أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى11%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 323789 / تحميل: 11625
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

باب في ذكر شيء من أخبار المعمّرين وأشعارهم ومستحسن كلامهم

[أخبار الحارث بن كعب المذحجي ووصيته حين الموت وشرح ما ورد في ذلك:]

أحد المعمّرين الحارث بن كعب بن عمرو بن وعلة بن خالد(١) بن مالك بن أدد(٢) المذحجي، ومذحج(٣) هي أم مالك بن أدد، نسب ولد مالك إليها، وإنما سمّيت مذحجا(٤) لأنها ولدت على أكمة تسمى مذحجا، واسمها مدلّة بنت ذي منجشان(٥) .

قال أبو حاتم السجستاني: جمع الحارث(٦) بن كعب بنيه لما حضرته الوفاة فقال: (يابني، قد أتى عليّ ستون ومائة سنة، ما صافحت بيميني(٧) يمين غادر، ولا قنّعت(٨) نفسي بخلّة فاجر، ولا صبوت بابنة عمّ ولا كنّة، ولا طرحت عندي مومسة قناعها، ولا بحت لصديقي بسرّ، وإني لعلى دين شعيب النبيعليه‌السلام ، وما عليه أحد من العرب غيري، وغير أسد بن خزيمة، وتميم بن مرّة، فاحفظوا وصيّتي، وموتوا على شريعتي: إلهكم فاتقوه يكفكم المهمّ من أموركم، ويصلح لكم أعمالكم؛ وإياكم ومعصيته(٩) ، لا يحلّ بكم الدّمار، ويوحش منكم الدّيار. يابنيّ، كونوا جميعا ولا تفرقوا فتكونوا شيعا، وإنّ موتا في عزّ خير من حياة في ذلّ وعجز، وكلّ ما هو كائن كائن، وكلّ جميع إلى تباين.

الدهر(١٠) صرفان: فصرف رخاء، وصرف بلاء(١٠) ، واليوم يومان: فيوم حبرة، ويوم

____________________

(١) كذا في جميع الأصول، وفي حاشية الأصل: (ذكر س: هذا سهو، وهو كعب بن عمرو ابن علبة بن جلد بن مالك. وو علة وخالد تصحيف وغلط).

(٢) في حاشية الأصل، ت: (صرفت العرب (أددا)، ولم يجعلوه من باب عمر وزفر).

(٣) حاشية الأصل: (ذكر س: قال أبو جعفر محمد بن حبيب: مذحج هي أخت مدلة، واسمها مدلة بنت منجشان بن كلة بن زدمان، من حمير).

(٤) حاشية ت: (بخط ش: الصواب ألا تصرف مذحج للتأنيث والتعريف).

(٥) س: (مهجشان)، ت: (همنجشان).

(٦) لم يذكر فيما طبع من أخبار المعمرين لأبي حاتم.

(٧) حاشية ت (من نسخة): (ما صافحت يميني).

(٨) حاشية ت (من نسخة): (قعت)، بإسكان التاء.

(٩) ت: (ومعصية الله).

(١٠ - ١٠) ش: (والدهر ضربان: فضرب رخاء، وضرب بلاء).

٢٦١

عبرة، والناس رجلان: فرجل معك ورجل عليك، وتزوّجوا الأكفاء، وليستعملن في طيبهن الماء، وتجنّبوا الحمقاء؛ فإن ولدها إلى أفن ما يكون، إلا أنه لا راحة لقاطع القرابة، وإذا اختلف القوم أمكنوا عدوّهم منهم، وآفة العدد اختلاف الكلمة؛ والتفضّل بالحسنة يقي السيئة، والمكافأة بالسيئة الدخول فيها. العمل السوء يزيل النّعماء، وقطيعة الرّحم تورث الهمّ، وانتهاك الحرمة يزيل النعمة، وعقوق الوالدين يعقب النّكد، ويمحق العدد، ويخرب البلد، والنصيحة تجر الفضيحة، والحقد يمنع الرّفد، ولزوم الخطيئة يعقب البلية، وسوء الرّعة يقطع أسباب المنفعة، والضغائن تدعو إلى التباين)؛ ثم أنشأ يقول:

أكلت شبابي فأفنيته

وأفنيت بعد دهور دهورا

ثلاثة أهلين صاحبتهم

فبادوا وأصبحت شيخا كبيرا

قليل الطّعام عسير القيام

قد ترك الدّهر خطوي قصيرا

أبيت أراعي نجوم السّماء

أقلّب أمري بطونا ظهورا

قوله: (ولا صبوت بابنة عم ولا كنّة)، الصّبوة هي رقّة الحبّ،(١) والكنّة. امرأة أخي الرجل وامرأة ابن أخيه(١) .

فأما المومسة، فهي الفاجرة البغي، وأراد بقوله: (إنها لم تطرح عنده قناعها) أي لم تتبذّل(٢) عنده وتتبسّط، كما تفعل مع من يريد الفجور بها.

وقوله: (فيوم حبرة ويوم عبرة)، فالحبرة: الفرح والسرور، والعبرة تكون من ضدّ ذلك؛ لأنّ العبرة لا تكون إلاّ من أمر محزن مؤلم.

وأما الأفن، فهو الحمق؛ يقال: رجل أفين؛ إذا كان أحمق؛ ومثل من أمثالهم: (وجدان الرقين؛ يغطّي على أفن الأفين)، أي وجدان المال يغطّي على حمق الاحمق، وواحد الرّقين رقة، وهي الفضة.

____________________

(١ - ١) حاشية الأصل (من نسخة) (والكنة هي امرأة ابن الرجل وامرأة أخيه).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (لم تبتذل).

٢٦٢

فأما قوله: (النصيحة تجر الفضيحة)، فيشبه أن يكون معناه أنّ النّصيح إذا نصح لمن لا يقبل نصيحته، ولا يصغي إلى موعظته فقد افتضح عنده؛ لأنه أفضى إليه بسرّه، وباح بمكنون صدره.

فأما (سوء الرّعة)، فإنه يقال: فلان حسن الرّعة والتورّع، أي حسن الطريقة.

***

[أخبار عمرو بن ربيعة المستوغر وإيراد بعض أشعاره:]

ومن المعمّرين المستوغر، وهو عمرو بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ابن مرّ بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر.

وإنما سمّي المستوغر ببيت قاله، وهو:

ينشّ الماء في الرّبلات منها

نشيش الرّضف في اللّبن الوغير(١)

الرّبلات: واحدتها، ربلة، وربلة، بفتح الباء وإسكانها، وهي كلّ لحمة غليظة؛ هكذا ذكر ابن دريد.

والرّضف: الحجارة المحماة، وفي الحديث: (كأنه على الرّضف)؛ واللبن الوغير: لبن تلقي فيه حجارة محماة ثم يشرب، أخذ من وغرة الظهيرة، وهي أشدّ ما يكون من الحرّ؛ ومنه: وغير صدر فلان يوغر وغرا، إذا التهب من غضب أو حقد.

وقال أصحاب الأنساب: عاش المستوغر ثلاثمائة سنة وعشرين، وأدرك الإسلام أو كاد يدرك أوّله.

وقال ابن سلام: خ خ كان(٢) المستوغر قديما، وبقي بقاء طويلا حتى قال:

ولقد سئمت من الحياة وطولها

وعمرت(٣) من عدد السّنين مئينا

مائة أتت من بعدها مائتان لي

وازددت من عدد الشّهور سنينا

هل ما بقى(٤) إلاّ كما قد فاتنا

يوم يكرّ وليلة تحدونا

____________________

(١) ت: (ذي الربلات)، د: (بالربلات) والبيت في اللسان (وغر)، والمعمرين ٩ - ١٠.

(٢) طبقات الشعراء: ٢٩٠ - ٣٠.

(٣) في الطبقات: (وازددت).

(٤) بقي؛ بالألف، يريد بقي، بالياء: لغة طائية.

٢٦٣

وهو القائل:

إذا(١) ما المرء صمّ فلم يكلّم(٢)

وأودى سمعه إلاّ ندايا(٣)

ولاعب بالعشي بني بنيه

كفعل الهرّ يحترش العظايا

يلاعبهم وودّوا لو سقوه

من الذّيفان مترعة ملايا(٤)

فلا ذاق النّعيم ولا شرابا

ولا يشفى من المرض الشّفايا

أراد بقوله: (صمّ فلم يكلم)، أي لم يسمع ما يكلّم به، فاختصر؛ ويجوز أن يريد أنّه لم يكلّم لليأس من استماعه فأعرض عن خطابه لذلك. وقوله: (وأودى سمعه إلاّ ندايا) أراد أنّ سمعه هلك؛ إلاّ أنه يسمع الصوت العالي الّذي ينادى به.

وأما قوله: (ولاعب بالعشي بني بنيه)، فإنّه مبالغة في وصفه بالهرم والخرف، وأنه قد تناهى إلى ملاعبة الصبيان وأنسهم به. ويشبه أن يكون خصّ العشي بذلك لأنّه وقت رواح الصبيان إلى بيوتهم واستقرارهم فيها.

وقوله: (يحترش العظايا) أي يصيدها، والاحتراش أن يقصد الرجل إلى جحر الضّب فيضربه بكفّه ليحسبه الضب أفعى، فيخرج إليه فيأخذه، يقال: حرشت الضّبّ، واحترشته؛ ومن أمثالهم: (هذا أجلّ من الحرش)، يضرب عند الأمر يستعظم، ويتكلم بذلك على لسان الضب. قال ابن دريد: قال الضب لابنه: اتّق الحرش، قال:

وما الحرش؟ قال: إذا سمعت حركة بباب الجحر فلا تخرج؛ فسمع يوما وقع المحفار فقال:

ياأبه، أهذا الحرش؟ فقال: (هذا أجلّ من الحرش)؛ فجعل مثلا للرجل إذا سمع الشيء الّذي هو أشدّ مما كان يتوقّعه.

____________________

(١) الأبيات في طبقات الشعراء: ٣٠، وحماسة البحتري ٣٢٤ (ورواها همزية)، ومعجم الشعراء:

٢١٣، وفي حاشية الأصل: (ذكر سر قال: (قرأت س قال: قرأت بخط عبد السلام البصري رحمه الله أن هذه القطعة: إذا ما المرء لعثكلان بن ذي كواهن الحميري).

(٢) في الطبقات ومعجم الشعراء (فلم يناجي).

(٣) في حاشية الأصل، ت: (إنما قلب الهمزة في ندايا وشفايا وغيرهما ياء لأنه لو قال: شفاء لكانت تحصل همزة يكتنفها ألفان، والألف قريب من الهمزة، فإذا اجتمع ألفان مع همزة صار كأنه قد حصل قريب من الهمزتين؛ فلما كان كذلك أبدل من الهمزة ياء).

٢٦٤

والذّيفان: السّم. والعظايا: جمع عظاية، وهي دويبّة صغيرة معروفة(١) .

