الإمام الحسين في حلة البرفير

الإمام الحسين في حلة البرفير0%

الإمام الحسين في حلة البرفير مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 176

  • البداية
  • السابق
  • 176 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29486 / تحميل: 6480
الحجم الحجم الحجم
الإمام الحسين في حلة البرفير

الإمام الحسين في حلة البرفير

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يا للمدرسة في أُقنومها الموحَّد! بسطها جَدُّهُ مُحدَّدة بعليِّ. و يا لحظِّ أخيه الحسن يتناولها مرسومة ولكنَّها محفوفة بالجُهد الممهور بالدم! ولكنْ قبل أنْ يتناولنا الإمام الحسن إلى بساطه الأبيض، يروق لي أنْ أتبيَّن لون المـُعاناة التي راحت تغرق فيها كآبة الحسين بعد مَقتل أبيه الإمام، هلْ هي الحُزن المألوف طَعمه في لحَظة الموت، ومفارقة الأحباب لأعزِّ الأحباب؟ أم أنَّها مزيج آخر، يتولَّد في النفس مِن الإفرازات الأُخرى التي يؤلِّفها الشوق الحميم في تلك النفس، ويطبعها به على تخصيص وتمييز؟

ما أسرعني إلى أنْ أُجيب نفسي بنفسي! مُنذ أنْ امتلأ الحسين بروعة الإدراك، وبالتمام التمام، مُنذ أنْ أدرك أنَّ في تربيته المـُلوَّنة لغُزاً مَختوماً بأفخم الأختام، بدأت تشعُّ على نفسه روائع التكوين، مُنذ هاتيك اللحظات، ونفسه كالصفحة البيضاء، تنهال عليها الأزاميل بالحَفر البليغ، ومُنذ أنْ أدرك أنَّه مدموج بجَدِّه عنصراً مِن عناصر الصيانة لرسالة هي وحدها بُلغة الإنسان، وهي وحدها سياج الأُمَّة وتكييفها ضمانة لوجود الإنسان، توسَّعت حدود نفسه لاستيعاب المـُهمَّة الوسيعة، وعمَّقت بها الآفاق بقدر ما لها هي مِن آفاق عميقة وجليلة.

فيما بعد، عندما راح يُدرك واقع الأحداث على الأرض، وكيف تمَّت حياكتها وإخراجها، كأنَّها مسرحيَّة لبست الغَباء وتبدَّت بالهزل، والكذب والتهريج، لتنتهي بمأساة ما كانت ضحيَّتها - فقط - قيمة إنسانيَّة فذَّة، طلع بها رجل اسمه عليُّ بن ابي طالب، بلْ كانت ضحيَّتها أُمَّة برُمَّتها، تحمَّلت أجيالاً طويلة مِن التردِّي والانحطاط، حتَّى وهبها الله رجلاً منها، سكب لها مِن نبوَّة الروح قالباً جديداً صاغها به ودفعها قَدماً إلى السلالم.

لقد تعب في بناء المسرحيَّة المؤلِمة عمر بن الخطاب، في اللحظة التي غفلت بها عين الرسول عن عمليَّة الزجر والنهي عن تحريك الجمر في وادي الشياطين، ولقد تمَّ تمثيل المسرحيَّة التي أتقن الرقص على خشبتها عثمان بن عفَّان في مسجد المدينة، ومُعاوية بن أبي سفيان في غَوطة الشام. أيَّة عُقدة لذيذة تألَّفت بها المسرحيَّة ونامت

١٠١

عليها؟ ولكنَّها لم تكن عُقدة يتمجَّد بها الفنُّ، بلْ كانت حِقداً ذلَّت به الأُمَّة في مداها الطويل مِن عمرها المهدور، ونعمت بالعِزِّ والمـَجد والكرامة، في اللحظة التي جعلها نبيُّها العظيم تتحرَّر منه. أمَّا العُقدة المـَبنيَّة بحَذقٍ ودهاءٍ فهي التي راحت تتكشَّف عنها الأيَّام؛ تنفيذاً لمبدأ صرَّح عنه مؤلِّف المسرحيَّة عندما قدَّمها لبعض المـُشاهدين: لا تلتقي النبوَّة والرئاسة في بيت واحد. أمَّا التفسير الجليُّ للذين اعتنقوا المبدأ، فهو السعي الحثيث للقضاء على كلٍّ مَن هُمْ أهل البيت، وهكذا يتمُّ اجتثاث الجرثومة التي تُطالب بتوحيد النبوَّة في أهل البيت

لقد ابتدأت اللُّعبة كأنَّها زُحام وصولي إلى كرسيِّ مشيخة، وانتهت إلى صراع آخر فيه كلُّ القصد للاقتلاع والإبادة، ولقد كانت الهواجس تشتدُّ ويشتدُّ معها التحسُّب وأخذ الحيطة، إلى أنْ انقلبت عند أهل البيت حِسَّاً بخطر مداهم في كلِّ لحظة. لقد أُبعد أهل البيت وكلُّ مَن يمُتُّ إليهم بصِلة عن أيِّ مركز مِن المراكز الإداريَّة في دولة الحُكم، وليس هذا وكفى، بلْ إنَّ الاضطهاد المـُباشر راح يَطال الجميع دون أيَّة هَوادة، ومَن يقول: إنَّ مَقتل الإمام الآن - بسيف ابن مُلجم - ليس مدفوعاً بذات الرغبة وذات الإيحاء؟

عجيبة غريبة هي الأساليب التي اعتمدوها واستعملوها، وتفنَّنوا بإخراجها في ساحة الصراع، إنَّ التنوُّع فيها كان يُضيِّع الفئة المـُضطهدة في تمتين الحَيطة والتزام التحسُّب، لأنَّ زمام المـُبادرات كان دائماً بأيديهم، وهو يكون على أقواه مع المـُستقوي بالسلطان، وكلُّ مُقدَّرات الناس في كفَّيه، وكلُّ نيَّة الشَّرِّ، والغَدر والبُهتان، هي المـُبيَّتة في صدره.

في هذه اللحظة - النازفة بالحُزن والمرارة - كانت تتفتَّح في نفس الحسين كآبة، أوسع ما فيها أنَّها أغرقته في تأمُّل لا شَفة له ولا لسان، إنَّه الحزين الكئيب، ليس مُطلقاً على أبيه الذي غاب مثلما غاب جَدُّه وغابت أُمُّه، بل على القضيَّة التي هي الرسالة، والتي هي الأُمَّة، والتي هي المـَوئل الكبير الذي يردُّ الغائبين العظام إلى كلِّ واحة هُمْ فجَّروا ماءها، وأحيوها، وخلَّدوها في مَدارها الإنساني الرائع

١٠٢

المنتسب إليهم، والمضموم بهم إلى حقيقة خلود الذكر، وخلود القيمة في استمرار مُجتمع الإنسان.

سيكون لأخيه الحسن أنْ يتناول الخَطَّ ويمشي بعمليَّة الغوث، أمَّا الحسين فإنَّه الواجف المـُنتظر، وهو غارق في تأمُّله الصامت: أيكون الترقُّب الآن عنصراً آخر في مُعاناته التي لم تنفجر بعد؟!!!

