أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 308024
تحميل: 10900


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 308024 / تحميل: 10900
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ابن منصور كانت تؤتى الإتاوة زهير بن جذيمة، ولم تكثر عامر بن صعصعة بعد، فهم أذلّ من يد في رحم، فأتت عجوز من هوازن زهير بن جذيمة بسمن في نحى، واعتذرت إليه، وشكت السنين اللّواتي تتابعت على الناس، فذاقه فلم يرض طعمه، فدعّها - أي دفعها - بقوس في يده عطل(١) ، في صدرها، فسقطت فبدت عورتها، فغضبت من ذلك هوازن، وحقدته إلى ما كان في صدرها(٢) من الغيظ، وكانت يومئذ قد أمرت بنو عامر بن صعصعة - أي كثرت - فآلى جعفر بن كلاب فقال: والله لأجعلنّ ذراعي هذه وراء عنقه(٣) حتى أقتل أو يقتل(٤) ؛ وفي ذلك يقول خالد بن جعفر:

أريغوني إراغتكم فإني

وحذفة كالشجى تحت الوريد(٥)

مقرّبة أواسيها بنفسي

وألحفها ردائي في الجليد

لعلّ الله يمكنني عليها

جهارا من زهير أو أسيد

فإمّا تثقفوني فاقتلوني

فمن أثقف فليس إلى خلود(٦)

ويقال بل كان السبب في ذلك أن زهير بن جذيمة لما قتل في غني من قتل بابنه شأس وافى عكاظ، فلقيه خالد بن جعفر بن كلاب - وكان حدثا - فقال: يازهير، أما آن لك أن تشتفي وتكف! - يعني مما قتل بشاس - فأغلظ له زهير وحقره، فقال خالد: اللهم أمكن يدي هذه الشعراء القصيرة من عنق زهير بن جذيمة، ثم أعنّي عليه، فقال زهير: اللهم أمكن يدي هذه البيضاء(٧) الطويلة من عنق خالد، ثم خلّ بيننا، فقالت قريش: هلكت

____________________

(١) قوس عطل: لا وتر عليها.

(٢) حاشية ت (من نسخة): (صدورها).

(٣) حاشية ت (من نسخه): (من وراء).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (أو أقتله).

(٥) أريغوني؛ أي اطلبوا إلي، والشجا:

ما اعترض في الحلق من عظم وغيره وفي حاشيتي ت، ف: (حذفة: اسم فرس خالد؛ وذكره الجوهري في صحاح اللغة، ويتخبل للناظر فيه أن يكون معنى حذفة حذيفة بن بدر وقوله: (كالشجى تحت الوريد) شبه نفسه بالشجا، وجعل حذفة كالوريد؛ و (مقربة) في البيت الثاني مفعول (اريغوني) فرسا مقربة، والله أعلم).

(٦) إما تثقفوني؛ أي إما تصادفوني؛ وفي اللسان: ثقفته ثقفا؛ أي صادفته؛ وأنشد:

فإمّا تثقفوني فاقتلوني

فإن أثقف فسوف ترون بالي

 (٧) ت: (الشماء).

٢٤١

والله يازهير، قال: أنتم والله الذين لا علم لهم. ثم أجمع خالد بن جعفر على قصد زهير وقتله.

واتّفق نزول زهير بالقرب من أرض بني عامر، وكانت تماضر بنت عمرو بن الشّريد امرأة زهير بن جذيمة وأم ولده، فمرّ به أخوها الحارث بن عمرو بن الشريد، فقال زهير لبنيه: إنّ هذا الحمار لطليعة عليكم فأوثقوه، فقالت أخته لبنيها: أيزوركم خالكم فتوثقونه؟ وقالت تماضر لأخيها الحارث بن عمرو بن الشريد: إنه(١) ليريبني اكبئنانك وقروتك - والاكبئنان الغمّ، والقروت(٢) السكوت - فلا يأخذنّ فيك ما قال زهير، فإنه رجل بيذارة غيذارة شنوءة.

 - قال الأثرم: البيذارة: الكثير الكلام، والغيذارة: السّيئ الخلق - ثم حلبوا له وطبا، وأخذوا عليه يمينا ألاّ يجير(٣) عليهم، ولا ينذر بهم أحدا؛ فخرج الحارث حتى أتى بني عامر، فقعد إلى شجرة يجتمع إليها بنو عامر، وألقى الوطب تحتها والقوم ينظرون، ثم قال: أيتها الشجرة الذليلة، اشربي من هذا اللبن، وانظري ما طعمه. فقال قوم: هذا رجل مأخوذ عليه، وهو يخبركم خبرا، فذاقوا اللبن فإذا هو حلو لم يقرص بعد، فقالوا: إنه يخبرنا أن مطلبنا قريب، فركب خالد بن جعفر بن كلاب ومعه جماعة، وكان راكبا فرسه حذفة، فلقوا زهيرا، فاعتنق خالد زهيرا، وخرّا عن فرسيهما، ووقع خالد فوق زهير ونادى:

يابني عامر، اقتلوني والرجل، واستغاث زهير ببنيه، فأقبل إليه ورقاء بن زهير يشدّ(٤) بسيفه، فضرب خالدا ثلاث ضربات، فلم تغن شيئا، وكان على خالد درعان قد ظاهر بينهما، ثم ضرب حندج رأس زهير فقتله، ففي ذلك يقول ورقاء بن زهير:

رأيت زهيرا تحت كلكل خالد

فأقبلت أسعى كالعجول أبادر(٥)

[إلى بطلين ينهضان كلاهما

يريدان نصل السّيف والسيف داثر](٦)

____________________

(١) ت: (إني).

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (قرت الدم يقرت قروتا إذا مات تحت الجلد؛ وقرت إذا تغير من حزن يصيبه، والقروت: السكون).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (ألا يخبر عنهم).

(٤) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): (يشدّ).

(٥) العجول من النساء والإبل: الواله التي فقدت ولدها.

(٦) تكملة من ت، والأغاني، والعقد.

٢٤٢

فشلّت يميني يوم أضرب خالدا

ويستره منّي الحديد المظاهر(١)

فيا ليت أني قبل(٢) ضربة خالد

ويوم زهير لم تلدني تماضر!