***

[أخبار دريد بن زيد بن نهد وشرح ما أورده من كلامه:]

وأحد المعمّرين دويد بن زيد بن نهد بن زيد بن ليث بن سود(٢) بن أسلم(٣) بن ألحاف(٤) ابن قضاعة بن مالك بن مرة بن مالك بن حمير.

قال أبو حاتم: خ خ عاش دويد بن زيد أربعمائة سنة وستا وخمسين سنة قال ابن دريد:

لما حضرت دويد بن زيد الوفاة - وكان من المعمّرين، قال: ولا تعدّ العرب معمّرا إلا من عاش مائة وعشرين(٥) سنة فصاعدا - قال لبنيه: (أوصيكم بالناس شرا، لا ترحموا لهم عبرة، ولا تقيلوهم(٦) عثرة، قصّروا الأعنّة، وطوّلوا(٧) الأسنّة، واطعنوا(٨) شزرا، واضربوا هبرا؛ وإذا أردتم المحاجزة، فقبل المناجزة، والمرء يعجز لا المحالة، بالجدّ لا بالكدّ. التجلّد ولا التبلّد، والمنية ولا الدّنية. لا تأسوا على فائت وإن عزّ فقده، ولا تحنّوا إلى ظاعن وإن ألف قربه، ولا تطمعوا فتطبعوا، ولا تهنوا فتخرعوا، ولا يكون(٩) لكم المثل السوء؛ إنّ الموصّين بنو سهوان. إذا متّ فارحبوا(١٠) خطّ مضجعي، ولا تضنّوا عليّ برحب الأرض، وما ذلك بمؤدّ إلي روحا(١١) ؛ ولكن راحة نفس(١٢) خامرها الإشفاق). ثم مات.

قال أبو بكر بن دريد في حديث آخر إنه قال:

____________________

(١) وانظر أخبار المستوغر في المعمرين: ٩، وطبقات الشعراء: ٢٩ - ٣٠، ومعجم الشعراء: ٢١٣ - ٢١٤

(٢) حاشية ت (من نسخة): (سويد).

(٣) حاشية الأصل: (بضم اللام).

(٤) حاشية الأصل: (ألحاف، يقطع الألف كأنه جمع لحف؛ كذا وجدته مضبوطا في النسخة المقروءة على ابن خرزاذ النجيرمي؛ وهو الصحيح، والحاف موصولا أيضا يقال).

(٥) حاشية ت (من نسخة): (مائة وستا وعشرين).

(٦) ت: (ولا تقبلوا لهم).

(٧) ت: (وأطولوا).

(٨) حاشية ت: طعن بالرمح يطعن [بضم العين]، وباللسان يطعن [بفتح العين].

(٩) ش: (ولا يكن).

(١٠) حاشية ت: (بخط ش: (فأرحبوا)، بالقطع وكسر الحاء.

(١١) حاشية ت (من نسخة): (نفعا).

(١٢) حاشية الأصل (من نسخة): (حاجة نفس).

٢٦٥

اليوم يبنى(١) لدويد بيته

ياربّ نهب(٢) صالح حويته

وربّ قرن(٣) بطل أرديته

وربّ غيل حسن لويته

ومعصم مخضّب ثنيته

لو كان للدّهر بلى أبليته

أو كان قرني واحدا كفيته

ومن قوله أيضا:

ألقى عليّ الدهر رجلا ويدا

والدّهر ما أصلح يوما أفسدا

يفسد ما أصلحه اليوم غدا

قوله: (اطعنوا شزرا، واضربوا هبرا)، معنى الشّزر أن يطعنه من إحدى ناحيتيه، يقال: فتل الحبل شزرا إذا فتله على الشمال، والنظر الشّزر: نظر بمؤخر العين؛ وقال الأصمعي:

نظر إلي شزرا إذا نظر إليه من عن يمينه وشماله، وطعنه شزرا كذلك.

وقوله: (هبرا)، قال ابن دريد: يقال هبرت اللحم أهبره هبرا إذا قطعته قطعا كبارا، والاسم الهبرة والهبرة، وسيف هبّار وهابر، واللحم هبير ومهبور. والمحالة:

الحيلة(٤) .

وقوله: (بالجدلا بالكدّ)؛ أي يدرك الرجل حاجته وطلبته بالجدّ، وهو الحظ والبخت، ومنه رجل مجدود، فإذا كسرت الجيم فهو الانكماش في الأمر والمبالغة فيه.

وقوله: (التجلد ولا التبلد)؛ أي تجلّدوا ولا تتبلّدوا.

وقوله: (فتطبعوا)، أي تدنسوا، والطّبع الدنس، ويقال طبع السيف يطبع طبعا، إذا ركبه الصّدأ؛ قال ثابت قطنة(٥) العتكي:

لا خير في طمع يدني إلى طبع

وغفّة من قوام العيش تكفيني(٦)

____________________

(١) حاشية ف (من نسخة): (يدني).

(٢) النهب: الغنيمة تنتهب.

(٣) القرن: الّذي يلقاك ليقاومك.

(٤) في حاشيتي الأصل، ت: (قد قيل إن المحالة يعني بها الآلة التي يستقي عليها، وهي مثل البكرة).

(٥) حاشية ت: (ويقال: قطبة).

(٦) الغفة: البلغة من العيش؛ كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت.

٢٦٦

وقوله: (ولا تهنوا فتخرعوا)؛ فالوهن الضّعف، والخرع والخراعة: اللين، ومنه سميت الشجرة الخروع للينها، وقوله: (إنّ الموصّين بنو سهوان)؛ فالموصون جمع موصّى، وبنو سهوان ضربه مثلا، أي لا تكونوا ممن تقدّم إليهم فسهوا وأعرضوا عن الوصية، وقالوا: إنه يضرب هذا المثل للرجل الموثوق به ذمة؛ ومعناه أن الذين يحتاجون أن يوصّوا بحوائج إخوانهم هم الذين يسهون عنه لقلة عنايتهم؛ وأنت غير غافل ولا ساه عن حاجتي.

وقوله: (فارحبوا)؛ أي أوسعوا، والرّحب السعة، والرّوح: الراحة.

وقوله في الشعر: (ورب غيل)؛ فالغيل الساعد الممتلئ. والمعصم: موضع السّوار من اليد(١) .

***

[أخبار زهير بن جناب وإيراد بعض أشعاره:]

ومن المعمّرين زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن ألحاف بن قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير.

 قال أبو حاتم: خ خ عاش زهير بن جناب مائتي سنة وعشرين سنة، وأوقع مائتي وقعة، وكان سيدا مطاعا شريفا في قومه، ويقال: كانت فيه عشر خصال لم يجتمعن في غيره من أهل زمانه، كان سيد قومه، وشريفهم، وخطيبهم، وشاعرهم، ووافدهم إلى الملوك، وطبيبهم - والطّبّ في ذلك الزمان شرف - وحازى قومه - والحزاة الكهّان - وكان فارس قومه، وله البيت فيهم، والعدد منهم.

وأوصى بنيه فقال: (يابني، قد كبرت سنّي، وبلغت حرسا من دهري، فأحكمتني التجارب، والأمور تجربة واحتيال؛ فاحفظوا عني ما أقول وعوه، إياكم والخور عند المصائب، والتواكل عند النوائب، فإنّ ذلك داعية للغمّ، وشماتة للعدو، وسوء ظن بالرّب.

____________________

(١) وانظر ترجمة دويد وأشعاره في (طبقات الشعراء ٢٧ - ٢٨، والمعمرين ٢٠ - ٢١، والمختلف والمؤتلف من الشعراء ١١٤ - ١١٥، والاشتقاق ٣٢١، والشعر والشعراء لابن قتيبة ٥١، والقاموس - دود).

٢٦٧

وإياكم أن تكونوا بالأحداث مغترين، ولها آمنين، ومنها ساخرين، فإنه ما سخر قوم قطّ إلاّ ابتلوا، ولكن توقّعوها، فإنما الإنسان في الدنيا غرض تعاوره الرّماة، فمقصّر دونه ومجاوز لموضعه، وواقع عن يمينه وشماله؛ ثم لا بدّ أنّه مصيبه).

قوله: (حرسا من دهري)، يريد طويلا منه، والحرس من الدّهر: الطويل، قال الراجز:

* في سنبة عشنا بذاك حرسا*

السّنبة: المدة من الدهر. والتواكل: أن يكل القوم أمرهم إلى غيرهم، من قولهم:

رجل وكل، إذا كان لا يكفي نفسه، ويكل أمره إلى غيره؛ ويقال: رجل وكلة تكلة.

والغرض: كلّ ما نصبته للرمي. وتعاوره، أي تداوله.

قال سيدنا الشريف أدام الله علوّه: وقد ضمّن ابن الرومي(١) معنى قول زهير بن جناب: (الإنسان في الدهر غرض تعاوره الرماة، فمقصّر دونه ومجاوز له، وواقع عن يمينه وشماله، ولا بدّ أن يصيبه) أبياتا، فأحسن كلّ الإحسان؛ والأبيات:

كفى بسراج الشّيب في الرّأس هاديا

لمن قد أضلّته(٢) المنايا لياليا

أمن بعد إبداء المشيب مقاتلي

لرامي المنايا تحسبيني ناجيا

غدا الدّهر يرميني فتدنو سهامه

لشخصي(٣) أخلق أن يصبن سواديا

وكان كرامي اللّيل يرمي ولا يرى

فلمّا أضاء الشّيب شخصي رمانيا

أما البيت الأخير، فإنه أبدع فيه وغرّب(٤) ، وما علمت أنّه سبق إلى معناه؛ لأنّه جعل الشباب كالليل الساتر على الإنسان، الحاجز بينه وبين من أراد رميه لظلمته

____________________

(١) حاشية الأصل: (كان ابن الرومي متشيعا، وكان مغلقا في الشعر واللغة؛ بحيث يقول لتلامذته:

اعرضوا شعري، ثعلب، فما أنكر من نحوه فخذوه، وما أنكر من لغته فلا تلفتوا إليه؛ فإني أعلم منه باللغة).

(٢) ش: (إلى من أضلته). حاشية ت (من نسخة): (له من أضلته).

(٣) ت، ونسخة بحاشية الأصل: (لشخصي وأخلق).

(٤) ت: (وأغرب).

٢٦٨

والشيب مبديا لمقاتله، هاديا إلى إصابته لضوئه وبياضه، وهذا في نهاية حسن المعنى.

وأراد بقوله: (رماني) أي أصابني؛ ومثله قول الشاعر:

فلمّا رمى شخصي رميت سواده

ولا بدّ أن يرمي سواد الّذي يرمي

وكان زهير بن جناب على عهد كليب وائل، ولم يكن في العرب أنطق من زهير ولا أوجه عند الملوك، وكان لسداد رأيه يسمى كاهنا، ولم تجمع قضاعة إلاّ عليه وعلى رزاح ابن ربيعة.

