أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 308073
تحميل: 10900


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 308073 / تحميل: 10900
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ودبّ البياض خلال السّواد

فأصبحت في شية الأشهب

وكيف تؤمّل طول الحياة

إذا كان حلمك لم يعزب

وأما إبراهيم ففي قوله:

نعى نفسي إلى أبي

وخبّر أين منقلبي(١)

لموعظة رآها في

أبيه كما رأيت أبي

وكأن أبا نواس لحظ هذا المعنى في قوله:

وما النّاس إلاّ هالك وابن هالك

وذو نسب في الهالكين عريق(٢)

إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشّفت

له عن عدوّ في ثياب صديق

____________________

(١) ديوانه ١٦٨ - ١٦٩.

(٢) ديوانه: ١٩٢.

٢٠١

[١٢]

مجلس آخر [المجلس الثاني عشر:]

قال: روي أنّ عمرو بن عبيد دخل على معاوية بن عمرو الغلابي وهو يجود بنفسه فقال له:

إنّ الله تعبّدك في حال الصحة بالعمل بجوارحك وقلبك، ووضع عنك في هذه الحال عمل الجوارح، ولم يكلفك إلا العمل بقلبك، فأعطه بقلبك ما يجب له عليك.

وروي أنّ قوما اجتمعوا إلى عمرو بن عبيد، فتذاكروا السّخاء فأكثروا في وصفه، وعمرو ساكت، فسألوه عمّا عنده فقال: ما أصبتم صفته؛ إنّ السخي من جاد بماله تبرّعا، وكفّ عن أموال الناس تورّعا.

[عمرو بن عبيد وأبو جعفر المنصور:]

وذكر إسحاق بن الفضل الهاشميّ قال: إني لعلى باب المنصور يوما، وإلى جنبي عمارة(١) بن حمزة، إذ طلع عمرو بن عبيد على حمار، فنزل عن حماره، ثم دفع(٢) البساط برجله وجلس دونه، فالتفت إلى عمارة فقال: لا تزال بصرتكم ترمينا منها بأحمق؛ فما فصل كلامه من فيه حتى خرج الربيع وهو يقول: أبو عثمان عمرو بن عبيد! قال:

فو الله ما دلّ على نفسه حتى أرشد إليه، فأتكأه(٣) يده، ثم قال له: أجب أمير المؤمنين جعلت فداك! فمرّ متوكّئا(٤) عليه؛ فالتفت إلى عمارة فقلت: إنّ الرجل الّذي استحمقت(٥)

____________________

(١) هو عمارة بن حمزة بن ميمون، من ولد عكرمة مولى عبد الله بن العباس؛ أحد الكتاب البلغاء، وكان سخيا جوادا، وله أخبار مأثورة في الكرم والجود والتيه، قلده أبو العباس السفاح ضياع آل مروان، وقلده أبو جعفر المنصور ديوان خراج البصرة ونواحيها. (وانظر ترجمته وأخباره في كتاب الوزراء والكتاب للجهشياري: ٩٠، ١١٠، ١٢٥، ١٣٣، ١٤٧، وتاريخ بغداد ١٢: ٢٨٠ - ٢٨٠).

(٢) ش، وحاشية ت (من نسخة): (رفع).

(٣) حواشي الأصل، ت، ف: (أتكأه يده؛ كأنه جعله متكئا عليها، وأصل التاء في هذه الكلمة بالواو؛ يقال: أوكأت فلانا إذا جعلت له متكئا).

(٤) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (متكئا).

(٥) ف، وحاشية ت (من نسخة): (استحمقته).

٢٠٢

قد أدخل وتركنا، فقال: كثيرا ما يكون ذلك، فأطال اللّبث، ثم خرج الربيع وهو متوكّئ عليه، والربيع يقول: ياغلام، حمار أبي عثمان، فما برح حتى أتى بالحمار، فأقرّه على سرجه؛ وضمّ إليه نشر(١) ثوبه، واستودعه الله.

فأقبل عمارة على الربيع فقال: لقد فعلتم اليوم بهذا الرجل ما لو فعلتموه بوليّ عهدكم لقضيتم ذمامه. قال: فما غاب عنك ممّا فعل به أكثر وأعجب، قال عمارة: فإن اتّسع لك الحديث فحدّثنا.

فقال الربيع: ما هو إلاّ أن سمع الخليفة بمكانه، فما أمهل حتى أمر بمجلس ففرش لبودا، ثم انتقل إليه والمهدي معه عليه سواده وسيفه؛ ثم أذن له، فلما دخل عليه سلّم بالخلافة، فردّ عليه وما زال يدنيه حتى أتكأه فخذه وتحفّى به، ثم سأله عن نفسه وعن عياله، يسمّيهم رجلا رجلا، وامرأة امرأة، ثم قال: ياأبا عثمان، عظنا فقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم(٢) بسم الله الرحمن الرحيم(٢) :( وَالْفَجْرِ. وَلَيالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ) ؛ [الفجر: ١ - ٣]، ومرّ فيها إلى آخرها، وقال: إنّ ربك ياأبا جعفر لبالمرصاد، قال: فبكى بكاء شديدا؛ كأنه لم يسمع تلك الآيات إلاّ تلك الساعة، ثم قال: زدني، فقال: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منه يبعضها، واعلم أن هذا الأمر الّذي صار إليك إنما كان في يد من كان قبلك، ثم أفضى إليك، وكذلك يخرج منك إلى من هو بعدك، وإني أحذّرك ليلة تمخّض(٣) صبيحتها عن يوم القيامة. قال: فبكى أشدّ من بكائه الأول حتى رجف جنباه.

وفي رواية أخرى أنه لما انتهى إلى آخر السورة قال: إنّ ربّك لبالمرصاد لمن عمل مثل عملهم، أن ينزل به مثل ما نزل بهم، فاتّق الله، فإنّ من وراء بابك نيرانا تأجّج من الجور،

____________________

(١) النشر، بالتحريك: المنتشر من كل شيء.

(٢ - ٢) ساقط من ط، ف، م.

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (تتمخض).

٢٠٣

ما يعمل فيها بكتاب الله ولا بسنّة رسول الله(١) . فقال: ياأبا عثمان؛ إنا لنكتب إليهم في الطّوامير(٢) ، نأمرهم بالعمل بالكتاب والسنّة، فإن لم يفعلوا فما عسى أن نصنع! فقال له:

مثل أذن الفأرة يجزيك من الطّوامير، الله تكتب إليهم في حاجة نفسك فينفذونها، وتكتب إليهم في حاجة الله فلا ينفذونها؛ إنّك والله لو لم ترض من عمّالك إلا بالعدل إذا لتقرب إليك به من لانيّة له فيه.

