الإمام الحسين في حلة البرفير

الإمام الحسين في حلة البرفير22%

الإمام الحسين في حلة البرفير مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 176

  • البداية
  • السابق
  • 176 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32425 / تحميل: 7909
الحجم الحجم الحجم
الإمام الحسين في حلة البرفير

الإمام الحسين في حلة البرفير

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

٣

٤

الكلمة الأُولى

إنَّها موجَّهة إلى مركز الدراسات والبحوث العلميَّة في بيروت.

تحيَّة إجلال وتقدير لمركزكم المـُهتمِّ بالدراسات والبحوث العلميَّة في سبيل الإفادة والتنوير.

إنَّها رسالتكم - على ما يبدو - ولست أرى أيَّة قيمة لرسالة، ما لم تكن في خدمة قضيَّة كبيرة يحتاجها مُجتمع الإنسان، ولست أرى أيَّ كاتب يطيب قلمه ما لم يُعالج قضيَّة صحيحة يتبنَّاها ويُرشف منها لون حبره.

لقد تمنَّى مركزكم المـُحترم، وهو يوجِّه الدعوة العامَّة لتقديم دراسة جديدة عن الإمام الحسين، أنْ تكون شَبهة بالدراسات الناجحة التي قُدِّمت في وقتها عن الإمام عليٍّ، وفاطمة الزهراء، ومؤخَّراً عن الإمام الحسن. وأيُّ واحد منهم لم يكن ذا وجه كريم؟ فقلت في نفسي: ومَن مِن الأربعة هو كريم لو لم يكن مُشتقَّاً مِن قضيَّة كريمة، صبغتهم جميعا بلونها الكريم؟ وذلك كان شأن الكاتب الذي تناول قلمه وراح يرسم فيهم.

مِن أين كان له أنْ يُقدِّم كلمة ناجحة، لو أنَّه لم يتبنَّ ذات القضيَّة التي غاصوا هم بها، فانعكست عليه صدقاً واقتناعاً! إنَّ القضايا الجليلة في الحياة، هي الشعاع الذي يستضيء به فكرنا، وشوقنا، ووجداننا، وبالتالي تصرفنا في وجودنا الإنساني الذي هو بالنتيجة قضيَّتنا الكُبرى.

إنَّ القضيَّة العظيمة التي امتلأ بها وجود الإمام عليٍّ، هي ذاتها التي سارت بها الصديقة الزهراء إلى باحة المسجد، وهي ذاتها التي قصف بها حُسامه الإمام الحسن

٥

حَقناً للدماء، وصوناً لوحدة المسلمين؛ لتبقى هي ذاتها يمشي بها الحسين مِن مَكَّة إلى كربلاء بجُبَّة ما طاب له إلاَّ أنْ يصبغها بدماء الوريد.

وأقول: لقد كانت القضيَّة واحدة، ولكنَّ التعبير عنها قد جاء مع كلِّ واحد مِن الأربعة الكبار، بلون ميَّزه عن الآخر - فبينما كان مع الإمام الأوَّل مِن لون الصوافن والقلاع، جاء مع ابنة الرسول وأُمِّ الحسنين كأنَّه زهر مَلفوح بنارٍ - ليكون مع الحسن مِن شَكل قبضات السيوف المـُقصفة في ساحة الميدان - وإذا به مع الثالث الهاجع في ضمير الإمامة، انفجار وريد ضاق تحت مَدِّ العنفوان.

شكراً لمركز الدراسات، يُحرِّك في نفسي شوقاً أتلمَّظ به طعماً لذيذاً، لا يزال إلاَّ موفورا على المائدة الكبيرة التي مدَّها الحسين، إنَّها المائدة الحمراء، ليس المسكوب في قصاعها مِن سائل الدم، إنَّما هو مِن لقاح العنفوان، تحيا به النفوس التي تابى الذِّلَّ لباساً. سيبقى العنفوان أبداً نتاج القضايا الكبيرة، تَسربله الحسين في المجال الفَخم الذي تتثبَّت به قيمة الانسان.

أمَّا القلم الذي يُفتش عن كلِّ كلمة حرفها مِن ضلوع القضايا، فإنَّه يضفر الآن ذاته إلى الإمام الحسين بنبضاتٍ مِن مُباهلة.

سليمان كتَّاني             

٦

مُباهلة

إيهٍ أيُّها الحسين

أتكون الياء - مضفورةً عليك - شامةً مِن عنبرٍ في غنجة التصغير؟

أم أنَّها دعجة العين، يتمُّ بها التصوير والتحضير والتكبير؟

يا للياء الرخيمة!

كأنِّي هكذا - أراها تُرخَم، بك، وتُرسَم فيك - وكأنِّي أسمعها تقول:

هل أنت مُصغَّر الاسم المـُطيَّب بالبَلْسَم

يا بن المـُطيَّبين!.

أم أنَّك اللحمة المـُندمجة بخاصرة التوأم

يا نَهدة التوَّاقين!.

اثنان في واحد أيُّها الحسن المـُكمَّل بالحسين:

في وحدة التوق ووحدة الشوق ووحدة العين

يا للقضيَّة

تبيضُّ إذ يبهرها حَقٌّ، وتَحمرُّ إذ يضنيها غَسق

وتبقى - هي هي - في وحدة الشفرة وفي لون السنا

وما بين الطُّهر والفِسق وترٌ يطيب هناك وينهدُّ هنا!

هكذا الحسن يبيضُّ صدقاً!

وهكذا الحسين يحمرُّ وريداً!

٧

وفي العينين: عين الصدق الأبيض

وعين الإباء المـُعروك بالدم

تنام القضيَّة وتصحو

في جوهر اليقظة وفي جوهر الضمِّ!

يا للمـُباهلة!

مَن كان ينام في عينَيْ الآخر قريراً أكثر؟

أنت في عينَيْ جَدِّك البصير الكبير؟

أمْ أخوك الحسن، وأنت الأصغر وهو الأكبر!

يا للكساء!

يجمع الضلعين - في حضن الأبوين - تحت هَمس الشفتين:

يا أهل البيت - تنفضوا مِن كلِّ رجس - كونوا للغَد الآتي دعامة الأجيال!

يا للحَقِّ!

تلمسه القضيَّة الكُبرى -

ينهض بها العصب الأكبر -

ويقول: إنَّها أُمَّتي أُباهل بها أُمَم الأرض!

ويا للحسين!

تبقى أنت في ضلعَي المـُباهلة

ونبقى نحن - أبداً نسأل:

هل احترقت الثورة في عينيك وترمَّدت؟

أم أنَّها نامت في مُقلتيك؟

تترقَّب مُطلق ساعة مِن ساعات العُمر

حتَّى تكون هي رمقاً مِن الثواني التي ينبض بها وريد البطولات

الصافية والمـُحقِّقة مُجتمع الإنسان!!!

٨

توطئة

ولا تزال الدعوة مرصوصة بجلالها يا شقَّ القلم، لقد وجَّهتْ إليك بالأمس تُناديك إلى ولوج دائرة مقطوبة بالإمام علي - فولجتَ الدائرة مزوَّداً بحبر مقطور مِن المـُقلة المـُشتعلة بنهج البلاغة، ثمَّ تتالى إليكَ النداء مربوطاً بمِنديلٍ كانت تعتصب به فاطمة الزهراء، فعصرتَ منه زيتاً لسراجك تكحَّلتْ به شعاعاً مشيتَ به معها مِن فَدك إلى باحة المسجد، ثمَّ جاءك الأمس الأقرب بنداء يشدُّك إلى الإمام الحسن، فسهرتَ معه ليلاً طويلاً أشرق صُبحه على رباط أبيض، وصل العراق، بالشام، بارض الجزيرة الأُمُّ، في حضن الرسالة التي لا تزال تعتصم بها وحدة الإسلام.

واليوم، يا شقَّ القلم، تأتيك دعوة جديدة أشعر أنَّها - كمثيلاتها السابقات - مغمورة بجلالها، فهلاَّ يكون لك اهتزاز إليها يُلبِّي وجبة النداء؟

ولكنَّ القلم الذي كان نائماً قُرب المحبرة، ما ارتعش إلاَّ قليلاً وعاد إلى غلاف السكون، كأنَّه التعب الراجع مِن جهادٍ، فتناولته بين أنمُلتي، وطُبعت على ثغره قُبلة فيها نشوة، وفيها وفاء، وفيها مَدد مِن عافية، ورحت إلى بعضٍ مِن الأطناب أموِّهه بشيءٍ مِن الثناء، حتَّى استدرجه إلى استعادة وعيه، واستيعاب ما أنا استحثُّه إليه.

قلتُ له:

إنَّني أعرف يا رفيقي، وصديقي، ونديمي الأجلّ، كم أجورُ عليك، وأُحمِّلك الأحمال الثقيلة، وما ذلك إلاَّ لأنِّي أُدرك أنَّ فيك شوقاً يدفعك لاقتحام الحَلبات - صحيح أنَّ الكلمة هي عدتك في كلِّ واحدة مِن الغَمرات، إلاَّ أنَّك تعرف مِن أين تقتنصها وكيف تُلبسها بَهجة الحرف، وبهجة الزَّيِّ، وبهجة اللون - فأنت فنَّان يا قلمي الحبيب، وأنت غوَّاص في البحور التي تَغزر في قيعانها منابت الدُّرر؛ وأنت مُراقب ماهرٌ، تقتفي أثر الخُطوات الكبيرة، وتأخذ لك مِن وقعها فوق

٩

القلاع نقشاً تُزيِّن به جُدران الأغوار، وتطلي به كلَّ حرفٍ يتزنَّر به خصر الكلمة.

واهتزَّ القلم في كفِّي كأنَّه مِن انتفاضة جاء ولمـَّا أنته مِن عرضي بعد، قال: وإنْ أقبل منك الثناء - فهل تظنُّني هكذا به أغترُّ؟! أنا بين يديك يا رفيقي، ويا وليِّي الأبرُّ، ألاَّ أنَّني غزارة، ما هزَّتني الريح وسقتني الديمة، إلاَّ لأنْ أكون ريشة بين يديك، وها أنا لك تبريني بشفرة سكِّينك، تسقيني مِن رمش عينيك. أنا لا آخذ الكلمة الإَّ منك، ولا أبنيها جداراً إلاَّ بخفقة مِعصمك، فهل لك أنت مِمَّا أردُّه إليك أنْ تُباهي أوْ أنْ تَغترُّ؟

وراح القلم في كفَّي إلى صمت حريز، وهو يرقب قنِّينة الحِبر، كأنَّه يهفو إليها تأخذ هي - له - منِّي الجواب:

- صدقت يا صنوي الحبيب، وأنا مثلك لا يحقُّ لي أنْ أغترَّ - كلانا غَزارة يا قلمي في كفِّ الحياة - إنَّها هي التي تَبرينا أقلاماً وتسقينا مِن حِبرها نلوِّن به صفحة القرطاس، نأخذ الكلمة منها ونبنيها في حقيقة التعبير - فإذا كان لنا الغوص العميق والجمع الأصيل، فذلك مِن معانيها الصحيحة ننقله إلى الصفحة المزدهية بجمال التصوير. الصدق والغوص يا قلمي، كلاهما في المـُجتنى، يبنيان الكلمة تشفُّ بهما، ويبنيان النفس إلى حقيقة الغرف وحقيقة التأثير.

