أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 308040
تحميل: 10900


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 308040 / تحميل: 10900
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بينها وحاول تفسيرها وتأويلها؛ بالمنهج الّذي عالج به تأويل آي القرآن؛ مستعينا بشواهد الشعر واللغة؛ موضحا مذهب أصحابه من أهل العدل؛ مدليا بحجتهم على من خالف تأويلهم من جماعة أهل السنة، أو أهل الجبر كما كان يسميهم؛ وناقش ابن قتيبة وأبا عبيد القاسم بن سلام وابن الأنباري في ذلك على الخصوص.

ثم عرض لمسائل في علم الكلام مما اشتجر فيها الرأي، ودار حولها الجدل؛ واصطرعت الأقلام، وأقيمت المناظرات؛ مثل القول برؤية الله، وخلق أفعال العباد؛ وإرادة الله للقبائح، والقول بوجوب الأصلح، وقرر رأي أصحابه؛ وحاجّ عنهم، واحتج على خصومهم؛ وكان فيما جادل وناقش رفيقا في الجدل عفيفا في المقال.

وأودع في الكتاب بجانب ما بسط من تأويل الآيات والأحاديث وعرض المسائل مختارات من المصطفى المنخول من الشعر وحرّ الكلام؛ تناولها بالشرح والنقد والموازنة، وذكر صدرا من تراجم الشعراء والعلماء والأدباء وأصحاب الأهواء والآراء الخاصة؛ وأورد طائفة من أشعارهم وأقوالهم ونوادرهم، ثم استروح بذكر فيض من الطرائف النادرة، والأجوبة الحاضرة المسكتة، والأفاكيه الرفيعة؛ معتمدا فيما أورده على ما وصل إليه من كتب الجاحظ وابن قتيبة والمبرد وأبي حاتم والآمدي وغيرهم، أو ما رواه عن شيوخه، وأبي عبيد الله المرزباني على الخصوص.

واختار أيضا بعض الموضوعات التي كانت مقاصد شعراء العربية في الجاهلية وصدر الإسلام؛ كالمدائح والأهاجي والمراثي والسير ووصف الشيب والطيف وغيرها، وأورد ما قاله الشعراء فيها؛ ووازن بين الكثير منها، وتناولها بالنقد في كثير من الأحيان.

وبهذه الفنون المتنوعة؛ والفصول المختلفة؛ والمباحث الجليلة اجتمع للكتاب ميزة كبرى بين الكتب العربية؛ وعدّ مصدرا ينقل عنه العلماء، ويحتج به الأدباء؛ ويرد شرعته القارءون على ممرّ الأجيال.

***

٢١

ويبدو أن هذه المجالس أملاها الشريف في داره على تلاميذه ومريديه؛ في أزمنة مختلفة متعاقبة؛ لم يصل العلم إلى التاريخ الّذي بدأها فيه؛ ولكن الثابت أنه فرغ من إملائها يوم الخميس الثامن والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة؛ كما ذكره الشريف أبو يعلى محمد بن الحسن بن حمزة الجعفري في آخر نسخته.

أما الزيادات التي في آخر الكتاب؛ وهي التي عرفت بتكملة الغرر فهي طائفة أخرى من المسائل التي اختارها فيما كان يعرض له في مجالسه فيما بعد؛ وأشار بأن تضاف إلى الكتاب، للتشابه بينهما في المنهج والمنحى؛ وبهذه التكملة يتم الكتاب.

٢٢

٤ - نسخ الكتاب

١ - نسخة كتبت في سنة ٥٦٧، ووقعت في ملك الحسين بن أبي عبد الله بن إبراهيم الخومجاني، وقرأها على فضل الله بن علي بن عبيد الله بن محمد بن عبيد الله بن الحسين، وأجاز له روايتها بتاريخ ٥٦٨ عنه، عن شيخه عبد الرحيم بن أحمد بن الإخوة البغدادي عن أبي غانم العصمي عن السيد المرتضى، وعنه أيضا عن النقيب حمزة بن أبي الأعز الحسيني عن أبي المعالي أحمد بن قدامة عن السيد المرتضى، وعنه أيضا عن السيد المرتضى بن الداعي الحسني عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الدوريستي. وعلى النسخة حواش كثيرة، هي مما أملاه فضل الله على تلميذه الحسين بن أبي عبد الله الخومجاني، أو مما نقله من نسخته، مقرونة برموز أصحابها، أو غير مقرونة وعلى الصفحة الأولى من هذه النسخة رموز النسخ التي قابل فضل الله بن علي نسخته عليها، وأسماء أصحابها، كتبت على النحو الآتي:

خ خ س: علامة نسخة مولانا الصدر الكبير العلامة ضياء الدين تاج الإسلام، سلطان العلماء، أبي الرضا فضل الله بن علي الحسني الراونديّ قدس الله روحه

***

خ خ ص: علامة نسخة أبي الصلاح التقي نجم الدين الحلبي، رحمه الله، وكان سمع هذا الكتاب علي السيد علم الهدىرضي‌الله‌عنه بقراءة غيره

***

خ خ ش: علامة نسخة السيد أبي السعادات هبة الله بن علي بن عبد الله بن حمزة العلوي الشجري، وكانت نسخته بخطهرضي‌الله‌عنه

***

٢٣

خ خ ج: علامة نسخة الشريف أبي يعلى محمد بن الحسن بن حمزة الجعفري رحمه الله، وكان خليفة الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثيرضي‌الله‌عنه والجالس مكانه، وكتب بخطه في آخر نسخته من هذا الكتاب: هذا آخر مجلس أملاه سيدنا أدام الله علوه ثم تشاغل عنة بأمور الحج، ووقع الفراغ منه يوم الخميس الثامن والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة

