أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 307993
تحميل: 10900


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 307993 / تحميل: 10900
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مهلا أبيت اللّعن لا تأكل معه

إنّ استه من برص ملمّعه

وإنه يدخل فيها إصبعه

يدخلها حتّى يواري أشجعه

كأنه يطلب شيئا ضيّعه

فلما فرغ لبيد التفت النعمان إلى الربيع يرمقه شزرا، وقال: كذلك أنت؟ قال: كذب والله ابن الحمق اللئيم! فقال النعمان: أفّ لهذا الطعام، لقد خبّث عليّ طعامي! فقال الربيع: أبيت اللعن! أما إني قد فعلت بأمه - لا يكني، وكانت في حجره - فقال لبيد: أنت لهذا الكلام أهل، أما إنها من نسوة غير فعل، وأنت المرء قال هذا في يتيمته(١) .

قال سيدنا أدام الله علوّه: وجدت في رواية أخرى: أما إنها من نسوة فعل، وإنما قال ذلك لأنها كانت من قوم الربيع، فنسبها إلى القبيح، وصدّقه عليه تهجينا له ولقومه.

فأمر الملك بهم جميعا فأخرجوا، وأعاد على أبي براء القبة، وانصرف الربيع إلى منزله، فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه به، وأمره بالانصراف إلى أهله، فكتب إليه: وأني قد تخوّفت أن يكون قد وقع في صدرك ما قال لبيد، ولست برائم حتى تبعث إلي من يجردني، ليعلم من حضرك من الناس إني لست كما قال، فأرسل إليه: إنك لست صانعا بانتفائك مما قال لبيد شيئا، ولا قادرا على ردّ ما زلّت به الألسن، فالحق بأهلك؛ ثم كتب إليه النعمان في جملة أبيات جوابا عن أبيات(٢) كتبها إليه الربيع مشهورة:

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (ربيبته).

(٢) الأبيات برواية صاحب الأغاني:

لئن رحلت جمالي إنّ لي سعة

ما مثلها سعة عرضا ولا طولا

بحيث لو وزنت لخم بأجمعها

لم يعدلوا ريشة من ريش سمويلا

ترعى الروائم أحرار البقول بها

لا مثل رعيكم ملحا وغسويلا

فابرق بأرضك يانعمان متّكئا

مع النّطاسي يوما وابن توفيلا

٢٢١

قد قيل ذلك إن حقا وإن كذبا

فما اعتذارك من شيء إذا قيلا!(١)

وأخبرنا بهذا الخبر أبو عبيد الله المرزباني قال حدّثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة، وأخبرنا به أيضا المرزباني قال حدثني محمد بن أحمد الكاتب قال:

حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي قال: أخبرنا محمد بن زياد بن زبّان عن الكلبي عن عبد الله بن مسلم البكّاوي(٢) - وكان قد أدرك الجاهلية. - وفي حديث كل واحد زيادة على الآخر، ولم نأت بجميع الخبر على وجهه، بل أسقطنا منه ما لم نحتج إليه، وأوردنا ما أوردنا منه بألفاظه.

قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه: أما قوله: (نحن بني أم البنين) فإنه نصب على المدح، والعرب تنصب على المدح والذم جميعا. وأم البنين هي بنت عمرو بن عامر بن ربيعة ابن صعصعة، وكانت تحت مالك بن جعفر بن كلاب، فولدت له منه عامر بن مالك ملاعب الأسنّة، وطفيل بن مالك فارس قرزل، وهو أبو عامر بن الطّفيل، وقرزل فرس كانت له، وربيعة بن مالك أبا لبيد، وهو ربيع المقترين، ومعاوية بن مالك معوّد الحكّام، وإنما سمي معوّد الحكام بقوله:

أعوّد مثلها الحكّام بعدي

إذا ما الحقّ في الأشياع نابا

____________________

(١) البيت من مقطوعة ذكرها صاحب الأغاني؛ وهي:

شرّد برحلك عني حيث شئت ولا

تكثر عليّ ودع عنك الأباطيلا

فقد ذكرت بشيء لست ناسيه

ما جاورت مصر أهل الشام والنيلا

فما اتقاؤك منه بعد ما جزعت

هوج المطي به نحو ابن سمويلا

قد قيل ذلك إن حقّا وإن كذبا

فما اعتذارك من قول إذا قيلا!

فالحق بحيث رأيت الأرض واسعة

وانشربها الطرف إن عرضا وإن طولا

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (البكائي).

٢٢٢

وولدت عبيدة الوضّاح؛ فهؤلاء خمسة، وقال لبيد: (أربعة)، لأن الشعر لم يمكّنه من ذلك(١) .

وأما الجفنة المدعدعة(٢) فهي المملوءة. وأما الخيضعة، فإن الأصمعي يذكر أن لبيدا قال: (تحت الخضعة)؛ يعني الجلبة، فسوّته الرواة. وقيل: إن الخيضعة أصوات وقع السيوف، والخيضعة أيضا البيضة التي تلبس على الرأس، والخيضعة الغبار، والقول يحتمل كلّ ذلك.

وأما: (أبيت اللعن)، فإن أبا حاتم قال: سألت الأصمعي عنه فقال: معناه أبيت أن تأتي من الأمور ما تلعن عليه.

وأما: (الأشاجع)؛ فهي العروق والعصب الّذي على ظهر الكفّ.

وقد روي:* أكل يوم هامتي مقزّعة*

والقزع: تساقط بعض الشعر والصوف وبقاء بعضه، يقال: كبش أقزع ونعجة قزعاء.

***

[أخبار الجاحظ ونتف من كلامه:]

فأما الجاحظ فهو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب، مولى لأبي القلمّس عمرو بن قلع الكناني ثم الفقيمي. وذكر المبرّد أنه ما رأى أحرص على العلم من ثلاثة: الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن إسحاق القاضي؛ فأما الجاحظ فإنه كان إذا وقع في يده كتاب قرأه من أوله إلى آخره، أي كتاب كان. وأما الفتح بن خاقان(٣) فإنه كان يحمل الكتاب في خفّه، فإذا قام بين يدي المتوكل للبول أو للصلاة أخرج الكتاب فنظر فيه وهو يمشي حتى يبلغ الموضع الّذي يريده، ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه إلى أن يأخذ

____________________

(١) قال صاحب الخزانة (٤: ١٧٤): قول السيد المرتضى: إن لبيدا إنما قال أربعة وهم خمسة لضرورة الشعر؛ هذا قول الفراء؛ وهو قول فارغ؛ والصواب كما قال ابن عصفور في الضرائر: لم يقل إلا أربعة وهم خمسة على جهة الغلط؛ وإنما قال ذلك لأن أباه كان قد مات وبقي أعمامه وهم أربعة).