***

[خبر يوم الهباءة:]

فأما خبر الهباءة فإن بني عبس وبني فزارة لما التقوا إلى جنب جفر الهباءة(٣) في يوم قائظ، فاقتتلوا - ولخبرهم شرح طويل معروف - استجار حذيفة ومن معه بجفر الهباءة ليتبرد(٤) فيه، فهجم عليه القوم، فقال حذيفة يابني عبس، فأين العود(٥) ؟ وأين الأحلام؟ فضرب حمل بن بدر بين كنفيه وقال: (اتق مأثور القول بعد اليوم)، فأرسلها مثلا، وقتل قرواش ابن هي حذيفة بن بدر، وقتل الحارث بن زهير حملا، وأخذ منه ذا النون، سيف مالك بن زهير أخيه، وكان حمل بن بدر أخذه من مالك بن زهير يوم قتل، فقال قيس في ذلك:

تعلّم أنّ خير النّاس ميت

على جفر الهباءة لا بريم

ولولا ظلمه ما زلت أبكى

عليه الدهر ما طلع النّجوم

ولكنّ الفتى حمل بن بدر

بغى والبغي مرتعه وخيم(٦)

أظنّ الحلم دلّ عليّ قومي

وقد يستجهل الرّجل الحليم

ومارست الرّجال ومارسوني

فمعوجّ عليّ ومستقيم

وقال قيس أيضا:

شفيت النفس من حمل بن بدر

وسيفي من حذيفة قد شفاني

فإن أك قد بردت بهم غليلي

فلم أقطع بهم إلاّ بناني(٧)

____________________

(١) العقد، ونسخة بحواشي الأصل، ت، ف،: (ويمنعه). ويراد بالحديد هنا الدرع؛ ويقال:

ظاهر الدرع؛ إذا لأم بعضها على بعض.

(٢) حاشية ت (من نسخة): (يوم ضربة خالد).

(٣) الهباءة: أرض في بلاد عطفان؛ وجفر الهباءة: مستنقع فيها.

(٤) حاشية ت (من نسخة): (ليبترد).

(٥) حاشية الأصل: (يقال سودد عود، أي قديم).

(٦) حاشية الأصل (من نسخة): (مصرعه خيم).

(٧) حاشية ت من نسخه: (شفيت بهم)، وروى ياقوت بعد هذا البيت:

فلا كانت الغبراء ولا كان داحس

ولا كان ذاك اليوم يوم دهاني

٢٤٣

[١٥]

مجلس آخر [المجلس الخامس عشر:]

تأويل آية:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ ... )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) ؛ [البقرة: ١٧١].

فقال: أي وجه لتشبيه الذين كفروا بالصائح(١) بالغنم، والكلام يدلّ على ذمّهم ووصفهم بالغفلة وقلّة التأمل والتمييز، والنّاعق بالغنم قد يكون مميّزا متأمّلا محصّلا؟

يقال له في هذه الآية خمسة أجوبة:

أولها أن يكون المعنى: مثل واعظ الذين كفروا والداعي لهم إلى الإيمان والطاعة كمثل الراعي الّذي ينعق بالغنم وهي لا تعقل معنى دعائه، وإنما تسمع صوته ولا تفهم غرضه؛ والذين كفروا بهذه الصّفة لأنهم يسمعون وعظ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ودعاءه وإنذاره فينصرفون(٢) عن قبول ذلك، ويعرضون عن تأمّله، فيكونون بمنزلة من لم يعقله ولم يفهمه؛ لاشتراكهما في عدم الانتفاع به. وجائز أن يقوم قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا مقام الواعظ والداعي لهم؛ كما تقول العرب: فلان يخافك خوف الأسد؛ والمعنى كخوفه(٣) الأسد، فأضاف الخوف إلى الأسد وهو في المعنى مضاف إلى الرجل، قال الشاعر:

فلست مسلّما ما دمت حيّا

على زيد بتسليم الأمير

أراد بتسليمي على الأمير، ونظائر ذلك كثيرة.

والجواب الثاني أن يكون المعنى: ومثل الذين كفروا كمثل الغنم التي لا تفهم نداء الناعق، فأضاف الله تعالى المثل الثاني إلى الناعق؛ وهو في المعنى مضاف إلى المنعوق به،

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (الناعق)، وفي ت: (الصائح: الناعق).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (فيضربون).

(٣) م: (كخوفه من الأسد).

٢٤٤

على مذهب العرب في قولها: طلعت الشّعرى، وانتصب العود على الحرباء(١) ، والمعنى وانتصب الحرباء على العود؛ وجاز التقديم والتأخير لوضوح المعنى؛ وأنشد الفرّاء:

إنّ سراجا لكريم مفخره

تحلى به العين إذا ما تجهره(٢)

معناه يحلى بالعين؛ فقدّم وأخّر. وأنشد الفراء أيضا:

كانت فريضة ما تقول كما

كان الزّنا فريضة الرّجم

المعنى كما كان الرّجم فريضة الزنا، وأنشد أيضا:

وقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي

على وعل في ذي المطارة عاقل(٣)

 أراد ما تزيد مخافة وعل على مخافتي، ومثله:

* كأنّ لون أرضه سماؤه(٤) *

أراد كأنّ لون سمائه أرضه، ومثله:

ترى الثّور فيها مدخل الظّلّ رأسه

وسائره باد إلى الشّمس أجمع(٥)

أراد مدخل رأسه الظلّ، وقال الراعي:

فصبّحته كلاب الغوث يؤسدها

مستوضحون يرون العين كالأثر(٦)

يريد أنهم يرون الأثر كالعين؛ وقال أبو النجم:

____________________

(١) الحرباء: حيوان كالعضاءة؛ يدور مع الشمس.

(٢) يقال حلي فلان بعيني وفي عيني إذا أعجبك؛ والبيتان في اللسان (حلا)، وفي م: (تجلى)، تصحيف.

(٣) البيت للنابغة، وقد مر ذكره ص ٢٠٢، وانظر ما سبق في تفسيره.

(٤) الرجز لرؤبة، وقبله:

* ومهمه مغبرة أرجاؤه*

(٥) البيت من شواهد (الكتاب ١: ٩٢)؛ قال الأعلم: (الشاهد فيه إضافة مدخل إلى الظل، ونصب الرأس به على الاتساع والقلب، وكان الوجه أن يقول: مدخل رأسه الظل؛ لأن الرأس هو الداخل في الظل، والظل المدخل فيه؛ وهو وصف هاجرة قد ألجأت النيران إلى كنسها، فترى الثور مدخلا لرأسه في ظل كناسه لما يجد من شدة الحر، وسائره بارز للشمس).