تلك هي القضايا الكبيرة في الحياة، تنبت منها الكلمة، ويصدر عنها التعبير - والشوق والفهم هما الصيادان الماهران اللذان يتلقطان بالكلمة المنسوجة مِن حقيقة القضيَّة - والمـُعبِّرة هي عن حقيقة جلالها.

أمَّا الدعوة الجديدة التي يُحفِّزك ويُحفِّزني الشوق إلى جعلها جليلة في المضمار، فلا أظنُّك إلاَّ مُتهيِّباً مِثلي جديَّة الغوص فيها؛ لانَّ لها - في المجال الكبير - قضيَّة مُلتهبة بالجوهر الذي تُفتِّش عنه حقيقة الإنسان.

عديدون هُمْ الرؤوس الكبار الذي تناولتُ إليهم سَهماً مشتاقاً في حقول السيرة، ولكنِّي لم أؤخذ مع أيِّ واحد منهم، وهُمْ العظام، بهزَّة تناولت مِن نفسي كلَّ كوامنها، كالهزَّة التي تملَّكتني وأنا اتتبَّع خُطوات الإمام الحسين مِن أرض الحِجاز، إلى أرض الكوفة - لقد مشى الخُطوط ذاتها، وأوسع منها بكثير، كلُّ واحد

١٠

مِن هؤلاء المشَّائين - لقد كان كلُّ واحد منهم عدَّاءً وجوَّاباً - ابتداءً مِن النبي الجليل، الذي لم يترك حَبَّة رمل مِن أرض الجزيرة إلاَّ ونشَّفها بخطواته الثقيلة، وغمرها بفيض مِن عقله وروحه وحنانه، فإذا هي تَؤوب مِن اعتكافها الطويل، لتنال خَطَّاً جديداً بين يدي مَن راح يبنيها بناءً جديداً بإنسان سويٍّ.

أمَّا العبقريُّ الآخر الذي كانت خُطواته أوسع مِن الدروب، وراحتاه أندى مِن كلِّ دُيمة مَرَّت في سماء، فانَّه ما ترك خلفه خَطَّاً مِن خُطوط القوافل، إلاَّ وزرع نفسه فيه: نظافة، وعدالة، وتُقى، وسموَّاً، مِمَّا جعل مُجتمعات الأرض تُفتِّش عن حقيقة وجودها الحضاري النبيل، ولا تجده إلاَّ في الإنسان الذي يبنيه حِزام الإمام عليٍّ.

أمَّا تلك التي نبتت بين ذراعي أبيها، كأنَّها أعزُّ مِن شجرة الدُّرِّ، فيكفيها أنَّها مشت أقصر طريق مِن بيتها الذي قُلِعت مِن باحته شجرة الأراك، إلى باحة المسجد الذي كان يُصلِّي فيه خليفة المسلمين؛ لتُعلمه أنَّ العدالة الممهورة بجِنان أبيها محمَّد، والمسبوكة مِن مَعدن زوجها عليٍّ، هي التي تُرزِم الأُمَّة وتجعلها قدوة بين الأُمَم، إنَّ الطريق القصير الذي مشته فاطمة الزهراء، لا يزال حتَّى الآن يمتدُّ عِبَر الأجيال، تخفق فيه ثورة نادرة المثال، تُعلِّم البنَّائين كيف يُعالجون أساس الصرح الذي يليق لسُكنى الإنسان.

هؤلاء هُمْ ثلاثة علَّموا الإمام الحسن كيف يمشي فوق الدروب، ولقد مشى بروحه، وعقله، وإيمانه، وكان جليلاً وهو يمشي، وكان حكيماً وهو يمشي، وكان قُطباً مِن مرونة وهو يمشي، ولا يزال حتَّى الآن يمشي مشية الرِّئبال المـُختال - إنَّه الغيور على أُمَّة سُحبت مِن تحت الرمال المحرورة، لتُثبت وجودها تحت الظلال - إنَّه لا يزال ولن يَنْيَ يُعلِّمها أنَّ الوحدة النظيفة، المؤمنة، والمـُدركة هي التي - وحدها - تبني المـُجتمع بالإنسان العظيم، وأنَّ الأحقاد ليست عقلاً، وأنَّ التسابق إلى مراكز الحُكم والثروة ليس قوَّةً ولا غِنىً، ولا أيَّ تحقيق يدوم، وأنَّ الحُكم هو خدمة مُتفانية، وصدق في المعرفة والضمير، وأنَّ كلَّ ما خطَّه جَدُّه الذي جمع الأُمَّة مِن شِتاتها إلى واحد، هو الصحيح في أداة الجمع والتوحيد، وهي التي جمعت،

١١

وهي التي حقَّقت، وهي التي لا يقدر - هو الإمام الحسن - إلاَّ أنْ يُضحِّي مِن أجل تثبيتها أداة جمع لا أداة تفرقة، وكان التنازل عن الحُكم، والابتعاد عن إراقة الدم، إحياءً لقدوةٍ لا تزال حتَّى الآن تُقدِّم لكلِّ مَن يُحاول الوصول إلى كرسيٍّ مغروز القوائم في بُرَك الدم، على حساب مُجتمع ينهدُّ إلى دَركٍ مِن الذِّلِّ والضعف والهوان.

تلك هي الخُطوط العريضة التي مشاها هؤلاء العظام، فهل يكون الخَطُّ الذي مشاه الحسين مِن مَكَّة إلى كربلاء هو مِن ذات الطول، وذات الوزن، وذات الدلال؟

ولكنَّ السير الذي كان يبدو وكأنَّه بلا رحل ولا نعل، ولا رمح مصقول السنان، كيف له أنْ يطيب عِرقه وحفاؤه، ويذكو نزفه وسخاؤه؟ أم أنَّه غِمْد خَسر السيف، وخَطو نَتَفَ النَّعل، جَعبة ضيَّعت النبل، وفرس قفز السرج مِن حِزامها، فإذا بالمعركة المشدودة بالصهيل، كأنَّها كهف في وادٍ مهجور، ما جَنَّ إلاَّ بالصدى وهَمْهَمة الصدى، وإذا بالعزم كأنَّه انتحار لا يتخفَّى إلاَّ تحت أقدامٍ حافية، تجوس النَّخاريب لتصبغها بالورم والدم!.

إنَّها المأساة - على ما يبدو - ولكنَّها ليست هي التي هزَّتني وحرَّكت في نفسي كوامن ما طالها أحد مِثلما طالتها سيرة الحسين، ليست المأساة هي التي انتهت بمقتل الحسين وأهل بيته، وليست هي التي انتهت بقطع رأسه وحمله هديَّة إلى المـَريد الجديد يزيد!!! صحيح أنَّها همجيَّة ينفر مِن تقبُّلها تحصُّل مُطلق إنسان - وأنَّها تجديف يُجرِّد كلَّ مُجتمع تَحصَل فيه مِن كلِّ قيمه الحضاريَّة - الإنسانيَّة - المـُجتمعيَّة، وتُصنِّفه دون الدرك الحيواني المـُتوحِّش، ولا تغسله مِن زَنِخها الكريه إلاَّ أجيال أُخرى، تردُّه إلى إعادة اعتبار نفسه إنساناً لا يجوز له أبداً أنْ يُمثَّل حتَّى بذئبٍ جاء يفترس نعجة مُطمئنَّة في حظيرة.

قلت: ليست المأساة تلك هي التي هزَّتني، وإنْ تكن قد قهرتني وقصفتني إلى ذِلٍّ لا يُمرِّغني به إلاَّ إنسان كافر في مُجتمعي، إنَّما المأساة في أنْ نكتب الكلمة ولا نعرف كيف نقرأها.

١٢

لا - لم تكن مسيرة الحسين مِن مَكَّة إلى العراق نَزْقاً موصلاً إلى جنون الانتحار - إنَّما كانت مسيرة الروح، والعقل، والعزم، والضمير إلى الواحة الكُبرى التي لا يُرويها إلاَّ العنفوان والوجدان. إنَّ مُجتمعا يخسر معركة العُنفوان والوجدان، هو المـُجتمع الذي لم يتعلَّم بعد كيف يكتب، ولا كيف يقرأ كلمة المـَجد أو كلمة الكرامة في حقيقة الانسان.

ومشى الحسين مِن مَكَّة - وأهل بيته جميعهم في محمول القافلة - ومعه أبوه الرابض هناك في النجف الأشرف، وأُمُّه الثاوية هنا في البقيع، والمـُتلفِّعة بوشاحها المـُطرَّز، وأخوه المـُتزِّمل بجُبَّته البيضاء، وجَدُّه الممدود فوق المدى، ومعه كلُّ الجُدود المـُطيَّبين، مِن أبي طالب، إلى عمرو العُلا، الهاشمين الثريد في القِصاع، المـُشبعين العُطاش مِن بئر زمزم، ومعه الرسالة في القرآن، ومعه الاجتهاد وكلُّ صيغ الجهاد، ومعه الغيرة على مُجتمع فُكَّ جديداً مِن أُساره وأُعيد مِن غياب طويل، حتَّى يتعلَّم كيف يكتب الكلمة وكيف يقرأها للحياة.

أنا لا أقول: إنَّ الحسين قد تأبَّط كلَّ هؤلاء الرَّزم وسار مِن مَكَّة إلى كربلاء، ليرميهم جميعا فوق رمالٍ محروقة بالعطش، في حين ينساب إلى جنبها ماء الفرات، إنَّما جاء المـَعين يجري مِن بين راحتيه، والكلمة العزيزة ترقص مغزولة في عينيه، لقد جاء يُعلِّم كيف تكتب الكلمة، وكيف يقرأها العِزُّ والمـَجد والعنفوان! لقد جاء بالمـُحاولة الكُبرى، فإنَّها - إنْ لم تسمح الآن - سيكون لها، مع كلِّ غَدٍ، وقع يلفظ الحرف، ووقع يؤلِّف الكلمة، يكفي الصدى، بقاياه تتعبَّأ بها حنايا الكهوف، ويستعين بها المـُجتمع النائم، لصياغة حُلمه، فيُفيق ويعود يبني نفسه مِن غُبار المـَعْمَعة.

لا - لم تكن مسيرة الحسين غير ثورة في الروح لم ترضَ بسيادة الغيِّ، والجهل، والغباء، - بالأمس كان أخوه الحسن قُدوة بيضاء، وها هو اليوم - الحسين - يقوم بقُدوة حمراء، وكلا القُدوتين مُشتَّق مِن مصدر واحد هو المصدر الأكبر، مِن أجل بناء المـُجتمع بناء تتعزَّز في تطويره وتتنوَّع كلُّ السُّبل - هكذا قال جَدُّه وأبوه في حقيقة

١٣

الرسالة، وهكذا قالت الوصيَّة، وهكذا قالت له الإمامة الهاجعة في ضميره، والمـُفسَّرة في التصرُّف الأحمر.

