أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 308058
تحميل: 10900


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 308058 / تحميل: 10900
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ياليتني مثلك في البياض

أبيض من أخت بني إباض(١)

وأنشدوا أيضا قول الشاعر(٢) :

أمّا الملوك فأنت اليوم ألأمهم

لؤما وأبيضهم سربال طبّاخ

فأما البيت الأول فإن أبا العباس المبرّد حمله على الشذوذ، وقال: إنّ الشاذّ النادر لا يطعن في المعمول عليه، والمتفق على صحته، ويجوز أيضا أن يقال في البيت الثاني مثل ذلك، وقد قيل في البيت الثاني إنّ أبيض فيه ليس هو الّذي للمفاضلة، وإنما هو أفعل الّذي مؤنثه فعلاء، كقولك أبيض وبيضاء؛ ويجري ذلك مجرى قولهم هو حسن(٣) القوم وجها، وشريفهم(٣) خلقا؛ فكأنّ الشاعر قال:(٤) ومبيضّهم، فلما أضافه انتصب ما بعده لتمام الاسم، وهذا أحسن من حمله على الشذوذ(٥) .

ويمكن فيه وجه آخر وهو أنّ أبيض في البيت وإن كان في الظاهر عبارة عن اللون فهو في المعنى كناية عن اللؤم والبخل، فحمل لفظ التعجب على المعنى دون اللفظ،

____________________

(١) البيت في اللسان (بيض)، وروايته فيه:

جارية في درعها الفضفاض

أبيض من أخت بني إباض

وفي حاشية ف: (أبيض، بالرفع على تقدير: أنت أبيض، وبالفتح على أنه حال من أنا أو أنت.

وإباض: اسم رجل).

(٢) في حاشيتي ت؛ (قال السيد المرتضىرضي‌الله‌عنه : هو لطرفة؛ وإنما أراد ذمه بقلة القرى في بيته) فطباخه نقي الثوب).

والبيت في ديوانه: ١٥، وروايته فيه:

إن قلت نصر فنصر كان شرّ فتى

قدما وأبيضهم سربال طبّاخ

وهو أيضا في اللسان (بيض)، وروايته فيه:

إذا الرجال استووا واشتدّ أكلهم

فأنت أبيضهم سربال طبّاخ

(٣ - ٣) حاشية ت (من نسخة): (هو أحسن القوم وجها وأشرفهم خلقا).

(٤) حاشية ف: (مبيضهم؛ أي أبيضهم، لا بمعنى المبالغة).

(٥) حاشية ف: (تحقيق ما قدره السيد أن يكون أبيضهم سربال طباخ) ليس معناه التعجب، والمعنى مبيضهم سربال طباخ، ويؤول المعنى إلى أن سربال طباخه أبيض فحسب ولا يعني أنه أشد بياضا من سربال غيره).

١٢١

ولو أراد بأبيضهم بياض الثوب ونقاءه على الحقيقة لما جاز أن يتعجب بلفظة (أفعل)، فالذي جوّز تعجّبه بهذه اللفظة ما ذكرناه.

فأما قول المتنبي:

ابعد بعدت بياضا لا بياض له

لأنت أسود في عيني من الظّلم(١)

فقد قيل فيه إن قوله: (لأنت أسود في عيني) كلام تام، ثم قال: (من الظلم) أي من جملة الظّلم؛ كما يقال: حرّ من أحرار(٢) ، ولئيم من لئام؛ أي من جملتهم، وقال الشاعر(٣) :

وأبيض من ماء الحديد كأنّه

شهاب بدا واللّيل داج عساكره

كأنه قال: وأبيض كائن من ماء الحديد، وقوله: (من ماء الحديد) وصف لأبيض، وليس يتّصل به كاتصال (من) بأفضل في قولك: هو أفضل من زيد، ولفظة (من) في بيت المتنبي مرفوعة الموضع، لأنها وصف لأسود؛ وإذا أريد المفاضلة والتعجب كانت منصوبة الموضع بأسود(٤) كما تقول زيد خير منك، فمنك في موضع نصب بخير، كأنه قال: قد خارك يخيرك، أي فضلك في الخير؛ وهذا التأويل المذكور في بيت المتنبي يمكن أن يقال في قول الشاعر:

* أبيض من أخت بني إباض*

ويحمل على أنه أراد من جملتها ومن قومها، ولم يرد التعجب وتأوّله على هذا الوجه أولى من حمله على الشذوذ، فأما قول المتنبّي:

* ابعد بعدت بياضا لا بياض له*

____________________

(١) ديوانه ٤: ٣٥؛ وهو يخاطب الشيب، وقبله

ضيف ألمّ برأسي غير محتشم

والسّيف أصدق فعلا منه باللّمم

 (٢) ش، ف، وحاشية ت (من نسخة): (حر من الأحرار ولئيم من اللئام).

(٣) البيت في شرح العكبري لبيت المتنبي، أورده من غير عزو.

(٤) حاشية ف: (إذا قلت زيد أضرب من عمرو كان الجار مع المجرور في موضع النصب على المعهود من حال الجار والمجرور؛ لأنه على تقدير: غالب زيد عمرا في الضرب فغلبه؛ فيكون إذا (من عمرو) في موضع النصب؛ لأنه في معنى المفعول على ما ذكرنا).

١٢٢

فالمعنى الظاهر للناس فيه أنه أراد: لا ضياء له ولا نور ولا إشراق، من حيث كان حلوله محزنا مؤذنا بتقضّي الأجل؛ وهذا لعمري معنى ظاهر؛ إلا أنه يمكن فيه معنى آخر؛ وهو أنّه يريد إنك بياض لا لون بعده، لأن البياض آخر ألوان الشعر، فجعل قوله: (لا بياض له) بمنزلة قوله: لا لون بعده، وإنما سوّغ ذلك له أنّ البياض هو الآتي بعد السّواد، فلما نفى أن يكون للشيب بياض كان نفيا لأن يكون بعده لون.