***

وتبدأ هذه النسخة بصفحة فيها مقدمة الفهرست، وبها التعريفات والرموز الخاصة التي قابل عليها صاحب النسخة واستفاد منها، ثم يلي ذلك الفهرست، وفيه عنوانات المجالس وموضوعاتها، ثم صفحتان بهما نقول وأشعار ثم دعاء كتب في سنة ٧٦١، ثم يلي ذلك صحيفة العنوان، وهو مكتوب بالخط الكوفي الجميل المزخرف بحلية على شكل زهور، تحتها اسم المؤلف، داخل إطار، بالخط النسخي الجميل، ثم تحته إطار أكبر، به نصّ إجازة فضل الله ابن علي، وفي حواشي الصحيفة بعض التملكات وإثبات قراءة كمال الدين المرتضى المرعشي علي الحسين بن أبي عبد الله الخومجاني من أول الكتاب إلى المجلس الحادي والثلاثين، وإجازته بتاريخ ٥٨٤. ثم يلي ذلك أبواب الكتاب، وعنوانات المجالس في وسط السطر بخط كبير واضح.

وفي آخر النسخة: (وافق الفراغ من نسخه في محرم سنة سبع وستين وخمسمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير).

وهي مكتوبة بقلم معتاد واضح مضبوط أكثره بالشكل، وتقع في ٣١٧ ورقة، وعدد سطور الصفحة عشرون سطرا، وأصلها المخطوط بمكتبة الإسكوريال برقم ١٤٥.

٢٤

وإلى صديقي العلامة الأستاذ محمد بن تاويت الطنجي يرجع الفضل في إعانتي على تصوير نسخة منها.

وقد رمزت إلى هذه النسخة بكلمة (الأصل) وأثبت جميع ما فيها من الحواشي.

***

(٢) نسخة بخط محمد بن أبي طاهر بن أبي الحسين الوراق، فرغ من كتابتها في منتصف رجب سنة ٥٨٦ برسم مرشد الدين أبي الحسن علي بن الحسين بن أبي الحسن الواراني، وعليها قراءة للواراني على شيخه الحسن بن الحسين بن علي الدوريستي بتاريخ سنة ٥٨٧، بروايته عن فضل الله بن علي بن الحسين الراوندي عن الإمام عبد الرحيم بن الإخوة عن أبي غانم العصمي عن السيد المرتضى؛ وكتب ذلك الدوريستي بخطه.

وفي آخر هذه النسخة الزيادات التي رأى السيد المرتضى إضافتها إلى الكتاب؛ مما لم يذكر في نسخة الأصل؛ وهي أيضا بخط محمد بن أبي طاهر بن أبي الحسين الوراق، كتبها برسم مرشد الدين أبي الحسن الوراني المذكور في شعبان من السنة نفسها وعلى هذه النسخة ما يثبت أن الحسن بن الحسن بن الحسين انتسخ منها ومن الزيادات نسخة له.

وفيها حواش كثيرة؛ ومنها ما يوافق ما في حواشي نسخة الأصل.

وقد فقد منها صفحة العنوان الخارجي؛ ولعلّه يكون قد ألصقت بها ورقة بيضاء، وبظهرها فاتحة الكتاب، وبرأسها حلية بالألوان وعنوانات المجالس مميزة بخط كبير واضح، وفي آخرها اسم ناسخها وتاريخ النسخ؛ مرة بعد المجالس ومرة بعد الزيادات. وهي مكتوبة بقلم معتاد، مضبوطة بالشكل الكامل المتقن؛ وعدد أوراقها ٢٤٥ ورقة وفي كل صفحة ٢٢ سطرا.

وأصل هذه النسخة مخطوط محفوظ بمكتبة فيض الله بإستانبول برقم ١٤٨٥؛ وهي مما

٢٥

صوّره معهد إحياء المخطوطات العربية بالقاهرة. وقد رمزت إليها بالحرف (ف).

***

٣ - نسخة كتبت لحيدر بن محمد بن زيد بن محمد بن زيد بن عبد الله الحسيني، وعليها سماع لأبي البركات علي بن نصر بن علي بن الأعز الحسيني علي حيدر المذكور مؤرخ سنة ٦١٩.

والموجود منها مجلد واحد ينتهي بآخر المجلس الرابع والثلاثين، وليس بآخره اسم الناسخ أو تاريخ النسخ، ومن المؤكد أنها كتبت قبل سنة ٦١٩، وهو تاريخ السماع الموجود بالصفحة الأولى.

وبآخر المجلد سماع لحيدر بن محمد صاحب النسخة المذكور، بقراءة علي ابن الأعز وبحضور آخرين ذكرت أسماؤهم، بتاريخ سنة ٦٢٤.

وقد عورضت هذه النسخة بنسخ أخرى، أشير إلى خلافها في الحاشية بهذا الرمز (خ).

وبها حواش يوافق الكثير منها الحواشي التي ذكرت في الأصل. ويلاحظ أن بعض هذه الحواشي نقلت عن نسخة ابن الشجري، ويسبقها رمزها المعروف: (ش) أحيانا، وأحيانا بلفظ (ابن الشجري).

وقد كتبت بالخط النسخ الجلي الواضح، وضبطت بالشكل الكامل، وعدد أوراقها ٢٨٥ ورقة وعدد سطور كل صفحة ١٣ سطرا، وهي محفوظة بدار الكتب المصرية برقم ١٨٣ أدب تيمور.

وقد رمزت إليها بالحرف (ت).

***

٤ - نسخة بخط هاشم بن الحسين الحسيني، فرغ من كتابتها في العاشر من شعبان

٢٦

سنة ١٠٦٧، وذكر في آخرها أنه قابلها على الأصل الّذي كتبت عنه، وانتهى من ذلك في السادس عشر من شعبان المذكور.

وهي أربعة أجزاء في مجلد واحد. وتقع في ١٨٢ ورقة، وفي كل صفحة ٢٣ سطرا؛ كتبت بخط دقيق.