تلك هي المسيرة - مسيرة الحسين - وتلك هي الكلمة خَطَّها وتلفَّظ بها عُنفوان الحسين، وتلك هي المأساة: تقرأ ثورة الروح انتحاراً، وتَقصيف السيوف في ساحات الدفاع عن الحَقِّ انتحاراً، وبذل النفس مِن أجل قيمة في الحياة انتحاراً، والجُرأة في وجه الحاكمين الظالمين انتحاراً، والمـُطالبة بمُنعة المـُجتمع الصحيح انتحاراً.

تلك هي الكلمة التي أدعوك - يا قلمي - إلى جَلوة حروفها، إنَّ الحسين شرارة الكلمة وهل يُبنى مُجتمع صحيح بغير مِثل هذا الشرار؟

١٤

القسم الأوَّل

أزاميل

الأحضان

أهل البيت

الأساس

حَجَّة الوداع

أين هو الحسين

إنَّه هُنا الحسين

١٥

١٦

الأحضان

- ١ -

ليست قليلة تلك السنوات السِّتّ - وهي التي حفرت في نفس الحسين حَفرها البليغ - لقد كان ينتقل فيها، مُنذ أنْ تكحَّلت عيناه بالنور، مِن حِضن إلى حِضن، في دوامة مِن الحُبِّ والحَنان، قَلَّ أنْ تمتَّع بمِثل نوعها طفل مِن أطفال مُجتمع الجزيرة في تلك الأيَّام، لم يكن حِضن أُمِّه فاطمة رفيقاً به بمقدار عِزٍّ نظيره، لو لم تكن ابنة أبيها محمد، ذلك الذي انسكب في ابنته هذه انسكاب الحُبِّ بالحُبِّ، والعِشق بالعِشق، والرضى بالرضى، كأنَّه سماء لا تنزل إلاَّ في سماء، أو كأنَّه شوق لا يتبرَّج إلاَّ بذاته، أو كأنَّه وَهج لا يتأجَّج إلاَّ في ضرامه، ولا يتبرَّد إلاَّ في كلِّ مَعين مِن مَساكبه. لم يصف قلم بعدُ حُبَّ أبٍ لابنته، أو حُبَّ ابنةٍ لأبيها، كالحُبِّ الذي تبادله الرسول العظيم مع ابنته الصديقة الزهراء.

أقول: لو أنَّ فاطمة الرهيفة لم تكن ضِلعا رهيفا مِن قضيَّة أبيها، لكان شأنها عاديَّاً كشأن أخواتها اللواتي أَمَمْنَ الحياة ورِحنَ إلى أزواجهنَّ يَبنينَ العِشَّ السعيد - ولكنَّ فاطمة المجبولة بحنين أبيها، كانت قسطاً آخر مِن أقساطه التي يُسدِّدها للحياة على صفحة الرسالة التي اندمجت بشوقه، وعزمه، وروحه، في سبيل الأُمَّة التي هو منها، ومِن أجل جعلها عزيزة وهادية لأُمَم الأرض. لم يذكر التاريخ رجلاً أحبَّ وأكرم مِن عليٍّ على قلب النبيِّ الكريم، ولم ينزل أحد غيره مِن بيته نزولاً مقرونا به كأنَّه المـُلازمة والالتصاق، وذلك هو التدليل القائم بذاته بغير حاجة إلى أيِّ تفسيرٍ أو تحليلٍ أو تعديلٍ، بأنَّّه رفيقه الروحيّ، وربيبه الأمثل، وتلبيته الخارقة، وزِناده المشدود مثله بالعزم، والحَقُّ، والصدق، والإخلاص، وإلاَّ لما

١٧

قال عنه: بأنَّه هو مدينة العلم وعليٌّ بابها. وبأنَّ عليَّاً وحده ذو الفِقار. وبأنَّهما: عليٌّ منه وهو مِن عليٍّ، فليكن القول هذا - عند مِن يُريد - مُختلَقاً، ولكنَّ البيت، ووجود البيت في حدوده، وفي واقعه على الأرض، لا يُمكنه أنْ يُشير إلى غير هذا المعنى الجليل، أكان قد ورد في حرف، أم كان قد فُسِّر بالإشارة. يكفي التصديق على ذلك ربط فاطمة البهيَّة بالرجل الحصيف؛ حتَّى تظهر الغاية التي بقيت نائمة في الحُلم إلى أنْ تَفسَّر الحُلم وأنجب الزواج الكبير طفلين سمَّى واحداً بالحسن، والثاني بالحسين.

مِن فاطمة وعلي تكون القيمومة على الرسالة المسحوبة مِن حِضن الحَقِّ - إنَّها وحدها الآن في الضمير، وفي العينين لقد كانت فاطمة في عين النبي، أطهر رَحم يُمكن أنْ يُنجِب مَن يليق بالميراث الأوسع مِن الحدود - أمَّا عليٌّ فهو وحده - أيضاً - خليق بالأُبوَّة المجيدة يُحقِّقها في جَلوة التظهير. إنَّ الرسالة لتستحقُّ أنْ يُحضَّر لها - مُسبقاً - مثل هذا التحضير، فهي ما نزلت لتوحيد هذه الأُمَّة - واسترجاعها إلى حقيقة الوجود العزيز بالإنسان، بعد غيابٍ مسحوقٍ بأجيالٍ وأجيالٍ مِن التخلُّف والتردِّي - إلاَّ لأنْ تقتنص لها كلَّ السُّبل الحريصة على صيانتها وتعهدها؛ حتَّى يبقى الاستمرار فاعلاً في تصاعده التحقيقي البليغ. لقد سهرت الجزيرة طويلاً في لياليها العتيقة الدامسة، تُفتِّش مع كلِّ الجُدود عن قبس يجمعها ويوحِّدها في الحظيرة، وليس قليلاً ما أهرقه، مِن عقله وروحه ودمه، إنسانها المـُشرَّد عِبر الصحارى والفيافي والفَدَافِد، ولم تُحرِز إلاَّ رموزا هزيلة مشرورة في أحجار موزَّعة السِّدانات في مَكَّة الأصنام، أمَّا الرسالة الجديدة المنوَّرة، فهي التي ولِدت مِن حَوملة هذه الأجيال الغارقة في بؤسها، وشُحِّها، ونزف أوصالها - أما وأنَّها قد نزلت، وضاءت، وحقَّقت فوق الأرض مُعجزاتها، فكيف لها أنْ لا تسهر طويلاً مع مُعطياتها، وكيف لها أنْ لا تتحسَّب في المـُحافظة على مغانمها التي حقَّقت وجودها الإنساني فوق الأرض، وفي حِضن الحياة؟

لقد كان التحُّسب العظيم في صيانة الرسالة مرصوداً في الرجل المبنيِّ بناءً متيناً، ولا يعني البناء أنَّ النبي الكريم هو الذي بناه، أكثر مِمَّا يعني أنَّه اكتشفه

١٨

مرسوخا في نفسيَّة الفتى عليٍّ، عندما لمحَ - لأوَّل مَرَّة - جبيناً تتخبَّأ، دونه نجابة ومتانة في الخُلق والروح، هي كلُّ ما في الانسان، مِن روائع. لقد لمح كلُّ ما يجول في عينيه مِن آفاق تُطلُّ به على مَرح وسموٍّ في النفس، هي وحدها الصفات الكبيرة التي تجذبه إليه في عمليَّة الالتصاق والانضمام؛ لتكون له - به - وحدة في الطوية تُهيِّئه للبلوغ المـُشتاق إلى التحقيق الرائع، الذي يتجلَّى به جوهر الانسان في حِضن الحياة، التي هي فيض رَبِّه العظيم الرحيم.

هكذا هي قِصَّة علي بن أبي طالب، في التحامه الرائع بالرجل الآخر، الذي يستعدُّ للأطلالة الكبيرة، التي تستضيء بها رسالة الإسلام - وهكذا هي قِصَّة فاطمة الزهراء بالذات - لقد كانت لمحاً اكتشافيَّاً مِن جبينها، وعينيها، وتكوينها الأُنثوي، وكانت تخصيصا رائعاً آخر يلتصق بالرجل البعيد المجال، ومِن ذُرِّيَّة هذين النورين الوافدين مِن اللمح، سيولَد لمـَحٌ جديد آخر، معقود في جبينٍ سيُسمَّى الحسن وفي جبينٍ آخر سيُسمَّى الحسين.

- ٢ -

لقد تجمَّدت الزعامات التقليديَّة في الجزيرة، على أمل أنْ تنام دون أنْ يعود فيلمُّها وعيٌ، مع انتقال النبي الكريم إلى الرفيق الأعلى، هبَّت تُعلن أنَّها لم تُصدِّق تحسب الرسول بإسناد مُهمَّة الاهتمام بصيانة الرسالة الطريَّة العُود، إلى أمتن رجل صدَّقها وشارك في تمتينها حُفراً في النفوس. فليكُن اجتماع السقيفة - تملمـُلاً مِن هَجعة - أبَعَدَ الرجل المـَحسوب رُكناً مِن الأركان المـُعتمدة لمـُتابعة الخَطِّ وترسيخه، إلاَّ أنَّ واقع التاريخ وواقع الرسالة، التي لا تزال حتَّى الآن تنمو وينمو بها عالم الإسلام، يشهد بأنَّ لعليٍّ مكانة مجيدة القيمة في ضلوع الرسالة، لا يجهلها الحَقُّ، ولا يقدر أنْ يُنكرها المنطق - وما مِن أحدٍ على الإطلاق تمكَّن مِن فصل بيت عليٍّ عن بيت الرسول، لا في الحقيقة ولا في المجاز.

أعود فأقول: فلتكن للسقيفة عينها الحولاء، غير أنَّ حَوَلاً هناك لا يُطفيء نوراً في عينَي عليٍّ، ولا شعوراً ضمنيَّاً يعيش به أهل البيت. إنَّ الذين جمعهم مُربِّيهم

١٩

الأكرم، وضمَّهم تحت كسائه ليُدفِّئهم بعَطفه، ويُطهِّرهم مِن كلِّ عيبٍ، هو الذي يتحسَّب بهم؛ إذ يبنيهم لاستلام الغَد، وأنَّ الغَد العظيم هو في استمرار الرسالة التي تستردُّ الإنسان إلى حقيقة الرُّشد، وحقيقة بناء المـُجتمع الموحَّد بالوعي والحَقِّ - إنَّه يعرف أنَّه بعد لحظات قصيرة سيَعبر تاركاً لهم الدار، وأبناء الدار - فليتثبَّتوا أنَّهم هُمْ المـُعنيَّون المـُنتدبون للمـُحافظة على صيانة القَرار، إلى أنْ يطويهم - بدورهم - سُلطان الحَقِّ، فيتركون للقيم الأُخر رسالة مُستمرَّة بنظافة الحَرف، وأمانة النهج، وحقيقة التطوير المـُركَّز بالإيمان والجوهر.