وسمع زهير بعض نسائه تتكلّم بما لا ينبغي لمرأة تتكلم(١) به عند زوجها، فنهاها فقالت له: اسكت عني وإلاّ ضربتك بهذا العمود، فو الله ما كنت أراك تسمع شيئا ولا تعقله، فقال عند ذلك:

ألا لقوم لا أرى النّجم طالعا

ولا الشّمس إلاّ حاجتي بيميني

معزّبتي عند القفا بعمودها

يكون نكيري أن أقول ذريني

أمينا على سرّ النّساء وربّما

أكون على الأسرار غير أمين

فللموت خير من حداج(٢) موطّأ

مع الظّعن لا يأتي المحلّ لحيني

وهو القائل:

أبنيّ إن أهلك فقد

أورثتكم مجدا بنيّة

وتركتكم أرباب سا

دات زنادكم وريّه

من كلّ ما نال الفتى

قد نلته إلاّ التّحيّة

ولقد رحلت البازل ال

كوماء ليس لها وليّه

وخطبت خطبة حازم

غير الضّعيف(٣) ولا العييّة

____________________

(١) ت: (أن تتكلمه).

(٢) في حاشيتي الأصل، ت: (الحدج: مركب من مراكب النساء؛ كالمحفة؛ وجمعه أحداج وحدوج؛ والحداجة لغة فيه؛ عن يعقوب، والجمع الحدائج).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (لا بالضعيف).

٢٦٩

فالموت خير للفتى

فليهلكن وبه بقيّه

من أن يرى الشّيخ البجا

ل وقد يهادي بالعشيّه

وهو القائل:

ليت شعري والدهر ذو حدثان

أي حين منيّتي تلقاني!

أسبات على الفراش خفات

أم بكفّي مفجّع حرّان(١) !

وقال حين مضت له مائتا سنة من عمره:

لقد عمّرت حتى ما أبالي

أحتفي في صباحي أم مسائي!

وحقّ لمن أتت مائتان عاما

عليه أن يملّ من الثّواء

قوله: (معزيتي) يعني امرأته، يقال: معزّبة الرجل وطلّته وحنّته؛ كل ذلك امرأته.

وقوله: (أمينا على سرّ النساء)، السرّ: خلاف العلانية، والسرّ أيضا: النكاح، قال الحطيئة:

ويحرم سرّ جارهم عليهم

ويأكل جارهم أنف القصاع(٢)

وقال امرؤ القيس:

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني

كبرت وألاّ يحسن السّرّ أمثالي(٣)

____________________

(١) حاشية الأصل: (السبات، أصله النوم، ويريد به الموت، وقد قيل: النوم موت خفيف، والموت نوم ثقيل؛ يقول: ليت شعري: ألموت حتف أنفي على فراشي، أم يقتلني متأثر عطشان إلى دمي!).

(٢) ديوانه: ٩٣؛ وفي حاشية الأصل: (أنف القصاع أول ما يعرف من القدر فيكون أدسم)، وفي شرح الديوان: (يقول: يؤثرون جارهم بالطعام على أنفسهم، فيأكل صفوة طعامهم قبلهم، وأنف كل شيء أوله.

(٣) ديوانه: ٥٣، وقد ضبط قوله: (لا يحسن)، بالضمة والفتحة معا، في الأصل، ت، وفي حاشيتيهما: (الرفع على إضمار الهاء، والنصب على اللفظ)، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (وألا يشهد).

٢٧٠

وكلاء زهير يحتمل الوجهين جميعا، لأنه إذا كبر وهرم لم تهيّبه النساء أن(١) يتحدّثن بحضرته بأسرارهن(١) ، تهاونا به، أو تعويلا على ثقل سمعه، وكذلك هرمه وكبره يوجبان كونه أمينا على نكاح النساء لعجزه عنه.

وقوله: (حداج موطّأ)، الحداج(٢) : مركب من مراكب النساء، والجمع أحداج وحدوج.

والظعن والأظعان: الهوادج، والظعينة المرأة في الهودج؛ ولا تسمّى ظعينة حتى تكون في هودج، والجمع ظعائن؛ وإنما خبّر عن هرمه، وأن موته خير من كونه مع الظّعن في جملة النساء.

وقوله: (زنادكم وريّه)؛ الزّناد: جمع زند وزندة، وهما عودان يقدح بهما النار، وفي أحدهما فروض، وهي ثقب؛ فالتي فيها الفروض هي الأنثى، والّذي يقدح بطرفه هو الذّكر، ويسمى الزّند الأب، والزّندة الأم. وكنّى (بزنادكم وريّه) عن بلوغهم مأربهم؛ تقول العرب: وريت بك زنادي؛ أي نلت بك ما أحب من النّجح والنجاة، ويقال للرجل الكريم: وارى الزّناد.

فأما التحية، فهي الملك، فكأنه قال: من كلّ ما نال الفتى قد نلته إلا الملك؛ وقيل التحية هاهنا: الخلود والبقاء.

والبازل: النّاقة التي بلغت تسع سنين، فهي أشدّ ما تكون، ولفظ البازل في الناقة والجمل سواء.

والكوماء: العظيمة السّنام. والوليّة: برذعة تطرح على ظهر البعير تلي جلده.

والبجال: الّذي يبجّله قومه ويعظّمونه. وقوله: (يهادي بالعشية)، أي يماشيه الرجال فيسندونه لضعفه. والتهادي: المشي الضعيف.

____________________

(١ - ١) ت: (تتحدث بحضرته بأسرارها).

(٢) في حاشيتي الأصل، ت: (القياس حدج [بضمتين] في جمع حداج؛ إلا أن يكون نادرا؛ كظروف في جمع ظريف).

٢٧١

وقوله: (أسبات)، فالسّبات: سكون الحركة، ورجل مسبوت، والخفات: الضعف أيضا، يقال: خفت(١) الرجل إذا أصابه ضعف من مرض أو جوع.

والمفجّع: الّذي فجع بولد له أو قرابة. والحرّان: العطشان الملتهب(٢) ، وهو هاهنا المحزون على قتلاه.

ومما يروى لزهير بن جناب:

إذا ما شئت أن تسلى حبيبا

فأكثر دونه عدد اللّيالي

فما سلّى حبيبك مثل نأي

وما أبلى جديدك كابتذال(٣)

____________________

(١) ش: (خفت)؛ بالبناء للمجهول.

(٢) ش: (المحترق).

(٣) وانظر ترجمة زهير بن جناب وأشعاره وأخباره في (أخبار المعمرين ٢٤ - ٢٩، والمؤتلف والمختلف من أسماء الشعراء ١٣٠، وطبقات الشعراء: ٣٠، والأغاني ٢١: ٦٣ - ٦٨، والشعر والشعراء ٣٣٩ - ٣٤٢، وتاريخ ابن الاثير ١: ٢٩٩ - ٣٠١).

٢٧٢

[١٧]

مجلس آخر [المجلس السابع عشر:]

[أخبار ذي الإصبع العدواني وحديثه مع بناته الأربع:]

ومن المعمّرين ذو الإصبع العدواني، واسمه حرثان بن محرّث بن الحارث بن ربيعة ابن وهب بن ثعلبة بن ظرب بن عمرو بن عياذ(١) بن يشكر بن عدوان. وهو الحارث بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر(٢) .

وإنما سمي الحارث عدوان، لأنه عدا على أخيه؛ فهمّ(٣) بقتله، وقيل: بل فقأ عينه، وقيل: إن اسم ذو الإصبع محرّث بن حرثان، وقيل: حرثان بن حويرث، وقيل: حرثان ابن حارثة، ويكنّى أبا عدوان.

وسبب لقبه بذي الإصبع أنّ حية نهشته على إصبعه فشلّت، فسمى بذلك. ويقال:

إنه عاش مائة وسبعين سنة. وقال أبو حاتم: إنه عاش ثلاثمائة سنة.

وهو أحد حكّام العرب في الجاهلية. وذكر الجاحظ أنه كان أثرم(٤) وروي عنه:

لا يبعدن عهد الشباب ولا

لذّاته ونباته النضر(٥)

لولا أولئك ما حفلت متى

عوليت في حرج(٦) إلى قبري

____________________

(١) ش: (عباد بن يشكر).

(٢) حاشية الأصل: (قال ش: هو قيس عيلان؛ وليس بقيس بن عيلان، وهو لقب للناس بن مضر، والياس أخو إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وقيل: عيلان اسم فرسه فنسب إليه، وقيل: بل عيلان لقب مضر بن نزار، لأنه يقال قيس بن عيلان؛ قال زفر بن الحارث:

ألا إنّما قيس بن عيلان بقّة

إذا وجدت ريح العصير تغنّت

 (٣) ش: (فهم فقتله).

(٤) حاشية الأصل: (الأثرم: الّذي سقطت مقاديم أسنانه).

(٥) في حاشية الأصل، ت: (إن جررت النضر بدلا من الهاء في (نباته) تخلصت من الإقواء؛ ولك أن تقول: (النضري) منسوبا كقوله: (والدهر بالإنسان دواري)، ويجوز أن يعطف على الشباب).

(٦) حاشية ت (من نسخة): (حرجي) والحرج: سرير الموتى.

٢٧٣

هزئت أثيلة أن رأت هرمي

وأن انحنى لتقادم ظهري

وكان(١) لذي الإصبع بنات أربع، فعرض عليهنّ أن يزوّجهنّ فأبين وقلن: خدمتك وقربك أحبّ إلينا. ثم أشرف عليهنّ يوما من حيث لا يرينه، فقلن: لتقل كلّ واحدة منّا ما في نفسها، فقالت الكبرى:

ألا هل أراها مرّة وضجيعها

أشمّ كنصل السّيف عين مهنّد(٢)

عليم بأدواء النّساء وأصله

إذا ما انتمى من سرّ أهلي ومحتدي(٣)

ويروى (من أهل سرّي، ومن أصل سرّي ومحتدي).

فقلن لها: أنت تريدين ذا قرابة قد عرفته. ثم قالت الثانية:

ألا ليت زوجي من أناس أولي عدى(٤)

حديث الشّباب طيّب الثّوب(٥) والعطر

ويروى: (أولي غنى).

لصوق بأكباد النّساء كأنّه

خليفة جان لا ينام على وتر(٦)

ويروى: (لا ينام على هجري).

فقلن لها: أنت تريدين فتى ليس من أهلك. ثم قالت الثالثة:

____________________

(١) الخبر في الأغاني ٣: ٩٤ - ٩٦ (طبع دار الكتب المصرية)، ومع شرحه في الكامل - بشرح المرصفي ٥: ٩٤ - ١١١، مع اختلاف في الرواية ونسبة الأبيات

(٢) حاشية ت (من نسخة):

ألا هل أراها ليلة وضجيعها

أغرّ كنصل السّيف غير المهنّد

ورواية الأغاني:

ألا هل أراها ليلة وضجيعها

أشمّ كنصل السّيف غير مبلّد

(٣) رواية الأغاني: (طبيب بأدواء النساء)، ورواية الكامل: (بأدواء النساء كانه).

(٤) حاشية ت (من نسخة): (ذوي غنى)، وهي رواية الأغاني والكامل.