(٦) يذكر ثورا، والغوث: قبيلة من طيئ، ويوسدها: يغريها؛ ومستوضحون:

صيادون ينظرون: هل يرون شيئا؛ يقال استوضح الرجل، إذا نظر ليرى شبحا أو أثرا، يريد أن أثر الصيد عندهم إذا رآه يكون بمنزلة الصيد نفسه لا يخفى عليهم. (وانظر معاني الشعر لابن قتيبة ٧٤٢، ١١٩٣).

٢٤٥

* قبل دنوّ الأفق من جوزائه*

فقلب، وقال العباس بن مرداس:

فديت بنفسه نفسي ومالي

ولا آلوه إلاّ ما يطيق

أراد فديت بنفسي نفسه، وقال ابن مقبل:

ولا تهيّبني الموماة أركبها

إذا تجاوبت الأصداء بالسّحر(١)

أراد لا أتهيّب الموماة؛ وهذا كثير جدّا(٢) .

والجواب الثالث أن يكون المعنى: ومثل الذين كفروا ومثلنا، أو مثلهم ومثلك يامحمد كمثل الّذي ينعق؛ أي مثلهم في الإعراض ومثلنا(٣) في الدعاء والتنبيه والإرشاد كمثل الناعق بالغنم، فحذف المثل الثاني اكتفاء بالأول؛ ومثله قوله تعالى:( وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) ؛ [النحل: ٨١]، أراد الحر والبرد، فاكتفى بذكر الحر من البرد، وقال أبو ذؤيب:

عصيت إليها القلب إني لأمرها

مطيع فما أدري أرشد طلابها(٤)

أراد أرشد أم غي، فاكتفى بذكر الرشد لوضوح الأمر.

والجواب الرابع أن يكون المراد: ومثل الذين كفروا في دعائهم للأصنام التي يعبدونها من دون الله وهي لا تعقل ولا تفهم، ولا تضرّ ولا تنفع كمثل الّذي ينعق دعاء ونداء بما

____________________

(١) معاني ابن قتيبة ١٢٦٤، واللسان - هيب؛ يقال: تهببني الشيء بمعنى تهببته أنا؛ كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت. والموماة: المفازة؛ والأصداء: جمع صدى؛ وهو البوم.

(٢) حاشية ت: (ومن المقلوب قوله تعالى:( ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ ) ، وإنما هو:

تنوء العصبة بها، وقوله سبحانه:( وَلا تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ) ؛ يريد مخلف رسله وعده؛ وإنما جرى القلب في كلام العرب اتساعا في الظاهر؛ لأن المعنى فيه لا يشكل).

(٣) د، حاشية ت (من نسخة): (ومثلك).

(٤) ديوان الهذليين ١: ٧١؛ والرواية فيه:

عصاني إليها القلب إنّي لأمره

سميع فما أدري أرشد طلابها

٢٤٦

لا يسمع صوته جملة، والدعاء والنداء على هذا الجواب ينتصبان بينعق، وإلاّ توكيد للكلام؛ ومعناها الإلغاء؛ قال الفرزدق:

هم القوم إلاّ حيث سلّوا سيوفهم

وضحّوا بلحم من محلّ ومحرم(١)

والمعنى: هم القوم حيث سلّوا سيوفهم.

والجواب الخامس أن يكون المعنى: ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام(٢) وعبادتهم لها واسترزاقهم إياها كمثل الرّاعي الّذي ينعق بالغنم ويناديها؛ فهي تسمع دعاءه ونداءه ولا تفهم معنى كلامه، فشبّه من يدعوه الكفار من المعبودات دون الله جلّ اسمه بالغنم، من حيث لا تعقل الخطاب ولا تفهمه، ولا نفع عندها فيه ولا مضرّة.

وهذا الجواب يقارب الّذي قبله، وإن كانت بينهما مزيّة ظاهرة؛ لأن الأول يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء ولا النداء جملة، ويجب أن يكون مصروفا إلى غير الغنم وما أشبهها مما يسمع وإن لم يفهم. وهذا الجواب يقتضي ضرب المثل بما يسمع الدعاء والنداء وإن لم يفهمهما، والأصنام من حيث كانت لا تسمع النداء(٣) جملة يجب أن يكون داعيها ومناديها أسوأ حالا من منادي الغنم. ويصحّ أن يصرف إلى الغنم وما أشبهها مما يشارك في السماع، ويخالف في الفهم والتمييز.

وقد اختلف الناس في يَنْعِقُ فقال أكثرهم: لا يقال نعق ينعق إلاّ في الصيّاح بالغنم وحدها؛ وقال بعضهم نعق ينعق بالغنم والإبل والبقر؛ والأول أظهر في كلام العرب؛ قال الأخطل:

فانعق بضأنك ياجرير فإنّما

منّتك نفسك في الخلاء ضلالا(٤)

____________________

(١) ديوانه ٢: ٧٦٠، وفي ت، ونسخة بحاشيتي الأصل، ف: (حين)، وفي حاشية الأصل أيضا: (نظير هذا في مورد (إلا) للتوكيد دون الاستثناء قولهم: (أسألك إلا غفرت لي).

(٢) م: (للأصنام).

(٣) ت: (الدعاء والداء)، ف: (الدعاء).

(٤) ديوانه: ٥٠.

٢٤٧

ويقال أيضا: نعق الغراب ونغق؛ بالغين المعجمة؛ إذا صلح من غير أن يمدّ عنقه ويحركها؛ فإذا مدها وحرّكها ثم صاح قيل: نعب، ويقال أيضا: نعب الفرس ينعب وينعب نعبا ونعيبا ونعبانا، وهو صوته؛ ويقال: فرس منعب، أي جواد، وناقة نعّابة؛ إذا كانت سريعة.

