الإمام الحسين في حلة البرفير

الإمام الحسين في حلة البرفير22%

الإمام الحسين في حلة البرفير مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 176

  • البداية
  • السابق
  • 176 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30850 / تحميل: 7142
الحجم الحجم الحجم
الإمام الحسين في حلة البرفير

الإمام الحسين في حلة البرفير

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

على أيِّ شيءٍ يغار أهل هذا البيت، لو لم يكن لهذا الذي يغارون عليه هذا الوزن، وهذا الثقل، وهذا الغد المـُرتقب؟ إنَّهم يرون على مُجتمع تلقَّط بكلِّ أسباب تراثه وعِزِّة وجوده، مِن أنْ يعمى عن سُبل الصيانة والتعهُّد، فيبتعد كثيراً عن حقيقة الجنى. والمـُجتمع - أصلاً - هو مُجتمع أهل البيت، أمَّا الوعد الكبير، فهم الذين نزفوا الدم مِن أجل تحضيره وتقديمه، هم الذين أعدُّوا المائدة وهشَّموا ثريدها الطاهر، وهُم الذين ملأوا كؤوس المشرب بماء فرات. وهُمْ الذين سكبوا في الحرف جلال المعاني، فإذا في كلِّ آية مِن الآيات قرآن يبني إنساناً صحيحاً صادقاً، يتحقَّق بوجودٍ مثله كلُّ مُجتمع سليم مِن مُجتمعات الأرض - إنَّهم أهل البيت، ولا يدَّعون - أليس نبيُّهم العظيم - وهو منهم - هو الخلاَّق الجديد المـَبريُّ مِن روح الحَقِّ، ليقدِّم للجزيرة، وللإنسان، قرآناً جمعهم ولا يزال يجمع أجيالهم، وأجيال العديد مِن المـُجتمعات الذين يُنادون مِن فوق المآذن: بسم الله الرحمان الرحيم.

ولا يزال التاريخ، ذلك المسَّاح الأصدق، يصف لنا دارَة بناها الرسول في المدينة قُرب المسجد. لقد نزل في شِقٍّ منها النبيُّ الكريم، وخصَّص الشِقَّ الآخر لسُكنى ابنته فاطمة، بعد أنْ جمعها بعليٍّ في عمليَّة تتميم الأرادة المـُحتسبة، وتحقيق الحُلم المنسوج بفتنة الغَد.

هذا هو البيت الصغير، الذي كان يعود إليه اثنان بعد كلِّ جولة يجولانها؛ مِن أجل تثبيت جوهر الرسالة ونقشها في مَعدن الإنسان، إنَّهما - اثناهما - كانا يعودان بجَعبةٍ واحدةٍ مليئةٍ بالتحقيق المـُثَّبت والمـُركَّز في هذا البيت، وضمن هذه الحيطان المـُصغية إلى النفس المليء بالحقِّ والوجدان، كان الاثنان يتبادلان العَرض والدرس وغربلة الأحداث، وكانا يبنيان التصاميم العريضة، والدقيقة، لجعل الغد الآتي مؤهَّلاً لأنْ يكون نبضة صادقة في تأليف الزمان. ما مِن حِكمة جالت في عقلهما وروحهما، إلاَّ واندرجت على هذا البساط، وتحت هذا السقف، حتَّى يكون توحيد غزلها باهراً في حياكة الثوب، الذي سترتَديه الأُمَّة في نهوضها مِن غفواتها الطويلات، إلى يقظتها هذه الحاضرة والمـُكلَّلة بالطُّهر، والرُّشد، وروابط الصواب.

٢١

اثنان - قلتُ: - وهل هما غير النبي العظيم مُلتحما بفتاه الآخر، أو فلنقُل: مُلتحما بثقله الموزون في وحدة المنطق، ووحدة الصدق، ووحدة الجوهر؟ أقول - ذلك ولم ألمح حتَّى اليوم، مِن الأمسِّ الدابر إلى اليوم الحاضر، امتعاضة واحدة رشق بها التاريخ طويَّة الإمام عليٍّ -: بأنَّ هنالك ريشة ضئيلة تُخفِّف مِن ثِقله في ميزان الحَقِّ، والعدل، والفهم المـُقدَّس، والتحلِّي بطهارة الصادقين.

في هذا البيت الصغير الصغير، وهو - بالقصد والمعنى - الكبير الكبير، تمَّت جَولة الحُلم، وانعقدت جَلوتها في اللحظة التي بدأ يدرج فيها طفلان، ما قَصَّ شعريهما جَدُّهما، وتصدَّق بوزنه فِضَّة تُصرَف على إطعام المساكين، إلاَّ ليكون لاسمَيهما تسجيل جديد في صفحة تاريخ الأُمَّة، لقد شَعر مُجتمع الجزيرة بأنَّ الحسن والحسين هما اسمان جديدان، لم تتلقَّط أُذن بعد بنداء وجهه أحد مِن شيوخ القبائل إلى أيِّ فردٍ مِن أفراد القبيلة، صحيح أنَّهما لفظتان عربيَّتان، مشهورتان في اللفظ والتخاطُب، ولكنَّهما ما كانا مُطلقاً اسمين لأيِّ شخصٍ مشى على صفحات هذه الرمال.

لقد شعرت الجزيرة بهذا الجديد، والتاريخ أيضاً قد شعر، أمَّا الجديد الكبير النائم في عين هذا الجديد الصغير، فإنَّه بقي كأنَّه النُّعاس الذي يقطب العين فلا ترى، وأنا أرى الآن أنَّ السقيفة في ذلك العهد، قد تخبَّأت بهذا النُّعاس، وأنكرت جديداً ينام في الاسمين المـُشتقَّين مِن روعة الحُلم، واللذين يدرجان في البيتين المـُوحِّدين بالفهم والصفة. أمَّا الخمسة الذين جذبهم القصد واجتذبهم إلى صدره التحسُّب الأكبر، فإنَّهم هم الذين لبثوا يهتمُّون بتأليف النهار الجديد الذي ستكون له شمسه الأُخرى.

- ٣ -

مُنذ أنْ هبط الحسين مِن رحم أُمِّه إلى حضنها الوثير، تلقَّفته الأحضان مِن حِضن إلى حِضن، وبقي ينمو ولا يدري أيَّ حِضن هو الأرفه والأوثر - لقد أمَّ الحياة صغيراً ضئيلا - لم تكن ولادته وهو في شهره السادس إلاَّ نحيلة كنُحول أمِّه في

٢٢

خشبة جَسدها، وما احتاك به مِن زهيد الشحم والدم؛ مِن هنا كانت الولادة نحيفة رهيفة، كالمصدر الذي انزلقت عنه - غير أنَّ الأحضان التي سربلته بأكثر مِن دثار، نشَّطت فيه طاقات عجيبة مِن التدلُّه النفسي الروحي - ما شَحَّ انعكاسه على عضلاته وألياف أعصابه، فإذا هو كأنَّه رشأ يملأ البيت حركة ودلعا ورواء، وإذا هو أكثر مِن جاذبيَّة شغف بها المـُحيط كلَّه، مِن ساحة الدار التي تُظلِّلها شجرة واحدة اسمها ( الآراك )؛ إلى داخل البيت الذي كانت حيطانه وسقفه ترشح بما لا يعرف مِن أيِّ ضَوْعٍ هو، لقد راح الفتى يشعر أنَّه دلاَّعة البيت وهزَّته الصغيرة، وكانت النشوة فيه تحتار مِن أين تأتيها الإشارة، فبينا يغرق فيها في حِضن أُمِّه، كأنَّه حرير مُبطَّن بمخمل، إذا هي - في عُبِّ أبيه - كأنَّها إعصار يتناحل في نسمة الصبح، أمَّا في حِضن جَدِّه وتحت عينيه، الناضحتين بالحُبِّ، فكأنَّها شعاع دفءٍ هابط مِن كُوَّتين، هما مِن بهجة الصباح أنقى وأزهى.

وهنالك حِضن رابع كان يتعب وهو يتلقَّط به ليحتويه، وهو حِضن الحسن أخيه الذي يزيده بالعُمر سنة وعِدَّة أشهُر، ولم يكن يعرف الحسين أيَّ طعم كان يتلذَّذ به وهو مضموم إلى صدر أخيه، كأنَّه نَكهة معجونة بسويق لا اسم له، تلك هي الأحضان التي احتوت الحسين مُنذ أَمَّ الحياة، وراح يدرج في البيت إلى أنْ تركه جَدُّه الكبير في حِضنٍ راح يُفسِّر له - بالتدريج - كلَّ معاني الأحضان التي احتوته طفلاً، وحضَّرته - بدوره - لأنْ يكون حِضناً يتناول الرسالة إلى صدره، ويفنخ فيها نفساً مقدوداً مِن صدره المليء بالعُنفوان.

لقد ضاع الحسين في تعيين أيِّ حِضن تدلَّه فيه، كان أعطف وأرهف مِن الآخر؟ ولكنَّه - بالحقيقة البارزة - كان مُشتقَّاً منها جميعها على توحيد والتزام - لقد ضمَّته جميعها، لأنَّها كلَّها كانت حدوده في المبدأ وفي صيانة الجوهر، أنَّه مِن هذه الصياغة الكبيرة التي احتضنها الطالبيُّون الهاشميُّون، فإذا بها مِمَّن مَرَّ أنَّها في النفس تتفتَّق عن رسالة تفوَّه بها الطالبيُّ الهاشميُّ، فارتدَّت إلى الأُمَّة العظيمة أمانتها المحفوظة في عقل وجُهد نبيِّها العظيم محمد.

٢٣

إنَّ القصد المنسول مِن هذه الرسالة، التي حقَّقت ذاتها فوق الأرض وتحت ظلال السماء، هي التي وسَّعت ودفَّأت الأحضان التي انغلقت كلُّها بالتساوي على تعهُّد الحسن والحسين، ليكونا ضِلعين مُخصَّصين لرعاية الخَطِّ الطويل، إنَّما مِن أهل بيت حدوده في سوارٍ مِن نبوَّة أنتجت رسالة تتحدَّد بها الأُمَّة، ويتحدَّد بها الزمان الجديد، ويتحدَّد بها الإنسان الجديد.

٢٤

أهل البيت

ولكم تمنَّيت على التاريخ أنْ لا يقرأ علينا الكلمة بحروفها، بلْ بمعناها النازل فيها، ألا تراه هكذا قد تصرَّف وهو يكتب على أحدى صفحاته ( أهل البيت ) وهو يُفسِّر الكلمتين بحروفهما لا بمعناهما المقصود؟! والبيت هنا وأهله، لا يعنيان في كلمتيهما أساساً مضروباً لإقامة أربعة حيطان، تنشأ ضِمنها وحدة سَكنيَّة تنزل فيها عائلة مؤلَّفة مِن رجل وامرأة وعِدَّة بَنين، إنَّما البيت وأهلوه هما رمزان - بالذات - إلى مُجتمع ظهر منه مُشتاق رائد تمكَّن مِن رصفه ورزمه في إطارٍ جديدٍ، ومضى به إلى تحقيقات رائعة المثال، وخارقة المجال، نشلته مِن كينونة إلى كينونة، فإذا الفرق بعيد بين إنسان كان يتشرَّد هنا وهناك فوق الرمال، كأنَّه مثل هاتيك الغزلان، لا يقودها العطش إلاَّ إلى واحاتٍ مِن سرابٍ، وإنسان دلَّه عقل كبير إلى قضيَّة كبيرة في الحياة، وجد بها منهله لحقيقته الإنسانيَّة، التي يبني بها مُجتمعاً صحيحاً يُحقِّق به أنشودته في الوجود.

ألم يكن العظيم محمد هو الذي انفجر به شوق الجزيرة العربيَّة، إلى سحبها مِن كلِّ حَرَّاتها الراقصة بالزفت والكبريت، إلى واحاتٍ مِن نوعٍ جديدٍ يسرح فيها نسمٌ، وينبت فيها ظلٌّ، ويجمعها رُشد يُخلصِّها مِن تشريد وتحريب، ويوفِّر لها نظاماً ينشلها مِن غزو وقتل، وهدر قوى يمتصُّها الجهل وفقر الروح، وتُبعثرها - توهيناً وتفتيتاً - روح قبليَّة عشائريَّة، مُتزمِّتة في تجمهُرها وتصنيفها المرصوص في الأفخاذ والبطون.

مَن غير محمد - بعد هذه الآلاف مِن السنين المهدروة - تمكَّن مِن إشعال هذه الحَرَّات أتُّوناً مؤجَّجاً بنار زفْتها وكبريتها، رمى إليه كلَّ هذه الأصنام التي كانت

٢٥

تُكبِّل هذا الانسان عن بلوغ حقيقته العُظمى في الحياة؟ لقد كان هذا الانسان بلا كتاب، فهجَّأ له - لحظةً بعد لحظةٍ - كلَّ حروف الكتاب، كان فرداً يُتقن القفز بين المفاوز وخلف الطرائد، فضغطه إنساناً يعرف كيف يمشي على الطريق، وكان قبيلة تلعب بها البطون والأفخاذ، فجاهدها حتَّى جعلها في الوحدة المـُجتمعيَّة المؤمنة بالحقيقة، لقد كان هذا الانسان بلا قضيَّة فدمجه بالقضيَّة، وأفهمه أنَّ الأُمَّة الواحدة لا يعلو لها إلاَّ صرح واحد مؤمن، متين الأساس، وعزيز الحَجر، وكريم السقف، أنَّه بيت الأُمَّة الواعية، يوحِّدها الشوق، ويجمعها العقل إلى تعزيز المصير المـُشترك.