وقد رمزت إليها بالحرف (د)

***

٥ - نسخة طبعت في طهران سنة ١٢٧٣، ومعها التكملة، وعليها حواش، يوافق بعضها ما في نسختي الأصل، وف. ولم يذكر فيها ما يشير إلى الأصل الّذي طبعت عليه؛ إلا أنه ذكر في حاشية ص ٢٠٠ عند آخر المجلس الرابع والعشرين: (هذا آخر المجلدة الأولى من أصل الجعفري - رحمه الله). ويؤخذ من هذا أن لها علاقة بنسخة أبي يعلى محمد بن لحسن بن حمزة الجعفري؛ وهي إحدى النسخ التي قوبلت بها نسخة (الأصل).

وقد رمزت إلى هذه النسخة بالحرف (ط)

٦ - نسخة طبعت في مصر بمطبعة السعادة سنة ١٣٢٥؛ على نفقة السيد أمين الخانجي وأحمد ناجي الجمالي، وعليها شروح وتعليقات للسيد محمد بدر الدين النعساني الحلبي، ثم السيد أحمد أمين الشنقيطي.

ولم يذكر فيها ما يشير إلى الأصل الّذي طبعت عليه. والعنوان الّذي وضع على هذه الطبعة: (أمالي السيد المرتضى)، وبه عرف الكتاب.

وقد أشرت إلى هذه النسخة بالحرف (م)

وقد اتخذت نسخة الإسكوريال أصلا للعمل، وأثبت نصها، ووضعت فروق النسخ

٢٧

المخطوطة الأخرى، أما النسختان المطبوعتان، فإني لم أذكر منهما إلا ما انفردا فيه برواية، وهو قليل.

وقد أثبت جميع حواشي الأصل، وبعض حواشي نسختي ت، ف. ووضعت هذه الحواشي بين أقواس تمييزا لها عما وضعت من الشرح والتعليق.

وقد بذلت ما وسع الجهد والطاقة؛ ومن الله ألتمس الجزاء فيما قصدت؛ وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

مصر الجديدة ٨ شعبان سنة ١٣٧٣ ١٢ إبريل سنة ١٩٥٤

محمد أبو الفضل إبراهيم

٢٨

أمالي المرتضى

غرر الفوائد ودرر القلائد

للشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي العلوي

٣٥٥ - ٤٣٦ هـ

٢٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[١]

المجلس [الأول]

تأويل آية( وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها )

قال الشريف المرتضى قدّس الله روحه: إن(١) سأل سائل عن قول الله تعالى(١) :

( وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً ) . [الإسراء: ١٦].

في هذه(٢) الآية وجوه من التأويل؛ كلّ منها يبطل الشبهة الدّاخلة على المبطلين فيها؛ حتى عدلوا بتأويلها عن وجهه، وصرفوه عن بابه.

أولها: أنّ الإهلاك قد يكون حسنا، وقد يكون قبيحا؛ فإذا كان مستحقّا أو على سبيل الامتحان كان حسنا، وإنما يكون قبيحا إذا كان ظلما؛ فتعلّق الإرادة به لا يقتضي تعلّقها به على الوجه القبيح، ولا ظاهر للآية(٣) يقتضي ذلك؛ وإذا علمنا بالأدلّة تنزّه القديم تعالى عن القبائح علمنا أنّ الإرادة لم تتعلّق إلا بالإهلاك الحسن؛ وقوله تعالى:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها ) المأمور به محذوف؛ وليس يجب أن يكون المأمور به هو الفسق، وإن وقع بعده الفسق؛ ويجري هذا مجرى(٤) قول القائل: أمرته فعصى، ودعوته فأبى.

والمراد أنني أمرته بالطّاعة، ودعوته إلى الإجابة والقبول.

ويمكن أن يقال على هذا الوجه: ليس موضع الشبهة ما تكلّمتم عليه؛ وإنما موضعها أن يقال: أي معنى لتقدّم الإرادة؟ فإن كانت متعلّقة بإهلاك مستحقّ بغير الفسق المذكور في الآية فلا معنى لقوله تعالى:( وَإِذا أَرَدْنا أَمَرْنا ) ؛ لأن أمره بما يأمر به لا يحسّن إرادته

____________________

(١) ت، د، ف: (قال الله جل من قائل).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (لهذه).

(٣) ش: (ولا ظاهر الآية).

(٤) ت، د، حاشية الأصل (من نسخة): (وإنما يجري)، وفي حاشية الأصل أيضا (من نسخة أخرى): (وإنما هذا يجري).

٣٠

للعقاب المستحقّ بما تقدّم من الأفعال، وإن كانت الإرادة متعلّقة بالإهلاك المستحقّ بمخالفة الأمر المذكور في الآية فهذا الّذي تأبونه، لأنه يقتضي أنه تعالى مريد لإهلاك من لم يستحقّ العقاب.

والجواب عن ذلك أنه تعالى لم يعلّق الإرادة إلاّ بالإهلاك(١) المستحقّ بما تقدّم من الذنوب؛ والّذي حسّن قوله تعالى: وإذا أردنا أمرنا هو أنّ في تكرار الأمر بالطاعة والإيمان إعذارا إلى العصاة، وإنذارا لهم، وإيجابا وإثباتا(٢) للحجّة عليهم؛ حتى يكونوا متى خالفوا وأقاموا على العصيان والطّغيان بعد تكرار(٣) الوعيد والوعظ والإنذار ممّن يحقّ عليه القول، وتجب عليه(٤) الحجّة؛ ويشهد بصحة(٥) هذا التأويل قوله تعالى قبل هذه الآية:( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) . [الإسراء: ١٥].