(٢) في الأصل: (المذعذعة)، وصوابه من ت؛ وانظر الحاشية رقم ٢ ص ١٩١، من هذا الجزء

(٣) هو الفتح بن خاقان وزير المتوكل؛ قتل معه سنة ٢٧٤؛ (النجوم الزاهرة ٢: ٣٢٥).

٢٢٣

مجلسه. وأما إسماعيل بن(١) إسحاق فإني ما دخلت عليه قطّ إلاّ وفي يده كتاب ينظر فيه، أو يقلّب الكتب لطلب كتاب ينظر فيه.

قال البلخي: تفرّد الجاحظ بالقول بأن المعرفة طباع، وهي مع ذلك فعل للعباد على الحقيقة، وكان يقول في سائر الأفعال إنها تنسب إلى العباد على أنها وقعت منهم طباعا، وأنها وجبت بإرادتهم، وليس بجائز أن يبلغ أحد فلا يعرف الله تعالى؛ والكفار عنده بين معاند، وبين عارف قد استغرقه حبّه لمذهبه وشغفه به وإلفه وعصبيته؛ فهو لا يشعر بما عنده من المعرفة بخلافه.

وكان الجاحظ ملازما لمحمد بن عبد الملك الزيات(٢) ، وكان منحرفا عن أحمد بن أبي دؤاد، للعداوة التي كانت بين أحمد ومحمّد، فلما قبض على محمد بن عبد الملك الزيات هرب الجاحظ، فقيل له: لم هربت؟ فقال: خفت أن أكون ثاني اثنين إذ هما في التنّور! يريد: ما صنع بمحمد بن عبد الملك من إدخاله تنورا فيه مسامير، كان هو صنعه ليعذّب الناس فيه، فعذب به حتى مات.

وروي انه أتى بالجاحظ بعد موت ابن الزيات وفي عنقه سلسلة، وهو مقيّد في قميص سمل، فلما نظر إليه ابن أبي دؤاد قال: والله ما علمتك إلاّ متناسيا للنعمة، كفورا للصنيعة، معدنا للمساوئ، وما فتّني باستصلاحي(٣) لك، ولكنّ الأيام لا تصلح منك لفساد طويّتك، ورداءة دخيلتك(٤) ، وسوء اختيارك، وغالب طبعك؛ فقال الجاحظ: خفّض عليك أيدك الله! فو الله لأن يكون لك الأمر عليّ خير من أن يكون لي عليك، ولأن أسيء وتحسن أحسن في الأحدوثة عنك من أن أحسن فتسيء، ولأن تعفو عني في حال قدرتك

____________________

(١) هو إسماعيل بن إسحاق القاضي البصري الفقيه المالكي؛ صنف في القراءات والفقه؛ وكان إماما في العربية؛ قال المبرد: هو أعلم بالتصريف مني؛ وتوفي سنة ٢٨٢؛ (شذرات الذهب ٢: ١٧٨).

(٢) هو محمد بن عبد الملك بن أبان، المعروف بابن الزيات؛ كان وزير المعتصم، وله شعر سائر جيد، وديوان رسائل، وتوفي سنة ٢٣٣؛ (ابن خلكان ٢: ٥٤).

(٣) حاشية الأصل: (أي ما فوتني استصلاحك، والباء للتعدية).

(٤) ت: (داخلتك).

٢٢٤

أجمل بك من الانتقام مني، فقال ابن أبي دؤاد: قبحك الله! فو الله ما علمتك إلاّ كثير تزويق اللسان، وقد جعلت بيانك أمام قلبك، ثم اضطغنت فيه النفاق والكفر؛ ياغلام صر به إلى الحمام، وأمط عنه الأذى. فأخذت عند السلسلة والقيد، وأدخل الحمام، وأميط عنه الأذى، وحمل إليه تخت من ثياب وطويلة وخفّ، فلبس ذلك، ثم أتاه فصدّره في مجلسه، ثم أقبل عليه، وقال: هات الآن حديثك ياأبا عثمان!

وقال المبرّد: سمعت الجاحظ يقول: احذر من تأمن؛ فإنك على حذر ممن تخاف.

وقال الجاحظ: قلت لأبي يعقوب الخريمي الشاعر: من خلق المعاصي؟ قال: الله، قلت:

فمن عذّب عليها؟ قال: الله، قلت: فلم؟ قال: لا أدري والله!

وكان الجاحظ يقول: ينبغي للكاتب أن يكون رقيق حواشي الكلام، عذب ينابيعه، إذا حاور سدّد سهم الصواب إلى غرض المعنى.

وقال: لا تكلّم العامة بكلام الخاصة، ولا الخاصة بكلام العامة.

وقال سوّار بن أبي شراعة: كنت عند الجاحظ، فرآني أكتب خطا رديئا في ورق رديء متقارب السطور، فقال لي: ما أحسبك تحبّ ورثتك، فقلت: وكيف ذاك؟ قال:

لأني أراك تسيء بهم فيما تخلّفه!

وذكر أبو العباس المبرّد قال: سمعت الجاحظ يقول لرجل آذاه: أنت والله أحوج إلى هوان من كريم إلى إكرام، ومن علم إلى عمل، ومن قدرة إلى عفو، ومن نعمة إلى شكر.

وقال المبرّد قال لي الجاحظ يوما: أتعرف مثل قول إسماعيل بن القاسم.

ولا خير فيمن لا يوطّن نفسه

على نائبات الدّهر حين تنوب

فقلت: نعم، قول كثيّر، ومنه أخذ:

فقلت لها ياعزّ كلّ مصيبة

إذا وطّنت يوما لها النّفس ذلّت

٢٢٥

وروى يموت بن المزرّع لخاله عمرو بن بحر الجاحظ في الجمّاز(١) يهجوه:

نسب الجمّاز مقصور إليه منتهاه

تنتهي الأحساب بالنّاس ولا تعدو قفاه

يتحاجى من أبو الجمّاز فيه كاتباه

ليس يدري من أبو الجمّاز إلاّ من يراه

أخبرنا المرزباني قال: أخبرنا عليّ بن هارون قال أنشدني وكيع قال أنشدني أبو العيناء قال أنشدني الجاحظ لنفسه في الخضاب:

زرت فتاة من بني هلال

فاستعجلت إلى بالسّؤال

ما لي أراك قانئ السّبال

كأنّما كرعت في جريال(٢)

ما يبتغي مثلك من أمثالي

تنحّ قدّامي ومن حيالي

قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه: قوله: (كأنما كرعت في جريال) مليح قوي، ولا يشبه شعر الجاحظ للينه وضعف كلامه.