وقد اختلف القراء في فتح الميم وكسرها من قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمى، فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو بفتح الميمين معا، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي بكسر الميم فيهما معا(١) ، وفي رواية حفص عن عاصم:

لا يكسر هما، وكسر أبو عمرو الأولى وفتح الأخيرة: ولكل وجه، أما من ترك إمالة الجميع؛ فإن قوله حسن، لأن كثيرا من العرب لا يميلون هذه الفتحة، وأما من أمال الجميع فوجه قوله أن ينحو بالألف نحو الياء، ليعلم أنها تنقلب إلى الياء(٢) ، وأما قراءة أبي عمرو بإمالة الأولى وفتح الثانية فوجه قوله أنّه جعل الثانية أفعل من كذا مثل أفضل من فلان، وإذا جعلها كذلك لم تقع الألف في آخر الكلمة؛ لأنّ آخرها إنما هو من كذا، وإنما تحسن الإمالة في الأواخر، وقد حذف من (أفعل) الّذي هو للتفضيل الجارّ والمجرور جميعا، وهما مرادان في المعنى مع الحذف، وذلك نحو قوله تعالى:( فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى ) ؛ [طه: ٧]؛ المعنى وأخفى من السر، فكذلك قوله تعالى:( فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمى ) ، أي أعمى منه في الدنيا، أو أعمى من غيره، ويقوى هذه الطريقة ما عطف عليه من قوله تعالى:( وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) ، فكما أن هذا لا يكون إلا على (أفعل من كذا) كذلك المعطوف عليه.

____________________

(١) ت، ونسخة بحاشيتي ت، ف: (جميعا).

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (على هذا الوجه لا تميل بحال؛ إلا إذا كانت الكلمة من بنات الياء؛ فأما إذا لم تكن من بنات الياء فلا تميل، والأعمى أصله عمى، فهو إذا من بنات الياء).

١٢٣

تأويل خبر [تقيئ الأرض أفلاذ كبدها مثل الأسطوان]

روى أبو هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: (تقيئ الأرض أفلاذ كبدها مثل الأسطوان من الذّهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول في مثل هذا: قتلت، ويجيء القاطع الرّحم(١) فيقول في مثل هذا: قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول في مثل هذا:

قطعت يدي، ثم يتركونه ولا يأخذون منه شيئا).

معنى (تقيئ) أي تخرج ما فيها من الذهب والفضة، وذلك من علامات قرب الساعة، وقوله: (تقيئ) تشبيه واستعارة من حيث كان إخراجا وإظهارا؛ وكذلك تسميته(٢) ما في الأرض من الكنوز (كبدا) تشبيها(٣) بالكبد التي في بطن البعير وغيره؛ وللعرب في هذا مذهب معروف؛ قال مرّة بن محكان(٤) السّعدي يصف قدرا نصبها للأضياف:

لها أزيز يزيل اللحم أزمله

عن العظام إذا ما استحمشت غضبا(٥)

ترمى الصّلاة بنبل غير طائشة

وفقا إذا آنست من تحتها لهبا(٦)

فوصفها بالغضب تشبيها واستعارة، فأما الأزيز فهو الغليان، والعرب تقول: لجوفه أزيز مثل أزيز المرجل، والأزمل: الصوت، واستحمشت، أي غضبت؛ يقال: حمشه أي أغضبه، وقال النابغة الجعدي في معنى الاستعارة:

____________________

(١) ف، ونسخة بحاشيتي الأصل، ت: (للرحم).

(٢) د، وحاشية ت (من نسخة): (تسمية).

(٣) ش، ونسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (تشبيه).

(٤) ضبط بالقلم في ت بفتح الميم، وفي ف بالفتح والكسر معا.

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (استحمشت)، بالبناء للمجهول وفي حاشيتي ت، ف (أحمشت الرجل وحمشته؛ أي أغضبته فاحتمش واستحمش، والحمشة الاسم كالحشمة؛ واحتمش الديكان: اقتتلا).

وفي حواشي الأصل، ت، ف: (قبله:

نصبت قدري لهم والأرض قد لبست

من الصّقيع ملاء جدّة قشبا

- ملاء: جمع ملاءة، قشبا: جمع قشيب؛ وهو الجديد).

(٦) في حاشيتي الأصل، ف: (الصلاة: جمع صال. غير طائشة: غير مخطئة. وفقا، أي رميا وفقا؛ شبه ما ترمى به النار من نفيانها بالنبل؛ أي كلما اشتدت النار تحت القدر اشتد غليها بقدر اشتداد النار تحتها).

١٢٤

سألتني عن أناس هلكوا

شرب الدّهر عليهم وأكل(١)

فوصف الدهر بالأكل والشرب تشبيها واستعارة. وقال قوم: معنى البيت شرب أهل الدهر بعدهم وأكلوا.

واختلف أهل اللغة في الأفلاذ، فقال يعقوب بن السّكّيت: الفلذ لا يكون إلاّ للبعير، وهو قطعة من كبده(٢) ، ولا يقال فلذ الشاة، ولا فلذ البقرة، ويقال: أعطني فلذا من الكبد، وفلذة من الكبد، قال أعشى باهلة:

تكفيه حزّة فلذ إن ألمّ بها

من الشّواء ويروي شربه الغمر(٣)

الغمر: القدح الصغير؛ وقال يعقوب: ولا يقال: أعطني حزّة من سنام ولا من لحم، وإنما الحزّة في الكبد خاصة؛ فإذا أرادوا ذلك من السّنام واللحم قالوا: أعطني(٤) حذية من لحم؛ وهي القطعة الصغيرة، وفلقة من سنام، وقال الطّوسي(٥) عن أبي عبيد عن الأصمعي قال: يقال: أعطني حذية(٦) من لحم، وحزّة من لحم؛ إذا كانت مقطوعة طولا، فإذا كانت مجتمعة قلت: أعطني بضعة من لحم، وهبرة من لحم، ووذرة من لحم.

ومثل هذا الحديث قوله:( وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقالَها ) ؛ [الزلزال: ٢]. معناه أخرجت ما فيها من الكنوز، وقال قوم: عنى به الموتى، وأنها أخرجت موتاها، فسمى

____________________

(١) ت، د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): (بأناس).

(٢) حاشية الأصل: (ذكر ابن الشجري: الفلذ كبد البعير خاصة؛ وليس بقطعة من الكبد؛ وكذا ذكره ابن السكيت).

(٣) من قصيدة له يرثي بها المنتشر بن وهب الوائلي، أولها:

إني أتيت بشيء لا أسرّ به

من علولا عجب فيه ولا سخر

وهي في (أمالي اليزيدي ١٣ - ١٨، وجمهرة الشعر ٢٨٠ - ٢٨٣، والأصمعيات ٣٢، ٣٥، والكامل - بشرح المرصفي ٨: ٢١١ - ٢١٢) ويذكرها المؤلف فيما بعد.