إنَّها المـُهمَّة المـُنتدبون إليها، وإنَّها القضيَّة الكبيرة والجليلة، التي ساهم بجَلوتها وإخراجها عقلُ عليٍّ، ولُبُّ عليٍّ، وصدقُ عليٍّ. وإنَّه البيت الذي جعل النبي العظيم حدوده مربوطة بحدود أُخرى، هي أبعد مِن القُربى، وأثبت مِن خطوط الانتساب، في مُجتمع سينسى انتسابه إلى كلِّ بطن مِن بطونه القبائليَّة، ليبقى له - فقط - انتساب إلى القيمة المـُجتمعيَّة الكُبرى، التي قدَّمتها له الرسالة، وجعلته بيتاً واحداً لمـُجتمع إنسانيٍّ واحد، يفهم ويعي حَقَّه في الوجود الحياتي الإنساني الكريم.

إنَّها مسؤوليَّة راح ينوخ تحت جلالها البيت النبوي المـُشعُّ، والمبنيُّ مِن لمح الرسول الأبعد، ومِن تحسُّبه الأبلغ؛ لتكون منه انطلاقة لسياسة العهد الطويلة الأمد، والمحصنة بالنظافة التي تُنجبها النفوس الكريمة، مُستقاة مِن صدر ربِّها في الحياة مَعيناً لا ينضب، والرسالة الكريمة هي - بدورها - نفحةٌ مِن روحه، التي لا ينمو ويتبارك الاَّ بها وبقُدسيَّتها مُجتمع الإنسان.

أنْ لا يَعي أهل السقيفة أو أيَّة سقيفة سواها، ثقل المرام، لا يعني أنَّه ليس ثُقلاً رَسَا بجلاله على أهل البيت، ولا يعني أهل البيت تخصيصاً لحدود رابطة الدم، بلْ يعني بيتاً لفَّه النبي الكريم بقصدٍ مربوطٍ بتعهد الرسالة. إنَّهم أوَّل المـُتحسِّسين، وأوَّل المـُعانين، وأوَّل الرازحين تحت الوطأة الجليلة، فليكن البيت هذا - في وجدان أهل البيت - بيت الأُمَّة الأفيح والأفيأ، إنَّه - في وجدانهم أيضاً - بيت الأمس الصغير، وبيت اليوم الأشرق، وبيت الغد الكبير، الذي يحيا فيه الإنسان عزيزاً كريماً، ومثالاً لكلِّ أُسرة يُعمِّر بها مُجتمع الإنسان.

٢٠

على أيِّ شيءٍ يغار أهل هذا البيت، لو لم يكن لهذا الذي يغارون عليه هذا الوزن، وهذا الثقل، وهذا الغد المـُرتقب؟ إنَّهم يرون على مُجتمع تلقَّط بكلِّ أسباب تراثه وعِزِّة وجوده، مِن أنْ يعمى عن سُبل الصيانة والتعهُّد، فيبتعد كثيراً عن حقيقة الجنى. والمـُجتمع - أصلاً - هو مُجتمع أهل البيت، أمَّا الوعد الكبير، فهم الذين نزفوا الدم مِن أجل تحضيره وتقديمه، هم الذين أعدُّوا المائدة وهشَّموا ثريدها الطاهر، وهُم الذين ملأوا كؤوس المشرب بماء فرات. وهُمْ الذين سكبوا في الحرف جلال المعاني، فإذا في كلِّ آية مِن الآيات قرآن يبني إنساناً صحيحاً صادقاً، يتحقَّق بوجودٍ مثله كلُّ مُجتمع سليم مِن مُجتمعات الأرض - إنَّهم أهل البيت، ولا يدَّعون - أليس نبيُّهم العظيم - وهو منهم - هو الخلاَّق الجديد المـَبريُّ مِن روح الحَقِّ، ليقدِّم للجزيرة، وللإنسان، قرآناً جمعهم ولا يزال يجمع أجيالهم، وأجيال العديد مِن المـُجتمعات الذين يُنادون مِن فوق المآذن: بسم الله الرحمان الرحيم.

ولا يزال التاريخ، ذلك المسَّاح الأصدق، يصف لنا دارَة بناها الرسول في المدينة قُرب المسجد. لقد نزل في شِقٍّ منها النبيُّ الكريم، وخصَّص الشِقَّ الآخر لسُكنى ابنته فاطمة، بعد أنْ جمعها بعليٍّ في عمليَّة تتميم الأرادة المـُحتسبة، وتحقيق الحُلم المنسوج بفتنة الغَد.

هذا هو البيت الصغير، الذي كان يعود إليه اثنان بعد كلِّ جولة يجولانها؛ مِن أجل تثبيت جوهر الرسالة ونقشها في مَعدن الإنسان، إنَّهما - اثناهما - كانا يعودان بجَعبةٍ واحدةٍ مليئةٍ بالتحقيق المـُثَّبت والمـُركَّز في هذا البيت، وضمن هذه الحيطان المـُصغية إلى النفس المليء بالحقِّ والوجدان، كان الاثنان يتبادلان العَرض والدرس وغربلة الأحداث، وكانا يبنيان التصاميم العريضة، والدقيقة، لجعل الغد الآتي مؤهَّلاً لأنْ يكون نبضة صادقة في تأليف الزمان. ما مِن حِكمة جالت في عقلهما وروحهما، إلاَّ واندرجت على هذا البساط، وتحت هذا السقف، حتَّى يكون توحيد غزلها باهراً في حياكة الثوب، الذي سترتَديه الأُمَّة في نهوضها مِن غفواتها الطويلات، إلى يقظتها هذه الحاضرة والمـُكلَّلة بالطُّهر، والرُّشد، وروابط الصواب.

٢١

اثنان - قلتُ: - وهل هما غير النبي العظيم مُلتحما بفتاه الآخر، أو فلنقُل: مُلتحما بثقله الموزون في وحدة المنطق، ووحدة الصدق، ووحدة الجوهر؟ أقول - ذلك ولم ألمح حتَّى اليوم، مِن الأمسِّ الدابر إلى اليوم الحاضر، امتعاضة واحدة رشق بها التاريخ طويَّة الإمام عليٍّ -: بأنَّ هنالك ريشة ضئيلة تُخفِّف مِن ثِقله في ميزان الحَقِّ، والعدل، والفهم المـُقدَّس، والتحلِّي بطهارة الصادقين.

في هذا البيت الصغير الصغير، وهو - بالقصد والمعنى - الكبير الكبير، تمَّت جَولة الحُلم، وانعقدت جَلوتها في اللحظة التي بدأ يدرج فيها طفلان، ما قَصَّ شعريهما جَدُّهما، وتصدَّق بوزنه فِضَّة تُصرَف على إطعام المساكين، إلاَّ ليكون لاسمَيهما تسجيل جديد في صفحة تاريخ الأُمَّة، لقد شَعر مُجتمع الجزيرة بأنَّ الحسن والحسين هما اسمان جديدان، لم تتلقَّط أُذن بعد بنداء وجهه أحد مِن شيوخ القبائل إلى أيِّ فردٍ مِن أفراد القبيلة، صحيح أنَّهما لفظتان عربيَّتان، مشهورتان في اللفظ والتخاطُب، ولكنَّهما ما كانا مُطلقاً اسمين لأيِّ شخصٍ مشى على صفحات هذه الرمال.

لقد شعرت الجزيرة بهذا الجديد، والتاريخ أيضاً قد شعر، أمَّا الجديد الكبير النائم في عين هذا الجديد الصغير، فإنَّه بقي كأنَّه النُّعاس الذي يقطب العين فلا ترى، وأنا أرى الآن أنَّ السقيفة في ذلك العهد، قد تخبَّأت بهذا النُّعاس، وأنكرت جديداً ينام في الاسمين المـُشتقَّين مِن روعة الحُلم، واللذين يدرجان في البيتين المـُوحِّدين بالفهم والصفة. أمَّا الخمسة الذين جذبهم القصد واجتذبهم إلى صدره التحسُّب الأكبر، فإنَّهم هم الذين لبثوا يهتمُّون بتأليف النهار الجديد الذي ستكون له شمسه الأُخرى.

- ٣ -

مُنذ أنْ هبط الحسين مِن رحم أُمِّه إلى حضنها الوثير، تلقَّفته الأحضان مِن حِضن إلى حِضن، وبقي ينمو ولا يدري أيَّ حِضن هو الأرفه والأوثر - لقد أمَّ الحياة صغيراً ضئيلا - لم تكن ولادته وهو في شهره السادس إلاَّ نحيلة كنُحول أمِّه في

٢٢

خشبة جَسدها، وما احتاك به مِن زهيد الشحم والدم؛ مِن هنا كانت الولادة نحيفة رهيفة، كالمصدر الذي انزلقت عنه - غير أنَّ الأحضان التي سربلته بأكثر مِن دثار، نشَّطت فيه طاقات عجيبة مِن التدلُّه النفسي الروحي - ما شَحَّ انعكاسه على عضلاته وألياف أعصابه، فإذا هو كأنَّه رشأ يملأ البيت حركة ودلعا ورواء، وإذا هو أكثر مِن جاذبيَّة شغف بها المـُحيط كلَّه، مِن ساحة الدار التي تُظلِّلها شجرة واحدة اسمها ( الآراك )؛ إلى داخل البيت الذي كانت حيطانه وسقفه ترشح بما لا يعرف مِن أيِّ ضَوْعٍ هو، لقد راح الفتى يشعر أنَّه دلاَّعة البيت وهزَّته الصغيرة، وكانت النشوة فيه تحتار مِن أين تأتيها الإشارة، فبينا يغرق فيها في حِضن أُمِّه، كأنَّه حرير مُبطَّن بمخمل، إذا هي - في عُبِّ أبيه - كأنَّها إعصار يتناحل في نسمة الصبح، أمَّا في حِضن جَدِّه وتحت عينيه، الناضحتين بالحُبِّ، فكأنَّها شعاع دفءٍ هابط مِن كُوَّتين، هما مِن بهجة الصباح أنقى وأزهى.

وهنالك حِضن رابع كان يتعب وهو يتلقَّط به ليحتويه، وهو حِضن الحسن أخيه الذي يزيده بالعُمر سنة وعِدَّة أشهُر، ولم يكن يعرف الحسين أيَّ طعم كان يتلذَّذ به وهو مضموم إلى صدر أخيه، كأنَّه نَكهة معجونة بسويق لا اسم له، تلك هي الأحضان التي احتوت الحسين مُنذ أَمَّ الحياة، وراح يدرج في البيت إلى أنْ تركه جَدُّه الكبير في حِضنٍ راح يُفسِّر له - بالتدريج - كلَّ معاني الأحضان التي احتوته طفلاً، وحضَّرته - بدوره - لأنْ يكون حِضناً يتناول الرسالة إلى صدره، ويفنخ فيها نفساً مقدوداً مِن صدره المليء بالعُنفوان.

