وجودها ، فتدفعه إلى بذل المحاولة ، والتصرف فيما تناله قدراته في توجيهه في هذا السبيل.

د : ثم يأتي دور الأهم والأقوى تأثيرا في النهضة ، ألا وهو النظام الأكمل والأشمل والأصلح ، الذي يستطيع أن يبني الإنسان من الداخل ، ويحافظ عليه من الخارج ، ويزيل من طريقه كل العقبات التي يمكن أن تعترض سبيل تقدمه ؛ ولتنمو وتتكامل في ظل ذلك النظام ـ من ثم ـ ملكات هذا الإنسان ، وخصائصه ، ولتجد طاقاته وإمكاناته الفرصة للتأثير

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352