(٤) ش، ص: (حذية)؛ بضم الحاء وكسرها.

(٥) حاشية ت: (أبو الحسن علي بن عبد الله الطوسي).

(٦) كذا ضبط بالقلم في الأصل، ت، ف، وفي الحواشي: (المعروف: الحذية، بالكسر؛ وهي القطعة من اللحم على الطول. والحذوة (مثلثة الحاء): العطية).

١٢٥

تعالى الموتى ثقلا(١) تشبيها بالحمل الّذي يكون في البطن، لأن الحمل يسمى ثقلا، قال تعالى:( فَلَمَّا أَثْقَلَتْ ) ؛ [الأعراف: ١٨٩]. والعرب تقول: إن للسيد الشجاع ثقلا على الأرض، فإذا مات سقط عنها بموته ثقل، قالت الخنساء ترثي أخاها صخرا:

أبعد ابن عمرو من آل الشري

د حلّت به الأرض أثقالها(٢)

معناه أنه لما مات حلّ عنها بموته ثقل لسؤدده(٣) وشرفه، وقال قوم: معنى (حلّت) زينت موتاها به، وهو مأخوذ من الحلية؛ وقال الشّمردل اليربوعي يرثي أخاه:

وحلّت به أثقالها الأرض وانتهى

لمثواه منها وهو عفّ شمائله(٤)

وروى هشام بن المنذر(٥) قال: قال زهير بن أبي سلمى المزني بيتا ثم أكدى، ومرّ به النابغة الذّبياني فقال له: ياأبا أمامة، أجز، قال: ماذا؟ قال:

تزال الأرض إمّا متّ خفّا

وتحيا ما حييت بها ثقيلا(٦)

نزلت بمستقرّ العزّ منها

 ... ... ... ... ... ... .....

فماذا قال؟ فأكدى والله النابغة أيضا، وأقبل كعب بن زهير وهو غلام، فقال له

____________________

(١) في نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أثقالا).

(٢) ديوانها ٢٠١.

(٣) ت، ج، ف: (بسؤدده).

(٤) البيت من قصيدة مذكورة (في أمالي اليزيدي ٣٢ - ٣٤، والأغاني ١٢: ١١٣ - ١١٤، وأبيات منها في ابن أبي الحديد ٤: ٣٨٣، وحماسة ابن الشجري ٨٣) وفي حاشيتي الأصل، ف:

شمائله: أخلاقه، والواحد شمال، بالكسر، قال الشاعر:

* وما لومي أخي من شماليا*

(٥) في حاشيتي الأصل، ف: (نسخة ابن قدامة: وروى أبو المنذر همام بن محمد بن السائب قال قال زهير). والّذي في الأصل يوافق ش، ص. وفي م: (أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب).

(٦) ت، د، ونسخة بحاشيتي الأصل، ت: (تراك)، وفي حاشيتي الأصل، ت: (يقول:

إن مت صارت الأرض خفيفة بموتك، وإن تحيا بقيت ثقيلة).

١٢٦

أبوه: أجز يابنيّ، فقال: ماذا؟ فأنشده البيت الأول، ومن الثاني قوله: (بمستقرّ العزّ منها)؛ فقال كعب:

* فتمنع جانبيها أن يزولا*

فقال زهير: أنت والله ابني.

وإنما خصّ الكبد من بين ما يشتمل عليه البطن، لأنه من أطائب الجزور، والعرب تقول: أطائب الجزور: السّنام، والملحاء(١) ، والكبد.

***

[أبيات للخنساء في مدح أخيها، ثم استطراد لذكر أبيات تشبهها]

قال سيدنا الشريف الأجلّ المرتضى، أدام الله علوّه: وإني لأستحسن قول الخنساء(٢) ، وقد قيل لها: ما مدحت أخاك حتّى هجّنت(٣) أباك، فقالت:

جارى أباه فأقبلا وهما

يتعاوران ملاءة الحضر(٤)

حتّى إذا نزت القلوب وقد

لزّت هناك العذر بالعذر(٥)

وعلا هتاف الناس: أيّهما؟

قال المجيب هناك: لا أدري

برزت صفيحة وجه والده

ومضى على غلوائه يجري

أولى فأولى أن يساويه

لولا جلال السّنّ والكبر

وهما كأنّهما وقد برزا

صقران قد حطّا إلى وكر

____________________

(١) الملحاء: وسط الظهر؛ ما بين الكاهل إلى العجز.

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (كانت الخنساء كثيرة المدح لأخيها، فقيل لها: قد فضلته على أبيك، فقالت هذه الأبيات). وهي في (زهر الآداب، ٤: ٦٧ وحماسة ابن الشجري ١٠٤، والبيت الأول في خزانة الأدب ٣: ٢٧٧).

(٣) ف، ونسخة بحاشيتي ت، الأصل: (هجوت)، وفي حواشي الأصل، ت، ف: (وروى: ما أبنت أخاك حتى هجنت أباك).

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (بارى أباه، تعني أخاها، ويتعاوران: يتداولان، والحضر العدو).

(٥) في حاشيتي الأصل، ف: (نزت: ارتفعت، ولزت: لصقت، يعني؛ حتى تحرك قلوب النظارة، والعذر: جمع العذار؛ يعني عذارى فرسيهما في التسابق؛ وهو استعارة).

١٢٧

ويقال: إنه قيل لأبي عبيدة: ليس هذه الأبيات في مجموع شعر الخنساء، فقال أبو عبيدة: العامّة أسقط من أن يجاد عليها بمثل ذلك.

ولعمري إنها قد بلغت في مدح أخيها من غير إزراء على أبيها النهاية، لأنها جعلت تقدّم أبيه له عن قدرة منه على المساواة، وعن غير تقصير منه، وإنما(١) أفرج له عن السبق معرفة بحقه، وتسليما لكبره وسنه، وكأنّ الخنساء نظرت في هذا المعنى إلى قول زهير يصف حمار وحش(٢) :

فشجّ بها الأماعز فهي تهوي

هوي(٣) الدّلو أسلمها الرّشاء(٤)

فليس لحاقه كلحاق إلف

ولا كنجائها منه نجاء(٥)

يقدّمه إذا احتفلت عليها

تمام السّنّ منه والذّكاء(٦)

ويشبه أن يكون الكميت أخذ من الخنساء قوله في مخلد بن يزيد بن المهلّب:

ما إن أرى كأبيك أدرك شأوه

أحد ومثلك طالبا لم يلحق

تتجاذبان؛ له فضيلة سنّه

وتلوت بعد مصلّيا لم تسبق(٧)

____________________

(١) ت: (وإنه).