لقد ضاع الحسين في تعيين أيِّ حِضن تدلَّه فيه، كان أعطف وأرهف مِن الآخر؟ ولكنَّه - بالحقيقة البارزة - كان مُشتقَّاً منها جميعها على توحيد والتزام - لقد ضمَّته جميعها، لأنَّها كلَّها كانت حدوده في المبدأ وفي صيانة الجوهر، أنَّه مِن هذه الصياغة الكبيرة التي احتضنها الطالبيُّون الهاشميُّون، فإذا بها مِمَّن مَرَّ أنَّها في النفس تتفتَّق عن رسالة تفوَّه بها الطالبيُّ الهاشميُّ، فارتدَّت إلى الأُمَّة العظيمة أمانتها المحفوظة في عقل وجُهد نبيِّها العظيم محمد.

٢٣

إنَّ القصد المنسول مِن هذه الرسالة، التي حقَّقت ذاتها فوق الأرض وتحت ظلال السماء، هي التي وسَّعت ودفَّأت الأحضان التي انغلقت كلُّها بالتساوي على تعهُّد الحسن والحسين، ليكونا ضِلعين مُخصَّصين لرعاية الخَطِّ الطويل، إنَّما مِن أهل بيت حدوده في سوارٍ مِن نبوَّة أنتجت رسالة تتحدَّد بها الأُمَّة، ويتحدَّد بها الزمان الجديد، ويتحدَّد بها الإنسان الجديد.

٢٤

أهل البيت

ولكم تمنَّيت على التاريخ أنْ لا يقرأ علينا الكلمة بحروفها، بلْ بمعناها النازل فيها، ألا تراه هكذا قد تصرَّف وهو يكتب على أحدى صفحاته ( أهل البيت ) وهو يُفسِّر الكلمتين بحروفهما لا بمعناهما المقصود؟! والبيت هنا وأهله، لا يعنيان في كلمتيهما أساساً مضروباً لإقامة أربعة حيطان، تنشأ ضِمنها وحدة سَكنيَّة تنزل فيها عائلة مؤلَّفة مِن رجل وامرأة وعِدَّة بَنين، إنَّما البيت وأهلوه هما رمزان - بالذات - إلى مُجتمع ظهر منه مُشتاق رائد تمكَّن مِن رصفه ورزمه في إطارٍ جديدٍ، ومضى به إلى تحقيقات رائعة المثال، وخارقة المجال، نشلته مِن كينونة إلى كينونة، فإذا الفرق بعيد بين إنسان كان يتشرَّد هنا وهناك فوق الرمال، كأنَّه مثل هاتيك الغزلان، لا يقودها العطش إلاَّ إلى واحاتٍ مِن سرابٍ، وإنسان دلَّه عقل كبير إلى قضيَّة كبيرة في الحياة، وجد بها منهله لحقيقته الإنسانيَّة، التي يبني بها مُجتمعاً صحيحاً يُحقِّق به أنشودته في الوجود.

ألم يكن العظيم محمد هو الذي انفجر به شوق الجزيرة العربيَّة، إلى سحبها مِن كلِّ حَرَّاتها الراقصة بالزفت والكبريت، إلى واحاتٍ مِن نوعٍ جديدٍ يسرح فيها نسمٌ، وينبت فيها ظلٌّ، ويجمعها رُشد يُخلصِّها مِن تشريد وتحريب، ويوفِّر لها نظاماً ينشلها مِن غزو وقتل، وهدر قوى يمتصُّها الجهل وفقر الروح، وتُبعثرها - توهيناً وتفتيتاً - روح قبليَّة عشائريَّة، مُتزمِّتة في تجمهُرها وتصنيفها المرصوص في الأفخاذ والبطون.

مَن غير محمد - بعد هذه الآلاف مِن السنين المهدروة - تمكَّن مِن إشعال هذه الحَرَّات أتُّوناً مؤجَّجاً بنار زفْتها وكبريتها، رمى إليه كلَّ هذه الأصنام التي كانت

٢٥

تُكبِّل هذا الانسان عن بلوغ حقيقته العُظمى في الحياة؟ لقد كان هذا الانسان بلا كتاب، فهجَّأ له - لحظةً بعد لحظةٍ - كلَّ حروف الكتاب، كان فرداً يُتقن القفز بين المفاوز وخلف الطرائد، فضغطه إنساناً يعرف كيف يمشي على الطريق، وكان قبيلة تلعب بها البطون والأفخاذ، فجاهدها حتَّى جعلها في الوحدة المـُجتمعيَّة المؤمنة بالحقيقة، لقد كان هذا الانسان بلا قضيَّة فدمجه بالقضيَّة، وأفهمه أنَّ الأُمَّة الواحدة لا يعلو لها إلاَّ صرح واحد مؤمن، متين الأساس، وعزيز الحَجر، وكريم السقف، أنَّه بيت الأُمَّة الواعية، يوحِّدها الشوق، ويجمعها العقل إلى تعزيز المصير المـُشترك.

هل كان أحد غير هذا الفتى الرائي، في حقيقة العزم والإقدام لخوض غمار معركة، كان يبدو أنَّها خارقة الجنون، وإذا بها - بعد اختلاءٍ في غارٍ - تُحقِّق ذاتها، وتُحقِّق المعجزة التي لم يُحقِّقها - مُجتمعين - كلُّ الإبطال الذين ألَّفوا ملحمة هوميروس؟ إنَّها - العمري - أضخم معركة حصلت على وجه الأرض، كان بطلها إنساناً حقيقيَّاً، ولم يتجاوز الوقت الذي أحرزت فيه النصر عشر سنين، وإذا بمُجتمع - برُمَّته - يلتمُّ إلى وحدة فوق ساحة كانت تلتهمها المسافات الفارغة، وتُفرِّطها العادات والتقاليد، وأبالسة الشياطين، وأُلوف مِن القبائل المـُشرَّدة، والعشائر الضائعة في الليل، وكلُّ شيخٍ مِن شيوخهن كأنَّه صنم بلا عين، ولا قلب، ولا لسان.

أجلْ، إنَّها معركة التهبُّت بالحقِّ، واشتغل بها الوجدان المـُجنح بالخيال، على صهواتٍ بيضٍ راحت تُحرِّر الأرض مِن عبوديَّتها المـُعفَّرة بالسراب وبالغبار، وترفعها إلى فضاءٍ يمرح فيه شعاع سَني النور، مربوط الضلعين بالإسراء والمعراج، فإذا السموات السبع، وكلُّها موسوعة المـَمرَّات إلى جنان تشرب الكوثر مِن راحتي الوعد السخي، الذي سيتمتَّع به الإنسان الذي يسمو بالحَقِّ، والصدق والمعرفة، وهو يتحلَّى بالمـُثل الكريمة النابعة مِن إيمانه بإلهٍ واحدٍ أمثل، يُخلصِّه مِن كلِّ عبوديَّة، ويُنظِّفه مِن الرغبات السود، ويزينه بالصدق، والطُّهر، والعفاف، ويُحضِّره لأنْ

٢٦

يكون أنساناً صادقاً في دنياه، ليكون ثوابه جَنَّة مِن ذلك الطراز، وهي - أبداً - جَنَّة سيجدها مزروعة في نفسه المـُحرَّرة مِن الكَذب، والغِشِّ، والبُهتان.

ما شحَّت في هذه الملحمة الرائعة بطولات لحَمَت الأرض بالجنان، وما ضؤل الثواب على المدعوِّين إلى مُعانقة الحقيقة الباهرة، وكان الثواب تحقيقاً آنيَّاً مُترجماً على الأرض. هكذا كانت الترجمة العظيمة مُتجلِّية في الكلمة الواحد التي هي ( الرسالة )، وكان التحقيق البليغ ملموحاً في توحيد المـُجتمع بإنسان رمى فرديَّته المنهوكة بقبائليَّته وعشائريَّته، وفتائل زعاماته، وثعابين أصنامه، وراح يتمتَّع بمُجتمعيَّته التي هي الآن في حقيقة الوعد الكبير، الذي زرع القيمة في الإنسان، فإذا الحياة الكريمة هي الجَنَّة التي لمحتها عين الإسراء والمِعراج.

هذا هو المـُجتمع الأمثل، لقد حقَّقته الرسالة إذ بنته بيتاً كريماً تنزل فيه لتَخلد معه في القيمة المـُستمرَّة في وجود الانسان، ستُدافع عنه إذ تُدافع - أبداً - عن حقيقتها في ذاتها؛ ومِن هنا كان البيت بيت الرسالة، أمَّا أهلوه المـُخصَّصون فهم المـُنتقون عُنصراً متيناً للصيانة والتعهُّد، حتَّى تبقى الرسالة فاعلة فعلها المـُتصاعد؛ مِن أجل أنْ يعمَّ الرُّشد، ويَمتنُ هذا الإنسان بالمـُمارسة التي تُنسيه مواطئ قدميه في أمسه الهزيل، وتُنجيه مِن الردَّة في يومه الطالع.

هكذا بُنيت الملحمة مِن أجل تثبيت بُطولاتها فوق الأرض، أمَّا البيت الهاجع في معناه، فهو البيت الذي بنته الرسالة، وهو المـُجتمع المبنيُّ بها، أمَّا الذي ينزل فيه الآن فهو الرجل الآخر، لا لأنَّه عَصبٌ توضَّجت به عروق الدم، الذي نسج لها ملحمة لفَّها بها في المعركة، التي دمجت الأرض بجِنان النعيم، وطهَّرت إنسانها تطهيراً.

لقد كان التاريخ في تفسيره ( أهل البيت ) أشبه ببطنٍ مِن بطون القبائل في تلك الأيَّام، تجمعها روابط النَّسب واللحم والدم، في حين أنَّ النبي العظيم برى

٢٧

الروابط هذه، وجعلها مهدورة في المـُجتمع الواحد، وجعل البيت رمزاً للبيت الكبير الجديد المـُوحَّد.

إنَّ أهل البيت هُمْ الوصيَّة المقصودة لتناول الإرث، الذي هو رسالة ملفوفة بملحمة حقيقيَّة ما شهدت الأرض نظيرها مِن الملاحم، أمَّا الحسن والحسين، فمنهما الحُلم الذي انبثق مِن الوجدان الممسوح بالشوق والخيال. إنَّهما مِن صُلب هذا الوجدان وهو مرشوق بعظمة الرسالة، سيكونان مخطوفين مِن بَهجة اللَّمح، لقد نشأ أبوهما وهو يأكل مِن ذات الخمير، ويتربَّع على ذات الحصير، وهكذا نشأت أُمُّهما تمتصُّ رهافتها مِن ثديِ التي ذابت بين يدي زوجها كما تذوب شمعة مُقدَّسة أمام نافذة المِحراب، وها هُما طفلان يلعبان في باحة المسجد، ولكنَّهما ما كانا يشربان إلاَّ كوثراً صِرفاً سيكون به تحقيق الميراث، وتحقيق الوصيَّة، وتحقيق الإمامة، وتحقيق الوعد الذي تعيش به رسالة ما انفكَّت ملحمة يلتحم بها إسلام الأرض بين يدي ربِّها الرحمان الرحيم.