قال سيدنا أدام الله علوّه: رجعنا إلى نسق الحديث، فقال له سليمان بن مجالد: رفقا بأمير المؤمنين، فقد أتعبته منذ اليوم، فقال له: بمثلك ضاع الامر وانتشر، لا أبالك! وماذا خفت على أمير المؤمنين أن بكى من خشية الله!.

وفي رواية أخرى أنّ سليمان بن مجالد لما قال له ذلك رفع عمرو رأسه فقال له: من أنت؟

فقال أبو جعفر: أولا تعرفه ياأبا عثمان؟ قال: لا، ولا أبالي ألاّ أعرفه! فقال: هذا أخوك سليمان بن مجالد، فقال: هذا أخو الشيطان، ويلك ياابن أم مجالد! خزنت نصيحتك عن أمير المؤمنين، ثم أردت أن تحول بينه وبين من أراد نصيحته! ياأمير المؤمنين؛ إنّ هؤلاء اتخذوك سلّما لشهواتهم، فأنت كالآخذ بالقرنين وغيرك يحلب، فاتّق الله فإنك ميت وحدك، ومحاسب وحدك، ومبعوث وحدك، ولن يغني عنك هؤلاء من ربك شيئا! فقال له المنصور: ياأبا عثمان؛ أعنّي بأصحابك أستعن بهم، فقال له: أظهر الحق يتّبعك أهله، قال: بلغني أن محمد بن عبد الله ابن الحسن(٣) كتب إليك كتابا، قال: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه، قال: فبماذا أجبته؟ قال: أو لست قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلينا؟ وإني لا أراه، قال: أجل! ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي! قال: لئن كذبتك تقيّة لأحلفنّ لك تقيّة، قال له: أنت الصادق البارّ، وقد أمرت لك بعشرة آلاف درهم، تستعين بها على زمانك؛

____________________

(١) م: (رسوله).

(٢) الطوامير: جمع طومار؛ وهو الصحيفة.

(٣) هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب؛ الملقب بالنفس الزكية؛ وكان من أفضل أهل بيته؛ علما وفقها وشجاعة وجودا؛ قتله أبو جعفر المنصور سنة ١٤٥؛ (وانظر ترجمته وأخباره في مقاتل الطالبيين ٢٣٢ - ٢٩٩).

٢٠٤

فقال: لا حاجة لي فيها، قال المنصور والله لتأخذنّها، قال: والله لا أخذتها، فقال له المهدي:

يحلف أمير المؤمنين وتحلف! فترك المهدي وأقبل على المنصور وقال: من هذا الفتى؟ فقال:

هذا ابني محمد، وهو المهدي وهو ولي العهد، فقال:(١) والله لقد سميته أسماء ما استحقها بعمل(١) ، وألبسته لبوسا ما هو من لبوس الأبرار ولقد مهّدت له أمرا أمتع ما يكون به أشغل(٢) ما تكون عنه! ثم التفت إلى المهدي فقال: نعم ياابن أخي، إذا حلف أبوك حلف عمّك؛ لأن أباك أقدر على الكفّارة من عمك؛ قال المنصور: ياأبا عثمان، هل من حاجة؟

قال: نعم، قال ما هي؟ قال: ألا تبعث إلي حتى آتيك؛ قال: إذا(٣) لا نلتقي، قال: عن حاجتي سألتني، ثم ودّعه ونهض؛ فلما ولى أتبعه بصره وأنشأ يقول:

كلّكم طالب صيد

كلّكم ماش رويد(٤)

غير عمرو بن عبيد

[عمرو بن عبيد وهشام بن الحكم:]

وروي أن هشام بن الحكم قدم البصرة فأتى حلقة عمرو بن عبيد فجلس فيها وعمرو لا يعرفه، فقال لعمرو: أليس قد جعل الله لك عينين؟ قال: بلى، قال: ولم؟ قال: لأنظر بهما في ملكوت السموات والأرض فأعتبر، قال: وجعل لك فما؟ قال: نعم، قال: ولم؟

قال: لأذوق الطعوم(٥) ، وأجيب الداعي؛ ثم عدّد عليه الحواس كلها، ثم قال: وجعل لك قلبا؟ قال: نعم: قال: ولم؟ قال: لتؤدي إليه الحواسّ ما أدركته، فيميز بينها، قال:

____________________

(١) ت: (والله لقد سميته اسما ما استحقه بعمل).

(٢) في حاشيتي الأصل، ت: (قوله: (أمتع) مبتدأ، و (أشغل) نصب على الحال؛ وهو ساد مسد خبر المبتدأ كقولك: أخطب ما يكون الأمير قائما).

(٣) في حاشيتي الأصل، ت: (إذا انتصب (إذا) لم يكن الفعل الّذي بعدها معتمدا على ما قبلها؛ يقول لك القائل: أنا أكرمك؛ فنقول: إذا أحبك؛ فإن قلت: أنا إذا أحبك رفعت؛ لاعتماده على الابتداء الّذي هو أنا؛ وكذلك: إن تكرمني [بالجزم] إذا أكرمك، وإذا وقعت على فعل الحال ألغيت أيضا؛ تقول لمن يتحدث بحديث: إذا أظنك كاذبا؛ فنخبر عن حال الظن).

(٤) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): (يمشي رويد).

(٥) حاشية ت (من نسخة): (المطعوم).

٢٠٥

فأنت لم يرض لك ربّك تعالى إذ خلق لك خمس حواس حتى جعل لها إماما ترجع إليه؛ أترضى(١) لهذا الخلق الذين(٢) جشأ بهم العالم ألاّ يجعل لهم إماما يرجعون إليه؟ فقال له عمرو:

ارتفع حتى ننظر في مسألتك، وعرفه؛ ثم دار هشام في حلق البصرة فما أمسى حتى اختلفوا.

[عمرو بن عبيد وسليمان بن علي:]

وروى أبو عبيدة قال: دخل عمرو بن عبيد علي سليمان بن عليّ بن عبد الله بن العباس بالبصرة فقال له سليمان: أخبرني عن صاحبك - يعني الحسن - حين يزعم أن علياعليه‌السلام قال: (إني وددت أني كنت آكل الحشف بالمدينة ولم أشهد مشهدي هذا) يعني:

يوم صفّين، فقال له عمرو بن عبيد: لم يقل هذا؛ لأنه ظنّ أن أمير المؤمنينعليه‌السلام شك، ولكنه يقول: ودّ أنه كان يأكل الحشف بالمدينة، ولم تكن هذه الفتنة؛ فقال: فقوله في عبد الله بن العباس: (يفتينا في القملة والقميلة، وطار بأموالنا في ليلة)؟ فقال له: وكيف يقول هذا، وابن عباس رحمة الله عليهما لم يفارق عليا حتى قتل وشهد صلح الحسن؟ وأي مال يجتمع في بيت المال بالبصرة مع حاجة عليّعليه‌السلام إلى الأموال وهو يفرّغ بيت مال الكوفة في كل خميس ويرشّه؟ قالوا: إنه كان يقيل فيه، فكيف يترك المال يجتمع بالبصرة؟

وهذا باطل.