٥ - الصُّلح الأبيض وعهد الحسن:

رويد الأحداث قليلاً، فإنَّها تناولت إلى يدها الآن إزميلاً آخر، لا لتعميق الحَفر في نفس الحسين، فإنَّ عُمق المحفور فيها قد بلغ القَرارة، لا وليس لتوسيعه كتوسيع الدوائر، فإنَّ الوسع فيه لم يعُد بحاجة إلى مساحة بعد أنْ تحوَّل إلى مسافة، بلْ لتلوين هذا الحَفر بلون العُمق، ولون المساحات العنيدة التي هي تحويل يُحومِل في النفس ويرفعها مِن مرتبة إلى مرتبة، ومِن قرارٍ إلى قرارٍ، سيظل هذا الإزميل الجديد في عمله المـُتواصل في نفس الحسين مع انتقال المـُهمَّة الكبيرة إلى حِضن أخيه الحسن، مُنذ اللحظة الأُولى التي تسلَّم فيها زمام الإمامة، حتَّى اللحظة الأخيرة التي رفعته فيها جرعة السَّمِّ إلى مُلاقاة جَدِّه في المـُلاء الأوسع، ليطرح بين يديه جَردة الحساب عَمَّا أنجزه فوق تُراب الأرض.

أمَّا الحسن، وقد أنجز عِدَّة أشهُر - فقط - بتصدُّر الإمامة، فانه ما تركها حتى ملأها، وما غاب عنها حتى احتواها في مجمع فحواها، واذا به - كعدسة العين - صغيرة صغيرة، وما ضاقت على اشعة الشمس.

لقد كان الحسن - كأخيه الحسين - على اطِّلاع كامل و شامل بمُجريات الأحداث، وبكلِّ ما أُضمر فيها مِن مقاصد سوء ليقصدهم - بالتخصيص - كطالبيِّين مُعيَّنين بأهل البيت، وكان مُدركاً تمام الإدراك أنَّ لا قيمة لطالبيَّتهم، مَهْما يَعزُّ بها الانتساب والفخار، إنْ لم تتَّصف بالرسالة العظيمة التي أصبحت تعبيراً

١٠٣

مُطلقاً وشاملاً عن الأُمَّة، التي هي بدورها إطار آخر يصون الرسالة ليُصان بها، ويُحقِّقها ليتمَّ له بها كلُّ تحقيق.

هكذا انتقلت المـُهمَّة إليه إثر مَقتل أبيه، وراح يُحاول إتمام ما انقطع عن انجازه أبوه الإمام.

أقول: راح يُحاول - والمـُحاولة تعني: أنَّ الحَيطة والحذر أصبحا رفيقيه في كلِّ خُطوة يخطوها على الطريق، فالخصم الذي ترك، أو بالأحرى أفسح له بالمجال؛ حتَّى يستكمل كلَّ إعداداته للبطش بهم والإنجاز عليهم، إنَّما هو الخَصم الذي يملك ويقدر مِن دون أنْ يتأثَّم أو يتورَّع.

ولقد كانت المـُحاولة - بنوعٍ خاصٍّ عند الحسن - مُجهزَّة مع الحَيطة والحَذر، بحِكمةٍ متناهيةٍ، كان يتأنَّق بها بروز الساحة وجسِّ الأنباض، حتَّى يكون له المـَخرج الأصوب في تعهُّد الرسالة، والعبور بها مِن بين المـَفارق إلى أسلم واحد منها يوصِلها إلى واحة مِن أمان.

ما كانت سهلة - أبداً - مُهمَّة الحسن، بلْ كانت مِن أضنى ما يقدر أنْ يقوم به حاكم مسؤول عن رسالة وأُمَّة موصوفتين - في باله ونفسه وضميره - بأنَّهما: مآل في الوجود يُحدِّد الإنسان في الله، والله في الإنسان، وأنَّهما عنصرا قضيَّةٍ واحدةٍ وموحَّدةٍ في اسم رجل واحد، أمين في طالبيَّته، وعظيم في نبوَّته، وجامع في أُمَّته، وإنسانيٌّ أُمَميٌّ في رسالته عظيمة هي القضيَّة، وجليلة هي المسؤوليَّة، ولكنَّ الضَنَى فيها هو في التمكُّن مِن مُتابعة نشرها قيمة إنسانيَّة فاعلة، ومِن تخليصها مِن كلِّ وثنيَّة تسجد للحَجر، وتعصر الحِقد والضغينة والطمع تتغذَّى بها وتمشي إلى ذلِّها، كما يمشي كلُّ إبليس إلى جَحيمه!!!

أمّا مُعاوية، فلقد كان الحاضر الأكبر، يملك الخطوط ويتحكَّم بها، وهو في مركزه الحصين في الشام، لقد حصَّن له المركز المتين: أبو بكر، فعمر، فعُثمان، حتَّى أصبح الآن - بعدما تضرَّج عليٌّ بدمه وكُفِّن بعباءته التي لا تزال حتَّى الآن تُجاهر بزُهده الرفيع، وصدقه الأرفع، وتُنادي على الجهات الأربع، بأنَّه الأبلغ

١٠٤

والأروع والأشرف - هيمنةً في الساحة، ملوَّنة بكلِّ ألوان الدهاء. مُنذ أكثر مِن ثلاثين سنة وهو يتعلَّم كيف يكون الوصول إلى كرسيِّ الحُكم، وامتلاكه وتحويله مِن الحَقِّ العامِّ الموزَّع على الأُمّة جمعاء، احتكاراً مصبوباً في خزائنه: مَجداً، وجاهاً، وقوَّةً، ومُنعةً، وقصوراً، ومرقصاً لأطماعه شهواته وأشكال نَزواته.

أمَّا أنْ يقضي على مُزاحميه على الكرسي، فقد تعلَّم كيف يسقيهم السَّمَّ بنَكهة العسل، وتعلَّم كيف يستميل إليه رؤوس القوَّاد والجند والمـُتزعِّمين مِن أفواج القبائل، بلعقات مُتفاوتة الحَجم والطَعم، كان يجعلها رشوة مَطليَّة ببريق الكرم.

ما نقصت أبداً موائد مُعاوية، ولا انقطعت في كَفِّه شعرة مِن دهائه المـُحنَّك بالفن، حتَّى الشعرة في كَفِّه كان يموِّه عليها بأنَّها أمتن مِن حَبل القُنَّب، وبهذه الشعرة المـُتكاذبة - ضمناً - على الذات، وجهراً على الناس في ثوب الخديعة، تمكَّن مِن أنْ يشغل كرسيَّ الخلافة ويعتليه - أنوشروانيا - على حساب أهل البيت وسَحقهم سَحقاً استئصاليَّاً يغيبهم عن الإرث، ويُحرِّره منهم ليبقى صافياً له في مظهر المـُلك، وهل يكون أهل البيت أكثر مِن ثلاثة؟ وهل يكون هو - مُعاوية - أقلَّ مِن حَبيكة تعبٍ في حبكها خَطٌّ فكريٌّ، سياسيٌّ مُميَّز بعقل، وأعصاب، وإرادة؟ لقد مَرَّت السنون الطويلة على العمل الهادف والدؤوب والصامت، وها هو الآن - مُعاوية - الدليل الشاهد على النجاح الباهر، الذي أوصلته شعرة المـُرونة إلى حقيقة المـُلك وها هو رأس البيت في زعمه المـُتداهي والمـُتباهي، يغيب ملفوفاً بفشله. أمَّا الثاني الذي لن يكون اسمه أوسع مِن الحسن، فستتمُّ مُحاورته بكلِّ رِفقٍ ولينٍ، إلى أنْ تأتي الساعة الزاحفة بثوانيها، فيتمُّ اللدغ الليِّن المـَرن. أمّا الثالث فسيبقى موجوداً في يائه الصُغرى، ولن تبخل الأيَّام عليه برغيف مِن سويق!!!