وذكر أبو العيناء قال حدثني إبراهيم بن رياح قال أنشدني الجاحظ يمدحني:

بدا حين أثرى بإخوانه

ففلّل عنهم شباة العدم

وذكّره الحزم ريب الزّمان

فبادر بالعرف قبل النّدم

قال إبراهيم: فذاكرت بهما أحمد بن أبي دؤاد فقال: قد أنشدنيهما يمدحني بهما، ثم لقيت محمد بن الجهم فقال: قد أنشدنيهما يمدحني بهما، وقال يموت بن المزرّع: سمعت خالي الجاحظ يقول: لا أعرف شعرا يفضل قول أبي نواس:

____________________

(١) الجماز؛ لقب له؛ ومعناه الوثاب؛ واسمه محمد بن عمرو بن عطاء؛ شاعر أديب بصري؛ وكان ماجنا خبيث اللسان ذا نادرة؛ وكان أكبر سنا من أبي نواس؛ دخل بغداد في أيام المتوكل؛ وقد أعجب به المتوكل يوما فأمر له بعشرة آلاف درهم؛ فأخذها وانحدر، فمات فرحا بها؛ (تاريخ بغداد ٣: ١٢٥ - ١٢٦).

(٢) الكرع: أن يشرب الرجل بقية من النهر، والجريال: صفوة الخمر.

٢٢٦

ودار ندامى عطّلوها وأدلجوا

بها أثر منهم جديد ودارس(١)

مساحيب من جرّ الزّقاق على الثّرى

وأضغاث ريحان: جني ويا بس

حبست بها صحبي فجدّدت عهدهم

وإني على أمثال تلك لحابس

ولم أدر من هم غير ما شهدت به

بشرقي ساباط الدّيار البسابس(٢)

أقمنا بها يوما ويوما وثالثا

ويوما له يوم التّرحّل خامس

تدار علينا الرّاح في عسجديّة

حبتها بأنواع التّصاوير فارس

قرارتها كسرى وفي جنباتها

مها تدريها بالقسي الفوارس(٣)

فللخمر ما زرّت عليه جيوبها

وللماء ما دارت عليه القلانس

قال الجاحظ: فأنشدتها أبا شعيب القلاّل(٤) فقال: ياأبا عثمان، لو نقر هذا الشعر لطنّ! قلت: ويلك! ما تفارق الجرار والخزف حيث كنت!.

قال سيدنا أيده الله: أخذ أبو نواس قوله:

ولم أدر من هم غير ما شهدت به

بشرقي ساباط الدّيار البسابس

من قول أبي خراش الهذلي:

ولم أدر من ألقى عليه رداءه

سوى(٥) أنّه قد سلّ عن ماجد محض(٦)

ويقال إن أبا خراش أوّل من مدح من لا يعرفه، وذاك أن خراش بن أبي خراش أسر هو وعروة بن مرة، فطرح رجل من القوم رداءه على خراش حين شغل القوم بقتل عروة ونجّاه. فلما تفرغوا له قال: أفلت منّي، ويقال: بل رآه في الأسر رجل من بني عمه، فألقى عليه رداءه ليجيره به، وقال له: النجاء ويلك! فقال أبو خراش في ذلك:

حمدت الإله(٧) بعد عروة إذ نجا

خراش وبعض الشّرّ أهون من بعض

____________________

(١) ديوانه: ٢٩٥، والكامل - بشرح المرصفي ٧: ٥٤.

(٢) البسابس: الخوالي، وساباط: موضع ببلاد فارس.

(٣) تدريها: تختلها.

(٤) حاشية ت: (أبو شعيب هذا صقر بن عبد الرحمن الفلال).

(٥) ت: (ولكنه).

(٦) الأبيات من قصيدة في (ديوان الهذليين ٢: ١٥٧ - ١٥٨، وأمالي القالي ١: ٢٧١، ديوان الحماسة ٢: ٢٨٠ - ٢٨٤، والشعر والشعراء ٦٤٧ - ٦٤٨).

(٧) من نسخة بحاشية ت: (إلهي).

٢٢٧

فأقسمت لا أنسى قتيلا رزئته

بجانب قوسي(١) ما مشيت على الأرض

على أنّها تعفو الكلوم وإنّما

نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي

ولم أدر من ألقى عليه رداءه

سوى أنّه قد سلّ عن ماجد محض

وأخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال حدثني إبراهيم بن محمد بن شهاب قال حدثنا أبو الحسن أحمد بن عمر البرذعي المتكلم قال: صرت إلى منزل الجاحظ في أول ما قدمت من بلدي، وقد اعتل علته التي فلج فيها، فاستأذنت عليه، فخرج إلى خارج من منزله، فقال لي: يقول لك: وما تصنع بشقّ مائل، ولعاب سائل! فانصرفت عنه.

وذكر يموت بن المزرّع قال: وجّه المتوكل في السنة التي قتل فيها أن يحمل إليه الجاحظ من البصرة، وسأله الفتح ذلك، فوجده لا فضل فيه(٢) ، فقال لمن أراد حمله: وما تصنع بامرئ ليس بطائل، ذي شقّ مائل، ولعاب سائل، وفرج بائل، وعقل زائل، ولون حائل!.

وذكر المبرد قال: سمعت الجاحظ يقول: أنا من جانبي الأيسر مفلوج، فلو قرض بالمقاريض ما علمت، ومن جانبي الأيمن منقرس، فلو مرّ به الذباب لألمت، وبي حصاة لا ينسرح لي البول معها، وأشد ما عليّ ست وتسعون!

وقال يوما لمتطبب يشكو إليه علته: قد اصطلحت الاضداد إلى جسدي، إن أكلت باردا أخذ برجلي، وإن أكلت حارا أخذ برأسي. وتوفي في سنة خمس وخمسين ومائتين.

____________________

(١) كذا ضبط في ت؛ بضم القاف وفتح السين؛ وضبط في معجم البلدان بفتح القاف وسكون الواو؛ وزان (سكرى)، وهي بلد بالسراة.

(٢) حاشية الأصل: (من نسخة): (لا فضل عنده).