[كلام عمرو بن عبيد على القدر:]

قال الجاحظ: نازع رجل عمرو بن عبيد في القدر فقال له عمرو: إن الله تعالى قال في كتابه ما يزيل الشّكّ عن قلوب المؤمنين في القضاء والقدر قال تعالى:( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) ؛ [الحجر: ٩٢ - ٩٣]، ولم يقل: لنسألنهم عما قضيت عليهم أو قدرته فيهم، أو أردته منهم، أو شئته لهم؛ وليس بعد هذا الأمر إلاّ الإقرار بالعدل أو السكوت عن الجور الّذي لا يجوز على الله تعالى.

____________________

(١) ت: (فكيف يرضى ).

(٢) ت: (والّذي).

٢٠٦

قال خلاد الأرقط: حدّثني زميل عمرو بن عبيد قال: سمعته في الليلة التي مات(١) فيها يقول: اللهم إن كنت تعلم أنه لم يعرض لي أمران قطّ؛ أحدهما لك فيه رضا، والآخر لي فيه هوى إلاّ قدمت رضاك على هواي فاغفر لي.

ومرّ أبو جعفر المنصور على قبره بمرّان - وهو موضع على ليال من مكة على طريق البصرة - فأنشأ يقول:

صلّى الإله عليك من متوسّد

قبرا مررت به على مرّان

قبرا تضمّن مؤمنا متخشّعا

عبد الإله ودان بالفرقان(٢)

وإذا الرّجال تنازعوا في شبهة

فصل الخطاب بحكمة وبيان

فلو انّ هذا الدّهر أبقى صالحا

أبقى لنا عمرا أبا عثمان

***

[أخبار أبي الهذيل العلاف وأخباره]

فأما أبو الهذيل العلاّف فهو محمد بن الهذيل بن عبيد(٣) الله بن مكحول العبدي وقال أبو القاسم البلخي: هو من موالي عبد القيس، وولد في سنة أربع وثلاثين ومائة، وقال أبو الحسين الخياط: ولد سنة إحدى وثلاثين ومائة، وقيل: إنه توفي في أول أيام المتوكل سنة خمس وثلاثين ومائتين وسنّه مائة سنة.

قال البرذعي: لحق أبا الهذيل في آخر عمره خرف؛ إلاّ أنه لم يكن يذهب عليه معرفة المذهب والقيام(٤) بحجته، وكفّ بصره قبل وفاته؛ وأخذ أبو الهذيل الكلام عن عثمان الطويل صاحب واصل بن عطاء.

وقيل إنّ أبا الهذيل في حداثته بلغه أن رجلا يهوديا قدم البصرة، وقطع جماعة من متكلميها، فقال لعمه: ياعمّ، امض بي إلى هذا اليهودي حتى أكلّمه، فقال له عمه: يابنيّ،

____________________

(١) توفي عمرو بن عبيد سنة ١٤٤، وانظر ترجمته أيضا في (ابن خلكان ١: ٣٨٤ - ٣٨٥، والمعارف ٢١٢، وتاريخ بغداد ١٢: ١٦٦ - ١٨٨).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (بالقرآن).

(٣) ت: (ابن عبد الله).

(٤) حاشية ت (من نسخة): (ولا القيام).

٢٠٧

كيف تكلمه وقد عرفت خبره، وأنه قطع مشايخ المتكلمين! فقال: لا بدّ من أن تمضي بي إليه، فمضى به قال: فوجدته يقرّر الناس على نبوّة موسىعليه‌السلام ، فإذا اعترفوا له بها قال: نحن على ما اتفقنا عليه إلى أن نجمع على ما تدّعونه؛ فتقدّمت إليه، فقلت: أسألك أم تسألني؟ فقال: بل أسألك، فقلت: ذاك إليك، فقال لي: أتعترف بأنّ موسى نبي صادق، أم تنكر ذلك فتخالف صاحبك؟ فقلت له: إن كان موسى الّذي تسألني عنه هو الّذي بشّر بنبيّعليه‌السلام ، وشهد بنبوّته، وصدّقه فهو نبي صادق، وإن كان غير من وصفت؛ فذلك شيطان لا أعترف بنبوّته؛ فورد عليه ما لم يكن في حسابه. ثم قال لي: أنقول إن التوراة حق؟ فقلت:

هذه المسألة تجري مجرى الأولى، إن كانت هذه التوراة التي تسألني عنها هي التي تتضمن البشارة بنبيّعليه‌السلام فتلك حق، وإن لم تكن كذلك فليست بحقّ، ولا أقرّ بها.

فبهت وأفحم ولم يدر ما يقول، ثم قال لي: أحتاج أن أقول لك شيئا بيني وبينك، فظننت أنه يقول شيئا من الخير، فتقدمت إليه فسارّني فقال لي: أمّك كذا وكذا، وأمّ من علّمك - لا يكنى، وقدّر أني أثب به، فيقول: وثبوا بي، وشغّبوا عليّ، فأقبلت على من كان في المجلس فقلت: أعزكم الله! ألستم قد وقفتم على سؤاله(١) إياي، وعلى جوابي إياه؟ قالوا: بلى! قلت: أفليس عليه أن يردّ جوابي أيضا؟ قالوا: بلى، قلت لهم: فإنه لما سارّني شتمني بالشتم الّذي يوجب الحدّ، وشتم من علّمني، وإنما قدّر أنني أثب عليه، فيدّعي أننا وأثبناه، وشغّبنا عليه، وقد عرّفتكم شأنه بعد الانقطاع، فانصروني، فأخذته الأيدي من كل جهة، فخرج هاربا من البصرة.

وعن أبي العيناء قال: قال لي أبو الهذيل: ما معنى الخسف؟ فقلت: أن تنقلب الأرض؛ أعلاها أسفلها، فقال: إلاّ يكن هذا اليوم بالأرض فإنه لبالنّاس.