تأويل خبر [خبر النبيعليه‌السلام حين دعي إلى مأدبة ومعه الحسين وهو صبي، وتأويل ما ورد من الغريب في ذلك:]

روي أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خرج مع أصحابه إلى طعام دعوا إليه(١) ؛ فإذا(٢) بالحسينعليه‌السلام ، وهو صبي يلعب مع صبية في السّكّة، فاستنتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام القوم، فطفق الصبي يفرّ مرّة هاهنا، ومرّة هاهنا، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يضاحكه،(٣) ثم أخذه(٣) ، فجعل إحدى يديه تحت ذقنه، والأخرى تحت فأس رأسه، وأقنعه فقبّله، وقال: (أنا من حسين وحسين منّي، أحبّ الله من أحبّ حسينا، حسين سبط من الأسباط).

قال الشريف أدام الله علوّه: معنى استنتل تقدّم، يقال: استنتل الرجل استنتالا، وابرنتى ابرنتاء(٤) ، وابرنذع ابرنذاعا؛ إذا تقدم، هكذا ذكره ابن الأنباري.

ووجدت بعض المتقدمين في علم اللغة يحكي في كتاب له قال: تقول: خ خ استنتلت الأمر استنتالا إذا استعددت له، واستنتل الرجل تفرّد من القوم، ويقال: استنتل أشرف. والمعاني تتقارب، والخبر يليق بكل واحد منها. وحكى هذا الرجل الّذي ذكرناه في كتابه في ابرنثأ وابرنذع أيضا أنه من الاستعداد.

فأما السّكة، فهي المنازل المصطفّة، والنخل المصطف.

____________________

(١) ت، د: (له).

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (تقول خرجت فإذا زيد على الطريق؛ إذا بمعنى الوقت؛ والتقدير: خرجت والوقت وقت حضور زيد على الطريق؛ وكذلك أكرمك إذ أنت صديقي؛ ليست إذ لما مضى من الزمان؛ بل هي تعليلية، والتقدير: أكرمك لأنك صديقي).

(٣ - ٣) ساقط من م.

(٤) ص: (ابرنثأ).

٢٤٨

ومعنى طفق ما زال، قال الشاعر:

طفقت تبكي وأسعدها

فكلانا ظاهر الكمد(١)

وفأس الرأس: طرف القمحدوة(٢) المشرف على القفا.

ومعنى (أقنعه) رفعه، هكذا ذكر ابن الأنباري. وقال غيره: يقال أقنع ظهره إقناعا إذا طأطأه ثم رفعه برفق.

فأما الأسباط فأصلها في ولد إسحاقعليه‌السلام كالقبائل في بني إسماعيلعليه‌السلام ؛ وقال ابن الأنباري: هم الصّبية والصّبوة، بالياء والواو معا.

***

[من كلام ابنة الخسّ وتأويل ما ورد في ذلك من الغريب:]

حدثنا أبو القاسم عبد الله بن عثمان بن يحيى بن جنيقا قال أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن أحمد الحكيمي قراءة عليه قال أملى علينا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال أخبرنا ابن الأعرابي أنه قيل لابنة الخسّ: ما مائة من المعز؟ قالت: (مويل يشفّ الفقر من ورائه، مال الضعيف، وحرفة العاجز). قيل لها: فما مائة من الضأن؟ قالت: (قرية لا حمى بها).

قيل: فما مائة من الإبل؟ قالت: (بخّ(٣) ! جمال ومال، ومنى الرجال)، قيل لها: فما مائة من الخيل؟ قالت: (طغى عند من كانت، ولا توجد). قيل: فما مائة من الحمر؟ قالت: (عازبة الليل، وخزى المجلس، لا لبن فيحلب، ولا صوف فيجزّ(٤) ، إن ربط عيرها دلّى(٥) ، وإن أرسل ولى(٦) ).

وبهذا الإسناد عن ابن الأعرابي قال: قيل لابنة الخسّ - والخصّ والخسف، قال: كل ذلك يقال -: ما أحسن شيء؟ قالت: (غادية، في أثر سارية، في نبخاء قاوية) - قال: نبخاء:

أرض مرتفعة، لأن النبات في موضع مشرف أحسن - وقالوا أيضا: (نفخاء)، أي رابية،

____________________

(١) ت: (الجلد).

(٢) القمحدوة: الهنة الناشرة فوق القفا وأعلى القذال خلف الأذنين.

(٣) (ت، ج: (بخ بخ)، بتنوين الخاء.

(٤) د: (فيجز).

(٥) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (أدلى).

(٦) ت: (وإن أرسلته)، والخبر في المزهر ٢: ٥٤٥.

٢٤٩

ليس بها رمل ولا حجارة، قال: والجمع النّفاخى(١) ، ونبت الرابية أحسن من نبت الأودية، لأن السيل يصرع الشجر فيقذفه في الأودية، ثم يلقي عليه الدّمن(٢) .

قال الشريف أدام الله علوّه: ومما يدل أن نبت الرابية أحسن قول الأعشى:

ما روضة من رياض الحزن معشبة

خضراء جاد عليها مسبل هطل(٣)

وقال كثيّر:

فما روضة بالحزن طيّبة الثرى

يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها(٤)

____________________

(١) في حاشيتي ت، ف: (قال الجوهري: النبخاء: الأكمة، والنفخاء من الأرض مثل النبخاء، وأقوت الدار وقويت؛ أي خلت).

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (الدمن: جمع دمنة؛ وهو ما يتلبد من التراب والقش وكسار العيدان؛ والخبر في (مجالس ثعلب ٣٤٣، والمخصص ١٠: ١٤٣، واللسان - نبخ، نفخ).

(٣) حواشي الأصل، ت، ف: (بعده:

يضاحك الشمس منها كوكب شرق

مؤزّر بعميم النّبت مكتهل

يوما بأطيب منها نشر رائحة

ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل

- كوكب الشيء: معظمه، والنبت إذا عم وكثر قيل اكتهل، وقوله: (إذا دنا الأصل)، يعني أن الزهر إذا كان في الأصيل كان أحسن للبعد عن برد الغداة). والأبيات في ديوانه: ٤٣.

(٤) حواشي الأصل، ت، ف: (الجثجاث والعرار: نبتان، وبعده:

بأطيب من أردان عزّة موهنا

وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها

وللبيتين قصة؛ وهي أن كثيرا أقبل ذات وم راكبا، فاعترضت له في الطريق عجوز قد أوقدت في روثة، فتضجر عليها كثير، وتأفف في وجهها؛ فقالت: أنت القائل:

فما روضة بالحزن طيّبة الثّرى

يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها

بأطيب من أردان عزّة موهنا

وقد أوقدت بالمندل الرّطب نارها

قال: نعم؛ قالت: والله لو أوقد بالمندل على هذه الروثة لطابت! هلا قلت كما قال سيدك ومولاك امرؤ القيس:

ألم ترياني كلّما جئت طارقا

وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب!