٢٢٨

[١٤]

مجلس آخر [المجلس الرابع عشر:]

تأويل آية: ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ، وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ، وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ؛ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) ؛ [البقرة: ١٧٧].

فقال: كيف ينفي كون تولية الوجوه إلى الجهات من البرّ، وإنما يفعل ذلك في الصلاة، وهي برّ لا محالة؟ وكيف خبّر عن البرّ (بمن) والبرّ كالمصدر، و (من) اسم محض؟ وعن أي شيء كنّى بالهاء في قوله تعالى:( وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ) ؟ وما المخصوص بأنها كناية عنه وقد تقدمت أشياء كثيرة؟ وعلى أي شيء ارتفع الْمُوفُونَ؟ وكيف نصب الصَّابِرِينَ، وهم معطوفون على الموفين؟ وكيف وحّد الكناية في مواضع وجمعها في أخر؟ فقال:( مَنْ آمَنَ وآتَى الْمالَ وأَقامَ الصَّلاةَ ) ، ثم قال:

( وَالْمُوفُونَ، والصَّابِرِينَ ) ؟.

يقال له: فيما ذكرته أوّلا جوابان:

أحدهما أنّه أراد تعالى: ليس الصّلاة هي البرّ كلّه؛ لكنه ما عدّد في الآية من ضروب الطاعات وصنوف الواجبات، فلا تظنوا أنكم إذا توجّهتم إلى الجهات بصلاتكم، فقد أحرزتم البرّ بأسره، وحزتموه بكماله، بل يبقى عليكم بعد ذلك معظمه وأكثره.

والجواب الثاني أن النّصارى لما توجّهوا إلى المشرق، واليهود إلى بيت المقدس، واتخذوا

٢٢٩

هاتين الجهتين قبلتين، واعتقدوا في الصلاة إليهما أنهما برّ وطاعة خلافا على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أكذبهم الله تعالى في ذلك، وبيّن أن ذلك ليس من البر، إذ كان منسوخا بشريعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ التي تلزم الأسود والأبيض، والعربي والعجمي، وأن البرّ هو ما تضمنته الآية.

فأما إخباره (بمن) ففيه وجوه ثلاثة:

أولها أن يكون معنى (البرّ) هاهنا البارّ وذا البرّ، وجعل أحدهما في مكان الآخر؛ والتقدير:

ولكنّ البارّ من آمن بالله؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً ) ؛ [الملك: ٣٠]، يريد غائرا، ومثل قول الشاعر:

ترتع ما رتعت حتّى إذا ادّكرت

فإنما هي إقبال وإدبار(١)

أراد أنها مقبلة مدبرة، ومثله:

تظلّ جيادهم نوحا عليهم

مقلّدة أعنّتها صفونا(٢)

أراد نائحة عليهم، ومثله قول الشاعر:

هريقي من دموعهما سجاما

ضباع(٣) وجاوبي نوحا قياما

والوجه الثاني أن العرب قد تخبر عن الاسم بالمصدر والفعل، وعن المصدر بالاسم، فأمّا إخبارهم عن المصدر بالاسم فقوله تعالى:( وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله ) ، وقول العرب: إنما البرّ الّذي يصل الرحم ويفعل كذا وكذا، وأما إخبارهم عن الاسم بالمصدر والفعل فمثل قول الشاعر:

لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللّحى

ولكنّما الفتيان كلّ فتى ند(٤)

____________________

(١) البيت الخنساء؛ ديوانها: ٧٨، والكامل - بشرح المرصفي ٨: ١٧٦، واللسان ١٩:

١٣٥، وتاج العروس ٨: ٧٣، وخزانة الأدب ١: ١٣٨، وهو في وصف بقرة وحشية، وقبله:

فما عجول على بو تطيف به

لها حنينان إصغار وإكبار

(٢) البيت لعمرو بن كلثوم؛ من المعلقة - بشرح التبريزي: ٢١٧؛ وانظر ص ١٠٥ من هذا الجزء.

(٣) ضباع: اسم امرأة؛ وأصله: (ضباعة).

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (مقرر -

٢٣٠

فجعل (أن تنبت) وهو مصدر خبرا عن الفتيان.

والوجه الثالث أن يكون المعنى: ولكن البرّ برّ من آمن؛ فحذف البرّ الثاني، وأقام (من) مقامه؛ كقوله تعالى:( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ) ؛ [البقرة: ٩٣]، أراد:

حبّ العجل، قال الشاعر:

وكيف تواصل من أصبحت

خلالته كأبي مرحب(١)

أراد: كخلالة أبي مرحب؛ وقال النابغة:

وقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي

على وعل في ذي المطارة عاقل(٢)

أراد على مخافة وعل. وتقول العرب: بنو فلان يطؤهم الطريق، أي أهل الطريق.

وحكي عن بعضهم: أطيب النّاس الزّبد، أي أطيب ما يأكل(٣) الناس الزّبد، وكذلك قولهم: حسبت صباحي زيدا، أي صباح زيد، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى:

( لَيْسَ عَلَى الأعْمى حَرَجٌ ) ؛ [النور: ٦١]، أي ليس على من أكل مع الأعمى حرج، وفي قوله تعالى:( رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ) ، [الكهف: ٢٢]، وذكروا أنه كان راعيا تبعهم.

فأما من كنى عنه بالهاء في قوله تعالى:( وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى ) ففيه وجوه أربعة:

____________________

 - في الصناعة أن يكون المبتدأ والخبر هو هو؛ أو ما يقوم مقام ذلك ويجري مجراه؛ وهو احتراز من قولك مثلا: أبو يوسف أبو حنيفة؛ يعني يقوم مقامه؛ فإذا كان كذلك فالواجب أن يكون الجزءان من المبتدأ والخبر جثتين أو حدثين؛ حتى لا ينخرم هذا الأصل الّذي أصلوه؛ فإذا وجدت شيئا من ذلك قد اختلف فإنما هو على ضرب من الاحتمال والمجاز؛ كقولك: الهلال الليلة؛ لأن التقدير حدوث الهلال الليلة؛ كأن التقدير: حدوث الهلال وقع الليلة؛ فالواقع هو الحدوث، والحدوث هو الواقع. والبيت المستشهد به، التقدير فيه: لعمرك ما فتوة الفتيان، فخذف المضاف وأقام المضاف مقامه، والتقدير: ما فتوة الفتيان نبتة اللحى).