إنْ يكُن مُعاوية قد ظنَّ أنَّ الأحابيل التي حاكها - كلَّها - بحَقِّ أهل البيت، هي نِتاج عقله وفنِّه ودهائه، وأنَّ نجاحها كان مُرتهنا بإخفائها، والتلاعُب بها في دغشات الليل، إلاَّ أنَّ أهل البيت لم تنطلِ عليهم مُخبآت النفوس وما يجيش في النوايا، ولقد كان عليٌّ أرسخ المؤمنين بأنَّ العقل المتين هو ابن الخلايا المتينة في

١٠٥

الإنسان، وهذه كلُّها لا يمتنها إلاَّ العفَّة، والصدق، والسليقة، النظيفة الروح، وهذه كلُّها - أيضاً - كان يفتقر إلى كلِّ مزاياها الطبيعيَّة الخَطُّ الثاني مِن بني حرب، الذين لا يزالون كما كانوا مُنذ الأمس، يُناصبون بني هاشم عداءً خالياً مِن أركان العقل التي هي - في نظر عليٍّ - صدق، وعفَّة، وحُبٌّ، وجمال.

لا، لم تَخْفَ هذه المـُخبآت على عليٍّ، في الليلة ذاتها التي تخبَّأ بها ابن الخطاب في سقيفة بني ساعدة، وما طلع الصباح إلاَّ وأبو بكر على كرسيِّ الخلافة، إمَّا أنْ يصمت عليٌّ ويتغلَّف بالصبر، فذلك كان عقله في تحمُّل الضيم، ومُعالجة الخطأ في تدبير شؤون المـُجتمع الموجَّه حديثاً إلى الوعي والإدراك، وإمَّا أنْ يهدر قوى هذا المـُجتمع في مُشاحنات جانبيَّة، تُقوِّي الرجوع فيه إلى قبليَّات ذميمة، تُفسد عليه غرضه الجديد مِن رسالة أنهكها التعب في لمـِّه وردِّه إلى دائرة الصواب، فإنَّ ذلك ما جعله يتحلَّى بالصبر والسكوت، على أمل أنْ تتَّسع عين المـُجتمع في تفتيشها عنه لتجده دائماً، في الحظيرة التي سهر على تسييجها - بالحَقِّ والصواب - نبيُّها العظيم، بعد أنْ تركها في العُهدة التي يُجرِّده - الآن - منها قبليٌّ عتيق ما تخلَّى بعد عن نظام المـَشيخة.

أمَّا أنْ يتمادى هؤلاء بتبييت السوء والتلاعُب به، بكلِّ ظِفْرٍ ونابٍ، فإنَّ أهل البيت جميعهم كانوا يكشفونه بالتدريج، ويُدركون كُنهه وثقله خطراً عليهم، وعلى الأُمَّة سواء بسواء في مُحاولتهم توسيع عين المـُجتمع، حتَّى لا تضيع عن المـُقابلة بين خَطِّين: خطٌّ يرجع إلى قَبليَّة جاهليَّة، فيها كلُّ التمويه على الحقيقة، وخطٌّ صحَّ انتماؤه إلى الحقِّ الذي هو الآن رسالة، توحِّد المـُجتمع مِن تَيهه وانعزاله، وتسلُّمه إلى العُهدة التي رتَّبت له التنظيم الصحيح بقوَّة الفِكر، والروح، والصدق، والعزم.

أقول: مُنذ الساعة الأُولى التي عادت، فحبلت بنواياها العتيقة سقيفة بني ساعدة، تعيَّنت على عليٍّ معركة توسَّع ميدانها ومداها في تجاوزها العصر إلى كلِّ عصر آخر، دون أنْ تخفَّ شكيمتها، أو تٌضمر معانيها، أو يُستغنى عن مضامينها في إلحاحها على كلِّ تحقيق، إنَّها معركة قوامها إرساء المـُجتمع الإنساني - عِبر نظرة

١٠٦

عليٍّ الاجتماعيَّة في الحياة - على حقيقة واحدة تبنيه، هي اعتماده الصدق المـُتحلِّي بالعِفَّة المـُنزَّهة عن الكذب، والزور، والبُهتان، فإذا هو عدالة إنسانيَّة شريفة بالمـُثل النبيلة، الحاملة جوهر الله في الحياة، ما عدا ذلك، فإنَّه مُجتمع لا ينمو أبداً، بلْ ينحطُّ إلى درك تبرِّيه حيوانيَّته، وتلفُّظه الحياة مِن جوهرها الكريم، ويطرده العقل مِن دائرته المـُفتِّشة - أبداً - عن لذَّة حَلِّ الرموز الكبيرة، التي يشتبك بها صدر الكون إنَّها نكبة الإنسان المـُرَّة في عدم تلقُّطه بحقيقته الإنسانيَّة، التي يستدرجه إلى وعيها المـُجتمع الأمثل.

ذلك هو نهج عليٍّ في المعركة الكبيرة والطويلة، فإذا كانت رسالة ابن عَمِّه الناطقة بالآيات البيِّنات، هي مِن أجل تركيز الأُمَّة على حقيقتها في المـُجتمع، والتوحيد، والإنتاج الثمين، فإنَّ معنى ذلك أنَّ مداها هو الذي لا ينتهي، بلْ يستمرُّ باستمرار تدرُّج الأُمَّة إلى أجيالها الصاعدة في وجودها الحَيِّ. وهكذا، فإنَّ نهج عليٍّ هو المـُشتقُّ منها في حقيقة الاستمرار؛ لتكون الأجيال الصاعدة ميداناً لها في حقيقة الصراع.

وأظنُّ مُعاوية أدرك هذا العُمق في النهج، الذي قدّمه عليٌّ مادَّة في المعركة التي مات هو، ولم تمت هي، بلْ استمرَّت يقوم بها مِن بعده الإمام الحسن، وسيموت الحسن ليقوم بها الحسين، وسيموت الحسين ليستمرَّ بها الخَطُّ الذي هو: وعد تتلقَّط به الأُمَّة ساعة تفتقده، فتجده مزروعاً في حنينها المـُفتِّش عن حقيقتها في السلوك المـُمتاز الذي سلكه عليٌّ، وخَطُّ عليٍّ المدرَّب والمـُمنَّع بالإمامة، التي هي لون سياسيٌّ مُعيَّن النهج، وصادق الرسالة والوصيَّة، مِن أجل هذه الأُمَّة التي ستبقى عين النبي، وهَمَّه النابض بحقيقته الإنسانيَّة الجوهريَّة في الحياة.

وإنَّها الآن المعركة التي فتح لها الميدان الوسيع عليٌّ، وتركها في عُهدة ابنه الحسن، وسيظنُّ مُعاوية أنَّه المـُنتصر في مُعاهدة الصُّلح، حول الخلافة التي تنازل له عنها الحسن، وعلى أنْ تعود إليه ساعة يمنعه عنها قَدَر الموت. لقد استعمل وسيلة الرشوة، حلَّى بها شَفة عبيد الله بن العباس قائد جيش الحسن، مِمَّا أضعف الحسن عسكريَّاً في الميدان، وجعله يُقدِم على عَقد مُعاهدة الصلح اغتناماً