وقال أبو الهذيل: قال لي المعذّل بن غيلان العبدي، وكان من سادات عبد القيس، وكان يجتمع إليه أهل النظر: ياأبا الهذيل، إنّ في نفسي شيئا من قول القوم في الاستطاعة،

____________________

(١) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): (مسألته).

٢٠٨

فبيّن لي ما يذهب بالرّيب عني، فقال: خبّرني عن قول الله تعالى:( وَسَيَحْلِفُونَ بِالله لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَالله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) ؛ [التوبة: ٤٢]، هل يخلو من أن يكون أكذبهم لأنّهم مستطيعون الخروج(١) (٢) وهم تاركون له، فاستطاعة الخروج فيهم وليس يخرجون، فقال:( إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) أي هم يستطيعون الخروج(٢) وهم يكذبون فيقولون: لسنا نستطيع، ولو استطعنا لخرجنا، فأكذبهم الله على هذا الوجه، أو يكون على وجه آخر: يقول:( إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) أي إن أعطيتهم الاستطاعة لم يخرجوا؛ فتكون معهم الاستطاعة على الخروج ولا يخرجون؛ وعلى كلّ حال؛ قد كانت الاستطاعة على الخروج ولا يكون الخروج، ولا يعقل للآية معنى ثالث غير الوجهين اللذين وصفنا(٣) .

وحكى سليمان الرّقي أنّ أبا الهذيل لما ورد سرّ من رأى نزل في غرفة إلى أن يطلب له دار تصلح له، قال: فمررت به فقلت له: ياأبا الهذيل، أتنزل في مثل هذا المنزل! فأنشدني:

يقولون زين المرء يامي رحله

ألا إنّ زين الرّحل يامي راكبه

وعن مجالد(٤) قال: رأيت رجلا، وقد سأل أبا الهذيل وهو في الورّاقين بقصر وضّاح فقال له: من جمع بين الزانيين؟ فقال له: ياابن أخي، أمّا بالبصرة فإنهم يقولون:

القوادون؛ ولا أحسب أهل بغداد يخالفونهم على هذا القول، فما تقول أنت! قال: فخجل الرجل وسكت.

وقال أبو الهذيل: قلت لرجل ممّن ينفي الحركة - ولم يسمّه، وزعم قوم أنه الأصمّ -:

خبّرني عن قول الله تعالى:( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) ؛ [النور: ٢]، وذكر القاذف فقال: فاجلدوه ثمانين جلدة(٥) ، فأيّهما أكثر؟ فقال: حدّ(٦)

____________________

(١) ت: (للخروج)

(٢ - ٢) ساقط من م.

(٣) ت، ج، ش: (اللذين ذكرنا).

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (عن أبي مجالد).

(٥) يشير إلى قوله تعالى:( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ) ؛ [النور: ٤].

(٦) حاشية ت (من نسخة): (جلد الزاني).

٢٠٩

الزّاني، قلت: بكم، قال: بعشرين، قلت: فحدّثني(١) عن الجلد، أهو يد الجلاّد؟ قال:

لا، قلت: أفهو السّوط؟ قال: لا، قلت: فهو ظهر المجلود؟ قال: لا، قلت: أفهو الانفراج الّذي بين السّوط وظهر المجلود؟ قال: لا، قلت: أفثمّ شيء غير هذا هو الجلد؟ قال: لا، قلت: فإنما تقول أنّ لا شيء أكثر من لا شيء بعشرين! فانقطع.

وقال أبو الهذيل: قلت لمجوسي: ما تقول في النار؟ قال: بنت الله، قلت: فالبقر؟ قال:

ملائكة الله؛ قصّ أجنحتها، وحطّها إلى الأرض يحرث عليها، فقلت: فالماء، قال: نور الله، قلت: فما الجوع والعطش؟ قال: فقر الشيطان وفاقته، قلت: فمن يحمل الأرض؟

قال: بهمن الملك، قلت: فما في الدنيا شرّ من المجوس، أخذوا ملائكة الله فذبحوها، ثم غسلوها بنور الله، ثم شووها ببنت الله، ثم دفعوها إلى فقر الشيطان وفاقته، ثم سلحوها على رأس بهمن الملك أعزّ ملائكة الله! فانقطع المجوسي، وخجل مما لزمه.

ودخل أبو الهذيل يوما على الحسن بن سهل بفم الصّلح(٢) ، وعنده فتى قد رفع مجلسه، فقال أبو الهذيل: من هذا الفتى الّذي قد رفعه الأمير، لنوفّيه بمعرفته حقّه؟ قال: رجل من أهل النجوم، قال: من أهل صناعة الحساب أم الأحكام؟ قال: الأحكام، قال: ذلك عمل يبطل، أفأسأله؟ قال: سل فأخذ أبو الهذيل تفاحة من بين يديه وقال: آكل هذه التفاحة أم لا؟ قال: تأكلها، فوضعها أبو الهذيل وقال: لست آكلها، قال: فتعيدها إلى يدك وأعيد النظر، فوضعها وأخذ غيرها، فقال له الحسن: لم أخذت غيرها؟ قال: لئلا يقول لي: لا تأكلها فآكلها خلافا عليه فيقول لي: قد أصبت في المسألة الأولى.

وقال النعمان المناني يوما لأبي الهذيل: دلّ على حدوث العالم بغير الحركة والسكون، فقال له أبو الهذيل: مثلك مثل رجل قال لخصمه: احضر معي إلى القاضي ولا تحضر بيّنتك.

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (فخبرني).

(٢) في حاشيتي الأصل، ت: (فم الصلح:

موضع قريب من واسط).

٢١٠

وذكر محمد بن الجهم(١) صاحب الفرّاء قال: رأيت أبا الهذيل وقد جاء إلى الديوان في أيام المأمون فسأل سهل بن هارون بن راهبون أن يكتب له كتابا في حاجة له إلى حفصويه صاحب الجيش، ونهض أبو الهذيل؛ فأملى عليّ سهل بن هارون:

إنّ الضّمير إذا سألتك حاجة

لأبي الهذيل خلاف ما أبدي

فإذا أتاك لحاجة فامدد له

حبل الرّجاء بمخلف الوعد

وألن له كنفا ليحسن ظنّه

في غير منفعة ولا رفد

حتى إذا طالت شقاوة جدّه

ورجا الغنى فاجبهه بالرّدّ

وإن استطعت له المضرّة فاجتهد

فيما يضرّ بأبلغ الجهد

وانظر كلامي فيه فارم به

خلف الثّريّا منك في البعد(٢)

وكذاك فافعل غير محتشم

إن جئت أسأل في أبي الهندي(٣)