(١) خلالته: مودته، وأبو مرحب كناية عن الظل، والبيت للنابغة الجعدي، وقبله:

وبعض الأخلاّء عند البلا

ء والرّزء أروغ من ثعلب

وانظر اللسان (رحب).

(٢) ديوانه: ٦٤، ومعجم البلدان ٨: ٨٤. وذو المطارة:

اسم جبل؛ وعاقل: متحصن، وفي حواشي الأصل، ت، ف: (يمكن أن تجعل (ما) في البيت زيادة، والتقدير: حتى تزيد: ويمكن أن يكون على القلب؛ أي ما تزيد مخافة وعل على مخافتي؛ وهو كثير، والوعل: الضأن الوحشي).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (ما أكل الناس).

٢٣١

أولها: أن تكون الهاء راجعة على المال الّذي تقدم ذكره، ويكون المعنى: وآتى المال على حبّ المال، وأضيف الحب إلى المفعول، ولم يذكر الفاعل: كما يقول للقائل: اشتريت طعامي كاشتراء طعامك، والمعنى كاشترائك طعامك.

والوجه الثاني أن تكون الهاء راجعة إلى مَنْ آمَنَ بِالله، فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل، ولم يذكر المفعول لظهور المعنى ووضوحه.

والوجه الثالث أن ترجع الهاء إلى الإيتاء الّذي دلّ آتَى عليه، والمعنى: وأعطى المال على حبّ الإعطاء، ويجري ذلك مجرى قول القطامي:

هم الملوك وأبناء الملوك لهم(١)

والآخذون به والسّاسة الأول(٢)

فكنّى بالهاء عن الملك، لدلالة قوله: (الملوك) عليه، ومثله قول الشاعر:

إذا نهي السّفيه جرى إليه

وخالف والسّفيه إلى خلاف(٣)

أراد: جرى إلى السّفه الّذي دلّ ذكر السفيه عليه.

والوجه الرابع: أن تكون الهاء ترجع إلى الله تعالى؛ لأن ذكره تعالى قد تقدم، فيكون المعنى: وآتى المال على حبّ الله ذوي القربى واليتامى. فإن قيل: فأي فائدة في ذلك، وقد علمنا الفائدة في إيتاء المال مع محبته والضّنّ به، وأن العطية تكون أشرف وأمدح، فما الفائدة فيما ذكرتموه؟ وما معنى محبة الله، والمحبة عندكم هي الإرادة، والقديم تعالى لا يصح أن يراد؟.

قلنا: أما المحبة عندنا فهي الإرادة، إلاّ أنهم يستعملونها كثيرا مع حذف متعلّقها مجازا وتوسعا، فيقولون: فلان يحب زيدا، إذا أراد منافعه، ولا يقولون: زيد يريد عمرا؛ بمعنى

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (هم).

(٢) جمهرة الأشعار: ٣١٦؛ وهو آخر قصيدته التي مطلعها:

إنا محيّوك فاسلم أيّها الطّلل

وإن بليت وإن طالت بك الطّول

 (٣) حاشية ت (من نسخة): (الخلاف). وحاشية الأصل (من نسخة): (اختلاف).

٢٣٢

أنه يريد منافعه، لأن التعارف جرى في استعمال الحذف والاختصار في المحبة دون الإرادة، وإن كان المعنى واحدا.

وقد ذكر أن لقولهم: زيد يحب عمرا مزية على قولهم: يريد منافعه، لأن اللفظ الأول ينبئ عن أنه لا يريد إلا منافعه، وأنه لا يريد شيئا من مضاره، والثاني لا يدلّ على ذلك، فحصلت له مزية؛ وعلى هذا المعنى نصف الله تعالى بأنه يحب أولياءه والمؤمنين من عباده؛ والمعنى فيه أنه يريد لهم ضروب الخير، من التعظيم والإجلال والنعم؛ فأما وصف أحدنا بأنه يحب الله تعالى فالمعنى فيه أنه يريد تعظيمه وعبادته والقيام بطاعته، ولا يصحّ المعنى الّذي ذكرناه في محبة العباد بعضهم بعضا؛ لاستحالة المنافع عليه. ومن جوّز عليه تعالى الانتفاع لا يصحّ أيضا أن يكون محبّا له على هذا المعنى، لأنه باعتقاده ذلك قد خرج من أن يكون عارفا به، فمحبته في الحقيقة لا تتعلّق به ولا تتوجه إليه؛ كما تقول في أصحاب التشبيه: إنّهم إذا عبدوا من اعتقدوه إلها فقد عبدوا غير الله تعالى.

فأما الفائدة في إعطاء المال مع محبة الله تعالى فهي ظاهرة؛ لأن إعطاء المال متى قارنته إرادة وجه الله وعبادته وطاعته استحقّ به الثواب، ومتى لم يقترن به ذلك لم يستحق الفاعل به ثوابا، وكان ضائعا. وتأثير ما ذكرناه أبلغ من تأثير حبّ المال والضّنّ به؛ لأن المحبّ للمال الضنين به متى بذله وأعطاه، ولم يقصد به الطاعة والعبادة والقربة لم يستحق به شيئا من الثواب؛ وإنما يؤثّر حبّه للمال في زيادة الثواب؛ متى حصل ما ذكرناه من قصد القربة والعبادة، ولو تقرب بالعطية، وهو غير ضنين بالمال، ولا محبّ له لاستحقّ الثواب. وهذا الوجه لم نسبق(١) إليه في هذه الآية، وهو أحسن ما قيل فيها.

وقد ذكر وجه آخر؛ وهو أن تكون الهاء راجعة إلى مَنْ آمَنَ أيضا، وينتصب ذوي القربى بالحبّ، ولا يجعل (لآتى) منصوبا لوضوح المعنى، ويكون تقدير الكلام:

وأعطى المال في حال(٢) حبه ذوي القربى واليتامى، على محبّته إياهم؛ وهذا الوجه ليس فيه

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (لم يسبق).

(٢) ت (على حبه)، وفي حاشية ت أيضا (من نسخة): (على حال حبه).

٢٣٣

مزية في باب رجوع الهاء التي وقع عنها(١) السؤال، وإنما يتبين مما تقدم بتقدير انتصاب ذوي القربى بالحب، وذلك غير ما وقع السؤال عنه؛ والأجوبة الأول أقوى وأولى.

فأما قوله: وَالْمُوفُونَ، ففي رفعه وجهان:

أحدهما أن يكون مرفوعا على المدح؛ لأنّ النعت إذا طال وكثر رفع بعضه، ونصب بعضه على المدح؛ ويكون المعنى: وهم الموفون بعهدهم، قال الزجّاج: وهذا أجود الوجهين.