هل كان أحد غير هذا الفتى الرائي، في حقيقة العزم والإقدام لخوض غمار معركة، كان يبدو أنَّها خارقة الجنون، وإذا بها - بعد اختلاءٍ في غارٍ - تُحقِّق ذاتها، وتُحقِّق المعجزة التي لم يُحقِّقها - مُجتمعين - كلُّ الإبطال الذين ألَّفوا ملحمة هوميروس؟ إنَّها - العمري - أضخم معركة حصلت على وجه الأرض، كان بطلها إنساناً حقيقيَّاً، ولم يتجاوز الوقت الذي أحرزت فيه النصر عشر سنين، وإذا بمُجتمع - برُمَّته - يلتمُّ إلى وحدة فوق ساحة كانت تلتهمها المسافات الفارغة، وتُفرِّطها العادات والتقاليد، وأبالسة الشياطين، وأُلوف مِن القبائل المـُشرَّدة، والعشائر الضائعة في الليل، وكلُّ شيخٍ مِن شيوخهن كأنَّه صنم بلا عين، ولا قلب، ولا لسان.

أجلْ، إنَّها معركة التهبُّت بالحقِّ، واشتغل بها الوجدان المـُجنح بالخيال، على صهواتٍ بيضٍ راحت تُحرِّر الأرض مِن عبوديَّتها المـُعفَّرة بالسراب وبالغبار، وترفعها إلى فضاءٍ يمرح فيه شعاع سَني النور، مربوط الضلعين بالإسراء والمعراج، فإذا السموات السبع، وكلُّها موسوعة المـَمرَّات إلى جنان تشرب الكوثر مِن راحتي الوعد السخي، الذي سيتمتَّع به الإنسان الذي يسمو بالحَقِّ، والصدق والمعرفة، وهو يتحلَّى بالمـُثل الكريمة النابعة مِن إيمانه بإلهٍ واحدٍ أمثل، يُخلصِّه مِن كلِّ عبوديَّة، ويُنظِّفه مِن الرغبات السود، ويزينه بالصدق، والطُّهر، والعفاف، ويُحضِّره لأنْ

٢٦

يكون أنساناً صادقاً في دنياه، ليكون ثوابه جَنَّة مِن ذلك الطراز، وهي - أبداً - جَنَّة سيجدها مزروعة في نفسه المـُحرَّرة مِن الكَذب، والغِشِّ، والبُهتان.

ما شحَّت في هذه الملحمة الرائعة بطولات لحَمَت الأرض بالجنان، وما ضؤل الثواب على المدعوِّين إلى مُعانقة الحقيقة الباهرة، وكان الثواب تحقيقاً آنيَّاً مُترجماً على الأرض. هكذا كانت الترجمة العظيمة مُتجلِّية في الكلمة الواحد التي هي ( الرسالة )، وكان التحقيق البليغ ملموحاً في توحيد المـُجتمع بإنسان رمى فرديَّته المنهوكة بقبائليَّته وعشائريَّته، وفتائل زعاماته، وثعابين أصنامه، وراح يتمتَّع بمُجتمعيَّته التي هي الآن في حقيقة الوعد الكبير، الذي زرع القيمة في الإنسان، فإذا الحياة الكريمة هي الجَنَّة التي لمحتها عين الإسراء والمِعراج.

هذا هو المـُجتمع الأمثل، لقد حقَّقته الرسالة إذ بنته بيتاً كريماً تنزل فيه لتَخلد معه في القيمة المـُستمرَّة في وجود الانسان، ستُدافع عنه إذ تُدافع - أبداً - عن حقيقتها في ذاتها؛ ومِن هنا كان البيت بيت الرسالة، أمَّا أهلوه المـُخصَّصون فهم المـُنتقون عُنصراً متيناً للصيانة والتعهُّد، حتَّى تبقى الرسالة فاعلة فعلها المـُتصاعد؛ مِن أجل أنْ يعمَّ الرُّشد، ويَمتنُ هذا الإنسان بالمـُمارسة التي تُنسيه مواطئ قدميه في أمسه الهزيل، وتُنجيه مِن الردَّة في يومه الطالع.

هكذا بُنيت الملحمة مِن أجل تثبيت بُطولاتها فوق الأرض، أمَّا البيت الهاجع في معناه، فهو البيت الذي بنته الرسالة، وهو المـُجتمع المبنيُّ بها، أمَّا الذي ينزل فيه الآن فهو الرجل الآخر، لا لأنَّه عَصبٌ توضَّجت به عروق الدم، الذي نسج لها ملحمة لفَّها بها في المعركة، التي دمجت الأرض بجِنان النعيم، وطهَّرت إنسانها تطهيراً.

لقد كان التاريخ في تفسيره ( أهل البيت ) أشبه ببطنٍ مِن بطون القبائل في تلك الأيَّام، تجمعها روابط النَّسب واللحم والدم، في حين أنَّ النبي العظيم برى

٢٧

الروابط هذه، وجعلها مهدورة في المـُجتمع الواحد، وجعل البيت رمزاً للبيت الكبير الجديد المـُوحَّد.

إنَّ أهل البيت هُمْ الوصيَّة المقصودة لتناول الإرث، الذي هو رسالة ملفوفة بملحمة حقيقيَّة ما شهدت الأرض نظيرها مِن الملاحم، أمَّا الحسن والحسين، فمنهما الحُلم الذي انبثق مِن الوجدان الممسوح بالشوق والخيال. إنَّهما مِن صُلب هذا الوجدان وهو مرشوق بعظمة الرسالة، سيكونان مخطوفين مِن بَهجة اللَّمح، لقد نشأ أبوهما وهو يأكل مِن ذات الخمير، ويتربَّع على ذات الحصير، وهكذا نشأت أُمُّهما تمتصُّ رهافتها مِن ثديِ التي ذابت بين يدي زوجها كما تذوب شمعة مُقدَّسة أمام نافذة المِحراب، وها هُما طفلان يلعبان في باحة المسجد، ولكنَّهما ما كانا يشربان إلاَّ كوثراً صِرفاً سيكون به تحقيق الميراث، وتحقيق الوصيَّة، وتحقيق الإمامة، وتحقيق الوعد الذي تعيش به رسالة ما انفكَّت ملحمة يلتحم بها إسلام الأرض بين يدي ربِّها الرحمان الرحيم.

٢٨

الأساس

- ١ -

لا يُمكن أنْ يكون للقضيَّة غير هذا الأساس، لقد كانت القضيَّة مُطلقة مرماها وجوهرها، فهي ما تناولت تنظيماً عاديَّاً مِن شؤون الهندسة، كإنشاء بيت، أو إنشاء قصر، ينزل في الوحدة الصغيرة عائلة مسكينة، وفي الوحدة الأُخرى أمير له ثَراء وجاه سلطان، إنَّما تناولت شأناً حياتيَّاً آخر، له مِن الحقيقة والشمول، تصميم وتركيز في عمليَّة بناء الفرد بناءً إنسانيَّاً، مُجتمعيَّاً، تتحقَّق به الغايات الشريفة في الحياة، فلا بيت ينشأ والقضيَّة هذه هي المطروحة فوق البساط، ولا قصر ينشأ أيضاً، وتكون لهما حقيقة الثبات، ما لم تحفر أساسيهما عناية القضيَّة الكبيرة، التي تُركِّز نظرة الإنسان على الحقيقة الصادقة فيه، فيبني مُجتمعاً صادقاً يصون فعاليَّاته الفرديَّة الإنسانيَّة المـُتحوِّلة - حتماً - إلى مُجتمع سليم منيع، وعندئذ يكون له البيت، والقصر، والمـُتعة بالعمران. إنَّ الأُمَّة الصادقة، هي الأُمَّة المنيعة، لا يدعمها في مناعتها إلا الحقُّ، والصواب، نظافة العقل، والروح، وهي كلُّها - في العدل والمـُساواة - وحدة عظيمة يجدها الإنسان في ضلوع المـُجتمع.

تلك هي القضيَّة، إنَّها حشو الأساس، وإنَّها هي البيت الذي سكن فيه باعث الرسالة، وإنَّها هي الأساس الذي تقوم عليه جدران هذا البيت الذي هو - بكلِّ مُحيطه - بيت الأُمَّة في حقيقة الرمز.

أيكون أهل هذا البيت ملموحين حِجارة في الأساس؟ إنَّ للمنطق إصبعاً تستقيم بها الإشارة، وإنَّ للقضيَّة تعييناً تتوضَّح دلالته إلى المقلع المرصوص بصلابة الصوان، وإنَّ للحقيقة عيناً لم يدعَج بها إلاَّ عليُّ بن أبي طالب، وهي ترنو إليه بأنَّه مِن المقلع المـُمتاز، الذي يصحُّ به رصف الأساس.

٢٩

ومِن الجهة المـُقابلة، أتكون الإمامة رُكناً يقوم على الأساس؟ ولكنَّ القصد الحكيم كأنَّه جعله سرباً ينضح منه ليعود ويسقيه فلا يعطش، أمَّا المعنى فإنَّه أبداً واحد، فالقضيَّة التي هي في عُمق الشمول، والتي كلَّفت جُهداً يوازي عمر الجزيرة في التفتيش عن واحتها الكُبرى، تتطلَّب صيانة أساسيَّة ومُركَّزة على مثل النظافة والجدارة اللتين يتجوهر بهما مَعدن عليٍّ، كما وأنَّ القبلية الهزيلة العقل والهزيلة الإنسان، أصحبت الآن ترفض إعادة لملمَّة حروف اسمها أمام جلال القضيَّة، التي انبسطت بها أرجاء الجزيرة في وحدة مُجتمعها، ستكون الإمامة الكرسيَّ الجديد والأنظف، تجلس فيه ركيزة الإدارة، دونما احتياج إلى أيَّة استشارة أو إثارة. إنَّ النظافة المرميَّة في الأساس، وفي المدماك الأوَّل، هي التي تُستشار الآن، والتي ستُستشار في الغد، ولكنَّ الأُمَّة التي سيَصلب عودها فوق هذا الأساس، سيكون لها في مثل هذا الصدق والطُّهر، ذيَّاك المـُرَّان، وستبقى القضيَّة الكبيرة التي جمعها هي مُستشارها الأفخم، يُنجيها - ما دامت في وضوح الصراط - مِن العِثار.

في مثل هذا الجوِّ المـُفعم بالمسؤوليَّة البالغة العُمق، والقصد، والجوهر، كان يعيش البيت وأهلوه. لم يكن الحسين الذي يقفز الآن على الطريق المـُمتدِّ بين باحة البيت وساحة المسجد، ليفقه كثيراً ثقل القضيَّة، ولكنَّه كان يشعر أنَّ شيئاً عظيماً يُدغدغه وهو يُفرِّق الناس الجالسين القُرفصاء، وهم يُصغون إلى كلِّ كلمة كانت تخرج مِن بين شَفتي جَدِّه الجالس فوق المنبر. لقد توصَّل الفتى - بعد عَناء - إلى جَدِّه المـُنبري بجلاله. لقد مدَّ يديه وتعلَّق بطوق الجُبَّة، وصعد الهويناً، وكفُّ جَدِّه يُسنده مِن الوراء، وإذا به - رويداً رويداً - ويمتن ربوضه فوق المـَنكبين المـُستسلمين لإرادة الفارس. لقد تبسَّم الجَدُّ الذي هو الآن رحل الحسين، وهو يقول: هذا سيِّدٌ ثانٍ مِن أسياد أهل الجَنَّة، فطوبى لأُمَّة فيها مِثل عليٍّ يُنجب!!!

- ٢ -

وهذه حروف أُخرى ما رصفت ذاتها بذاتها، ما كانت الحروف لأنْ ترقص على أذنابها فتتلحَّن بها الكلمة معطوفة على رَنَّة الوتر، إنَّما المعاني هي التي يشغفها

٣٠

القصد، فتتنضَّد حروفاً يرقص بها الوتر.

لو لم يكن الحسين لمـَعة حُلوة، في حُلم ذلك الذي رقص الدويُّ في أُذنيه فصار بعثاً، وصار حرفاً ضجَّت به الآيات في القرآن، لما كان له - الآن - أنْ يلفَّ عُنق جَدِّه بذراعيه الصغيرتين، ويَجثُم فوق منكبيه ويُثَغْثِغ بالآية الهابطة مِن الجَنَّة التي رآها جَدُّه سيِّداً فيها، أمَّا الجَنَّة التي يُشير إليها النبي المـُشبع بالمهابة والجلال، فهي التي رسم لها أُنموذجاً فوق الأرض، في مُجتمع الأُمَّة الموحَّدة والمؤمنة بإلهٍ واحدٍ عظيمٍ كبيرٍ خيِّر، يجمع بالحَقِّ، ويظهر بالصدق، ويبني بالعلم والمعرفة إنساناً يُصبح عظيماً بمقدار ما ترجح فيه قيمة المـُثل.

تعيسة هي الكلمة تأخذها الأُذن، أو العين دون أنْ يؤخذ معها لونها وصداها! - وأتعس منها كلُّ حقيقة تحتشم، إذ تترك الحرف يتربَّع بها ويتأنَّق بإدراجها في لفَّة الزمر، فإذا بها تترك ملفوفة بحشمتها، وينبري الحرف يتبجَّح بأنَّه هو الصدفة، ولولاه لما كانت بَهْرَجَة ولا لؤلؤة!