فانكسر كثير وخجل. وقيل إنه أعطاها مطرفا كان معه وقال: (استريه علي)؛ (وانظر ديوان امرئ القيس ٧٣، وديوان كثير ١: ٩٣).

٢٥٠

فخصّا الحزن للمعنى الّذي ذكرنا.

***

[تأويل قول العرب: (جاءنا بطعام لا ينادى وليده):]

وبهذا الإسناد عن ابن الأعرابي قال: العرب تقول جاءنا بطعام لا ينادى وليده؛ إذا جاء بطعام كثير لا يراد فيه زيادة، ووقع في أمر لا ينادى وليده؛ يقول لا يدعى إليه الصبيان، ولا يستعان إلا بكبار الرجال فيه.

قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوه: وفي ذلك قولان آخران؛ أحدهما عن الأصمعي قال: أصله من الشدة تصيب القوم حتى تذهل المرأة عن ولدها فلا تناديه لما هي فيه، ثم صار مثلا لكل شدة، ولكل أمر عظيم. والقول الآخر عن الكلابي قال:

أصله من الكثرة والسّعة، فإذا أهوى الوليد إلى شيءلم يزجر عنه حذر الإفساد، لسعة ما هم فيه، ثم صار مثلا لكل كثرة؛ قال الفرّاء: وهذا القول يستعان به في كل موضع يراد به الغاية، وأنشد:

لقد شرعت كفّا يزيد بن مزيد

شرائع جود لا ينادى وليدها

***

[أخبار معن بن زائدة:]

وبالإسناد الّذي تقدم عن ابن الأعرابي قال: دخل ودفة(١) الأسدي على معن بن زائدة الشّيباني فقال: إن رأيت أكرمك الله أن تضعني من نفسك بحيث وضعت نفسى من رجائك؛ فإنك قد بلغت حالا لو أعتقني الله فيها بكرمك من تنصّف(٢) الرجال بعدك لم يكن كثيرا، وإنّي قد قدّمت الرجاء، وأحسنت الثناء، ولزمت الحفاظ، ثم أنشأ يقول:

يامعن إنك لم تنعم على أحد

فشاب نعماك تنغيص ولا كدر

فانظر إلى بطرف غير ذي مرض

فربّما صحّ لي من طرفك النّظر

أيّام وجهك لي طلق يخبّرني

إذا سكتّ بما تخفي وتضطمر

ومن هواك شفيع ليس يغفلني

وإن نأيت وإن قلّت بي الذّكر

____________________

(١) ودفة؛ بالفاء، وضبط في الأصل، ت بفتح الدال وإسكانها معا.

(٢) حاشية ت، ف: (التنصف: الخدمة؛ يقال تنصفه إذا خدمه، والنصيف: الخادم).

٢٥١

قد كنت أثّرت عندي مرّة أثرا

فقد تقارب يعفو ذلك الأثر

فاجبر بفضلك عظما كنت تجبره

واجمع بفعلك ما قد كاد ينتشر(١)

ما نازع العسر في اليسر مذ علقت

كفّي بحبلك إلاّ ظفّر اليسر

وقد خشيت وهذا الدّهر ذو غير

بأن يدال لطول الجفوة العسر(٢)

وأيّما(٣) كان من عسر وميسرة

فإنّ حظّك فيه الحمد والشّكر

فقال معن: أو ما كنّا أعطيناك شيئا؟ قال: لا، قال: أمّا الذهب والفضّة فليسا عندنا، ولكن هات تختا(٤) من ثيابي ياغلام؛ فدفعه إليه، وقد كان تحمّل عليه(٥) بابن عيّاش وحبيب بن بديل، فأعطاهما معه تختين، وقال: غرّمتني ياودفة تختي ثياب!.

قال سيدنا الشريف أدام الله علوّه: وكان معن بن زائدة جوادا شجاعا شاعرا، ويكنّى أبا الوليد، وهو معن بن زائدة بن عبد الله بن زائدة بن مطر بن شريك بن عمرو بن مطر، وهو أخو الحوفزان بن شريك، وكان معن من أصحاب ابن هبيرة(٦) ، فلما قتل رثاه معن فقال:

ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط

عليك بجاري دمعها لجمود(٧)

عشيّة قام النائحات وشقّقت

جيوب بأيدي مأتم وخدود(٨)

فإن تمس(٩) مهجور الفناء فطالما(٩)

أقام به بعد الوفود وفود

فإنك لم تبعد على متعهّد

بلى كلّ من تحت التّراب بعيد(١٠)

____________________

(١) ت: (بفضلك).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (بطول الجفوة).

(٣) م: (وإن ما).

(٤) التخت: وعاء تصان فيه الثياب:

(٥) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (إليه)، وتحمل إليه؛ أي تشفع.

(٦) حواشي الأصل، ت ف: (قتل ابن هبيرة السفاح).

(٧) حواشي الأصل، ت، ف: (روى أبو تمام هذه القطعة في الحماسة لأبي عطاء السندي). (وانظر ديوان الحماسة - بشرح التبريزي ٢: ٢٩٥ - ٢٩٦).

(٨) حاشية الأصل: (المأتم: جماعة النساء للعزاء).

(٩ - ٩) م: (مهجور الجناب فطالما)، ورواية الحماسة: (مهجور الجناب فربما)؛ قال التبريزي:

والرواية المختارة: (وربما) بالواو؛ وذلك أن جواب الشرط من قوله: (فإن تمس مهجور الفناء) (فإنك لم تبعد على متعهد)، ويصبر: (ربما أقام) بيان الحال فيما تقدم من رئاسته).

(١٠) أي على متعهد يتعهدك بالذكر والبكاء.