قال سيدنا المرتضى أدام الله تأييده: ويشبه هذا المعنى ما أخبرنا به أبو عبيد الله المرزباني قال: حدثني محمد بن أبي الأزهر قال: حدثنا أبو العيناء قال: كان لي صديق فجاءني يوما فقال لي: أريد الخروج إلى فلان العامل، وأحببت أن تكون معي إليه وسيلة، وقد سألت من صديقه، فقيل لي: أبو عثمان الجاحظ، وهو صديقك، فأحب أن تأخذ لي كتابه إليه بالعناية، قال: فصرت إلى الجاحظ، فقال لي: في أي شيء جاء أبو عبد الله؟ فقلت: مسلّما وقاضيا الحقّ، وفي حاجة لبعض أصدقائي وهي كذا وكذا، فقال: لا تشغلنا الساعة عن المحادثة، فإني في غد أوجّه إليك بالكتاب، فلما كان من الغد وجّه إلى بالكتاب مختوما فقلت لابني: وجّه هذا الكتاب إلى فلان، ففيه حاجته، فقال لي: إنّ أبا عثمان بعيد الغور فينبغي أن تفضّه وتنظر ما فيه، ففعل فإذا في الكتاب: (كتابي إليك مع من لا أعرفه،

____________________

(١) حاشية الأصل: (محمد بن الجهم السمري).

(٢) في حاشيتي الأصل، ت: (أي أخف كلامي هذا).

(٣) حاشية ت: (أبو الهندي اسم رجل كان خاصا به وملازما له).

٢١١

وقد كلمني فيه من لا أوجب حقّه، فإن قضيت حاجته لم أحمدك، وإن رددته لم أذممك).

فلما قرأت الكتاب مضيت من فوري إلى الجاحظ، فقال: ياأبا عبد الله، قد علمت أنّك أنكرت ما في الكتاب، فقلت: أو ليس موضع نكرة! فقال: لا، هذه علامة بيني وبين الرجل فيمن اعتني به، فقلت: لا والله، ما رأيت رجلا أعلم بطبعك وما جبلت عليه من هذا الرجل! - أعني صاحب الحاجة - أعلمت أنّه لما قرأ الكتاب قال: أمّ الجاحظ عشرة آلاف، وأمّ من يسأله فقلت: ياهذا؟ أتشتم صديقنا؟ فقال: هذه علامتي فيمن أشكره!

وفي رواية أخرى أنّ أبا العيناء سلّم الكتاب إلى صاحب الحاجة وقال له: فضّ الكتاب، فقال: إنه مختوم فقال: طينة أهون من ظنّة.

***

[خبر طرفة بن العبد والمتلمس الضبعي وحديث الصحيفة:]

قال سيدنا المرتضى أدام الله علوّه: وأظن أن أبا العيناء تنبّه على فضّ الكتاب وقراءته بخبر طرفة بن العبد والمتلمّس الضّبعي(١) ، وذاك أنهما وفدا على عمرو بن هند ونادماه، واحتظيا به، ثم أفضى الأمر إلى أن هجاه كلّ واحد منهما وعرض به بالشعر المشهور(٢) فحنق عليهما، وهمّ بقتلهما، ثم أشفق من ذلك، وأراد قتلهما بيد غيره، وكان على طرفة أحنق، فعلم أنه إن قتله هجاه المتلمّس: فكتب لهما كتابا إلى البحرين، وقال لهما: إني قد كتبت لكما بصلة، فاشخصا لقبضها؛ فخرجا من عنده، والكتابان في أيديهما، فمرّا بشيخ جالس على ظهر الطريق، متكشّفا يتبرز، ومعه كسرة خبز يأكل منها، ويتناول القمل من ثيابه فيقصعه، فقال أحدهما لصاحبه: ما رأيت أعجب من هذا الشيخ! فسمع الشيخ مقالته فقال: وما ترى من عجبي(٣) ! أدخل طيّبا، وأخرج خبيثا، وأقتل عدوا، وإنّ أعجب مني لمن يحمل حتفه بيده، وهو لا يدري! فأوجس المتلمّس في

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ت: (هو من بني ضبيعة بن ربيعة، واسمه جرير بن عبد العزى، وقيل ابن عبد المسيح).

(٢) انظر تفصيل الخبر وأبيات الهجاء في (الأغاني ٢١: ١٢٧، والشعر والشعراء ١٣١ - ١٣٢، و١٣٧ - ١٣٨، ومعجم البلدان ٧: ٢٠٨، والخزانة ١: ٤١٢ - ٤١٧.

٤٤٦، و٣: ٧٣ ومجمع الأمثال ١: ٣٥٠ - ٣٥٢ وديوان طرفة: ٥ - ٦، وديوان المتلمس ١٧٢ - ١٧٦).

(٣) م: (عجب).

٢١٢

نفسه خيفة، وارتاب بكتابه، ولقيه غلام من أهل الحيرة، فقال له: أتقرأ ياغلام؟ قال:

نعم، ففضّ خاتم كتابه، ودفعه إلى الغلام فقرأه، فإذا فيه: (إذا أتاك المتلمّس فاقطع يديه ورجليه، واصلبه حيا).

فأقبل على طرفة فقال له: تعلّمن(١) والله لقد كتب فيك بمثل هذا، فادفع كتابك إلى الغلام يقرؤه عليك، فقال: كلاّ، ما كان ليجسر على قومي بمثل هذا، ولم يلتفت إلى قول المتلمّس، فألقى المتلمّس كتابه في نهر الحيرة، وقال:

قذفت بها بالثّني من جنب كافر

كذلك أقنو كلّ قطّ مضلّل(٢)

رضيت لها بالماء لما رأيتها

يجول بها التيار في كلّ جدول

كافر: نهر بالحيرة، وأقنو: اقتنى، والقطّ: الكتاب: والتيّار: معظم الماء وكثرته.

وقال المتلمّس أيضا:

من مبلغ الشّعراء عن أخويهم

نبأ فتصدقهم بذاك الأنفس(٣)

أودى الّذي علق الصّحيفة منهما

ونجا حذار حبائه المتلمّس

ألقى صحيفته ونجّت كوره

وجناء مجمرة المناسم عرمس(٤)

عيرانة طبخ الهواجر لحمها

فكأنّ نقبتها أديم أملس(٥)

أطريفة بن العبد إنّك حائن

أبساحة الملك الهمام تمرّس!

ألق الصّحيفة لا أبا لك إنّه

يخشى عليك من الحباء النّقرس

____________________

(١) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (تعلم).

(٢) ديوانه: ١٧٦.

(٣) الأبيات في ديوانه ١٩١ - ١٩٢، والخزانة ٣: ٧٣ والأغاني ٢١: ١٢٧ وأخواهم: طرفة والملمس.