تلك هي قِصَّة الحسين الطفل فوق مِنكبي جَدِّه فوق منبر المسجد، لقد سمع الناس ورَأوا عاطفة تموع، وبادرة يلعب بها طفل اسم أُمِّه فاطمة، أمَّا الرمز، وأمَّا الصدى فلا عَلاقة للرسالة بهما، كأنَّ النبي العظيم الذي أخضع الجزيرة برُمَّتها وجعلها تسجد أمام عظمة الحَقِّ، ونجَّاها مِن طفولة بائسة، ما كانت تلعب إلاَّ بالتُّرُّهات والخَرزات الزرق، ليس له إلاَّ أنْ يُلاعب طفلاً اسمه الحسين؛ لا لشيء إلاَّ لأنَّ أُمَّه اسمها فاطمة، ولأنَّها ابنته مِن لحمه ودمه ...

أمَّا الطفل الصغير الذي كان مجذوباً إلى منكبي جَدِّه، وهو يُملي على الناس كيف لهم أنْ يجتمعوا دائماً مع كلِّ غَدٍ، فإنَّه وحده - على الأقل - راح ينحفر في نفسه، بأنَّ الرسالة الكبيرة هي التي يغار جَدُّه عليها، وهي التي يعتبرها دعامة اليوم لتكون دعامة الغَدِ. إنَّ هذه اللحظة - بالذات - هي التي تحفر في نفسه عُمق القضيَّة، وعُمق المسؤوليَّة، وعُمق الوصيَّة، وعُمق الرمز الذي هو كلُّ الصدى.

٣١

حَجَّة الوَداع

ولن تُفلت حَجَّة الوداع مِن تَمنِّينا، لو أنَّها لم تكن وداعاً بمعناها الحرفي، إلاَّ بعد عشرين حَجَّة أُخرى، على الأقلِّ، بمعناها المـُشتاق إلى إطالة العهد مع صاحب البعث، وحامل الحَقِّ والهداية، في سبيل تمتين الحُفر في النفوس، فينمو عودها أنقى، وأصلب، وأثبت في واقع اللمس وترسيخ المـُران، ولكنَّها حصلت كأنَّها الحُلم في صباح تكدَّرت شمسه بمضيضٍ مِن كسوف!

هل كانت حَجَّة الوداع أكثر مِن اسطوانة تخبَّأت فيها وصيَّة؟ ولكنَّ الجماهير الغفيرة الذين امتلأت بهم قافلة الطريق، بين المدينة ومَكَّة، ما كانوا يمشون إلاَّ بحَفاء الأمس - صحيح أنَّ ولادة جديدة قد كحَّلتهم بنورٍ جديدٍ، ولكنَّه نور لم يتسرَّب بعد إلى عُمق الحدقة، ولم تختزنه الطويَّة بعد، فيُصبح جزءاً منها - يا أُمْنَية وهي تضرُّع - لو أنَّ حَجَّة الوداع ما حصلت إلاَّ بعد ثلاثين مِن سنوات الهِجرة، أو بعد أربعين إذا يصحُّ التمنِّي.

أمَّا الوصيَّة في غدير خُمٍّ، فإنَّها هي التي برزت بثوب الرمز اللطيف، ما شربت الاَّ عطشها المـُقدَّس ألم يتوسَّل النبي الكريم - وهو الذي توسَّلت إليه مهابات وجلالات - وهو يقول:( عليٌّ منِّي وأنا مِن عليٍّ ) ،( مَن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللَّهمَّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) ،( إنِّي مُخلِّف فيكم ما إنْ تمسَّكتم به لن تضلُّوا مِن بعدي، كتاب الله وعِترتي أهل بيتي، فإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض ) .

تلك هي الوصيَّة، لقد عطشت بها وإليها حَجَّة الوداع. أمَّا السامعون غدير خُمٍّ، فإنَّهم هم الذين كانوا يسمعون في صباح الأمس، وهم جالسون

٣٢

القُرفصاء، بين يدي مَن ينزل عليهم الآيات، لقد قالوا في تلك الساعة: ما أطيب الرسول يُداعب ابن بنته فاطمة، وها هم الآن يُردِّدون القول في غدير خُمٍّ: ما اشدَّ حُبِّه لعليٍّ، أتراه دائماً يُحبُّه أكثر مِن أيِّ واحدٍ مِنَّا؟ يا للوعي المـَمزوق! كم يلزمه مِن المِران والصفاء، حتَّى يستوي الفهم فيه والرواء!

- ٢ -

غير أنَّ الوصيَّة ما كانت بحاجة إلى حَجَّة الوداع، حتَّى يتناولها النبيُّ المـُتممِّ حُجَّته ما بين يدي ربِّه الرحيم، مِن تحت أُبط عليٍّ، ليعرضها على الناس فيصدُّقوه! لا - وأيْمَ الحَقِّ - لقد كانت الوصيَّة مدقوقة كالوشم فوق جبين عليٍّ، إنَّها مِن سجاياه الناضحة مِن طويَّته الكريمة - لا التاريخ عَمْيَ، ولا أيَّ رجل كريم مِن رجالات ذلك العصر كان يعمى عن قراءة الحقيقة، ولكنَّ سياسة الزُّعماء المـُتشرِّبين روح القبليَّة هي العميَّة!

لم يكن عمر بن الخطَّاب ضعيف السجيَّة، إنَّه عنصر فطنة بين الرجال، وإنَّه عقل تمكَّن مِن احتواء الوسيع مِن الرشد في مجال الحياة، ولكنَّ عنهجهيَّة قبليَّة نائمة في بطانة نفسه، ما سمحت له ولا قبلت أنْ يتقدَّم عليه وعلى أمثاله مِن وجهاء الجزيرة - وبنوع خاصٍّ المـُسنِّين منهم والبارزين في صفوف الصدارة - فتى لا يزال أمرداً، أكان هذا الفتى عليَّاً أم كان فتى آخر اسمه أُسامة بن زيد! لقد كان حِسُّ ابن الخطَّاب - بمركز الزعامة - أرجح مِن حِسِّه بقيمة الرسالة - لهذا لم يُرِد أنْ يُصغي إلى فِطنة التحسُّب في التلميح بالوصيَّة؛ ولهذا كان رفضه القبول بولاية عليٍّ بعد غياب الرسول إلى الرفيق الأعلى؛ ولهذا - أيضاً - كان رفضه القبول بالفتى أُسامة بن زيد أميراً عليهم في الجيش الموجَّه إلى غزوة الشام.

لم يكن هذا وحسب في ميزان عمر، بلْ إنَّ هنالك خبيئة مِن الماضي الوخيم تُعشِّش في ضلوعه، إنَّها الدودة في وزيعة الإرث، إنَّها الأُمويَّة السُّفيانيَّة ضِدَّ الطالبيَّة الهاشميَّة، تمرح بين الخطَّين، وتقضم مِن لحمة الطرفين، إلى أنْ جاءت الرسالة الرضيَّة فتلملمت الدودة إلى خبيئتها في عُتْمة الظنِّ، وها هو غياب الرسول يُعيد

٣٣

الدودة إلى مربعها الأوَّل، وإذا الوصيَّة بعليٍّ هل الأُولى التي تتناولها بالقضم!!! فيا للأُمْنِية تًكرِّر في ضراعتها: لو أنَّ حَجَّة الوداع ما حصلت إلاَّ بعد ثلاثين مِن سنوات الهجرة، أو بعد أربعين إذا يصحُّ التمنِّي! لرُبَّما كان طول المِران ما بين يدي صاحب الرسالة، يقضي على دودة كان تئنُّ منها مُجتمع الجزيرة، كما تئنُّ - أبداً - كلُّ واحة خضراء مِن أسراب الجُراد.

- ٣ -

هنالك سبب وجيه وأساس خَلْفَ تصرُّف عمر بن الخطاب، يُلبِّيه مِن الوراء أبو بكر الصدِّيق بالرضوخ والمـُطاوعة، إنَّه يَكمن في فقر الساحة وافتقارها إلى الصفات التي يتحلَّى بها الإمام عليٍّ، إنَّ الصدق الذي رفع الرجل إلى سويَّة الرسالة وجعله وحياً منها، لم تكن قد حصلت له موجات مِن انعكاسٍ فاعلٍ، رشقت الغير وقرَّبته مِن القُطب المـُمغنط، مِن هنا يكون تأثير الثقافات الفكريَّة، الروحيَّة، الحضاريَّة، تتناول مُجتمعاً بأسره، وتدمغه بالفهم، والحِسِّ والنَّباهة؛ ومِن هنا يكون المِراس والمِران عاملين قويَّين في عمليَّة تنشيط المواهب ونقلها - مِن البَلادة والخُمول - إلى التفاعل الحيِّ؛ ومِن هنا يكون لعليٍّ وصول أوسع، تغتني به أوصال المـُجتمع.

لقد كان عليٌّ ساعة حمل الغَمامَ النبي إلى المصدر الأوسع، طويَّة ينعكس هو فيها بحقيقته المتيقظة؛ لهذا كانت سرعة ابن الخطَّاب في هندسة أمير يتسلَّم الأمارة، قبل أنْ ينشط لها وعيٌ جديد يلمح عليَّاً ويستدعيه إلى مركز الرعاية.

مُنذ تلك الساعة إلى اليوم، ولا رسالة تفعل فعلها المنقوص، في مُجتمع يتقدَّم خُطوة إلى التحقيق، وتتراجع به الرُّدَّة خطوتين إلى الوراء، إنَّه لا يزال مُجتمعاً يهجع به الانتظار.

٣٤

أعود فأقول: لو أنَّ الرسالة في المـُجتمع فعلت فعلها المـُقدَّر لها حصوله في المـُجتمع، لما كانت الحَجَّة تلك بحاجة إلى إعلان وصيَّة، ولما كانت لتُنعت بالوداع، بلْ بالوَصلة الدائمة الحضور في دائرتها العظيمة، التي تجلَّت هي فيها، كأنَّها الأعجاز في رفع المـُجتمع إلى وحدةٍ راح يتَّضح رويداً رويداً على الأرض جلالها في التحقيق.

لا، لم تكن القضيَّة الكبيرة التي اعتنقتها الجزيرة بين يدي محمدها العظيم، بحاجة إلى أيَّة وصيَّة ملفوظة بكلمات، لقد كان لكلِّ خُطوة خطاها الرسول على الأرض حَفر مُعيَّن، له سداد، وله رشاد، ولقد كان لكلِّ إشارة زفَّها إليهم بإصبع كفِّه، أو بلفتة عينه، أو ببسمةٍ ماجت بها شفتاه، دلائل غنيَّة العُمق، بعيدة الغور، ولكنَّه لم يَخطُ خُطوة واحدة الاَّ ومعه الرسالة، ولم يتفوَّه بكلمة واحدة ليست حروفها مِن حروف الرسالة، إنَّها وحدها كانت الوصيَّة، وإنَّها وحدها التي بنت وجمعت، فهي القضيَّة، وإنَّها منه، وإنَّه لم يغار أبداً إلاَّ عليها، لأنَّها القضيَّة، ولن يُقرِّب اليه أحداً مِن الناس، إلاَّ الذي يراه متين المنكبين لحمل الرسالة التي هي كلُّ القضيَّة.

أيكون كلُّ هذا المخطوط البارز في حقيقة مُجتمع الجزيرة صعب الفهم، وصعب اللمح، وصعب السمع حتَّى نطلب مِن الغائب الذي التحق بسُّحب الغيب، أنْ يعود ويوضِّح حروف الوصيَّة، لنرى اليوم مَن هو المدلول إليه ليتسلَّم زمام الرسالة؟ هل هو عليُّ بن أبي طالب، أم أنَّه عمر بن الخطاب ملفوفاً بأبي بكر الصدِّيق، مَفروزاً إلى عثمان بن عفَّان؟

ليت حَجَّة الوداع قد تكرَّرت مَرَّتين؛ حتَّى يقتنع ابن الخطاب بأنَّ الوصيّة بتعهُّد الرسالة - القضيَّة - هي لعليٍّ، لا بصفته قريباً وابن عَمٍّ، ولو بوجود العباس وهو عمٌّ أولى، ولا بصفته طالبيَّاً مُنافساً لسفياني؛ بلْ لانَّ عزم الروح كان جليلا فوق منكبيه، ولأنَّ الذي سَحب الجزيرة مِن أمسها البائس هو الذي حضَّر لها غَداً مُشرقاً، غنيَّاً بالوِئام النظيف والرأي الحصيف.

٣٥

أين هو الحسين

- ١ -

إنَّه الآن هنا ثمَّ هناك، لا يستقرُّ له مقام، فبينا تراه قابعاً وحده في زاوية البيت، كأنَّه في إغفاءة التفكير، إذا به، بعد لحظات قاسيات، يقيس الطريق بخُطواته التائهة، بين ساحة البيت وباحة المسجد.

لقد فهم بعُمق أنَّ حقيقة رهيبة اسمها الموت، قد تناولت جَدَّه الحبيب، ولفَّته إليها، كأنَّها الزوبعة الرهيبة الهابطة مِن غياهب الغيب! أين هو جَدُّه الآن؟ وقد سحبته العاصفة مِن منبر المسجد؟ أتراه قد أصبح في البُعد البعيد، أم أنَّه لا يزال حيَّاً في عذوبة الصدى، كما تحيا شجرة الأراك في ظلِّها الناعم؟

ويرتاح الفتى، وهو مأخوذ بعفويَّة التصوُّر، يدخل المسجد الخالي مِن جَدِّه، ومِن المـُقرفصين المـُصغين ويعتلي المنبر يُفتِّش عن المنكبين الرازحين تحت رأس الدلال!!!