(٥) رواية الكامل: (طيب النشر)، ورواية الأغاني: (طيب الريح).

(٦) حاشية ت (من نسخة): (خليفة جان).

٢٧٤

ألا ليته يكسى الجمال نديّه(١)

له جفنة تشقى بها المعز(٢) والجزر

له حكمات الدّهر من غير كبرة

تشين؛ فلا فان ولا ضرع غمر

فقلن لها: أنت تريدين سيدا شريفا.

وقلن للرابعة: قولي، فقالت: لا أقول شيئا، فقلن لها: ياعدوة الله، علمت ما في أنفسنا ولا تعلميننا ما في نفسك! فقالت: (زوج من عود خير من قعود)؛ فمضت مثلا.

فزوجهنّ أربعهن، وتركهن حولا، ثم أتى الكبرى فقال: يابنيّة، كيف ترين زوجك؟

قالت: خير زوج، يكرم الحليلة، ويعطي الوسيلة. قال: فما مالكم؟ قالت: خير مال، الإبل نشرب ألبانها جزعا - ويروى: (جرعا)، بالراء غير المعجمة - ونأكل لحمانها مزعا، وتحملنا وضعيفنا(٣) معا؛ فقال: يابنيّة، زوج كريم، ومال عميم.

ثم أتى الثانية فقال: يابنيّة، كيف زوجك؟ قالت: خير زوج؛ يكرم أهله، وينسى فضله، قال: وما مالكم؟ قالت: البقر تألف الفناء، وتملأ الإناء، وتودك(٤) السقاء، ونساء مع النساء(٥) ، فقال لها: حظيت وبظيت(٦) .

ثم أتى الثالثة فقال: يابنية، كيف زوجك؟ قالت: لا سمح بذر(٧) ، ولا بخيل حكر(٨)

____________________

(١) رواية الأغاني:

* ألا ليته يملأ الجفان لضيفه*

ورواية الكامل:

* ألا ليته يعطى الجمال بديئة*

(٢) في الأغاني: (النيب).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (وضعفتنا).

(٤) حاشية ت (من نسخة): (تودك)، بتشديد الدال مكسورة؛ وكذا ضبطت بالقلم في الكامل.

(٥) ش: (مع نساء)، وهي رواية الأغاني والكامل.

(٦) حاشية ت (من نسخة): (رضيت).

(٧) بذر: يبسط ماله بالبذر؛ وهو وصف للمبالغة.

(٨) حكر: هو الّذي لا يزال يحبس سلعته حتى يبيع بالكثير من شدة حكره.

٢٧٥

قال: فما مالكم؟ قلت: المعزى، قال: وما هي؟ قالت: لو كنّا نولّدها فطما، ونسلخها أدما - ويروى: (أدما) بالفتح - لم نبغ بها نعما. فقال لها: جذوة(١) مغنية - ويروى:

جدوى(٢) مغنية.

ثم أتى الصغرى فقال: كيف زوجك؟ قالت: شرّ زوج؛ يكرم نفسه، ويهين عرسه؛ قال: فما مالكم؟ قالت: شرّ مال، قال: وما هو؟ قالت: الضأن، جوف لا يشبعن، وهيم لا ينقعن، وصمّ لا يسمعن، وأمر مغويتهن يتبعن. فقال أبوها: (أشبه امرؤ(٣) بعض بزّه)، فمضت مثلا.

أمّا قول إحدى بناته في الشعر: (أشمّ)، فالشمم هو ارتفاع أرنبة الأنف وورودها؛ يقال: رجل أشمّ،، وامرأة شماء، وقوم شمّ، قال حسان بن ثابت:

بيض الوجوه كريمة أحسابهم

شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل(٤)

والشّمم: الارتفاع في كلّ شيء؛ فيحتمل أن يكون حسّان أراد بشمّ الأنوف ما ذكرناه من ورود الأرنبة؛ لأن ذلك عندهم دليل العتق والنجابة. ويجوز أن يريد بذلك الكناية عن نزاهتهم وتباعدهم عن دنايا الأمور ورذائلها؛ وخصّ الأنوف بذلك؛ لأن الحميّة والغضب والأنف(٥) فيها؛ ولم يرد طول أنفهم؛ وهذا أشبه بأن يكون مراده؛ لأنه قال: (بيض الوجوه) ولم يرد بياض اللون في الحقيقة، وإنما كنى بذلك عن نقاء أعراضهم، وجميل أخلاقهم وأفعالهم؛ كما يقول القائل: جاءني فلان بوجه أبيض، وقد بيّض فلان وجهه بكذا وكذا، وإنما يعني ما ذكرناه. وقول المرأة: (أشمّ كنصل السيف) يحتمل الوجهين أيضا. وقول حسان (من الطراز الأول)، أي أفعالهم أفعال آبائهم وسلفهم، وأنّهم لم يحدثوا أخلاقا مذمومة لا تشبه نجارهم وأصولهم. وقولها: (عين مهنّد)؛ أي هو المهنّد بعينه، كما يقال: هذا هو بعينه، وعين

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (حذوة).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (حذوى).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (أشبه امرأ بعض بزه)، والبز في الأصل: مناع البيت من الثياب خاصة؛ كنى به عن الضأن؛ وهي متاع؛ والمثل يضرب للمتشابهين أخلاقا.

(٤) ديوانه: ٨٠.

(٥) حاشية ت (من نسخة): (والأنعة).

٢٧٦

الشيء نفسه. وعلى الرواية الأخرى: (غير مهنّد) أي ليس هو السيف المنسوب إلى الهند في الحقيقة، وإنما هو يشبهه في مضائه. وقولها: (من سرّ أهلي)، أي من أكرمهم وأخلصهم، يقال: فلان في سرّ قومه، أي في صميمهم وشرفهم، وسرّ الوادي: أطيبه ترابا.

والمحتد: الأصل.

وقول الثانية: (أولي عدى)  فإنّما معناه أن يكون لهم أعداء، لأنّ من لا عدوّ له هو الفسل الرذل الّذي لا خير عنده، والكريم الفاضل من الناس هو المحسّد المعادي(١) .

وقولها: (لصوق بأكباد النساء) تعني في المضاجعة، ويحتمل أن تكون أرادت في المحبة والمودّة، وكنّت بذلك عن شدّة محبتهن له، وميلهن إليه، وهو أشبه. وقولها: (كأنه خليفة جان) أي كأنه حيّة للصوقه، والجان: جنس من الحيات(٢) ، فخفّفت لضرورة الشعر.

وقول الثالثة: (يكسي الجمال نديّه) فالندي هو المجلس. وقولها: (له حكمات الدهر) تقول: قد أحكمته التجارب، وجعلته حكيما. فأما الضّرع فهو الضعيف. والغمر:

الّذي لم يجرب الأمور.

وقول الكبرى: (ويكرم الحليلة، ويعطي الوسيلة)، فالحليلة هي امرأة الرجل، والوسيلة الحاجة. وقولها: (نشرب ألبانها جزعا) فالجزع جمع جزعة، وهو الماء القليل يبقي في الإناء، وقولها: (مزعا)، المزعة: البقية من دسم، ويقال: ماله جزعة ولا مزعة، هكذا ذكر ابن دريد، الضمّ في جزعة، ووجدت غيره يكسرها فيقول جزعة، وإذا كسرت فينبغي

____________________

(١) حاشية ت: (الأولى أن يكون العدى هاهنا الغرباء؛ لما تقدم من: استدلالهن؛ وهو قولهن (فتى ليس من أهلك).

(٢) في حاشيتي الأصل، ت: لأن يكون من الجناية أحسن وأقرب إلى الصواب، ويكون من باب قوله:

* إذا لم أجن كنت مجنّ جان*

٢٧٧

أن يكون (نشرب ألبانها جزعا) وتكسر المزعة أيضا ليزدوج الكلام، فتقول: (ونأكل لحمانها مزعا)، قال: المزعة، بالكسر: هي القطعة من الشحم، والمزعة بالكسر أيضا من الرّيش والقطن وغير ذلك، كالمزقة من الخرق، والتّمزيع: التقطيع والتشقيق؛ يقال إنه ليكاد يتمزّع من الغيظ، ومزع الظّبي في عدوه يمزع مزعا؛ إذا أسرع، وقوله: (مال عميم):، أي كثير.

وقول الثانية: (تودك السّقاء)، من الودك الّذي هو(١) الدّسم.

وقول الثالثة: (نولّدها فطما)، الفطم: جمع فطيم، وهو المقطوع من الرّضاع. وقولها: (نسلخها أدما)، فالأدم: جمع إدام، وهو الّذي يؤكل؛ تقول: لو أنا فطمناها عند الولادة وسلخناها للأدم من الحاجة لم نبغ بها نعما. وعلى الرواية الأخرى: أدما، من الأديم.

وقوله: (جذوة مغنية)، فالجذوة: القطعة.

وقول الصغرى: (جوف لا يشبعن)، الجوف: جمع جوفاء، وهي العظيمة الجوف.

والهيم: العطاش، ولا ينقعن؛ أي لا يروين، ومعنى قولها: (وأمر مغويتهنّ يتبعن)، لأنّ القطيع من الضأن يمر على قنطرة فتزلّ واحدة فتقع في الماء، فيقعن كلّهنّ اتباعا لها، والضأن يوصف بالبلادة.

[خبر عبد الملك بن مروان مع سعيد بن خالد الجدلي:]

أخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن يونس. قال ابن دريد وأخبرنا به العكلي عن أبي خالد(٢) عن الهيثم بن عدي عن مسعر بن كدام قال حدثني سعيد بن خالد الجدلي قال: لما(٣) قدم عبد الملك ابن مروان الكوفة بعد قتل مصعب، دعا الناس على فرائضهم(٤) ، فأتيناه فقال:

____________________

(١) حاشية الأصل: (بخط ابن الشجري على الحاشية: وجدت في بعض الروايات: (تودل السقاء) باللام مأخوذ من الأدل؛ وهو اللبن الحامض).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (عن أبي خالد).

(٣) الخبر في الأغاني ٣ - ٩١ - ٩٢؛ (طبع دار الكتب المصرية).

(٤) ت: (إلى فرائضهم)، والفرائض: العطايا.