٢٥٢

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرني يوسف بن يحيى المنجّم عن أبيه قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو زيد بن الحكم بن موسى قال حدثني أبي قال: كان معن بن زائدة من أصحاب يزيد بن عمر بن هبيرة، وكان مستترا، حتى كان يوم الهاشمية(١) ، فإنه حضر وهو معتمّ متلثّم، فلما نظر إلى القوم وقد وثبوا على المنصور تقدّم فأخذ بلجام بغلته، ثم جعل يضربهم بالسيف قدّامه، فلما أفرجوا له وتفرّقوا عنه قال له: من أنت ويحك! قال: أنا طلبتك معن بن زائدة. فلما انصرف المنصور حباه وكساه ورتّبه، ثم قلّده اليمن، فلما قدم عليه من اليمن قال له: هيه يامعن! تعطي مروان بن أبي حفصة مائة ألف درهم على أن قال لك:

معن بن زائدة الّذي زيدت به

شرفا على شرف بنو شيبان

إن عدّ أيّام الفعال فإنما

يوماه: يوم ندى ويوم طعان

فقال: كلاّ ياأمير المؤمنين، ولكن أعطيته على قوله:

ما زلت يوم الهاشمية معلنا

بالسّيف دون خليفة الرّحمن

فمنعت حوزته، وكنت وقاءه

من وقع كلّ مهنّد وسنان

فقال له: أحسنت يامعن!

وفي خبر آخر أنّه دخل على المنصور، فقال له: ويلك(٢) ! ما أظنّ ما يقال فيك من ظلمك لأهل اليمن واعتسافك إياهم إلاّ حقّا! قال: وكيف ذاك ياأمير المؤمنين؟ قال: بلغني أنك أعطيت شاعرا كان يلزمك ألفي دينار، وهذا من السرف الّذي لا شيء مثله، فقال:

ياأمير المؤمنين، إنما أعطيته من فضول مالي وغلاّت ضياعي وفضلات(٣) رزقي، وكففته عن عرضي، وقضيت الواجب من حقّه عليّ وقصده إلى وملازمته لي، قال:

فجعل أبو جعفر ينكت بقضيب في يده الأرض ولم يعاوده القول.

____________________

(١) الهاشمية: مدينة بناها السفاح بالقرب من الكوفة، والخبر في (ابن خلكان ٢: ١٠٩).

(٢) ت: (ويلك يامعن!).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (وفضالات).

٢٥٣

وأخبرنا المرزباني قال أخبرني عليّ بن يحيى عن عبد الله بن أبي سعد الورّاق عن خالد ابن يزيد بن وهب بن جرير عن عبد الله(١) بن محمد المعروف بمنقار من أهل خراسان - وكان من ولاة الرشيد - قال: حدّثني معن بن زائدة قال: كنا في الصّحابة سبعمائة رجل، فكنا ندخل على المنصور في كلّ يوم، قال: فقلت للربيع: اجعلني في آخر من يدخل عليه، فقال لي:

لست بأشرفهم فتكون في أولهم، ولا بأخسّهم نسبا فتكون في آخرهم، وإن مرتبتك لتشبه(٢) نسبك. قال: فدخلت على المنصور ذات يوم، وعليّ درّاعة فضفاضة، وسيف حنفي(٣) أقرع بنعله الأرض، وعمامة قد أسدلتها من قدامي وخلفي، فسلّمت عليه وخرجت، فلما صرت عند السّتر صاح بي: يامعن! صيحة أنكرتها، فلبيته فقال: إلي، فدنوت منه، فإذا به قد نزل عن فراشه إلى الأرض، وجثا على ركبتيه، واستلّ عمودا من بين فراشين، واستحال لونه، ودرّت أوداجه، وقال: إنك لصاحبي يوم واسط، لا نجوت إن نجوت مني! قال:

قلت: ياأمير المؤمنين، تلك نصرتي لباطلهم، فكيف نصرتي لحقك؟ قال: فقال لي: كيف قلت؟

فأعدت عليه القول، فما زال يستعيدني حتى ردّ العمود إلى مستقره، واستوى متربعا، وأسفر لونه وقال: يامعن، إن باليمن هنات، قلت: ياأمير المؤمنين، (ليس لمكتوم رأي) - وهو أول من أرسلها مثلا - فقال: أنت صاحبي، فاجلس، قال: فجلست، وأمر الربيع بإخراج كل من كان في الدار، وخرج الربيع، فقال لي: إنّ صاحب اليمن قد همّ بالمعصية، وإني أريد أن آخذه أسيرا، ولا يفوتني شيء من ماله، قلت: ولّني اليمن وأظهر أنك قد ضممتني إليه، ومر الربيع أن يزيح علّتي في كل ما أحتاج إليه، ويخرجني في يومي هذا لئلا ينتشر الخبر، قال: فاستلّ عهدا من بين فراشين، فوقّع فيه اسمي وناولنيه، ثم دعا الربيع فقال:

ياربيع، إنا قد ضممنا معنا إلى صاحب اليمن، فأزح علّته فيما يحتاج إليه من السلاح

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (عبيد الله).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (كنسبة نسبك).

(٣) السيوف الحنفية: نوع منها ينسب إلى الأحنف بن قيس؛ لأنه أول من أمر باتخاذها، والقياس أحنفية؛ (القاموس).

٢٥٤

والكراع، ولا يمسي إلاّ وهو راحل، قال: ثم ودّعني فودعته، وخرجت إلى الدّهليز، فلقيني أبو الوالي فقال: يامعن؛ أعزز عليّ أن تضمّ إلى ابن أخيك! قال: فقلت له: إنّه لا غضاضة على الرجل يضمّه سلطانه إلى ابن أخيه. وخرجت إلى اليمن، فأتيت الرجل، فأخذته أسيرا، وقرأت عليه العهد، وقعدت في مجلسه.

وروى عمر بن شبّة قال: اجتمع عند معن بن زائدة ابن أبي عاصية وابن أبي حفصة والضّمري، فقال: لينشدني كلّ واحد منكم أمدح بيت قاله في، فأنشده ابن أبي حفصة:

مسحت ربيعة وجه معن سابقا

لما جرى وجرى ذوو الأحساب

فقال له معن: الجواد يعثر فيمسح وجهه من العثار والغبار وغيرهما.