(٢) الأبيات في ديوانه: ٦٧ - ٦٩.

(٣) ضبطت في ت بضم الهاء وفتحها معا.

(٤) حواشي الأصل، ت، ف: (أي شج الحمار بالأتن الأماعز، أي علا الأماعز بهن، والأمعز: الأرض الصلبة، وكذلك المعزاء، والهوي: السقوط إلى أسفل، وكذلك الهوي في السير.

وبعد هوى من الليل؛ أي هزيع؛ وقيل: الهوى [بالضم] الارتفاع).

(٥) في حاشيتي الأصل، ف: (يقول: ليس يلحق شيء في السرعة كما يلحق الحمار في سرعته، والمراد بالإلف صاحبه. ولا كنجائها؛ أي ليس شيء ينجو كنجائها، أي ليس شيء ينجو كنجاء الأتان؛ أي لا يهرب هارب كهربها، ولا يلحق لاحق كلحوقه).

(٦) احتفلت: اجتهدت وتأهبت؛ ورواية الديوان:

يفضّله إذا اجتهدت عليه

تمام السّنّ منه والذّكاء

 (٧) د، ش، ونسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (تتجاريان)؛ وفي حاشيتي الأصل، ف: (قوله تتجاذبان، في موضع الحال من قوله: (ما إن أرى كأبيك)، ومثلك، أي ما رأيت مثلك ومثل أبيك في حال مجاذبتهما ومجاراتهما في المجد والشرف. وقوله: (له فضيلة سنه) جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر؛ المعنى يقول: إن سبقك أبوك فلا غرو، فإنه لم يسبق قط، وإن سبقته فأنت جدير بالسبق).

١٢٨

إن تنزعا وله فضيلة سبقه

فبمثل شأو أبيك لم يتعلّق

ولئن لحقت به على ما قد مضى

من بعد غايته فأحج وأخلق

ويشبه هذا المعنى قول المؤمّل بن أميل الكوفي المحاربي يمدح المهدي في حياة المنصور:

لئن فتّ الملوك وقد توافوا

إليك من السّهولة والوعور(١)

لقد فات الملوك أبوك حتّى

بقوا من بين كأب أو حسير(٢)

وجئت وراءه تجري حثيثا

وما بك حيث تجري من فتور

____________________

(١) خبر هذه الأبيات في أمالي الزجاجي: ٦٠ - ٦٢: (وفد المؤمل بن أميل على المهدي بالري فامتدحه، فأمر له بعشرين ألف درهم؛ فاتصل الخبر بالمنصور؛ فكتب إليه يعذله ويقول: إنما كانت سبيلك أن تأمر للشاعر بعد أن يقوم ببابك سنة بأربعة آلاف درهم؛ وكتب إلى كاتبه بإنفاذ الشاعر إليه، فسأل عنه فقيل له: قد شخص إلى مدينة السلام، فكتب إلى المنصور بخبره، فأنفذ المنصور قائدا من قواده إلى النهروان يتصفح وجوه الناس؛ حتى وقع بيده المؤمل، فأتى به المنصور، فقال له: أتيت غلاما غرا فخدعته! قال: نعم ياأمير المؤمنين! أتيت غلاما غرا كريما فخدعته فانخدع لي؛ فكأن ذلك أعجبه، فقال له: أنشدني ما قلت فيه؛ فأنشده:

هو المهدي إلاّ أنّ فيه

مشابه صورة القمر المنير

تشابه ذا وذا فهما إذا ما

أنارا مشكلان على البصير

فهذا في الظّلام سراج نار

وهذا في النّهار سراج نور

ولكن فضّل الرّحمن هذا

على ذا بالمنابر والسّرير

وبالملك العزيز فذا أمير

وماذا بالأمير ولا الوزير

ونقص الشّهر يخمد ذا وهذا

منير عند نقصان الشّهور

فيا ابن خليفة الله المصفّى

به تعلو مفاخرة الفخور

لئن فت الملوك ...

فقال: أحسنت، ولكن لا يساوي عشرين ألف درهم، ثم قال: أين المال؟ فقال: ها هو ذا، قال ياربيع: أعطه منه أربعة آلاف درهم، وخذ الباقي، ففعل؛ فلما صارت الخلافة إلى المهدي رفع المؤمل إليه يذكر قصته، فضحك، وأمر برد المال إليه، فرد).

(٢) الكابي: المتغير اللون، والحسير: المعي.

١٢٩

فقال النّاس ما من ذين إلاّ

بمنزلة الخليق من الجدير(١)

فإن سبق الكبير فأهل سبق

له فضل الكبير على الصّغير

وإن بلغ الصّغير مدى كبير

فقد خلق الصّغير من الكبير

ومن هذا المعنى قول الشاعر:

جياد جرت في حلبة فتفاضلت

على قدر الأسنان والعرق واحد(٢)

وممّا له بهذا المعنى بعض الشّبه، وإن لم يذكر فيه السّن وتفضيل الكبر قول زهير:

هو الجواد فإن يلحق بشأوهما

على تكاليفه فمثله لحقا(٣)

أو يسبقاه على ما كان من مهل

فمثل ما قدّما من صالح سبقا

وروي أنه عرضت على جعفر(٤) بن يحيى بن خالد البرمكيّ جارية شاعرة، فأراد أن يبلوها فقال لها: قولي في معنى بيتي زهير اللذين ذكرناهما، فقالت:

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (أي لم يكن بينك وبين أبيك من الفرق والتفاوت إلا مثل ما بين الخليق والجدير، ومعناهما واحد).

(٢) حاشية الأصل: (أي على الكبر والطعن في السن. والعرق: الأصل).

(٣) البيتان في ديوانه: ٥١ - ٥٢؛ وقبلهما:

يطلب شأو امرأين قدّما حسنا

نالا الملوك وبذّا هذه السّوقا

والشأو: الغاية، وأراد بالمرأين أباه وجده.