١٠٧

لحَقن دماء الأُمَّة، ويتحقَّق مِن ذلك عدم ترك الأحقاد، والضغائن تعود إلى تمركزها في النفوس، وهي تنشر القتل والخراب، والدمار بين القبائل المـُتناحرة، وهي بذلك تتلهَّى عن العمل المـُنتج والخير الذي يعيش به المـُجتمع، ويُحقِّق حضوره السليم، كما وأنَّ الحرب - بحَدِّ ذاتها - تشقُّ الأُمَّة إلى عِدَّة جبهات مُتصارعة، ليكون الربح هو الأكبر والأجلَّ، في تحاشي وقوع الحرب، حتَّى تبقى الأُمَّة كلُّها في اتصالها المفتوح، وبذلك تتمُّ لها الدورة الحياتيَّة المـُكمِّلة ذاتها بذاتها، مِن دون أيٍّ مِن العراقيل، التي هي سَمُّ القطيعة بين إخوة هُمْ وحدة في العِرق، والأرض، والمصير، وهُمْ قوَّة رائعة في التحقيق الإنساني، المـُنتمي إلى وحدة عروبيَّة حقَّقتها الجزيرة الأُمُّ عبر التاريخ السحيق، بتوزيع أبنائها أفواجاً أفواجاً، على اليمين وعلى اليسار، فإذا هي عالم مربوط بألياف مِن العظم واللحم والدم، تجمع بها هذا الإنسان المـُجتمعيِّ إلى أصل واحد ومصير واحد، وإنتاج فكريٍّ - روحيٍّ - واحد، كانت نتيجته العظيمة الواحدة مُجمعة في هذا الشعاع الذي ضاء عليها، فإذا هو هذا العظيم المـُستدرج منها والمـُستقطب إليها، واسمه الأمين والرسول، والنبي محمد.

وهكذا ولِدت الأُمَّة مع محمدها مِن جديد، في بعثٍ جديد، وظهورٍ جديد، ووعيٍ جديد، وإدراكٍ جديد، بأنَّها واسعة وسع أرضها، وعميقة عُمق تاريخها، وجليلة جلال إنتاجها المـُتمثِّل الآن بنبيِّها ورسولها المـُبشِّر بها قوَّة مجموعة مِن ضلوع الحَقِّ، لتبقى أبداً أُمَّة مُفتِّشة عن جوهرها الإنسانيِّ العريق، والذي تجده دائماً في وحدتها العاقلة.

هل هو قليل وزهيد ما أدركه العظيم محمد مِن أجل أُمَّته، التي فاضت بإنسانها مِن أرض الجزيرة الأُمِّ، وراحت تملأ الدائرة حولها مُنذ عشرات آلاف السنين مِن حياة إنسانها على الأرض؟ فإذا الأصقاع كلُّها مربوطة بهذا الفيض الإنسانيِّ الواحد، أكان ذلك في خواصر الأرض التي تنهل ريَّها مِن النابعين الرافدين فيها: دجلة والفرات، أم كان في تلك الخواصر الشبعانة مِن جود بردى في غوطة الشام، أم كان في تلك الأُخرى الساجدة وهي تَرضع الخير مِن أحضان النيل إله مصر الأكرم.

١٠٨

إنَّها الأُمَّة التي تربَّعت في أشواق محمد، وراح يجمعها بالرسالة، ولقد وسَّع الرسالة مِن أجلها، وجعلها تفيض بقيمة إنسانيَّة مُطلقة، تعتنقها وتَدين بها كلُّ أُمَّة أُخرى، وهكذا تتوسَّع الارتباطات المـُتجانسة بإدراك الحَقِّ، وتنظيف النيَّات مِن لوثات السوء، وينتفي ميل التعدِّي على حقوق الغير، وبذلك تتروَّض العَلاقات بين أُمَّة واحدة، بزخم الرسالة التي هي فيض نور وهداية للإنسان.

ليس التوسُّع هذا أكثر مِن شاردة، تُبيِّن أنَّ لُحمة الأُمَّة حصيلة طبيعيَّة جغرافيَّة - تاريخيَّة -، وأنَّها عامل إنمائيٌّ في ربط الإنسان بمُحيطه الفاعل، مِن أجل تعزيز إنتاج تُوفِّره الوحدة المـُتضامنة باستقرارها وباشتراك مصيرها.

إنَّ أعز أُمَم الأرض هي الأُمَّة المـُطمئنَّة في وحدتها وتلاصقها بأرضها المـَعطاء، وتجانسها بأفكارها، وتضافرها في إنتاجها، وتلاحمها في حضارتها وثقافتها وانفتاحها في إنسانيَّتها المـُنتجة حقَّاً وصدقاً. إنَّها الأُمَّة المثاليَّة التي لعبت دوراً عظيماً في تشوُّق الرسول محمد، وكانت هي التي تمنَّى لها سويَّة مِن هذا الطراز، وكانت هي التي تخصَّصت لها الرسالة، وكانت هي القضيَّة الكبيرة التي توازي وجوده كإنسان. فإذا كانت الرسالة لتعيش، فلابُدَّ لها مِن إنسان يعيش في أُمَّة تعيش. إنَّها محور الكلام: الرسالة هي الأُمَّة، والأُمَّة هي الرسالة، والاثنتان هما إنسان محمد، وإنسان محمد هو عجينة الله في تراب الأرض، وهي الحَقُّ العدل، وهي إنتاج الجمال في الوجود الأمثل.

مِن كلِّ هذه المعاني في أصالتها تكوَّن نهج عليٍّ، ليكون أساساً في كلِّ معركة إنسانيَّة يتَثبَّت بها مُجتمع الإنسان. أمَّا الحسن، وهو مُتابعة وتكميل مُباشر لنهج أبيه، وهو الذي انتقل إليه الإيمان بأنَّ وحدة المـُجتمع منعته وإشراقة رسالة جَدِّه، فإنَّه بادر إلى استيحاء النهج، وبدلاً مِن اعتماد السيف، وهذا السيف الآن يقصف الأَجَمة مِن دون أنْ يفعل في الدفاع عن مصالحها، راح إلى اعتماد وسيلة أُخرى هي التخلِّي عن الحُكم كأداة تؤجِّج ناراً تُحرق ولا تُدفئ، وانشأ صُلحاً فيه بَرد السلام، يجمع قطر البصرة إلى قطر الشام، ويُزيل قلقاً يُخيِّم على كلِّ قطر مِن الجزيرة الأُمِّ حتَّى وادي النيل لقد قَدَّم الأُمثولة القُدوة البيضاء، بأنَّ التخلِّي عن حُكم لا يقدر أنْ يخدم أمن الأُمَّة بلْ يُفقرها، ويُفتِّت مِن لُحمتها، ويدمغها بالحِقد

١٠٩

والضغينة، هو العمل المجيد المـُفصح عن ذاته، بأنَّ الوحدة هي المِعول الباني، وأنَّ الأُمَّة هي الوحدة الصحيحة المـُبعَدة عن أيِّ تفريط بطاقاتها المـُنتجة خيراً لإنسانها النامي، وكلُّها في حقيقة النهج المـُتخلِّي عن كلِّ مكسب ذاتيٍّ، على حساب مكاسب الأُمَّة.

لا يصحُّ القول: بأنَّ نهج الحسن كان مُغايراً لنهج أبيه، إنَّ النهجين مِن مَعدن واحد. لمـَّا كان السيف ناجحاً كأداة في تقويم الأُمَّة ولَمِّ شملها، امتشق السيف عليٌّ، ووسَّع المعركة في الميدان. ولمـَّا كانت الكلمة - لا السيف - هي الأجدى في شرح الحَقِّ، تكفكف بها لسانه، وفاضت معه على نهج البلاغة، تدلُّ الناس إلى الحَقِّ العفيف، كيف أنَّه يبني النفوس، ويبني الأُمَّة الصادقة؛ ومِن هنا لا تزال الأُمَّة تُفتِّش عنه في كلِّ وقت وفي كلِّ جيل ينحرف بها المسير عن الخط ِّالقويم، وكذلك حاول الحسن أنْ يمتشق السيف، ويُخلِّص الأُمَّة مِن حيفٍ لحقها مِن تنطُّح مُعاوية على كرسيِّ الخلافة، ولكنَّه اصطدم بالحيف ذاته الذي عَطَّل به مُعاوية وعي الأُمَّة، وأعادها إلى زعاماتها المـُتسابقة إلى حشد القبائل والاستنصار بها، فاستنبط الصلح حَقناً للدماء، ومنعاً للتمادي في إثارة الأحقاد، وتفكيك وحدة الأُمَّة.