ولكنَّه لا يجد المنكبين، ولا الرأس تحت ملمس الكفَّين، مع أنَّه راح يَسمع الجُدران الشبعانة مِن حفيف الصدى وهي تُردِّد: هذا ابني مِن عليٍّ وفاطمة، إنَّه وأخوه عُقدة البيت، وإنَّهما سيِّدان مِن أسياد الجَنَّة، وإنَّهما يردان عليَّ الحوض، وإنَّهما إمامان قاما أو قعدا..

هنا دائماً سنجد الحسين في المسجد، وفي زاوية البيت حِضنه الأوَّل والأحَبُّ والمـُخمس الأحضان، إنَّه ضمن حيطان المسجد، يُلملم، مِمَّا عُلِّق عليها مِن نبرات جَدّهِ، كلَّ الخيوط التي سينسج منها جُبَّته وقُمصانه.

٣٦

- ٢ -

لقد كان الحسين باكر التمييز والنُّضج، لا نردُّ ذلك إلى بُنية مُنسَّقة الاسنجام، هي مِن نعمة باريها هِبة كريمة يتمتَّع بها وجود الإنسان، أكثر مِمَّا نُعزِّزها - وهي البُنية الأصيلة - بتنشئة واضحة القصد، والتوجيه، والإحاطة، فإذا هي طاقة مُستعجلة إلى تلبية الغاية وبلوغ المرام.

لقد كان الحسين تلك البُنية السليمة بما شعَّ عليها مِن دلائل نُبْل الفِكر والروح، وهي كلُّها التي لمحتها عين النبيِّ الكريم مُتحدِّرة مِن صُلب عليٍّ، فإذا هي - في عين الطفل وفي محياه - استجابة للأصل والجوهر، وتحقيق لأشواق الحُلم الذي جاشت به تلك الليالي الصامتة: فكان الانبعاث، وكانت الرسالة، وكانت القضيَّة، وكانت الوصيَّة الهاجعة في عين الحُلم.

مِن هنا كان وضوح القصد، ومِن هنا كانت التنشئة مُعيَّنة التوجيه، وكانت الإحاطة موحَّدة العناصر، وحاضرة الإعداد، وكانت البيئة - بحدِّ ذاتها - بيئة غنيَّة بمواردها الفكريَّة - الروحيّة - الأصيلة في بُعدها وجوهرها، وتحقيقاتها الرائعة المِثال.

لقد كان كلُّ ذلك في الجوِّ الذي راح الحسين يتنفَّس فيه، ويدرج مِن حِضن إلى حِضن، فكيف له - وهو الآن في ثمانية مِن العُمر - أنْ لا يكون باكر النضج والتمييز؟! وكيف له أنْ لا يُدرك - وهو تحت عين أبيه علي وبين يديه وفي احتكاك لا يهدأ بروحه وقلبه ولسانه - أنَّ جدَّه الذي رجع مريضاً مِن حَجَّة الوداع، وهو الذي أضناه التعب في الساحات الكبيرة، التي امتصَّت فِكره وقلبه وأوصاله؟! وها هو يتركها وقد خلَّف فيها الثقلين: عترته، ورسالة ملفوفة بكتاب، وحُلماً أصيلاً بأنَّ الجُهد الكبير في الحياة، هو مِن الحياة، وأنَّ الحقَّ لا يموت، وأنَّ الاستمرار هو الوصلة الجُلَّى، يتنقَّل الجُهد بها وعليها إلى بقاء القيمة الخالدة في مُجتمع الإنسان.

لقد أدرك الحسين - وهو في بكرة طريَّة مِن العُمر - أنَّ جَدَّه وأباه، هما مُحيطان في الإصابة، وأدرك أنَّ عليه - مُنذ الآن - أنْ ينمو ويترعرع في حِضن جَدَّه الذي

٣٧

غاب وبقي كامل الحضور في المسجد - إنَّها وصيَّته - لقد سمعها مِن جَدِّه وهو يتغنَّج عليه فوق منبر المسجد.

- ٣ -

ما كان أبوه علي يخرج مَرَّة إلى الساحات ويعود إلى رُكن البيت، إلاَّ وفي جَعبته خبر ثقيل كأنَّه الرزيئة، لقد اجتمعوا أربعتهم الليلة هذه على الحصير حول صينيَّة، مَدَّت عليها فاطمة وجبة الطعام، أمَّا الأب الذي كان يأكل قليلاً وهو يتحدَّث، فإنَّه راح يوضِّح لهم قِصَّة السقيفة، سقيفة بني ساعدة، كيف وظَّفها عمر بن الخطاب لتُبعده عن حقيقته وحقوقيَّته في الإمارة، وإحلال أبي بكر فيها، كأنَّ الرضوخ لمشيئة النبي هو الخطأ، وفي المعصية الصواب.

لقد تبسَّط أمامهم كيف أنَّ في التصرُّف هذا استدعاء أثيما لقبلية، حاول النبي الحكيم وَأدَها وتخليص مُجتمع الأُمَّة منها، وإذا لها الآن توَّاً - إثر غيابه - عودة إلى الأرض، وإلى النفوس، تنهدر بها الطاقات الفاعلة، وينشل الزخم الواعي، مُتلهياً بالعرض عن الجوهر. إنَّ الوحدة هي في الخطر المـُداهم تحمله سياسة الزعامات!

لقد شرح لهم بعُمق وهو مُثقل المنكبين: إنَّ للأعمال الكبيرة أوقاتاً مرهونة بها ساعات مُباركة، مقرونة بالتحفِّز والرضوان، ولقد قطفتها - في حينونة ساعتها - نَهدة الحَقِّ بنبيِّها وبطلها الذيب، لم تنجب صِنوه ملحمة مِن أقدس الملاحم في وجود الإنسان، واستطرد يقول: مَن لنا الآن، وقد غاب سيف صقيل مِن بيننا، وفوَّتنا علينا تعهُّد ما غرسناه في البستان؟! لهفي على الرسالة، يلزمها المـَعين، ونقطع عنها - وهي طريَّة - هذا المـَعين!!!

ما كادت فاطمة تستوعب مرارة البوح حتَّى غاصت في نشيجها، فهبَّ الحسن يُطيِّب خاطرها ويُهدئ مِن ثورة كالحة في صدرها وهو يقول: إنَّ خلف الليل هذا - يا أُمِّي - هزيعاً آخر، لابدَّ أنْ تطيب شمسه فرمقه الحسين بعين سرحت منها نقطة دمٍ، وهرول صوب الليل وهو يقول: جَدِّي ينتظرني في باحة المسجد.

٣٨

- ٤ -

بالرغم مِن أنَّ المـُعتدَى عليه كان يسكت ويصبر على الضيم، علَّ الليل يأتي بصباح آخر طيِّب الشمس، كان المـُعتدي لا يقبل إلاَّ بالتحدِّي.

لم يدرِ أهل البيت في أيَّة ساعة مِن ذلك الليل، تسلَّل أُمويٌّ سفيانيٌّ إلى ساحة الدار، واقتلع منها شجرة الأراك التي كانت وحدها مَظلَّة النبي، وكانت وحدها ظِلاًّ يركن إليه صِبْية الحيِّ ليلعبوا مع الحسن والحسين، في كلِّ ضحوةٍ محمومة بلهيب الشمس، في تلك الليلة بالذات، كان أهل البيت متحلِّقين حول عميدهم عليٍّ، وهو يُطلعهم على تصرُّف الخليفة أبي بكر بحجزه ( نِحلة فَدَك ) عنهم، كأنَّه لا يُريد لهم أيَّة بحبوحة مِن رزق تعولهم في حشرة الشَّحِّ!!.

ما تحمَّلتها فاطمة عندما فتحت الباب مع الصباح، ولمحت شجرتها العفيفة مطروحة فوق التراب، لقد تلفَّعت بخِمارها وانسابت، كأنَّها قضيب مِن بانٍ معكوف عليه صولجان، لقد تعلَّق بذيلها - وهي تهرول - فتاها الحسين، لأنَّه عرف أنَّها تقصد المسجد.

لقد انتثرت - أمام مِن اغتصب المشيئة، واقتلع مِن الساحة شجرتها المـُظلَّة - ثورة مبحوحة الصوت، ما تردَّت أُنوثتها مِن قَدِّها النحيل، إلاَّ وتبدَّت بجبروتها مِن عُنفوانها الأصيل.

لقد أفهمته أنَّ الأُمَّة العظيمة، التي ينشرها أبوها لتكون هديَّة ومِثالا على صفحة الأرض، إنَّما هي صداه في جبروته المـُتلقط بالذمَّة الكريم الطاهرة البنَّاءة، وسألته: لماذا تُعطِّلون أنتم الذمَّة، وتطمرون الصدى في حفر الجحيم؟! إنَّ الشجرة للظلِّ - فهي الوارفة - وتدَّعون أنَّكم ما قطعتم الظِلَّ إذ اقتلعتم الشجرة!!!

وفَدك، أيُّها المـُتنعِّمون بخيرات الفيء - وهل كان الفيء غير ظِلٍّ مِن أظلالنا؟! ونحن الذين استقيناه مِن كوثر النعيم - فلماذا تحرموننا منه ونحن الذين أفضناه؟

٣٩

لقد أُفعم الجوُّ كلُّه في باحة المسجد، بنبرات صوتها التي لم تتمكَّن مِن تخليصها مِن الضعف والخفوت

أمَّا الحسين، فإنَّه راح يلتصق بها حتَّى لكأنَّه أصبح وتراً مشدوداً بعودها وهو يقول: طِبْت طِبْت يا أُمَّاه! لو تقدرين أنْ تجعلي صوتك عالياً كالهدير فيه!!! كمْ أُحبُّ الآن أنْ يسمعه أولئك الذين هُمْ نيام خلف جُدران هذا المسجد، ارفعي صوتك أكثر وأكثر - يا أُمِّي - علَّهم أيضاً، أولئك الذين هناك، يسمعون.

أمَّا الخليفة الذي بدا كأنَّه المـُنهار، فإنَّه اقترب من المرأة، وضمَّ الحسين إلى صدره وهو يُتمتم: كمْ كان النبي يُحبُّك يا بن علي، لقد رأيته مَرَّة يُعرِّيك ويزرع في جسمك القُبَل.

والتفت إليه الحسين بعينين فيهما طفولة عمرها أقلُّ مِن تِسع سنين، وفيهما بريق أدعج أحمر، كأنَّه مِن زفرة شمس.

- ٥ -

لقد شاهد الحسين أُمَّه كيف كانت تَنْعس نُعاساً باسماً، وهي تتأوَّد بفرح كأنَّه مُنتهى الغِبطة بين ذراعي الموت! لقد كان يفرك أصابع كفيِّها الباردة، وهو جاث بجنب فراشها الممدود فوق الحصير، كانت أسماء بنت عميس، لطيفة كالشعاع، وهي تُرطِّب شفتيها بمنديل مُبلَّل بماء الزهر، حتَّى تُخفِّف عنهما نشفة مَصَّت منها بهجة القرمز.

أمّا أبوه عليٌّ، فكان كأنَّه طود مسحوق القِمَّة، يزرع صحن الدار بخطوات تئنُّ مِن فَرط الوقار، هنالك الحسن وحده بقي في الزاوية راكعاً يُصلِّي، ثمَّ لا يعتم أنْ يتلَمْلَم على رؤوس أصابعه، ويتقدَّم حتَّى يرى إذا يتنفَّس الأمل وتعود الحياة إلى ثغر أُمِّه فيبتسم!!

وفتحت فاطمة عينين غارقتين بما يُشبه النُّعاس، ولكنَّه أعمق مِمَّا يُسمَّى بمرمى النظر، إنَّهما مِن مدى آخر، فيه شفافيَّة مِن فضاء، وقرار مِن رؤى، وسِمات مِن

٤٠

فرح وطمأنينة، كأنَّها كلَّها مِن جَنَّة موصوفة، لا تغتبط بمثلها إلاَّ الذات المؤمنة بفيض الحَقِّ، وفرح الثواب، وعدل القضاء.

لقد جالت بعينيها هاتين، في سقف البيت، ومسحت بهما كلَّ حيطانه، ووزَّعتهما على كلِّ المـُتنفسين حولها، وهُمْ بالحُزن والأسى غارقون، لقد حطَّت بهما على رفيقها في العُمر، وأبي ريحانتيها وريحانتي أبيها، فهبط عليٌّ إلى الأرض بين يديها، يشكرها على رهافة الرَّمق، وحطَّت بهما على الحسن فسحبتاه مِن عالَم الحُلم إلى عالم أبعد، ولكنَّه هبط أيضاً على رجليها يُكفكفهما وهو ينشج: ستكون لك العافية يا أُمِّي مع صباح الغَد ...

وحطَّت بهما على الحسين، فتململ وانجبل جُبَّلة أُخرى وهو يُكفكفها بعينيه الفائضتين بالدم، أمَّا هي فإنَّها شعرت بيقظة هبطت عليها مِن الزوايا الأربع، وهي مسحوبة مِن السماوات السبع، فارتعش تحت وطأتها جسمها بكلِّ أوصاله، ومالت برأسها صوب أسماء بنت عميس، وفاضت على شفتيها بسمة مفتونة، وما عرفت نعومتها شَفتان مِن شِفاه الناس، وراحت كأنَّها تُثغثِغ: لقد رطَّبت شفتيَّ يا أسماء فشكراً لك ثمَّ استطردت بثَغْثَغتها: أو تدرون بين يدي مَن أنا الآن؟؟؟ ما أطيبك يا أبي تستعجلني إليك!!!

ما كان الحسين يسمع شفتي أُمَّه تتهلَّلان، حتَّى رآى رأسها يهبط على وسادتها كما يهبط الجِفن النَّهلان على العين النَّهلى لتنام.