(٤) الوجناء: الناقة الصلبة؛ مشتقة من الوجين؛ وهي الأرض الصلبة، ومجمرة: مجتمعة، والمناسم: جمع منسم، ومنسما خف البعير كالظفرين في مقدمه؛ بهما يستبان أثر البعير الضال. والعرمس في الأصل: الصخرة؛ شبهت بها الناقة؛ ورواية الديوان:

ألقى صحيفته ونجّت كوره

عنس مداخلة الفقارة عرمس

 (٥) العيرانة: الناقة الصلبة التي تشبه عير الوحش لقوتها، والنقبة هاهنا: اللون.

٢١٣

النقرس هاهنا: الداهية، ومضى طرفة بكتابه إلى البحرين، فأمر به المعلّى بن حنش(١) العبدي فقتل؛ فقال المتلمس(٢) :

عصانا(٣) فما لاقى رشادا وإنّما

تبيّن(٤) في أمر الغوي عواقبه

فأصبح محمولا على ظهر آلة

تمجّ نجيع الجوف منه ترائبه

فإلاّ تجلّلها يعالوك فوقها

وكيف توقّى(٥) ظهر ما أنت راكبه!

ولحق المتلمّس ببلاد الشام، وهجا عمرا، وبلغه أن عمرا يقول: لئن وجده بالعراق ليقتلنّه، فقال:

آليت حبّ العراق الدّهر أطعمه

والحبّ يأكله بالقرية السّوس(٦)

وجرى المثل بصحيفة المتلمّس، فقال الفرزدق يذكر الشعراء الذين أورثوه أشعارهم(٧) :

وهب القصائد لي النّوابغ إذ(٨) مضوا

وأبو يزيد وذو القروح وجرول

وأخو بني قيس وهنّ قتلنه

ومهلهل الشّعراء ذاك الأوّل

يعني بالنوابغ: النابغة الذّبياني والجعدي، ونابغة بني شيبان، ويعني: بأبي يزيد المخبّل السعدي، وجرول هو الحطيئة، وذو القروح امرؤ القيس، وأخو بني قيس هو طرفة. ومعنى قوله: (وهن قتلنه)، يعني: القصائد التي هجا بها عمرو بن هند، ويقال إن صاحب المتلمس وطرفة في هذه القصة هو النعمان بن المنذر، وذلك أشبه بقول طرفة:

أبا منذر كانت غرورا صحيفتي

ولم أعطكم في الطّوع مالي ولا عرضي(٩)

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

حنانيك(١٠) بعض الشّرّ أهون من بعض

وأبو منذر هو النعمان بن المنذر، وكان النعمان بعد عمرو بن هند، وقد مدح طرفة النعمان فلا يجوز أن يكون عمرو قتله، فيشبه أن تكون القصّة مع النعمان.

____________________

(١) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (حنيش.

(٢) ديوانه: ١٩٣ - ١٩٤.                                     (٣) حاشية ت (من نسخة): (عصاني).

(٤) حاشية ت (من نسخة): (يبين).                          (٥) ش: (توقي)، بكسر القاف المشددة.

(٦) ديوانه: ١٨٠؛ و (حب)، منصوب على نزع الخافض؛ والبيت من شواهد (الكتاب ١: ١٧)، ومن نسخة بحاشيتي الأصل: (في القرية).

(٧) ديوانه ٢: ٧٢٠.

(٨) حاشية الأصل: (من نسخة): (كلهم).

(٩) ديوانه: ٤٨.

(١٠) حاشية الأصل: (حنانيك؛ أي تحننا بعد تحنن).

٢١٤

[١٣]

مجلس آخر [المجلس الثالث عشر:]

[أخبار بشر بن المعتمد وإيراد بعض أشعاره:]

وكان أبو سهل بشر(١) بن المعتمر من وجوه أهل الكلام، ويقال إن جميع معتزلة بغداد كانوا من مستجيبيه.

وقال أبو القاسم البلخي: إنه من أهل بغداذ، وقيل: من أهل الكوفة، وذكر الجاحظ أنّه كان أبرص.

وحكي أنّه كان يوما في مجلسه، وعنده أصحابه ومعه مجبر يسألهم ويقول: أنتم تحمدون الله على إيمانكم؟ وهم يقولون: نعم، فيقول لهم: فكأنّه يحبّ أن يحمد على ما لم يفعل، وقد ذمّ ذلك في كتابه، فيقولون له: إنما ذمّ من أحب أن يحمد على ما لم يفعل؛ ممّن لم يعن عليه، ولم يدع إليه؛ وهو يشغّب إذ أقبل ثمامة(٢) بن أشرس، فقال بشر للمجبر:

قد سألت القوم وأجابوك، وهذا أبو معن فاسأله عن المسألة فقال له: هل يجب عليك أن تحمد الله على الإيمان؟ قال: لا، بل هو يحمدني عليه، لأنه أمرني به ففعلته، وأنا أحمده على الأمر به، والتقوية عليه، والدعاء إليه؛ فانقطع المجبر. فقال بشر: شنعت فسهلت.

قال الجاحظ: وكان بشر يقع في أبي الهذيل، وينسبه إلى النفاق، فقال وهو يصفه:

أبو الهذيل لأن يكون لا يعلم، وهو عند الناس يعلم أحب إليه من أن يعلم، ويكون عند الناس لا يعلم، ولأن يكون من السّفلة، وهو عند الناس من العلية أحبّ إليه من أن يكون من العلية، وهو عند الناس من السّفلة، ولأن يكون نبيل المنظر، سخيف المخبر أحبّ إليه من أن يكون نبيل المخبر، سخيف المنظر؛ وهو بالنفاق أشدّ عجبا منه بالإخلاص، ولباطل مقبول أحبّ إليه من حق مدفوع.

____________________

(١) بشر بن المعتمر؛ انتهت إليه رئاسة المعتزلة ببغداد؛ وتوفي سنة ٢١٠. (لسان الميزان ٢: ٣٣).

(٢) ثمامة بن الأشرس النميري؛ مولى بني نمير؛ كان زعيم القدرية في زمن المأمون والمعتصم والواثق، وهو الّذي دعا المأمون إلى الاعتزال؛ توفي سنة ٢١٣؛ (لسان الميزان ٢: ٨٣، والفرق بين الفرق ١٥٧).