٢٧٨

 (١) من القوم؟ فقلنا: جديلة(١) ، فقال: جديلة عدوان؟ قلنا: نعم، فتمثّل عبد الملك:

عذير الحي من عدوا

ن كانوا حيّة الأرض(٢)

بغى بعضهم بعضا

فلم يرعوا على بعض

ومنهم كانت السادا

ت والموفون بالقرض

ومنهم حكم يقضي

فلا ينقض ما يقضي

ومنهم من يجيز النا

س في السّنّة والفرض(٣)

ثم أقبل على رجل كنّا قدّمناه أمامنا جسيم وسيم، فقال: أيّكم يقول هذا الشعر؟

فقال: لا أدري، فقلت أنا من خلفه: يقوله ذو الإصبع، فتركني وأقبل على ذاك الجسيم فقال: وما كان اسم ذي الإصبع؟ فقال: لا أدري، فقلت أنا من خلفه: حرثان، فأقبل عليه وتركني، فقال: لم سمّي ذا الإصبع؟ فقال: لا أدري، فقلت: أنا من خلفه نهشته حيّة في إصبعه، فأقبل عليه وتركني فقال: من أيّكم كان؟ فقال: لا أدري، فقلت أنا من خلفه من بني ناج، فأقبل على الجسيم فقال: كم عطاؤك؟ قال: سبعمائة(٤) ، ثم أقبل عليّ فقال:

كم عطاؤك؟ قلت: أربعمائة(٥) فقال: ياابن الزّعيزعة، حطّ من عطاء هذا ثلاثمائة، وزدها في عطاء هذا، فرحت وعطائي سبعمائة وعطاؤه أربعمائة.

وفي رواية أخرى أنه قال له: من أيّكم كان؟ فقال: لا أدري، فقلت أنا من خلفه:

من بني ناج، الّذي يقول فيهم الشاعر:

وأما بنو ناج فلا تذكرنّهم ولا تتبعن عينيك من كان هالكا(٦) إذا قلت معروفا لتصلح بينهم(٦) يقول وهيب لا أسالم(٧) ذلكا

____________________

(١) ت: (ممن القوم؟ فقلنا: من جديلة).

(٢) حاشية الأصل: (عذير: مصدر يقوم مقام الاستفهام؛ والتقدير: من يعذرهم؟).

(٣) قال أبو الفرج: (قوله (ومنهم من يجيز الناس)؛ فإن إجازة الحج كانت لخزاعة، فأخذتها منهم عدوان)، وانظر القصيدة في الأغاني مع اختلاف الرواية وعدد الأبيات.

(٤) حاشية ت (من نسخة): (سبعمائة درهم).

(٥) حاشية ت (من نسخة) (أربعمائة درهم).

(٦ - ٦) حاشية ت: (إذا قلت معروفا لأصلح بينهم)، وهي توافق رواية الأغاني.

(٧) م: (لا أسلم).

٢٧٩

ويروى (لا أحاول ذلكا).

فأضحى كظهر العود(١) جبّ سنامه

تحوم عليه الطير أحدب باركا

[إيراد شعر لذي الإصبع وشرج ما ورد فى ذلك من الغريب:]

وقد رويت هذه الأبيات لذي الإصبع أيضا:

ومن أبيات ذي الإصبع السائرة قوله:

أكاشر ذا الضّغن المبيّن منهم

وأضحك حتّى يبدو النّاب أجمع(٢)

وأهدنه بالقول هدنا ولو يرى

سريرة ما أخفي لبات يفزّع

ومعنى (أهدنه) أسكّنه.

ومن قوله أيضا:

إذا ما الدّهر جرّ على أناس

شراشره أناخ بآخرينا(٣)

فقل للشّامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشّامتون كما لقينا

ومعنى (الشراشر) هاهنا الثّقل، يقال ألقى عليه شراشره وجراميزه، أي ثقله.

ومن قوله:

ذهب الّذين إذا رأوني مقبلا

هشّوا إلي ورحّبوا بالمقبل

وهم الّذين إذا حملت حمالة(٤)

ولقيتهم فكأنّني لم أحمل

ومن قوله وهي مشهورة(٥) :

____________________

(١) العود هنا: المسن من الإبل، ورواية للأغاني: (الفحل). ورواية أخرى: (فأضحوا كظهر العود)، وبعده:

فإن تك عدوان بن عمرو تفرّقت

فقد غنيت دهرا ملوكا هنالكا

(٢) البيتان في حماسة البحتري ١٤٠، ونسبهما إلى معن بن أوس.

(٣) نسب البيتان في الشعر والشعراء: ٤٥٠، والحماسة ٣: ١٩١، وعيون الأخبار ٣: ١١٤، للفرزدق؛ وفي حماسة البحتري: ١٤٩ نسبا إلى مالك بن عمرو الأسدي.

(٤) الحمالة: الدية.

(٥) القصيدة في المفضليات - بشرح ابن الأنباري ٣٢١ - ٣٢٧، والأمالي ١: ٢٥٤ - ٢٥٧، والخزانة ٣: ٢٢٦ - ٢٢٨، وشرح شواهد المغني: ١٤٧ - ١٤٨، وأبيات منها في الشعر والشعراء ٦٨٩؛ مع اختلاف في الرواية وعدد الأبيات.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

إلى القبض، بل يزول ملك الواقف بمجرد القول. (أبو زهرة كتاب الوقف).

مَن يملك العين الموقوفة؟

ليس من شك أنّ العين قبل الوقف كانت على ملك الواقف، إذ لا وقف إلاّ في ملك، وبعد تمام الوقف هل تبقى العين على ملكه كما كانت من قبل، غاية الأمر أنّها تكون مسلوبة المنفعة بالقياس إليه، أو أنّها تنتقل إلى الموقوف إليهم، أو تصبح بلا مالك أصلاً، وهو المعبّر عنه بفك الملك؟

للفقهاء في ذلك أقوال: فقد ذهب المالكية إلى أنّ العين الموقوفة باقية على ملك الواقف، ولكنّه ممنوع من التصرف فيها.

وقال الحنفية: ليس للعين الموقوفة مالكاً بالمرة، وهو أصحّ الأقوال عند الشافعية(١) . (فتح القدير ج٥ باب الوقف، وأبو زهرة كتاب الوقف).

وقال الحنابلة: تنتقل العين إلى ملك الموقوف إليهم. أمّا الإمامية فقد نسب إليهم الشيخ أبو زهرة - في صفحة ٤٩ طبعة ١٩٥٩ - القول ببقاء العين على ملك الواقف، ثمّ قال في صفحة ١٠٦: إنّ هذا القول هو الراجح عند الإمامية.

ولم يذكر أبو زهرة مصدراً لهذه النسبة، ولا أدري من أين استخرجها؟

____________________

(١) وردّ أبو زهرة هذا القول في ص٥٠ بأنّه لا معنى لملكية الله هنا؛ لأنّه عالى يملك كل شيء. ويلاحظ بأنّه ليس المراد من ملك الله للوقف أنّه يصير بمنزلة المباحات الأصلية، بل يكون ملكه له على نحو ملكه خمس الغنيمة الي جاءت في قوله:( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ) .

٥٨١

وقد جاء في كتاب الجواهر - وهو أهم كتاب وأوثق مصدر لفقه الإمامية - ما نصه بالحرف الواحد: (الوقف إذا تم زال ملك الواقف عند الأكثر، بل عن المشهور، بل في محكي الغنية والسرائر الإجماع عليه).

وبعد أن اتفق الإمامية كلهم أو جلهم على زوال الملك عن الواقف، اختلفوا في أنّ العين هل يرتفع عنها وصف الملكية كلّية، بحيث لا تكون على ملك الواقف ولا الموقوف إليهم، وهو المعبّر عنه في لسانهم بفك الملك، أو أنّها تنتقل من الواقف إلى الموقوف إليهم؟

ذهب جماعة منهم إلى التفصيل بين الوقف العام - كالمساجد والمدارس والمصاح وما إليها - وبين الوقف الخاص، كالوقف على الذرية، فما كان من النوع الأوّل فهو فك ملك، وما كان من النوع الثاني ينتقل من ملك الواقف إلى ملك الموقوف إليه.

وتظهر فائدة الخلاف في ملكية العين الموقوفة - تظهر - في جواز البيع وعدمه، وفيما لو وقف العين إلى أمد، أو انقرضت الجهة الموقوف إليها، فبناء على قول المالكية من بقاء العين على ملك الواقف يجوز البيع، وتعود العين إلى الواقف بعد انتهاء الأمد، أو انقراض الجهة. وبناء على انتفاء الملكية بالمرة عن العين لا يجوز البيع؛ لأنّه لا بيع إلاّ في ملك، ويبطل الوقف المحدود. وبناء على انتقالها إلى ملك الموقوف إليه لا تعود إلى الواقف. وتُعرَف النتيجة بجلاءٍ من المسائل التي سنعرضها، ولذا ينبغي أن نكون على معرفة من هذا الخلاف؛ لأنّه يلقي ضوءاً على كثير من مسائل الوقف.

أركان الوقف:

أركان الوقف أربعة: الصيغة، والواقف، والعين الموقوفة، والموقوف عليه.

٥٨٢

الصيغة:

اتفق الكل على أنّ الوقف يتحقق بلفظ (وقفتُ)؛ لأنّه يدلّ على الوقف صراحة وبدون قرينة، لغة وشرعاً وعرفاً، واختلفوا في تحققه بلفظ (حبستُ، وسبلتُ، وأبّدتُ) وما إلى ذاك، وأطالوا الكلام بدون طائل.

والحقّ أنّه يقع ويتم بكل لفظ يدلّ عليه، حتى باللغة الأجنبية؛ لأنّ الألفاظ - هنا - وسيلة للتعبير، وليست غاية في نفسها(١) .

المعاطاة:

هل يتم الوقف بالفعل، كما لو بنى مسجداً وأذّن للصلاة فيه، أو أذِن بالدفن في قطعة أرضٍ بنية وقفها مقبرة، دون أن يقول: وقفتُ وحبستُ، وما أشبه، أو لا بدّ من النطق، ولا يكفي مجرد الفعل؟

قال الحنفية والمالكية والحنابلة: يكفي مجرد الفعل، وتصير العين وقفاً به. (المغني لابن قدامة ج٥ باب الوقف، وشرح الزرقاني على مختصر أبي ضياء ج٧ باب الوقف).

وعلى هذا القول جماعة من كبار الإمامية، منهم السيد اليزدي في

____________________

(١) أمّا القائلون: إنّ الوقف لا يقع إلاّ بلفظ معيّن، فيتلخص دليلهم بأنّ الأصل بقاء الملك لمالكه، أي أنّ العين قبل التلفظ كانت على ملك المالك، وبعده نشك في انتقالها عنه، فنستصحب بقاء الملك. ويلاحظ بأنّ هذا يتم لو شككنا في أنّ المالك هل أراد الوقف أم لا؟ أو علمنا بأنّه أراد قطعاً، ولكن شككنا في أنّه هل أنشأه وأوجد سببه؟ أمّا إذا قطعنا بأنّه أراد الوقف، وأيضاً قطعنا بأنّه أتى بما يدلّ عليه فلا يبقى مجال للتشكيك والحال هذه، وإن حصل التشكيك فهو وهم لا أثر له، اللهم إلاّ إذا رجع الشك إلى سببية الصيغة وتأثيرها من الوجهة الشرعية.

٥٨٣

ملحقات العروة، والسيد أبو الحسن الأصفهاني في وسيلة النجاة، والسيد الحكيم في منهاج الصالحين، وحُكِي عن الشهيد الأوّل وابن إدريس.

وقال الشافعية: لا يتم الوقف إلاّ بالصيغة اللفظية. (المغني ج٥).