(٤) حاشية ف (قيل: لما قتل جعفر بن يحيى وصلب بباب الجسر، رأسه في ناحية، وجسده في ناحية مرت به امرأة على حمار فاره، فوقفت عليه ثم نظرت إلى الناس فقالت بلسان فصيح: والله لئن صرت اليوم آية؛ لقد كنت في المكارم غاية؛ ثم أنشأت تقول:

ولما رأيت السّيف خالط جعفرا

ونادى مناد للخليفة في يحيى

بكيت على يحيى وأيقنت أنّما

قصارى الفتى يوما مفارقة الدّنيا

وما هي إلاّ دولة بعد دولة

تخوّل ذا نعمى وتعقب ذا بلوى

إذا أنزلت هذا منازل رفعة

من الملك حطّت ذا إلى غاية سفلى

ثم حركت الحمار؛ فكأنها كانت ريحا لم تعرف).

١٣٠

بلغت - أو كدت - يحيى أو لحقت به

فنلتما خالدا في شأو مستبق

لكن مضى وتلا يحيى فأنت له

تال تعلّلت دون الرّكض بالعنق(١)

ومن أحسن ما قيل في المساواة والمقاربة - وهو داخل في هذا المعنى، مناسب له - قول عبّاد ابن شبل:

إذا اخترت من قوم خيار خيارهم

فكلّ بني عبد المدان خيار

جروا بعنان واحد فضل بينهم

بأن قيل قد فات العذار عذار(٢)

وقول الكميت بن زيد:

مصلّ أباه له سابق

بأن قيل فات العذار العذارا(٣)

ومثله قول العتّابي - وهو مليح(٤) جدا:

كما تقاذف جرد في أعنّتها

سبقا بآذانها مرّا وبالعذر(٥)

وأول من سبق إلى هذا المعنى زهير في قوله يصف مطايرة البازي القطاة(٦) ومقاربته لها:

دون السّماء وفوق الأرض قدرهما

عند الذّنابى فلا فوت ولا درك(٧)

وقد لحظ أبو نواس هذا المعنى في قوله يمدح الفضل بن الربيع، ويذكر مقاربته لأبيه في الفضل(٨) والسؤدد:

____________________

(١) ش، وحاشية ت (من نسخة): (تعلل). وفي حاشيتي الأصل، ف: (العنق دون الركض، أي أنك تتعلل بالعنق إبقاء وحشمة لأبيك وجدك، ولو سرت ركضا لسبقتهما).

(٢) العذار من اللجام: ما سال على خد الفرس.

(٣) المصلى: الثاني من خيول السبق.

(٤) حاشية ت (من نسخة): (حسن).

(٥) ج، ونسخة بحاشيتي الأصل، ت: (تقاذف)، بفتح الفاء. وفي حاشيتي الأصل، ف: (تقاذف، أي تتسابق في عنان واحد، على حد واحد؛ لا تسبق إحداها على الأخرى إلا بأذن أو بعنان).

وفرس أجرد؛ قصير الشعر رقيقه.

(٦) د، حاشية ت (من نسخة): (للقطاة).

(٧) ديوانه: ١٧٤، الذنابى: الذنب، وفي حاشيتي ت، ف: (عند الذنابى مستأنف، أي الصقر عند ذنابى القطاة).

(٨) ف، ونسخة بحاشية ت: (المجد).

١٣١

ثمّ جرى الفضل فانثنى قدما

دون مداه من غير ترهيق(١)

فقيل رشا سهما يراد به ال

غاية والنّصل سابق الفوق(٢)

ويشاكل ذلك قول البحتري في ابن أبي سعيد الثّغري:

جدّ كجدّ أبي سعيد إنّه

ترك السّماك كأنه لم يشرف(٣)

قاسمته أخلاقه وهي الرّدى

للمعتدي، وهي النّدى للمعتفي

فإذا جرى من غاية وجريت من

أخرى التقى شأوا كما فى المنصف

ويشبهه أيضا قوله:

وإذا رأيت شمائل ابني صاعد

أدّت إليك شمائل ابني مخلد(٤)

كالفرقدين إذا تأمّل ناظر

لم يعل موضع فرقد عن فرقد

فأما قول الخنساء: (يتعاوران ملاءة الحضر)، فهي تعني بالملاءة الغبار، وإنّ عدي بن الرّقاع كأنه نظر إليها في قوله يصف حمارا وأتانا:

يتعاوران من الغبار ملاءة

بيضاء محدثة هما نسجاها(٥)

____________________

(١) ديوانه: ٩١، وفي حاشيتي الأصل، ت: (أي من غير مداناة أو لحوق).

(٢) راش السهم: وضع عليه الريش، والنصل: حديدة السهم، والفوق: موضع الوتر من السهم.

(٣) ديوانه ٢: ١٢٢، وفي حاشيتي الأصل، ف: (أي جد كجد أبي سعيد مذكور، أي جعل السماك غير عال؛ كأنه قد علاه وفاقه).

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (يسوى بين ابني صاعد وابني مخلد)، والبيتان في ديوانه ١:

١٧٣، وروايته: ( شمائل ابن محمد).

(٥) البيتان من قصيدته التي مطلعها:

ما هاج شوقك من مغاني دمنة

ومنازل شغف الفؤاد بلاها

وهي في الطرائف الأدبية: ٩٢ - ٩٧، والبيتان في (معاني العسكري ٢: ٣١، وحماسة ابن الشجري:

٢٧٦ - ٢٧٧، ومعجم المرزباني ٢٥٣، وشرح المختار من شعر بشار ٣١٧، وزهر الآداب ٤: ٦٨.

ومجموعة المعاني: ٢٠٣). ويتعاوران؛ أي تصير الغبرة للعير مرة، وللأتان مرة.

١٣٢

تطوى إذا وطئا مكانا جاسيا

وإذا السّنابك أسهلت نشراها(١)

وهذا المعنى، وإن كان هو معنى الخنساء بعينه فقد زاد في استيفائه عليها زيادة ظاهرة، صار من أجلها بالمعنى أحقّ منها. وقد ابتدأ بهذا المعنى رجل من بني عقيل فقال من قصيدة(٢) :

يثيران من نسج التّراب عليهما

قميصين أسمالا ويرتديان

____________________

(١) الجاسي: الغليظ من الأرض، وأسهلت: صارت إلى سهولة الأرض.