والوجه الآخر أن يكون معطوفا على مَنْ آمَنَ، ويكون المعنى: ولكنّ ذا البرّ وذوي البرّ المؤمنون والموفون بعهدهم.

فأما نصب الصَّابِرِينَ ففيه وجهان:

أحدهما المدح، لأن مذهبهم في الصفات والنعوت إذا طالت أن يعترضوا بينها(٢) بالمدح أو الذم، ليميّزوا الممدوح أو المذموم ويفردوه، فيكون غير متبع لأول الكلام؛ من ذلك قول الخرنق بنت بدر بن هفّان:

لا يبعدن قومي الّذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر(٣)

النّازلين بكلّ معترك

والطّيّبين معاقد الأزر

فنصبت ذلك على المدح، وربما رفعوهما جميعا، على أن يتبع آخر الكلام أوله؛ ومنهم من ينصب (النازلين) ويرفع (الطيبين)، وآخرون يرفعون (النازلين) وينصبون (الطيبين)؛ والوجه في النصب والرفع ما ذكرناه، ومن ذلك قول الشاعر، أنشده الفراء:

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وذا الرّأي حين تغمّ الأمور

بذات الصّليل وذات اللّجم

فنصب (ليث الكتيبة وذا الرأي) على المدح. وأنشد الفرّاء أيضا:

____________________

(١) ت وحاشية الأصل (من نسخة): (عنها).

(٢) ش، حاشية ت (من نسخة): (فيها).

(٣) ديوانها: ١٢، واللآلئ ٥٤٨، ونوادر أبي زيد ١٠٨، والكامل - بشرح المرصفي ٦: ١٥٨.

٢٣٤

فليت التي فيها النّجوم تواضعت

على كلّ غثّ منهم وسمين

غيوث الحيا في كلّ محل ولزبة

أسود الشّرى يحمين كلّ عربن(١)

ومما نصب على الذم قوله:

سقوني الخمر ثمّ تكنّفوني

عداة الله من كذب وزور(٢)

والوجه الآخر في نصب: الصَّابِرِينَ أن يكون معطوفا على ذوي القربى، ويكون المعنى: وآتى المال على حبّه ذوي القربى والصابرين؛ قال الزجّاج: وهذا لا يصلح إلاّ أن يكون وَالْمُوفُونَ رفع(٣) على المدح للمضمرين، لأن ما في الصلة لا يعطف عليه بعد العطف على الموصول، وكان يقوي الوجه الأول.

وأما توحيد الذّكر في موضع وجمعه في آخر؛ فلأن مَنْ آمَنَ لفظه لفظ الوحدة، وإن كان في المعنى للجميع(٤) فالذّكر الّذي أتى بعده موحّدا أجرى على اللفظ، وما جاء من الوصف بعد ذلك على سبيل الجمع مثل قوله تعالى: وَالْمُوفُونَ، وَالصَّابِرِينَ فعلى المعنى.

وقد اختلفت قراءة القرّاء(٥) السبعة في رفع الراء ونصبها من قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ، فقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص لَيْسَ الْبِرَّ بنصب الراء، وروى هبيرة عن حفص عن عاصم أنه كان يقرأ بالنصب والرفع، وقرأ الباقون بالرفع، والوجهان جميعا حسنان؛ لأنّ كلّ واحد من الاسمين: اسم ليس وخبرها معرفة، فإذا اجتمعا في التعريف

____________________

(١) اللزبة: الشدة، والشرى: مأسدة بناحية الفرات.

(٢) البيت لعروة بن الورد، ديوانه: ٤٨؛ وهو في (الكتاب ١: ٢٥٢)؛ من أبيات يصف فيها ما كان من فعل قوم امرأته حين احتالوا عليه وسقوه الخمر؛ حتى أجابهم إلى مفاداتها؛ وكانت سبية عنده؛ (وانظر الخبر والأبيات في الأغاني ٣: ٧٥ - ٧٧ - طبعة دار الكتب المصرية).

(٣) ش، وحاشية ت (من نسخة): (رفعا).

(٤) من نسخة بحاشيتي ت، الأصل: (للجمع).

(٥) ت: (القراءة).

٢٣٥

تكافئا في جواز كون أحدهما اسما والآخر خبرا؛ كما تتكافأ النكرات(١) .

وحجة من رفع (البرّ) أنه: لأن يكون (البرّ)(٢) الفاعل أولى؛ لأنّه ليس يشبه الفعل، وكون الفاعل بعد الفعل أولى من كون المفعول بعده؛ ألا ترى أنّك إذا قلت: قام زيد، فإن الاسم يلي الفعل. وتقول: ضرب غلامه زيد، فيكون التقدير في الغلام التأخير، فلولا أن الفاعل أخصّ بهذا الموضع لم يجز هذا؛ كما لم يجز في الفاعل: ضرب غلامه زيدا، حيث لم يجز في الفاعل تقدير التأخير؛ كما جاز في المفعول به، لوقوع الفاعل موقعه المختص به.

وحجة من نصب (البرّ) أن يقول: كون الاسم أن وصلتها أولى لشبهها بالمضمر في أنها لا توصف، كما لا يوصف المضمر؛ فكأنه اجتمع مضمر ومظهر؛ والأولى إذا اجتمعا أن يكون المضمر الاسم من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر.

***

[خبر قيس بن زهير العبسي مع النّمر بن قاسط:]

حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن عثمان بن يحيى بن جنيقا الدقاق قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحد الحكيمي الكاتب قراءة عليه قال أملى علينا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي ثعلب قال أخبرنا ابن الأعرابي قال قال ابن الكلبي: لما كان بعد يوم الهباءة جاور قيس ابن زهير النّمر بن قاسط فقال لهم: إني قد جاورتكم واخترتكم، فزوّجوني امرأة قد أدّبها الغنى، وأذلّها الفقر، فى حسب وجمال؛ فزوّجوه ظبية بنت الكيّس النّمري. وقال لهم: إنّ فيّ خلالا ثلاثا؛ إني غيور، وإني فخور، وإني أنف، ولست أفخر حتى أبدأ، ولا أغار حتى أرى، ولا آنف حتى أظلم.