القبول:

هل يحتاج الوقف إلى قبول، أو يُكتفى بمجرد الإيجاب؟ وبكلمة ثانية:

هل يتحقق إنشاء الوقف بإرادة واحدة، أو لا بدّ من إرادتين متوافقتين؟

وقد فصّل الفقهاء بين الوقف على جهة عامة - كالفقراء والمسجد والمقبرة - حيث لا يقصد الواقف شخصاً معيناً، وبين الوقف على معيّن، كأولاده وما أشبه.

واتفق الأربعة على أنّ غير المعيّن لا يحتاج إلى قبول، أمّا المعيّن فقال المالكية وأكثر الحنابلة: هو كغيره لا يفتقر إلى القبول.

أمّا الشافعية فالأرجح عندهم اشتراط القبول. (كفاية الأخيار للحصني الشافعي ج١ باب الوقف، وكتاب الوقف لأبي زهرة ص٦٥ طبعة ١٩٥٩).

واختلف فقهاء الإمامية فيما بينهم على ثلاثة أقوال: اشتراط القبول مطلقاً في المعيّن وغير المعيّن، وعدم اعتباره كذلك، والتفصيل بين غير المعيّن - أي الجهة العامة - فلا يحتاج إلى قبول، وبين المعيّن - أي الجهة الخاصة - فيحتاج إليه، تماماً كالقول الراجح للشافعية، وهذا هو الحق(١) .

____________________

(١) ذهب إلى هذا التفصيل جماعة من كبار الإمامية كصاحب الشرائع، والشهيدين، والعلاّمة الحلّي وغيرهم، وعليه يكون الوقف عقداً يحتاج إلى إيجاب وقبول في المعيّن، ولا مانع شرعاً ولا عقلاً في أن يكون الوقف عقداً بلحاظ، وإيقاعاً بلحاظ، وإن منعه صاحب الجواهر.

٥٨٤

التنجيز:

قال المالكية: يجوز أن يكون الوقف معلقاً على شرط، فإذا قال المالك: إذا جاء الوقت الفلاني فداري وقفٌ، صحّ وتم الوقف. (الزرقاني على مختصر أبي ضياء ج٧ باب الوقف).

وقال الحنفية والشافعية: لا يصحّ التعليق، بل يجب أن يكون الوقف مطلقاً، فإذا كان معلقاً كالمثال المذكور يبقى الدار على ملك صاحبه. (الإقناع للشربيني ج٢ باب الوقف، وفتح القدير ج٥ كتاب الوقف).

ولا أدري كيف أجاز هذان المذهبان التعليق في الطلاق ومنعاه في غيره، مع العلم بأنّ الاحتياط والتشديد في الفروج ألزم منه في غيرها.

وقال الحنابلة: يصحّ التعليق على الموت فقط، كما لو قال: هذا وقف بعد موتي، ولا يصحّ فيما عدا ذلك. (غاية المنتهى ج٢ باب الوقف).

وذهب أكثر الإمامية إلى وجوب التنجيز، وعدم جواز التعليق. (التذكرة للحلّي ج٢، والجواهر ج٤، وملحقات العروة باب الوقف)(١) ، وعليه إذا قال: إذا متُّ فهذا وقف، لم يصر وقفاً بعد الموت. أمّا إذا قال: إذا متُّ فاجعلوا هذا وقفاً، يكون وصية بالوقف وعلى الوصي أن ينفذ، ويُنشئ الوقف.

____________________

(١) لا دليل من القرآن ولا من السنّة ولا من العقل على عدم جواز التعليق في العقود والإيقاعات، ومَن أبطل التعليق استند إلى الإجماع، وبديهة أنّ الإجماع إنّما يكون حجة إذا لم نعرف له مستنداً، وإذا عُرف سببه سقط عن الاعتبار، ونُظر إلى نفس السبب والمستند الذي استند إليه المجتمعون، وقد استندوا - هنا - إلى التوهم بأنّ الإنشاء معناه: إنّه موجود بالفعل، ومعنى التعليق على الشرط: إنّ الإنشاء غير موجود، وتكون النتيجة: إنّ الإنشاء متحقق وغير متحقق. ويُردّ هذا أنّ الإنشاء متحقق بالفعل وغير معلق على شيء، وإنّما آثاره هي التي ستحصل في المستقبل على تقدير حصول الشرط، تماماً كالوصية المعلقة على الموت، والنذر المعلق على وجود الشرط.

٥٨٥

الواقف:

اتفقوا على أنّ كمال العقل شرط لإنشاء الوقف، فلا يصحّ وقف المجنون؛ لنفي التكليف عنه، وعدم الأخذ بمقاصده وأقواله وأفعاله.

وأيضاً اتفقوا على أنّ البلوغ شرط، فلا يجوز وقف الصبي مميزاً كان أو غير مميز، ولا يحق لوليه أن يقف عنه، ولا للقاضي أن يتولى ذلك أو يأذن به، وقال بعض فقهاء الإمامية: يصحّ وقف الصبي البالغ عشراً. ولكنّ أكثرهم على المنع.

ولا يصحّ وقف السفيه؛ لأنّه من التصرفات المالية، وهو ممنوع منها(١) ، وقال الحنفية: يصحّ أن يوصي السفيه من ماله بالثلث، على شريطة أن تكون الوصية في وجه البر والإحسان، سواء أكانت بالوقف أو بغيره. (الفقه على المذاهب الأربعة ج٢ باب مبحث الحجر على السفيه).

نية القربة:

ليس من شك أنّ قصد الوقف شرط في تحققه، فإذا تلفّظ به السكران، أو المغمى عليه، أو النائم، أو العابث، يكون لغواً لأصالة بقاء الملك على ما كان.

واختلفوا في نية القربة: هل هي شرط كالعقل والبلوغ، بحيث لو قصد الواقف أمراً دنيوياً لا يتم الوقف، أو أنّه يتم بدونها؟

قال الحنفية: إنّ القربة شرط في الحال أو المآل، أي أنّ الموقوف

____________________

(١) اختلفوا في أنّ الحجر على السفيه: هل يبتدئ من وقت حدوث السفه وإن لم يحكم القاضي بالتحجير، أو من وقف الحكم عليه بذلك؟ وسنعرض له مفصلاً في باب الحجر إن شاء الله.

٥٨٦

يجب أن يُصرف على وجوه البر إمّا حالَ الوقف وإمّا بعده، كما لو وقف على الأغنياء الموجودين، ومن بعدهم على أولادهم الفقراء. (فتح القدير)(١) .

وقال مالك والشافعي: لا يُشترط في الوقف نية القربة. (أبو زهرة كتاب الوقف ص٩٢ وما بعدها).

وقال الحنابلة: يُشترط أن يكون الوقف على بر وقربة، كالمساكين والمساجد والقناطر والأقارب وكتب العلم؛ لأنّه شرع لتحصيل الثواب، فإن لم يكن لم يحصل المقصود الذي شرع من أجله. (منار السبيل لابن ضويان ص٦ طبعة أولى).

وقال صاحب الجواهر وصاحب العروة في ملحقاتها - من الإمامية -: إنّ القربة ليست شرطاً لصحة الوقف ولا لقبضه، بل للأجر والثواب عليه وإذن يتم الوقف بدونها.

مرض الموت:

مرض الموت هو الذي يتصل به، ويكون من شأنه أن يُميت صاحبه حسب المظنون.

واتفق الكل على أنّ هذا المريض إذا وقف شيئاً من أملاكه صحّ، وخرج من الثلث إن اتسع، وإن زاد توقف الزائد على إجازة الورثة.

وبكلمة، إنّه يُشترط في الواقف جميع ما يُشترط في البائع من العقل والبلوغ والرشد والملك، وعدم الحجز عليه لإفلاس أو سفه.

____________________

(١) نطلق لفظ (فتح القدير) على الكتاب المعروف بهذا الاسم، مع العلم بأنّه مجموعة من أربعة كتب أحدها فتح القدير.

٥٨٧

الموقوف:

اتفقوا على أنّ الموقف يُشترط فيه ما يُشترط في الشيء المباع من كونه عيناً معينة مملوكة للواقف، فلا يصحّ وقف الدَّين ولا المجهول - كعقار من ملكي، أو جزء منه - ولا وقف ما لا يملكه المسلم كالخنزير. واتفقوا أيضاً على أنّه لا بدّ من إمكان الانتفاع بالموقوف مع بقاء عينه، أمّا ما لا يصحّ الانتفاع به إلاّ باتلافه - كالمأكول والمشروب - فلا يصحّ وقفه، ومن هذا النوع المنفعة، فمن استأجر داراً أو أرضاً لأمدٍ معيّن فلا يصحّ منه وقف منفعتها، إذ لا يصدق عليها مفهوم الوقف من أنّه تحبيس الأصل وتسبيل العين.

وأيضاً اتفقوا على صحة وقف الأعيان الثابتة كالأرض والدار والبستان.

وأيضاً اتفقوا ما عدا الحنفية على صحة وقف الأعيان المنقولة، كالحيوان والماعون، حيث يمكن الانتفاع بهما مع بقاء العين.

وقال أبو حنيفة لا يصحّ بيع المنقول، أمّا صاحباه أبو يوسف ومحمد: فذهب الأوّل إلى صحة وقف المنقول تبعاً، كما لو وقف ضيعة بمواشيها وآلاتها، وذهب الثاني إلى صحته في خصوص السلاح والكراع، أي الخيل. (فتح القدير ج٥، وشرح الزرقاني ج٧).

وأيضاً اتفقوا على أنّه يصحّ وقف حصة شائعة، كالنصف أو الربع أو الثلث إلاّ في المسجد(١) والمقبرة، لأنّهما لا يقبلان الشركة. (تذكرة العلاّمة، وميزان الشعراني، والوقف لمحمد سلام مدكور).

وجاء في ملحقات العروة في فقه الإمامية: لا يصحّ وقف العين المرهونة، ولا ما لا يمكن تسليمه - كالطير في الهواء والسمك في

____________________

(١) قال السيد كاظم في الملحقات: إذا كان له حصة في دار جاز له أن يقفها مسجداً، ويستأذن المصلّون من الشريك الآخر. ولست أفهم لهذا محصّلاً.

٥٨٨

الماء - وإن كان ملكاً له، ولا وقف الحيوان الضال، ولا العين المغصوبة التي لا يستطيع الواقف ولا الموقوف إليه تخليصها.

أمّا إذا أوقف على غاصبها بالذات فيصحّ؛ لأنّ القبض متحقق بالفعل.

الموقوف عليه:

الموقوف عليه هو الذي يستحق فعلاً ريع الوقف، والانتفاع بالعين الموقوفة، ويُشترط فيه ما يلي:

١ - أن يكون موجوداً حين الوقف، فإذا كان معدوماً - كما لو وقف على مَن سيولد - فلا يصحّ عند الإمامية والشافعية والحنابلة، ويصحّ عند المالكية. فقد جاء في كتاب شرح الزرقاني على أبي ضياء ج٧: (يصحّ الوقف على مَن سيولد، ويقف اللازم إلى أن يولد، فإن آيس من حملها أو مات الحمل بطل الوقف).