٢١٥

ولبشر أشعار كثيرة، يحتج فيها على أهل المقالات. وذكر الجاحظ أنّه لم ير أحدا أقوى(١) على المخمّس والمزدوج(٢) على ما قوى عليه بشر، وأنه كان أكثر في ذلك وأقدر من أبان اللاحقي(٣) ، وهو القائل:

إن كنت تعلم ما أقو

ل وما تقول فأنت عالم

أو كنت تجهل ذا وذا

ك فكن لأهل العلم لازم

أهل الرّئاسة من ين

ازعهم رياستهم فظالم

سهرت عيونهم وأن

ت عن الّذي قاسوه حالم

لا تطلبنّ رئاسة

بالجهل أنت لها مخاصم

لولا مقامهم رأي

ت الدّين مضطرب الدّعائم

***

[أخبار إبراهيم بن إسحاق النظام وبعض أشعاره:]

فأما أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار النظّام؛ فإنه كان مقدّما في العلم بالكلام، حسن الخاطر، شديد التدقيق والغوص على المعاني؛ وإنما أدّاه إلى المذاهب الباطلة التي تفرّد بها واستشنعت منه تدقيقه وتغلغله. وقيل: إنه مولى الزياديين من ولد العبيد، وإن الرّقّ جرى على أحد آبائه.

وقيل للنظّام(٤) : ما الاختصار؟ فقال: الّذي اختصاره فساد. وقال لرجل: أتعرف فلانا المجوسي؟ فقال: نعم، ذاك الّذي حلق وسط رأسه، كما يفعل اليهودي، فقال النظّام:

لا مجوسي عرفت، ولا يهودي وصفت.

قال الجاحظ وذكر عبد الوهاب الثقفي فقال: هو أحلى من أمن بعد خوف، وبرء بعد سقم،

____________________

(١) حاشية الأصل: (من نسخة): (قوى).

(٢) حاشية الأصل: (المخمس من الشعر: ما كان خمسة مصارع مقفاة، يخالفها الخامس أو يوافقها، والمزدوج: هو المثنوي).

(٣) هو أبان بن عبد الحميد بن لاحق؛ شاعر مكثر؛ وأكثر شعره مزدوج ومسمط؛ (وانظر الفهرست ١٦٣).

(٤) هو أبو إسحاق بن سيار النظام البصري، شيخ الجاحظ، وأحد رءوس المعتزلة؛ وإليه تنسب الفرقة النظامية؛ (وانظر آراءه في الفرق بين الفرق ١١٣).

٢١٦

وخصب بعد جدب، وغنى بعد فقر، وطاعة المحبوب، وفرج المكروب، ومن الوصل(١) الدائم، مع الشباب الناعم؛ وللنظّام شعر كثير صالح، فمنه:

ياتاركي جسدا بغير فؤاد

أسرفت في الهجران والإبعاد

إن كان يمنعك الزّيارة أعين

فادخل عليّ بعلّة العوّاد

كيما أراك وتلك أعظم نعمة

ملكت يداك بها منيع قيادي

إنّ العيون على القلوب إذا جنت

كانت بليّتها على الأجساد

وله:

توهّمه(٢) طرفي فآلم خدّه

فكان(٣) مكان الوهم من نظري أثر

وصافحه قلبي فآلم كفّه

فمن صفح قلبي في أنامله عقر

ومرّ بقلبي خاطرا فجرحته

ولم أر خلقا(٤) قطّ يجرحه الفكر

يمرّ فمن لين وحسن تعطّف

يقال به سكر وليس به سكر

ويقال إن أبا العتاهية، قال: أنشدت النظام شعرا:

إذا همّ النّديم له بلحظ

تمشّت في محاسنه الكلوم

فقال: ينبغي أن ينادم هذا أعمى.

قال سيدنا المرتضى أدام الله علوّه: وأبيات النظام تتضمّن معنى بيت أبي العتاهية، ولسنا ندري أيّهما أخذ من صاحبه، والنظّام يكرر هذا المعنى كثيرا في شعره، فمن ذلك قوله:

رقّ فلو بزّت سرابيله

علّقه الجوّ من اللّطف(٥)

يجرحه اللّحظ بتكراره

ويشتكي الإيماء بالطّرف

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (الوصال).

(٢) ف، ونسخة بحاشيتي الأصل، ت: (تأمله).

(٣) من نسخة بحاشية ت: (فصار).

(٤) من نسخة بحاشية الأصل: (جسما).

(٥) حاشية ت: (يعني أن في سرابيله ثفلا واعتمادا باقيا، فلو بزت لعلقه الجو).

٢١٧

وحكى أن أبا النظام(١) جاء به وهو حدث إلى الخليل بن أحمد، ليعلّمه، فقال له الخليل يوما يمتحنه، وفي يده قدح زجاج: يابنيّ، صف لي هذه الزجاجة، فقال: أبمدح أم بذم؟

قال: بمدح، قال: نعم، تريك القذى، لا تقبل الأذى، ولا تستر ما وراء؛ قال: فذمّها، قال: سريع كسرها، بطيء(٢) جبرها، قال: فصف هذه النخلة، وأومأ إلى نخلة في داره، فقال: أبمدح أم بذم؟ قال: بمدح، قال: هي حلو مجتناها، باسق منتهاها، ناضر أعلاها؛ قال: فذمّها قال: هي صعبة المرتقى، بعيدة المجتنى، محفوفة بالأذى؛ فقال الخليل:

يابنيّ، نحن إلى التعلّم منك أحوج.

قال سيدنا المرتضى أدام الله علوّه: وهذه بلاغة من النظّام حسنة، لأن البلاغة هي وصف الشيء ذمّا أو مدحا بأقصى ما يقال فيه.

***

[اختبار لبيد بهجائه للبقلة وخبره مع الربيع بن زياد عند النعمان:]

وشيبه بهذا المعنى خبر لبيد(٣) المشهور في هجائه(٤) البقلة، التي امتحن بهجائها، واختبر بذمها، فقال فيها أبلغ ما يقال في مثلها، وذلك أن عمارة وأنسا وقيسا والربيع بني زياد العبسيين وفدوا على النعمان بن المنذر، ووفد عليه العامريون بنو أم البنين(٥) ، وعليهم أبو البراء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب، وهو ملاعب الأسنّة، وكان العامريون ثلاثين رجلا،

____________________

(١) حواشي الأصل، ت، ف: (كان النظام شاعرا فصار متكلما، وبالعكس منه أبو نواس).

(٢) من نسخة بحاشية ت: (بعيد).

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (كان لبيد صحابيا مخضرما، وبقي بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله زمانا، وكان مستبصرا حسن الطريقة، وكان لا يقول الشعر بعد إسلامه ويقول: عوضي الله البقرة وآل عمران والمخضرم: الّذي أدرك الجاهلية والإسلام).