فأقام فيهم حتى ولد له، فلما أراد الرحيل عنهم قال: إني موصيكم بخصال، وناهيكم عن خصال؛ عليكم بالأناة، فإن بها تنال الفرصة، وتسويد من لا تعابون بتسويده، وعليكم بالوفاء؛ فإنّ به يعيش الناس، وبإعطاء من تريدون إعطاءه قبل المسألة، ومنع من تريدون

____________________

(١) حاشية ت: (لا يجوز أن يكون اسم ليس وخبرها نكرتين؛ فلا أدري كيف يتكافئان! ولعله يريد التكافؤ في غير هذا الموضع).

(٢) ت: (الاسم).

٢٣٦

منعه قبل الإلحاح، وإجارة الجار على الدهر، وتنفيس المنازل عن بيوت الأيامى(١) ، وخلط الضّيف بالعيال؛ وأنهاكم عن الرّهان؛ فإنّ(٢) به ثكلت مالكا أخي، والبغي، فإنّه قتل زهيرا أبي، وعن الإعطاء في الفضول فتعجزوا عن الحقوق، وعن الإسراف في الدّماء، فإنّ يوم الهباءة ألزمني العار حقّه، ومنع(٣) الحرم إلاّ من الأكفاء؛ فإن لم تصيبوا لها(٤) الأكفاء فإن خير مناكحها القبور، أو خير منازلها؛ واعلموا أني كنت ظالما مظلوما؛ ظلمني بنو بدر بقتلهم مالكا أخي، وظلمتهم بأن قتلت من لا ذنب له.

قال سيدنا المرتضى أدام الله علوّه: أما قوله: (أنهاكم عن الرّهان) فأراد المراهنة في سباق الخيل، وذلك أنّ قيس بن زهير راهن حذيفة بن بدر الفزاري على فرسيه: داحس والغبراء، وفرسي حذيفة: الخطّار والحنفاء - وقال بعض بني فزارة: بل قرزل والحنفاء - وكان قيس كارها لذلك؛ وإنما هاجه بينهما بعض بني عبد الله بن غطفان - وقيل: بل رجل من بني عبس - والخبر في شرح ذلك مشهور(٥) ؛ ثم وقع الاتفاق على السّباق، وجعلوا الغاية من واردات(٦) إلى ذات الإصاد(٧) ، وجعلوا القصبة(٨) في يد رجل من بني ثعلبة بن سعد، يقال له حصين، وبيد رجل من بني العشراء من بني فزارة، وملئوا البركة ماء، وجعلوا السابق أوّل الخيل يكرع فيها. ثم إن حذيفة بن بدر وقيس بن زهير أتيا المدى الّذي أرسلت الخيل منه(٩) ينظران إليها وإلى خروجها؛ فلما أرسلت عارضاها، فقال حذيفة: خدعتك

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (اليتامى).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (فإني).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (وعليكم بمنع الحرم).

(٤) حاشية ت (من نسخة): (لهن).

(٥) هو خبر الحرب المعروفة بحرب داحس والغبراء؛ وهي تشمل يوم المريقب، ويوم ذي حسا، ويوم اليعمرية، ويوم الهباءة، ويوم الفروق، ويوم قطن، ويوم غدير قلهى، وانظر تفصيل الخبر وما قيل فيه من الشعر في (العقد ٥: ١٥٠ - ١٦٠، والأغاني ١٦: ٢٣ - ٣٢، وسيرة ابن هشام ١: ٣٠٦ - ٣٠٨، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي ١ - ٣٩٧ - ٣٩٨، ٣: ٣٤ - ٤٢، وابن الأثير ١:

٣٤٣ - ٣٥٥، ومجمع الأمثال ٢: ٥١ - ٦١، وسرح العيون ٨٩ - ٩١ ومعجم البلدان - إصاد، هباءة، وشرح النقائض ٨٣ - ١٠٨).

(٦) واردات: موضع عن يسار طريق مكة.

(٧) ذات الإصاد: ردهة في ديار عبس.

(٨) حاشية ت (من نسخة): (القضية) وهو تحريف

(٩) حاشية الأصل (من نسخة): (فيه).

٢٣٧

ياقيس، فقال قيس: (ترك الخداع من أجرى من مائة)؛ يعني من مائة غلوة، فأرسلها مثلا، ثم ركضا ساعة، فجعلت خيل حذيفة تتقدّم خيل قيس، فقال حذيفة: سبقت ياقيس؛ فقال قيس: (جري المذكّيات غلاب)، فأرسلها مثلا - والمذكّيات: المسانّ من الخيل(١) - وروي: (غلاء) كما يتغالى(٢) بالنّبل. ثم ركضا ساعة، فقال حذيفة: إنّك لا تركض مركضا، سبقت خيلك؛ فقال قيس: (رويد يعلون الجدد)، فأرسلها مثلا وروي: (يعدون الجدد)، أي يتعدّين الجدد إلى الوعث(٣) .

[خير يوم داحس والغبراء وتفسير ما ورد في ذلك من الأمثال:]

وقد كان بنو فزارة أكمنوا بالثّنيّة كمينا لينظروا؛ فإن جاء داحس سابقا أمسكوه وصدّوه عن الغاية؛ فجاء داحس سابقا، فأمسكوه، ولم يعرفوا الغبراء وهي خلفه مصلّية حتى مضت الخيل، وأسهلت من الثّنيّة، ثم أرسلوه فتمطّر(٤) في آثارها، فجعل يبدرها(٥) فرسا فرسا، حتى انتهى إلى الغاية مصلّيا(٦) ، وقد طرح الخيل غير الغبراء، ولو تباعدت الغاية سبقها(٧) . فاستقبلتها بنو فزارة فلطموها، ثم حلّئوها(٨) عن البركة، ثم لطموا داحسا، وقد جاءا متواليين، ثم جاء حذيفة وقيس في آخر الناس، وقد دفعتهم بنو فزارة عن سبقهم، ولطموا فرسيهم(٩) ، وجرى من الخلف في أخذ السبق ما قد شرحته الرواة.

وقد قيل في بعض الروايات: إن الرهان والسّبق(١٠) كان بين حمل بن بدر وبين قيس، وفي ذلك يقول قيس:

____________________

(١) أي أن المذكي يغالب مجاريه فيغلبه لقوته، وفي مجمع الأمثال (١: ١٤٤): (يجوز أن يراد أن ثاني جريه أبدا أكثر من باديه وثالثه أكثر من ثانيه؛ فكأنه يغالب بالثاني الأول وبالثالث الثاني؛ فجريه أيدا غلاب).

(٢) حاشية الأصل: (المعالاة: الرمي في الهواء).