٢٨

الأساس

- ١ -

لا يُمكن أنْ يكون للقضيَّة غير هذا الأساس، لقد كانت القضيَّة مُطلقة مرماها وجوهرها، فهي ما تناولت تنظيماً عاديَّاً مِن شؤون الهندسة، كإنشاء بيت، أو إنشاء قصر، ينزل في الوحدة الصغيرة عائلة مسكينة، وفي الوحدة الأُخرى أمير له ثَراء وجاه سلطان، إنَّما تناولت شأناً حياتيَّاً آخر، له مِن الحقيقة والشمول، تصميم وتركيز في عمليَّة بناء الفرد بناءً إنسانيَّاً، مُجتمعيَّاً، تتحقَّق به الغايات الشريفة في الحياة، فلا بيت ينشأ والقضيَّة هذه هي المطروحة فوق البساط، ولا قصر ينشأ أيضاً، وتكون لهما حقيقة الثبات، ما لم تحفر أساسيهما عناية القضيَّة الكبيرة، التي تُركِّز نظرة الإنسان على الحقيقة الصادقة فيه، فيبني مُجتمعاً صادقاً يصون فعاليَّاته الفرديَّة الإنسانيَّة المـُتحوِّلة - حتماً - إلى مُجتمع سليم منيع، وعندئذ يكون له البيت، والقصر، والمـُتعة بالعمران. إنَّ الأُمَّة الصادقة، هي الأُمَّة المنيعة، لا يدعمها في مناعتها إلا الحقُّ، والصواب، نظافة العقل، والروح، وهي كلُّها - في العدل والمـُساواة - وحدة عظيمة يجدها الإنسان في ضلوع المـُجتمع.

تلك هي القضيَّة، إنَّها حشو الأساس، وإنَّها هي البيت الذي سكن فيه باعث الرسالة، وإنَّها هي الأساس الذي تقوم عليه جدران هذا البيت الذي هو - بكلِّ مُحيطه - بيت الأُمَّة في حقيقة الرمز.

أيكون أهل هذا البيت ملموحين حِجارة في الأساس؟ إنَّ للمنطق إصبعاً تستقيم بها الإشارة، وإنَّ للقضيَّة تعييناً تتوضَّح دلالته إلى المقلع المرصوص بصلابة الصوان، وإنَّ للحقيقة عيناً لم يدعَج بها إلاَّ عليُّ بن أبي طالب، وهي ترنو إليه بأنَّه مِن المقلع المـُمتاز، الذي يصحُّ به رصف الأساس.

٢٩

ومِن الجهة المـُقابلة، أتكون الإمامة رُكناً يقوم على الأساس؟ ولكنَّ القصد الحكيم كأنَّه جعله سرباً ينضح منه ليعود ويسقيه فلا يعطش، أمَّا المعنى فإنَّه أبداً واحد، فالقضيَّة التي هي في عُمق الشمول، والتي كلَّفت جُهداً يوازي عمر الجزيرة في التفتيش عن واحتها الكُبرى، تتطلَّب صيانة أساسيَّة ومُركَّزة على مثل النظافة والجدارة اللتين يتجوهر بهما مَعدن عليٍّ، كما وأنَّ القبلية الهزيلة العقل والهزيلة الإنسان، أصحبت الآن ترفض إعادة لملمَّة حروف اسمها أمام جلال القضيَّة، التي انبسطت بها أرجاء الجزيرة في وحدة مُجتمعها، ستكون الإمامة الكرسيَّ الجديد والأنظف، تجلس فيه ركيزة الإدارة، دونما احتياج إلى أيَّة استشارة أو إثارة. إنَّ النظافة المرميَّة في الأساس، وفي المدماك الأوَّل، هي التي تُستشار الآن، والتي ستُستشار في الغد، ولكنَّ الأُمَّة التي سيَصلب عودها فوق هذا الأساس، سيكون لها في مثل هذا الصدق والطُّهر، ذيَّاك المـُرَّان، وستبقى القضيَّة الكبيرة التي جمعها هي مُستشارها الأفخم، يُنجيها - ما دامت في وضوح الصراط - مِن العِثار.

في مثل هذا الجوِّ المـُفعم بالمسؤوليَّة البالغة العُمق، والقصد، والجوهر، كان يعيش البيت وأهلوه. لم يكن الحسين الذي يقفز الآن على الطريق المـُمتدِّ بين باحة البيت وساحة المسجد، ليفقه كثيراً ثقل القضيَّة، ولكنَّه كان يشعر أنَّ شيئاً عظيماً يُدغدغه وهو يُفرِّق الناس الجالسين القُرفصاء، وهم يُصغون إلى كلِّ كلمة كانت تخرج مِن بين شَفتي جَدِّه الجالس فوق المنبر. لقد توصَّل الفتى - بعد عَناء - إلى جَدِّه المـُنبري بجلاله. لقد مدَّ يديه وتعلَّق بطوق الجُبَّة، وصعد الهويناً، وكفُّ جَدِّه يُسنده مِن الوراء، وإذا به - رويداً رويداً - ويمتن ربوضه فوق المـَنكبين المـُستسلمين لإرادة الفارس. لقد تبسَّم الجَدُّ الذي هو الآن رحل الحسين، وهو يقول: هذا سيِّدٌ ثانٍ مِن أسياد أهل الجَنَّة، فطوبى لأُمَّة فيها مِثل عليٍّ يُنجب!!!

- ٢ -

وهذه حروف أُخرى ما رصفت ذاتها بذاتها، ما كانت الحروف لأنْ ترقص على أذنابها فتتلحَّن بها الكلمة معطوفة على رَنَّة الوتر، إنَّما المعاني هي التي يشغفها

٣٠

القصد، فتتنضَّد حروفاً يرقص بها الوتر.

لو لم يكن الحسين لمـَعة حُلوة، في حُلم ذلك الذي رقص الدويُّ في أُذنيه فصار بعثاً، وصار حرفاً ضجَّت به الآيات في القرآن، لما كان له - الآن - أنْ يلفَّ عُنق جَدِّه بذراعيه الصغيرتين، ويَجثُم فوق منكبيه ويُثَغْثِغ بالآية الهابطة مِن الجَنَّة التي رآها جَدُّه سيِّداً فيها، أمَّا الجَنَّة التي يُشير إليها النبي المـُشبع بالمهابة والجلال، فهي التي رسم لها أُنموذجاً فوق الأرض، في مُجتمع الأُمَّة الموحَّدة والمؤمنة بإلهٍ واحدٍ عظيمٍ كبيرٍ خيِّر، يجمع بالحَقِّ، ويظهر بالصدق، ويبني بالعلم والمعرفة إنساناً يُصبح عظيماً بمقدار ما ترجح فيه قيمة المـُثل.

تعيسة هي الكلمة تأخذها الأُذن، أو العين دون أنْ يؤخذ معها لونها وصداها! - وأتعس منها كلُّ حقيقة تحتشم، إذ تترك الحرف يتربَّع بها ويتأنَّق بإدراجها في لفَّة الزمر، فإذا بها تترك ملفوفة بحشمتها، وينبري الحرف يتبجَّح بأنَّه هو الصدفة، ولولاه لما كانت بَهْرَجَة ولا لؤلؤة!

تلك هي قِصَّة الحسين الطفل فوق مِنكبي جَدِّه فوق منبر المسجد، لقد سمع الناس ورَأوا عاطفة تموع، وبادرة يلعب بها طفل اسم أُمِّه فاطمة، أمَّا الرمز، وأمَّا الصدى فلا عَلاقة للرسالة بهما، كأنَّ النبي العظيم الذي أخضع الجزيرة برُمَّتها وجعلها تسجد أمام عظمة الحَقِّ، ونجَّاها مِن طفولة بائسة، ما كانت تلعب إلاَّ بالتُّرُّهات والخَرزات الزرق، ليس له إلاَّ أنْ يُلاعب طفلاً اسمه الحسين؛ لا لشيء إلاَّ لأنَّ أُمَّه اسمها فاطمة، ولأنَّها ابنته مِن لحمه ودمه ...

أمَّا الطفل الصغير الذي كان مجذوباً إلى منكبي جَدِّه، وهو يُملي على الناس كيف لهم أنْ يجتمعوا دائماً مع كلِّ غَدٍ، فإنَّه وحده - على الأقل - راح ينحفر في نفسه، بأنَّ الرسالة الكبيرة هي التي يغار جَدُّه عليها، وهي التي يعتبرها دعامة اليوم لتكون دعامة الغَدِ. إنَّ هذه اللحظة - بالذات - هي التي تحفر في نفسه عُمق القضيَّة، وعُمق المسؤوليَّة، وعُمق الوصيَّة، وعُمق الرمز الذي هو كلُّ الصدى.

٣١

حَجَّة الوَداع

ولن تُفلت حَجَّة الوداع مِن تَمنِّينا، لو أنَّها لم تكن وداعاً بمعناها الحرفي، إلاَّ بعد عشرين حَجَّة أُخرى، على الأقلِّ، بمعناها المـُشتاق إلى إطالة العهد مع صاحب البعث، وحامل الحَقِّ والهداية، في سبيل تمتين الحُفر في النفوس، فينمو عودها أنقى، وأصلب، وأثبت في واقع اللمس وترسيخ المـُران، ولكنَّها حصلت كأنَّها الحُلم في صباح تكدَّرت شمسه بمضيضٍ مِن كسوف!

هل كانت حَجَّة الوداع أكثر مِن اسطوانة تخبَّأت فيها وصيَّة؟ ولكنَّ الجماهير الغفيرة الذين امتلأت بهم قافلة الطريق، بين المدينة ومَكَّة، ما كانوا يمشون إلاَّ بحَفاء الأمس - صحيح أنَّ ولادة جديدة قد كحَّلتهم بنورٍ جديدٍ، ولكنَّه نور لم يتسرَّب بعد إلى عُمق الحدقة، ولم تختزنه الطويَّة بعد، فيُصبح جزءاً منها - يا أُمْنَية وهي تضرُّع - لو أنَّ حَجَّة الوداع ما حصلت إلاَّ بعد ثلاثين مِن سنوات الهِجرة، أو بعد أربعين إذا يصحُّ التمنِّي.

أمَّا الوصيَّة في غدير خُمٍّ، فإنَّها هي التي برزت بثوب الرمز اللطيف، ما شربت الاَّ عطشها المـُقدَّس ألم يتوسَّل النبي الكريم - وهو الذي توسَّلت إليه مهابات وجلالات - وهو يقول:( عليٌّ منِّي وأنا مِن عليٍّ ) ،( مَن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللَّهمَّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) ،( إنِّي مُخلِّف فيكم ما إنْ تمسَّكتم به لن تضلُّوا مِن بعدي، كتاب الله وعِترتي أهل بيتي، فإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض ) .