لم يصبر دقيقتين - ها هو في المسجد يُفتِّش عن أُمِّه في حِضن جَدِّه - سيجد فيما بعد أنَّ كلا الاثنين، مع أبيه وأخيه، وحتَّى أسماء بنت عُميس - ولو أنَّها الآن زوجة للخليفة أبي بكر - يَحيون فيه ويحيا فيهم، إنَّها مشيئة جَدِّه، وحِكمته في الوصيَّة - يا للرسالة! تجعله حِضناً لجميع الذين حضنوه - و يا للأُمَّة! لا تموت إلاَّ لتحيا في جوهر الرسالة

٤١

- ٦ -

وأيضا - فيما بعد تماماً بعد انقضاء ثلاث سنين - سيجد الحسين، أنَّ اليد التي قطعت مِن ساحة البيت شجرة الأراك، هي ذاتها التي عطَّلت فعل الإمامة، ومسختها إلى خلافة مُزوَّرة الإرادة ومجنونة اليقين، وها هي الآن إمارة الحكم تنتقل - باسم الرسالة - مِن أبي بكر إلى عمر بن الخطاب، دون أن يكون للذمَّة أيُّ وفاء في تعديل الأُمور وتخليصها مِن زَيغها، وإرجاع الحَقَّ إلى نصابه.

قد شرح الإمام علي - في تلك الليلة - أمام الحسن والحسين، كيفية انتهاء ولاية أبي بكر مع انتهاء أيَّام عمره فوق الأرض، وكيف أنَّه تَسلَّم الخلافة بموأزرةٍ مِن عمر، وكيف أنَّه قبل أن يموت - وقد شعر بقُرب الأجل - رَدَّ إلى عمر الخلافة، وذلك كان جميلاً مردوداً بجميلٍ، هو تماماً مثله ومِن نوعه.

إنَّ الحقيقة التي لمحها عليٌّ - بعد أنْ استخلصها مِن واقع البيئة وواقع الأمراض النفسيَّة التي كان يُعاني منها مُجتمع الجزيرة في ذلك العصر - كانت محصورة بواقع القبليَّة في تسابق كلِّ قبيلة إلى الحصول على المـَغنم، إنَّ في المـَغنم هذا تحقيقاً معيشيَّاً يؤمِّن القوَّة والنفوذ، على حساب مُطلق قبيلة أُخرى يجب جعلها - ما أمكن - أضعف مِن أنْ تنزل إلى ساحة سباق وزحام، لقد كان تحقيق الرسالة في المـُجتمع الجديد عكساً بعكس، وعلى طرفي نقيض، هنالك نظام قبلي يُفرِّط المـُجتمع ويوزِّعه على عدد القبائل، بعد أنْ يُسلِّم السلطة لشيخ، ويلغي قيمة الفرد، وهنا نظام يعتبر المـُجتمع كلَّه وحدة شاملة ومُتكاملة بكلِّ فردٍ فيه، أمَّا الجَني فهو الموزَّع بالعدل والمـُساواة، شرط أنْ يكون نتيجة عمل صادق وطاهر، أمَّا الذي يُحرَم، فهو الكسول الكذوب، أمَّا الإمامة العظيمة بشرفها، ونظافتها، واستقامتها، وعلمها البصير، فهي التي تسوس بالعدل والقسطاس، وهي التي تُفجِّر الخير مِن موارده الصادقة، وهي التي تحكم بظلٍّ مِن الله الذي هو حَقٌّ، وعدل، وعلم، وجمال.

ويُتابع علي الشرح: هذا هو مُختصر نظامهم، وهذا هو مُختصر نظامنا، ولقد طبَّقوه على الأرض مُنذ الآف السنين، فكانت النتيجة ألف قبيلة بألف مُجتمع فوق أرض

٤٢

واحدة، ولقد طبَّقناه نحن على الأرض، فكانت النتيجة ملايين الناس في قبيلة واحدة هي الأُمَّة جَمعاء، ما كان هناك عدد السنين بالأجيال إلاَّ غباراً وهَباء. أمَّا هنا: فعشر سنوات مُعذَّبة بالتشريد والهِجرة، كانت كافية لأنْ توحِّد أُمَّة راحت تسير نحو المـَجد.

لقد كنَّا نحن - مُنذ وجودنا في القديم - نُحاول أنْ نفعل، ولم نتمكَّن حتَّى رعرع الله فينا، ومَن صدَّقنا، مَن أثمر فيه الصدق والإرادة وعزم الروح، فتلقطت بناصيتنا ناصية الحَقِّ، وإذا مِنَّا النبي، وإذا بنا مُجادل السيف في ساحات الجهاد، وإذا بنا نحن تقوم الأُمَّة وتنهض مِن الغفلات السود. وها هي نحن، وها هي فينا نحن دون أنْ نسأل: هل نحن مِن عدنان، أم مِن قحطان، أم مِن قيس، أم مِن مضر؛ لأنَّ الأُمَّة كلَّها أصبحت مجموعة في وحدة النسب.

أمَّا الوصيَّة فهي التي حُصرت فينا نحن، ولا أعني الخطَّ الطويل الذي تنتهي بعدنان، بلْ الذي يحصرنا بأهل البيت الذي هو بيتنا، أيْ: بيت النبي لسبب واحد لا أكثر، وهو منع أيِّ نزاع سلطوي - سياسي - يُعيد الحقل إلى سككه الماضية البالية، التي لم تنبت في ما مضى لا زرعاً ولا ضرعاً. أمَّا الرسالة فهي التي تضبط الموازين، وترسم الصراط، وتحفظ البيت في خَطِّه النبويِّ العظيم، فاذا تبرَّأ هذا الخطُّ - لا سمح الله - في حين ما مِن الأحيان مِن عصمة، فإنَّ الروح النبويَّة ذاتها تلقطه مُتبرِّئا، وتردُّه مُنصاعاً إلى الحقيقة الباهرة التي صنعت في عشر سنين، ما لم تصنع جزءاً واحداً مثله عشرات الأجيال.

أمَّا عمر، فإنَّه لم يتقبَّلها وصيَّة تطرحها نبوَّة الأُمَّة، وعبقريَّة الأُمَّة التي فهمت وعرفت وأدركت كيف تنتفض الأُمَّة، وكيف تنجدل الأُمَّة، وكيف تتحقَّق وتتوحَّد الأُمَّة، وكيف تُصان وتبقى الأُمَّة مِن جيلٍ إلى جيلٍ، في وحدتها وتحقيق ذاتها الخالدة في الحياة.

لقد أراد عمر إرجاعها قبيليَّة تتفكَّك بها الأُمَّة رويداً رويداً، ولم يُرِدها رساليَّة بنت قضيَّة تنهض الأُمَّة بها دائماً مِن تراث إلى تراث. ولقد خاف إذا رزمها - أوَّلاً -

٤٣

إلى صدره، مِن اتِّهامه بالأنانية، فلصقها بالغير حتَّى تتبرَّأ مِن التُّهمَة وتنجح، وكان أبو بكر فصيلها الأوَّل في التجربة والسَّبر، وجَسِّ المفاصل والأنباض، حتَّى إذا انتهى الشيخ المـُسنُّ، وكان حَدُّه قريباً جِدَّاً مِن فتحة القبر، عادت إلى أميرها الولاية بحُكم الطبع.

هذا هو الرهان، وقد طاب الرهان وطاب القصد مع عمر، ألاَ تريان معي؟ أنت كبيرنا الآن يا حسن، وأنت صغيرنا الآخر يا حسين، وكلاكما مُتمِّم للآخر في ذِمَّتي وذِمَّة جَدِّكما الرسول. إنَّ تحليلي للواقع المـُرِّ هو في حقيقة الإصابة، وإنَّ الأُمَّة التي هي نحن في جميع تجاربها الماضية، وفي كلِّ تحقيقاتها الحاضرة، هي في مَهبٍّ آخر يُحاول أنْ يلفظنا ويُجرِّدنا مِن الحضور، بينما ستندك هي رجوعاً إلى الوراء، إلى ماضٍ كنَا جميعنا فيه الأذلاِّء الأذلاِّء!.

وتهيَّب الحسن الطرح، والسؤال، والجواب - فهو الذكيُّ المـَبنيُّ بالصدق والتهذيب - ولقد كان يبدو وعليه هدوء رائع المثال، وفِطنة مدهوكة بدهاء ولكنْ طيِّبة المـَعدن كانت تملحها بحَذر مُتأنٍّ، إلاَّ أنَّه حذر حكيم حليم، يفيض عليه التصبُّر ونعمة السماح، وكلُّها صفات يتأنَّق بها المـُسالمون في مُجتمع يُحاولون أنْ يبنوه بالتؤدة، والحُبِّ، والسماح، حتَّى يتخلَّص مِن الكراهيَّة، والحِقد، وبذر الضغائن، وتلك هي التربية الحكيمة، تأخذ مِن التصبُّر مداها، ومِن الوقت بساطاً تُقدِّم عليه المـُثل النظيفة، والقدوات المـُلقَّحة بالسماح، لقد كان - رويداً رويداً - يتأكَّد للحسن أنَّ مُجتمع جَدِّه في الجزيرة كان بحاجة إلى قسوة تلحمه إلى جَمع، وفي الوقت ذاته كان بحاجة إلى لينٍ وسماحٍ مُتعلِّقين بعَطف وغُفران، حتَّى لا ينقصف تحت الضرب على السِّندان، تماماً كما نهج جَدُّه عند فتحه مَكَّة. لقد كان الاجتياح وتحطيم الأصنام، وكان - بالمـُقابل - تقديم الحُبِّ والسَّماح والغُفران، لقد غفر للأعداء، وهم جميعهم أبناء عَمٍّ، لقد قال لهم قوله المشهور:( أنتم الطُّلقاء ) والتحمت الجزيرة كلُّها: سيف واحد يجمعها، وحُبٌّ كريم واحد يدفعها إلى الأمام، لقد تحفَّز الحسن وأجاب:

٤٤

الحسن: وهل لنا رأي يا أبي، ونحن لا نقدر أنْ نبنيه مِن غير الرجوع إليك في الرُّشد والسَّداد.

إلاَّ أنَّك تُحبُّ - دائماً - أنْ نحمل السيف ونلوِّح به أمامك، إنَّه نهجك الحكيم - يا أبي - تُدرِّبنا به على امتشاق الحُسام، وليكن لك ما تُريد.

أصبحت أرى معك أنَّ نيَّة سيِّئة تجمع ضِدَّنا هؤلاء القوم، وأنَّ المـُحرِّك المـُقتدر الذي يلعب بها لُعبةً ما كرةً هو رفيقك في الساحة وفي مَكَّة، أنَّ في ذلك وضوحاً لا يُشير إلاَّ إلى عمر بن الخطاب، ولقد تكشَّف لي الآن أنَّه مُقتدر في امتلاك الساحة التي يدخلها الآن بقوَّة الأمس، وأنا أعرف - الآن - تماماً أنَّ قوَّة الأمس هي كذَّابة، وقد علَّمها جَدِّي - وكنت ساعده الأيمن في الساحة - كيف عليها أنْ تَصدِق وتسقيم لتصير فاعلة بنَّاءة. مِن هنا آخذ موضوعي وأُقدِّم رأيي: ألا يُمكننا - وها نحن في هذا الواقع الجديد - أنْ تُعيد النظر - أنت بالذات - في بُنية ابن الخطاب النفسيَّة، وتُعيده إلى أنْ يتصالح مع نفسه، ومع حقيقة إسلامه، عندما كان بين يدي جَدِّي في حقيقة الحضور. أنا أرى - يا أبي - أنْ تُساعد الرجل وهو الآن في كرسي الإمارة، أليس هناك أمل كبير في إصلاحه عن طريق التغاضي والسماح، وتناسي الأسيَّة والأذيَّة، فيكون الإشراف هذا كبيراً في تساميه، ومُساعداً لإرجاع الذات إلى حقيقتها مِن النُّبل، والسير في سبيل الرَّشاد؟

أنا أُرجِّح - يا أبي - أنَّنا إذا تمكَّنا مِن تمريض الخليفة وإشفائه، نعود إلى حقيقة الوصول في تنفيذ كلِّ غايات جَدِّي مِن أجل هذه الأُمَّة التي وصفتها الآن: بأنَّها هي نحن في وسيع التداخل والتضامن، أليس بناء الأُمَّة في لُحمتها، ورصِّها، هو غايتنا

٤٥

وهدفنا وقضيَّتنا في الوجود الإنساني الكريم، الذي ستبقى تعمل الرسالة على تحقيقه؟

أمَّا الإمام، وقد تلألأت أساريره بفيض مِن الرضى، فإنَّه ابتسم وقال:

نِعمَّا أنت - يا أبني يا الحسن - أُتراني لا احترم رأيك، وألمح فيه سِماتٍ مِن ملامح جَدِّك في المجال؟ سأُنقِّح رأيك بعد أنْ نستمع إلى أخيك الحسين ألا تُريد أنْ تعود مِن شُرودك يا الحسين؟

فعلاً، لقد كان الحسين شارداً، خصوصا هو يُصغي إلى الطرح الكبير الذي قدَّمه أبوه، فكان إلماماً - وإنْ مُختصراً - بواقع الجزيرة، وبواقعهم هم فيها، مِن حيث دورهم في عمليَّة تثبيت الأُمَّة على أركانها المتينة، ومِن حيث إنَّ الارتداد عليهم ليس هو الاَّ كفرٌ بهم، وكفر بالقيمة السَنْيَّة التي تستحقُّ الثواب لا العقاب، ولقد زاد شروداً - بنوعٍ أخصّ - عندما راح يُصغي إلى رأي أخيه الحسن، داعياً إلى التصبُّر والتأنِّي، ومَصَّ جرح الكَفِّ حتَّى يندمل الجرح وتعود الكَفُّ فتستأنف مُجدَّداً امْتِشْاق الحُسام.