(٣) الجدد: الأرض الصلبة، والوعث: السهلة.

(٤) يقال: تمطرت الخيل إذا ذهبت مسرعة.

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (يندرها)، أي يسقطها.

(٦) المصلى من الخيل: التالي للسابق.

(٧) ت: (لسبقها).

(٨) حلئوها عن البركة؛ أي منعوها من ورد الماء.

(٩) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (فرسيهما).

(١٠) ش، ونسخة بحاشية الأصل: (السباق).

٢٣٨

كما لاقيت من حمل بن بدر

وإخوته على ذات الإصاد

هم فخروا عليّ بغير فخر

وردّوا دون غايته جوادي

وقد دلفوا إلى بفعل سوء

فألفوني لهم صعب القياد(١)

وكنت إذا منيت بخصم سوء

دلفت له بداهية نآد(٢)

ثم إن قيسا أغار على عوف بن بدر فقتله وأخذ إبله، فبلغ ذلك بني فزارة فهمّوا بالقتال، فحمل الربيع بن زياد العبسي دية عوف، مائة عشراء متلية(٣) .

ويقال إن قيسا قتل ابنا لحذيفة، يقال له مالك، وأن حذيفة كان أرسله إليه يطلب منه السّبق(٤) ، فطعنه فدقّ صلبه، وإن الربيع بن زياد حمل ديته مائة عشراء، فسكن الناس عن القتال.

ثم إن مالك بن زهير نزل موضعا يقال له اللّقّاطة(٥)  قريبا من الحاجر، ونكح امرأة يقال لها مليكة بنت حارثة، من بني غراب من فزارة، فبلغ ذلك حذيفة بن بدر، فدسّ إليه فرسانا فقتلوه، وكان الربيع بن زياد العبسي مجاورا لحذيفة بن بدر، وكانت تحت الربيع معاذة بنت بدر، فلما وقف على الخبر قال:

نام الخلي وما أغمّض(٦) حار

من سيّئ النّبإ الجليل السّاري

من مثله تمسي النّساء حواسرا

وتقوم معولة مع الأسحار(٧)

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (الدلوف: تقارب الخطو؛ مثل مشي الشيوخ؛ ولا يستعمل إلا في الذم).

(٢) نآد: صعبة.

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (العشراء: الناقة التي يأتي على حملها عشرة أشهر؛ فتكون أقوى بولدها؛ وجمعها: عشار. ومتلية؛ أي تتلوها أولادها).

(٤) السبق: المال المخاطر عليه.

(٥) اللّقّاطة: موضع قريب من الحاجر؛ من منازل بني فزارة ذكره ياقوت؛ وقال إنه قتل فيه مالك بن زهير.

(٦) رواية الحماسة: (لم أغمض)، والغماض: النوم بعينه.

(٧) م: (تمشي)؛ قال التبريزي: (وتمسي أجود؛ لأن طبقه: (وتقوم معولة مع الأسحار)، فكأنه قال: (تمسي حواسر وتصبح بواكي)، (وحواسرا)؛ أي يأتي عليهن المساء وقد طرحن خمرهن؛ فعل النساء يصبن بكبار قومهن.

٢٣٩

من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهار(١)

يجد النّساء حواسرا يندبنه

يضربن أوجههنّ بالأحجار(٢)

قد كنّ يخبأن الوجوه تستّرا

فاليوم حين بدون للنّظّار(٣)

أفبعد مقتل مالك بن زهير

ترجو النّساء عواقب الأطهار(٤)

ما إن أرى في قتله لذوي الحجى

إلاّ المطي تشدّ بالأكوار(٥)

ومجنّبات ما يذقن عذوفة

يقذفن بالمهرات والأمهار(٦)

ومساعرا صدأ الحديد عليهم

فكأنّما طلى الوجوه بقار(٧)

***

[مقتل زهير بن جذيمة العبسي:]

فأما مقتل زهير بن جذيمة العبسي أبي قيس، فاختلفت الرواة في سببه، فيقال إن هوازن

____________________

(١) حواشي الأصل، ت، ف: (نقد عليه ذكر الإتيان مع النسوة)؛ ورواية المرزوقي في الحماسة: (فليأت ساحتنا)، قال: وأكثر من رأيناه يروي: (فليأت نسوتنا)؛ ورأيت الأستاذ الرئيس أبا الفضل بن العميد يقول: إني لأتعجب من أبي تمام مع تكلفه رم جوانب ما يختاره من الأبيات، وغسله من درن الألفاظ، كيف ترك تأمل قوله: (فليأت نسوتنا)؛ وهذه لفظة شنيعة): ووجه النهار:

صدره.

(٢) ت: (بالأسحار)، وهي رواية الحماسة، وفي ونسخة بحاشية الأصل: (بالأسيار).

(٣) ف، ونسخة بحاشيتي الأصل، ت: (برزن)؛ وهي رواية الحماسة. ت: (قد أبرزن).

(٤) المراد بعواقب الأطهار مراجعة الأزواج إلى أزواجهن بعقب أطهارهن؛ وفي حواشي الأصل، ت، ف، تعليقا على قوله: (زهير)، بإسكان الياء: (جعل عروض الضرب الثاني من الكامل مقطوعة، وردها من متفاعلن إلى فعلاتن)؛ وهذا الحذف يسميه المتأخرون القطع، وسماه الخليل الإقعاد؛ وسماه ابن قتيبة الإقواء؛ لأنه نقص من عروضه قوة، (وانظر العمدة ١: ٩٤، والشعر والشعراء ٤٣، وشروح سقط الزند ١١٤٦).

(٥) رواية الحماسة - بشرح التبريزي: (لذوي النهى).

وتشد بالأكوار، أي تشد عليها الأكوار.

(٦) المجنبات هنا: الخيل تجنب إلى الإبل في الغزو.

والعذوف والعذوفة أدنى ما يؤكل، ورواية الحماسة: (عذوفا)، والمهرات: جمع مهرة؛ قال التبريزي في معنى البيتين: (ما أرى في قتل مالك بن زهير رأيا لذوي العقول؛ إلا أن تركب الإبل وتجنب الخيل، ويسار بها سيرا عنيفا؛ حتى ترمي أجنتها، فتبلغ بنا إلى عدونا، فنغير عليهم، ونسفك دماءهم).

(٧) المساعر: جمع مسعر، والمسعر: هو الشجاع؛ كأنه آلة في إسعار الحرب وإيقادها؛ وصدأ الحديد آت من اتصالهم بالدروع ولبسها.

٢٤٠