(٢) أبيات منها في الخزانة ٣: ٢٧٦، منسوبة إلى ابن مقبل، وفي زهر الآداب ٤: ٦٨ منسوبة لأعرابي من بني عقيل.

وقبله:

قفار مرورات يحار بها القطا

ويضحى بها الجأبان يفترقان

المروراة: المفازة التي لا شيء فيها، والجأبان: مثنى جأب؛ وهو الحمار الغليظ من حمر الوحش، وأراد بالجأبين الذكر والأنثى.

١٣٣

[٨]

مجلس آخر [المجلس الثامن:]

تأويل آية(*) ( وَجاءُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ )

إن سأل سائل عن قوله تبارك وتعالى:( وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ ) ؛ [يوسف ١٨].

فقال: كيف وصف الدم بأنه كذب، والكذب من صفات الأقوال لا من صفات الأجسام؟

وأي معنى لوصفه الصبر بأنّه جميل؟ ومعلوم أنّ صبر يعقوبعليه‌السلام على فقد ابنه يوسف لا يكون إلا جميلا؟ ولم ارتفع الصبر؟ وما المقتضى لرفعه؟

والجواب، يقال له: أمّا الْكَذِبَ فمعناه أنه مكذوب فيه وعليه، مثل قولهم: هذا ماء سكب وشراب صبّ؛ يريدون مصبوبا ومسكوبا؛ ومثله: ماء غور، ورجل صوم، وامرأة نوح(١) ، قال الشاعر:

تظلّ جيادهم نوحا عليهم

مقلّدة أعنّتها صفونا(٢)

أراد بقوله: (نوحا) أي نائحة عليهم، ومثله: ما لفلان معقول؛ يريدون عقلا، وما له على هذا الأمر مجلود، يريدون جلدا(٣) ، قال الشاعر:

____________________

* ورد هذا العنوان في ت، ف، ولم يرد في سائر الأصول.

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (الوصف بالمصدر يفيد قوة ذلك الفعل؛ كقولهم: رجل صوم؛ يعني أنه لكثرة صومه كأنه صار بكليته صوما، ومن ذلك: ماء سكب وصب).

(٢) صفونا: جمع صافن؛ والصافن من الخيل: القائم على ثلاث قوائم، وقد أقام الرابعة على طرف الحافر، والبيت لعمرو بن كلثوم، من المعلقة، وروايته فيها:

تركنا الخيل عاكفة عليه

مقلّدة أعنّتها صفونا

 (وانظر المعلقات - بشرح التبريزي: ٢١٧).

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (بين السيدرضي‌الله‌عنه أنه كما يكون بمعنى المفعول؛ فقد يكون المفعول بمعنى المصدر؛ وهما متداخلان في هذا المعنى؛ فإذا كان المفعول بلفظ المصدر فلأن المفعول الحقيقي هو المصدر، ألا ترى أنك إذا قلت: ضربت زيدا ففعلك على الحقيقة هو الضرب لا زيدا، وإذا جاء المصدر بمعنى الفاعل فلأنه سبب له؛ والفعل له طرفان: أحدهما إلى المفعول، والآخر إلى الفاعل).

١٣٤

حتّى إذا لم يتركوا لعظامه

لحما ولا لفؤاده معقولا

وأنشد أبو العباس ثعلب:

قد والّذي سمك السّماء بقدرة

بلغ العزاء وأدرك المجلود

وقال الفرّاء وغيره: يجوز في النحو: (بدم كذبا) بالنصب على المصدر؛ لأنّ جاؤُ فيه معنى كذبوا كذبا، كما قال تعالى:( وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ) [العاديات: ١] فنصب ضبحا(١) على المصدر؛ لأن العاديات بمعنى الضابحات، وإنما كان دما مكذوبا فيه؛ لأن إخوة يوسف(٢) ذبحوا سخلة، ولطخوا قميص يوسف بدمها، وجاءوا أباهم بالقميص، وادّعوا أكل الذئب له، فقال لهم يعقوب(٢) : يابنيّ، لقد كان هذا الذئب رفيقا حين أكل ابني، ولم يخرّق قميصه؛ قالوا: بل قتله اللصوص، قال: فكيف قتلوه وتركوا قميصه، وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله!. وقد قيل: إنه كان في قميص يوسف ثلاث آيات: حين قدّ قميصه من دبر، وحين ألقى على وجه أبيه فارتد بصيرا، وحين جاءوا عليه بدم كذب؛ فتنبه أبوه على أنّ الذئب لو أكله لخرّق قميصه(٣) .

ووأما وصف الصبر بأنه جميل، فلأن الصبر قد يكون جميلا وغير جميل، وإنما يكون جميلا إذا قصد به وجه الله، وفعل للوجه الّذي وجب، فلما كان في هذا الموضع واقعا على الوجه المحمود صحّ وصفه بذلك. وقد قيل إنه أراد صبرا لا شكوى فيه ولا جزع، ولو لم يصفه بذلك لظنّ مصاحبة الشكوى أو الجزع له. وأما ارتفاع قوله:( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) فقد قيل إن المعنى: فشأني صبر جميل، أو الّذي أعتقده صبر جميل(٤) . وقال قطرب: معناه فصبري صبر جميل؛ وأنشدوا:

____________________

(١) الضبح: صوت يسمع من جوف الفرس حال العدو.

(٢) ت: (يوسفعليه‌السلام ).

(٣) في حاشيتي ت، ف: (قال السيد المرتضىرضي‌الله‌عنه : وقد قرئ:( بِدَمٍ كَذِبٍ ) وهو الدم المسفوح).

(٤) في حاشيتي ت، ف: (يجوز أن يكون (صبر) مبتدأ وخبره محذوف، ويحتمل أن يكون (صبر) مبتدأ و (جميل) خبره)، وفي حاشية ف أيضا: (وهو وإن كان نكرة يقوم مقام المعرفة؛ وذلك أن أي صبر كان فهو المراد).