وأنشده الضّمري:

أنت امرؤ همّك المعالي

ودلو معروفك الرّبيع

- ويروى: (ودون معروفك الربيع)  -

وشأنك الحمد تشتريه

يشيعه عنك ما يشيع(١)

فقال له: ما أحسن ما قلت! إلاّ أنك لم تسمّني ولم تذكرني، فمن شاء انتحله، وأنشده ابن أبي عاصية:

إن زال معن بني زياد(٢) لم يزل

لندى إلى بلد بعير مسافر(٣)

ففضّله عليهم.

وروي أنّه أتى معن بن زائدة بثلاثمائة أسير، فأمر بضرب أعناقهم، فقال له شاب منهم: ياأخا شيبان(٤) ، نناشدك الله أن تقتلنا عطاشا! فقال: اسقوهم ماء، فلما

____________________

(١) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (من يشيع).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (شريك).

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (التقدير:

إن زال معن بني زياد لم يزل لندى بعير مسافر إليه؛ يعني أن عفاته بعد زواله يتودعون ولا يسافرون لعدم من يقصد).

(٤) حاشية ت (من نسخة): (ياأخا بني شيبان).

٢٥٥

شربوا قال: ياأخا شيبان، نناشدك الله أن تقتل أضيافك! فقال: أطلقوهم.

وذكر أحمد بن كامل أن الخوارج قتلت معن بن زائدة بسجستان في سنة إحدى وخمسين ومائة(١) .

وروى أن عبد الله بن طاهر كان يوما عند المأمون، فقال له: ياأبا العباس، من أشعر من قال الشعر في خلافة بني هاشم؟ قال: أمير المؤمنين أعرف بهذا مني، قال: قل على كلّ حال، قال عبد الله: أشعرهم الّذي يقول في معن بن زائدة:

أيا قبر معن كنت أوّل حفرة

من الأرض خطّت للسّماحة مضجعا(٢)

أيا قبر معن كيف واريت جوده

وقد كان منه البرّ والبحر مترعا

بلى قد وسعت الجود والجود ميّت

ولو كان حيّا ضقت حتّى تصدّعا

والأبيات للحسين بن مطير الأسدي، وهي تزيد على هذا المقدار، وأولها:

ألما بمعن(٣) ثمّ قولا لقبره

سقتك الغوادي مربعا ثمّ مربعا

وفيها:

فتى عيش في معروفه بعد موته

كما كان بعد السّيل مجراه مرتعا

ولما مضى معن مضى الجود وانقضى

وأصبح عرنين المكارم أجدعا

____________________

(١) وانظر ترجمة معن وأخباره في (تاريخ بغداد ١٣: ٢٣٥ - ٢٤٤، وابن خلكان ٢: ١٠٨ - ١١٢).

(٢) الأبيات في (ديوان الحماسة - بشرح التبريزي ٢: ٣٩٠ - ٣٩٢)، وهي أيضا في تاريخ بغداد وابن خلكان.

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (ألما على معن).

٢٥٦

[١٦]

مجلس آخر [المجلس السادس عشر:]

تأويل آية:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ الله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ )

قال سيدنا الشريف الأجلّ ذو المجدين أطال الله بقاءه: إن سأل سائل فقال: ما الوجه في قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ الله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ ) ؛ [آل عمران: ٢١]، وفي موضع آخر:( وَقَتْلِهِمُ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ ) ؛ [النساء: ١٥٥]؛ وظاهر هذا القول يقتضي أنّ قتلهم قد يكون بحقّ. وقوله تعالى:( وَمَنْ يَدْعُ مَعَ الله إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ ) ؛ [المؤمنون: ١١٧]. وقوله:( الله الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) ؛ [الرعد: ٢]، وقوله:( وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً ) ؛ [البقرة: ٤١]، وقوله تعالى:( لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ) ؛ [البقرة: ٢٧٣]؛ والسؤال عن هذه الآيات كلّها من وجه واحد وهو الّذي تقدم.

الجواب، أنّ للعرب فيما جرى هذا المجرى من الكلام عادة معروفة، ومذهبا مشهورا، عند من تصفّح كلامهم وفهم عنهم. ومرادهم بذلك المبالغة في النفي وتأكيده؛ فمن ذلك قولهم: فلان لا يرجى خيره؛ ليس يريدون أنّ فيه خيرا لا يرجى، وإنما غرضهم أنّه لا خير عنده على وجه من الوجوه؛ ومثله: قلّما رأيت مثل هذا الرجل، وإنما يريدون أنّ مثله لم ير لا قليلا ولا كثيرا؛ وقال امرؤ القيس:

على لاحب لا يهتدى بمناره(١)

إذا سافه العود الدّيافي جرجرا(٢)

يصف طريقا؛ وأراد بقوله: (لا يهتدى بمناره) أنه لا منار له فيهتدى بها.

____________________

(١) من نسخة بحاشية الأصل: (بمنارة).

(٢) ديوانه: ١٠١، واللاحب: الطريق المنقاد الّذي لا ينقطع. والمنار: جمع منارة؛ وهي العلامة التي تجعل بين الحدين؛ ورواية الديوان: (النباطي).

٢٥٧

والعود: المسنّ من الإبل، والدّيافي: منسوب إلى دياف، قرية بالشام معروفة(١) .

وسافه: شمّه(٢) ، والجرجرة مثل الهدير؛ وإنّما أراد أنّ العود إذا شمّه عرفه فاستبعده، وذكر ما يلحقه فيه من المشقّة، فجرجر لذلك؛ وقال ابن أحمر:

لا تفزع الأرنب أهوالها

ولا ترى الضّبّ بها ينجحر

أراد: ليست بها أهوال فتفزع الأرنب؛ وقال النّابغة:

يحفّه جانبا نيق وتتبعه

مثل الزّجاجة لم تكحل من الرّمد(٣)

أراد: ليس بها رمد فتكحل له؛ وقال امرؤ القيس أيضا(٤) :

وصمّ حوام ما يقين من الوجى

كأنّ مكان الرّدف منه على رال

 يصف حوافر فرسه. وقوله: (ما يقين من الوجى) فالوجى هو الحفا، و (يقين)؛ أي يتوقّين، يقال: وقى الفرس إذا هاب المشي، فأراد أنه لا وجى بحوافره فيتهيبن الأرض من أجله، والرأل: فرخ النعام، وشبّه إشراف عجزه بعجز الرّأل؛ وقال الآخر(٥) :

____________________

(١) ت: (وهي قرية)، وفي معجم البلدان: (وقيل من قرى الجزيرة، وأهلها نبط الشام).