والوجه الثاني في تأويل الآية أن يكون قوله تعالى: أَمَرْنا مُتْرَفِيها من صفة القرية وصلتها، ولا يكون جوابا لقوله تعالى:( وَإِذا أَرَدْنا ) ، ويكون تقدير الكلام:

وإذا أردنا أن نهلك قرية من صفتها أنّا أمرنا مترفيها ففسقوا فيها(٦) ، وتكون (إذا) على هذا الجواب لم يأت لها جواب ظاهر في الآية، للاستغناء عنه بما في الكلام من الدّلالة عليه(٧) ؛ ونظير هذا قوله تعالى في صفة الجنة:( حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ

____________________

(١) ت، ف: (بإهلاك مستحق).

(٢) ساقطة من ت، د، ف.

(٣) ت، د: (تكرر).

(٤) ساقطة من ف.

(٥) ت، ف: (لصحة).

(٦) في ت، وحاشية الأصل: (ويكون كأنه قال تعالى:( وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ) مأمورا مترفوها كررنا القول عليهم، وأعدنا الوعظ لهم، وأمرناهم ثانيا( فَفَسَقُوا فِيها، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ) . والله أعلم بالمراد)

(٧) في ت، ق، حاشية الأصل،: (يمكن أن يتمحل (لإذا) في الآية جواب، وهو أن تجعل الفاء في قوله تعالى:( فَدَمَّرْناها ) زائدة، وتجعل (دمرنا) جوابا لإذا، ولا خلاف في مورد الفاء زائدة في كلام العرب؛ حكى ابن جني عن أبي علي قال: حكى أبو الحسن عنهم: (أخوك فوجد) بمعنى أخوك وجد. ومن ذلك قولهم: زيدا فاضربه، وعمرا فأكرم، وعلى هذا قوله تعالى:( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) ، ويكون معنى الآية على هذا إخبارا عن عزة الله تعالى وقدرته على جميع ما أراد تعالى. وحجة الفاء زائدة، في بيت الكتاب:

لا تجزعي إن منفسا أهلكته

وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي

الفاء في (فاجزعي) زائدة).

٣١

لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ. وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) .

[الزمر: ٧٣ - ٧٤]، ولم يأت (لإذا) جواب في طول الكلام للاستغناء عنه(١) .

ويشهد أيضا بصحة(٢) هذا الجواب قول الهذلي:

حتّى إذا أسلكوهم(٣) في قتائدة

شلاّ كما تطرد الجمّالة الشّردا(٤)

فحذف جواب إذا، ولم يأت به، لأن هذا البيت آخر القصيدة(٥) .

والوجه الثالث: أن يكون ذكر الإرادة في الآية مجازا أو اتساعا وتنبيها على المعلوم من حال القوم وعاقبة أمرهم، وأنهم متى أمروا فسقوا وخالفوا؛ وذكر الإرادة يجري هاهنا مجرى قولهم: إذا أراد التاجر أن يفتقر أتته النوائب من كل جهة، وجاءه الخسران من كل طريق، وقولهم: إذا أراد العليل أن يموت خلّط في مآكله، وتسرّع إلى كل ما تتوق

____________________

(١) حاشية الأصل: (كأن التقدير: إذا جاءوها حضروها وفتحت؛ أوهموا بدخولها، وما أشبه ذلك، والله أعلم).

(٢) كذا في الأصل، حاشية ت (من نسخة)؛ وفي ت، ف: (لصحة).

(٣) د، ف، حاشية ت (من نسخة): (سلكوهم).

وسلك لغة في أسلك، وأورده صاحب الكشاف بهذه الرواية عند تفسير قوله تعالى:( فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) .

(٤) حواشي الأصل، ت، د، ف: (البيت لعبد مناف بن ربع الهذلي؛ في آخر قصيدته التي أولها:

ماذا يغير ابنتي ربع عويلهما

لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا

قتائدة: موضع، والجمالة: أصحاب الجمال، كالبغالة والحمارة، وانتصاب (شلا) على المصدر، ودل على فعل مضمر يحصل بظهوره جواب (حتى إذا سلكوهم) المنتظر، وتلخيصه: حتى إذا أسلكوهم هذا الموضع شلوهم شلا، يشبه طرد الشرد من الجمال إذا تزاحمت على الماء؛ وهذا كما يقال: طردوهم طرد غرائب الإبل. ومعنى أسلكوهم جعلوا لهم مسلكا، والسلك: إدخال شيء في شيء تسلكه فيه، ومنه ما سَلَكَكُمْ. وروى أبو عبيدة: (الشرد) (بفتح الشين والراء)، وقال: تقول: إبل شرد وجلب وطرد).

وانظر الكلام على هذا البيت في (ديوان الهذليين ٢: ٤٢، وأدب الكاتب ٤٢٤، والاقتضاب ٤٠٢).

(٥) حاشية الأصل: (جواب الشرط جزء لا يتم المشروط دونه؛ فإذا حذف كان أهول للكلام، كقوله تعالى:( وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ... ) الآية، وكقول القائل:

لو رأيت عليا بصفين، وكقولهم: لو ذات سوار لطمتني).

٣٢

إليه نفسه؛ ومعلوم أن التاجر لم يرد في الحقيقة شيئا، ولا العليل(١) أيضا، لكن لما كان المعلوم من حال هذا الخسران، ومن حال هذا الهلاك حسن هذا الكلام، واستعمل ذكر الإرادة لهذا الوجه(٢) . وكلام العرب وحي وإشارات واستعارات ومجازات(٣) . ولهذه الحال كان كلامهم في المرتبة العليا من الفصاحة؛ فإنّ الكلام متى خلا من الاستعارة(٤) ، وجرى كلّه على الحقيقة كان بعيدا من الفصاحة، بريّا من البلاغة، وكلام الله تعالى أفصح الكلام.