وانظر الخبر ضمن ترجمة لبيد وذكر نسبه وأخباره في (الأغاني ١٤ - ٩٠ - ٩٨، والخزانة ٤: ١١٧، ومجالس ثعلب ٤٤٩ - ٤٥٠، وشعراء النصرانية ٧٩٠، والعمدة ١: ٢٧، والحيوان ٥: ١٧٣).

(٤) من نسخة بحاشية ت: (وهجائه).

(٥) هي فاطمة بنت الخرشب الأنمارية؛ إحدى المنجبات من العرب؛ وكان يقال لبنيها الكملة؛ روي أن عبد الله بن جدعان لقيها وهي تطوف بالكعبة؛ فقال لها: نشدتك الله برب هذه البنية! أي بنيك أفضل؟ قالت: الربيع؛ لا بل عمارة؛ لا بل أنس؛ ثكلتهم إن كنت أدري أيهم أفضل)، (وانظر الأغاني ١٦: ١٩).

٢١٨

وفيهم لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب، وهو يومئذ غلام له ذؤابة، وكان الربيع ابن زياد العبسي ينادم النعمان، ويكثر عنده، ويتقدم على من سواه، وكان يدعى الكامل، لشطاطه(١) وبياضه وكماله.

فضرب النعمان قبّة على أبي براء، وأجرى عليه وعلى من كان معه النّزل، فكانوا يحضرون النعمان لحاجتهم، فافتخروا يوما بحضرته، فكاد العبسيون يغلبون العامريين، وكان الربيع إذا خلا بالنعمان طعن فيهم، وذكر معايبهم؛ ففعل ذلك مرارا لعداوته لبني جعفر؛ لأنهم كانوا أسروه، فصدّ النعمان عنهم حتى نزع القبة عن أبي براء، وقطع النّزل، ودخلوا عليه يوما فرأوا منه جفاء، وقد كان قبل ذلك يكرمهم، ويقدّم مجلسهم، فخرجوا من عنده غضابا، وهمّوا بالانصراف، ولبيد فى رحالهم يحفظ أمتعتهم، ويغدو بإبلهم فيرعاها، فإذا أمسى انصرف بها.

فأتاهم تلك الليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع، فقال لهم: ما كنتم(٢) تتناجون؟ فكتموه، وقالوا له: إليك عنا، فقال: أخبروني، فلعلّ لكم عندي فرجا، فزجروه، فقال: والله لا أحفظ لكم متاعا، ولا أسرح لكم بعيرا(٣) أو تخبروني؟ وكانت أم لبيد عبسية في حجر الربيع، فقالوا له: خالك قد غلبنا على الملك، وصدّ(٤) عنا وجهه، فقال: هل تقدرون أن تجمعوا بيني وبينه غدا حين يقعد الملك فأرجز به رجزا ممضّا مؤلما، لا يلتفت إليه النعمان بعده أبدا؟ قالوا له: وهل عندك ذلك؟ قال: نعم، قالوا: فإنّا نبلوك بشتم(٥) هذه البقلة - وقدامهم بقلة دقيقة القضبان، قليلة الورق، لاصقة فروعها بالأرض، تدعى التّربة - فاقتلعها من الأرض وأخذها بيده، وقال: (هذه البقلة التّربة التّفلة الرذلة، التي لا تذكي نارا، ولا تؤهل دارا، ولا تستر جارا، عودها ضئيل، وفرعها ذليل، وخيرها قليل، بلدها شاسع ونبتها خاشع، وآكلها

____________________

(١) حاشية الأصل: (الشطاط هو استواء القامة وحسنها، والشطط: الخلاف والجدل).

(٢) حاشية الأصل: (مالكم).

(٣) من نسخة بحاشيتي ت: (إبلا).

(٤) حاشية ت (من نسخة): (وأصدعنا).

(٥) حاشية ت (من نسخة): (فاشتم).

٢١٩

جائع، والمقيم عليها قانع؛ أقصر البقول فرعا، وأخبثها مرعى وأشدها قلعا، فحربا(١) لجارها وجدعا! ألقوا بي(٢) أخا بني عبس، أرجعه عنكم بتعس ونكس، وأتركه من أمره في لبس). فقالوا له: نصبح ونرى فيك رأينا.

فقال لهم عامر: انظروا إلى غلامكم هذا، فإن رأيتموه نائما فليس أمره بشيء، إنما تكلّم بما جرى على لسانه، وإن رأيتموه ساهرا فهو صاحبكم، فرمقوه بأبصارهم، فوجدوه قد ركب رحلا يكدم واسطته؛ حتى أصبح فلما أصبحوا، قالوا: أنت والله صاحبه، فحلقوا رأسه، وتركوا له ذؤابتين، وألبسوه حلّة، وغدوا به معهم، فدخلوا على النعمان فوجدوه يتغدّى ومعه الربيع، ليس معه غيره، والدار والمجالس مملوءة، بالوفد فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين فدخلوا عليه، والربيع إلى جانبه، فذكروا للنعمان حاجتهم، فاعترض الربيع في كلامهم، فقام لبيد: وقد دهن أحد شقّي رأسه، وأرخى إزاره، وانتعل نعلا واحدة - وكذلك كانت الشعراء تفعل في الجاهلية إذا أرادت الهجاء - فمثل بين يديه، ثم قال:

ياربّ هيجا هي خير من دعه(٣)

إذ لا تزال هامتي مقزّعه

نحن بني أمّ البنين الأربعة

ونحن خير عامر بن صعصعه

المطعمون الجفنة المدعدعة(٤)

والضّاربون إلهام تحت الخيضعة

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (فحربا) [بفتح الراء]، وفي حاشية ت (من نسخة): (فخزيا).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (فألقوا).

(٣) الأرجوزة في ديوانه ١: ٧ - ٨، وقبل هذا البيت في رواية ثعلب:

* لا تزجر الفتيان عن سوء الرّعة*

والرعة: حالة الأحمق التي رضي بها.

(٤) كذا في ت، وفي الأصل، د ف: (المذعذعة) بالذال المعجمة. وفي حاشية الأصل: (حقه (المدعدعة) بالدال غير المعجمة؛ وهي المملوءة، والدعدعة تحريك المكيال ونحوه ليسع الشيء، ودعدعت الشيء ملأته، وجفنة مدعدعة أي مملوءة، قال لبيد أيضا يصف ماءين ألقيا من السيل:

فدعدعا سرّة الرّكاء كما

دعدع ساقي الأعاجم الغربا

- والركاء: واد معروف، أما الذعدعة؛ فهو التفريق؛ ولم يسمع في معنى المل ء بالذال، والله أعلم).

٢٢٠