(٢) م: (شمه وعرفه).

(٣) حاشية ت: (الهاء في يحفه للحمام، والنيق: أرفع موضع في الجبل، ومثل الزجاجة عين المرأة التي وصفها)، وفي حاشية الأصل: (وقبله:

واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت

إلى حمام سراع وارد الثّمد

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا ونصفه فقد

- والثمد: الماء القليل).

وفتاة الحي: هي بنت الخس، عن الأصمعي، وعن أبي عبيدة: زرقاء اليمامة. وذكر أبو حاتم أنه كان لها قطاة، ومر بها سرب من القطا بين جبلين؛ فقالت: ليت هذا الحمام لي، ونصفه إلى حمامتي فيتم لي مائة؛ فنظروا فإذا هي كما قالت، وأرادت بالحمام القطا، وكانت جملة الحمام ستا وستين). وانظر الأبيات وشرحها في ديوان النابغة - بشرح البطليوسي ٢٣، ٢٤.

(٤) ت، وحاشيتي الأصل، ف (يصف فرسا، وقبله:

سليم الشّظا عبل الشّوى شنج النّسا

له حجبات مشرفات على الفالي

 - الشظا: عظم مستدق لاصق بعظم الذراع. والحجبة على الورك، وهما حجبتان مشرفتان على الخاصرتين فجمعهما بما حواليهما. والفالي يعني به القائل؛ فقلبه، والقائل: لحم على خربة الورك؛ وانظر الديوان: ٦٥.

(٥) هو أعشى باهلة؛ من قصيدة يرثي بها المنتشر بن وهب.

٢٥٨

لا يغمز السّاق من أين ولا وصب

ولا يعضّ على شرسوفه الصّفر(١)

أراد: ليس بساقه أين ولا وصب فيغمزهما من أجلهما؛ وقال سويد بن أبي كاهل:

من أناس ليس من أخلاقهم

عاجل الفحش ولا سوء الجزع(٢)

ولم يرد أنّ في أخلاقهم فحشا آجلا(٣) ولا جزعا(٤) ؛ وإنما أراد نفي الفحش والجزع عن أخلاقهم. ومثل ذلك قولهم: فلان غير سريع إلى الخنا، وهم يريدون أنّه لا يقرب الخنا، لا نفي الإسراع حسب. وقال الفرزدق وهو يهجو ابني جعفر بن كلاب، ويعيّرهم بقتلي منهم أصيبوا في حروبهم، فحملت النساء هؤلاء القتلى حتى أتين بهم الحي(٥) :

ولم تأت عير أهلها بالذّي(٦) أتت

به جعفرا يوم الهضيبات عيرها(٧)

أتتهم بعير لم تكن هجرية

ولا حنطة الشام المزيت خميرها

يعني أنّ العير إنما تحمل التمر أو الطعام إلى الحي، فحملت عير هؤلاء القوم القتلى، وقوله: (لم تكن هجرية)؛ أي لم تحمل التمر، وذلك لكثرة التمر بهجر، ثم قال: (ولا حنطة الشام المزيت خميرها)، ولم يرد أن هناك حنطة ليس في خميرها زيت؛ لكنه أراد أنها لم لم تحمل تمرا ولا حنطة، ثم وصف الحنطة وما يجعل في خميرها من الزيت.

____________________

(١) كذا في جميع الأصول؛ وهو يوافق ما في اللآلئ: ٧٥، والكامل - بشرح المرصفي ٨: ٢١٢؛ ورواية جمهرة الأشعار ٢٨٢؛ وفي ملحقات ديوان الأعشى ٢٦٨:

لا يتأرّى لما في القدر يرقبه

ولا يعضّ على شرسوفه الصّفر

لا يغمز السّاق من أين ولا وصب

ولا يزال أمام القوم يقتفر

وهي توافق رواية المؤلف فيما بعد. والتأري: التحبس والمكث، والصفر: حية في البطن تعض الشرسوف إذا جاع صاحبه. ولا يغمز الساق: لا يحنيها والاقتفار: أن يؤكل الخبز قفارا.

(٢) المفضليات: ١٩٥.

(٣) ت، د: (فحشا عاجلا ولا آجلا).

(٤) ت، د، ف: (ولا جزعا غير سيئ).

(٥) ديوانه ٢: ٤٥٩.

(٦) ت، د، ونسخة بحاشيتي الأصل، ف: (كالذي).

(٧) الهضيبات: موضع كان فيه يوم من أيام العرب؛ هو يوم طخفة؛ ذكره البكري في معجم ما استعجم: ١٣٥٤، وأورد البيت.

٢٥٩

وعلى هذا يقع تأويل(١) الآيات التي وقع السؤال عنها، لأنه تعالى لما قال:( وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ ) دلّ على أن قتلهم لا يكون إلاّ بغير حق، ثم وصف(٢) القتل بما لا بد أن يكون عليه من الصفة، وهي وقوعه على خلاف الحقّ؛ وكذلك:( وَمَنْ يَدْعُ مَعَ الله إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ ) ، إنما(٣) هو وصف لهذا الدعاء، وأنه لا يكون إلا عن غير برهان(٣) . وقوله تعالى:( الله الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) وجهه أيضا أنه لو كان هناك عمد لرأيتموه، فإذا نفى رؤية العمد نفى وجود العمد؛ كما قال: (لا يهتدي بمناره)، أي لا منار له من حيث علم أنه لو كان له منار لاهتدى به، فصار نفي الاهتداء بالمنار نفيا لوجود المنار. وقوله تعالى:( وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ ) تغليظ وتأكيد في تحذيرهم الكفر، وهو أبلغ من أن يقول: (ولا تكفروا به)، ويجري مجرى قولهم:

فلان لا يسرع إلى الخنا؛ وقلّما رأيت مثله إذا أرادوا به تأكيد نفي الخنا ونفي رؤية مثل المذكور. وكذلك قوله:( لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ) ، معناه لا مسألة تقع منهم، ومثل الأول:( وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً ) ؛ والفائدة أن كل ثمن لها لا يكون إلا قليلا، فصار نفي الثمن القليل نفيا لكل ثمن، وهذا واضح بحمد الله ومنّه.

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (تأول).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (وإنما وصف).

(٣ - ٣) ساقط من م.

٢٦٠