والوجه الرابع: أن تحمل الآية على التّقديم والتأخير؛ فيكون تلخيصها: إذا أمرنا مترفي قرية بالطاعة فعصوا واستحقوا العقاب أردنا إهلاكهم؛ والتقديم والتأخير في الشعر وكلام العرب كثير. ومما يمكن أن يكون شاهدا لصحة هذا التأويل من القرآن قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) [المائدة: ٦]، والطهارة إنّما تجب قبل القيام إلى الصلاة، وقوله تعالى:( وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ) [النساء: ١٠٢]، وقيام الطائفة معه يجب أن يكون قبل إقامة الصلاة؛ لأن إقامتها هي(٥) الإتيان بجميعها على الكمال.

فأما قراءة من قرأ الآية بالتّشديد فقال: أَمْرِنا(٦) ، وقراءة من قرأها بالمدّ

____________________

(١) كذا في الأصل، د، وحاشية ت (من نسخة)، وفي ت، ف: (المريض).

(٢) في حاشيتي الأصل، ت: (تصوير المجاز في الآية على أن التقدير: إذا قرب هلاك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا؛ وكذلك قولهم: إذ أراد المريض التقدير: إذا قرب موت المريض خلط، وكذلك التاجر إذا قرب افتقاره أتته النوائب؛ وهذا كقوله تعالى:( فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ ) ؛ أي يقرب أن ينقض؛ وإنما كنى بالإرادة عن القرب في هذه المواضع لأن المريد للشيء، المخلى بينه وبينه - ولا مانع هناك - ما أقرب ما يقع مراده، والله أعلم).

(٣) حاشية الأصل: (الإرادة قد تستعمل في الجماد فضلا عن العقلاء؛ كقوله تعالى:( جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ ) ؛ وكقول الراعي النميري:

في مهمه قلقت به هاماتها

قلق الفئوس إذا أردن نصولا

 (٤) كذا في الأصل، وحاشية ت (من نسخة)، وفي ت: (وإن كان الكلام متى خلا من الاستعارة)، وفي ف: (فإن كان الكلام متى خلا من الاستعارات).

(٥) حاشية ت (من نسخة): (هو الإتيان).

(٦) هي قراءة شاذة، عن أبي عثمان النهدي، والليث عن أبي عمرو، وأبان عن عاصم. (وانظر القراءات الشاذة لابن خالويه ٧٥).

٣٣

والتخفيف فقال: أَمَرْنا(١) فلن يخرج معنى قراءتيهما عن الوجوه التي ذكرناها(٢) ؛ إلا الوجه الأول؛ فإنّ معناه لا يليق إلا بأن يكون ما تضمنته الآية هو الأمر الّذي يستدعي به الفعل(٣) .

تأويل خبر [من تعلّم القرآن ثم نسيه لقي الله تعالى وهو أجذم]

روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: (من تعلّم القرآن ثم نسيه لقي الله تعالى وهو أجذم).

قال أبو عبيد القاسم بن سلاّم(٤) مفسّرا لهذا الحديث في كتابه غريب الحديث: الأجذم:

المقطوع اليد، واستشهد بقول المتلمّس(٥) :

وما كنت إلا مثل قاطع كفّه

بكفّ له أخرى فأصبح أجذما

وقد خطّأ عبد الله بن مسلم بن قتيبة(٦) أبا عبيد في تأويله هذا الخبر وقال: الأجذم وإن

____________________

(١) هي قراءة شاذة أيضا، عن خارجة عن نافع؛ (وانظر المصدر السابق).

(٢) حاشية الأصل: (قوله أمرنا، بالتشديد: كثرنا، وآمرنا، بالتخفيف: جعلناهم أمراء؛ وإن شئت فالعكس من ذلك، والصحيح العكس).

(٣) ت، د، حاشية الأصل (من نسخة): (يستدعي به إلى الفعل).

(٤) هو أبو عبيد القاسم بن سلام، اللغوي الفقيه المحدث، ولد بهراة، ثم ذهب إلى بغداد، ودرس بها الأدب والحديث والفقه، وولي القضاء بطرسوس؛ وخرج منها إلى مكة، وسكنها حتى مات سنة ٢٢٤.

وكتابه غريب الحديث جمع فيه ما في كتب أبي عبيدة وقطرب والأخفش والنضر بن شميل، وذكر أحاديث كل رجل من الصحابة على حدة. قال ابن الأثير: (جمع كتابه المشهور في غريب الحديث والآثار، الّذي صار أولا؛ وإن كان أخيرا؛ لما حواه من الأحاديث والآثار الكثيرة والمعاني اللطيفة والفوائد الجمة؛ فصار فيه القدوة في هذا الشأن، أفنى فيه عمره؛ حتى إنه قال فيما يروى: إني جمعت كتابي هذا في أربعين سنة، وهو كان خلاصة عمري). ومنه نسخة مصورة بدار الكتب المصرية منقولة عن نسخة مخطوطة بمكتبة كبرى لي بالآستانة. (وانظر إنباه الرواة ٣: ١٢ - ٢٣، والنهاية لابن الأثير ١: ٤ - ٥.

وكشف الظنون ١٢٠٤).

(٥) هو جرير بن عبد المسيح الضبعي، والبيت من قصيدة له أولها:

يعيّرني أمّي رجال ولا أرى

أخا كرم إلاّ بأن يتكرّما

وهي في (ديوانه ١٦٩، والأصمعيات ٦٤ - ٦٥، ومختارات ابن الشجري ٢٨ - ١٩)؛ وخبر القصيدة في (الخزانة ٤: ٢١٥ - ٢١٦).