لقد كان للحسين مِزاج رهيف، يمزجه بأخيه الحسن مزجاً أنيقاً، ولكنَّ شعرة رفيقة كانت دائماً تتسَّحب بين المزاجين على صعوبة في لمحها، وعلى صعوبة - أيضاً - في اعتبارها خيطاً فاصلاً بين وحدتين، مِن هنا إنَّ الحسن والحسين، كانا جَنَّة في حساب الحُلم، يُكمِّل الواحد منهما الآخر: هنالك شمس تُدفِّيء الزرع، وهنا كوثر يروي الزرع، وبين حرارة الدِّفء وبرودة الري ينبثُّ النور ويسرع الإمراع.

لقد كانت الشعرة الفاصلة بين المزاجين تستعدُّ دائماً، لأنْ تُنمِّي في الحسن ثورة تتأنَّى وهي تتروَّض بالصبر والاحتمال، بينما كانت هنا في الحسين أكثر إلحاحاً، وأشدَّ تمسُّكاً بالعُنفوان، أمَّا العُنفوان فإنَّه كان مع الاثنين واحداً لا يتجزَّأ. إنَّ القضيَّة الواحدة هي التي كانت تلوِّن ثوبه: أبيض مع الحسن، أحمر مع الحسين الذي يلتمُّ الآن مِن شروده مُتَّجهاً نحو أبيه.

٤٦

الحسين: كلامك - يا أبي - هو الصحيح في التلميح، لقد تحسَّسته وأنا طفل أمرح مِن حِضن أُمي إلى حِضنك، إلى منكبي جَدِّي فوق منبر المسجد، لقد نقشتْ في نفسي الطفولة تلك نقشاً لا يُمكن أنْ أجد أعمق منه في وجودي وكياني!!! مَن هي أُمِّي؟! مَن هو أبي؟! مَن هو جَدِّي؟! لقد شرحت لي - وأنت تُلقمني لقمة العيش - أنَّا نحن أهل البيت، ما خُصِّصنا بالبيت إلاَّ لأنَّنا أهل البيت. إنَّني أشعر الآن أنَّنا نحن الأُمَّة التي سحبها جَدِّي مِن غفلة الأيَّام والسنين أنا لست صغيراً - يا أبي - وأنا في حدود تكاد لا تتجاوز بي الثلاثة عشر مِن سنوات العمر ...

إنِّي أشعر أنِّي مِن عمر الرسالة التي اختصر بها جَدِّي عمر الدهر في رحلة عبر الزمان، إنَّي اشعر - الآن وأنا مِن صُلبك في العتوِّ - أنَّي هزَّة مِن هزَّات العتوِّ، وأنِّي زهوة مِن زهوات العُنفوان لقد اهتزَّ كياني - يا أبي - عندما لمحت أنَّ شجرة الأراك مِن ساحة بيتنا قد اقتلعوها؛ لأنَّها ظِلُّنا في ضغط الهجيرة، ولقد التهبت بما لا أعرف كيف أُسمِّيه، عندما سمعت أُمِّي تُندِّد الخليفة أبا بكر؛ لأنَّه اقتلع مِن حَقِّنا ميراثنا في فَدك، ولا أعرف كيف أصف لك شعوري عندما أدركت أنَّ المدعوَّ صِدِّيقا، تَمكَّن مِن اختلاس إمارة هي لك في الرسالة، وفي القضيَّة وفي الوصيَّة، فأين أنت؟ وأين جَدِّي؟ مُمرَّغين بالعُقوق والعِصيان!!! وما كدت أسمع شرحك الآن، حتَّى تملَّكتني هزَّة كأنَّها ألقتنا جميعاً في وَهدة الاندحار!!!

أنا لم أشرد عنك يا أبي، كما وأنَّني لم أشرد عن تحسُّس صواب آخر أبداه أخي الحسن، كأنَّه ضِلع مِن ضِلوع تلك الأُمِّ المسكينة، وهي تشتري ابنها مِن قَبضتي لِصٍّ قد خطفه، إنَّها تدفع له ثمن اللصوصيَّة، لقاء استرجاع فلذتها إليها!!!

٤٧

هذا أنا يا أبي، في شعوري والتفافي بقضيَّة أُدافع عنها بأُسلوب مِن عُنفوان. أمَّا رأي أخي، ولا أظنُّك إلاَّ وتعطف عليه، فهو المـُصيب في الواقع الجريح! أمَّا رأيي، فلا أجرؤ - أبداً - أنْ أُبديه. جُلُّ ما أقول: إنَّ الأُمَّة بحاجة إلى دراية ولكنَّها لن تحيا بغير العُنفوان.

تناول علي ابنه الحسين، وطواه على أخيه الحسن، وهو يبكي، كأنَّه يوحي إلينا أنَّه يقول:

- سيكون للأُمَّة أنْ تنجح بكما - يا ابنيَّ ويا ابني محمد - إنْ لم يكن في الغَد، فبَعد الغَد إنَّ لساعة الحَقِّ - وإنْ طالت - قَرعاً تحبل به الثواني، وتتجلَّى به باحات العُمر إنَّ الدهر الكبير يلتفُّ بالصبر وإنَّ الصبر الكبير لا تضيق به الثواني.

- ٧ -

مِن مَحطَّة إلى مَحطَّة، هكذا يقطع الطريق، تكون المـَحطَّة الأُولى بداية نُزهة، ثمَّ تأتي الثانية فتتحوَّل إلى مشوارٍ. أمَّا الثالثة فإنَّها تُصبح شوطاً، لتأتي الرابعة وما سيليها، فتلبس النعل الثقيل، والسروال المـُدبَّغ بالغبار والوحول، ولا تعود تدري كيف تمشي، وأين هي مِن المسيرة، إنَّها الرحلة.

لقد كانت المحطَّة الأُولى مَحطَّة السقيفة، وذلك إذ ترك الرسول الكريم كلَّ المحطَّات التي مشاها على الأرض، بعد أنْ مسحها مِن لوثات الغبار، وأوصى الذين سيمشون بعده في رحلة العمر، أنْ يتوقُّوا إثارة الغِبار وهم يمشون فيعموا عن الطريق.

بالحقيقة المستورة كانت السقيفة مَحطَّة أُولى تَنزَّه بها القوم، لقد توقُّوا أنْ لا يُثيروا غِباراً؛ لهذا فإنَّهم مشوها في الليل، وتقريباً بلا كثير مِن قرقعة، وانتهت

٤٨

مع الصباح الباكر بتنصيب أبي بكر الصِّدِّيق خليفة على المسلمين - توَّاً - بعد التفاف محمد بالدثار الكبير.

أمَّا المـَحطَّة الثانية، فإنَّها ترتَّبت وتأنَّقت بعد أنْ لبست ثوبها وتدهَّنت بعطر شميم، إنَّها الآن أكثر مِن نُزهة بسيطة، إنَّها مشوار. أمَّا المشوار هذا، فإنَّه تميَّز بقافلة كبيرة تألَّفت مِن فُرسان وخيول، وسيوف وهوداج، لقد كان على القافلة أنْ تقوم بمراسيم نقل إمارة مِن قصرٍ إلى قصرٍ، إنَّ الأمير هنا مُشرف على الموت، سيكون انتقال إمارته إلى الآخر، قبل أنْ يُغمض عينيه، وهكذا حصل، لقد نقلت القافلة المـُعدَّة خصِّيصاً لهذا المشوار، إمارةً، هي بين يدي أبي بكر، إلى شيخٍ آخر اسمه عمر بن الخطاب، أمَّا الغبار فإنَّه لم يكن أقلَّ مِن مُستوى المشوار.

أمَّا المـَحطَّة الثالثة التي تيمَّم إليها القوم، وحَبل بها المشوار، وجاءها المخاض فأولدها شوطاً، فإنَّها هي التي مشاها الخليفة أمير المؤمنين - عمر بن الخطاب - لقد بقي يمشي عشر سنين في شوطه الوسيع، حتَّى زحمه مِن الخَلف، عِلجٌ - حَسْبَما كان عمر يُلبسه الثوب - فارسيُّ الانتماء اسمه ( أبو لؤلؤة ) بضربة خَنْجر، مزَّقت سِرَّته، واستقرَّت طائشة في حبال أمعائه.

بالحقيقة، إنَّ السبب كان ابن وتَيرة جَنَّ بها أبو لؤلؤة، نحر الأمير بها ثمَّ انتحر، وتلك كانت المـَحطَّة الأخيرة للرجلين القتيلين، بمُدْيَة واحدة في اجتيازهما رحلة العمر.

إنَّ المحطَّة الثالثة هذه، كانت شوطاً كبيراً مِن الأشواط التي بقيت تمشي يساراً يساراً إلى أنْ ارتطمت بذاتها، فوقعت أرضاً وشجَّت رأسها حتَّى الدماغ، وراحت تُعصِّبه بما لا يردُّه إلى وعيه، لقد تألَّفت العُصبة المـُعدَّة للفِّ الرأس المشجوج مِن قماشة مَحبوكة بستَّة أشرطة تُسمَّى: ( مجلس الشورى ).

إنَّ الحسن - وهو الآن في غمرة مِن العمر تقفز به بضِع خُطوات عن العشرين - في جلسة حميمة مع أبيه عليٍّ، وأخيه الحسين، يستعرضون مليَّاً واقع

٤٩

الحَدَث الجديد، الذي راحت تتفقَّه به الأُمَّة بعد مرور عشر سنين عليها بين يدي ابن الخطاب الذي راح - بدوره - يعرض الحساب بين يدي النبي، الذي أوصاه قبل أنْ يرحل: أنْ يصون الذِّمَّة ويتعهَّد الأُمَّة مع المـُتعهِّدين، ويُنجِّي الطريق مِن زحمة الغبار، وأنْ يضبط الشوط ويجعله رحلة العُمر، مِن أجل مَجيد إلى أمجد، وعندئذ يُمكن القول: جَلَّ الله وصدق وعده.

- ٨ -

لقد كان العرض طويلاً في هذه الليلة، لقد انتهى مع الصباح الباكر على صدى جديد، كان يتردَّد هنا وهناك، كأنَّه قهقهات عفاريت أفلتت مِن القماقم المضغوطة تحت أقدام الجِنِّ، يا للقبليَّة! ترقص الآن تميميَّة - حربيَّة - أُمويَّة - سُفيانيَّة - في الساحة الأَسوديَّة، العَنسيَّة، الشقيَّة، السطيحيَّة، ( نسبة إلى بني تميم وبني حرب الأُمويِّين السُّفيانيِّين، ونسبة - أيضا - إلى مُدَّعي النبوَّة الكاذبة الأسود العنسي، وألى العرافين شِق وسَطيح اللذين اختلقهما خيال العرب، وكان الأوَّل إنساناً مَمسوخاً بشِقٍّ واحدٍ والثاني بلا هيكلٍ عظميٍّ يشتدُّ به )، وهي تحرب الصدى:

أميرنا الجديد هو عثمان بن عفَّان ...

ذلك كان موضوع العرض الذي بسطه الإمام عليٍّ أمام الحسن والحسين، إنَّه شرح مُستفيض لمعنى ( مجلس الشورى ) الذي ابتكره عمر بن الخطاب عندما شعر بدنوِّ أجله، وكانت نتيجته تنصيب عثمان بن عفَّان خليفة على المسلمين.

ليست الأحداث اليوم بعيدة عن مفهوم الحسنين، فكلاهما يزينهما نضجٌ باكر إضافة إلى نضجِ العُمر، على فارق بسيط بينهما في السِّنِّ يدور بهما حول الخامسة والعشرين. إنَّ الحسن بالذات كان عضواً في مجلس الشورى بصفة مُراقب لا أكثر. أمَّا المجلس فكان مؤلَّفاً مِن سِتَّة فاعلين هُمْ: طلحة، الزبير، ابن عوف، ابن أبي وقَّاص، ابن عفَّان، ابن أبي طالب.

أمَّا القصد مِن التبسُّط أمام الحسن والحسين، فذلك كان - أبداً - مِن الإمام عليٍّ

٥٠

مع ولديه الإمامين؛ تمتيناً لثقافتيهما في تعميق الفَهم وجَلوته عن طريق المـُشاركة في الرأي، والإفاضة في التعمُّق والإدراك، والتحسُّب في مُعالجة القضايا المصيريَّة الذاتيَّة مِن جهة، والاجتماعيَّة المـُهمة مِن جِهة أُخرى، لقد كان الإمام بصيراً أمام حقيقة ذاته، وأمام الحقيقة الأُخرى التي هي قيمة وجوديَّة تتمنطق بها ذات الانسان.

أمَّا مجلس الشورى الذي ابتكره عمر، فإنَّه لا يتطلَّب شيئاً يذكر مِن العَناء، إنَّه ليس دستوراً مُعزَّزاً ببنود، فهو نظام بِدائي صِبياني الترتيب، هزلي الإخراج، لا ابتكار فيه ولا بُعد نظر، إنَّه مؤلَّف مِن ستَّة، معروضين عرضاً رخيصاً على كرسيِّ الخلافة، دون أنْ يسبقهم أيَّ تقديم مقصودٍ أو مجَّانيٍّ، لا عن الكرسيِّ ذاته المؤهَّل للجلوس فيه، وكيف يجب أنْ تكون قوائمه أو قاعدته، أو لونه ودهانه ولا عن المـُعدِّين لاعتلائه، بأيِّ صفات عليهم أنْ يكونوا مُتحلِّين، جُلُّ ما في الأمر، أنَّ على المـَجلس أنْ يجمعهم للتشاور في ما بينهم: أيُّهم هو المـُستحقُّ أنْ يضع رجليه على الدرجات الموصِلة إلى المركز السَّنِي.