ويصحّ الوقف على المعدوم تبعاً للموجود فعلاً - عند الجميع - كمن وقف على أولاده الموجودين، ومَن سيوجد من أولادهم. أمّا الوقف على الحمل الموجود حين الوقف فقد ذهب الشافعية والإمامية والحنابلة إلى أنّه لا يصحّ، إذ ليس للحمل أهلية التملك إلاّ بعد انفصاله حياً، أمّا عزل الميراث له وجواز الوصية فلوجود دليل خاص، هذا إلى أنّ عزل مقدار من الإرث إمّا هو لدفع محذور تفويت الحق، أو إعادة القسمة من جديد، وفي ذلك ما فيه من العسر والحرج.

٢ - أن يكون أهلاً للتملك، فلا يجوز الوقف على حيوان ولا الوصية له، كما يفعل الغربيون، حيث يوصون بشطر من أموالهم للكلاب، بخاصة (السيدات). أمّا الوقف على المساجد والمدارس والمصحّات وما إليها، فهو في الحقيقة وقف على مَن ينتفع بها من الآدميين.

٥٨٩

٣ - أن لا يكون معصية الله تعالى، كالوقف على الدعارة، وأندية القمار، ومجالس الخمر، وقطّاع الطريق. أمّا الوقف على غير المسلمين، كالذمي فيجوز بالاتفاق؛ لقوله تعالى:( لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ) (٨ الممتحنة).

وقال الفقيه الإمامي السيد كاظم في ملحقات العروة باب الوقف: بل يجوز الوقف والبر والإحسان للحربي أيضاً، ترغيباً في الخير.

وقال الشهيد الثاني في اللمعة الدمشقية ج١ باب الوقف ما نصه بالحرف: (يجوز الوقف على أهل الذمة؛ لأنّه ليس بمعصية، وإنّهم عباد الله ومن جملة بني آدم المكرمين ثمّ قال: لا يجوز الوقف على الخوارج ولا الغلاة(١) ؛ لأنّ أولئك كفّروا أمير المؤمنين علياً، وهؤلاء ألّهوه، والخير هو النمط الأوسط، كما قال الإمام: (هلك فيَّ اثنان: مبغض قالٍ، ومحبٌّ غال).

٤ - أن يكون معيّناً غير مجهول، فإذا وقف على رجل أو امرأة بدون تعيين بطل.

وقال المالكية: يصحّ الوقف وإن لم يعيّن الواقف له مصرفاً، فإذا قال: وقفٌ داري هذه، وسكت صحّ، وأُنفق في سبيل البر. (شرح الزرقاني على أبي ضياء).

٥ - قال الإمامية والشافعية والمالكية: لا يصحّ للواقف أن يقف على نفسه، أو يدخلها مع الموقوف عليهم، إذ لا يُعقل أن يملِّك

____________________

(١) لا شيء أصدق في التعبير عن عقيدة أهل المذهب من كتبهم الدينية، بخاصة كتب الفقه والتشريع، والشهيد الثاني من أعظم المراجع عند الشيعة الإمامية، وهذا قوله صريح بأنّ غير المسلمين من أهل الأديان أفضل من الغلاة، وإنّهم عباد الله المكرمون فكيف يُنسب إلى الإمامية الغلو والمغالاة؟

٥٩٠

الإنسان نفسه بنفسه. أجل، إذا وقف على الفقراء، ثمّ افتقر يكون كأحدهم، وكذلك إذا وقف على طلبة العلم وأصبح طالباً.

وقال الحنابلة والحنفية: يصحّ. (المغني، وأبو زهرة، وميزان الشعراني، وملحقات العروة).

الوقف على الصلاة:

ومن عدم جواز الوقف على النفس يتبين بطلان الأوقاف الكثيرة الموجودة في قرى جبل، والتي وقفها أربابها على الصلاة عنهم بعد موتهم، حتى ولو قلنا بجواز النيابة عن الميت في الصلاة المستحبة فضلاً عن الواجبة؛ لأنّها في الحقيقة وقف على النفس.

الاشتباه:

قال صاحب الملحقات: إذا اشتُبه الموقوف عليه بين شخصين أو جهتين فالمرجع القرعة، أو الصلح القهري، ومعنى الصلح القهري: أن يُقسّم الناتج بين الاثنين اللذين هما طرفا الاشتباه.

وإذا جُهِلت جهة الوقف، ولم نعلم هل هي المسجد أو الفقراء أو غيرهما، صُرف الوقف في سبيل البر والخير.

وإذا ترددت العين الموقوفة بين شيئين، كما لو علمنا بوجود الوقف، ولم نعلم أنّه الدار أو الدكان، رجعنا إلى القرعة أو الصلح القهري، أي أخذنا للوقف نصف الدكان ونصف الدار.

٥٩١

شروط الواقف وألفاظه

إرادة الواقف:

إذا كان الوقف عطية وتبرعاً وصدقة يكون الواقف - والحال هذه - معطياً ومتبرعاً ومتصدقاً. وبديهة أنّ للإنسان - العاقل البالغ الراشد الصحيح غير المحجَر عليه في التصرفات المالية - له أن يتبرع من أمواله ما يشاء إلى مَن يشاء بالنحو الذي يراه. وفي الحديث (الناس مسلّطون على أموالهم). وقال الإمام: (للوقوف بحسب ما يقفها أهلها)؛ ولأجل هذا قال الفقهاء: شروط الواقف كنص الشارع، وألفاظه كألفاظه في وجوب اتباعها والعمل بها ومثله الناذر، والحالف، والموصي، والمقر.

وعلى هذا، فإن عُلِم قصد الواقف، وأنّه أراد هذا المعنى دون سواه أُخذ به، حتى ولو خالف فهم العرف، كما لو علمنا أنّه أراد من لفظة: أخي صديقه فلاناً، فنُعطي الوقف للصديق، لا للأخ؛ لأنّ العرف إنّما يكون حجة متبعة باعتباره وسيلة تكشف عن القصد، فإذا عرفنا القصد يسقط العرف عن الاعتبار. أمّا إذا جهلنا القصد كان العرف هو المتبع، وإذا لم يكن للعرف اصطلاح، ولم يُفهم من ألفاظ الواقف

٥٩٢

شيء رجعنا إلى اللغة، تماماً كما هو الشأن في ألفاظ الكتاب والسنّة.

الشرط السائغ:

قلنا: إنّ للواقف الجامع للشروط أن يشترط ما يشاء، ونستثني الآن الحالات التالية:

١ - يلزم الشرط وينفذ إذا اقترن بإنشاء الوقف وحصل معه، أمّا إذا ذكر الشرط بعد تمام الإنشاء فيكون لغواً، إذ لا سلطان للواقف على العين بعد خروجها عن ملكه.

٢ - أن لا يذكر شرطاً ينافي مقتضى العقد وطبيعته، كما لو شرط أن تبقى العين على ملكه، فيورثها ويبيعها ويهبها ويؤجرها ويعيرها إن شاء. ومعنى هذا في حقيقته أنّ الوقف ليس بوقف، وأنّ ما ليس بوقف هو وقف. وإذا جعل هذا الشرط الإنشاء لغواً يكون الوقف بلا إنشاء، والمفروض أنّه لا يتم بدونه. وبكلمة، إنّ حال هذا الواقف أشبه بحال البائع الذي يقول: بعتُكَ هذا على أن لا ينتقل المبيع إليك، ولا ينتقل الثمن إليَّ. ومن أجل هذا أجمع الفقهاء على أنّ كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل ومبطِل.

ولكنّ السنهوري القانوني الشهير قال في مجموعة القوانين المختارة من الفقه الإسلامي: إنّ الحنفية قالوا: يُستثنى من ذلك المسجد، فإنّ هذا الشرط الفاسد لا يفسد وقفيته، أمّا بالنسبة إلى غير المسجد يكون فاسداً ومفسِداً. (الوقف لمدكور).

٣ - أن لا يخالف الشرط حكماً من أحكام الشريعة الإسلامية، كأن يشترط فعل الحرام، أو ترك الواجب. وفي الحديث: (مَن اشترط شرطاً سوى كتاب الله عزّ وجلّ فلا يجوز ذلك له ولا عليه). وقال الإمام: (المسلمون عند شروطهم، إلاّ شرطاً حَرَّم حلالاً أو أحلّ

٥٩٣

حراماً).

وما عدا ذلك من الشروط التي تقترن بالعقد، ولا ينافي طبيعته ولا حكماً من أحكام الكتاب والسنّة، فإنّها جائزة يجب الوفاء بها بالاتفاق، كما لو اشترط أن يبنوا من غلّة الوقف داراً للفقراء، أو يبتدؤوا بأهل العلم، وما إلى ذاك. وبكلمة: إنّ الواقف كأيّ إنسان يجب أن تتمشى جميع تصرفاته مع الأسس العقلية والشرعية، سواء أكانت هذه التصرفات من نوع الوقف أو الأكل والسفر أو غيره، فمتى وافقت الشرع والعقل وجب احترامها وإلاّ أُهملت.

العقد وهذا الشرط:

ليس من شك أنّ الشرط الباطل لا يجب الوفاء به، مهما كان نوعه. وأيضاً ليس من شك أنّ ما كان منه منافياً لمقتضى العقد وطبيعته يسري بطلانه إلى العقد بالذات، فيكون باطلاً بنفسه مبطِلاً لغيره بالاتفاق، من غير فرق بين الوقف وغير الوقف.

واختلفوا في الشرط المنافي لأحكام الكتاب والسنّة فقط، لا لطبيعة العقد، كمن وقف داره على زيد بشرط أن يرتكب فيها المحرمات، أو يترك الواجبات، إختلفوا: هل بطلان هذا الشرط يوجب بطلان العقد أيضاً، بحيث لا يجب الوفاء بالعقد كما لا يجب الوفاء بالشرط، أو يختصر الفساد والبطلان على الشرط فقط؟

نقل الشيخ أبو زهرة عن الحنفية في كتاب الوقف ١٦٢: (إنّ الشروط المخالفة للمقررات الشرعية تبطل هي فقط، أمّا الوقف فصحيح، ولا يفسد بفسادها؛ لأنّ الوقف تبرّع، والتبرعات لا تبطلها الشروط الفاسدة).

أمّا الإمامية فقد اختلفوا فيما بينهم، فمِن قائل: إنّ فساد الشرط لا

٥٩٤

يوجب فساد العقد، وقائل: بأنّه يوجبه، وتوقّف ثالث. (الجواهر، ومكاسب الأنصاري).