ستعرف الأُمَّة في غد أو في أيِّ يوم آخر، إنَّ صلح الحسن هو الذي حَقن دم البصرة، ودم الشام، ودم الأُمَّة جمعاء في هُدنة، على أمل أنْ يَطيب بها اللقاء، وتصلح الأُمور، وتستعيد الأُمَّة عافيتها مِن الوعي الذي ينمو كالنور بين كلِّ صباحٍ وصباحٍ. وأظنُّ الآن أنَّ معركة الحسن هي التي حقَّقت صحيح بحَقِّ الأُمَّة، وهي التي ستبقى ماثلة الحضور في نهجها الجميل، في كلِّ لحظة أُخرى، تتعرَّض بها الأُمَّة لأزمة مُماثلة تُهدِّدها بالتفكك والانفراط، إنَّ الأُمَّة الراشدة - ولو بعد ألف عام - هي التي تجني مِن مُسوَّقات العِبَر.

كان الحسين في القافلة التي شدَّها الحسن، وسلَّمها الطريق الطويل مِن الكوفة إلى يثرب، وفي جَعبته وثيقة الصلح التي وقعها ومُعاوية، لقد بقي الحسين صامتاً طول الطريق، أمَّا الحسن فإنَّه أخذ أخاه وضمَّه إلى صدره وهو يقول:

١١٠

الحسن: لا يفوتني معنى صمتك - يا حسين - ولكنِّي أُدرك أنَّك فهمت مغزى قبولي بوثيقة الصلح، أنا لم أُنشئ صُلحاً مع مُعاوية مِن أجل مُعاوية، ولكنِّي خفت على أهل البيت مِن الانقراض السريع، وأشفقت على الأُمَّة مِن هدر دمها وتفسيخ لُحمتها، وتخلَّيت اليوم عن كرسيٍّ حتَّى يبقى لنا دِخر في الأُمَّة تُفتِّش به عنَّا بعد كلِّ أزمة خانقة تشتدُّ عليها، ستعلم الأُمَّة أنَّ صراعها طويل مِن أجل الحياة، وأنَّ نهجنا في سبيلها هو مادَّة الصراع، وأنَّ الرسالة ذاتها هي عنوان الحَقِّ فينا؛ لأنَّها وحدها هي القضيَّة.

٦ - شُّعلة الفشل وعهد الحسين:

يبدو أنَّ الفِضَّة الخالصة في مَعدن الحسين لم تنته إلى التحلِّي ببريق النضار، فبقيت صامدة في عريها الأبيض إلى أنْ تأتي الشمس فتكسوها بالنضار، ولا الخَمرة البكر الهاجعة في دَنِّه قد شبعت مِن التملِّي مِن عُتمة شجنها تحت الأختام، فلبثت في شوقها الصامت إلى أنْ يهدر الليل سكينته السوداء، فتَسكب في فَمْ الصبح حمياها اللاهبة.

بهذه الصورة التعبيريَّة تراءى لي أنْ أختم فصل المـُعاناة، في تعاقبها وتلاحمها على نفسيَّة الحسين، مُنذ طفولته الأُولى إلى هذا العهد المـُتماسك برجولته، المـُطلَّة به على كهولة وَشَمَتها الأحداث الثقيلة بوَشْم عزيز المعاني وفريد التميُّز. إنَّ السنوات العشر الأخيرة والمفتوحة في حياته، ابتداء باللحظة التي شاهد بها أباه يهوي إلى الأرض، كأنَّه طَود ما قدرت أنْ تثبت تحته قواعد الصخور، فتَزحلق عنها وسقط في الدويِّ الذي ما فتئ يُزلزل في نفسه زلزاله الهادر، وانتهاء باللحظة الثانية التي سلخته عن أخيه الحسن، الذي قدر أنْ يُغرقه في لُجَّة الصمت رجل اسمه مُعاوية، بعد أنْ سكب في ريقه قَطرة مِن حُلقوم أفعى، كانت مجالاً لتأمُّلٍ صامتٍ صمت الليل

١١١

البهيم، لفَّه بكآبة موصولة بكلِّ كآبةٍ أُخرى عاناها في فترات مُتتالية ومُتمادية عليه، مع غياب جَدِّه عن منبر المسجد، فغياب أُمِّه عن بَهجة البيت حاملة كلِّ النَّكَد، فغياب أبيه عن تركين الإمامة، إلى غياب أخيه المختوم بالسَّم! إنَّها كآبة طالته مُنذ أكثر مِن خمسين سنة، وبنته بناءً نفسيَّاً مُعمَّقاً، بالمعاني الناتجة مِن ذات الاحتكاك بها مع تقدُّمه بالعُمر، واجتلائها مِن مَدَرها في واقع الأحداث الملونة بالمقاصد المدروسة، والمرصوصة بالنيَّات المـُبيَّتة، والمـُتلاعب بها بدهاء وفَنٍّ، فإذا هي كآبة مُتولِّدة مِن واقعٍ حيٍّ، ولكنَّه مُرَّ المذاق مِن هول ما راحت تتجمَّع فيه هموم وهواجس أضحت جبالاً تزحف عليه زحفاً مُهدِّداً بالسحق المـُدمِّر.

مُنذ أنْ غاب جَدُّه مِن تحت عينيه - مُنذ خمسين سنة - وحتَّى هذه اللحظة اليائسة مِن عُمره، وهذا الواقع المـُرُّ يزداد تذوُّقاً به مع كلِّ فهمٍ كان يوسِّعه له التقدُّم بالعمر، ويجلوه التذوُّد مِن الأحداث، بالإدراك - إنَّه الواقع المأساة - وما تخلَّى لحظةً واحدة مِن ترابطه، وتماسُكه بالحلقات التي تألَّف منها عموده الفقري، ابتداءً مسرحيَّاً بأبي بكر المـُلقَّب بالصديق، وانتهاء مُخزياً بهذا المدعوِّ يزيد المعروف بالزنديق! وتمَّت فصول المأساة بعزل عليٍّ عن الكرسيِّ المـُخصَّص له، مِن عهدٍ إلى عهدٍ إلى عهدٍ، حتَّى تمَّ به الوصول المـُسمَّم الجوِّ، والمـُقلَّم الأظافر، وحتَّى تمَّ تغيُّبه عن الساحات. أمَّا المشاهد التي عمَّرت بها المأساة، فهي التي تمَّ إخراجها بالتذليل والتنكيل، والسحل والقتل، والتقزيم والتوهيم، والتنويم والتغريم، والتسميم والنَطِّ على ألف حبل وحبل، وكلُّها مِن أجل ترسيخ رجل مِن بني حرب على كرسيٍّ، تنحل الأُمَّة كلَّها حتَّى يبقى هذا الملك إلى أبد الدهر. لقد قصفت الأحداث - في مشهدٍ مِن مشاهد المأساة - عمر أُمِّه فاطمة، وهي تضحك وتهرج المأساة، وقصفت الأحداث - في مشهد طويل مِن مشاهد المأساة - عمر أبيه عليٍّ، وهي تضحك وتهرج المأساة، وقصفت الأحداث - في مشهد جانبيٍّ آخر مِن مشاهد المأساة - عمر أخيه الحسن، وهي تضحك وتهرج المأساة، وقصفت الأحداث - في مشاهد طويلة مِن المأساة - زهو الأُمَّة، ورقصها الناهد بالحياة وهي تضحك وتهرج المأساة!!! وها هي الأحداث الآن - وقد وصل إليه الدور

١١٢

الرهيب - تستعدُّ لأنْ تسحقه تحت وطأتها، وهي - سَلفاً - تضحك وتهرج المأساة!!!