١٣٥

شكا إليّ جملي طول السّرى

ياجملي ليس إليّ المشتكى

الدّرهمان كلّفاني ما ترى(١)

صبر جميل فكلانا مبتلى

معناه: فليكن منك صبر جميل. وقد روي أن في قراءة أبي:( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) بالنصب، وذلك يكون على الإغراء(٢) ، والمعنى فاصبري يانفس صبرا جميلا، قال ذو الرّمة:

ألا إنما مي - فصبرا - بليّة

وقد يبتلى الحرّ الكريم فيصبر(٣)

وقال الآخر:

أبى الله أن تبقى لحي بشاشة

فصبرا على ما شاءه الله لي صبرا

تأويل خبر [قيس بن عاصم حين وفد على الرسولعليه‌السلام وشرح ما ورد في ذلك من الغريب]

في الحديث أن قيس بن عاصم قال: أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: (هذا سيّد أهل الوبر)؛ فقلت: يارسول الله، ما المال الّذي ليست عليّ فيه تبعة من طالب ولا ضيف؟ فقالعليه‌السلام : (نعم المال أربعون، والكثر ستون، وويل لأصحاب المئين! إلا من أعطى الكريمة، ومنح الغزيرة(٤) ، ونحر السّمينة، فأكل وأطعم القانع والمعترّ) - وفي رواية أخرى: (إلا من أعطى من رسلها، وأطرق فحلها، وأفقر ظهرها، ومنح غزيرتها، وأطعم القانع والمعترّ)؛ قلت: يارسول الله: ما أكرم هذه الأخلاق وأحسنها! إنه لا يحلّ بالوادي الّذي فيه إبلي من كثرتها. فقال: (فكيف(٥) تصنع في العظيمة)(٦) ؟

قلت: أعطي البكر، وأعطي الناب. قال: (فكيف تصنع في المنحة؟)، قلت: إني لأمنح المائة. قال: (فكيف(٥) تعطي الطّروقة؟)، قلت: يغدو الناس بإبلهم فلا يورّع

____________________

(١) هذا البيت ورد في ت، وحاشية ف.

(٢) حاشية ف: (معنى الإغراء أن يغريه القائل بالتزام الّذي أشار إليه؛ كقولهم: عليك به).

(٣) ديوانه: ٢٢٥.

(٤) الغزيرة كثيرة اللبن.

(٥) ت، د، حاشية ف (من نسخة): (كيف).

(٦) ف، حاشية الأصل (من نسخة) (العطية).

١٣٦

رجل عن جمل يخطمه(١) فيمسكه ما بدا له، حتى يكون هو الّذي يردّه. وفي الرواية الأخرى قال: (فكيف تصنع في الإطراق؟)، قلت: يغدو الناس فمن شاء أن يأخذ برأس بعير ذهب به.

قال: (فكيف تصنع في الإفقار؟)، قلت: إني لأفقر الناب المدبرة والضّرع(٢) الصغيرة، قال: (فكيف تصنع في المنيحة؟) قلت: إني لأمنح في السنة المائة، قال: (فمالك أحبّ إليك أم مال مواليك؟)(٣) ، قلت: لا، بل مالي، قال: (فإنّ مالك ما أكلت فأفنيت، وأعطيت فأمضيت). وفي الرواية الأخرى: (ولبست فأبليت، وسائره لمواليك)، قلت:

لا جرم! والله لئن رجعت لأقلّنّ عددها. فلما حضره الموت جمع بنيه فقال: يابنيّ خذوا عني، فإنكم لن تأخذوا عن أحد هو أنصح لكم مني، لا تنوحوا عليّ فإن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينح عليه، وقد سمعته ينهى عن النياحة، وكفّنوني في ثيابي التي كنت أصلّي فيها، وسوّدوا أكابركم، فإنكم إذا سوّدتم أكابركم لم يزل لأبيكم فيكم خليفة، وإذا سوّدتم أصاغركم هان أكابركم على الناس، وزهدوا فيكم، وأصلحوا من(٤) عيشكم؛ فإن فيه غنى عن طلب إلى الناس، وإياكم والمسألة؛ فإنها آخر(٥) كسب المرء، وإذا دفنتموني فأخفوا قبري عن بكر بن وائل، فقد كانت بيننا خماشات في الجاهلية، فلا آمن سفيها منهم أن يأتي أمرا يدخل عليكم عيبا(٦) في أبيكم(٧) .

____________________

(١) ت، وحاشية ف (من نسخة): (يختطمه.

(٢) رواية ابن الأثير في النهاية (ضرع): إني لأفقر البكر الضرع، والناب المدبر، أي أعيرهما للركوب؛ يعني الجمل الضعيف، والناقة الهرمة).

(٣) حاشية ف: (المولى من يليك؛ من ابن العم والمعتق؛ ويليك؛ أي يقريك، وأصل الولي القرى.

(٤) م: (وأصلحوا عيشكم)، وحاشية ف (من نسخة): (وأصلحوا من أمر عيشكم).

(٥) ف، ونسخة بحاشيتي الأصل، ت (أخس).

(٦) من نسخة بحاشيتي ت، ف: (عيثا).

(٧) الخبر بهذه الرواية في (الفائق ٣: ١٣٥)، وفي رواية أخرى فيه أيضا: (وإذا مت فغيبوا قبري من بكر بن وائل، فإني كنت أناوشهم في الجاهلية - وروي: أهاوشهم - وروي أغاولهم).

١٣٧

فأما قوله: (الكثر ستّون) فمعناه الكثير، تقول العرب: نسأل الله الكثر، ونعوذ به من القلّ؛ أي نسأله الكثير، ونعوذ به من القليل؛ وقال الشاعر:

فإنّ الكثر أعياني قديما

ولم أقتر لدن أنّي غلام(١)

وقال الآخر:

وقد يقصر القلّ الفتى دون همّه

وقد كان لولا القلّ طلاّع أنجد(٢)

والكريمة، يعني بها كرائم ماله. و (أمنح الغزيرة)، أي أعطيها من يحلبها ويردّها، ومن ذلك الحديث: (العارية مؤدّاة، والمنحة(٣) مردودة، والزعيم(٤) غارم، والدّين مقضي(٤) ) فالمنحة الناقة أو الشاة يدفعها الرجل إلى من يحلبها وينتفع بلبنها ثم يردها عليه، والزعيم:

الكفيل، ويقال له أيضا القبيل(٥) والصّبير والحميل، ومنه قوله تعالى: وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ؛ [يوسف: ٧٢]، قال الشاعر:

فلست بآمر فيها بسلم

ولكنّي على نفسي زعيم(٦)

وقال آخر:

قلت كفّي لك رهن بالرّضا

فازعمي ياهند قالت قد وجب(٧)

معناه اكفلي، ويروى: (فاقبلي)، من القبيل الّذي هو الكفيل أيضا.