تلك هي الوصيَّة، لقد عطشت بها وإليها حَجَّة الوداع. أمَّا السامعون غدير خُمٍّ، فإنَّهم هم الذين كانوا يسمعون في صباح الأمس، وهم جالسون

٣٢

القُرفصاء، بين يدي مَن ينزل عليهم الآيات، لقد قالوا في تلك الساعة: ما أطيب الرسول يُداعب ابن بنته فاطمة، وها هم الآن يُردِّدون القول في غدير خُمٍّ: ما اشدَّ حُبِّه لعليٍّ، أتراه دائماً يُحبُّه أكثر مِن أيِّ واحدٍ مِنَّا؟ يا للوعي المـَمزوق! كم يلزمه مِن المِران والصفاء، حتَّى يستوي الفهم فيه والرواء!

- ٢ -

غير أنَّ الوصيَّة ما كانت بحاجة إلى حَجَّة الوداع، حتَّى يتناولها النبيُّ المـُتممِّ حُجَّته ما بين يدي ربِّه الرحيم، مِن تحت أُبط عليٍّ، ليعرضها على الناس فيصدُّقوه! لا - وأيْمَ الحَقِّ - لقد كانت الوصيَّة مدقوقة كالوشم فوق جبين عليٍّ، إنَّها مِن سجاياه الناضحة مِن طويَّته الكريمة - لا التاريخ عَمْيَ، ولا أيَّ رجل كريم مِن رجالات ذلك العصر كان يعمى عن قراءة الحقيقة، ولكنَّ سياسة الزُّعماء المـُتشرِّبين روح القبليَّة هي العميَّة!

لم يكن عمر بن الخطَّاب ضعيف السجيَّة، إنَّه عنصر فطنة بين الرجال، وإنَّه عقل تمكَّن مِن احتواء الوسيع مِن الرشد في مجال الحياة، ولكنَّ عنهجهيَّة قبليَّة نائمة في بطانة نفسه، ما سمحت له ولا قبلت أنْ يتقدَّم عليه وعلى أمثاله مِن وجهاء الجزيرة - وبنوع خاصٍّ المـُسنِّين منهم والبارزين في صفوف الصدارة - فتى لا يزال أمرداً، أكان هذا الفتى عليَّاً أم كان فتى آخر اسمه أُسامة بن زيد! لقد كان حِسُّ ابن الخطَّاب - بمركز الزعامة - أرجح مِن حِسِّه بقيمة الرسالة - لهذا لم يُرِد أنْ يُصغي إلى فِطنة التحسُّب في التلميح بالوصيَّة؛ ولهذا كان رفضه القبول بولاية عليٍّ بعد غياب الرسول إلى الرفيق الأعلى؛ ولهذا - أيضاً - كان رفضه القبول بالفتى أُسامة بن زيد أميراً عليهم في الجيش الموجَّه إلى غزوة الشام.

لم يكن هذا وحسب في ميزان عمر، بلْ إنَّ هنالك خبيئة مِن الماضي الوخيم تُعشِّش في ضلوعه، إنَّها الدودة في وزيعة الإرث، إنَّها الأُمويَّة السُّفيانيَّة ضِدَّ الطالبيَّة الهاشميَّة، تمرح بين الخطَّين، وتقضم مِن لحمة الطرفين، إلى أنْ جاءت الرسالة الرضيَّة فتلملمت الدودة إلى خبيئتها في عُتْمة الظنِّ، وها هو غياب الرسول يُعيد

٣٣

الدودة إلى مربعها الأوَّل، وإذا الوصيَّة بعليٍّ هل الأُولى التي تتناولها بالقضم!!! فيا للأُمْنِية تًكرِّر في ضراعتها: لو أنَّ حَجَّة الوداع ما حصلت إلاَّ بعد ثلاثين مِن سنوات الهجرة، أو بعد أربعين إذا يصحُّ التمنِّي! لرُبَّما كان طول المِران ما بين يدي صاحب الرسالة، يقضي على دودة كان تئنُّ منها مُجتمع الجزيرة، كما تئنُّ - أبداً - كلُّ واحة خضراء مِن أسراب الجُراد.

- ٣ -

هنالك سبب وجيه وأساس خَلْفَ تصرُّف عمر بن الخطاب، يُلبِّيه مِن الوراء أبو بكر الصدِّيق بالرضوخ والمـُطاوعة، إنَّه يَكمن في فقر الساحة وافتقارها إلى الصفات التي يتحلَّى بها الإمام عليٍّ، إنَّ الصدق الذي رفع الرجل إلى سويَّة الرسالة وجعله وحياً منها، لم تكن قد حصلت له موجات مِن انعكاسٍ فاعلٍ، رشقت الغير وقرَّبته مِن القُطب المـُمغنط، مِن هنا يكون تأثير الثقافات الفكريَّة، الروحيَّة، الحضاريَّة، تتناول مُجتمعاً بأسره، وتدمغه بالفهم، والحِسِّ والنَّباهة؛ ومِن هنا يكون المِراس والمِران عاملين قويَّين في عمليَّة تنشيط المواهب ونقلها - مِن البَلادة والخُمول - إلى التفاعل الحيِّ؛ ومِن هنا يكون لعليٍّ وصول أوسع، تغتني به أوصال المـُجتمع.

لقد كان عليٌّ ساعة حمل الغَمامَ النبي إلى المصدر الأوسع، طويَّة ينعكس هو فيها بحقيقته المتيقظة؛ لهذا كانت سرعة ابن الخطَّاب في هندسة أمير يتسلَّم الأمارة، قبل أنْ ينشط لها وعيٌ جديد يلمح عليَّاً ويستدعيه إلى مركز الرعاية.

مُنذ تلك الساعة إلى اليوم، ولا رسالة تفعل فعلها المنقوص، في مُجتمع يتقدَّم خُطوة إلى التحقيق، وتتراجع به الرُّدَّة خطوتين إلى الوراء، إنَّه لا يزال مُجتمعاً يهجع به الانتظار.

٣٤

أعود فأقول: لو أنَّ الرسالة في المـُجتمع فعلت فعلها المـُقدَّر لها حصوله في المـُجتمع، لما كانت الحَجَّة تلك بحاجة إلى إعلان وصيَّة، ولما كانت لتُنعت بالوداع، بلْ بالوَصلة الدائمة الحضور في دائرتها العظيمة، التي تجلَّت هي فيها، كأنَّها الأعجاز في رفع المـُجتمع إلى وحدةٍ راح يتَّضح رويداً رويداً على الأرض جلالها في التحقيق.

لا، لم تكن القضيَّة الكبيرة التي اعتنقتها الجزيرة بين يدي محمدها العظيم، بحاجة إلى أيَّة وصيَّة ملفوظة بكلمات، لقد كان لكلِّ خُطوة خطاها الرسول على الأرض حَفر مُعيَّن، له سداد، وله رشاد، ولقد كان لكلِّ إشارة زفَّها إليهم بإصبع كفِّه، أو بلفتة عينه، أو ببسمةٍ ماجت بها شفتاه، دلائل غنيَّة العُمق، بعيدة الغور، ولكنَّه لم يَخطُ خُطوة واحدة الاَّ ومعه الرسالة، ولم يتفوَّه بكلمة واحدة ليست حروفها مِن حروف الرسالة، إنَّها وحدها كانت الوصيَّة، وإنَّها وحدها التي بنت وجمعت، فهي القضيَّة، وإنَّها منه، وإنَّه لم يغار أبداً إلاَّ عليها، لأنَّها القضيَّة، ولن يُقرِّب اليه أحداً مِن الناس، إلاَّ الذي يراه متين المنكبين لحمل الرسالة التي هي كلُّ القضيَّة.

أيكون كلُّ هذا المخطوط البارز في حقيقة مُجتمع الجزيرة صعب الفهم، وصعب اللمح، وصعب السمع حتَّى نطلب مِن الغائب الذي التحق بسُّحب الغيب، أنْ يعود ويوضِّح حروف الوصيَّة، لنرى اليوم مَن هو المدلول إليه ليتسلَّم زمام الرسالة؟ هل هو عليُّ بن أبي طالب، أم أنَّه عمر بن الخطاب ملفوفاً بأبي بكر الصدِّيق، مَفروزاً إلى عثمان بن عفَّان؟

ليت حَجَّة الوداع قد تكرَّرت مَرَّتين؛ حتَّى يقتنع ابن الخطاب بأنَّ الوصيّة بتعهُّد الرسالة - القضيَّة - هي لعليٍّ، لا بصفته قريباً وابن عَمٍّ، ولو بوجود العباس وهو عمٌّ أولى، ولا بصفته طالبيَّاً مُنافساً لسفياني؛ بلْ لانَّ عزم الروح كان جليلا فوق منكبيه، ولأنَّ الذي سَحب الجزيرة مِن أمسها البائس هو الذي حضَّر لها غَداً مُشرقاً، غنيَّاً بالوِئام النظيف والرأي الحصيف.

٣٥

أين هو الحسين

- ١ -

إنَّه الآن هنا ثمَّ هناك، لا يستقرُّ له مقام، فبينا تراه قابعاً وحده في زاوية البيت، كأنَّه في إغفاءة التفكير، إذا به، بعد لحظات قاسيات، يقيس الطريق بخُطواته التائهة، بين ساحة البيت وباحة المسجد.

لقد فهم بعُمق أنَّ حقيقة رهيبة اسمها الموت، قد تناولت جَدَّه الحبيب، ولفَّته إليها، كأنَّها الزوبعة الرهيبة الهابطة مِن غياهب الغيب! أين هو جَدُّه الآن؟ وقد سحبته العاصفة مِن منبر المسجد؟ أتراه قد أصبح في البُعد البعيد، أم أنَّه لا يزال حيَّاً في عذوبة الصدى، كما تحيا شجرة الأراك في ظلِّها الناعم؟

ويرتاح الفتى، وهو مأخوذ بعفويَّة التصوُّر، يدخل المسجد الخالي مِن جَدِّه، ومِن المـُقرفصين المـُصغين ويعتلي المنبر يُفتِّش عن المنكبين الرازحين تحت رأس الدلال!!!

ولكنَّه لا يجد المنكبين، ولا الرأس تحت ملمس الكفَّين، مع أنَّه راح يَسمع الجُدران الشبعانة مِن حفيف الصدى وهي تُردِّد: هذا ابني مِن عليٍّ وفاطمة، إنَّه وأخوه عُقدة البيت، وإنَّهما سيِّدان مِن أسياد الجَنَّة، وإنَّهما يردان عليَّ الحوض، وإنَّهما إمامان قاما أو قعدا..

هنا دائماً سنجد الحسين في المسجد، وفي زاوية البيت حِضنه الأوَّل والأحَبُّ والمـُخمس الأحضان، إنَّه ضمن حيطان المسجد، يُلملم، مِمَّا عُلِّق عليها مِن نبرات جَدّهِ، كلَّ الخيوط التي سينسج منها جُبَّته وقُمصانه.