والذي نراه نحن أنّ فساد الشرط المنافي لأحكام الكتاب والسنّة لا يسري إلى العقد بحال، ذلك أنّ للعقد أركاناً وشروطاً، كالإيجاب والقبول، وكون العاقد عاقلاً بالغاً، والمعقود عليه ملكاً للعاقد، وقابلاً للنقل والانتقال، فمتى تم ذلك صحّ العقد بلا ريب، أمّا ذكر الشروط الفاسدة التي لا تمسّ أركان العقد وشروطه من قريب أو بعيد، بل ذُكرت معه فقط، فإنّ فسادها لا يستتبع فساد العقد، ولو افتُرض أنّ فساد العقد أحدث خللاً في العقد - كالجهالة الموجبة للغرر في عقد البيع - يكون العقد - والحال هذه - فاسداً، ولكن للجهالة، لا لفساد الشرط.

وإلى هذا ذهب صاحب الجواهر، وهو مَن هو في ذوقه وتحقيقه، وممّا يدلّ على صفاء هذه الفطرة قوله: (أمّا دعوى أنّ الشرط الفاسد إذا أُخذ بنحو القيدية فيفسد العقد، وإذا أُخذ بنحو الداعي فلا يفسده، أمّا هذه الدعوى فسفسطة لا محصّل تحتها).

أجل، إنّها سفسطة وكلام فارغ؛ لأنّ العرف لا يدرك ولا يميّز بين الحالين، وبديهية أنّ الخطابات الشرعية مُنزَّلة على الأفهام العرفية، لا على الدقة العقلية.

قدّمنا أنّ الفقهاء قسّموا الشروط إلى صحيحة وفاسدة، وقالوا: يجب الوفاء بالأُولى دون الثانية، وأنّهم قسّموا الفاسدة إلى ما ينافي طبيعة العقد، وإلى ما لا ينافيه، وإنّما ينافي أحكام الشريعة، وأنّهم اتفقوا على أنّ النوع الأوّل فاسد ومفسِد، واختلفوا في النوع الثاني، فمِن قائلٍ بأنّه فاسد غير مفسِد، وقائلٍ بفساده وإفساده.

ثمّ اختلفوا في كثير من الموارد والأمثلة: هل هي من نوع الشرط الفاسد؟ وعلى افتراض أنّها منه، فهل هي مفسِدة أيضاً، أو فاسدة غير مفسِدة؟ وفيما يلي نذكر طرفاً من هذه الأمثلة:

٥٩٥

الخيار:

قال الشافعية والإمامية والحنابلة: إذا اشترط الواقف لنفسه أن يكون له الخيار أمداً معلوماً في إمضاء الوقف، أو العدول عنه بطل الشرط والوقف معاً؛ لأنّه شرط ينافي طبيعة العقد.

وقال الحنفية: بل كلاهما صحيح. (فتح القدير، والمغني، والتذكرة).

الإدخال والإخراج:

قال الحنابلة والشافعية في القول الأرجح: إنّ اشترط الواقف أن يُخرج مَن يشاء من أهل الوقف، ويُدخل مَن يشاء من غيرهم لم يصحّ، ويبطل الوقف؛ لأنّه منافٍ لمقتضى العقد فأفسده. (المغني، والتذكرة).

وقال الحنفية والمالكية: بل يصحّ. (شرح الزرقاني، وأبو زهرة).

وفصّل الإمامية: بين الإدخال والإخراج، وقالوا: إن اشترط إخراج مَن يريد من أرباب الوقف بطل الوقف، وإن اشترط إدخال من سيولد مع الموقوف عليهم جاز، سواء أكان الوقف على أولاده أو أولاد غيره. (التذكرة).

الأكل ووفاء الدين:

قال الإمامية والشافعية: لو وقف على غيره، واشترط وفاء ديونه وإخراج مؤنته من الوقف يبطل الوقف والشرط. (الجواهر، والمهذِّب).

فائدة:

وحيث ذكرنا شرط الخيار، وبعض الأمثلة للوقوف المقيدة بشرط

٥٩٦

يحسن أن نشير بهذه المناسبة إلى ما دار وتداول على ألسنة فقهاء الإمامية من قولهم: خيار الشرط، وشرط الخيار، وقولهم: مطلق العقد، والعقد المطلق، وأن نفرق بين الشرطين والإطلاقين.

أمّا شرط الخيار: فهو أنّ العاقد عند إنشاء العقد قد ذكر الخيار بلفظه، واشترطه لنفسه، كما لو قال: بعتُكَ هذا ولي الخيار في فسخ البيع والرجوع عنه مدة كذا. أمّا خيار الشرط، وبالأصلح خيار تخلّف الشرط أمراً آخر، كما لو قال البائع للمشتري: بعتُكَ هذا على أن تكون عالماً، ثمّ تبين أنّ المشتري جاهل، وهذا التخلف يُحدث للبائع الخيار في فسخ البيع والرجوع عنه، إن شاء أمضاه وإن شاء فسخه، ومعلوم أنّ الفرق كبير جداً بين الموردين.

أمّا الفرق بين العقد المطلق ومطلق العقد فيتبين بعد أن نعرف أنّ العقد على أنواع: منه العقد المجرد عن كل قيد، وهو العقد المطلق، ومنه العقد المقيد بقيد إيجابي أو بقيد سلبي، ومنه العقد من حيث هو هو، أي غير ملحوظ به الإطلاق، ولا قيد الإيجاب أو السلب، وهو مطلق العقد الشامل للعقد المطلق، وللعقد المقيد. وعليه يكون كل من المطلق والمقيد قسيم للآخر، وفي عرض أخيه وحياله، وهما معاً قسمان لمطلق العقد، تماماً كالرجل والمرأة بالقياس إلى مفهوم الإنسان(١) .

____________________

(١) ومن التعابير المختصرة ما هو معروف بين طلاب النجف من قولهم: بشرط شيء، وبشرط لا، ولا بشرط، ويريدون من (بشرط شيء): المقيد بالإيجاب كقولك: أعطيك بشرط أن تفعل كذا، ومن (بشرط لا): المقيد بالسلب، كقولك: أعطيك بشرط أن لا تفعل، و (لا بشرط) كقولك: أعطيك، دون تقيد بسلب أو بإيجاب. وبديهة أنّ (اللا بشرط) يشمل الأمرين معاً، ويصدق على البشرط شيء، والبشرط لا.

٥٩٧

البنين والبنات:

إذا وقف على البنين لا تدخل البنات، وإذا وقف على البنات لا يدخل البنون، وإذا وقف على أولاده دخلا معاً، واقتسما بالسوية. وإذا قال: للذكر مثل حظ الأُنثيين، أو له مثل الأنثى، أو للأنثى مثل حظ الذكرين، أو قال: مَن تزوجتُ من النساء فلا حظ لها أبداً، صحّ في ذلك كله مراعاة لشرط الواقف. ولم أجد فيما لدي من كتب الفقه للمذاهب الخمسة قولاً يتنافى مع شيء من هذا سوى ما نقله أبو زهرة في كتاب الوقف عن المالكية ص٢٤٥: (إنّ الإجماع في مذهب مالك قائم على تأثيم مَن وقف على بنيه دون بناته، أو جعل استحقاق الوقف مقيداً بعدم الزواج، وإنّ بعضهم جعل ذلك التأثيم علة للبطلان).

ونعتقد أنّ القول بالبطلان، أو بإدخال البنات في لفظ البنين قولٌ متروك لا وزن له عند المالكية، فإنّ لدي من كتبهم أكثر من خمسة، ومنها المطوّل والمختصر، وما وجدت فيها إشارة إلى هذا القول رغم البحث والتنقيب، بل على العكس، فقد جاء فيها: (إنّ ألفاظ الواقف تُحمَل على العرف، وهي كألفاظ الشارع في وجوب الاتباع). أجل، فقد نقل عن عمر بن العزيز أنّه حاول أن يدخل البنات في أوقاف البنين، وابن عبد العزيز ليس مالكياً. هذا، إلى أنّ محاولته إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على عطفه وإنسانيته.

أولاد الأولاد:

وكما اختلف الفقهاء في بعض الشروط أنّها باطلة أو صحيحة، وأنّ الباطل منها هل يُبطِل؟ فقد اختلفوا أيضاً في دلالة بعض الألفاظ، من تلك إذا قال: هذا وقفٌ على أولادي، وسكت: هل

٥٩٨

يشمل لفظ أولادي أولاد الأولاد؟ وفي حال الشمول: هل يعمّ أولاد البنين والبنات معاً، أو أولاد البنين فقط؟

فالمشهور من قول الإمامية أنّ لفظ أولادي لا يشمل أولاد الأولاد، ولكنّ السيد الأصفهاني قال في وسيلة النجاة: إنّ لفظ الأولاد يعمّ أولاد الأولاد ذكوراً وإناثاً. وهذا هو الحق؛ لأنّه المفهوم العرفي الذي عليه المعوّل.

وروى صاحب المغني عن ابن حنبل أنّ لفظ ولد يصدق على الذكر والأنثى للصُلب، وعلى أولاد الابن دون أولاد البنت.

وقال الشافعية: إنّ لفظ الولد يصدق على الذكر والأنثى من الصُلب، ولا يصدق على أولاد الأولاد إطلاقاً، أمّا لفظ ولد الولد عندهم فيعمّ الذكور والإناث، وبه قال الحنفية. (فتح القدير، والمهذّب).

وقال المالكية: تدخل الإناث في لفظ الأولاد، ولا تدخل في لفظ أولاد الأولاد. (الزرقاني).

وقول المالكية هذا يناقض نفسه؛ لأنّ مادة اللفظ واحدة، وهي: ل. و. د، فكيف دلّت على الذكور والإناث معاً بدون الإضافة، ومعها دلّت على الذكور فقط؟

٥٩٩

الولاية على الوقف

الولاية على الوقف: هي سلطة محددة برعايته وإصلاحه واستغلاله، وإنفاق غلّته في وجهها. وتنقسم الولاية إلى نوعين: عامة، وخاصة. والعامة: هي التي تكون لولي الأمر. والخاصة: ما كان لمن يولّيه الواقف عند إنشاء الوقف، أو يولّيه الحاكم الشرعي.

واتفقوا على أنّ الولي يجب أن يكون عاقلاً بالغاً راشداً أميناً، بل اشترط الشافعية وكثير من الإمامية العدالة. والحق الاكتفاء بالأمانة والوثاقة، مع القدرة على إدارة الوقف إدارة كاملة.

واتفقوا على أنّ المتولي أمين لا يضمن إلاّ بالتعدي أو التقصير.

وأيضاً اتفقوا إلاّ مالكاً على أنّ للواقف أن يجعل التولية حين الوقف لنفسه مستقلاً، أو يشترط معه غيره مدة حياته، أو لأمد معيّن، وله أن يجعل أمرها بيد غيره.

وعن كتاب فتح الباري إنّ مالكاً قال: لا يجوز للواقف أن يجعل الولاية لنفسه؛ لئلا يصير كأنّه وقف على نفسه، أو يطول العهد فيُنسى الوقف، أو يفلس الواقف فيتصرف فيه، أو يموت فيتصرف فيه ورثته، وإذا حصل الأمنُ من ذلك كله فلا بأس بأن يجعل الولاية في يده.

٦٠٠

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679