هذا هو كلُّ ما مَرَّ به تصوُّر الحسين في هذه اللحظة، التي تمكَّن فيها مُعاوية مِن حذف أخيه الحسن مِن صِفة الوجود! لقد حذفه قبل أنْ يموت، لقد كان مُعاوية يخاف أنْ تنتقل الخلافة إلى الحسن بعد موته - حَسْبما اشترطت مُعاهدة الصلح - أمَّا وقد مات الحسن قبله بجُرعة مِن عسل، فمعناه التحرُّر مِن ميثاق، وجعل الحُكم ينتقل عاديَّاً بالوراثة إلى ابنه يزيد. أمَّا أنْ يتنكَّر مُعاوية لميثاق قطعه على نفسه، فمعناه خيانة المواثيق، وعيب على مُعاوية أنْ يفعل - وكان الالتجاء إلى الوسيلة - فلدغه بالسَّم ونام قريراً على فراش مِن حرير، سينام عليه أيضاً يزيده العِربيد! إنَّ أزلام يزيد الآن يطوفون باسمه خليفة على المسلمين، ويطوِّقون المدينة يثرب، وهُمْ يُهدِّدون الحسين بالرضوخ والمـُبايعة، ثمناً يشتري به بقاءه حيَّاً ومُتمتِّعا برَغد العيش.

- ٢ -

لم يُصدِّق الحسين الكلام المـَعسول ولا الوعد المنسول، مِثلما لم يُصدِّقه مِن قبل، لا أبوه الراقد في النجف الأشرف، ولا أخوه المـُكفَّن بحِضن أُمِّه في البقيع، بلْ التوى على نفسه الكئيبة يجترُّ وحدته الصامدة في كيانها، ويزنها بموازينها الصحيحة، ويجمع لها مِن مواعين روحه وقلبه وفكره، ما يجعلها موصولة بالخَطِّ الكبير، الذي رسمه ودفعه إلى النور جَدُّه الذي قهر الموت وتسربل بالخلود، لأنَّه تمنطق بالحَقِّ وتسدَّد بالرسالة، فإذا هو حَيٌّ - أبداً - في القضيَّة التي هي أُمَّة، يُعزِّزها الاجتماع الإنسانيِّ المـُستمر مِن يومٍ إلى يومٍ، ومِن جيل إلى جيل طالما هو الغارف مِن صدر الحياة مقوُّمات وجوده في الكون.

لم ينقطع الخَطُّ، بلْ تمتَّن وصله بأبيه الناهج نهج الحَقِّ، فإذا هو خَطٌّ يخلد؛ لأنَّه مُركِّز على القيم الإنسانيَّة التي لا يتعزَّز إلاَّ بها وجود مُجتمع الإنسان، ومحورها

١١٣

العدل، والحُرِّيَّة، والمـُساواة. وأساسها، الحَق، والصدق والمـَثل النزيه، وكلُّها في الشوق والتَّوق اللذين يبنيان الإنسان. إنَّ عليَّاً الإمام هو ركن مِن هذه الأركان الإنسانيَّة، التي بني عليها مُجتمع الإسلام. ولهذا فإنَّه المـُستقطب دائماً، إذ تختلُّ الموازين ويهبط مُطلق مُجتمع مِن مُجتمعات الأرض إلى فجوات مِن التردِّي، سيجد ذلك المـُجتمع - بالذات - أنَّ أسباب الارتجاج فيه عائدة إلى استهانته بهذه القيم الإنسانيَّة أو ببعض منها، وأنَّ في الرجوع إلى مبادئ عليٍّ ترميماً لكلِّ نقص شوَّش ذلك المـُجتمع، وأبعده عن التركيز الإنساني القويم.

لقد تبيَّن دائماً للحسين أنَّ المبادئ المنهجيَّة التي آمن بها أبوه عليٌّ، إنَّما هي كلُّها مِن صُلب الرسالة، التي قدَّمها جَدُّه للمـُجتمع السويِّ، كما تبيَّن له - بوضوح لا يقبل الدَّحض - أنَّ الأُمَّة بسعتها الأرضيَّة الجغرافيَّة، كما بسعتها الزمنيَّة التاريخيَّة هي التي تُحقِّق وسعها الإنساني، الذي استدرج هبوط الرسالة عليه وتقبَّلها فاعلة فيه ليخلد وتخلد فيه. مِن هنا أنَّ جَدَّه العظيم هو الخالد، وأنَّ أباه الكريم هو الخالد أيضاً؛ لأنَّ الأُمَّة - الرسالة - هي التي نبضت بهما، ولا يُمكن أنْ تفكَّ ارتباطها، لا بالأرض ولا بالتاريخ، ولا بالحياة التي تستسيغ التراب وتتجذَّر فيه.

ولقد تبيَّن للحسين أنَّ الخلود هو مُنعة القضايا الكبيرة، المـُقتنَصة مِن جوهر الحياة وتستمرُّ بها، ولولا ذلك لما كان الإنسان خالداً في إرثه المـُجتمعي، الذي هو قضيَّة الحياة في استمرارها الخالد الرائع، سبحان الله الذي كرَّم الحياة وخلَّدها في مُجتمع الإنسان! الذي هو صورة الله ورمزه في روعة المِثال. إنَّ الأُمَّة - والحالة هذه مِن الاقتناع - هي قضيَّة محمد النبويَّة الرساليَّة وهي حقيقة خلوده، وحقيقة انتصاره في المعركة الإنسانيَّة الدائمة التي هي - بحَقٍ - صراع الحياة في تحقيق استمراريَّة ذاتها.

وكما أنَّ قضايا عديدة تتفرَّع مِن القضيَّة الأساس، لتكون لكلِّ واحدة منها قيمة مُماثلة للأصل في الوزن والجوهر؛ لأنَّ الأصل في تمدُّده، إنَّما هو فيض - لا للتنقيص - بل للتكامُل، هكذا رأى الحسين أنَّ كلَّ نهج أبيه كان فرعاً مِن أصلٍ

١١٤

الرسالة، لقد تكامل به، فإذا هو مِن أجل أُمَّةٍ تبدَّت مِن رسالة، أو رسالة تبدَّت مِن أُمَّة، وهكذا تلبَّس أبوه خلوداً في الذكر تحيا به أجيال الإنسان، وتفتقده - إذ تفتقر إليه - كما لا تزال الأُمَّة تعبيراً صادقاً عن نبيِّها العظيم، الذي كفكفها برسالة هي لها في مجال الديمومة، وإذ يشطُّ بها خطأ، تتململ إليه في طلب النجدة التي تعيدها إلى حقيقة الامتثال، وهكذا تكون كلُّ قضيَّةٍ مُشتقَّةٍ مِن الحَقِّ الصريح، معاداً لكلِّ عبقريٍّ صاغها أو صاغ بنداً مِن بنودها المتلألئة بنور العقل وبهجة الإيمان.