هنالك مُقرَّر واحد موجود معهم، وهو مِن ضمنهم مرشَّح للوصول، كأنَّه مَلِك مِن حِجارة الشطرنج، يُمكنه - إذا أراد أنْ يقفز ويتربَّع في الخانة التي يُريد - هذا إذا صدقت العزيمة -، ويُمكنه أيضاً أنْ يستنيب عنه مَن يرتئي، فيُحلَّه في المركز المقصود. لقد كان كلُّ هذا مربوطاً بهوى عبد الرحمان بن عوف: فهو المـُدير، والموجِّه والمـُقرِّر حَسْبَما جاء في النظام:

( إذا اتَّفق خمسة وأبى واحد فاضربوا عُنقه، وإنْ اتَّفق أربعة وأبى اثنان فاضربوا عُنقيهما، وإنْ اتَّفق ثلاثة منهم على رجل ورضي منهم ثلاثة على رجل آخر، فكونوا مع الذين فهيم عبد الرحمان بن عوف، واقتلوا الباقين إنْ رغبوا عمَّا { اجتمعوا } عليه الناس ).

ذلك هو النظام العامُّ المعمول به، أمَّا عبد الرحمان بن عوف، فكان مزوَّدا بقوَّة

٥١

تنفيذيَّة مؤلَّفة مِن فرقة عسكريَّة خمسينيَّة العدد، يرأسها أبو طلحة الأنصاري، ينتظر تنفيذ الأوامر التي يوجِّهها إليه عبد الرحمان بن عوف، فيتناول رأس العاصي مِن هؤلاء المـُرشَّحين الأجِلاَّء ويحذفه مِن الوجود.

هذا هو مجلس الشورى ونظامه الميداني، والذي ما كان له مِن الوقت حتَّى يقرِّر أبعد مِن ثلاثة أيَّام فقط، بعد ثلاثة أيَّام يلفظ الحُكم الرهيب عبد الرحمان بن عوف، فتُزلزل الأرض زلزالها على رؤوس المـُرشَّحين الذين لم يتمكَّنوا مِن أنْ يُتمُّوا الفريضة!!!.

ولكنَّ الشمس ما انكسفت كسوفها مع طلوع الصبح الرابع، وها هو نجم عثمان بن عفَّان يبرز كالشمس فوق سماء كرسيِّ الخلافة، ونجا الأربعة الآخرون مِن سيف المقصلة؛ لأنَّ ابن عوف أجبرهم - كما أجبر نفسه - بالمـُبايعة، وأشرقت شمس جديدة على عالم الإسلام.

لقد تبسَّط الإمام علي بالشرح، حلّل واقع الجلسة التي راح يهزأ منها مثلما كانت هي تهزأ به، وهو سادس مطروح فيها كأنَّه - أيضاً - جنديٌّ بسيط مِن حِجارة الشطرنج، ولكنَّ الجلسة السُّداسيَّة لم تكن أقلَّ مِن مهزأة، إذ كيف يُمكن أنْ تضمَّ قاعة ما، سِتَّة مُرشَّحين حتَّى يتشاوروا - في ما بينهم - أيُّهم الأصلح؟ وكلُّ واحد منهم هو المعدود في عين نفسه - على الأقلِّ - نِعْمَ الفتى؟ إمَّا أنْ يكون الحَكَم والمـُدبِّر، والموجِّه هو المـُرجِّح والمـُقرِّر، فلماذا وجعة الرأس؟ أليس هو الأصلح في حُجَّة المنطق؟!

ولكنَّ اللُّعبة الصبيانيَّة الهوى ما كانت بنتاً لعمر، أكثر مِمَّا كانت عانساً يُحاول أبوها أنْ يزفَّها عروساً لشيخ مِن شيوخ القبيلة، أمَّا المدعوُّون إلى حَفلة العِرس، فإنَّهم الرأي العامُّ الذي لا يروق له أنْ يفتح رِئتيه إلاَّ لغِبار يُثار مِن تحت نعليه.

وتدخَّل الإمام إلى شرح أساس الشورى بمعناها الوسيع وواقعها الحضاري، إنَّها تليق بمُجتمع راقٍ له مِن العلم والفَهم، ما يجعله مُفتِّشاً دائماً عن الحقيقة

٥٢

والصواب، فالمجلس الاستشاري - والحالة هذه - هو في استدعاء أقطاب مُمثِّلين لذلك المـُجتمع، لاستشارتهم في استخراج آرائهم مِن واقعهم الاحتكاكي بكلِّ التيَّارات المعيشيَّة الحياتيَّة، التي تتناول شؤونهم اليوميَّة والمـُستمرَّة بهم مِن يومٍ إلى يومٍ، إلى كلِّ يوم آخر يكون منه جَلاء حقِّهم في العيش، والحياة والاستمرار في الوجود المـُجتمعي الإنسانيِّ الكريم. ستكون حُرِّيَّة الرأي، وحُرِّيَّة إبدائه، مُزدانة بالعلم، والفهم والمعرفة، شرطاً أساسياً موفوراً للجميع، وسيكون - بالحقيقة - مجلس الأُمَّة جمعاء، ومؤلَّفاً مِن نُخبة تشمل المـُجتمع في التمثيل، ولن يكون مؤلَّفاً من سِتَّة أنفار فقط، بلْ مِن النسبة العدديَّة بالمآت، وعندئذ يكون تقرير المصير بانتخاب وليٍّ يُشرف على إدارة الحُكم والتوجيه في مَحلٍّ مِن الوضوح والإيجاب.

مِن هنا، إنَّ المـُجتمع الذي راح يدرج إلى مثل هذه السويَّة بين يدي نبيِّهم الخلاَّق، ما كان له أنْ يزحف هذا الزحف المـُبارك إلى مثل هذه النعمة التي لا يُحقِّقها ويوسِّعها الاَّ المِران والوقت، وغزارة العلم والمعرفة، في ظِلِّ وحدة قاسية الإحاطة، مُبعَّدة عن كلِّ ما يُحرِّك فيها جيشاناً يردُّها إلى المهاوي التي كانت تتلقَّفها في الأمس الدابر، مِن حَرَّةٍ إلى حَرَّة، ومِن حُفرة إلى حُفرة، وكلُّها كانت بين يدي قبليَّاتها العقيمة، جديرة بالوأد.

إنَّ استدعاء الأُمَّة إلى جلسات استشاريَّة مِن النوع المـُنوَّه عنه، سيتحقَّق في مُجتمع الجزيرة بعد أنْ ترتفع سويَّته إلى مثل هذا المجال، وعندئذ فإنَّ الإمامة التي راح يُهيِّؤها لها النبي الكريم البعيد النظر، لقطع مراحل وافية مِن العُمر، وبمَثابة إعدادٍ واقٍ لها مِن العِثار، تُصبِح تلقائيَّاً ثقافتها العامَّة الموحَّدة، وتلك - لعمري - تكون اندماجيَّة سويَّة بسويَّة، بقيت تُجمَّع وتوحِّد الأُمَّة، إلى أنْ بلغت بها درجة تجعلها رائدة وموجَّهة لأُمَم الأرض، وتلك هي الأُمَّة المـُتطوَّرة - عندئذ - في حساب النبي الكريم، الذي أعلن أنَّه سيُباهي بها أُمَم الأرض.

لست أرى - أردف الإمام - أنَّ عمر بن الخطاب كان يفهم كيف يُعالج الأُمَّة

٥٣

لتكون في مُستوى الريادة، لقد أوصلنا الرسالة إلى جارتنا فارس، وكنَّا فخورين بأنَّنا صدَّرنا رسالة تُعزِّز الإنسان وتحميه - بالإيمان الصافي - مِن كُفر الإنسان، لتكون جارتنا معنا في ميزان مُعادلة مِن الاحترام المـُتبادل، تحمينا ونحميها في واقع الجيرة، وفي حقيقة البناء والإيجاب، ولكنَّنا لم نُصدِّر رسالة تُعتبر الفارسيَّ أبا لؤلؤة عِلجاً مِن العُلوج، فإذا كانت الطعنة مزَّقت أمعاءه؛ فلأنَّه هو بالذات قد سلَّمه المـَدْية التي طعنه بها، وهي ذاتها التي سلَّح بها أبا طلحة، ليُعلِّمنا - هذا - أنَّ وصول خليفة النبي إلى السياسة والإدارة، لا يتمُّ إلاَّ بضرب الأعناق بأمر يخرج مِن بين شَفتي عبد الرحمان بن عوف.

أمَّا الآن، فإنَّ الأُمّة هي في أشدِّ الحاجة إلى مجلس استشاريٍّ موحَّد، لقد عيَّنه وحده صاحب المشيئة، دونما حاجة مُطلقاً إلى استشارة شيوخ قبائل الأمس، وإلاَّ فإنَّ الغِبار سيخنق الجوَّ، ويشلُّ العيون إلاَّ مِن حَكِّها وهي في عُماها الأحمر.

لم يكن المجلس الاستشاري هذا بحاجة إلاَّ إلى عمر بن الخطاب يدسُّ في الكرسي أبا بكر، ولا إلى أبي بكر يعود فيطويها على وِرْكَي عمر، ولا إلى عمر ( يتصبيَن ) بها في حِضن ابن عوف، ولا إلى ابن عوف يَعيف نفسه منها ليهبها - كأنَّها بقرة حلوب - لعثمان بن عفَّان، فيُمسكها هذا بقَرنيها ليتعلَّق بأثدائها يميناً وشمالاً ومِن الخَلف مروان بن الحَكم، وعمرو بن العاص، وآخر هو أدهى الدُّهاة في عمليَّة الحَلْب والصَّرِّ، اسمه - فقط - مُعاوية.

أمَّا الأُقنوم الواحد، فهو الذي عرض اللُّعبة عليه عبد الرحمان بن عوف، وهو يطرح الخلافة عليه والمشروطة:

( العمل بموجب كتاب الله، وسنَّة نبيِّه، وبموجب كلِّ تشريع سَنَّه الشيخان: أبو بكر وعمر ).

لقد تعب الإمام علي وهو يشرح، لقد انتبه عندما سكت، أنَّ أحداً مِن ابنيه لم

٥٤

يعترضه، لا بسؤال، ولا بتعليق، ولا بأيٍّ نَفَسٍ؛ فاستفهم بعينيه، وفهم الحسن القصد فأسرع وقال:

كنت معك، هنالك في الجلسة الملعب، وهنا في الشرح الأشهب، لم تفتني حاشية واحدة مِن حواشي المـَهزلة، لكنِّي أُدرك - الآن - أنَّنا لم نتوفَّق أبداً بَعْدُ في توسيع رئتي أُمَّتنا، حتَّى تعرف كيف تتنفَّس، لهذا كان التمثيل عليها هو في مفعوله الجاري!.

أَحبُّ إليَّ الآن أنْ أتمنَّى عليك - يا أبي - أنْ تبقى مُعتكفاً في بُرجك الكبير، أليست لك الساعة التي يرغب هؤلاء القوم أنْ تصمت؟! وهي التي لن تصمت.

وقال الحسين، وفي صوته أنَّة مِن جَزعٍ:

وأنا - يا أبي - أرى أخي الحسن مُصيباً في تشبيهه أُمَّة جَدِّي بالرئة التي لم تتوسَّع بَعْدُ للتنفُّس، هذا صحيح لو أنَّ رِئتها أصبحت أوسع، فهل كان لابن عوف أنْ يُقرِّر. ولأبي طلحة أنْ يُبيِّضَ؟!

سيكون لنا - يا أبي - أنْ يَبْيضُّ السيف بيدنا - سيفنا نحن - في سبيل أنْ نوسِّع رِئة الأُمَّة، التي هي أُمَّة جَدِّي!!!.

يا للرسالة! يدَّعي صيانتها ابن عفَّان، وابن عوف، أبو طلحة!!! ليت لي سِتَّة أعناق أُفجرِّها أوردة في سبيل استرداد شَجرة الأراك، التي كان يتظلَّل بها جَدِّي وأبي، وأُمِّي وأخي الحسن، وأنا - الحسين -!!!.

٥٥

ما قلَّ تخوُّف الإمام عليٍّ مِن وصول الحُكم إلى عثمان بن عفَّان، ولقد تكشَّف لأهل البيت سوء النيَّة التي عالج بها عمر بن الخطاب قضيَّة الخلافة. لم تكن التقوى، ولا الغيرة على الرسالة، هما الدافعتاه إلى الاهتمام بأُمور المسلمين، ولكنَّه تسربل بهما ومشى قُدَّاماً - كما يتبيَّن لنا مِن التحليلات السابقة - إلى التطبيق، وكانت الخلافة الأُولى لأبي بكر، ورُدَّت إليه في الثانية، حتَّى كانت الثالثة هذه في إيصالها إلى عثمان، فتكشَّفت بها المـُخطَّطات عن المقاصد الموجَّهة بأحكام ضِدِّ أهل البيت، في إبعادهم عن الحُكم وامتهانهم، وإضعاف مركزهم الاجتماعيِّ وتذليلهم ما أمكن، حتَّى إذا تكون إبادتهم مُمكنة، فلا تحرُّج مِن ذلك. إنَّنا نعلم، والتاريخ أيضاً يعلم، كمْ هي مُجرمة حزازات تلك الأيَّام، التي كان الإسلام جاهداً في تخليص المـُجتمع من همجيَّتها، لقد كانت هنالك المـُنافسات الحاقدة، لا تتورَّع عن مَدِّ الأيدي إلى صدر المـَغدور ونشل الكبد منه، ونهشها بالأسنان!!! إنَّها مشهورة في التاريخ تلك المرأة، وما أنف التخلُّص مٍن ذكر اسمها، إنَّها آكلة الأكباد!!!.