٣٦

- ٢ -

لقد كان الحسين باكر التمييز والنُّضج، لا نردُّ ذلك إلى بُنية مُنسَّقة الاسنجام، هي مِن نعمة باريها هِبة كريمة يتمتَّع بها وجود الإنسان، أكثر مِمَّا نُعزِّزها - وهي البُنية الأصيلة - بتنشئة واضحة القصد، والتوجيه، والإحاطة، فإذا هي طاقة مُستعجلة إلى تلبية الغاية وبلوغ المرام.

لقد كان الحسين تلك البُنية السليمة بما شعَّ عليها مِن دلائل نُبْل الفِكر والروح، وهي كلُّها التي لمحتها عين النبيِّ الكريم مُتحدِّرة مِن صُلب عليٍّ، فإذا هي - في عين الطفل وفي محياه - استجابة للأصل والجوهر، وتحقيق لأشواق الحُلم الذي جاشت به تلك الليالي الصامتة: فكان الانبعاث، وكانت الرسالة، وكانت القضيَّة، وكانت الوصيَّة الهاجعة في عين الحُلم.

مِن هنا كان وضوح القصد، ومِن هنا كانت التنشئة مُعيَّنة التوجيه، وكانت الإحاطة موحَّدة العناصر، وحاضرة الإعداد، وكانت البيئة - بحدِّ ذاتها - بيئة غنيَّة بمواردها الفكريَّة - الروحيّة - الأصيلة في بُعدها وجوهرها، وتحقيقاتها الرائعة المِثال.

لقد كان كلُّ ذلك في الجوِّ الذي راح الحسين يتنفَّس فيه، ويدرج مِن حِضن إلى حِضن، فكيف له - وهو الآن في ثمانية مِن العُمر - أنْ لا يكون باكر النضج والتمييز؟! وكيف له أنْ لا يُدرك - وهو تحت عين أبيه علي وبين يديه وفي احتكاك لا يهدأ بروحه وقلبه ولسانه - أنَّ جدَّه الذي رجع مريضاً مِن حَجَّة الوداع، وهو الذي أضناه التعب في الساحات الكبيرة، التي امتصَّت فِكره وقلبه وأوصاله؟! وها هو يتركها وقد خلَّف فيها الثقلين: عترته، ورسالة ملفوفة بكتاب، وحُلماً أصيلاً بأنَّ الجُهد الكبير في الحياة، هو مِن الحياة، وأنَّ الحقَّ لا يموت، وأنَّ الاستمرار هو الوصلة الجُلَّى، يتنقَّل الجُهد بها وعليها إلى بقاء القيمة الخالدة في مُجتمع الإنسان.

لقد أدرك الحسين - وهو في بكرة طريَّة مِن العُمر - أنَّ جَدَّه وأباه، هما مُحيطان في الإصابة، وأدرك أنَّ عليه - مُنذ الآن - أنْ ينمو ويترعرع في حِضن جَدَّه الذي

٣٧

غاب وبقي كامل الحضور في المسجد - إنَّها وصيَّته - لقد سمعها مِن جَدِّه وهو يتغنَّج عليه فوق منبر المسجد.

- ٣ -

ما كان أبوه علي يخرج مَرَّة إلى الساحات ويعود إلى رُكن البيت، إلاَّ وفي جَعبته خبر ثقيل كأنَّه الرزيئة، لقد اجتمعوا أربعتهم الليلة هذه على الحصير حول صينيَّة، مَدَّت عليها فاطمة وجبة الطعام، أمَّا الأب الذي كان يأكل قليلاً وهو يتحدَّث، فإنَّه راح يوضِّح لهم قِصَّة السقيفة، سقيفة بني ساعدة، كيف وظَّفها عمر بن الخطاب لتُبعده عن حقيقته وحقوقيَّته في الإمارة، وإحلال أبي بكر فيها، كأنَّ الرضوخ لمشيئة النبي هو الخطأ، وفي المعصية الصواب.

لقد تبسَّط أمامهم كيف أنَّ في التصرُّف هذا استدعاء أثيما لقبلية، حاول النبي الحكيم وَأدَها وتخليص مُجتمع الأُمَّة منها، وإذا لها الآن توَّاً - إثر غيابه - عودة إلى الأرض، وإلى النفوس، تنهدر بها الطاقات الفاعلة، وينشل الزخم الواعي، مُتلهياً بالعرض عن الجوهر. إنَّ الوحدة هي في الخطر المـُداهم تحمله سياسة الزعامات!

لقد شرح لهم بعُمق وهو مُثقل المنكبين: إنَّ للأعمال الكبيرة أوقاتاً مرهونة بها ساعات مُباركة، مقرونة بالتحفِّز والرضوان، ولقد قطفتها - في حينونة ساعتها - نَهدة الحَقِّ بنبيِّها وبطلها الذيب، لم تنجب صِنوه ملحمة مِن أقدس الملاحم في وجود الإنسان، واستطرد يقول: مَن لنا الآن، وقد غاب سيف صقيل مِن بيننا، وفوَّتنا علينا تعهُّد ما غرسناه في البستان؟! لهفي على الرسالة، يلزمها المـَعين، ونقطع عنها - وهي طريَّة - هذا المـَعين!!!

ما كادت فاطمة تستوعب مرارة البوح حتَّى غاصت في نشيجها، فهبَّ الحسن يُطيِّب خاطرها ويُهدئ مِن ثورة كالحة في صدرها وهو يقول: إنَّ خلف الليل هذا - يا أُمِّي - هزيعاً آخر، لابدَّ أنْ تطيب شمسه فرمقه الحسين بعين سرحت منها نقطة دمٍ، وهرول صوب الليل وهو يقول: جَدِّي ينتظرني في باحة المسجد.

٣٨

- ٤ -

بالرغم مِن أنَّ المـُعتدَى عليه كان يسكت ويصبر على الضيم، علَّ الليل يأتي بصباح آخر طيِّب الشمس، كان المـُعتدي لا يقبل إلاَّ بالتحدِّي.

لم يدرِ أهل البيت في أيَّة ساعة مِن ذلك الليل، تسلَّل أُمويٌّ سفيانيٌّ إلى ساحة الدار، واقتلع منها شجرة الأراك التي كانت وحدها مَظلَّة النبي، وكانت وحدها ظِلاًّ يركن إليه صِبْية الحيِّ ليلعبوا مع الحسن والحسين، في كلِّ ضحوةٍ محمومة بلهيب الشمس، في تلك الليلة بالذات، كان أهل البيت متحلِّقين حول عميدهم عليٍّ، وهو يُطلعهم على تصرُّف الخليفة أبي بكر بحجزه ( نِحلة فَدَك ) عنهم، كأنَّه لا يُريد لهم أيَّة بحبوحة مِن رزق تعولهم في حشرة الشَّحِّ!!.

ما تحمَّلتها فاطمة عندما فتحت الباب مع الصباح، ولمحت شجرتها العفيفة مطروحة فوق التراب، لقد تلفَّعت بخِمارها وانسابت، كأنَّها قضيب مِن بانٍ معكوف عليه صولجان، لقد تعلَّق بذيلها - وهي تهرول - فتاها الحسين، لأنَّه عرف أنَّها تقصد المسجد.

لقد انتثرت - أمام مِن اغتصب المشيئة، واقتلع مِن الساحة شجرتها المـُظلَّة - ثورة مبحوحة الصوت، ما تردَّت أُنوثتها مِن قَدِّها النحيل، إلاَّ وتبدَّت بجبروتها مِن عُنفوانها الأصيل.

لقد أفهمته أنَّ الأُمَّة العظيمة، التي ينشرها أبوها لتكون هديَّة ومِثالا على صفحة الأرض، إنَّما هي صداه في جبروته المـُتلقط بالذمَّة الكريم الطاهرة البنَّاءة، وسألته: لماذا تُعطِّلون أنتم الذمَّة، وتطمرون الصدى في حفر الجحيم؟! إنَّ الشجرة للظلِّ - فهي الوارفة - وتدَّعون أنَّكم ما قطعتم الظِلَّ إذ اقتلعتم الشجرة!!!

وفَدك، أيُّها المـُتنعِّمون بخيرات الفيء - وهل كان الفيء غير ظِلٍّ مِن أظلالنا؟! ونحن الذين استقيناه مِن كوثر النعيم - فلماذا تحرموننا منه ونحن الذين أفضناه؟

٣٩

لقد أُفعم الجوُّ كلُّه في باحة المسجد، بنبرات صوتها التي لم تتمكَّن مِن تخليصها مِن الضعف والخفوت

أمَّا الحسين، فإنَّه راح يلتصق بها حتَّى لكأنَّه أصبح وتراً مشدوداً بعودها وهو يقول: طِبْت طِبْت يا أُمَّاه! لو تقدرين أنْ تجعلي صوتك عالياً كالهدير فيه!!! كمْ أُحبُّ الآن أنْ يسمعه أولئك الذين هُمْ نيام خلف جُدران هذا المسجد، ارفعي صوتك أكثر وأكثر - يا أُمِّي - علَّهم أيضاً، أولئك الذين هناك، يسمعون.

أمَّا الخليفة الذي بدا كأنَّه المـُنهار، فإنَّه اقترب من المرأة، وضمَّ الحسين إلى صدره وهو يُتمتم: كمْ كان النبي يُحبُّك يا بن علي، لقد رأيته مَرَّة يُعرِّيك ويزرع في جسمك القُبَل.

والتفت إليه الحسين بعينين فيهما طفولة عمرها أقلُّ مِن تِسع سنين، وفيهما بريق أدعج أحمر، كأنَّه مِن زفرة شمس.

- ٥ -

لقد شاهد الحسين أُمَّه كيف كانت تَنْعس نُعاساً باسماً، وهي تتأوَّد بفرح كأنَّه مُنتهى الغِبطة بين ذراعي الموت! لقد كان يفرك أصابع كفيِّها الباردة، وهو جاث بجنب فراشها الممدود فوق الحصير، كانت أسماء بنت عميس، لطيفة كالشعاع، وهي تُرطِّب شفتيها بمنديل مُبلَّل بماء الزهر، حتَّى تُخفِّف عنهما نشفة مَصَّت منها بهجة القرمز.

أمّا أبوه عليٌّ، فكان كأنَّه طود مسحوق القِمَّة، يزرع صحن الدار بخطوات تئنُّ مِن فَرط الوقار، هنالك الحسن وحده بقي في الزاوية راكعاً يُصلِّي، ثمَّ لا يعتم أنْ يتلَمْلَم على رؤوس أصابعه، ويتقدَّم حتَّى يرى إذا يتنفَّس الأمل وتعود الحياة إلى ثغر أُمِّه فيبتسم!!

وفتحت فاطمة عينين غارقتين بما يُشبه النُّعاس، ولكنَّه أعمق مِمَّا يُسمَّى بمرمى النظر، إنَّهما مِن مدى آخر، فيه شفافيَّة مِن فضاء، وقرار مِن رؤى، وسِمات مِن

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176