مِن هذا الصنف الطليعي أكمل أخوه الحسن مُهمَّته الإماميَّة المـُصنَّفة لتعهُّد الرسالة - الامة - الموازية كلِّ قيمة الإنسان في الوجود. وكان سيَّان لديه، أقام بمُهمَّته الكبيرة وهو مُترِّبع في كرسيِّ الخلافة، أم قام بها وهو قابع في زاوية البيت فوق فراش طرحته عليه - يُعاني سكرات الموت - لدغة أفعى، دسَّها تحت وسادته واحد مِن أبناء بَني حرب!! إنَّ العظيم في الإمام الحسن هو في كونه صاغ قضيَّة مِن قضيَّة، كانت تحديداً باهراً لحقيقة الأُمَّة، تجده الأُمَّة - دائماً - في وحدتها الواعية المـُقدَّسة دَم الإنسان في عروق الإنسان في عمل واحد جامع، يصون الحَقَّ الذي بشَّر به أبوه عليٌّ، ويُنزِّهه الحُبَّ، والسماح، والصدق، والإيمان بالرسالة المـُجنحة بإسلامها المـُتدفِّق روعةً مِن صدر وفم نبيِّها الخالد. لقد كان الصلح الذي أنشأه الحسن، تلك القضيَّة، وستُفتِّش عنها الأُمَّة كلَّما خاب بها الطيش إلى صراع يُفكِّكها، ويلعب بها أو يُلهيها عن تماسكها الصادق المـُنتج.

- ٣ -

ما أنْ وصل الحسين في عرضه هذا المـُستدرج مِن تحليل عقلي - روحيٍّ مُحتكم إلى قضيَّة فلسفيَّة - وجوديَّة، مُحنّكةٍ بواقع حياتي - نفسيٍّ - اجتماعيٍّ، حتَّى سرت في عُروقه نشوة كأنَّها مُستحلبة مِن عالم آخر، فيه لمع مِن الخيال، أكثر مِمَّا فيه روابط مِن الواقع، لقد تمثَّل له في هذه القاعة التي راح يغشاها الليل بعُتماته الزاحفة بعد هبوط الشمس في أُفق المـُغيَّب - جده - المـُتواري مُنذ أكثر مِن نصف قَرن، فإذا هو

١١٥

أمام عينيه المـَعكورتين بالدم المقهور، والمغمورتين بهذا الظلام الأُدموس، كأنَّه عملاق ربط الأرض بفِجاج السُّحب، بخطوات تنقش الأرض وتوشيهاً بنجوم يرتعش بها نور لا يخبو. يا للمحاريب! هكذا تتلألأ تستضيء بها الأُمَّة حتَّى تُدرك أنَّها ابنة النور، تتوسَّده على زندي جَدِّه العِملاق الأبدي القضيَّة في أبديَّة الجوهر، وما عَتَّم النبيُّ المـُتجلِّي في دهشة الحُلم، أنْ تناول الحسين ولفَّه بغُمرة مِن روحه وهو يقول:

طابت تحت قدميك الجَنَّة يا سيِّداً بهيَّاً منها، مُنذ ساعة وأنا أُراقب فيك توثُّباً قطعت به روحك أشواطاً وأشواطاً مِن عالم الذات، فإذا أنت - على حَقٍّ - ابني الذي شَرب مُهجتي، وتمتَّن بعَزمي وسؤددي، إنَّ البطولة فيك هي الآن التي ترفعك إلى العالم الآخر، الذي لا تنبت فيه إلاَّ النفوس الكريمة، الأبيَّة، العزومة المنسوجة مِن قهقهات السُّحب، وهي تحتك بذاتها المـُندمجة بالعواصف والزوابع وعُنفوان الأعاصير، لقد قرأتك وأنت تستدرج نفسك المسجونة خلف جُدران الضيم والقهر الممرَّغين بذِلِّ السُّخف والتردِّي، وعرفت أنَّك المـُتمرِّد الذي سيسحق الحيطان، وينفضها غُباراً في العيون المعميَّة بسؤدد ضائع عن حقيقتي في رعاية أُمَّتي التي بنيتها مِن غُبار رَمَدها، لتكون انتصاراً لروعة الشمس في البؤبؤ الصغير، الذي يرى به الإنسان حقيقة الله في الإنسان. إنِّي أراك الآن - كما كنت أراك - بَهجتي في حقيقة المآل، وأراك في خَطِّك المآليِّ تشتقُّ قضيَّةً مِن قضيَّةٍ ما اشتقَّ جَدُّك مِن حِضن الله قضيَّة الإنسان، وكما اشتقَّ أبوك مِن مُهجتي بتقديس الحَقِّ قضيَّةً زرع الحَقَّ والعدل في مُهجته، ليكون مثالاً أُنموذجيَّاً في القدوة والتعبير، ولقد اشتقَّ أخوك الحسن قضيَّة مِن قضيَّتي التي أفرغت فيها كلَّ عزمي، وشوقي وخزائني وأحلامي، فإذا هي الأُمَّة العظيمة التي

١١٦

صانها بصُلحها مع نفسها، فإذا هو القُدوة الدائمة التقديم كلَّما عصفت بأُمَّتي موجة، فيها وهن وفيها رَمد. أمَّا قضيَّتك أنت الذي سمعتك الآن تصوغها وتُنضِّد حروفها، فدعني أُبارك روحك وعزمك؛ حتَّى تتلقَّط بها بسيف أبيض وشَفة حمراء، امشِ - يا ابني - إلى ساحتك، أتظنُّني سأبكي عليك؟ ولكنِّي بنيتك مِن دمعة العين وخفقة المـُهجة، ولا أُمَّك فاطمة إلاَّ وترنو إليك ببسمتها المفطومة؛ لأنَّك تُقدِّم قضيَّة تحيا بها أجيال الأُمَّة أجيال الأُمَّة أجيال الأُمَّة ...

- ٤ -

عندما كان مثل هذا الصدى - الملآن - يتجاوب في روح الحسين، وهو المـُستجيب إلى وحدته الغارقة في بحبوحة التأمُّل، تَقدَّم مِن المعبر الداخلي بوَّابه الأسمر العريض المنكبين - أسعد الهجري - وفي يده ماثلة بعدَّة شمعات مُضاءة وهو يقول:

أسعد: عرفت أنَّك كنت مُستأنساً بوحدتك في عُتمة الليل، ولكنَّ قادماً - لا أظنُّك ترتاح كثيراً إليه - جاء يطلب مُقابلتك.

ابتسم ابتسم الحسين ابتسامة صفراء، وهو يجلس على فراش مِن أفرشة الديوان، مُعقبَّاً على كلام الهجري:

الحسين: مُنذ عِدَّة أيَّام ونحن - الثلاثة - نستعرض نفسيَّة الوالي على المدينة، الوليد بن عُتبة: أخي محمد بن الحنفية، وابن عَمِّنا عبد الله بن جعفر، وأنا الحسين - يا أسعد - ولم أُخفِ عنك الأمر، ولا الخُطَّة التي اعتمدناها بانسلالنا هذا الليل مِن المدينة إلى مَكَّة، فدع الوالي يدخل الآن، وأكمل أنت حَزم الأمتعة للسفر - توَّاً - بعد أنْ يترك ابن عُتبة عَتبة الدار.