(٦) هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، ولد ببغداد ونشأ -

٣٤

كان المقطوع اليد؛ فإنّ هذا المعنى لا يليق بهذا الموضع. قال: لأنّ العقوبات من الله تعالى لا تكون إلا وفقا للذّنوب وبحسبها، واليد لا مدخل لها في نسيان القرآن، فكيف تعاقب فيه! واستشهد بقوله تعالى:( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ ) [البقرة: ٢٧٥]، وزعم أن تأويل الآية أن الرّبا إذا أكلوه ثقل في بطونهم، وربا في أجوافهم؛ فجعل قيامهم مثل قيام(١) من يتخبّطه الشيطان تعتّرا وتخبّلا. واستشهد أيضا بما روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: (رأيت ليلة أسري بي قوما تقرض شفاههم، وكلّما قرضت وفت، فقال لي جبريل: هؤلاء خطباء أمّتك، تقرض(٢) شفاههم؛ لأنهم يقولون ما لا يفعلون). قال:

والأجذم في الخبر إنما هو المجذوم؛ وإنما جاز أن يسمّى المجذوم أجذم؛ لأن الجذام يقطّع أعضاءه ويشذّ بها؛ والجذم هو القطع.

قال الشريف المرتضىرضي‌الله‌عنه : قد أخطأ الرجلان جميعا، وذهبا عن الصواب ذهابا بعيدا، وإن كان غلط ابن قتيبة أفحش وأقبح؛ لأنه علّل غلطه، فأخرجه إلى أغاليط كثيرة؛ ونحن نبيّن معنى الخبر ثم نتكلّم على ما أورداه.

أما معنى الخبر فهو ظاهر لمن كان له أدنى معرفة بمذاهب العرب في كلامها؛ وإنما أرادعليه‌السلام بقوله: يحشر أجذم؛ المبالغة في وصفه بالنقصان عن الكمال، وفقد ما كان عليه بالقرآن من الزينة والجمال. والتشبيه له بالأجذم من حسن التشبيه وعجيبه؛ لأن اليد من الأعضاء الشريفة التي لا يتمّ كثير من التصرّف ولا يوصل إلى كثير من المنافع إلا بها؛ ففاقدها

____________________

بها، وأقام بالدينور مدة فنسب إليها، وحدت ببغداد عن إسحاق بن راهويه وطبقته، وروى عنه ولده أحمد وابن درستويه؛ توفي سنة ٢٧٦؛ وكتابه في غريب الحديث ذكره ابن الأثير فقال: (فصنف كتابه المشهور في غريب الحديث والآثار؛ حذا فيه حذو أبي عبيد، ولم يودعه شيئا من الأحاديث المودعة في كتاب أبي عبيد؛ إلا ما دعت إليه حاجة من شرح وبيان واستدراك، فجاء كتابه مثل كتاب أبي عبيد أو أكبر). (وانظر إنباه الرواة ٢: ١٤٣ - ١٤٧، والنهاية لابن الأثير ١ - ٥، وكشف الظنون ١٢٠٤).

(١) ساقطة من ف.

(٢) كذا ضبطت بالقلم في الأصل، وفي ت، ش: (تقرض) بضم التاء وفتح القاف وتشديد الراء المفتوحة.

٣٥

يفقد ما كان عليه من الكمال، وتفوته المنافع والمرافق التي كان يجعل يده ذريعة إلى تناولها؛ وهذه حال ناسي القرآن ومضيّعه(١) بعد حفظه، لأنه يفقد ما كان لا بسا له من الجمال، ومستحقا له من الثواب، وهذه عادة للعرب في كلامهم معروفة؛ يقولون فيمن فقد ناصره ومعينه(٢) :

فلان بعد فلان أجدع، وقد بقي بعده أجذم؛ قال الفرزدق يرثي مالك بن مسمع(٣) :

تضعضع طودا وائل بعد مالك

وأصبح منها معطس العزّ أجدعا(٤)

وإنما أراد المعنى الّذي ذكرناه. وللعرب ملاحن في كلامها(٥) ، وإشارات إلى الأغراض، وتلويحات بالمعاني، متى لم يفهمها ويسرع إلى الفطنة بها من تعاطي تفسير كلامهم، وتأويل خطابهم كان ظالما نفسه، متعديا طوره.

ونعود إلى الكلام على ما ذكره الرجلان؛ أما أبو عبيد فإن خطأه من حيث لم يفطن للغرض في الخبر، وضلّ عن وجهه، وإلا فالأجذم هو الأقطع لا محالة كما قال؛ إلاّ أنه لا يليق بهذا الموضع، وإذا حمل عليه لم يفد شيئا؛ وإن كانت(٦) شبهته التي أوقعته في هذا التأويل ظنّه أن ذلك يكون على سبيل العقوبة له على نسيان القرآن فليس كما ظن، لأنّ الجذم(٧) أولا ليس بعقوبة؛ لأن الله تعالى قد يجذم(٨) أولياءه والصالحين من عباده، ويقطّع أعضاءهم بالأمراض، وقد يبتدئ خلق من هو ناقص الأعضاء؛ فليس بلازم في الجذم أن يكون عقوبة. ثم لو كان يستحقّ ناسي القرآن عقوبة على نسيانه لكان حفظ القرآن بأسره فرضا واجبا وحتما لازما(٩) ؛ لأن العقوبة لا تستحق بترك ما ليس بواجب، وليس

____________________

(١) كذا ضبطت بالقلم في الأصل، ت، وفي ش: (ومضيعه)، بكسر الضاد وبعدها ياء ساكنة.

(٢) في نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (ومغيثه).

(٣) هو ملك بن مسمع الجحدري؛ من بكر بن وائل، كان سيد ربيعة في زمانه، وتوفي سنة ٧٣.

(المعارف: ١٨٤، وجمهرة الأنساب: ٣٠١، والإصابة ٦: ١٦٤).

(٤) ديوانه: ٤١٤.

(٥) حاشية ف (من نسخة): (كلامهم).

(٦) ت: (وإن كان).

(٧) حاشية ت (من نسخة): (الجذام).