____________________

(١) البيت في اللسان (كثر)، ونسبه إلى رجل من ربيعة، وفي حاشيتي ت، ف: (أي لم أكن قبل مكثرا ولا مقترا، يصف حاله بالتوسط، والإقتار: الفقر).

(٢) البيت في اللسان (قلل، ونسبه إلى خالد بن علقمة الدارمي، وأنشد قبله:

ويل أمّ لذّات الشّباب معيشه

مع الكثر يعطاه الفتى المتلف النّدى

(٣) حاشية ت (من نسخة): (المنيحة)، وهي والمنحة بمعنى.

(٤ - ٤) حاشية ت (من نسخة): (والدين مقضي، والزعيم غارم).

(٥) القبيل: الكفيل والعريف، وقد قبل يقبل قبالة؛ أي يكفل.

(٦) حاشية ف: (معناه لا أملك إلا نفسي).

(٧) البيت لعمر بن أبي ربيعة؛ وهو في ديوانه ٣٧٨، وفي حاشية ف: (أي ضمنت وحلفت على نفسي ألا أجاوز رضاك، فافعلي مثله).

١٣٨

وقال الفرّاء: القانع هو الّذي يأتيك فيسألك؛ فإن أعطيته قبل، والمعترّ: الّذي يجلس عند الذبيحة، ويمسك عن السؤال، كأنّه يعرّض في المسألة ولا يصرّح بها، يقال قنع الرجل قناعة إذا رضي، وقنع قنوعا إذا سأل.

فأما قوله: (لا جرم) فقال قوم: معنى جرم كسب، وقالوا في قوله تعالى:( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ ) [النحل: ٦٢]، أنّ (لا) ردّ على الكفار، ثم ابتدأ فقال: جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ بمعنى كسب قولهم أنّ لهم النار، وقال الشاعر:

نصبنا رأسه في رأس جذع

بما جرمت يداه وما اعتدينا(١)

أي: بما كسبت. وقال آخرون: معنى (جرم) حقّ، وتأول الآية بمعنى حقّق قولهم أن لهم النار؛ وأنشدوا:

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة

جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا(١)

أراد: حقّقت فزارة، وروى الفرّاء (فزارة)، بالنصب على معنى كسبت(٢) الطعنة فزارة الغضب، وقال الفراء: لا جرم في الأصل مثل لا بدّ، ولا محالة، ثم استعملته العرب في معنى حقا، وجاءت فيه بجواب الأيمان، فقالوا: لا جرم لأقومنّ؛ كما قالوا: والله لأقومنّ، وفيها لغات، يقال: لا جرم، ولا جرم، بضم الجيم وتسكين الراء، ولا جر، بحذف الميم، ولا ذا جرم؛ قال الشاعر:

إنّ كلابا والدي لا ذا جرم(٣)

لأهدرنّ اليوم هدرا في النّعم(٤)

* هدر المعنّى(٥) ذي الشّقاشيق اللهم(٦) *

____________________

(١) البيت في اللسان (جرم)، ونسبه إلى أبي أسماء بن الضريبة.

(٢) د: (أكسبت).

(٣) البيت في اللسان (جرم) من غير عزو.

(٤) لأهدرن: لأصوتن؛ من الهدير، وهو تردد صوت البعير في حنجرته.

(٥) حاشية ت (من نسخة): (المغنى).

(٦) حواشي الأصل، ت، ف: المعنى: الّذي يدخل العنة من الإبل؛ وهي الحظيرة؛ وذلك أن الفحل اللئيم إذا هاج حبس حتى لا يضرب في النوق الكرام، ومنه قول الوليد بن عقبة:

قطعت الدهر كالسّدم المعنّى

تهدّر في دمشق فلا تريم

١٣٩

والناب: الناقة الهرمة، وجمعها نيب، ومثلها الشارف، قال الشاعر:

لا أفتأ الدّهر أبكيهم بأربعة

ما اجترّت النّيب أو حنّت إلى بلد(١)

ويقال للبعير أيضا إذا كبر عوذ، وللأنثى عودة، قال الشاعر:

عود على عود من القدم الأول

يموت بالتّرك ويحيا بالعمل(٢)

وهذا من أبيات المعاني، ومعناه بعير عود على طريق متقادم، وسمّي الطريق بأنه عود لتقادمه تشبيها بالبعير، وقوله:

* يموت بالترك ويحيا بالعمل*

أراد أنه إذ سلك وطرق ظهرت أعلامه، ووضحت طرقه، واهتدى سالكه لسلوكه، ولم يضلّ عن قصده، فكان هذا كالحياة له، وإذا لم يسلك طمست آثاره، وامّحت(٣) معالمه، فلم يهتد فيه راكب لقصد، وكان ذلك كالموت له.

فأما (الخماشات) فهي الجنايات والجراحات،: قال ذو الرّمة يذكر الحمار والأتن:

رباع لها مذ أورق العود عنده

خماشات ذحل ما يراد امتثالها(٤)

____________________

وأصله (المعنن)؛ فقلبت إحدى النونات ياء، كقولك: تغنيت، وفي التنزيل:( وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) ، والشقاشق: جمع شقشقة؛ وهي كالرئة تخرج من فم البعير إذا هاج واغتلم، واللهم: الّذي يلتهم كل شيء؛ أي يبتلع، وفرس لهم: سريع؛ كأنه يلتهم الأرض.

(١) في حاشيتي الأصل، ف: لا أفتأ؛ أي لا أزال أبكيهم بأربعة؛ أي بأربعة شئون؛ وهي مجاري الدمع من الدماغ؛ ومثله قول الآخر:

* جودي بأربعة على الجرّاح*

وقيل بأربعة آماق من موق العين، واجترت: إذا أكلت الجرة). والجرة: ما يخرجه البعير من بطنه ليبتلعه.

(٢) البيتان في اللسان (عود)، ونسبهما إلى بشير بن النكث.

(٣) من نسخة بحاشيتي ت، ف: (أنهجت)؛ أي بليت.

(٤) ديوانه: ٥٣٣؛ وفي حاشيتي ت، ف: (الرباع من الغنم ماله أربع سنين، ومن الحافر ماله خمس سنين، ومن الخف ماله سبع سنين والجمع ربع، وقد أربع).

١٤٠