١١٧

وضع البوَّاب أسعد ماثلة الشمع فوق قاعدتها مِن المكان، وانسحب مُثقلاً بوجفة هَمٍّ على ابن بنت الرسول، كان يُحاول دائماً أنْ لا يظهر بها أمام السيِّد المهيب. بعد دقيقتين كان الحسين يدعو الوالي إلى الجلوس في صدر الديوان، وهو يقول:

الحسين: لا أظنُّك جئتني الليلة لتنفيذ الأوامر التي حملها إليك مِن الشام، ابن أبي زريق رسول يزيد، ولا أظنُّ مروان بن الحَكم خفَّف مِن تحريضك على تنفيذ الأوامر، وهو مُستشارك الدائم، والمـُريد الأقوى بالخلافة لابن عَمِّك يزيد، أمَّا الأوامر فهي في ضرب عُنقي إنْ لم أُبادر إلى المـُبايعة، ولكنِّي - رَغماً مِن أنَّ المـُبايعة لم تخطر أبداً ببالي - أظنُّ أنَّ والي المدينة الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان، لا يقدم على تنفيذ أمر كهذا، لأنِّي أعرف تمام المعرفة أنَّ في طينته لوناً يجعله يتأثَّم مِن مُنكر لا يجوز - أبداً - أنْ يرتكبه.

أمَّا الوليد بن عتبة، فإنَّه لم يتأخَّر - أبداً - عن الجواب، الذي فتح الباب وسيعاً لحوار قد اتسم بالصراحة بين الرجلين، مع الإقرار بأنَّه كان مُتحلِّياً ببعض الصفات التي جعلته - فعلاً - يتردَّد عن التنفيذ، مِمَّا أدَّى بالخليفة يزيد إلى أنْ يعزله عن الولاية - فيما بعد - ويُعيِّن مكانه عمرو بن سعيد بن العاص، الرجل الأقصى والأدهى في حياكة المؤآمرات:

الوليد: أنا لا أسألك كيف عرفت كلَّ ذلك؛ فأنت ذو حِصَّة مِن الذكاء - وهي واسعة فيك - تكشف بها حتَّى المـُخبَّآت في الصدور، أمَّا أنْ أضرب عُنقك، فهذا أكيد أنَّني لا أُحمِّل نفسي مشقَّة الركوب إلى عمل كهذا، ولكنَّ الشيمة ذاتها في نفسي - وأنت تمتدحني بها - لا تبخل عليك بالنُّصح والتلميح إلى أنْ ما أُحجِم أنا عنه لن يكون تأثُّما عند سواي؛ لهذا جئت الليلة أطلب منك أنْ تَرْبَأ بنفسك وتحملها إلى مُبايعة تقيك مِن

١١٨

الخطر، كما فعل قبلك، منذ عشر سنوات، أخوك الحسن.

الحسين: أنت مُخطئ في ترصُّدك كُنه القضايا، فأخي الحسن لم يُبايع مُعاوية، ويبعِّد عنها التمادي بالأحقاد، ويوفِّر لها اللُّحمة المـُنتجة، ويدلُّها إلى الحاكم الواعي حتَّى تُفتِّش هي عنه سائساً مُتفانياً في صيانتها، لا مُستثمراً طاقاتها وخيراتها، هذا مِن جهة المبدأ الذي كان قضيَّة مِن القضايا الكبيرة، التي شدَّ خطوطها أخي الحسن - أمَّا أنْ يقصد - مِن التخلِّي عن الحُكم شِراء الوقاية مِن تهلُكة، فهذا ما لم يُتحفَّظ منه أوْ له، بلْ كان يترقَّبه حاصلاً في نيَّة مُعاوية - بين لحظة ولحظة -، فمُعاوية الذي صرف العُمر كلَّه في مدرسة تُعلِّمه كيفيَّة نهب البستان دُفعة واحدة، لا شجرة شجرة أو غُصناً غُصناً مِن الشجرة، فإنَّه أحرز أطول قصبة مِن قصبات السَّبق، ومسح رأسها بأدهى مَرهم مِن مراهم السَّم، لَدَغَ بها أخي الحسن المـُتخلِّي عن كرسيِّ الخلافة!!! ألا ترى معي يا أخي مِن قريش، ويا عدوِّي الحَقود مِن بني سفيان، أنَّ الأمَّة هي الأوسع مِن عِرقين مُتناحرين على مشيخة القبيلة، وأنَّ مَن يُضحِّي مِن أجل توسيع الأضيق بالأوسع، ليس كمَن يتحايل إلى تذويب الأكبر في الأصغر؟ وأنَّه ليس لقصبة السَّبق في الميدان أنْ تكون رُمحاً مِن رماحه المصقولة!!!

الوليد: هذا مبدأ عامٌّ يا حسين، وليس لأحد أنْ يُنكره في حقيقة العلم والرأي والمنطق، ولكنَّ الواقع على الأرض هو غير ما ترسم، فمُعاوية طاب الحُكم بين يديه، وأنَّ قصبة السَّبق التي أحرزها هي التي أحرزت له الرمح الطويل على مدى عشرين سنة مِن عُمره وأكثر، أمَّا إذا صَحَّ افتراضك أنَّه أعدم

١١٩

أخاك، فأيُّ حُكم ليس في يده أدوات تنفيذ الإعدام بمَن هُمْ ضِدَّ العهد، أو بمَن يُمكن أنْ يشكِّلوا خطراً على سلامته وأمنه؟

الحسين: وهذا وقوع في الخطأ الأفدح، لم يكن مُعاوية خليفة للمسلمين، وكان مَلِكاً على المسلمين، الخلافة شيء والمـُلْك شيء آخر؛ فالخلافة هي كلُّ المـَخلوف: تأسيساً وتركيزاً، ولوناً ومعنىً، وقضيَّةً ودستوراً. المؤسِّس كان جَدِّي النبي، وهو لا غيره المـُركِّز، وهو الذي جمع الأُمَّة بالتوحيد والإسلام، وهو الذي أعطاها المعنى الأوسع في كونها الحِصن المنيع والمـُركِّن للإنسان، وهو الذي أحاطها بإطارها الأفخم، فأضحت قضيَّة الإنسان ودين الإنسان، وقيمة وجود الإنسان، وهو الذي سَنَّ لها الدستور، فكانت الرسالة ميدانها الاشتراعي الأوحد والأضمن. إنَّ المـَخلوف - والحالة هذه - هو جَدِّي النبي، أمَّا الخليفة فجَدِّي النبي - أيضاً - هو الذي انتقاه مِن أكفَّأ أبناء الأُمَّة، بعد أنْ أنشأ صِبَاغاً مِن جوهر الرسالة والقضيَّة فطلاه به، وبعد أنْ حرَّر الأُمَّة التي انسكب بكلِّ جُهده فيها، مِن كلِّ ما يُعيدها إلى مُسلسلها المـُتماوج بغُبار قبليَّاتها المـُتناحرة فوق كراسي مشيخاتها، وذلك بتعيين كرسيٍّ واحدٍ يجلس فيه المـُعيَّن المصقول بتربية خاصَّة، مُعبِّرة عن كلِّ مقاصد المؤسِّس الأوحد، الذي سيبقى وحده عُنوان الأُمَّة التي بناها وقدَّم لها رسالة، مُنذ الأمس إلى اليوم الحاضر، وإلى الغَد الآتي المـُتربِّع فوق سِدرة الزمان، ذلك هو الخليفة المـُعيَّن، فمَن هو بنظرك - يا ابن أبي سفيان - هو الذي بنى وعيَّن مُعاوية بناءً مُشتقَّاً مِن إرادة المـَخلوف ومِن جوهر مقاصده، ليكون خليفة الإسلام؟ أمَّا أنْ يكون مُعاوية مَلِكاً، فليس على هذا الإسلام في أُمَّة الإسلام، بلْ على عدد مِن القبائل عادوا إلى المـُبايعات

١٢٠