(٨) نسخة أبي السعادات الشجري: (يجذّم) يضم الياء وفتح الجيم وتشديد الذال المكسورة؛ وضبطت في ت بالوجهين معا، وفي حواشي الأصل، ت، ف: (الجذم القطع، وقد جذم (بكسر الذال) يجذم جذما فهو أجذم، أي مقطوع اليد).

(٩) حاشية الأصل: (الملازمة ممنوعة).

٣٦

حفظ جميع القرآن كذلك.

وأما ابن قتيبة فإنه غلط من حيث لم يفطن للوجه في الخبر الّذي ذكرناه؛ من حيث ظنّ أن العقوبة لا تكون إلا في محلّ الذّنب، وهذا القول يوجب عليه ألاّ يجلد ظهر الزاني، وتختص العقوبة بفرجه، وكذلك القاذف كان يجب أن يعاقب في لسانه دون سائر أعضائه؛ والخبر الّذي استشهد به حجّة عليه، لأنا نعلم أنّ اللسان أقوى خطأ في باب الكلام من الشّفة، فلم لم يخصّ بالعقوبة(١) وحلّت بالشفاء دونه؟ ثم غلطه في تأويل الآية التي أوردها أقبح من كل ما تقدّم؛ لأنه توهّم أنّ ما تضمنته الآية من تخبّط آكل الربا وتعثّره عند القيام إنما هو في الدنيا من حيث يثقل ما أكله في معدته فيمنعه من النّهوض؛ ونحن نعلم ضرورة خلاف ذلك، ونجد كثيرا من آكلي الربا أخفّ نهوضا، وأسرع قياما وتصرّفا من غيرهم؛ ممّن لم يأكل الربا قطّ؛ والمعنى في الآية ما ذكره المفسّرون من أنّ ما وصفهم الله تعالى به يكون عند قيامهم من قبورهم، فيلحقهم العثار والزّلل والتّخبّل على سبيل العقوبة لهم، وليكون ذلك أيضا أمارة لمن يعاقبهم(٢) من الملائكة والخزنة على الفرق بين الولي والعدوّ، ومستحقّ الجنة ومستحقّ النار. وليس بمعروف ولا ظاهر أن الأجذم هو المجذوم؛ وردّ ابن قتيبة معناه واشتقاقه إلى الجذم الّذي هو القطع يوجب عليه أن يكون كلّ داء يقطّع الجسد ويفرّق أوصاله؛ كالجدري والأكلة(٣) وغيرهما يسمّى جذاما، ويسمى من كان عليه أجذم، وهذا باطل.

وأما قول الشاعر(٤) :

حرّق قيس عليّ البلا

د حتّى إذا اضطرمت أجذما

فليس من هذا الباب؛ بل هو من الإجذام الّذي هو الإسراع؛ فكأنه قال: لما اضطرمت

____________________

(١) ف: (فلم لم تختص العقوبة به).

(٢) ف، وحاشية ت (من نسخة): (ويعاينهم)

(٣) في نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (الأكلة، بالكسر: الحكة، والأكلة، بالضم:

اللقمة).

(٤) هو الربيع بن زياد العبسي، من أبيات في (الحماسة بشرح التبريزي ٢: ٦١ - ٦٣)، واللسان (جذم).

٣٧

أسرع عني، وتباعد مني. والإجذام، بالذال المعجمة والدال غير المعجمة جميعا: الإسراع؛ فأما قول عنترة في وصف الذّباب(١) :

هزجا يحكّ ذراعه بذراعه

قدح المكبّ على الزّناد الأجذم

الأجذم من صفة المكبّ(٢) لا من صفة الزّناد؛ فكأنه(٣) قال: قدح المكبّ الأجذم على الزّناد، وهذا من حسن التشبيه وواقعه(٤) .

مسألة [في القول بوجوب الأصلح عليه تعالى]

قال الشريف المرتضى قدّس الله روحه: كان بعض الشّيوخ المتقدمين(٥) يقول: ليس بممتنع أن يمكّن الله تعالى من الظّلم من يعلم من حاله أنه يرد القيامة غير مستحقّ لشيء من الأعواض، أو لما يوازي القدر المستحقّ عليه منها؛ فإذا أراد الانتصاف منه تفضّل عليه بما ينقله إلى مستحقّ العوض، ويقول: ليس هذا ببعيد ولا مستحيل، لأن العوض ليس يختص بصفة تمنع من التفضّل بمثله، ولا يجري في ذلك مجرى الثواب.

____________________

(١) من المعلقة بشرح التبريزي ص ١٨٠، وقبله:

وخلا الذّباب بها فليس ببارح

غردا كفعل الشّارب المترنّم

 (٢) في حاشيتي الأصل، ف: (هذا من باب إجراء الصفة على غير من هي له، كقولنا: مررت برجل حسن غلامه.

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (كأنه).

(٤) د، م: (من أحسن التشبيه وأوقعه)؛ وفي حواشي الأصل، ب، ف: (كثر القال والقيل في هذا الحديث، فقال بعضهم: الأجذم:

المقطوع اليد، وقال آخرون: هو المجذوم. وفي معنى هذا الحديث سر، ومعناه يتضح بالحديث الآخر الّذي روي عنهعليه‌السلام : إني تارك فيكم الثقلين، أحدهما كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض.. الحديث فلما شبه الكتاب بالحبل الّذي يتعلق به، ويجعل سببا للتوقي من الهلاك عبر عن تاركه والغافل عنه بالأجذم، وإنما عبر بكلمة الأجذم الشنعة، واللفظ المستكره لأنه إذا انقطع الحبل لم يمكن أن يمسك، وإذا كانت اليد جذماء أيضا لم يمكن الإمساك، فأراد بذلك أن الإمساك غير حاصل، لأمر يرجع إلى اليد الممسكة لا إلى الحبل لأن الحبل باق بحاله؛ فهذا أحسن، والله أعلم. ومعنى النسيان هو ترك أحكامه، والأخذ بمحارمه وحدوده؛ ولا يريد ذهاب الحفظ).