ها هو عثمان بن عفَّان لا يتلابق مثل عمر، ولا يقدر مثله أن يتداهى، بلْ إنَّه يذهب رأساً إلى الغرض المقصود والمدروس والمدسوس: هل يجوز أنْ يكون في الحُكم، أو في أيِّ مركز مرموق مِن وظائف الدولة، رجل طالبيٌّ، أو أيٌّ مِمَّن يمتُّ بصِلَة إليهم؟! لا بلْ فليُضطهد الرجل أوْ فليُنكَّل به، أو فليذوَّب في حرارة الشمس، أو فليُنفَ إلى الربذة، كما فُعِل بأبي ذر الغفاري، وبغيره مِن الأعلام والأبرار! هنالك تنتهي قضيَّة المـَنفيِّ، إنْ لم يكن بقساوة الحِرمان، فبرَداءة شمس المكان.

ما كانت خلافة عثمان بن عفَّان إلاَّ حُكما إرهابيَّاً جائراً ومُعالجَاً بدقَّة وقصد، إنَّه التمهيد الفنِّي الكبير الموصل الأمويِّين إلى هذه الدسوت: دَسْت القوَّة والمـَناعة، دَسْت الغنى والنفوذ، دَسْت السياسة والتسلُّط، دَسْت الخلافة والتبرُّج بها لتكون لُعبة مِن لُعب المـُلوك.

٥٦

لم يكن عثمان بَيْدَقها، إنَّ عمر بن الخطاب هو الذي زرعه بَيْدَقاً في لُعبة الشطرنج فيها، لقد كان يعرف ماذا يزرع وكيف يزرع، ألم يكن أبو بكر بَيْدَقاً أجلسه عمر على كرسي، ثمَّ مضى يوشوش الكرسي بأنَّه أتقى مَن يغار عليها، فصدَّقته واستسلمت إليه بقوائمها الأربع؟ وابتدأ العمل الصامت، إنَّ القبائل التي يجب أنْ تزرع هي التي ستدرُّ عناقيد الرطب.

إنَّ أوَّل فسيلة غرسها بعناية في أرض خَصبة التربة والمناخ، كانت مُعاوية وفي أرض الشام، إنَّ ابن سُفيان - عدوُّ الإسلام في البارحة وفي الأمس الطويل عدوُّ الطالبيِّين الذين منهم الأمين محمد ثمَّ النبي محمد - هو السفياني الأمثل والأعند، هو الذي - إذا يمتن عوده ويخشن - يتمكَّن مِن دحر عتوِّ كلِّ طالبيٍّ وسع صدره نبيُّهم الأوحد!

أجل، سيكون علي مِن أهل البيت، ولكنَّ مُعاوية هو الذي سيجعله داخل البيت لا خارج البيت، يصول بالنبوَّة ويجول.

إنَّه الحقد القبائلي مزروعة كلُّ فسائله في طويَّة ابن الخطَّاب المـُقتدر، الذي يعرف كيف يُعالج - بصمت ودهاء - كلَّ جِبلَّة مِن جِبلاَّت التراب، وكيف ينفخ فيها مِن روحه حتَّى تستوي حِقداً يحذف به عليَّاً مِن أركان البيت النبوي.

أمَّا عثمان بن عفَّان، فعمر هو الذي نفخ إليه بصمت بالغ الفنِّ، بأنْ يُسرع في تعهُّد النخلة المزروعة في أرض الشام، والتي ستدرُّ الكثير مِن الرطب، إنَّ عمرها مِن عمر الجدود، ولقد كان يتظلَّل بها: حرب، وأُميَّة، وأبو سفيان، ويأكلون كلَّ بُسرَة منها قبل أنْ تنضج؛ حتَّى لا يمدُّ يداً إليها - ناضجة - أحد مِن أبناء عمرو العُلا، إنَّها هي المنقولة بحُرص إلى أرض الشام، مُنذ عشر سنين، إنَّ اسمها الآن مُعاوية.

تلك هي القِصَّة المكيدة التي أدرك كلَّ أبعادها وخفاياها الإمام عليٍّ، والتي كانت تزرع في باله تخوُّفا بالغ الخطورة على مصيرهم بصفتهم أهل البيت،

٥٧

وباعتبارهم رُكناً أساساً في تقديم رسالة جليلة القَدر توازي - بحَجم قيمتها ونهجها وتحقيقها - حَجم المـُجتمع الذي راح يتلمَّس حدوده الجغرافيَّة - الأرضيَّة المكانيَّة - التاريخيَّة، التي كان يتمدَّد إليها بقبائله النابتة منه، والهائمة الفائضة، مُنذ السَّحق مِن الزمان - مِن كلِّ هذه المفاوز والفَدافد، إلى ضفاف النيل، وروافد السخيِّين دجلة والفرات، وإلى حِضن الطريِّ المـُندَّاة به غوطة الشام، يسقيها - كُوباً كُوباً - كوثر مِن بَرَدَى هؤلاء كانوا فيضاً من هذه الجزيرة المـُباركة الحِضن والنِّهد. لقد توزَّع - مِن عادهم وثمودهم، وقحطانهم وعدنانهم، ويمنيِّهم وقيسيِّهم - كلُّ مَن سُمي: كلدانيَّاً، وآشوريَّاً، وآراميَّاً، وأموريَّاً، وبابليَّاً، وفينيقيَّاً كنعانيَّاً ها هي الرسالة الآن تلحمهم بعضاً ببعض، مِن وادي مصر، إلى البصرة والكوفة النابضتين بالعراقين، إلى دمشق، وحَلَب، وحَمص، وحماه، والشاطئ المخصب باللاذقيَّة، إلى جبيل، وبيروت، وصور، وصيدا والأور المـُقدَّس الماء، والجو، والتبر التراب. إنَّها كلَّها الآن في التحام واحد بين يدي الرسالة التي ضمَّخت الأُمَّة بمشيئتها الباهرة، وحطَّمت كلَّ صنميَّاتها، أ كانت نصباً في سِدانات الكعبة، أم حِجارة أثافي حول المضارب والخيام، أم غزوات ونخوات قبائليَّة عتيقة تنفَّست بها الصراعات والنزاعات حول المساقي والمراعي، إنَّها هي الرسالة التي جمعت الأُمَّة، ونجَّتها مِن تخرُّقاتها، ومُبايعاتها، والتفافاتها بأزلامها، وأقداحها، وعرَّافاتها، وكهاناتها، وجميع ترَّهاتها.

إنَّ الخلافة العمريَّة هي التي ستفكِّك الأُمَّة، باتِّباعها نهجاً تصدَّت له الرسالة، مُنذ لملمت المـُجتمع ونظَّفته مِن قبليَّاته الذميمة. إنَّه النهج الذي اشتغل صامتاً مِن أجل تحقيق غرض أثيم، هو تحطيم البيت النبويِّ وتثبيت البيت الأُمويّ. إنَّه النهج الرجوع إلى الصراع القبلي، وتعزيز الواحدة بإنهاك الأُخرى، ورميها تحت السنابك. إنَّه النهج الذي يشحذ الحقد ويتسلَّح به حتَّى البلوغ، وهذا ما تنكَّر له البيت النبويِّ، إذ مَدَّ يد المـُصافحة للعدوِّ اللدود بعد أنْ دخل مَكَّة بزندٍ مُنتصر، وحطَّم الصنم وعزَّز بالسماح المحبَّة، ربط الإنسان بالإنسان.

٥٨

لم يكن عجباً أنْ يرفض الإمام عليٍّ خلافة مربوطة بهذا الشرط: ( العمل أوَّلاً بسُنَّة الرسول، وثانياً بنهج الشيخين )، إنَّ البيت كلَّه هو سُنَّة الرسول، أمَّا نهج الشيخين فإنَّه قائم على تحقيق رعونة القبليَّة، وليس فيها مِن قصد غير تشديد بني أُميَّة لتحطيم أهل البيت، وبالتالي تحطيم الرسالة التي هي الآن - في المنظار الأكبر - الأُمَّة المـُنطلقة إلى تمجيد ذاتها بكلِّ حدودها المـُجتمعيَّة - التاريخيَّة - الإنسانيَّة العظيمة.

ولم يكن قبول الإمام علي باعتباره سادساً في المجلس الاستشاري، إلاَّ ليتسنَّى له عن كَثب مُشاهدة توزيع الأدوار في المهزلة التي ابتدأت، تمثيلاً بأبي بكر، وستنتهي - حتماً - بابن عفَّان، أمَّا رفضه القَبول بالخلافة - فإنَّه تمثيليٌّ أيضاً - لأنَّه المـُتوقِّع المـُبصر أنَّ طبخة عمر ما كان لها أبداً أنْ تُقبَل، فتُنزَّل في قِدرٍ مِن قُدور بني طالب!!!.

يبقى وحده التخوُّف على الأُمَّة، علَّ الرسالة تبقى تُكفكفها وتُنجيها مِن عثمانيَّة تصنع قميصها وتمشي به مِن المدينة إلى الشام كأن مشيتها نُزْهَة، بينما كانت مشواراً طويلاً أفسد الرحلة، وقطَّع الخيطان في المـُكوَّك الذي رغب النبيُّ الكريم بتسليمه لأهل البيت، حتَّى يضبطوا به حياكة قُمصان الأُمَّة لتزدان بها في كلُّ عيدٍ.

- ١٠ -

إنَّ هذا الحديث الذي مررنا به في المقطع السابق، كان يَعرضه الإمام عليٍّ على الحسن والحسين، وهو مُغمَض العينين كسيف الخاطر، بعد أنْ هاجت الثورة على الخليفة عثمان، واقتحمت داره، ومزَّقت ضلوعه، وقطَّعت أصابع كفِّ زوجته نائلة، وهي تُدافع عنه مِن ضربة السيف، وعرَّت صدره مِن القميص الذي صُبغ بدمه، وطار به بشير بن النعمان ليعرضه - وأصابع المرأة ملفوفة به - على مُعاوية في الشام، ليعرف كيف يتدبَّر الأخذ بالثار.

٥٩

بالحقيقة، إنَّ الفترة الزمنيَّة التي قضاها عثمان في الحُكم، والتي لم تقلَّ عن اثنتي عشرة سنة، كانت غَنيَّة في مردودها لم يكن ذلك في مُساهمة عثمان بجمع آيات القرآن احتراصاً مِن ألاَّ تتناولها أيدي الضياع أو النسيان، لقد قُدِّر له العمل بالرغم مِن أنَّ الحِرص هذا كان أولى به الاهتمام، بترسيخ المعاني المـُنزَّلة في النفوس، حتَّى تستمرَّ صامدة في بُنيتها المـُعفَّفة، وعندئذ فإنَّ التسجيل الباهر هو الظاهر كالشمس، التي لا تحتاج إلى تسجيل يضبطها مِن النسيان. ولكنَّ تسجيل آيات القرآن وسِجنها في قوالب الحروف، مِن دون تخزينها فاعلةً في نفسه - كوكيل مؤتمَن على صيانتها ودفعها، حقَّاً تُقى، وعدلاً ونوراً للمـُجتمع الذي لا يشتاق إلاَّ الى الحَقِّ والتُّقى والعدل والنور - هو الذي كان ضياعا ابشع من النسيان.

مِن هنا كان مردود هذه السنوات العثمانيَّة كريماً في تحريك ثورة - وإنْ بحَجم زهيد وضئيل - رفضت استهانة عثمان بالرسالة التي هي بين يديه، وهو يُسجِّلها في الحرف بدون أنْ يقرأ لمحة واحدة مِن معانيها المـُنيرة. لقد قالت له الثورة الضئيلة: حجمك - يا عثمان - ضئيل في الحُكم، لهذا ننقم عليك، لقد رأيناك تلبس عشرة سراويل، ولمـَّا رحنا نُفتِّش على أيِّ نول حِكْتها، وجدنا حول بيتك عشرة عراة يسألون عمَّن سرق سراويلهم، لهذا ننقم عليك، ولقد وجدناك تتنزَّه مِن قصرٍ إلى قصر مِن بيوتك العامرة، ولمـَّا سألناك مَن بناها لك؟ وجدنا المئات مِن المساكين حول دورك، كلُّ واحدٍ يتوسَّل وهو يقول: لست أدري - يا عثمان - كيف اقتُلع كوخي؟ فهل مِن سبيل أنْ تردَّ لي كوخي؟ ولأنَّك لم ترِدْ أنْ تفهم معنى الطلب نقمنا عليك، ولقد وجدناك تدخل البصرة وتدَّعي أنَّها بستان لك باسم قريش؛ ولهذا نقمنا عليك - ولقد رأيناك تدخل علينا في مصر ونحن نحلب أبقارنا لنُرضع أولادنا لبنها، فاستوليت على أبقارنا وعلينا وأنت تدَّعي وتقول: الأرض وما فيها بقرة حَلوب لنا، وليست لسوانا؛ لهذا نقمنا عليك. لقد تفرَّدت بالحُكم وجعلت وظائف الدولة حَكراً عليك وعلى أزلامك المـُقرَّبين، كأنَّ القبيلة الواحدة هي ميزان القوَّة الضاربة بالظلم والاحتكار والاستبداد؛ لهذا فإنَّنا ننقم كثيراً عليك!!!.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176