(٥) حاشية الأصل: (أبو القاسم البلخي).

وهو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي، أحد شيوخ المعتزلة، ورأس طائفة منهم يقال لهم: الكعبية، توفي سنة ٣١٧. (ابن خلكان ١: ٢٥٢).

٣٨

والمستقرّ من مذاهب الشّيوخ - وهو الصحيح - أن الانتصاف لا يجوز أن يكون موقوفا على ما يتفضّل به؛ لأنّ الانتصاف واجب على الله تعالى من حيث خلّى بين عباده وبين الظلم، فلا يجوز أن يتعلّق إلا بأمر واجب، والتفضّل لفاعله ألاّ يفعله، فتئول الحال إلى تعذّر الانتصاف. وقالوا: من يعلم الله تعالى أنه يرد القيامة - ولا أعواض له - يمنعه من الظلم، ولا يمكّنه منه لهذه العلة. ويجيزون(١) أن يمكّن من الظلم من يكون في الحال غير مستحقّ للعوض، أو غير مستحق للقدر الّذي يوازي الظلم من العوض، بعد أن يكون المعلوم من حاله أنه يرد القيامة وقد استحقّ من الأعواض ما يوازي ما عليه منها.

قال المرتضى: وهذا القول - نعني تجويز تمكين الظالم من الظلم، وهو في الحال غير مستحق للعوض - يبطل بالعلّة التي أبطلنا بها قول من أجاز الانتصاف بالتفضّل؛ لأنّا نعلم أن تبقية المكلّف وغير المكلّف لا تجب، وللقديم تعالى ألاّ يفعلها، فلو لم يفعلها واخترم هذا الظالم بعد حال ظلمه لكان الانتصاف منه غير ممكن. وقد تعلّق الانتصاف على هذا القول بما ليس بواجب؛ كما علّقه من قدمنا حكاية قوله بما ليس بواجب. وليس لهم أن يقولوا ذلك يحسن؛ لأن الله تعالى يعلم أنّه يبقيه فيستحقّ(٢) أعواضا؛ لأن عليهم مثل ذلك إذا قيل لهم: فأجيزوا أيضا أن يرد القيامة وهو لا يستحقّ العوض؛ ويعلم الله تعالى أنه يتفضّل عليه بما يقع به الانتصاف.

فإذا قالوا: علم الله تعالى بأنه يتفضّل، لا يخرج التفضّل من أن يكون غير واجب؛ وقيل لهم: وعلم الله تعالى بأنه يبقى من لا عوض له ليستحقّ العوض، لا يخرج التبقية من أن تكون غير واجبة، فاستوى الأمران.

والصحيح أن يقال: إنّه تعالى لا يمكّن من الظلم من لا عوض له في الحال؛ ليستقيم الكلام ويطّرد.

____________________

(١) حاشية الأصل: (أبو هاشم وأصحابه).

وهو أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي الجبائي، كان هو وأبوه من كبار أئمة المعتزلة؛ ولهما مقالات على مذهب الاعتزال؛ وكتب الكلام مشحونة بمذاهبهما واعتقادهما، توفي سنة ٣٢١، (ابن خلكان ١: ٢٩٢ - ٢٩٣).

(٢) ت، وحاشية ف (من نسخة): (ليستحق).

٣٩

[٢]

مجلس آخر(*) [المجلس الثاني]

تأويل آية( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ )

قال الله تعالى(١) :( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً ) [الإسراء: ٨٥].

وقد ظنّ قوم من غفلة الملحدين وجهّالهم أن الجواب عمّا سئل عنه في هذه الآية لم يحصل، وأن الامتناع منه إنما هو لفقد العلم به، وأن قوله تعالى:( وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً ) تبكيت وتقريع لم يقعا موقعهما؛ وإنما هو(٢) على سبيل المحاجزة والمدافعة عن الجواب.

وفي هذه الآية وجوه من التّأويل تبطل ما ظنّوه، وتدلّ على ما جهلوه؛ أولها:

أنّه تعالى إنما عدل عن جوابهم لعلمه بأنّ ذلك ادعى لهم إلى الصلاح في الدّين، وأن الجواب لو صدر منه إليهم لازدادوا فسادا وعنادا؛ إذ كانوا بسؤالهم متعنّتين(٣) لا مستفيدين؛ وليس هذا بمنكر؛ لأنّا نعلم في كثير من الأحوال ممن(٤) يسألنا عن الشّيء أنّ العدول عن جوابه أولى وأصلح في تدبيره.

وقد قيل إن اليهود قالت لكفار قريش: سلوا محمدا؛ عن الرّوح فإن أجابكم فليس بنبي؛ وإن لم يجبكم فهو نبي؛ فإنّا نجد في كتبنا(٥) ذلك؛ فأمره الله بالعدول عن ذلك ليكون علما له ودلالة على صدقه، وتكذيبا لليهود الرادّين عليه؛ وهذا جواب أبي عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبّائي(٦) .

____________________

* ف: (مجلس ثان)، وفي حاشيتي الأصل، ف: (هذا المجلس مما افتتح به الكتاب، على ما وجد في بعض النسخ).

(١) ف: (إن سأل سائل عن قوله تعالى).

(٢) ف: (هما).

(٣) في ت، حاشية الأصل (من نسخة): (معنتين)، وفي حاشية ف: (أعنت: أتى بالعنت).

(٤) في ت، حاشية الأصل (من نسخة): (فيمن).

(٥) حاشية ت (من نسخة): (كتابنا).

(٦) حاشية ف: (أبو علي من قرية يقال -

٤٠